الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين

115- مسألة: [وزن "سيِّد وميِّت" ونحوهما] 1
ذهب الكوفيون إلى أن وزن "سيِّد، وهيِّن، وميِّت" في الأصل على فَعِيل، نحو سَوِيد وهَوِين ومَوِيت.
وذهب البصريون إلى أن وزنه فَيْعِل -بكسر العين- وذهب قوم إلى أن وزنه في الأصل على فَيْعَلٍ بفتح العين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن أصله فَعِيلٌ نحو: سويد وهوين ومويت لأن له نظيرا في كلام العرب، بخلاف فيعل؛ فإنه ليس له نظير في كلامهم، فلما كان هذا هو الأصل أرادوا أن يعلُّوا عين الفعل كما أعلت في "ساد يسود" وفي "مات يموت" فقدمت الياء الساكنة على الواو فانقلبت الواو ياء؛ لأن الواو والياء إذا اجتمعتا والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشددة.
ومنهم من قال: أصله سويد وهوين ومويت، إلا أنهم لما أرادوا أن يعلّو الواو كما أعلوها في "ساد ومات" قلبوها، فكان يلزمهم أن يقلبوها ألفا، ثم تسقط لسكونها وسكون الياء بعدها، فكرهوا أن يلتبس فَعِيل بِفَعْل، فزادوا ياء على الياء ليكمل بناء الحرف ويقع الفرق بها بين فعيل وفعل ويخرج على هذا نحو سويق وعويل، وإنه إنما صح لأنه غير جارٍ على الفعل.
وأما البصريون فقالوا: إنما قلنا إن وزنه فَيْعَل؛ لأن الظاهر من بنائه هذا الوزن، والتمسك بالظاهر واجب مهما أمكن.
والذي يدل على ذلك أن المعتل يختص بأبنية ليست للصحيح؛ فمنها فُعَلَة في جمع فاعل نحو قاضٍ وقُضَاة، ومنها فَيْعَلُولة نحو كينونة وقيدودة، والأصل كيَّنونة وقيَّدُوة.
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح ابن يعيش على المفصل "663 و1410 و1432" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 263" وكتاب سيبويه "2/ 371".

(2/656)


والذي يدل على ذلك أن الشاعر يردُّه إلى الأصل في حالة الاضطرار، قال الشاعر:
[492]
قد فَارَقَت قَرِينَهَا القَرِينَهْ ... وشَحَطَتْ عن دارها الظَّعِينَهْ
يا ليتنا قد ضمَّنا سفينهْ ... حتى يعود الوصل كينونهْ
__________
[492] هذه أربعة أبيات من الرجز المشطور، وقد أنشدها ابن منظور "ك ون" وقال قبل إنشادها "قال أبو العباس: أنشدني النهشلي" ا. هـ. وشحطت: بعدت، والظعينة: أصلها المرأة ما دامت في الهودج؛ ثم جرد من بعض معناه فصار يطلق على المرأة مطلقا، وقوله "يا ليتنا قد ضمنا" الذي في اللسان "يا ليت أنّا ضمنا" ومحل الاستشهاد من هذه الأبيات قوله "كينونه" فإن البصريين ذهبوا إلى أن الأصل في هذه الكلمة هو ما ورد في هذه الأبيات -بفتح الكاف وتشديد الياء مفتوحة- وأن الأصل الأصيل في هذه الكلمة كيونونة -بفتح الكاف وسكون الياء وفتح الواو- فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما وهي الياء بالسكون فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياء في الياء، وذلك لأنها أحد مصادر كان يكون كونا، ونظير ذلك هيعوهة وديمومة وقيدودة، لأنها من هاع يهوع هواعًا -بضم ففتح- وهيعوعة، أي قاء، ومن دام يدوم دوامًا -بفتح الدال- وديمومة، ومن قاد الفرس يقوده قودا ومقادة وقيدودة، كل هذا أصله بياء ساكنة فواو مفتوحة، بدليل الاشتقاق، ثم قلبت واو الجميع ياء لما ذكرنا، ثم أدغمت الياء في الياء، وهذا الوزن قليل في واوي العين كثير فيما كانت عينه ياء، نحو طار يطير طيرانا وطيرورة، وحاد يحيد حيودا وحيدة وحيدودة، كل هذا أصله بتشديد الياء مفتوحة، ثم خففوه بحذف إحدى الياءين، فصار بياء ساكنة، وذلك نظير تخفيفهم سيد وميت وطيب وهين، فإن الأصل في هذه الألفاظ تشديد الياء كما في قول الشاعر:
وإن بقوم سودوك لحاجة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
وكما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وكما في قول الراجز:
بني إن الجود شيء هين ... المنطق الطيب والطعيم
ثم قد يجيئون بها مخففة بياء ساكنة كما في قول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
وكما في قول الآخر:
هينون لينون أيسار ذوو كرم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
قال ابن منظور: "وتقول: كان كونا، وكينونة أيضا، شبهوه بالحيدودة والطيرورة من ذوات الياء، ولم يجئ من الواو على هذا إلا حرف: كينونة، وهيعوعة، وديمومة وقيدودة، وأصله كينونة -بتشديد الياء- فحذفوا كما حذفوا من هين وميت" ا. هـ ثم قال بعد كلام غير ظاهر: "قال ابن بري: أصله كيونونة، ووزنها فيعلولة، ثم قلبت الواو ياء فصار كينونة، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار كينونة، وقد جاءت بالتشديد على الأصل، قال أبو العباس: أنشدني النهشليّ، ثم أنشد أربعة الأبيات، قال: والحيدودة أصل وزنها فيعلولة وهو حيدودة، ثم فعل بها ما فعل بكينونة" ا. هـ، وفي الذي ذكره عن ابن بري في وزن حيدودة نظر.

(2/657)


إلا أنهم خففوه كما خففوا ريحان، وأصله رَيَّحَان -بالتشديد- على فَيْعَلَان، وأصل ريحان "رَيْوَحَان" فلما اجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء وجعلوهما ياء مشدودة، وكما خففوا سيد وهين وميت، إلا أن التخفيف في نحو سيد وهين وميت جائز، والتخفيف في نحو كيَّنونة وقيَّدودة واجب، وذلك لأن نهاية الاسم بالزيادة أن يكون على سبعة أحرف وهو مع الياء على سبعة أحرف، فخففوه كما خففوا اشهيباب، فقالوا: اشهباب.
وإذا جاز الحذف فيما قلَّت حروفه نحو سيد وهين وميت لزم الحذف فيما كثرت حروفه نحو كينونة وقيدودة، وإذا جاز أن يختص المعتل بأبنية ليست للصحيح كان حمل سيد وهين وميت على الظاهر أولى من العدول عنه إلى غيره.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إن الأصل أن يقال في جمع قاض" قُضَّى. كما يقال: غازٍ وغُزَّى، فاستثقلوا التشديد على غير الفعل، فحذفوا، وعوَّضوا من حذف المحذوف هاء، كما قالوا: عِدَة، فعوضوا من الواو المحذوفة هاء، وأما كينونة وقيدوه فالأصل كونونه وقودودة على فعلولة نحو بُهْلُول وصندوق. إلا أنهم فتحوا أوله لأن أكثر ما يجيء من هذه المصادر مصادر ذوات الياء، كقولهم طار طيرورة وصار صيرورة وسار سيرورة وحاد حيدودة، ففتحوه حتى تسلم الياء1؛ لأن الباب للياء، ثم حملوا ذوات الواو على ذوات الياء؛ لأنها جاءت على بنائها، وليس للواو فيه حظ؛ لقربهما في المخرج واشتراكهما في اللين، فقلبوا الواو ياء في نحو كينونة وقيدودة. كما قالوا الشِّكَاية وهي من ذات الواو لقولهم: شكوت أشكو شكوًا؛ لأنها جاءت على مصادر الياء نحو الراية والرواية والسعاية والرماية فكذلك ههنا" لأنا نقول: أما قولكم "إن الأصل أن يقال في جمع قاضٍ قُضَّى كما يقال غاز وغزّى" قلنا: هذا عدول عن الظاهر من غير دليل، ثم لو كان أصله قُضَّى كغاز وغزى لكان ينبغي أن لا يلزمه الحذف لقلة حروفه، وأن يجوز أن يؤتى به على أصله؛ فكان يقال فيه: قضًّى وقضاة كما قالوا: غُزًّى، وغُزَاة؛ لأن فُعَّلًا ليس بمهجور في أبنيتهم، وهو كثير في كلامهم، فلما لزم الحذف، ولم يلزم في نظيره مع قلة حروفه دلّ على أن ما ذكرتموه مجرد دعوى لا يستند إلى معنى.
وأما قولهم "إن كينونة فُعْلُولة" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم
__________
1 إذ لو بقيت الضمة لوجب قلب الياء واوا؛ لسكونها بعد ضمة كما قلبوها في موسر اسم الفاعل من أيسر.

(2/658)


لكان يجب أن يقال "كُونُونة وقُودُودة"؛ لأنه لم يوجد ههنا ما يوجب قلب الواو ياء، وقولهم "إنهم غَلَّبُوا الياء على الواو؛ لأن الباب للياء" فليس بصحيح؛ لان المصادر على هذا الوزن قليلة، وما جاء منها من ذوات الواو نحو ما جاء منها من ذوات الياء، كقولك: كينونة، وقيدودة، وحيلولة، وديمومة، وسيدودة، وهيعوعة -من الهُوَاع وهو القيء- فليس جَعْلُ الباب لذوات الياء أولى من جعله لذوات الواو؛ فحمل أحدهما على الآخر لا وجه له.
والذي يدل على صحة ما صرنا إليه أن فَيْعَلُولا بناء يكون في الأسماء والصفات، نحو: خَيْتَعور، وعَيْطَموس، وفَعْلُول لا يكون في شيء من الكلام، ولم يأتِ إلَّا في قولهم "صَعْفُوقٍ" قال الراجز:
[493]
من آل صعفوق وأتباع أُخَرْ ... الطَّامِعِين لا يُبَالُون الغُمَرْ
__________
[493] هذان بيتان من مشطور الرجز، من رجز للعجاج بن رؤبة يمدح فيه عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان قد ولي حرب الخوارج الذين كان يقودهم أبو فيديك في عهد عبد الملك بن مروان فنال منهم، وقد أنشده الجاربردي والرضي في شرح الشافية، وشرحه البغدادي "ص4 بتحقيقنا" والجوهري في الصحاح، وابن منظور في اللسان "ص ع ف ق" وقد روى البغدادي مما يتصل بالشاهد:
فهو ذا؛ فقد رجا الناس الغير ... من أمرهم على يديك والثؤر
من آل صعفوق وأتباع أخر ... الطامعين لا يبالون الغمر
وقوله "فهو ذا" أي الأمر هو هذا الذي ذكرته، و"الغير" معناه أن الناس قد رجوا وأملوا أن يتغيّر أمرهم ويتحوّل حالهم على يديك من فساد وفوضى إلى صلاح ونظام، ولك بنظرك في أمرهم وتدبير حالهم ودفع غوائل الخوارج عنهم ورمّ ما أفسدوه ورتق ما فتقوه، والثؤر -بضم الثاء وفتح الهمزة- جمع ثؤرة، وهي الثأر، وآل صعفوق: أصلهم خول -أي خدم وأتباع- باليمامة، وقال ابن الأعرابي: هم قوم من بقايا الأمم الخالية باليمامة ضلت أنسابهم، وقيل: هم الذين يشهدون الأسواق ولا بضائع لهم فيشترون ويبيعون ويأخذون الأرباح، وعلى كل حال فإن العجاج يريد في هذا الموضع أرذال الناس وضعًا فهم الذين لا قديم لهم يردعهم عن إتيان المنكرات. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "صعفوق" فقد رواه نقلة اللغة -بفتح الصاد وسكون العين وضم الفاء، وقالوا: إن وزنه فعلول، وإنه لم يجئ في كلام العرب على وزن فعلول غير هذه الكلمة، وقوم ينكرون هذا الوزن بتة، ومن هؤلاء المنكرين من رووه بضم الفاء ومنهم من قال: هذا لفظ أعجمي، قال الجوهري "بنو صعفوق: خول باليمامة، قال العجاج:
من آل صعفوق وأتباع أخر ... من طامعين لا يبالون الغمر
وهو اسم أعجمي، لا ينصرف للعجمة والمعرفة، ولم يجئ على فعلول شيء غيره، وأما الخرنوب فإن الفصحاء يضمونه أو يشددونه مع حذف النون، وإنما يفتحه العامة" ا. هـ.

(2/659)


وهم خول باليمامة، ولا ينصرف للتعريف والعجمة؛ فما صرنا إليه له نظير في الأسماء والصفات، وما صاروا إليه لا نظير له في شيء من كلام، ثم ألزموا مع حمله على شيء لا نظير له في كلامهم قلبا لا نظير له في أقيسة كلامهم.
وأما من قال: "إن أصله فيعلا بفتح العين" فاحتج بأنه وجد فيعلا بفتح العين له نظير في كلامهم، ولم يجدوا فيعلا بكسر العين فجعله فيعلا بفتح العين ثم كسر الياء كما قالوا في بصري: بصري، وكما قالوا في أموي: أموي، وكما قالوا "أخت" والأصل فيها الفتح، لأن أصلها أخوة، وكما قالوا "دهري" بالضم للرجل المسن الذي قد أتي عليه الدهر، والقياس الفتح، وقد جاء في بعض هذا المعتل فيعل، قال الشاعر:
[494]
ما بال عيني كالشعيب العين
__________
= وقال الأزهري "كل ما جاء على فعلول فهو مضموم الأول مثل زنبور وبهلول وعمروس وما اشبه ذلك، الأحرفا جاء نادرا وهو بنو صعفوق لخول باليمامة، وبعضهم يقول صعفوق بالضم" وقال ابن بري "رأيت بخط أبي سهل الهروي على حاشية كتاب جاء على فعلول بفتح الفاء صعفوق، وصعقول لضرب من الكمأة، وبعكوكة الوادي لجانبه، أما بعكوكة الوادي وبعكوكة الشر فذكرها السيرافي وغيره بالضم لا غير، أي بضم الباء، وأما الصعقول لضرب من الكمأة فليس بمعروف، ولو كان معروفا لذكره أبي حنيفة في كتاب النبات" ا. هـ.
[494] هذا بيت من الرجز المشكور، وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج "انظر أراجيز رؤبة ص160" وقد استشهد به سيبويه "2/ 372" ورضي الدين في شرح الشافية، وشرحه البغدادي "ص61 بتحقيقنا" والجوهري في الصحاح وابن منظور "ع ي ن" وابن جني في الخصائص "2/ 485 , 3/ 214" وبعد بيت الشاهد قوله:
وبعض أعراض الشجون الشجن ... دار كرقم الكاتب المرقن
بين نقا الملقي وبين الأجون
وقوله: "ما بال عيني" أي ما حالها وما شأنها، والشعيب بفتح الشين وكسر العين المزادة الصغيرة، والعين بفتح العين وتشديد الياء مفتحة المتخرقة التي فيها عيون فهي لا تمسك الماء، ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "العين" وللعلماء في هذه الكلمة مذهبان، الأول: وهو رأي سيبويه وأتباعه وخلاصة أن هذه الكلمة على وزن فيعل بفتح الفاء وسكون الياء وفتح العين وأنه من معتل العين وزيدت عليه ياء بين الفاء والعين، وقالوا: إن هذا الوزن جاء كثيرا في صحيح العين نحو حيدر وصيرف وجيأل، ولم يأت منه في معتل العين سوى هذه الكلمة، وذلك لأنهم خصوا المعتل بوزن فيعل بكسر العين نحو سيد وهين ولين صيب وربيع؛ فتكون هذه الكلمة خارجة عن نظرائها وأمثالها، وكان القياس فيها أن تكون بتشديد الياء مكسورة لا مفتوحة، قال الأعلم "الشاهد فيه بناء العين على فيعل بالفتح، وهو شاذ في المعتل، ولم يسمع الأفي هذه الكلمة، وكان

(2/660)


فدل على أنه فيعل بفتح العين، والشعيب: المزادة الضخمة، والعين: المتعينة، وهي التي يصب فيها الماء فيخرج من عيونها: أي خرزها، فينفتح السير فينسد موضع الخرز، ومنه يقال "عين قربتك" أي صب فيها الماء حتى ينسد آثار الخرز.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن وزنه فعيل إلا أنهم أعلوا عين الفعل وقدموا وأخروا وقلبوا" قلنا: هذا باطل؛ لأن هذا التقديم والتأخير لا نظير له في الصحيح، لأن ياء فعيل لا تقدم على عينة في شيئ من الصحيح، وإذا جاز أن يختص المعتل من التقديم والتأخير بما لا يوج مثله في الصحيح جاز أن يختص ببناء لا يوجد مثله الصحيح.
وأما قولهم: "إنا حذفنا الألف وعوضنا الياء مكانها لئلا يلتبس فعيل بفعل" قلنا: وهذا أيضا باطل لأنه لو كان الأمر على ما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز فيه التخفيف فيقال: سيد وميت وهين؛ لأنه يؤدي إلى الالتباس، فلما جاز ذلك فيه بالإجماع دل على فساد ما ذهبتم إليه.
وأما قول من قال: "إن أصله فيعل بفتح العين إلا أنه كسر العين كما كسر الباء في بصري" قلنا: هذا باطل، وذلك لأنه لو كان فيعلا لكان ينبغي أن يقال سي وهيت وميت بالفتح ولم يغير إلى الكسر، كما قالوا: عين وتيجان، وهيبان بفتح العين والتيجان: هو الذي يعترض في كل شيئ، والهيبان: إلى يهاب كل شيء، فلما كسر دل على فساد ما ذهبتم إليه.
وأما قولهم في النسب إلى البصرة بصرى بكسر الباء وكذلك جميع ما استشهدوا به فعلي خلاف القياس؛ فلا يقاس عليه؛ على أنهم قد قالوا: إنما كسرت الباء لأن البصرة في الأصل الحجارة الرخوة، فإذا حذفت التاء كسرت الباء فقيل بصر، فلما نسبت إلى البصرة حذفت تاء التأنيث لياء النسب فكسرت الباء لحذف التاء، فلذلك قيل: بصري، بكسر الباء.
__________
قياسها أن تكسر العين فيقال عين كما قيل سيد وهين ولين ونحو ذلك، وهو بناء يختص به المعتل ولا يكون في الصحيح كما يختص الصحيح بفيعل مفتوحة العين نحو صيرف وحيدر، وهو كثير" ا. هـ، والرأي الثاني: ما ذهب إليه ابن جني، وذلك في قوله" وكذلك ما أنشده من قوله رؤبة:
ما بال عيني كالشعيب العين
حملوه على فيعل مما اعتلت عينه، وهو شاذ، وأوفق من هذا عندي أن يكون فوعلا أو فعولا حتى لا يرتكب شذوذه، وكأن الذي سوغهم هذا ظاهر الأمر وأنه قد روى العين بكسر العين" ا. هـ.

(2/661)


وقولهم: "إنه لم يوجد فيعل في كلامهم" قلنا: قد بين أن المعتل يختص بأبنية ليست للصحيح؛ فلا حاجة إلى أن تجعل فيعلا مثل عين مع شذوذه وندرة في بابه، وقد وجدنا سبيلا إلى أن تجعل فيعلا على لفظه، ولو جاز أن يعتد بقولهم عين بفتح العين مع شذوره وندوره لجاز أن يعتد بما حكى الأصمعي، قال: حدثني بعض أصحابنا قال: سمعتهم يقولون جاءت الصيقل بكسر القاف وإذا امرأة كأن وجها سيف، فملا رأتنا أرخت البرقع فقلت: يرحمك الله! إنا سفر، وفينا أجرن فلو منحتنا من وجهك، فانصاعت فتضاحكت، وهي تقول:
[495]
وكنت متى أرسلت طرفك زائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
__________
[495] هذان البيتان قد أنشدهما ابن قتيبة في عيون الأخبار "224" مع نفس القصة التي حكاها المؤلف ههنا، ولم يعز البيتين إلى قائل معين، ولم ينشد المؤلف البيتين للاستشهاد بهما على قاعدة من قواعد النحو ولا البيان معنى كلمة غريبة، ولكنه أتي بهما لأنهما وردا في القصة التي يحكيها وفيها أن الصيقل سمع من بعض العرب بكسر القاف، وفي ذكر قصة الفتاة وإنشاد البيتين إشارة من الأصمعي إلى أنه متثبت من رواية الصيقل بكسر القاف، ووجه هذه الإشارة أنه يذكر الظروف والملابسات التي أحاطت به وتقول: صقل السيف وغيره سصقله صقلا مثل نصره ينصره نصرا وصقالا، فهو مصقول وصقيل تريد جلاه، والصاقل: الذي يجلوه ويشحذه، وجمعه صقله على مثال فاجر وفجرة وكافر وكفرة، ويقال لشحاذ السيوف وجلائها: صيقل ت بفتح الصاد وسكون الياء وفتح القاف وجمعه صياقل وصياقله، وقد حكى الأصمعي في هذه القصة أنه سمع من بعض أصحابه أن قوما من العرب يقولون صيقل بسكر القاف، وهو شاذ؛ لأن هذا الوزن لم يجيء في صحيح العين كما سمعت في شرح الشاهد 494 وإنما يجيء كسر العين في معتل العين، والخلاصة أن العرب قد خصت معتل العين المزي فيه بعد الفاء بالمجيء على زنة فيعل بكسر اليعن كسيد وميت وهين وبين ولين وصيبت وخصت صحيح العين بالمجيء على وزن فيعل بفتح العين نحو صيرف وحيدر وجيال وبيطر وصيقل ونيرب بمعنى الشر والنميمة وهذا هو الأصل الذي جرى عليه كلامهم، ولكنهم ربما جاءوا بالكلمة من المعتل على الوزن الذي خصوا به الصحيح مثل كلمة "العين" التي وردت في الشاهد 494 وقد بينا لك أمرههناك، وربما جاءوا بكلمة من الصحيح على الوزن الذي خصوا به المعتل مثل كلمة الصيقل التي حكاها الأصمعي في هذه القصة، وهذا وذاك شاذان، فاعرف ذلك.

(2/662)


116- مسألة: [وزن "خطايا" ونحوه] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "خطايا" جمع خطيئة على وزن فعالي، وإليه ذهب الخليل بن أحمد.
وذهب البصريون إلى أن "خطايا" على وزن فعائل.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن وزنه فعالي، وذلك لأن الأصل أن يقال في جمع خطيئة "خطايئ" مثل خطايع، إلا أنه قدمت الهمزة على البناء؛ لئلا يؤدي الإبدال الياء همزة كما تبدل في صحيفة وصحائف وكتيبة وكتائب لوقوعها قبل الطرف بحرف؛ لأنهم يجرون ما قبل الطرف بحرف من هذا النوع مجرى الطرف في الإبدال، وهم يبدلون من الياء إذا وقت طرفا وقبلها الف زائدة همزة، فلو لم تقدم الهمزة على الياء في خطايئ لكان يؤدي إلى اجتماع همزتين، وذلك مرفوض في كلامهم ولم يأت في كلامهم الجمع بين همزتين في كلمة الأفي قول الشاعر:
[449]
فإنك لا تدري متى الموت جائئ ... ولكن أقصى مادة الموت عاجل
ولهذا قال الخليل بن أحمد: جائية مقلوبة، ووزنه فاعلة، فصارت خطائي مثل خطاعي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء الفا، فصارت خطاءا، مثل خطاعا، فحصلت همزة بين الفين، والألف قريبة من الهمزة، فقلبوا من الهمزة ياء فرارا من اجتماع الأمثال، فصار خطايا على وزن فعالي، على ما بينا.
ومنهم من قال: إنه على فعالى؛ لأن خطيئة جمعت على ترك الهمز؛ لأن ترك الهمز يكثر فيها، فصارت بمنزلة فعيلة من ذوات الواو والياء، وكل فعيلة من ذوات الواو والياء نحو وصية وحشية فإنه يجمع على فعالى دون فعائل؛ لأنه لو
__________
1 انظر في هذه المسألة: تصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 463" وما بعدها" وشرح الأشموني بحاشية الصبان "4/ 244-246" وشرح رضي الدين على الشافية "1/ 25 و3/ 59 و62 و181 بتحقيقنا".

(2/663)


جمع على فعائل لاختل الكلام وقل، فجمعت على فعالي، فقالوا: وصايا، وحشايا، وجعلت الواو في حشايا على صورة واحدها؛ لأن الواو صارت ياء في حشية، فدل على أن خطايا على وزن فعالي على ما بينا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلوا إن وزنه فعائل، وذلك لأن خطايا جمع خطيئة؛ وخطيئة على وزن فعيلة، وفعيلة يجمع على فعائل؛ والأصل فيه ن يقال "خطايئ" مثل خطايع؛ ثم أبدلوا من الياء همزة؛ كما أبدلواها في صيحفة وصحائف؛ فصار خطائي مثل خطاعع؛ وقد حكى أبو الحين على بن حمزة الكسائي عن بعض العرب أنه قال: اللهم اغفر لي خطائئيه؛ مثل خطاععيه؛ فاجتمع فيه همزتان، فقلبت الهمزة الثانية ياء لكسرة قبلها، فصار خطائي مثل خطاعي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء الفا فصرا خطاءا مثل خطاعا، فاستثقلوا الهمزة بين الفين فأبلدوا منها ياء فصار خطايا.
وكأن الذي رغبهم في إبدال الفتحة من الكسرة والعود من خطائي إلى خطاءا أن يقلبوا الهمزة ياء فيعودوا بالكلمة إلى أصلها؛ لأن الهمزة الأولى من خطائيي منقلبة عن الياء في خطيئة، ولا يلزما على ذلك أن يقال في جائي "جايا" لأن الهمزة في جاء منقلبة عن عين الفعل، والهمزة في خطايا منقلبة عن ياء زائدة في خطيئة، ففضلوا الأصلي على الزائد؛ فلم يحلقوه من التغيير ما الحقوه الزائد.
وكذلك أيضا قالوا فيجمع هراوة "هراوي" وأداوة "أداوي" وكان الأصل هرائو وأدائو مثل هراع ووأداعو على مثل فعائل كرسالة ورسائل؛ لأنهم أبدلوا من الف هراوة وإداوة همزة كما أبدلوا في رسائل من الف رسالة همزة، ثم أبدلوا من الواو في هرائو وأدائو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، فصار هرائي وأدائي مثل هراعي وأداعي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة ومن الياء الأفا فصار هراءا وأداءا مثل هراعا وأداعا، فاستثقلوا الهمزة بين الفين، فأبلدوا من الهمزة واوا ليظهر في الجمع مثل ما كان في الواحد طلبا للتشاكل؛ وذلك لأن الجمع فرع على الواحد؛ فلا بأس بأن يطلب مشاكلته له.
والذي يدل على نهم فعلوا لك طلبا لمشاكلة أن ما لا يكون في واحدة واو لا يجيء فيه ذلك، فدل على ما قلناه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل أن يقال في ج مع خطيئة خطايئ مثل خطايع وإنما قدمت الهمزة على الياء" قلنا: ولم قلتم بالتقديم وهو على خلاف الأصل والقياس؟

(2/664)


قولهم: "لئلا يؤدي ذلك إلى اجتماع همزتين، وهو مرفوض" قلنا: ولم قلتم إنه موجود ههنا؟ وهذا لأن الهمزة الثانية يجب قلبها ياء لانكسار ما قبلها، فالكسرة توجب قلب الهمزة إلى الياء، كما توجب الفتحة قلبها إلى الألف في نحو أأدم وأأخر، فلم يجتمع فيه همزتان، وإذا كان حمله على الأصل يؤدي إلى أن يجتمع فيه همزتان يزول اجتماعهما على القياس كان حمله عليه أولى من حمله على القلب بالتقديم والتأخير على خلاف القياس الذي هو الفرع.
وأما "جائية" فلا نسلم أنها مقلوبة، وأن وزنه فاعله، وإنما هو على أصله، ووزنه فاعلة من جاءت فهي جائية، وأصلها جايئة مثل جايعة، فأبدلوا من الياء همزة فصار جائئة مثل جاععة، فأبدلوا من الهمزة الثانية ياء لانكسار ما قبلها.
وأما الخليل فإنما قدر فيه القلب لئلا يجمع في بين إغعلالين؛ لأنه إذا قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين التي هي الياء وأخر العين التي هي الياء إلى موضع اللام التي هي الهمزة لم يجب قلب الياء همزة فلا يكون فيه الأإعلال واحد، وإذا أتي بالكلمة على أصلها من غير قلب جمع فيه بين إعلالين، وهما: قلب العين التي هي ياء همزة، وقلب اللام التي هي همزة ياء، وهذا التقدير غير كاف في تقدير القلب؛ لأن الهمزة حرف صحيح؛ فإعلالها لا يعتد به.
والذي يدل على ذلك أن الهمزة تصح حيث لا يصح حرف العلة، ألا ترى أن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبلها وجب إعلاله نحو عصو ورحي، والهمزة إذا تحركت وانفتح ما قبلها لا يجب إعلالها نحو كلأ ورشأ، وإذا كانت الهمزة كذلك كان قلبها بمنزلة إبدال الحروف الصحيحة ب عضها من بعض كقولهم في أصيلان "أصيلال" فلا يعتد به، وإنما يعتد بإعلال حرف العلة؛ لأنه1 الأصل في الإعلال، وإذا كان قلب الهمزة غير معتد به لم يكن ههنا إجراؤه على الأصل يؤدي إلى الجمع بين إعلالين.
وأما قولهم "إنما جمعت على ترك الهمة" قلنا: هذا باطل؛ لأن ترك الهمزة خلاف الأصل، والأصل أن يجمع على الأصل، خصوصا مع أنه الأكثر في الاستعمال.
وقولهم "إنه يكثر الهمزة فيها فصارت بمنزلة فعيلة من ذوات الواو والياء وهي تجمع على فعالى" قلنا: لا نسلم، بل الأصل أن يقال في جمع فعيلة "فعائل" إلا أنه يجب قلب الياء همزة لوقوعها قيل الطرف بحرف؛ لأنهم يجرون ما
__________
1 في ر "إلا أنه الأصل" تحريف.

(2/665)


قبل الطرف بحرف من هذا النوع نمجرى الطرف في الإبدال، وهم يبدلون من الياء إذا وقعت طرفا وقبلها الف زائدة همزة، فعلى هذا يكون الأصل في جمع نحو حشية حشائي على فعائل على لفظ المضي إلى نفسه الحاء إذا مد، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة، ومن الياء الفا فصار حشاءا، فاستثقلوا الهمزة بين الفين فقلبوا الهمزة ياء على ما بينا في خطايا، والله أعلم.

(2/666)


117- مسألة: [وزن "إنسان" وأصل اشتقاقه] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "إنسان" وزنه إفعان، وذهب البصريون إلى أن وزنه فعلان، وإليه ذهب بعض الكوفيين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن الأصل في إنسان إنسيان على إفعلان من النسيان، إلا أنه لما كثر في كلامهم وجرى على أسنتهم حذفوا منه الياء التي هي اللام لكثرته في استعمالهم، والحذف لكثرة الاستعمال كثير في كلامهم، كقولهم "إيش" ي أي شيء، و"عم صباحا" في أنعم صباحا، ""ويلمه" في ويل أمه، قال الهذلي:
[496]
ويلمة رجلا تأبي به غبنا ... إذا تجرد، لا خال، ولا بخل
__________
[496] هذا هو البيت الخامس من قصيدة للمنتخل الهذلي "ديوان الهذليين 2/ 33-37" ومطلعها قوله:
ما بال عينك تبكي دمعها خضل ... كما نهي سرب الأخرات منبزل؟
السرب بفتح السين وكسر الراء السائل، يكون ثمه وهي فينسرب الماء منه، والأخرات: مع خرت بفتح فسكون وآخره تاء وهو المثقب، ويروى "الأخراب" بياء موحدة وهو جمع خربة، وهي العروة، وويل أمه رجلا: كلمة يتعجب بها، ولا يراد بها الدعاء، والخال: المخيلة، أي الخيلاء، والبخل بفتح الباء والخاء هنا مثل البخل بضم فسكون. ومحل الاستشهاد من هذا البيت قوله "ويلمه" فإن أصل هذه الكلمة "ويل أمه" بهمزة قطع من أصول والكلمة، والأصل أن تتوفر حروف الكلمة بحيث لا يحذف شيء الألعلة تقتضي هذا الحذف، لكنهم لما كثر استعمالهم لهذه الكلمة وترددت على أسنتهم كثيرا التمسوا فيها التخفيف فحذفوا الهمزة بقصد التخفيف فيما يكثر استعماله، وهذا خلاف الأصل والقياس الذي أشرنا إليه. ولذلك لا يجوز أن نقيس على هذه العبارة عبارة أخرى مماثلة لها مثل "ويل أبيه" أو "ويل أخته" لأن من شان الخارج عن القياس أن يقتصر عليه ولا يقاس عليه غيره.
__________
1 انظر في هذه المسألة: صحاح الجوهري ولسان العرب ومفردات غريب القرآن للراغب الأصبهاني "أن س ن وس ت ن س ي".

(2/667)


وقال الآخر:
[497]
ويلمه مسعر حرب إذا ... ألقي فيها وعليه الشليل
__________
= والخطبب التبريزي يرى أن اصل "ويلمه" ويل لأمه فالمصدر مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، وقد حذف شيئان: اللام من ويل، والهمزة من أم، قال: "لفظه ويل إذا أضيفت بغير اللا م فالوجه فيها النصب، فتقول "ويل زيد" والمعنى الزم الله زيدا الويل، فإذا أضيفت باللا م فقيل" ويل لزيد" فحكمه أن يرفع فيصير ما بعده جملة ابتدئ بها، وهي نكرة، لأن معنى الدعاء منه مفهوم، والمعنى الويل ثا بت لزيد، كأنه عدة محصلا، كما يقال: رحمة الله زيدا، فتجعل رحمة الله خبرا، وإذا كا ن حكم ويل هذا وقد ارتفع في قوله:
ويلم لذات الشباب
فحذف من أم الهمزة، واللام من ويل، وقد القى حركة الهمزة على اللام الجارة فصار ويلم بضم اللام وقد قيل: ويلم بكسر اللام كما قيل، الحمد لله، والحمد لله الأولى بضم الدال وضم اللام إتباعا لها، والثانية بكسر الدال إتباعا لكسرة لام الجر بعدها - وقصده المدح الشباب وحمد لذاته، وانتصب معيشة على التمييز" ا. هـ، وهو يتحدث عن بيت الحما سة الذي سنأثره لك مع شرح الشا هد الآتي 497.
[497] أصل المسعر بزنة المنبر والمسعار: ما أججت به النار، أو ماتحرك به النار من حديد أو خشب، وقالوا: فلا ن مسعر حرب، إذا كان يؤرثها، وفي حديث أبي بصير "ويلمه مسعر حرب لو كان له أصحا ب" يصفه بالمبالغة في الحرب والنجدة، ومنه حديث خيفان"وأما هذا الحي من همدان فأنجاد بسل، مسا عير غير عزل" والشليل بفتح الشين الغلالة التي تلبس فوق الدرع، وقبل: هي الدرع الصغيرة القصيرة تكون تحت الكبيرة، وقيل: ما يجعل تحت الدرع من ثوب أو غيره، وقيل: هي الدرع ما كا نت، وجمعها أشلة، قال أوس بن حجر:
وجئنا بها شهباء ذات أشلة ... لها عا رض فيه المنية تلمع
وقد اشتقوا من الشليل فعلا فقالوا: شل الدرع يشلها من مثال مد الحبل يمده إذا لبسها. ومحل الأستشها د من هذا البيت قوله "ويلمه" والكلا م فيه كالكلا م في نظيره من البيت السابق.
ومثل هذا البيت والذي قبله قول ذي الرمة، وهو من شوا هد الرضي في با ب التمييز:
ويلمها روه والريح معصفة ... والغيث مرتجز، والليل مقترب
ومثل ذلك قول علقمة بن عبدة، وهو من شعر الحما سة "التبريزي 3/ 186 بتحقيقنا" ومن شوا هد الرضي في با ب التمييز:
ويلم أيام الشباب معيشة ... مع الكثر يعطا هـ الفتي المتلف الندي
ومثل ذلك قول امرئ القيس يصف عقا با، وهو من شوا هد سيبويه "1/ 353":.
ويلمها في هواء الجو طالبة ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
ومثل ذلك قول الهذلي، وأنشده في اللسا ن "ب ز ز" وفي الأسا س "ع ر ز":
فويل بزجر شعل على الحصى ... ووقر بز ما هنالك ضا ئع
البز: السلا ح، وشعل: لقب تأبط شرا، ووقر: صدع وفلل.

(2/668)


والذي يدل على أن "إنسان" مأخوذ من النسيان أنهم قالوا في تصغيره "أُنَيْسِيَان" فردوا الياء في حال التصغير؛ لأن الاسم لا يكثر استعماله مصغرا كثرة استعماله مكبرا، والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها، فدل على ما قلناه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن وزنه فِعْلَان لأن "إنسان" مأخوذة من الإنس، وسمي الإنسان إنسا لظهورهم، كما سمي الجن جنا لاجتنانهم أي استتارهم، ويقال "آنست الشيء" إذا أبصرته، قال الله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارَا} [القصص: 29] أي: أبصر، وكما أن الهمزة في الإنس أصلية ولا ألف ونون فيه موجودتان؛ فكذلك الهمزة أصلية في إنسان، ويجوز أن يكون سمي الإنس إنسا لأن هذا الجنس يستأنس به ويوجد فيه من الأنس وعدم الاستيحاش ما لا يوجد في غيره من سائر الحيوا ن، وعلى كلا الوجهين فالألف والنون فيه زائدتان؛ فلهذا قلنا إن وزنه فِعْلَان.
وأما الجواب عن كلما ت الكوفيين: أما قولهم "إن الأصل في إنسا ن إنسيان، إلا أنهم لما كثر في كلامهم حذفوا منه الياء لكثرة الاستعمال، كقولهم أيش في أي شيء وعم صباحا في أنعم صباحا وويلمه في ويل أمه" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كما زعمتم لكان يجوز أن يؤتى به على الأصل، كما يجوز أن تقول: أي شيء، وانْعَمْ صباحا، وويل أمه على الأصل؛ فلما لم يأت ذلك في شيء من كلامهم في حالة اختيار ولا ضرورة دل على بطلان ما ذهبتم إليه.
وأما قولهم "إنهم قالوا في تصغيره أنيسيان" قلنا: إنما زيدت هذه الياء في أنيسيان على خلاف القياس، كما زيدت في قولهم "لييلية" في تصغير ليلة، و"عشيشية" تصغير عشية، وكقولهم على خلا ف القيا س "مغيربان" في تصغير مغرب، و"رويجل" في تصغير رجل، إلى غير ذلك مما جاء على خلا ف القياس؛ فلا يكون فيه حجة، والله أعلم.

(2/669)


118- مسألة: [وزن أشياء] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "أشياء" وزنه أَفْعَاء، والأصل أفعلاء، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين. وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنه أفعال.
وذهب البصريون إلى أن وزنه لفعاء، والأصل فعلاء.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن وزنه أفعاء لأنه جمع شيء على الأصل. وأصل شيء شيّئ مثل شيّع؛ فقالوا في جمعه أشيئاء على أفعلاء، كما قالوا في جمع لين: أليناء؛ إلا أنهم حذفوا الهمزة التي هي اللام طلبا للتخفيف، وذلك لأمرين؛ أحدهما تقارب الهمزتين، لأن الألف بينهما حرف خفي زائد ساكن؛ وهو من جنس الهمزة، والحرف الساكن حاجز غير حصين؛ فكأنه قد اجتمع فيه همزتان. وذلك مستثقل في كلامهم. وإذا كانوا قد قالوا في سوائية "سَوَاية" فحذفوا الهمزة مع انفرادها فلأن يحذفوا الهمزة ههنا مع تكراراها كان ذلك من طريق الأولى. والآخر: أن الكلمة جمع، والجمع يستثقل فيه ما لا يستثقل في المفرد، فحذفت منه الهمزة طلبا للتخفيف.
والذي يدل على أنه يستثقل في الجمع ما لا يستثقل في المفرد أنهم ألزموا خطايا القلبَ، وأبدلوا في ذوائب من الهمزة الأولى2 واوا، كل ذلك استثقالهم في الجمع ما لا يستثقل في المفرد.
وأما أبو الحسن الأخفش فذهب إلى أنه جمع شيء بالتخفيف، وجمع فعل على أفعلاء كما يجمعونه على فعلاء، فيقولون: سمح وسمحاء، وفعلاء نظير أفعلاء، فكما جاز أن يجيء جمع فعل على فعلاء جاز أن يجيء على أفعلاء لأنه نظيره
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح رضي الدين على الشافية "1/ 28-31 بتحقيقنا" ولسان العرب وصحاح الجوهري "ش ي أ".
2 أصل ذوائب "ذآئب" لأن مفرده "ذؤابة".

(2/670)


والذي يدل علي ذلك أنهم قالوا: طَبِيبٌ وأطِبَّاء، وحبيب وأحباء، والأصل فيه طُبَبَاء وحُبَبَاء، نحو: ظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، إلا أنه لما اجتمع فيه حرفان متحركان من جنس واحد واستثقلوا اجتماعهما فنقلوه عن فُعَلاء إلى أفْعِلاء، فصار أطبباء، فاجتمع فيه أيضا حرفان متحركان من جنس واحد، فنقلوا حركة الحرف الأول إلى الساكن قبله فسكن فأدغموه في الحرف الذي بعده، فقالوا: أطِبَّاء، فنقلوه من فُعَلَاء إلى أفْعِلاء، فدل على ما قلناه.
وأما من ذهب إلى أن وزنه أفعال فتمسك بأن قال: إنما قلنا أن وزنه أفعال لأنه جمع شيء، وشيء على وزن فعل، وفعل يجمع في المعتل العين على أفعال، نحو: بيت وأبيات وسيف وأسياف، وإنما يمتنع ذلك في الصحيح، على أنهم قد قالوا فيه: زنْد وأزناد، وفَرْخ وأفراخ، وأنف وآناف، وهو قليل شاذ، وأما في المعتل فلا خلاف في مجيئه على أفعال مجيئا مطردا؛ فدل على أنه أفعال؛ إلا أنه منع من الإجراء تشبيها له بما في آخره همزة التأنيث.
والذي يدل على أن أشياء جمع وليس بمفرد كطرفاء قولهم: ثلاثة أشياء. والثلاثة وما بعدها من العدد إلى العشرة يضاف إلى الجمع لا إلى المفرد. ألا ترى أنه لو قيل "ثلاثة ثوب وعشرة درهم" لم يجز، فلما جاز ههنا أن يقال "ثلاثة أشياء، وعشرة أشياء" دل على أنها ليست اسما مفردا وأنه جمع.
والذي يدل على ذلك أيضا تذكيرهم ثلاثة وعشرة في قولهم: "ثلاثة أشياء، وعشرة أشياء" ولو كانت كَطَرْفاء مؤنثة لما جاز التذكير فيقال "ثلاثة أشياء" وكان يجب أن يقال: ثلاث أشياء؛ كما كنت تقول مثلا: ثلاث غرفة؛ لو جاز أن يقع فيه الواحد موقع الجمع، وفي امتناع ذلك دليل على أنه جمع وليس باسم مفرد.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن أشياء على وزن لفعاء لأن الأصل فيه شَيْئَاء بهمزتين على فعلاء كطرفاء، وحَلْفاء، فاستثقلوا اجتماع همزتين وليس بينهما حاجز قوي؛ لأن الألف حرف زائد خفي ساكن والحرف الساكن حاجز غير حصين؛ فقدموا الهمزة التي هي اللام على الفاء؛ كما غيروا بالقلب في قولهم: قِسِيّ في جمع قوس، والأصل أن يقال في جمعها: قُوُوس؛ إلا أنهم قلبوا كراهية لاجتماع الواوين والضمتين؛ فصار قسوو؛ فأبدلوا من الضمة كسرة1؛ لأنهم ليس في كلامهم اسم متمكن في آخره واو قبلها ضمة؛ فانقلبت الواو الثانية
__________
1 في هذا الكلام تكلف، والواو المتطرفة تقلب ياء بغير هذا التكلف وكيف تبقى الواو الأولى مدة بعد انكسار ما قبلها؟ لقد كانت أولى أن تقلب ياء.

(2/671)


التي هي لام ياء؛ لانكسار ما قبلها؛ لأن الواو الأولى مدة زائدة فلم يعتد بها كما لم يعتد بالألف في كِسَاء ورداء لأنها لما كانت زائدة صار حرف العلة الذي هو اللام في كساء ورداء كأنه قد ولي الفتحة كما وليته في عَصًى ورَحًى؛ فكما وجب قلبه في عصًى ورحًى ألفا لتحركه وانفتاح ما قبله، فكذلك يجب قلب الواو الثانية ههنا ياء لانكسار ما قبلها؛ فصار: قُسُويٌ، وإذا انقلبت الواو الثانية وجب أن تقلب الواو التي قبلها ياء لوقوعها ساكنة قبل الياء؛ لأن الواو والياء متى اجتمعتا والسابق منهما ساكن وجب قلب الواو ياء، وجُعِلت ياء مشددة فصار قُسِيّ، وكسروا أوله لما بعده من الكسرة والياء، فقالوا قِسِيّ كما قالوا عِصِيّ وحِقِيّ، وما أشبه ذلك، وكما غيروا أيضا بالقلب في ذوائب وبالحذف في سَوَاية، وبَلْ أَوْلى؛ لأنهم إذا أزالوا التقارب في ذوائب وأصله ذأائب بأن قلبوا الهمزة واوا فقالوا ذوائب، وحذفوها من سوائية فقالوا سَوَاية؛ فلأن يزيلوا التقارب بأن يقدموا الهمزة إلى أول الكلمة مع بقائها كان ذلك من طريق الأولى، وإذا كانوا قد قلبوا من غير أن يكون فيه خفة فقالوا "أَيِسَ" في يئس، و"بئر مَعِيقة" في عميقة، و"عُقابٌ عَبَنْقَة وبَعَنْقَاة" في عقنباة، و"ما أيطبه" في ما أطيبه، وما أشبه ذلك، مما لا يؤدي إلى التخفيف، فكيف فيما يؤدي إليه؟ فلهذا قلنا وزنها لفعاء.
والذي يدل على أنه اسم مفرد أنهم جمعوه على فعالى فقالوا في جمعه "أشاوى" كما قالوا في جمع صحراء "صحارى" والأصل في صحارى صحاريّ بالتشديد، كما قال الشاعر:
[498]
لقد أغدو على أشـ ... ـر يغتال الصحاريا
__________
[498] ينسب هذا البيت للوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وقد راجعت ديوانه فوجدته فيه "ص56" بيتا مفردا، وهذا البيت من شواهد رضي الدين في باب التأنيث من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "3/ 324" وشواهد الرضي أيضا في شرح الشافية "1/ 194 بتحقيقنا" وشرحه البغدادي مرة أخرى "ص95 بتحقيقنا" وشواهد ابن جني في سر الصناعة "1/ 97" وأغدو: أذهب -أو أخرج، أو أسير- في وقت الغدوة، والغدوة -بضم فسكون- الوقت ما بين الصبح وطلوع الشمس، والأشقر: الذي لونه الشقرة وهي في الخيل الحمرة الصافية، وفي الإنسان حمرة يعلوها بياض، وعنى هنا بالأشقر فرسا، ويغتال: أصل معناه يهلك، واستعاره هنا لمعنى يقطع المسافة الطويلة في سرعة فائقة، والصحارى: جمع صحراء، وهي الأرض الواسعة. ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "الصحاريا" بتشديد الياء وهذا هو الأصل في جمع هذه الكلمة وما أشبهها، وبيان ذلك أن في صحراء وبيداء وبطحاء وأسماء ألف مدّ قبل آخرها كألف قرطاس ومصباح، وآخرها همزة منقلبة عن ألف التأنيث، فإذا أرادوا جمع هذه الكلمات على صيغة منتهى

(2/672)


فالياء الأولى منقلبة عن الألف الأولى التي كانت في المفرد؛ لأنها سكنت وانكسر ما قبلها، والياء الثانية منقلبة عن ألف التأنيث التي قلبت همزة في المفرد لاجتماع ألفين، فلما زال هذا الوصف زالت الهمزة لزوال سببها، فكانت الثانية منقلبة عن ألف في نحو حُبْلى، لا منقلبة عن همزة، ثم حذفت الياء الأولى طلبا للتخفيف؛ فصار صَحَاِري مثل مَدَارِي، ثم أبدلوا من الكسرة فتحة؛ فانقلبت الياء إلفا لتحركها وانفتاح ما قبلها كما فعلوا في مدارى فصارت صحارى، وكذلك "أشاوي" أصلها أشاييُّ بثلاث ياءات الأولى عين الفعل المتأخرة إلى موضع اللام، والأخريان كالياءين في صحاريّ، ثم فعل به ما فعل بصحاري فصار أشايا، وأبدلوا من الياء التي هي عين واوا فصار أشاوى، كما أبدلوا من الياء واوا في قولهم: "جَبَيتُ الخراجَ جِبَاوَة، وأتيته أتْوَة" والأصل فيه جباية وأتْيَة، وليس في إبدال الواو خروج عن الحكمة؛ فإنهم إذا كانوا يبدلون الحروف الصحيحة بعضها عن بعض نحو أصيلال في أصيلان، وإن لم يكن هناك استثقال فلأن يبدلوا الياء واوا لأجل المقاربة وإن لم يكن ما يوجب قلبها مثل أن تكون ساكنة مضموما ما قبلها نحو
__________
الجموع قلبوا ألف المد التي قبل آخرها ياء كما قلبوا ألف مصباح وقرطاس فقالوا: مصابيح وقراطيس فإذا انقلبت هذه الألف ياء تبعها أن تنقلب ألف التأنيث التي هي الهمزة ياء أيضا، فتصير صحاري وبيادي وبطاحي وأسامي -بياءات مشددة في أواخرها- ومع أن هذا هو الأصل وما تقتضيه صناعة التصريف الجارية على مقتضى كلام العرب لم يستعمله العرب في كلامهم استثقالا له، بل جرت عادتهم أن يحذفوا إحدى الياءين، ثم لهم بعد حذف إحدى الياءين طريقان؛ أولهما أن يبقوا كسرة الحرف الذي بعد ألف التكسير على حالها فتبقي الياء على حالها ويعاملونها معاملة ياء المنقوص، وثانيهما أن يقلبوا كسرة الحرف الواقع بعد ألف التكسير فتحة، وحينئذ تنقلب الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وبكل واحد من هذين الوجهين جرى استعمالهم، فقال امرؤ القيس بن حجر الكندي في معلقته:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فياعجبا من كورها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
فجاء به بفتح ما قبل الياء، وقال النابغة الذبياني:
لجب يظل به الفضاء معضلا ... يدع الإكام كأنهن صحارى
فجاء به بكسر ما قبل الياء.
والتخفيف بحذف إحدى الياءين فصيح في الاستعمال وإن لم يكن هو القياس، وإثبات الياءين هو القياس، وربما رد بعض الشعراء الكلمة إلى القياس عند الضرورة فيكون قد رجع إلى الأصل المهجور كما في بيت الشاهد، وكما في قول الآخر:
إذا حاشت حواليه ترامت ... ومدته البطاحي الرغاب
جمع بطحاء على القياس؛ فجاء بالياء المشددة في آخره.

(2/673)


مُوسر ومُوقن كان ذلك من طريق الأولى، فلما جمع على فَعَالَى فقيل أَشَاوَى دل على ما قلناه.
والذي يدل على ذلك أيضا أنهم قالوا في جمعه أيضا "أشْيَاوَات" كما قالوا في جمع فعلاء فعلاوات، نحو صحراء وصحراوات، وما أشبه ذلك، فدل على أنه اسم مفرد معناه الجمع، وليس بجمع على ما بيّنا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنه في الأصل على أفعلاء لأنه جمع شيء على الأصل كقولهم لَيّن وأليناء" قلنا: قولكم: إن أصل شيء شَيِّئ مجرد دعوى لا يقوم عليها دليل، ثم لو كان كما زعمتم لكان يجيء ذلك في شيء من كلامهم؛ ألا ترى أن نحو سيْد وهيْن وميْت لما كان مخففا من سيّد وهيّن وميّت جاء فيه التشديد على الأصل مجيئا شائعا، فلما لم يجئ ههنا على الأصل في شيء من كلامهم -لا في حالة الاختيار، ولافي حالة الضرورة- دل على أن ما صرتم إليه مجرد دعوى.
وقولهم: "إن أشياء في الأصل على أفْعِلاء" قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان كما زعمتم لكان ينبغي أن لا يجوز جمعه على فَعَالَى؛ لأنه ليس في كلام العرب أفْعِلَاء جمع على فعالى، فلما جاز ههنا دل على بطلان ما ذهبتم إليه.
وهذا هو الجواب عن قول الأخفش "إنه جمع شيء بالتخفيف وإنهم جمعوه على أفْعِلاء كما جمعوه على فُعَلاء لأن نظيره نحو سَمْح وسُمَحَاء" فإن فَعْلا لا يكسر على أفْعِلاء، وإنما يكسر على فُعُول وفِعَال، نحو فلوس وكعاب.
والذي يدل على أنه ليس بأفعلاء أنه قال1 في تصغيرها أشَيَّاء، وأفعلاء لا يجوز تصغيره على لفظه، وإنما كان ينبغي أن يُرَدَّ إلى الواحد ويجمع بالألف والتاء، فيقال "شُيَيْئَاتٌ" وإنما لم يجز تصغير أفْعِلاء على لفظه لأن أفعلاء من أبنية الكثرة، والتصغير علم القِلَّة، فلو صغرت مثالا موضوعا للكثرة لكنت قد جمعت بين ضدين، وذلك لا يجوز.
وأما قول من ذهب إلى أنه جمع شَيْء وأنه جمع على أفعال كبَيْت وأبيات فظاهر البطلان؛ لأنه لو كان الأمر على ما زعم لوجب أن يكون منصرفا كأسماء وأبناء.
وأما قوله: "إنما منع من الإجراء لشبه همزة التأنيث" قلنا: فكان يجب أن لا تُجْرَى نظائره نحو أسماء وأبناء وما كان من هذا النحو على وزن أفعال؛ لأنه لا
__________
1 كذا، ولعل الأوفق "أنهم قالوافي تصغيرها.... الخ".

(2/674)


فرق بين الهمزة في آخر أشياء وبين الهمزة في آخر أسماء وأبناء.
وأما قولهم: "الدليل على أن أشياء جمع وليس بمفرد قولهم: ثلاثة أشياء، والثلاثة وما بعدها من العدد إلى العشرة يضاف إلى الجمع، لا إلى المفرد، فلا يقال: ثلاثة ثوب، ولا عشرة درهم" قلنا: إنما لا يضاف إلى ما كان مفردا لفظا ومعنى، وأما إذا كان مفردا لفظا ومجموعا معنى فإنه يجوز إضافتها إليه، ألا ترى أنه يجوز أن تقول: ثلاثة رَجْلَة -وإن كان مفردا لفظا- لأنه مجموع معنى، وكذلك قالوا: ثلاثة نَفَر، وثلاثة قَوْم، وتسعة رَهْطٍ، قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} [النمل: 48] وأضيف العدد إلى هذه الأسماء -وإن كانت مفردة لفظا- لأنها مجموعة معنى، فكذلك ههنا: أشياء مفردة لفظا، مجموعة معنى كطَرْفَاء، وحَلْفَاء، وقصباء؛ فجاز أن يضاف اسم العدد إليها.
وأما قولهم: "إنها لو كانت كطَرْفَاء لما جاز تذكير ثلاثة1، فيقال ثلاثة أشياء، وكان يجب أن يقال: ثلاثة أشياء" قلنا: إنما جاز تذكير ثلاثة أشياء" -وإن كانت أشياء مؤنثة لوجود علامة التأنيث فيها- لأنها اسم لجمع شيء، فتنزلت منزلة أَفْعَال من حيث إنه جمع شيء في المعنى، لا لأنه مفرد أقيم مقام جمع بمنزلة درهم في قولهم: مائة درهم، ولو كان كذلك لوجب أن يقال "ثلاث أشياء" كما ذكرتم، وإذا كانت أشياء اسما لجمع شيء علمت أن أشياء في المعنى جمع شيء؛ فصارت إضافة العدد إليها بمنزلة إضافته إلى جمع ثوب وبيت في قولهم: "ثلاثة أثواب، وعشرة أبيات" وما أشبه ذلك، والله أعلم.
قال أبو البركات كمال الدين الأنباري:
فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في كتاب "الإنصاف، في مسائل الخلاف" واقتصرنا فيه على هذا القدر من القول مع تَشَعُّب أنحائه، لتوفر رغبة الطلبة في سرعة إنهائه، وكثرة الشواغل عن استقصائه، فالله تعالى يعصمنا فيه من الزلل، ويحفظنا فيه من الخطأ والخطل، ويوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل بمنه ولطفه.
__________
1 المراد بتذكير ثلاثة الإتيان بلفظه كلفظ عدد المذكر، وتأنيثه: الإتيان بلفظه كلفظ عدد المؤنث، وأنت خبير أن لفظ ثلاثة يقرن بالتاء إذا كان معدوده مذكرا، ويجرد منها إن كان معدوده مؤنثا.

(2/675)


زيادة ثلاث مسائل في بعض النسخ
...
وُجِدَ في بعض النسخ زيادة ثلاث مسائِلَ ونحن نذكرها ههنا:
119- مسألة: [علام ينتصب خبر "كان" وثاني مفعولي "ظننت"؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن خبر "كان" والمفعول الثاني لـ "ظننت" نصب على الحال. وذهب البصريون إلى أن نصبهما نصب المفعول، لا على الحال.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن خبر "كان" نصب على الحال أن "كان" فعل غير واقع أي غير متعد والدليل على أنه غير واقع أن فعل الاثنين إذا كان واقعا فإنه يقع على الواحد والجمع نحو: ضَرَبَا رجلا، وضَرَبَا رجالا، ولا يجوز ذلك في "كان"، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: كانا قائما، وكانا قياما، ويدل على ذلك أيضا أنك تَكْنِي عن الفعل الواقع نحو "ضَرَبْتُ زيدًا" فتقول: فَعَلْتُ بزيد، ولا تقول في كنت أخاك: فعلت بأخيك، وإذا لم يكن متعديا وجب أن يكون منصوبا نصب الحال، لا نصب المفعول؛ فإنا ما وجدنا فعلا ينصب مفعولا هو الفاعل في المعنى، إلا الحال، فكان حمله عليه أولى، ولأنه يحسن أن يقال فيه "كان زيد في حالة كذا" وكذلك يحسن أيضا في ظننت زيدا قائما "ظننت زيدا في حالة كذا" فدل على أنه نصب على الحال.
قالوا: ولا يجوز أن يقال "إنه لو كان نصبًا على الحال لما جاز أن يقع معرفة في نحو: كان زيد أخاك، وظننت عمرا غلامك، والحال لا تكون معرفة" لأنا نقول: إنما جاز ذلك لأن "أخاك، وغلامك" وما أشبه ذلك قام مقام الحال كقولك: ضربت زيدا سَوْطًا، فإن "سوطا" ينتصب على المصدر وإن كان آلة لقيامه مقام المصدر الذي هو ضرب2،
__________
1 انظر في هذه المسألة: حاشية الصبان على الأشموني "1/ 218 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "2/ 220 بولاق".
2 ر "الذي هو ضربه".

(2/676)


وكذلك ههنا. علي أنه قد جاءت الحال معرفة في قولهم:
[499]
[فـ] أَرْسَلَهَا العِرَاكَ [وَلَمْ يَذُدْهَا ... وَلَمْ يُشْفَقْ عَلَى نَغَصِ الدَّخَالِ]
وطلبته جَهْدَك، وطَاقَتَك، ورجع عَوْده على بدئه، إلى غير ذلك فدل على صحة ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنَّ نَصْبَهما نَصْبُ المفعول لا على الحال لأنهما يقعان1 ضميرا في نحو قولهم: "كُنَّاهُم، وإذا لم نكنهم فمن ذَا يَكُونُهُمُ؟ " قال الشاعر:
[500]
دَعِ الْخَمْرَ يَشْرَبُهَا الْغُوَاةُ فإِنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا بِمَكَانِهَا
__________
[499] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وهو من شواهد سيبويه "1/ 187" ورضي الدين في باب الحال من شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 524" وابن يعيش في شرح المفصل "ص241" وابن عقيل "رقم 180" وشرحه العيني "3/ 219 بهامش الخزانة" والبيت في وصف حمار وحش وأتنه، وقال الأعلم: وصف إبلًا أوردها الماء مزدحمة. والعراك الازدحام، والنغص -بفتح النون والغين المعجمة جميعا- مصدر نغص -من باب فرح- تقول "نغص الرجل" إذا لم يتم شربه، والدخال -بكسر الدال المهملة- أن يدخل الرجل بعيره الذي شرب مرة مع الإبل التي لم تشرب من قبل ليشرب معها، وذلك إذا كان البعير كريما. ومحل الاستشهاد من هذا البيت هنا قوله "العراك" فإن هذه الكلمة حال من الضمير المنصوب في قوله "أرسلها" وهي معرفة، والأصل في الحال أن تكون نكرة، ومصدرا، والأصل في الحال أن تكون وصفا، وذلك لأن هذا المصر المعرف في تأويل وصف نكرة، فكأنه قال: فأرسلها معتركة. قال سيبويه "وهذا ما جاء منه في الألف واللام، وذلك قولك: أرسلها العراك، قال لبيد بن ربيعة:
فأرسلها العراك ولم يذدها- البيت
كأنه قال: اعتراكا، وليس كل المصادر في هذا الباب يدخله الألف واللام "ا. هـ، وقال الأعلم "الشاهد فيه نصب العراك وهو مصدر في موضع الحال، والحال لا يكون معرفة وجاز هذا لأنه مصدر، والفعل يعمل في المصدر معرفة ونكرة، فكأنه أظهر فعله ونصبه به ووضع ذلك الفعل موضع الحال فقال: أرسلها تعترك الاعتراك، ولو كان من أسماء الفاعل لم يجز ذلك فيه "يريد لم يجز تعريفه" نحو أرسلها المتركة" ا. هـ.
[500] هذان البيتان ينسبان لأبي الأسود الدؤلي، وثانيهما من شواهد سيبويه "2/ 21" ورضي الدين في باب الضمير، وشرحه البغدادي في الخزانة "2/ 426" وابن يعيش في شرح المفصل "ص427" والأشموني "رقم 51" وكان لأبي الأسود مولى يحمل تجارته إلى الأهواز، وكان هذا المولى إذا مضى بالتجارة تناول شيئا من الشراب فاضطرب أمره وفسد
__________
1 في ر "أنهما يقعون" تحريف.

(2/677)


فإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ ... أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
أراد بقوله: "أخاها" الزبيب، وجعله أخا الخمر لأنهما من شجرة واحدة. وقال الآخر:
[501]
تنفك تسمع ما حييت ... بهالك حتى تكونه
__________
أمر التجارة، فقال أبو الأسود فيه هذين البيتين، وقوله "فإلا يكنها" أي فإلا يكن أخو الخمر هو الخمر، وقوله "أو تكنه" أي أو تكن الخمر هي أخاها، فاسم "يكن" الأولى ضمير مستتر يعود على الأخ، والضمير البارز المتصل هو خبر يكن، وهو عائد إلى الخمر، واسم "تكن" الثانية ضمير مستتر عائد إلى الخمر، والضمير البارز المنصوب العائد إلى الأخ هو خبرها، ومحل الاستشهاد من هذا الشاهد ههنا قوله "يكنها أو تكنه" حيث جاء بخبر تكن ضميرا متصلا، وأصل القياس أن يكون خبرها ضميرا منفصلا، كما في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي، وهو من شواهد الرضي وابن يعيش:
لئن كان إياه لقد حال بعدنا ... عن العهد والإنسان قد يتغير
وكما في قول العرجي في خبر ليس، وهو من شواهد سيبويه:
ليت هذا الليل شهر ... لا نرى فيه عريبا
ليس إياي وإيا ... ك ولا نخشى رقيبا
ولو أن أبا الأسود قد جاء بالكلام على ما يقتضيه القياس لقال: فإلا يكن إيّاها أو تكن إياه فإنه أخوها، قال سيبويه "وتقول: كناهم، كما تقول: ضربناهم، وتقول: إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم؟ كما تقول: إذا لم نضربهم فمن ذا يضربهم؟ قال أبو الأسود الدؤلي:
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها ... البيت.
ا. هـ كلامه. وقال الأعلم "أراد سيبويه كان لتصرفها تجري مجرى الأفعال الحقيقية في عملها، فيتصل بها ضمير خبرها اتصال ضمير المفعول بالفعل الحقيقي في نحو ضربته وضربني وما أشبهه" ا. هـ.
ومن مجيء خبر ليس ضميرا متصلا قول رؤبة بن العجاج، وهو أيضا من شواهد الرضي وابن يعيش:
عهدي بقومي كعديد الطيس ... إذ ذهب القوم الكرام ليسي
وليس كما تعلم فعل ليس متصرفا، بل هو فعل جامد، ومن النحاة من يذهب إلى أنه حرف.
[501] ذا البيت من كلام خليفة بن براز، وهو شاعر جاهلي، وبعده قوله:
والمرء قد يرجو الحيا ... ة مؤملا والموت دونه
والبيت من شواهد الرضي في باب الأفعال الناقصة، وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 47" وابن يعيش في شرح المفصل "ص1011" وابن الناظم في باب كان وأخواتها من شرح الألفية، وشرحه العيني "2/ 75 بهامش الخزانة" والنحاة يستشهدون بهذا البيت في عدة

(2/678)


وكذلك قالوا أيضا "ظَنَنْتُهُ إياه"1 والضمائر لا تقع أحوالا بحال؛ فعدِمَ شروط الحال فيهما؛ فوجب أن ينتصبا نصب المفعول، لا على الحال.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إن الفعل إذا كان واقعا فإن فعل الاثنين يقع منه على الواحد والجمع، نحو: ضربا رجلا، وضربا رجالا ولا يجوز ذلك في كان؛ فإنه لا يقال كانا قائما وكانا قياما" فنقول: إنما لم يجز في "كان" كما جاز في ضرب؛ لأن المفعول في "كان" هو الفاعل في المعنى، ولا يكون الاثنان واحدا ولا جماعة، وإنما كان المفعول في "كان" هو الفاعل في المعنى؛ لأنها تدخل على المبتدأ والخبر فيصير المبتدأ [بمنزلة الفاعل، والخبر] 2 بمنزلة المفعول، وكما يجب أن يكون الخبر هو المبتدأ في المعنى نحو "زيد
__________
مواضع، أولها في قوله "تكونه" حيث جاء بخبر كان ضميرا متصلا وهو الذي من أجله جاء المؤلف بهذا البيت هنا، وقد بينا ذلك في شرح الشاهد السابق والثاني في قوله "تنفكّ" ولهم في هذه الكلمة شاهدان: أحدهما أن الشاعر قد استعمل الفعل المضارع من انفك، ولما لم يحفظ النحاة من هذا الفعل غير الماضي والمضارع حكموا بأنه فعل متصرف تصرفا ناقصا، ومن مجيء المضارع قول الشاعر:
ليس ينفك ذا غنى واعتزاز ... كل ذي عفة مقل قنوع
وقول ذي الرمة:
قلائص لا تنفك إلا مناخة ... على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا
والشاهد الثاني من هذه الكلمة أنها جاءت في هذا البيت غير مسبوقة بالنفي أو ما يضاهيه، وذلك شاذ، والقياس ذكر نفي أو نهي قبل زال وبرح وفتئ وانفك. ومثل هذا البيت في الإتيان بواحد من هذه الأفعال من غير أن يسبقه نفي أو نهي قول خداش بن زهير:
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا
وهم يغتفرون أن يسقط الشاعر حرف النفي إذا كان الفعل مسبوقا بالقسم كقول امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وقول عبيد الله بن قيس الرقيات "د 189":
والله أبرح في مقدمة ... أهدي الجيوش على شكيته
حتى أفجعهم بإخوتهم ... وأسوق نسوتهم بنسويته
وقول الآخر:
لعمر أبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما فتل الزند قادح
__________
1 ومن ذلك قول الشاعر:
أخي حسبتك إياه وقد ملئت ... أرجاء صدرك بالأضغان والإحن
2 زيادة لا يتم الكلام إلا بها.

(2/679)


قائم"؛ فكذلك يجب أن يكون المفعول في معنى الفاعل؛ فلهذا امتنع في "كان" ما جاز في "ضرب" لا لما ادعيتم، على أنا لا نقول إن كان بمنزلة ضرب، فإن ضرب فعل حقيقي يدل على حدث وزمان، والمرفوع [به] فاعل حقيقي، والمنصوب به مفعول حقيقي، وأما "كان" فليس فعلا حقيقيا؛ بل يدل على الزمان المجرد عن الحدث، ولهذا يسمى فعلَ العبارةِ، فالمرفوع به مشبه بالفاعل والمنصوب به مشبه بالمفعول؛ فلهذا سمي المرفوع اسما، والمنصوب خبرا، ولهذا المعنى من الفرق لما كان ضرب فعلا حقيقيا جاز إذا كني عنه -نحو "ضربت زيدا"- أن يقال: فعلت بزيد، ولما كانت "كان" فعلا غير حقيقي، بل في فعليتها خلاف؛ لم يجز إذا كني عنها نحو "كنت أخاك" أن يقال: فعلت بأخيك.
وأما قولهم: "إنه يحسن أن يقال: كان زيد في حالة كذا، وكذلك يحسن أيضا في ظننت زيدا قائما: ظننت زيدا في حالة كذا؛ فدل على أن نصبهما نصب الحال" قلنا: هذا إنما يدل على الحال مع وجود شروط الحال بأسرها، ولم يوجد ذلك؛ لأنه من شروط الحال أن تأتي بعد تمام الكلام، ولم يوجد ذلك في "كان" الناقصة التي وقع فيها الخلاف دون التامة التي بمعنى وَقَعَ، ولم يوجد أيضا في المفعول الثاني لظننت التي بمعنى الظن أو العلم التي وقع فيها الخلاف، لا التي بمعنى التهمة، وكذلك من شروطها ألا تكون إلا نكرة، وكثيرا ما يقع خبر كان والمفعول الثاني لظننت معرفة، ولو كانا حالا لما جاز أن يقعا إلا نكرة؛ فلما جاز أن يقعا معرفة دل على أنهما ليسا بحال.
قولهم: "إنما جاز ذلك لأن المعرفة أقيمت مقام الحال، كما أقيمت الآلة مقام المصدر في قولهم: ضربت زيدا سوطا" قلنا: الفرق بينهما ظاهر، وذلك أنه إنما حسن أن ينصب "سوطا" على المصدر؛ لأنه نكرة قام مقام نكرة، فأفاد فائدته، فحسن أن ينصب بما نصب به لقيامه مقامه، وأما ههنا فلا يحسن أن يقوم المعرفة مقام الحال؛ لأن الحال لا تكون إلا نكرة، وهو معرفة؛ فلا يفيد أحدهما ما يفيده الآخر؛ فلا يجوز أن يقام مقامه؛ فلا يجوز أن ينصب بما نصب به.
وأما قولهم: "إن الحال قد جاء معرفة في قولهم: أرسلها العراك، وطلبته جهدك، ورجع عوده على بدئه" قلنا: هذه الألفاظ مع شذوذها وقلتها ليست أحوالا، وإنما هي مصادر دلت على أفعال في موضع الحال، فإذا قلت "أرسلها العراك" فالتقدير فيه: أرسلها تعترك العراك، على معنى تعترك الاعتراك، فأقاموا "العراك" مقام الاعتراك، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتا} [نوح: 17] ثم حذفوا "تعترك" وهو جملة في موضع الحال، وأقاموا المصدر دليلا

(2/680)


عليه، كما تقول: "إنما أنت سَيْرًا" أي تسير سيرا، وكذلك قولهم "طلبته جَهْدَك"، وطاقَتَك" كأنهم قالوا: طلبته تجتهد اجتهادك، ثم حذفوا "تجتهد" وهو جملة في موضع الحال، وأقاموا المصدر دليلا عليه، وهكذا التقدير في قولهم "رَجَعَ عودَه على بدئه"، وقد ذهب بعض النحويين إلى أن "عودة" منصوب برجع نصب المفعول لا نصب المصدر؛ لأن "رجع" يكون متعديا كما يكون لازما، قال الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83] فعدى رجع [إلى] الكاف؛ فدل على أنه يكون متعديا، والأكثرون على الأول، وإنما أقاموا هذه المصادر مُقَامَ الأفعال في هذه المواضع؛ لأن في ألفاظ المصادر دلالة على الأفعال، على أن هذه الألفاظ شاذة لا يقاس عليها؛ فكذلك كل ما جاء من المصادر والأسماء بالألف واللام في موضع الحال؛ فإنه شاذ نادر لا يقاس عليه، والله أعلم.

(2/681)


120- مسألة [القول في تقديم التمييز إذا كان العامل فعلا متصرفا] 1
اختلف الكوفيون في جواز تقديم التمييز إذا كان العامل فيه فعلا متصفا نحو "تصبب زيد عرقا، وتفقأ الكبش شحما": فذهب بضعهم إلى جوازه ووافقهم على ذلك أبو عثمان المازني وأبو العباس المبرد من البصريين. وذهب أكثر البصريين إلى أنه لا يجوز.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز التقديم النقلُ والقياسُ. أما النقل فقد جاء ذلك في كلامهم، قال الشاعر:
[502]
أَتَهْجُرُ سَلْمَى بِالْفِرَاقِ حَبِيبَهَا ... وَمَا كَانَ نَفْسًا بِالْفِرَاقِ تَطِيبُ؟!
__________
[502] قد اختلف الرواة في نسبة هذا البيت؛ فنسبه قوم إلى المخبل السعدي واسمه ربيع بن ربيعة بن مالك، ونسبه آخرون إلى أعشى همدان، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله "انظر الصبح المنير ص312 فينا" ونسبه ابن سيده لقيس بن معاذ المعروف بمجنون ليلى. والبيت من شواهد الأشموني "رقم 514" وابن عقيل "رقم 194" وابن الناظم في باب التمييز من شرح الألفية، وشرحه العيني "3/ 235 بهامش الخزانة" وابن جني في الخصائص "2/ 384" ومحل الأستشهاد من هذا البيت بقوله "وما كان نفسا بالفراق تطيب" فإن اسم كان ضمير شأن محذوف وخبرها جملة تطيب، ونفسا: تمييز نسبة، والعامل فيه هو قوله تطيب، وقد تقدم التمييز على عامله، وهذا غير جائز في سعة الكلام عند البصريين، وقد أجازه الكوفيون واستدلوا بهذا البيت ونحوه مما سنرويه لك بعد على أنه جائز لأنه وارد في كلام العرب المحتج بكلامهم. قال ابن جني في الخصائص "ومما يقبح تقديمه الاسم المميز، وإن كان ناصبه فعلا متصرفا، فلا نجيز شحما تفقأت، ولا عرقا تصببت، فأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل:
أتهجر ليلى للفراق حبيبها ... البيت
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "3/ 159 بتحقيقنا" وشرح الأشموني مع حاشية الصبان "2/ 177 بولاق" وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 480 بولاق" وأسرار العربية للمؤلف "ص79".

(2/682)


وَجْهُ الدليل أنه نصب "نفسا" على التمييز، وقدمه على العامل فيه وهو "تطيب" لأن التقدير فيه: وما كان الشأنُ والحديثُ تطيب سلمى نفسا؛ فدل على جوازه.
وأما القياس فلأن هذا العامل فعل متصرف؛ فجاز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال المتصرفة، ألا ترى أن الفعل لما كان متصرفا -نحو قولك: "ضرب زيد عمرا"- جاز تقدم معموله عليه نحو "عمرا ضرب زيد" ولهذا ذهبتم إلى أنه يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان فعلا متصرفا نحو "راكبا جاء زيد".
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "تقديم الحال على العامل فيها لا يجوز عندكم ولا تقولون به، فكيف يجوز لكم الاستدلال بما لا يجوز عندكم ولا تقولون به؟ " لأنا نقول: كان القياس يقتضي أن يجوز تقديم الحال على العامل فيها إذا كان فعلا متصرفا، إلا أنه لم يجز لدليل دل عليه، وذلك لما يؤدي إليه من تقديم المضمر على المظهر على ما بينا في مسألة الحال، فبقينا فيما عداه على الأصل، وجاز لنا
__________
فنقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق:
وما كان نفسي بالفراق تطيب
فرواية برواية، والقياس من بعد حاكم، وذلك أن المميز هو الفاعل في المعنى، ألا ترى أن أصل الكلام: تصبب عرقي، وتفقأ شحمي، ثم نقل الفعل فصار في اللفظ لي، فخرج الفاعل في الأصل مميزا، فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل فكذلك لا يجوز تقديم المميز إذا كان هو الفاعل في المعنى على الفعل" ا. هـ كلامه.
ومما جاء فيه تقديم التمييز -سوى هذا البيت الذي وجدوا فيه رواية أخرى يتمسكون بها- قول ربيعة بن مقروم الضبي:
رددت بمثل السيد نهد مقلص ... كميش إذا عطفاه ماء تحلبا
وقول الآخر:
إذا المرء عينا قر بالعيش مثريا ... ولم يعن بالإحسان كان مذمما
وقول الآخر:
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا ... وما ارعويت وشيبا رأسي اشتعلا
وقد اقتنع بهذه الشواهد أبو عثمان المازني وأبو العباس المبرّد والكسائي وأبو عمر الجرمي فذهبوا إلى جواز تقديم التمييز على عامله إذا كان هذا العامل فعلا متصرفا.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، وأعز وأكرم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم إني أحمدك أحب الحمد إليك، وأطيب الحمد عندك، وأشكرك شكرا يوالي نعمك ويكافئ مزيدك، وأبتهل إليك أن تتقبل عملي، وتجعله لديك في سجل الحسنات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء، يا رب العالمين، آمين.

(2/683)


أن نستدل به عليكم وإن كنا لا نقول به، لأنكم تقولون به؛ فصلح أن يكون إلزاما عليكم.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديمه على العام فيه، وذلك لأنه هو الفاعل في المعنى، ألا ترى أنك إذا قلت "تصبب زيد عرقا، وتفقأ الكبش شحما" أن المتصبب هو العرق والمتفقئ هو الشحم، وكذلك لو قلت "حسن زيد غلاما، ودابة" لم يكن له حظ في الفعل من جهة المعنى، بل الفاعل في المعنى هو الغلام والدابة؛ فلما كان هو الفاعل في المعنى لم يجز تقديمه كما لو كان فاعلا لفظا.
قالوا: ولا يلزم على كلامنا الحال حيث يجوز تقديمها على العامل فيها نحو "راكبا جاء زيدا" فإن راكبا فاعل في المعنى ومع هذا يجوز تقديمه؛ لأنا نقول: الفرق بينهما ظاهر، وذلك لأنك إذا قلت "جاء زيد راكبا" فزيد هو الفاعل لفظا ومعنى، وإذا استوفى الفعل فاعله من جهة اللفظ والمعنى صار "راكبا" بمنزلة المفعول المختص باستيفاء الفعل فاعله من كل وجه؛ فجاز تقديمه كالمفعول نحو "عمرا ضرب زيد" بخلاف التمييز؛ فإنك إذا قلت "تصبب زيد عرقا، وتفقأ الكبش شحما، وحسن زيد غلاما" لم يكن زيد هو الفاعل في المعنى، بل الفاعل في المعنى هو العرق والشحم [والغلام] ، فلم يكن عرقا وشحما وغلاما بمنزلة المفعول من هذا الوجه؛ لأن [353] الفعل استوفى فاعله لفظا لا معنى، فلم يجز تقديمه كما جاز تقديم الفاعل1، وكذلك قولهم: "امتلأ الإناء ماء" فإنه وإن لم يكن مثل "تصبب زيد عرقا" لأنه لا يمكن أن تقول "امتلأ ماء الإناء" كما يمكن أن تقول "تصبب عرق زيد" إلا أنه لما كان يملأ الإناء كان فاعلا على الحقيقة.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما ما استدلوا به من قول الشاعر:
[503]
أَتَهْجُرُ سَلْمَى بِالْفِرَاقِ حَبِيبَهَا ... وَمَا كَانَ نَفْسًا بِالْفِرَاقِ تَطِيبُ
فإن الرواية الصحيحة:
[502]
وما كان نفسي بالفراق تطيب
وذلك لا حجة فيه، ولئن سلمنا صحة ما رويتموه فنقول: نصب "نفسا" بفعل مقدر، كأنه قال أعني نفسا، لا على التمييز، ولو قدرنا ما ذكرتموه فإنما جاء في الشعر قليلا على طريق الشذوذ؛ فلا يكون فيه حجة.
وأما قولهم: "إنه فعل متصرف فجاز تقديم معموله عليه كسائر الأفعال
__________
1 كذا، وهو خطأ وصوابه "كما جاز تقديم الحال".

(2/684)


المتصرفة إلى آخر ما قرروه" قلنا: الفرق بينهما ظاهر، وذلك لأن المنصوب في "ضَرَبَ زيد عمرا" منصوب لفظا ومعنى، وأما المنصوب في نحو "تصبب زيد عرقا" فإنه وإن لم يكن فاعلا لفظا فإنه فاعل معنى، فبان الفرق بينهما.
وأما احتجاجهم بتقديم الحال على العامل فيها فلا حجة لهم فيه؛ لأنهم لا يقولون به، ولا يعتقدون صحته، فكيف يجوز أن يستدلوا على الخصم بما لا يعتقدون صحته؟ قولهم: "كان القياس يقتضي أن يجوز تقديم الحال على العامل فيها، إلا أنه لم يجز عندنا لدليل دل عليه، وهو ما يؤدي إليه من تقديم المضمر على المظهر" قلنا: وكذلك نقول ههنا: كان القياس يقتضي أنه يجوز تقديم التمييز على العامل فيه، إلا أنه لم يجز عندنا لدليل دل عليه، وهو أن التمييز في المعنى هو الفاعل، والفاعل لا يجوز تقديمه على الفعل على ما بَيَّنَّا، وإذا جاز لكم أن تتركوا جواز التقديم هناك لدليل جاز لنا أن نتركه ههنا لدليل، على أنَّا قد بَيَّنَّا فساد ما ذهبتم إليه وصحة ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

(2/685)


121- مسألة: [القول في "رُبَّ" اسم هو أو حرف؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "رب" اسم. وذهب البصريون إلى أنه حرف جر.
أما الكوفيون فإنهم احتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه اسم حملا على "كم" لأن "كم" للعدد والتكثير، و"رب" للعدد والتقليل، فكما أن كم اسم فكذلك رب.
والذي يدل على أن رب ليست بحرف جر أنها تخالف حروف الجر، وذلك في أربعة أشياء؛ أحدها: أنها لا تقع إلا في صدر الكلام، وحروف الجر لا تقع في صدر الكلام، وإنما تقع متوسطة؛ لأنها إنما دخلت رابطة بين الأسماء والأفعال. والثاني: أنها لا تعمل إلا في نكرة وحروف الجر تعمل في النكرة والمعرفة. والثالث: أنها لا تعمل إلا في نكرة موصوفة، وحروف الجر تعمل في نكرة موصوفة وغير موصوفة، والرابع: أنه لا يجوز عندكم إظهار الفعل الذي تتعلق به. وكونه على خلاف الحروف في هذه الأشياء دليل على أنه ليس بحرف.
والذي يدل دلالة ظاهرة على أنه ليس بحرف أنه يدخله الحذف فيقال في رب "رب" قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] قرئ بالتخفيف كما قرئ بالتشديد، وفيها أربع لغات: ُربَّ ورُبَ ورَبَّ ورَبَ -بضم الراء وتشديد الباء وتخفيفها، وفتح الراء وتشديد الباء وتخفيفها- فدل على أنها ليست بحرف.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنها حرف أنها لا يحسن فيها علامات الأسماء ولا علامات الأفعال، وأنها قد جاءت لمعنى في غيرها كالحرف، وهو تقليل ما دخلت عليه نحو "رب رجل يفهم" أي ذلك قليل.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم: "إنما قلنا إنها اسم حملا
__________
1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص104 وما بعدها" وشرح الرضي على الكافية "2/ 307" وخزانة الأدب للبغدادي "4/ 184 بولاق".

(2/686)


على كم؛ لأن كم للعدد والتكثير، ورب للعدد والتقليل "قلنا: لا نسلم أنها للعدد، وإنما هي للتقليل فقط، على أن "كم" إنما حكم بأنها اسم لأنه يحسن فيها علامات الأسماء، نحو حروف الجر، نحو: بكم رجل مررت، وما أشبه ذلك. وجواز الإخبار عنه، نحو: كم رجلا لحاك، وهذا غير موجود في "رب" فدل على الفرق بينهما.
وأما قولهم: "إنها تخالف حروف الجر في أربعة أشياء: أحدها أنها لا تقع إلا في صدر الكلام: قلنا: إنما لا تقع إلا في صدر الكلام لأن معناها التقليل، وتقليل الشيء يقارب نفيه، فأشبهت حرف النفي، وحرف النفي له صدر الكلام.
وقولهم في الثاني "إنها لا تعمل إلا في نكرة" قلنا: لأنها لما كان معناها التقليل والنكرة تدل على الكثرة وجب ألا تدخل إلا على النكرة التي تدل على الكثرة؛ ليصح فيها معنى التقليل.
وقولهم في الثالث: "إنها لا تعمل إلا في نكرة موصوفة" قلنا: لأنهم جعلوا ذلك عوضًاعن حذف الفعل الذي تتعلق به، وقد يظهر ذلك الفعل في ضرورة الشعر.
وقولهم في الرابع: "إنه لا يجوز إظهار الفعل الذي تعلق به "قلنا: فعلوا ذلك إيجازا واختصارا، ألا ترى أنك إذا قلت: رب رجل يعلم" كان التقدير فيه: رب رجل يعلم أدركت، أو لقيت؛ فحذف لدلالة الحال عليه، كما حذفت في قوله تعالى: {وَأدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] إلى قوله تعالى: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12] ولم يذكر مرسلا؛ لدلالة الحال عليه. والحذف على سبيل الوجوب والجواز لدلالة الحال عليه، والحذف على سبيل الوجوب والجواز لدلالة الحال كثير في كلامهم.
وأما قولهم: "إنه يدخله الحذف، والحذف لا يدخل الحرف" قلنا: لا نسلم؛ فإنه قد جاء الحذف في الحرف؛ فإن "أن" المشددة يجوز تخفيفها، وهي حرف، وكذلك حكى أبو العباس أحمد بن يحيى من أصحابكم في "سوف" [سف أفعل، و1 سو أفعل] فحذفتم الواو والفاء، وإذا جاز عندكم حذف حرفين فكيف يجوز أن تمنعوا جواز حذف حرف واحد؟ والله أعلم.
يقول المعتز بالله تعالى وحده، أبو رجاء محمد محيي الدين بن عبد المجيد: الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
__________
1 زيادة يقتضيها الكلام.

(2/687)


وبعد؛ فقد أتممت بحمد الله تعالى ومعونته مراجعة كتاب "الإنصاف، في مسائل الخلاف، بين النحويين الكوفيين والبصريين" الذي صَنَّفَه الإمام كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري، النحوي، المولود في عام 513، والمتوفى في عام 577 من الهجرة، وهو كتاب فريد في بابه، لم ينشر للناطقين بالضاد كتاب آخر في موضوعه، وإن يكن لأسلافنا رضي الله عنهم في هذا الموضوع عدة مصنفات كلها حَريٌّ بالإخراج والذيوع.
وقد يسر الله تعالى لي -بعد أكثر من خمسة عشر عاما من إخراجه لأول مرة، وبعد أن نشر الكتاب ثلاث مرات- أن أنجز بعض ما وعدت به قراء العربية أن أخرج لهم مع هذا الكتاب شرحا يبين غوامضه، ويجلي فرائده، ويَتَرَصَّد مسالكه ومَسَاربه، ويكون فَيْصَلًا على أحكامه: يقر صحيحها، وينقض ما جانب فيه الجادة، وقد تضخم بذلك حجم الكتاب فصار ضعف الأصل أو يزيد، وإن كان في الأجل بقية وفي القوس مَنْزَع عدت إليه فأضفت ونقحت وهذبت، والله سبحانه المسئول أن يتولانا بفضله، وينفحنا بتأييده وتوفيقه.

(2/688)