أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك

ج / 2 ص -156-        [باب اللازم والمتعدي]:
هذا باب التعدي واللزوم:
[أنواع الفعل من حيث التعدي واللزم]:
الفعل ثلاثة أنواع1:
أحدها: ما لا يوصف بتعدٍّ ولا لزوم، وهو: "كان" وأخواتها، وقد تقدمت.
الثاني: المتعدي، وله علامتان؛ إحداهما: أن يصح أن يتصل به هاء ضمير غير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في اللغة أفعال تتعدى حينا بنفسها، وحينا بحرف الجر؛ نحو: "نصح وشكر" فيستعمل كلا هذين الفعلين -على سبيل المثال- متعديين في مثل: نصحته وشكرته على الهدية، كما يستعملان لازمين في نحو: نصحت له، وشكرت له حسن إصغائه؛ فمثل هذين الفعلين وما شابههما، يكون استعمالهما متعديين لغة قبيلة، واستعمالهما لازمين لغة قبيلة أخرى؛ فهي بالنظر إلى كل قبيلة على حدتها داخلة في أحد القسمين المتعدي واللازم؛ وللنحاة في هذه الأفعال ثلاثة آراء:
الأول: أن هذا النوع من الأفعال قسم مستقل بذاته؛ فليس هو من قبيل المتعدي، ولا من قبيل اللازم؛ وأصحاب هذا الرأي نظروا إلى الاستعمالين معا، فلم يجرؤوا على التمييز بين استعمال وآخر؛ لأن كلا الاستعمالين منقول عمن يحتج بلغتهم من العرب.
الثاني: أن ننظر إلى الاستعمال الذي يعدي هذه الأفعال بحرف الجر فنجعله -هو الأصل، ثم نجعل ما نتصوره متعديا بنفسه منقولا عن اللازم بحذف حرف الجر؛ وإيصال الفعل إلى ما كان مجرورا، وهو ما يسميه علماء اللغة: "الحذف والإيصال". واختار هذا الرأي ابن عصفور.
الثالث: أن ننظر إلى الاستعمال الذي يعدي هذه الأفعال بنفسها، فنجعله -هو- الأصل، ثم نجعل الاستعمال الآخر الذي يعديها بحرف الجر من باب زيادة حرف الجر، وهذي رأي ذكره أبو حيان وفيه نظر.
انظر حاشية يس على التصريح: 1/ 308-309.

 

ج / 2 ص -157-        المصدر، الثانية: أن يبنى منه اسم مفعول تام، وذلك كـ: "ضرب" ألا ترى أنك تقول: "زيد ضربه عمرو" فتصل به هاء ضمير غير المصدر وهو: "زيد"، وتقول: "هو مضروب" فيكون تاما.
وحكمه أن ينصب المفعول به، كـ: "ضربت زيدا" و: "تدبرت الكتب" إلا إن ناب عن الفاعل، كـ: "ضُرِبَ زيد" و: "تدبرت الكتب".
الثالث: اللازم، وله اثنتا عشرة علامة، وهي:
أن لا يتصل به هاء ضمير غير المصدر، وأن لا يبنى منه اسم مفعول تام، وذلك كـ: "خرج"، ألا ترى أنه لا يقال: "زيد خرجه عمرو" ولا: "هو مخروج" وإنما يقال "الخروج خرجه عمرو" و: "هو مخروج به، أو إليه".
وأن يدل على سجية، وهي: ما ليس حركة جسم، من وصف ملازم، نحو: جبن وشجع.
أو على عرض، وهو: ما ليس حركة جسم من وصف غير ثابت، كمرض وكسل ونهم إذا شبع.
أو على نظافة كنظف وطهر ووضؤ.
أو على دنس، نحو نجس وقذر.
أو على مطاوعة فاعله لفاعل فعل متعدٍّ لواحد، نحو كسرته فانكسر، ومددته فامتد، فلو طاوع ما يتعدى فعله لاثنين تعدى لواحد كعلَّمته الحساب فتعلمه.
أو يكون موازنا لافعلَلَّ كـ "اقشعرَّ واشمأزَّ"، أو لما ألحق به، وهو افوعل، كـ "اكْوَهَدَّ" الفرخ إذا ارتعد.
أو لافعنلل كـ "احرنجم"، أو لما ألحق به، وهو افعنلل بزيادة إحدى اللاميين كـ "اقعنسس الجمل" إذا أبى أن ينقاد، وافعنلى كـ "احرنبى الديك" إذا انتفش للقتال.
[حكم اللازم أن يتعدى بالجار]:
وحكم اللازم: أن يتعدى بالجار، كـ: "عجبت منه"، "مررت به"، و"غضبت عليه".

 

ج / 2 ص -158-        [حذف الجر شذوذا]:
وقد يُحذف ويبقى الجر شذوذا، كقوله1: [الطويل]

235- أشارت كليبٍ بالأكف الأصابع2

أي: إلى كليب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القائل: هو الفرزدق همام بن غالب وقد مرت ترجمته.
2 تخريج الشاهد: هذا عجز بيت وصدره قوله:

إذا قيل: أي الناس شر قبيلة؟

والبيت من أبيات يهجو فيها جريرا، وهو من شواهد: التصريح: 1/ 312، والأشموني: "398/ 1/ 196"، وابن عقيل: "221/ 3/ 39"، والهمع: 2/ 26، 2/ 81، والدرر: 2/ 37، 2/ 106، والخزانة: 3/ 669، 4/ 208، والعيني: 2/ 542، 3/ 354، ومغني اللبيب: "1/ 15" "1098/ 843" وشرح السيوطي: 3، وديوان الفرزدق: 520.
المفردات الغريبة: كليب: هو ابن يربوع أبو قبيلة جرير: بالأكف: الباء بمعنى "مع": أي: مع الأكف.
المعنى: إذا ما سأل سائل عن شر القبائل وأحقرها؛ أشارت الأصابع مع الأكف إلى "كليب" وأبى المسؤولون النطق باسمها لحقارتها، والتعفف عن ذكر اسمها.
الإعراب: إذا: ظرفية متضمنة معنى الشرط. قيل: فعل ماضٍ مبني للمجهول؛ وهو فعل الشرط. أي اسم استفهام، مبتدأ. الناس: مضاف إليه. شر: خبر. "أي" مرفوع، وهو مضاف. قبيلة: مضاف إليه؛ ويجوز أن ينون "شر" لأنه الخبر، وينصب "قبيلة" على التمييز؛ وكلاهما جائز؛ وجملة "المبتدأ والخبر": في محل رفع نائب فاعل -على رأي من يجيز وقوع الجملة في محل رفع فاعل أو نائب فاعل- وجملة "قيل مع نائب الفاعل": في محل جر بالإضافة لـ "إذا". أشارت: فعل ماضٍ والتاء: للتأنيث. كليب: مجرور محرف جر محذوف؛ والتقدير: أشارت إلى كليب؛ و"إلى كليب": متعلق بـ "أشارت" بالأكف": متعلق بمحذوف حال من الأصابع؛ ومعلوم أن الباء هنا تفيد المصاحبة. الأصابع: فاعل "أشارت" مرفوع؛ وتقدير الكلام: أشارت الأصابع حال كونها مصاحبة للأكف إلى كليب.
موطن الشاهد: "كليب".
وجه الاستشهاد: جر "كليب" بحرف جر محذوف؛ وحكم هذا الجر الشذوذ؛ لأن عامل الجر ضعيف وهو لا يعمل بعد حذفه. غير أن للبيت رواية أخرى برفع "كليب" على أنه لمبتدأ محذوف؛ أي: هي كليب -يكون جمع بين الإشارة والعبارة- ولا شاهد فيه على هذه الرواية.

 

ج / 2 ص -159-        [حذف الجر وانتصاب المجرور]:
وقد يحذف وينصب المجرور، وهو ثلاثة أقسام:
1- سماعي جائز في الكلام المنثور، نحو: "نصحته" و: "شكرته"، والأكثر ذكر اللام، نحو:
{وَنَصَحْتُ لَكُمْ}1 {أَنِ اشْكُرْ لِي}2.
2- وسماعي خاص بالشعر، كقوله3: [الكامل]

236- ... كَمَا عَسَلَ الطريقَ الثعلَبُ4

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "7" سورة الأعراف، الآية: 79.
موطن الشاهد:
{نَصَحْتُ لَكُمْ}.
وجه الاستشهاد: مجيء فعل "نصح" لازما متعديا بحرف الجر، وهو أحد استعمالي هذا الفعل؛ حيث يستعمل متعديا بنفسه أيضا؛ واستعماله متعديا بحرف الجر أرجح؛ لأنه لغة التنزيل.
2 "31" سورة لقمان، الآية: 14.
موطن الشاهد:
{اشْكُرْ لِي}.
وجه الاستشهاد: استعمال فعل "شكر" لازما متعديا بحرف الجر؛ وهذا أحد استعمالي هذا الفعل؛ لأنه يستعمل متعديا بنفسه أيضا؛ واستعماله متعديا بحرف الجر أرجح؛ لأنه لغة التنزيل.
3 القائل: هو ساعدة بن جؤية الهذلي؛ أحد بني كعب بن كاهل من سعد هذيل، شاعر من مخضرمي الجاهلية والإسلام، أسلم وليست له صحبة، قال الأصمعي: شعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة، وله ديوان شعر مطبوع.
الخزانة: 3/ 86، الآمدي: 83، وسمط اللآلي: 115.
4 تخريج الشاهد: هذا قطعة من بيت للشاعر يصف رمحا باللدونة وهو بتمامه:

لدن بهز الكف يعسل متنه                  فيه، كما عسل الطريق الثعلب

وهو من شواهد: التصريح: 1/ 312، والأشموني: "400/ 1/ 197"، والهمع: 1/ 200، 2/ 81، والدرر: 1/ 169، 2/ 105، والكتاب لسيبويه: 1/ 16، 108، والعيني: 2/ 544، والخصائص: 3/ 319، وأمالي ابن الشجري: 1/ 42، 2/ 248، والخزانة: 1/ 474، وديوان الهذليين: 1/ 901، والمغني "2/ 15، "920/ 681" "976/ 570"، والسيوطي: 5، 299. =

 

ج / 2 ص -160-        وقوله1: [البسيط]

237- آليت حب العراق الدهر أطعمه2

أي: في الطريق، وعلى حب العراق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المفردات الغريبة: لدن: لين ناعم. يعسل: يضطرب ويتحرك. متنه: المراد: ظهر الرمح وصدره.
المعنى: يصف الشاعر رمحا شديد الليونة؛ فهو لجودته شديد الليونة، يتحرك ويضطرب متنه بسبب هزه باليد، كما يضطرب الثعلب في الطريق خوفا من أن يدرك.
الإعراب: لدن: خبر المبتدأ محذوف؛ والتقدير: هو لدن؛ أو صفة لموصوف في البيت السابق. "بهز": معلق بـ "لدن"، وهو مضاف. الكف: مضاف إليه. يعسل: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة. متنه: فاعل مرفوع، والهاء: مضاف إليه "فيه": متعلق بـ "يعسل". كما: الكاف حرف جر، و"ما": حرف مصدري مبني على السكون. عسل: فعل ماضٍ. الطريق: منصوب على نزع حرف الجر؛ لأن الأصل: عسل في الطريق. الثعلب: فاعل مرفوع. والمصدر المؤول من "ما وما دخلت عليه": في محل جر بالكاف؛ و"الجار والمجرور": متعلق بمحذوف واقع صفة لمصدر محذوف واقعا مفعولا مطلقا لـ "يعسل" والتقدير: يعسل متن هذا الرمح اللدن في كف صاحبه إذا هزه عسلانا مشابها لعسلان الثقعلب في الطريق.
موطن الشاهد: "عسل الطريق".
وجه الاستشهاد: انتصاب "الطريق" بعد حذف حرف الجر "في"؛ ومثل هذا الحذف خاص بالشعر.
1 هو: المتلمس: جرير بن عبد المسيح؛ من بني ضبيعة بن ربيعة، وسمي المتلمس لقوله:

فهذا أوان العرض حيا ذبابه                         زنابيره والأزرق المتلمسُ

كان ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة، مع طرفة بن العبد، فهجواه، فكتب إلى عامله بالبحرين كتابين وأرسله معهما ففتح المتلمس كتابه فنجا وقتل طرفة، والمتلمس أشعر المقلين الجاهليين، أتى بصري فهلك بها.
الشعر والشعراء: 1/ 179، الأغاني: 21/ 120، الاشتقاق: 192، سمط اللآلي: 302.
2 تخريج الشاهد: هذا صدر بيت وعجزه قوله:

والحب يأكله في القرية السوسُ

وهو من شواهد: التصريح: 1/ 312، والأشموني: "399/ 1/ 197" والكتاب: 1/ 17، وأمالي ابن الشجري: 1/ 365، والعيني: 2/ 548، والمغني: "148/ 134" "445/ 323" "1008/ 769".  =

 

ج / 2 ص -161-        3- وقياسي، وذلك في أن وأن وكي1، نحو: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المفردات الغريبة: آليت: حلفت. حب العراق، الحب: اسم جنس جمعي يشمل الحنطة والشعير وغيرهما. أطعمه: أذوقه. السوس: دود يقع في الطعام وفي الصوف.
المعنى: أقسمت ألا آكل شيئا من خيرات العراق على الرغم من كونه كثير الخير والحب، فخزائنه مملوءة بالحب الوفير، ولكثرته يأكله السوس.
الإعراب: آليت: فعل ماضٍ، والتاء: فاعل. حب: منصوب على نزع الخافض؛ لأن الأصل: أقسمت على حب؛ وحب: مضاف. العراق: مضاف إليه. "الدهر": متعلق بـ "أطعم" الآتي. أطعمه: فعل مضارع مرفوع؛ وهي منفي بـ "لا" محذوفة؛ والتقدير: لا أطعمه، والفاعل: أنا؛ والهاء: ضمير عائد إلى العراق في محل نصب مفعول به. والحب: الواو حالية، الحب: مبتدأ مرفوع. يأكله: فعل مضارع، والهاء: مفعول به. "في القرية": متعلق بـ "يأكل". السوس: فاعل مرفوع. وجملة "يأكله في القرية السوس": في محل رفع خبر المبتدأ "الحب؛ والجملة الاسمية "الحب يأكله في القرية السوس": في محل نصب على الحال.
موطن الشاهد: "آليت حب العراق".
وجه الاستشهاد: حذف حرف الجرن وانتصاب "حب" لحذف حرف الجر؛ وهو ما يسمى بالنصب على نزع الخافض؛ وحكم حذف حرف الجر -هنا- عدم الجواز إلا للضرورة الشعرية، كما في البيت السابق؛ وأمثلته كثيرة في الشعر العربي.
1 أي حين يكون المجرور مصدرا مؤولا من حرف مصدري من أحد هذه الأحرف المصدرية مع صلته؛ وإنما كان الحذف قياسا في هذه؛ لطولها بالصلة، ولأن دخول الحرف في الظاهر على موصول حرفي غير مستساغ؛ وقد اختلف في محلها بعد الحذف، والأقيس: أنها في محل نصب وإليه ذهب المصنف، وأجازه الخليل وسيبويه، ولكنهما جعلا أقوى منه أن يكون المحل جرا. ورجح النحاة عدم القياس على "أن" و"أن"، فلا تقول "بريت السكين القلم" على أن الأصل: بريت بالسكين القلم. وذهب الأخفش الأصغر -علي بن سليمان البغدادي- إلى جواز القياس عليهما بشرط أمن اللبس واستدل بورود مثل ذلك في قول الشاعر:

وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

التصريح: 1/ 313. وابن عقيل: 2/ 151-152.

 

ج / 2 ص -162-        هُوَ}1، ونحو: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُم}2، ونحو: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَة}3، أي بأنه، ومن أن جاءكم، ولكيلا، وذلك إذا قدرت "كي" مصدرية، وأهمل النحويون هنا ذكر "كي"، واشترط ابن مالك في أَنَّ وأَنْ أمن اللبس؛ فمنع الحذف في نحو: "رغبت في أن تفعل" أو: "عن أن تفعل" لإشكال المراد بعد الحذف4، ويشكل عليه: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}5، فحذف الحرف مع أن المفسرين اختلفوا في المراد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 "3" سورة آل عمران، الآية: 18.
موطن الشاهد:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ...}.
وجه الاستشهاد: "حذف حرف الجر قبل "أنه"؛ لطوله بالصلة؛ والحذف هنا قياسي؛ والأصل: شهد الله بأنه لا إله إلا هو، ومحل أن وما دخلت عليه النصب على مذهب الخليل بن أحمد وسيبويه في أحد قوليهما؛ لأنهما جعلا أقوى منهما أن يكون المحل جرا وقيل غير ذلك. شرح التصريح: 1/ 313.
2 "7" سورة الأعراف، الآية: 63.
موطن الشاهد:
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ}.
وجه الاستشهاد: حذف حرف الجر قبل "أن جاءكم"؛ لطوله بالصلة؛ والحذف هنا قياسي كما في الآية السابقة.
3 "59" سورة الحشر، الآية: 7.
موطن الشاهد:
{كَيْ لَا يَكُونَ}.
وجه الاستشهاد: حذف حرف الجر قبل "كي لا يكون"؛ والحذف هنا قياسي كما في الآيتين السابقتين.
4 فإنه لا يتضح المراد بعد الحذف، ولا يدرى أهو علم "عن" أو "في" والمعنيان مختلفان، وليس هنالك قرينة تزيل هذا اللبس.
5 "4" سورة النساء، الآية: 127.
موطن الشاهد:
{أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}.
وجه الاستشهاد: حذف الحرف قبل "أن" واختلف النحاة بسبب اللبس لعدم القرينة المرجحة؛ فبعضهم قدر "في أن" وبعضهم قدر "عن أن" واستدل كل على ما ذهب إليه، وأجيب عنه بجوابين، ذكرهما المرادي في شرح النظم؛ أحدهما: أن يكون حذف الحرف اعتمادا على القرينة الرافعة للبس؛ والآخر: أن يكون حذف لقصد الإبهام ليرتدع بذلك من يرغب فيهن لجمالهن ومالهن، ومن يرغب عنهن لدمامتهن وفقرهن، وقد أجاز بعض المفسرين التقديرين وفي الكشاف: يحتمل في أن تنكحوهن؛ لجمالهن وعن أن تنكحوهن لدمامتهن، وتبعه البيضاوي، وإنما اختلف العلماء في المقدر من الحرفين في الآية؛ لاختلافهم في سبب نزولها فالخلاف في الحقيقة في القرينة.
التصريح: 1/ 313، ومغني اللبيب: 682، 788.

 

ج / 2 ص -163-        [تقدم بعض المفاعيل على بعض أصالة]:
فصل: لبعض المفاعيل الأصالة في التقدم على بعض: إما بكونه مبتدأ في الأصل، أو فاعلا في المعنى، أو مسرَّحا لفظا أو تقديرا1، والآخر مقيد لفظا أو تقديرا، وذلك كـ: "زيدا" في: "ظننت زيدا قائما" و: "أعطيت زيدا درهما" و: "اخترت زيدا القوم"، أو: "من القوم"2.
ثم قد يجب الأصل، كما إذا خيف اللبس، كـ: "أعطيت زيدا عمرا"3، أو كان الثاني محصورا4، كـ: "ما أعطيت زيدا إلا درهما" أو ظاهرا والأول ضمير5، نحو:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي غير مقيد بحرف من حروف الجر.
2 تقدم "زيدا" لأنه غير مقيد بجار لفظا وتقديرا، فالرابطة بينه وبين الفعل أقوى؛ لأنه يتعدى إليه بنفسه، و"القوم" مقيدا تقديرا في الأول، ولفظا في الثاني. ومن ذلك قوله تعالى:
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا}.
3 حيث يتعين أن يكون المقدم هو المفعول الأول؛ لأن كلا منهما يصلح أن يكون آخذا ومأخوذا؛ فلا بد من التقديم؛ ليكون المتقدم هو الآخذ.
4 أي: أن يكون الحصر واقعا عليه؛ فلو تقدم؛ لفسد الحصر، وزال الغرض منه، ولا مانع من تقديمه مع إلا؛ لأن المحصور فيه هو الواقع بعد إلا مباشرة. ضياء السالك: 2/ 90.
5 أي: أن يكون الثاني اسما ظاهرا، والأول ضميرا متصلا؛ لأنه لو تأخر لانفصل، ولا يعدل عن الاتصال إلا في مسائل، ليس هذا منها؛ ولا مانع من تقديم الثاني على الأول والفعل معا؛ نحو: الكتاب منحتك. انظر شرح التصريح: 1/ 314، وضياء السالك: 4/ 90.
6 "108" سورة الكوثر، الآية: 1.
موطن الشاهد:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}.
وجه الاستشهاد: جاء المفعول الأول ضميرا متصلا بالفعل "أعطى" والمفعول الثاني جاء اسما ظاهرا؛ وفي هذه الحال، تقدم الأول على الثاني واجب، كما في المتن.

 

ج / 2 ص -164-        وقد يمتنع كما إذا اتصل الأول بضمير الثاني1، كـ: "أعطيت المال مالكه" أو كان محصورا، كـ: "ما أعطيت الدرهم إلا زيدا" أو مضمرا والأول ظاهر، كـ: "الدرهمَ أعطيته زيدا". و"القوم اخترتهم عمرا".
[جواز حذف المفعول لغرض لفظي أو معنوي]:
فصل: يجوز حذف المفعول لغرض؛ إما لفظي كتناسب الفواصل2 في نحو:
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}3، ونحو: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}4، وكالإيجاز في نحو: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا}5.
وإما معنوي كاحتقاره في نحو:
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ}6، أي: الكافرين، أو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما الامتناع في الأولى فلئلا يعود ضمير على متأخر لفظا ورتبة، وأما في الثاني فلأن المحصور فيه واجب التأخير، وأما في الثالث فلأنه إذا أمكن الاتصال لا يعدل عنه إلى الانفصال إلا فيما يستثنى وليس هذا منه.
التصريح: 1/ 314.
2 أي نهاية الجمل المتصلة اتصالا معنويا، ومنها: رءوس الآي التي ذكرها المصنف.
3 "93" سورة الضحى، الآية: 3.
موطن الشاهد:
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}.
وجه الاستشهاد: حذف مفعول "قلى"؛ ليناسب "سجى، والأولى"؛ والأصل: ما ودعك ربك وما قلاك.
4 "20" سورة طه، الآية: 3.
موطن الشاهد:
{تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}.
وجه الاستشهاد: حذف مفعول يخشى؛ لأن التقدير: يخشاه على الأرجح؛ لتكون نهاية الجملة بكلمة مناسبة مشابهة في وزنها لكلمة "تشقى" التي انتهت بها الجملة السابقة.
5 "2" سورة البقرة، الآية: 24.
موطن الشاهد:
{إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}.
وجه الاستشهاد: "حذف المفعول للإيجاز في الموضعين؛ لأن الأصل: فإن لم تفعلوه ولن تفعلوه -أي الإتيان بسورة من مثله- وحكم هذا الحذف الجواز عند وجود القرينة الدالة على المراد.
6 "58" سورة المجادلة، الآية: 21.
موطن الشاهد:
{لَأَغْلِبَنَّ}.
وجه الاستشهاد: حذف المفعول به؛ لأن الأصل: لأغلبن الكافرين؛ ولم يصرح بذكره؛ لاحتقاره؛ وحكم الحذف الجواز عند وجود القرينة الدالة على المراد في الآية السابقة.

 

ج / 2 ص -165-        لاستهجانه كقول عائشة1 رضي الله عنها: "ما رأى مني ولا رأيت منه"2 أي: العورة.
[متى يمتنع حذفه؟]:
وقد يمتنع حذفه؛ كأن يكون محصورا، نحو: "إنما ضربت زيدا"، أو جوابا كـ: "ضربت زيدا" جوابا لمن قال: "من ضربت"؟3.
[جواز حذف ناصب المفعول]:
فصل: وقد يحذف ناصبه إن علم، كقولك لمن سدد سهما "القرطاس" ولمن تأهب لسفر "مكة" ولمن قال: من أضرب "شر الناس" بإضمار: تصيب، وتريد، واضرب.
[وجوب حذف ناصب المفعول]:
وقد يجب ذلك كما لا في الاشتغال، كـ: "زيدا ضربته"4 والنداء، كـ: "يا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هي: أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موت خديجة بثلاث سنوات، وكانت أحب نسائه إليه، ولم يتزوج بكرا غيرها. توفيت سنة 58 هـ.
2 هذا الكلام للسيدة عائشة رضي الله عنها وتعني بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-.
موطن الشاهد: "ما رأى مني ولا رأيت منه".
وجه الاستشهاد: حذف المفعول به؛ لأن التقدير: في الموضعين "العورة"؛ فحذف المفعول لاستهجانه؛ وحكم الحذف الجواز عند وجود القرينة الدالة على المراد.
3 بقي أنه قد يجب حذف المفعول ولا يجوز ذكره، وذلك كما في باب التنازع إذا أعملت ثاني العاملين في الاسم المتنازع فهي وكان الأول يحتاج إلى منصوب: نحو أن تقول "ضربت وضربني زيد" إذ لو أعملت العامل الأول في ضمير الاسم المتنازع فيه؛ لعاد الضمير على متأخر من غير ضرورة.
4 لأنه لا يجمع بين المفسر والمفسر له.

 

ج / 2 ص -166-        عبد الله"1، وفي الأمثال نحو: "الكلاب على البقر"2 أي: أرسل، وفيما جرى مجرى الأمثال نحو: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُم}3 أي: وأتوا، وفي التحذير بإياك وأخواتها نحو: "إياك والأسد"4 أي: إياك باعد واحذر الأسد، وفي التحذير بغيرهما بشرط عطف أو تكرار، نحو: "رأسك والسيف" أي: باعد واحذر، ونحو: "الأسد الأسد" وفي الإغراء بشرط أحدهما5 نحو: "المروءة والنجدة"، ونحو: "السلاح السلاح" بتقدير الزم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن حرف النداء عوض عن العامل المحذوف وجوبا، ولا يجمع بين العوض والمعوض.
2 مثل قالته العرب، يضرب عند تحريش بعض القوم على بعض من غير مبالاة، ويعني: لا ضرر عليك. اترك الناس وشأنهم، واسلك أنت طريق السلامة. والبقر: أي بقر الوحش، ونصب الكلاب: على معنى أرسل الكلاب. وهو من أمثال الميداني: 2/ 142.
3 "4" سورة النساء، الآية: 171.
موطن الشاهد:
{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}.
وجه الاستشهاد: حذف العامل في "خيرا"؛ لأن التقدير: انتهوا وأتوا خيرا؛ ولا يجوز ذكر العامل؛ لما تقدم؛ ويعرب: مفعولا به لفعل محذوف وجوبا؛ وقدَّر بعضُهم "خيرا" خبرا لـ "كان المحذوفة مع اسمها والتقدير: يكون خيرا لكم، غير أن "ما" لا تحذف مع اسمها ويبقى خبرها كثيرا إلا بعد "إن" و"لو" الشرطيتين. التصريح: 1/ 315.
فائدة: وجب حذف العامل في الأمثال بالحذف؛ لأن ذكر العامل يغير المثل عما تكلم به العرب، والأمثال لا تغير؛ لأن الغرض من ذكرها في كلام ما تشبيه فضربها بموردها. فلزم أن يلتزم فيها أصله؛ فما جاء منها محذوف الفعل؛ فلا يجوز ذكره؛ ليظل على أصله؛ وما جرى مجرى الأمثال؛ أخذ حكمها، وعومل معاملتها، كما في الآية السابقة.
4 إياك والأسد.
إياك: ضمير منفصل في محل نصب مفعول به لفعل محذوف وجوبا؛ ويقدر متأخرا؛ لئلا يتصل الضمير المنفصل. الأسد: مفعول به لفعل محذوف وجوبا؛ ويقدر متقدما؛ وإنما وجب الحذف -هنا- ليتنبه السامع بسرعة، ويبتعد عن الهلاك.
5 أي: العطف أو التكرار؛ ووجب الحذف لقيام العطف أو التكرار مقام العامل.