توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك

القسم الأول: الدراسة
الباب الأول: التعريف بالمرادي المعروف بابن أم قاسم
الفصل الأول:
العصر المملوكي
مصر في عهد المماليك 648هـ-923هـ "1250م- 1517م":
نقصد بهذا العصر الفترة التي حكم فيها سلاطين المماليك في مصر، منذ انقضاء عهد الأيوبيين عام 648هـ إلى أن فتحها الأتراك العثمانيون عام 923هـ.
ولا نقصد هنا استيعابا تاريخيا للعصر المذكور وتفصيلا وافيا لحوادثه العامة، فإن ذلك مما يضيق به هنا.
لفظ مملوك:
لفظ مملوك كان معناه في الأصل الرقيق الأبيض الذكر، والشرقيون في أوج عزهم -أي: في عهد صلاح الدين- هم أول من أدخل المماليك إلى مصر, وقد كانوا -بادئ بدء- ميليشيا ذليلة ثم تحولوا إلى طبقة عسكرية، وأخيرا أصبحوا الطبقة الحاكمة.
ولقد بلغ من قوة المماليك في سنة 1250م أنهم اغتالوا أحد السلاطين الفاطميين، وتولوا بعده ترشيح السلاطين من بين زعمائهم1.
أصل المماليك:
كان الرق منتشرا في العصور الوسطى، وكانت تجلب الغلمان المرد والفتيان الحسان من بلادهم البعيدة إلى أسواق الرقيق، حيث توجد الرغبة في اقتنائهم، وحيث يتنافس في ذلك المتنافسون للخدمة أو للهو.
وطريقة جلبهم لهذه البضائع، السرقة والخطف، يسرقون الغلمان ويخطفون العذارى من أهلهم ثم يستحلون بيعهم للناس، ويستحل الناس شراءهم.
ولم يبل بالرق شعب دون آخر أو جنس دون غيره فقد كان من الأرقاء التركي والجركسي والرومي والحبشي والفارسي وغيرهم، وأروج ما كانت تجارتهم في الأجناس التركية والجركسية لما تتصف به من جمال وطيب مجلس.
__________
1 راجع: تاريخ مصر في عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل, للمستر جون بانج, تعريب عليّ أحمد شكري.

(1/11)


وأول من استخدمهم وجلبهم إلى مصر وجعلهم عمدة جيشه هو "أحمد بن طولون" قال القلقشندي في صبح الأعشى الجزء الثالث في الكلام عمن ولي مصر ملكا قبل الفاطميين: "وأولهم أحمد بن طولون ... وهو أول من جلب المماليك الأتراك إلى الديار المصرية واستخدمهم في عسكرها"1.
انتقال الحكم من الأيوبيين إلى المماليك:
أخذ عدد المماليك يتكاثر في مصر زمن الأيوبيين، وأخذ نفوذهم يزداد ويعظم، وقد قوي بأسهم في عهد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي.
وقد انتصروا على الفرنجة في موقعة "فارسكور" بمعاونة الفلاحين. وهذه الموقعة كانت سببا مباشرا في توطيد سلطة المماليك وظهور قوتهم، وظلوا بعدها يتلمسون الفرصة للوثوب العملي إلى عرش البلاد، وقد أتيحت لهم هذه الفرصة عندما أساء لهم "توران شاه" وإلى "شجرة الدر" معا، وما زالوا يأتمرون حتى قتلوه، وملكوا عليهم من بعده "شجرة الدر" زوجة أبيه ثم ضربت "شجرة الدر" الحجاب على نفسها ورأت أخيرا بثاقب نظرها وبعيد رأيها أن تخلع نفسها عن الملك بعد أن مكثت ثمانين يوما, فتمت المشورة بسلطنة "عز الدين أيبك" ثم تزوج "شجرة الدر" ليكون واصلة بالبيت المالك القديم، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 648هـ ولقبوه بالملك المعز، فكان أول سلاطين المماليك بالديار المصرية2.
دولتا المماليك 648هـ-923هـ:
واتفق المؤرخون على تقسيم دولة المماليك في مصر إلى قسمين:
الأول: الدولة المملوكية الأولى المعروفة باسم دولة الأتراك أو البحرية، لأن معظم سلاطينها من الأتراك الذين أسكنهم الملك الصالح "جزيرة الروضة" وجعل منهم فرقة البحرية الصالحية، وامتد عصر هذه الدولة أكثر من مائة عام "1250-1382م".
__________
1 راجع: عصر سلاطين المماليك للأستاذ محمود رزق 1/ 13-20 ملخصا، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان.
2 عصر سلاطين المماليك للأستاذ محمود رزق 1/ 22-26 ملخصا.

(1/12)


وامتاز بما ظهر من سلاطين أقوياء أمثال "قطز، والظاهر بيبرس" وغيرهما.
أما القسم الثاني: فهو الدولة المملوكية الثانية التي أطلق عليها اسم دولة الجراكسة أو المماليك البرجية، لأن معظم سلاطينها من الجراكسة الذين اشتراهم السلطان قلاوون، وأنزلهم أبراج قلعة الجبل، وألف منهم فرقة الحرس الخاص.
وامتد حكم هذه الدولة إلى سنة 1517م وهي السنة التي استولى فيها العثمانيون على مصر1.
حضارة مصر في عهد المماليك:
نظام الحكم:
حينما انتقل الحكم إلى المماليك وتلقب المماليك بلقب السلاطين, بقيت القلعة مركز الحكم في البلاد حتى أواخر هذا العهد، وتأثرت أنظمة الحكم زمن المماليك بمن قبلهم.
فمن ذلك:
تعميم نظام الإقطاع في مصر, وكان الإقطاع مكافأة لكبار رجال الدولة من الأمراء والقواد بدل الرواتب والأعطية.
ومع هذا حاول سلطان من السلاطين أن يجعل السلطنة في ابنه من بعده خضوعا لعاطفة الأبوة، غير أن هذا لم يكن إلا وسيلة مؤقتة حتى يتيسر للأمراء شيء من الإجماع على سلطنة واحدة من كبارهم، فإذا تم ذلك خلع الأمراء ابن سلطانهم القديم وأرسلوه إلى أمه أو نفوه، وترتب على هذا من التولية والعزل في السلطنة، مما أدى إلى اضطراب الأحوال في كثير من الأحيان2.
الأحوال الاجتماعية:
وفد إلى مصر كثير من المماليك من مختلف الأجناس الآسيوية والأوربية
__________
1 عصر سلاطين المماليك، تاريخ مصر إلى الفتح العثماني تأليف عمر السكندري.
2 عصر سلاطين المماليك, للأستاذ محمد رزق، وتاريخ مصر إلى الفتح العثماني لعمر السكندري.

(1/13)


حتى صار منهم التركي والجركسي واليوناني والصيني والروسي، واعتزت هذه الجماعات المملوكية الوافدة على مصر بما صار لأفرادها من أنواع القوة والنفوذ والسلطان والعنف.
وعاش المماليك عيشة النعيم متمتعين بخيرات البلاد, وكان كل أمير مملوكي عبارة عن سلطان من حيث إقامته في قصر وإحاطته بالأتباع واتخاذه موظفين له.
وكون المماليك طبقة منفصلة تمام الانفصال عن سائر سكان سلطنتهم، ولم يكن كثير منهم متقنا للغة العربية، وفضل بعضهم التكلم بالتركية.
ومع وجود الطبقات والانفصال غلبت مظاهر القناعة على أهل البلاد بسبب ما أفادوا من أجور ومكافآت مقابل ما قاموا به للمماليك أرباب السيف وللموظفين أرباب القلم من صناعة الأقمشة والملابس والأواني والأطعمة كما أكثر المماليك من إنشاء التكايا والسبل والحمامات الشعبية1.
الأحوال الاقتصادية:
الزراعة: اهتم السلاطين بالزراعة فشقوا الترع وحفروا القنوات وقووا الجسور وأقاموا القناطر والسدود, غير أن اهتمامهم بالزراعة اقتصر في جملته على استغلال الأرض دون مصلحة الفلاح.
الصناعة: وتقدمت الصناعة في هذا العصر، ويصف المقريزي أحد الأسواق المصرية زمن المماليك بأنه "معمور الجانب من أوله إلى آخره بالحوانيت، ففي أوله كثير من البزازين الذي يبيعون ثياب الكتان من الخام".
التجارة: اتسعت التجارة في مصر إلى حد لم تبلغه قبلا، وكانت الإسكندرية مركزا لتجارة الأوربيين، كما كانت قوص مركزا لتجارة المصريين، واعتمدت حكومة المماليك على هذه التجارة وكسبت من ورائها أموالا طائلة، هي أحد أسرار عظمة الدولة المملوكية.
__________
1 عصر سلاطين المماليك، تاريخ مصر إلى الفتح العثماني، تاريخ مصر في عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل، تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان.

(1/14)


ثم اكتشف البرتغال طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند، وحلت لشبونة محل الإسكندرية، فانقطع ذلك المصدر الذي استمدت منه دولة المماليك معظم ثروتها.
العلوم والفنون: شهد العصر المملوكي ما لم يشهده عصر إسلامي سابق من حركة واسعة في البناء والتعمير، فامتلأت مصر بالمساجد والمدارس والمنشآت العسكرية والمدافن التي لا تزال معظم آثارها قائمة في القاهرة والإسكندرية، ومنها جامع الظاهر بيبرس وجامع الناصر محمد بالقلعة، ومدرسة السلطان حسن بالقاهرة، وقلعة قايتباي بالإسكندرية1.
الحركة العلمية:
انتقال النشاط العلمي إلى مصر والقاهرة:
تلفت المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يبحثون لأنفسهم عن ملجأ يلجئون إليه ومأوى يأوون فيه بعد النكبات المتلاحقة "في عهد التتار" وبعد سقوط أكبر دولتهم سقوطا نهائيا، وهي الدولة العباسية، فلم يجدوا أمامهم غير مصر وبلاد الشام، حيث أسس المماليك لهم وأقاموا لأنفسهم سلطانا، فقد عمل المماليك على رد طغيان التتار، وما وقف سلاطين المماليك وأمراؤهم المواقف تلك، إلا أنهم مسلمون معنيون بشئون دينهم مطالبون بدفع الأذى عنه.
فتوجهت أنظار المسلمين إلى مصر ولفتوا قلوبهم وأرواحهم إلى القاهرة باعتبارها عاصمة جديدة.
وبذلك كله اكتسبت مصر مكانا في الحياة جديدا، لذلك انتقل النشاط العلمي من العراق وبغداد إلى مصر وقاهرتها، ونشرت القاهرة زعامتها العلمية وقيادتها الأدبية على البلاد الإسلامية تقريبا زهاء هذه القرون الثلاثة التي عاشت فيها دولة المماليك2.
__________
1 عصر سلاطين المماليك، تاريخ مصر إلى الفتح العثماني، تاريخ مصر في عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل، تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان.
2 المراجع السابقة.

(1/15)


عوامل نشاط الحركة العلمية:
تنقسم العوامل إلى خارجية وداخلية ... ونعني بالعوامل الخارجية ما وقع منها في خارج مثل ولم يكن لمصر ولا لأهلها يد في تدبيرها.
والداخلية: نعني بها ما وقع منها داخل مصر، وكان لأهلها يد في تدبيرها.
العوامل الخارجية:
وإيجازها فيما يلي:
1- وقوع كثير من البلاد الإسلامية في يد المغول، فغطى سيل التتار من أواسط آسيا إلى الشام، فكان مسرحا للنزاع العنيف بين دول التتار والمماليك، فالتف المسلمون حول من يحافظون عليهم من سلاطين المماليك، وعملوا على تدعيم ملكهم، ومن أهم وسائل تدعيم الملك إحياء العلوم والمعارف.
2- قتل العلماء وإتلاف الكتب العلمية، وعلى أثر ذلك فر من فر من العلماء من وجه التتار، أو أنف الإقامة في ظلهم واستقر بهم المقام في كف سلاطين مصر.
3- وفود العلماء والأدباء إلى مصر والشام، ومن هؤلاء ابن مالك الأندلسي وابن خلدون وغيرهما.
4- زوال الخلافة العباسية, فاتجهت الأعين إلى مصر حيث كانت مركزا للخلافة1.
العوامل الداخلية:
1- غيرة السلاطين والأمراء: وقد تجلت هذه الغيرة منهم في كفاحهم للتتار ومحاربتهم للفرنجة. حتى ردوا هؤلاء وهؤلاء عن مصر والشام والبلاد المقدسة، وهذه النزعة من دأبها أن توقظ أمثالها في نفوس العلماء وتدفعهم إلى رفع راية التعليم والتأليف ومواصلة البحث والاطلاع.
__________
1 المراجع السابقة.

(1/16)


2- تعظيمهم لأهل العلم: فقد أقاموا للعلماء وزنا، ولا ريب أن هذا التعظيم له الأثر المباشر في نفوس العلماء على أن يظلوا حريصين على الشريعة، وأن يبثوا هذه الروح في نفوس طلابهم.
3- شعور العلماء بواجبهم وتنافسهم في أدائه: فكان لهذا التنافس الشديد الأثر المفيد في إحياء العلوم، وبخاصة في ميدان العلم والتأليف.
4- انصراف العناية إلى اللغة العربية: ولا شك أن مما عاون أهل العلم في تلك الآونة عناية السلاطين باللغة العربية التي اضطرتهم الظروف إليها اضطرارا، فأطلقوها تجري كما شاءت لها الأقدار في ضبط أمور الملك والسياسة والقضاء والعلوم، وذلك لعجز لغتهم التركية أو الجركسية عن أداء ما يتطلبه الملك الواسع من ضبط وأمن وربط، ونشر تعليمات وبعث مراسلات وكتابة.
5- إنشاء دور التعليم ونظامها: لا شك أن إنشاء دور التعليم يعتبر سببا أساسيا وحيويا لتنشيط الحركة العلمية، لما تضمنه من مدرسين وطلاب.
وسأذكر هنا على سبيل المثال بعض المدارس التي بنيت في عهد المماليك أو ظلت مزدهرة إلى العصر:
أ- المدرسة المعزية: عمرها السلطان عز الدين أيبك الجاشنكير أول ملوك البحرية، وذلك عام 654هـ.
ب- جامع القلعة: أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاوون عام 718هـ وجعل فيه درسا وقراء.
جـ- مدرسة السلطان حسن: أنشأها السلطان الناصر حسن بن قلاوون، ابتداء من عام 757هـ, واستمر العمل فيها ثلاث سنوات.
د- المدرسة المؤيدية: هي الجامع المعروف بجوار باب زويلة أسسها المؤيد شيخ المحمودي وانتهت عمارتها عام 819هـ. وغير ذلك من المدارس والخوانق والزوايا.

(1/17)


6- رصد الأوقاف على هذه المدارس والإحسان إلى أهلها، حيث إنه لا يمكن لمنشأة من المنشآت العامة أن تبقى دون أن توجه إليها عناية ورعاية.
ولا ريب في أن وجود دور الكتب العامة أو الخاصة له الأثر المحمود في النهوض العلمي ونشاط حركة التأليف ... ونذكر فيما يلي بعض دور الكتب التي عرفت في العصر المملوكي نقلا عن المقريزي ج4 من خططه:
أ- خزانة كتب المدرسة الظاهرية البيبرسية: التي أنشأها الظاهر بيبرس عام 662هـ، وكانت تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم.
ب- خزانة الكتب بجامع الحاكم بأمر الله: وهي التي زوده بها الأمير بيبرس الجاشنكير عام 703هـ.
ج- خزانة الكتب بالمدرسة الناصرية: التي بدأها كتبغا وأكملها الناصر قلاوون عام 703هـ.
د- خزانة الكتب بجامع الحظيري ببولاق: التي زوده بها منشئه الأمير عز الدين إيدمر الحظيري عام 737هـ.
هـ- خزانة الكتب بجامع المؤيد: قال المقريزي عنه: "نزل السلطان -أي المؤيد- في 20 محرم عام 819هـ إلى هذه العمارة ... ".
وغير ذلك من خزانات الكتب.
7- العناية باختيار العلماء: وقد عني السلاطين والأمراء ومنشئو المدارس باختيار علمائها الذين يشرفون على أمورها، وأساتذتها الذين يتولون التدريس فيها وغير التدريس، فانتخبوهم من بين الأفذاذ ذوي الشهرة المعروفين بالعلم والفضل.
وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال جانبا من هؤلاء الذين حملوا أعباء النهوض العلمي، وحافظوا على التراث الديني واللغوي في هذه الحقبة القاسية من تاريخ مصر فأسدوا إليها يدا بيضاء:

(1/18)


أ- ممن تولى التدريس بالمدرسة الصلاحية في عصور مختلفة وولي أمرها، شمس الدين ابن اللبان شيخ المرادي، وبرهان الدين بن جماعة، وتقي الدين بن دقيق العيد وغيرهم.
ب- ممن تولى التدريس بالمدرسة الحزومية: المنشأة بعد عام 750هـ الشيخ بهاء الدين بن عقيل مدرسا للفقه.
جـ- ممن تولى التدريس بالمدرسة الناصرية: التي أنشأها العادل وأكملها الناصر بن قلاوون، القاضي زين الدين عليّ بن مخلوف المالكي لتدريس فقه المالكية1.
8- تشجيع المؤلفين: حيث إن العلماء قد وجدوا كل ضرب من ضروب التشجيع على المضي قدما في الناحية العلمية ففتحت لهم المدارس وأجريت لهم المرتبات، وأغدقت عليهم النعم الوفيرة إلى غير ذلك، وبذلك قد وجدوا ما يشجعهم على المضي في التأليف والتدوين والتصنيف.
9- تنافس العلماء: التنافس هنا ليس المراد منه تنافسهم في سبيل العلم وفي سبيل التأليف ومباراتهم بالمناظرات والمحاضرات وما إليها مما يكون ذا أثر كبير وبديع في الحركة العلمية، إنما التنافس هو في سبيل بلوغ المراكز العالية التي خصصت لهم في القضاء وفروعه، وفي مشيخة الإسلام وفي مشيخة المساجد والخوانق, سواء أكان الإغراء بالرواتب المادية أم المنزلة الأدبية التي يصلون إليها بمصاحبة السلطان.
وتنافس العلماء من هذه الناحية كان من وسائل تشجيع الحركة العلمية2.
__________
1 عصر سلاطين المماليك للأستاذ محمود رزق, والخطط للمقريزي.
2 عصر سلاطين المماليك للأستاذ محمود رزق، تاريخ مصر في عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل.

(1/19)


نتائج نشاط الحركة العلمية:
تنحصر هذه النتائج في ثلاثة أمور:
أولا: وفود الطلاب إلى دور التعليم
لا شك أن افتتاح المدارس وتعيين العلماء فيها للتدريس والعناية باختيارهم وإجراء الرواتب على الطلاب من شأنه أن يجذب إليها قلوب الطلاب ... ووفد الطلاب إلى دور التعليم من مصر وغيرها إذ أصبحت مصر أهم كعبة علمية إسلامية يحج إليها محبو العلم وطلابه.
ثانيا: كثرة العلماء والأدباء
إذ زخر العصر بالعدد الوافر من علماء المذاهب الأربعة والأصوليين والنحويين واللغويين والأدباء والمؤرخين وغيرهم.
وقد نشط كثير من هؤلاء العلماء إلى التأليف والفتوى والتدريس والوعظ، وشغلوا مناصب القضاء والكتابة، وشغفوا بالمحاورات والمناظرات.
وعن المناظرات. قال صاحب الدرر الكامنة 3/ 803 في ترجمة تاج الدين محمد المراكشي المولود في القاهرة: "إنه تناظر هو والفخري فكان من حضر لا يفهم ما يقولانه لسرعة عبارتهما".
ثالثا: نشاط الحركة التأليفية
هذه الحركة من أهم نتائج النشاط العلمي إذ هي الثمرة الخالدة والأثر الباقي وكانت مصر مفخرة بسببها.
وأتناول هنا بالكلام بعض العلوم المختلفة على سبيل المثال مركزا على العلوم اللغوية "النحو والصرف" حيث إني بصدده، وسأجمل القول فيما عداها، ولم نعن في هذا المقام إلا بالمؤلفين الذين اتصلوا بمصر والشام في ذلك العصر اتصالا ما، مثل الاستيطان أو الزيارة أو الوظيفة.

(1/20)


المؤلفات:
لا نبالغ إذا قلنا: إن مؤلفات علماء مصر في خلال عصر المماليك -وهو أقل من ثلاثمائة عام- تبلغ عدة آلاف، وحسبنا دليلا على ما نقول أن بعضهم عرف عنه أنه وحده ألف مئات من الكتب والرسائل كالسيوطي، فقد قيل: إن مؤلفاته أربت على ستمائة، وكابن تيمية الحراني، فقد قيل: إن مؤلفاته أربت على خمسمائة، وغير ذلك.
وبلا ريب كانت هذه المؤلفات تملأ دور الكتب المصرية في العصر المذكور بجوار دور التعليم, فلما جاء الفتح العثماني عام 923هـ وأزالوا حكم سلاطين المماليك نهبوا ذخائر البلاد ونفائسها وفي مقدمتها تلك المؤلفات. وحملوا ما حملوا إلى عاصمة بلادهم وجملوا بها دور كتبهم، ولم يبق في مصر إلا صبابة من تلك الكأس المليئة مبعثرة هنا وهناك، وكانت هذه الصبابة هي النواة لإنشاء دار الكتب المصرية بالقاهرة في عهد الخديو إسماعيل.
وبعد، فلنعد إلى هذه المؤلفات المصرية وعصر تأليفها وهو العصر المملوكي، وسأذكر أمثلة مقتصرة حيث المقام لا يتسع، ومن المؤلفات التاريخية:
1- وفيات الأعيان لابن خلكان المتوفى عام 681هـ وبه أكثر من ثمانمائة ترجمة.
2- الطالع السعيد الجامع لأسماء نجباء الصعيد, تأليف كمال الدين جعفر بن ثعلب الأدفوي المتوفى عام 748هـ وهو معجم حافل به أكثر من 590 ترجمة لأعلام الصعيد من معاصري المؤلف.
3- تاريخ النحاة, مؤلفه تاج الدين أبو محمد أحمد بن عبد القادر محمد بن مكتوم المتوفى عام 749هـ.
4- الوافي بالوفيات، وهو لصلاح الدين الصفدي المتوفى عام 764هـ وهو في نحو خمسين مجلدا.
5- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني، وهو أربعة أجزاء تحتوي على أكثر من ألف ترجمة لأعلام هذه المائة مرتبة حسب الحروف، وغير ذلك.

(1/21)


تاريخ الخطط والآثار:
وهي المؤلفات التي تحدثت عن البلاد والمدن والمواضع، ومن مؤلفات:
1- الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة: مؤلفها محيي الدين عبد الظاهر المتوفى عام 692هـ.
2- نهاية الأرب في معرفة كلام العرب: مؤلفه شهاب الدين القلقشندي المتوفى عام 821هـ.
3- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: مؤلفه تقي الدين المقريزي المتوفى عام 845هـ وهو أربعة أجزاء.
المؤلفات الدينية:
قد سرت النزعة الدينية والروح الإسلامية في أرجاء البلاد واعتنى العلماء بالتأليف، ومن ذلك على سبيل المثال:
1- الروضة: مؤلفه محيي الدين النووي المتوفى عام 676هـ.
2- الشامل: مؤلفه بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز المتوفى عام 805هـ.
3- الفتاوى المصرية, لتقي الدين بن تيمية الحراني المتوفى عام 728هـ، وهو سبعة مجلدات وغير ذلك من الكتب الكثيرة.
تفسير القرآن الكريم:
1- تفسير القرآن الكريم: مؤلفه عبد العزيز أحمد بن سعد الديريني المتوفى عام 697هـ.
2- إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب, لأثير الدين بن حيان شيخ المرادي, المتوفى عام 745هـ. وغير ذلك من الكتب.
القراءات:
1- شرح الشاطبية: مؤلفه الحسن بن أم قاسم المرادي المتوفى عام 749هـ.
2- المقدمة الجزرية: وهي منظومة في علم التجويد من وضع شمس الدين الجزري المتوفى عام 833هـ. وغير ذلك1.
__________
1 راجع عصر سلاطين المماليك للأستاذ محمود

(1/22)


مؤلفات عربية:
بنفس الروح التي أثارت الجد في نفوس علماء الدين، ثار الجد في نفوس علماء العربية بجميع فنونها، ونبغ فيها علماء أجلاء منهم من يعتبر إماما في فنه وقدوة في مادته، والعربية كانت ولا تزال وستبقى، أهم الأدوات لفهم الدين وتوضيح مسائله، بينهما من الوشائج ما لا تستطيع الأيام فصله, ومن ثم لم تكن لعلماء اللغة تلك المنازل المرموقة التي سما إليها علماء الدين، لذلك لم يكن غريبا أن يحرص العلماء على أن ينبغوا أولا في علوم الشريعة، ثم يفيئوا إلى اللغة وفنونها فيتعهدوها بالعناية.
على أن هناك بعضا من العلماء غلب عليه الاشتغال باللغة وفنونها، لرغبة فيها وولوع فأجاد وأفاد، وسجل لنفسه بما ألفه ودونه من مسائلها سجلا خالدا.
كتب النحو والصرف:
ولعل النحو والصرف في مقدمة فنون العربية التي حظيت من العناية بنصيب أوفر، فقد وضعت فيهما أسفار قيمة، وعرف بهما رجال أفذاذ.
ونحن لا ننكر أن نحويي هذا العصر، لم يأتوا بجديد ممتع ولا بمبتكر رائع، وقصارى جهودهم بذلت في توضيح مسائل النحو وتوجيه قواعده، والاستدلال لها مع عرض الآراء المتناقضة أحيانا، والموازنة بينها وترجيح أحدها أحيانا أخرى.
ونحا بعضهم إلى وضع المتون ثم إلى شرحها ثم إلى شرح هذا الشرح أو اختصاره، وذلك على نمط مما كان يفعل علماء الدين بكتب الفقه، وزادت التحشية على المؤلفات، والاستدراك عليها ونحوه، حتى نتج من ذلك كله نتاج وفير في هاتين المادتين: النحو والصرف.
غير أننا لا نرى مناصا من التنويه بأن بعضهم كانت له في بحوثه شخصية وقوة تشعرنا بأنه كان حسن الذوق لمادته عميق الفهم، كامل الإلمام، دقيق الملاحظة والموازنة، جديد التوجيه والتعليل.

(1/23)


وأفضل الأمثلة لذلك: ابن هشام المصري. ذلك العلامة الذي قال فيه ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه".
ونشير في هذا المقام إلى جالية علماء الأندلس بالمشرق وعلى رأسها جمال الدين بن مالك الأندلسي الذي وفد إلى بلاد الشام في عهد الملك الظاهر بيبرس، وتتلمذ له كثيرون من أبنائها، وانتشرت بينهم كتبه ومنظوماته، كالألفية والتسهيل وكلاهما في مقدمة الكتب التي اتخذت محورا للتأليف.
وكذلك أبو حيان الأندلسي, فقد وفد على مصر وتتلمذ لبعض رجالها وتتلمذ له بعض رجالها كابن أم قاسم المرادي، وأفادوا منه كما أفاد منهم.
وإليك بعضا من المؤلفات والرسائل في هذين الفنين على سبيل المثلا:
1- الألفية والتسهيل والكافية الشافية وهي أرجوزة في أكثر من 2750 بيتا لخص منها ألفيته وسبك المنظوم وفك المختوم، ولامية الأفعال لابن مالك المتوفى عم 672م.
2- شرح التسهيل، وشرح الألفية، والجنى الداني في حروف المعاني، ورسالة في الجمل التي لا تكون لها محل من الإعراب، وشرح باب وقف حمزة وهشام على الهمزة من الشاطبية، وشرح المقصد الجليل في شرح علم الخليل، والمفيد وهو شرح عمدة المفيد وعدة المجيد في التجويد، وشرح الاستعاذة والبسملة، لبدر الدين وهو ابن أم قاسم حسن بن قاسم المرادي المتوفى عام 749هـ.
3- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وقطر الندى وبل الصدى، وشذور الذهب، وأوضح المسالك والجامع الصغير، والروضة الأدبية، وموقد الأذهان، والإعراب عن قواعد الإعراب، لابن هشام المصري المتوفى عام 761هـ.
4- المساعد في شرح التسهيل، وشرح الألفية، لبهاء الدين بن عقيل المتوفى عام 769هـ.

(1/24)


5- شرح الألفية ولم يكمله، وشرح التسهيل، لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي المتوفى عام 777هـ.
6- شرح الألفية, لشمس الدين بن الصائع محمد بن عبد الرحمن بن عليّ الزمردي المتوفى عام 777هـ.
7- شرح الألفية وشرح التسهيل، لناظر الجيش محب الدين محب محمد بن يوسف بن أحمد بن عبد الدائم الحلبي المتوفى عام 778هـ.
8- شرح ألفية ابن مالك، لأكمل الدين البابرتي المتوفى عام 786هـ.
9- حاشية على مغني اللبيب، لبدر الدين الدماميني المتوفى بالهند عام 827هـ.
10- الألغاز النحوية، والتصريح بمضمون التوضيح، وشرح الآجرومية، وإعراب الألفية، لخالد الأزهري الجرجاوي المتوفى عام 905هـ.
11- البهجة المرضية في شرح الألفية، الأشباه والنظائر في النحو، والفريدة في النحو والصرف والخط والنكت على الألفية والاقتراح في أصول النحو، وهمع الهوامع، وشرح شواهد المغني ... لجلال الدين السيوطي المتوفى عام 911هـ1.
علم العروض:
فعلى سبيل المثال:
1- كتاب في العروض لابن مالك النحوي الأندلسي المتوفى عام 672هـ.
2- شرح المقصد الجليل في شرح علم الخليل، لابن أم قاسم المرادي المتوفى عام 749هـ.
3- كتاب القوافي، وجواهر البحور في العروض، لبدر الدين الدماميني المتوفى عام 728هـ2.
__________
1 عصر سلاطين المماليك للأستاذ محمود رزق.
2 نفس المرجع.

(1/25)


علوم البلاغة:
أما علوم البلاغة فالمعروف أنها نضجت قبل هذا العصر نضوجا محمودا، فقد هذب عبد القاهر الجرجاني المتوفى عام 471هـ مسائلها ووجه أنواعها ورتب قواعدها في كتابيه: أسرار البلاغة في قالبها الأخير في كتابه مفتاح العلوم، وجاء العصر المملوكي فاشتغل علماؤه بالشرح والتفصيل أو الاختصار وعلى رأسهم جلال الدين القزويني وهو محمد بن عبد الرحمن المتوفى عام 739هـ فوضع تلخيص المفتاح من كتاب السكاكي، وسأذكر بعض المؤلفات على سبيل المثال:
1- المسترجل في الكنى، والمقتنى في سرد الكنى، لشمس الدين الذهبي المتوفى عام 748هـ.
2- مختصر أساس البلاغة للزمخشري، لشهاب الدين بن حجر العسقلاني المتوفى عام 852هـ.
3- الإفصاح، وهو نكت على التلخيص في البلاغة، وعقود الجمان في المعاني والبيان، وشرح أبيات تلخيص المفتاح، لجلال الدين السيوطي المتوفى عام 911هـ1.
الكتب الجامعة:
1- لسان العرب. المعجم اللغوي المشهور، لابن منظور الأفريقي المتوفى عام 711هـ.
2- طبقات الشافعية: وهو في تراجم أعلام الشافعية: لتاج الدين السبكي المتوفى عام 771هـ.
3- تاريخ ابن إياس، وهو المعروف ببدائع الزهور في وقائع الدهور, لابن إياس المتوفى عام 930هـ2.
__________
1 عصر سلاطين المماليك للأستاذ محمود رزق.
2 نفس المرجع.

(1/26)


الفصل الثاني:
مصر:
وبعد الخلاصة الموجزة عن العصر المملوكي تناولت فيها نظم حكمه وأحواله الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية، حيث العصر الذي عاش في كنفه ابن أم قاسم المرادي وتأثر به في كل أحواله ... لا يفوتنا، أنه عاش في مصر وقاهرتها واستظل بسمائها، وافترش أرضها وشرب من ماء نيلها، لذلك سأسرد نبذة موجزة عن مصر وجوها وأحوالها فنقول:
مصر بنت النيل، الطيبة تربتها، الصافية سماؤها، المعتدل جوها، الرضية حياتها، السمح أهلها، الرحب جنابها، مرت بها العصور تتوالى دونها، صاحبت الشمس منذ مطلعها، ورافقت الزمن منذ نشأته، وعبرت بها الأحداث حيرى دونها، مع كثرة غيرها وصروفها، ولكن مصر كانت هادئة بإيمانها مطمئنة بيقينها، لذلك لم تكن تألو أن تخلع على هذه الأحداث والغير والصروف أثوابا من الهزء، وأردية من السخرية أن آمنت أن العاقبة لها، وأن الخلود في جانبها، وأن البقاء من نصيبها، أما ما دونها من عوادي الزمن ومحن الأيام، فإنها أمامها أشبه ببساط منشور يستعين به الهراجون والمتبذلون فيفكهون الناس حينا ببعض قصصهم، فإذا ما انقضت آونتهم وانتهت فترتهم، طووا بساط اللهو، فينشر غيرهم بساطا آخر جديدا، وهكذا دواليك، بين هذه الأمواج الصاخبة في بحر الزمان، وبين هذه العواصف المتلاحقة في جو الليالي، شهدت مصر ألوانا شتى من قصص الحياة ومثلها، آنًا تسمو إلى ما هي له أهل من السمو فتقبض بيدها على صولجانها، فيأتمر الناس بأمرها، وينتهون بنهيها، وآنًا تهددها الأحداث، وتتعاورها الخطوب، فتنثني باسمة أمام العاصفة، فتهزم شدتها بما وهب لها من لين، وتقهر قسوتها بما منحته من لطف، وهي هي مصر الباقية الوادعة.
وإذا كانت مصر هكذا كالطود الشامخ، فهي جديرة بأن تخرج أفذاذا وأشبالا في اللغة وغيرها مثل ابن أم قاسم المرادي وغيره، فهؤلاء استمدوا قوتهم من قوتها وتأثروا بجوها وحوادثها ومناخها.

(1/29)


فكان أدعى أن يحفزهم إلى العمل الجاد من أجل إعلاء اللغة العربية الغنية بألفاظها وأساليبها ومعانيها.
النحو والنحاة في عصر المماليك:
إن مصر والشام في هذه الآونة كانتا مستقلتين تخفق عليهما راية واحدة حملها المماليك الذين ولوا أمرهما بعد الأيبوبيين سنة 648هـ واتخذوا القاهرة قاعدة ملكهم.
وكان المماليك لشعورهم بنقص أحسابهم، ولأنهم دخلاء يحاولون استكمال مهابتهم بغرس ما يثمر النفع للبلاد، ثم كان حادث بغداد موجبا إليهم جسامة العبء الملقى على كاهلهم، فناصروا اللغة العربية؛ لأنها لغة الدين والشعب، ولم تحل جنسيتهم التركية والجركسية دون اعتمادها لسان الدولة الرسمي، وتحبيب علمائها لنشرها ورفع لوائها، ليستعيدوا مجد العراق في بلادهم. ثم تمكن المماليك من القبض على زمام المقاليد في مصر والشام، والعراق حينئذ في الاحتضار والأندلس في سبيل الزوال، وأن علماؤهما لم يلفوا أمامهم موطنا يعيشون فيه ويجدون مبتغاهم من الهدوء ونشر العلوم, وأن العلماء قد رأوا إقفار البلاد من الكتب العربية. يقول السيوطي وهو من علماء هذا العهد: "وقد ذهب جل الكتب في الفتن الكائنة من التتار وغيرهم بحيث إن الكتب الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدمين والمتأخرين لا تجيء حمل جمل واحد".
وربما كان في هذا الكلام شيء من الغلو إلا أنه -أيا ما كان- دليل على إحساسهم بالنقص والخسارة، وواجب الدين في أعناقهم يقضي عليهم بإحياء ما درس من علوم لغة الدين، وبينهم بعض المشارقة الذين فروا من وجه المغول، والجم الغفير من المغاربة والأندلسيين الذين وردوا القطرين من عهد بعيد، فهبت حركة طيبة في علومها، وفي مقدمتها النحو.
ومن الإنصاف أن نقول: إن عماد هذه الحركة التي كان فيها إمساك للحوباء إنما هي جالية الأندلس والمغرب، فألفية ابن مالك الأندلسي التي كثرت الشروح

(1/30)


عليها، وطاف المؤلفون في القطرين حولها، هي التي توزعت دراستها على مراحل التعليم باعتبار شروحها سهولة وصعوبة واختصارا واتساعا، وكذا الكافية الشافية.
ففي هذا العصر فاضت دراسة النحو في أغلب القطرين وبخاصة القاهرة ودمشق وحلب، وقد كانت الدراسة أول أمرها أشبه بعلاج المريض الذي لم يبق فيه إلا الذماء، ولكن الترغيب والتقدير قد أكسبها استعادة ما فقد من الازدهار، فظهر جهابذة حفظوا وجود هذا العلم بعد نكبتي المشرق والمغرب. ونشطت حركة التأليف لتزايد الإقبال عليها.
ومن مظاهر هذا النشاط أن توخى أغلب المؤلفين في مؤلفاتهم التدرج والتنويع فيها، لاختلاف قدر الطالبين من مبتدئ وشاد ومنته، فجمعوا فيها بين وجيز ووسيط وبسيط، حبا في تعميم النفع كما صنع ابن مالك وابن أم قاسم وابن هشام والسيوطي.
فالتأليف على عمومه في خلال هذا العهد قد طرأ عليه اتجاه جديد.
ففي هذا العهد طفق المؤلفون ينشئون المتون مع استيعابها لما في المطولات، ويعملون على إيجازها ما وسعت قدرتهم، ومن هنا مست الحاجة إلى الشروح وربما جللت بالحواشي، وأقرب الأمثلة لهذا شروح ألفية ابن مالك وكافية ابن الحاجب.. وبعض الحواشي.
وهذه المؤلفات التي كانت غزيرة المادة العلمية من الجهة النحوية لم يعبها إلا ما شابها من الشروح والحواشي من كثرة بيان اللهجات العربية لكثير من الكلمات مما يمت إلى فقد اللغة بسبب وثيق، ومن التعليل والتوجيه لتضارب الآراء النحوية مما لا يعود بطائل على النحو، ومن محاولتهم أخذ القاعدة النحوية من مادة الكتاب المعلق عليه وكثيرا ما يكون في العبارة قصور في الدلالة.
لكن هذه الهنات لم تذهب بمحاسن هذه المصنفات، وجلها لا يزال إلى يومنا عتاد طلاب النحو ومطمح أنظارهم، ويظهر أن الحامل لهم على الإكثار من المتون حبهم في سرعة تلافي ما ضاع من كتب النحو.
والمتون كفيلة بجمع ما كثر من القواعد في موجز الكلام، فلكي يسهلوا على الراغبين جمع شتات هذا الفن في قبضة اليد صنفوها كعلاج بدا لهم.

(1/31)


فلم يكن بعد هذا بد من شروح تكشف قناع هذه المخدرات المكنونة، وبالتالي قد تقتضي الشروح تفصيلا لما أجمل فيها فكانت بعض الحواشي.
فما أجدر عهد المماليك بتسميته عهد المتون والشروح، وقلما ترى حاشية لمؤلف منهم ... كل ذلك والأقطار الإسلامية الأخرى منصرفة عن هذا العلم وغيره، ترزح تحت نير الظلم من ملوك لا تحنو على اللغة وعلومها ولا تربطها بها أسباب.
فإن المطالع لصفحات تاريخ النحويين لهذا العهد لا تكاد تقع عيناه عليهم إلا متواطنين بالقطرين إما نازحين إليهما أو مولودين بهما.
فمما لا مرية فيه أنه لولا القطران في هذا الأمد لانقطعت الصلة بين النحو قديمه وحديثه ولكان له نظام آخر1.
المعاصرون للمرادي المعروف بابن أم قاسم:
لما كان المرادي المعروف بابن أم قاسم يعيش في عصر المماليك، الذي اشتهر بعهد المتون والشروح ... رأيت أن أذكر نبذة موجزة عن بعض هؤلاء النحاة الذين عاصروا ابن أم قاسم، سواء أكانوا من مواليد مصر أم من النازحين إليها، مراعيا في ذلك الترتيب الزمني في وفياتهم.
مع العلم أنني لم أعثر على ما يدل على أنه يجتمع بهؤلاء ويناظرهم، والرابط بينهم هو العصر، وأن بعضهم كان قد تلقى عن شيخه أبي حيان.
1- برهان الدين السفاقسي:
نسبه: هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم القبسي المالكي العلامة برهان الدين أبو إسحاق السفاقسي النحوي، صاحب إعراب القرآن.
مولده: قال ابن حجر في الدرر الكامنة: ولد في حدود سنة 677 سبع وسبعين وستمائة من الهجرة.
__________
1 نشأة النحو بتصرف "المزهر السيوطي".

(1/32)


من حياته: تنقل في أماكن مختلفة، وجلس في حلقة العلماء حتى تفقه في كل باب طرقه فسمع ببجاية من شيخها ناصر الدين، ثم قصد بيت الله الحرام فحج، وقدم القاهرة، وأخذ على الشيخ أبي حيان وملأ جعبته من علمه، ثم توجه إلى دمشق فسمع من المزي وزينب بنت الكمال وخلق كثير، وكان لتجويله في البلدان وتنقله فيها وسماعه العلم من أهلها وعلمائها أثر طيب في نفسه، إذ برع في العربية واشتهر وعلا قدره.
صفاته: كان فاضلا محبا للناس متوددا إليهم منفقا مما منحه الله من الخير، يرضى بكل تعب يلقاه من أجل العلم والمعرفة.
وفاته: مات في ثامن عشر ذي القعدة سنة 742هـ اثنتين وأربعين وسبعمائة من الهجرة.
2- ابن المرحل:
نسبه: هو عبد اللطيف بن عبد العزيز بن يوسف بن أبي العز عزيز بن نعمة بن ذوالة الحراني الأصل، الشافعي المعروف بابن المرحل العلامة شهاب الدين النحوي يكنى أبا الفرج بن عز الدين.
من حياته: سمع من ابن الحبوبي وعليّ البكري وشهاب المحسني وغيرهم، وقرأ بنفسه وخرج له تقي الدين بن رافع جزءا من حديثه، وتصدر الجامع الحاكمي، وانتفع به الناس، وقال الأسنوي في الطبقات: كان أبوه يبيع الرحال للجمال، فذلك سمي بابن المرحل وكان فاضلا في النحو واللغة والمعاني والبيان والقراءات، وكان تاجرا في الكتب، اعتنى بالعربية وخصوصا ألفية ابن مالك، فكان فيها ماهرا، وقرأها فأخذها جماعة بحلب والقاهرة منه، وكان شديد التثبيت في النقل.
وقد أخذ عنه الشيخ جمال الدين بن هاشم، وهو الذي نوه به وعرف بقدره، وكان يطريه ويفضله على أبي حيان وغيره، ويقول: كان الاسم في زمانه لأبي حيان والانتفاع بابن المرحل، وأخذ عنه الشيخ شمس الدين بن الصائغ، ورثاه لما مات بقصيدة على قافية الباء الموحدة أولها:
سما الفضلاء وانقض بعد شهاب ... فقل في مصيب عز فيه مصاب

(1/33)


وذكر الشيخ شمس الدين بن الصائغ، أن الشيخ عبد الله المنوفي الزاهد المشهور، بات عنده ليلة دفنه، وقرأ عليه ختمة.
وفاته: مات ابن المرحل بالقاهرة في المحرم سنة 744 أربع وأربعين وسبعمائة من الهجرة، وقد جاوز الأربعين1.
3- ابن التركماني:
نسبه: هو أحمد بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى بن سليمان المارديني الأصل المعروف بابن التركماني الحنفي القاضي تاج الدين.
مولده: قال ابن حجر في الدرر الكامنة, ولد بالقاهرة ليلة السبت الخامس والعشرين من ذي الحجة 681 إحدى وثمانين وستمائة من الهجرة.
من حياته: تقلب بين يدي العلماء، وجلس في حلقاتهم، وولي مناصب هامة في الدولة واشتغل بأنواع العلم ودرس وأفتى وناب في الحكم، وصنف في الفقه والأصلين والحديث والعربية والعروض والمنطق والهيئة، وسمع من الشيخ الدمياطي وابن الصواف والحجار، وحدث وسمع منه الكثير وجلس في حلقات درسه.
مصنفاته:
1- تعليقه على المحصل للإمام فخر الدين الرازي.
2- وشرح المنتخب للباجي.
3- وثلاثة تعاليق على الخلاصة في الفقه.
4- وشرح الجامع الكبير في الفقه.
5- وشرح الهداية.
6- ومصنفات في الفرائض.
7- وتعليقه على مقدمة ابن الحاجب في النحو.
8- وشرح المقرب لابن عصفور.
9- وشرح عروض ابن الحاجب.
10- وكتاب أحكام الرمي والسبق والمحلل.
11- وكتاب الأبحاث الجلية على مسألة ابن تيمية.
12- وشرح الشمسية في المنطق.
13- وشرح التبصرة في الهيئة للخرفي. ذكر ذلك المقريزي في المقفى في ترجمته.
وفاته: مات ابن التركماني في أوائل جمادى الأولى سنة 744 أربع وأربعين وسبعمائة من الهجرة2.
__________
1 الدرر الكامنة ج3 ص2, طبقات الشافعية ج5 ص238.
2 بغية الوعاة للسيوطي ص145, الدرر ج1 ص21.

(1/34)


4- قوام الدين الكرماني:
نسبه: هو مسعود بن محمد بن محمد بن سهل قوام الدين أبو محمد بن برهان الدين بن شرف الدين الكرماني الحنفي الصوفي.
مولده: قال ابن حجر في الدرر الكامنة: ولد سنة 664 أربع وستين وستمائة من الهجرة.
من حياته: تقلب وتنقل في البلدان طلبا للرزق وعونا على العيش، وجلس في حلقات علماء هذه البلاد واستفاد منهم وأفاد الناس، وشغلهم بعلمه وعربيته.
قال في الدرر الكامنة: واشتغل في تلك البلاد ومهر في الفقه والأصول والعربية، وكان نظارا بحاثا، وقدم دمشق فظهرت فضائله، ثم قدم القاهرة وشغل الناس بالعلم.
وكان باهرا في الأصول والفقه والعربية والنظم، فصيح العبارة، وأخذ عنه البرزالي وابن رافع.
وفاته: مات في منتصف شوال سنة 748 ثمان وأربعين وسبعمائة من الهجرة1.
5- أحمد بن مكتوم النحوي:
نسبه: هو أحمد بن عبد القادر بن أحمد مكتوم بن أحمد بن محمد بن سليم بن محمد القيسي تاج الدين أبو محمد الحنفي النحوي.
مولده: قال في الدرر الكامنة: ولد في آخر ذي الحجة سنة 682 اثنتين وثمانين وستمائة.
من حياته: كان نحويا بارعا، أخذ النحو عن البهاء بن النحاس، ولازم أبا حيان دهرا طويلا، وأخذ عن السروجي وغيره، وتقدم في الفقه والنحو واللغة، ودرس وناب في الحكم، وكان سمع من الدمياطي اتفاقا قبل أن يطلب، ثم أقبل على سماع الحديث ونسخ الأجزاء فأكثر عن أصحاب النجيب وابن علاق.
__________
1 بغية الوعاة للسيوطي ص391, والدرر ج5 ص116.

(1/35)


وقال في ذلك:
وعاب سماعي للحديث بعيد ما ... كبرت أناس هم إلى العيب أقرب
وقالوا إمام في علوم كثيرة ... يروح ويغدو سامعا يتطلب
والرواية عنه عزيزة، وقد سمع منه ابن رافع وذكره في معجمه.
مصنفاته منها:
1- الجمع بين العباب والمحكم في اللغة.
2- وله كتاب الجمع المتناهْ في أخبار اللغويين والنحاهْ، عشرة مجلدات، وكأنه مات عنها مسودة فتفرقت عنه شذر مذر.
3- شرح الهدياة في الفقه.
4- شرح كافية ابن الحاجب.
5- شرح شافية ابن الحاجب.
6- شرح الفصيح.
7- الدر اللقيط من البحر المحيط، مجلدان قصره على مباحث أبي حيان مع ابن عطية والزمخشري.
8- التذكرة ثلاثة مجلدات، سماها بقيد الأوابد -بخطه في المحمودية- قال السيوطي: وقفت عليها بخطه من المحمودية أعادنا الله إلى الانتفاع منها كما كنا قريبا بمحمد وآله.
وفاته: توفي الشيخ تاج الدين في الطاعون العام في رمضان سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة من الهجرة1.
6- شمس الدين الأصبهاني:
نسبه: هو محمود بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عليّ شمس الدين أبو الثناء الأصبهاني.
مولده: قال السيوطي: ولد في شعبان 694 أربع وتسعين وستمائة.
من حياته: اشتغل ببلاده ومهر وتميز وتقدم في الفنون، وتجول في البلدان، واستمع من علمائها وجلس في حلقاتهم، ثم قدم دمشق فبهرت فضائله، وسمع كلامه التقى ابن تيمية فبالغ في تعظيمه، ولازم الجامع الأموي ليلا ونهارا مكبا على التلاوة، وشغل الطلبة ودرس بعد ابن الزملكاني بالرواحية، ثم قدم القاهرة
__________
1 بغية الوعاة للسيوطي, ص140, طبقات القراء ج1 ص70, الدرر الكامنة ج1 ص189.

(1/36)


واشتهر بين الناس وعلا قدره وسطع نجمه وبنى له قوصون الخانقاه بالقرافة ورتبه شيخا بها.
قال الأسنوي: كان بارعا في العقليات صحيح الاعتقاد.
صفاته: كان قوي الإيمان صالحا محبا لأهل الصلاح طارحا للتكليف، وكان يمتنع كثيرا من الأكل لئلا يحتاج إلى الشرب فيحتاج إلى دخول الخلاء فيضيع عليه الزمان.
تصانيفه منها:
1- صنف تفسيرا كبيرا.
2- شرح كافية ابن الحاجب.
3- شرح مختصر أصول ابن الحاجب.
4- شرح منهاج البيضاوي وطوالعه.
5- شرح بدائع ابن الساعاتي.
6- شرح الساوية في العروض، وغير ذلك.
وفاته: مات في ذي القعدة سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة بالطاعون العام1.
7- ابن الوردي المصري:
نسبه: هو عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس الإمام زين الدين بن الوردي المصري الحلبي الشافعي.
من حياته: كان إماما بارعا في النحو عالما فيه، تنقل بين يدي كثير من العلماء، وأخذ عنهم، فقرأ على الشرف البارزي وغيره، وبرع في الفقه والنحو والأدب مفننا في العلم، ونظمه في الذروة العليا والطبقة القصوى, وكان قد نشأ بحلب وتفقه بها ففاق الأقران، وكان ينوب في الحكم في كثير من معاملات حلب وولي القضاء وكان فاضلا حتى اشتهر بفضائله بين الناس، والرواية عنده عزيزة، وقد تحدث عنه أبو اليسر بن الصايغ الدمشقي، قال السيوطي: روى لنا عنه أعنى عن أبي اليسر جماعة بالإجازة.
تصانيفه منها:
1- البهجة في نظم الحاوي الصغير.
2- شرح ألفية ابن مالك.
3- ضوء الدرة على ألفية ابن معطي.
4- اللباب في علم الإعراب
__________
1 بغية الوعاة للسيوطي ص388, طبقات الشافعية ج5 ص41, الدرر ج5 ص95.

(1/37)


قصيدة شرحها.
5- مختصر الملحة نظمها.
6- تذكرة الغريب في النحو نظمها وشرحها.
7- المسائل الملقبة في الفرائض.
8- منطق الطير في التصوف.
9- أرجوزة في تعبير المنام.
10- أرجوزة في خواص الأحجار والجواهر، وغير ذلك، وله مقامة في الطاعون العام, ومن نظم ابن الوردي:
لا تقصد القاضي إذا ما أدبرت ... دنياك واقصد من جواد كريم
كيف يرجى الرزق من عند من ... يفتي بأن الفلس مال عظيم
وفاته: قال السيوطي: واتفق أنه مات بآخرة في السابع والعشرين من ذي الحجة سنة 749 تسع وأربعين وسبعمائة1.
8- أبو عبد الله بن الصائغ:
نسبه: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن لب أبي عبد الله محب الدين بن الصائغ الأموي المري.
من حياته: قال في تاريخ غرناطة: قرأ النحو في القاهرة إلى أن ذاع صيته وعلا قدره وازدهر نجمه, وأصبح النحو قرينا له, حتى صار يقال له: أبو عبد الله النحوي، وتنقل بين يدي العلماء واستمع إليهم، وكان قرأ على أبي الحسن بن أبي العيش والخطيب بن الفنجاطي، ولازم أبا حيان وجلس في حلقات درسه واستفاد منه وانتفع بما معه، وتعلم الضرب بالعود فنبغ فيه, وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: كان ماهرا في العربية واللغة قيما بالعروض ينظم نظما وسيطا.
أخلاقه: كان سهلا دمث الأخلاق شغوفا بمحبة الناس وولائه لهم محبا للطلب دءوبا.
وفاته: مات أبو عبد الله بالطاعون العام سنة 749هـ تسع وأربعين وسبعمائة من الهجرة2.
__________
1 بغية الوعاة للسيوطي ص365, الدرر الكامنة ج3 ص272.
2 بغية الوعاة للسيوطي ص60, طبقات القراء ج2 ص185, والدرر ج4 ص105.

(1/38)


9- شهاب الدين السمين النحوي:
نسبه: هو أحمد بن يسوف بن عبد الدائم بن محمد الحلبي شهاب الدين المقرئ نزيل القاهرة المعروف بالسمين.
من حياته: كان عالما من علماء النحو, برز فيه وظهر، وأخذ مكانه في علم القراءات، وتولى تدريسه، وارتقى مناصب عالية، وجلس في حلقات الحديث بين يدي علمائه.
قال في الدرر الكامنة: تعانى النحو فمهر فيه، ولازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه، وأخذ القراءات عن التقي الصائغ ومهر فيها، وسمع الحديث من يونس الدبوسي، وولي تدريس القراءات بجامع ابن طولون والإعادة بالشافعي، ونظر الأوقاف، وناب في الحكم، وقال الأسنوي في طبقات الشافعية: كان فقيها بارعا في النحو والقراءات ويتكلم في الأصول أديبا.
مصنفاته منها:
1- له تفسير القرآن.
2- الإعراب ألفه في حياة شيخه أبي حيان، وناقشه فيه كثيرا.
3- وشرح التسهيل.
4- شرح الشاطبية وغير ذلك.
وفاته: مات السمين في جمادى الآخرة سنة 756هـ ست وخمسين وسبعمائة1.
10- ابن عقيل:
نسبه: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عقيل القرشي الهاشمي العقيلي الهمداني الأصل ثم البالسي المصري قاضي القضاة بهاء الدين بن عقيل الشافعي، نحوي الديار المصرية.
مولده: قال ابن حجر والصفدي والسيوطي: ولد يوم الجمعة تاسع المحرم سنة 698 ثمان وتسعين وستمائة، وفي شذرات الذهب: ولد سنة 694 أربع وتسعين وستمائة، وقال الشوكاني في البدر الطالع: ولد سنة سبعمائة.
__________
1 بغية الوعاة للسيوطي ص175, وطبقات القراء ج1 ص152, والدرر ج1 ص360.

(1/39)


من حياته: قدم إلى القاهرة وحرص على طلب علوم اللغة إلى أن مهر، ولازم أبا حيان، وقرأ عليه النحو وبرع فيه، وفي الشذرات: وقرأ النحو على أبي حيان ولازمه في ذلك اثنتي عشرة سنة حتى قال أبو حيان: ما تحت أديم السماء أنحى من ابن عقيل.
وأخذ القراءات عن التقي الصائغ، والفقه عن الزين الكتاني، ولازم العلاء القونوي في الفقه والأصول والخلاف والعربية والمعاني والتفسير والعروض وبه تخرج وانتفع.
ولازم جلال الدين القزويني، وسمع من الحجار ووزيره وحسن بن عمر الكردي، والشرف بن الصابوني والوافي وغيرهم، وسمع الحديث من ابن الصاعد وابن الشحنة وأبي الهدى أحمد بن محمد وغيرهم.
وقد برع حتى صار إماما في علوم العربية وممتازا في الفقه والأصول والقراءات، واشتهر اسمه وعلا ذكره, وناب في الحكم, فناب في القضاء بمصر والجيزة، وعن شيخه القزويني بالحسينية وعن العز بن جماعة بالقاهرة فسار سيرة حسنة ثم عزل لواقع وقع منه في حق القاضي موفق الدين الحنبلي في بحث فتعصب ضرغتمش له فولي القضاء الأكبر، وعزل ابن جماعة فلما أمسك ضرغتمش عزل وأعيد ابن جماعة فكانت ولايته ثمانين يوما، وكان قوي النفس يتيه على أرباب الدولة، وهم يخضعون له ويعظمونه ويحترمونه.
قال الأسنوي في طبقاته: ولما تولى جاء ابن جماعة فهنأه ثم راح هو إليه بعد ذلك وجلس بين يديه وقال: أنا نائبك.
وقال ابن رافع: كان قوي النفس تخضع له الدولة، ولا يتردد إلى أحد وعنده حشمة بالغة وتنطع زائد في الملبس والمأكل، وكان لا يبقي على شيء حتى مات وعليه دين، وقد ولي القضاء ثمانين يوما, وفرق على الطلبة والفقهاء في ولايته مع قصرها نحو ستين ألف درهم, يكون أكثر من ثلاثة آلاف دينار. درس بالقبطية والخشابية والجامع الناصري بالقلعة، والتفسير بالجامع الطولوني بعد شيخه أبي حيان، وختم به القرآن تفسيرا في مدة ثلاث وعشرين سنة، ثم شرع بعد ذلك من أول القرآن فمات في أثناء ذلك.

(1/40)


قال السيوطي: قرأ عليه شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني وتزوج بابنته فأولدها قاضي القضاة جلال الدين وأخاه بدر الدين, وروى عنه سبطه جلال الدين والجمال بن ظهيرة والشيخ ولي الدين العراقي.
صفاته: كان ابن عقيل غير محمود التصرفات في الشئون المالية، حاد الخلق، جوادا مهيبا لا يتردد إلى أحد ولا يخلو في مجلسه من المترددين إليه، كريما كثير العطاء لتلاميذه في لسانه لثغة.
مصنفاته: صنف وانتفع الناس بمصنفاته ولا يزالون ينتفعون حتى اليوم ومنها:
1- شرح ألفية ابن مالك: شرحها شرحا متوسطا حسنا، لكنه اختصر في النصف الثاني جدا, وقد ترجم مع الألفية إلى اللغة الألمانية.
2- شرح التسهيل: شرحه شرحا متوسطا سماه بالمساعد.
3- وشرع في تفسير مطول وصل فيه إلى أثناء النساء.
4- وله آخر لم يكمله سماه بالتعليق الوجيز على كتاب العزيز.
5- الإمام محمد بن إدريس.
6- جامع للخلاف والأوهام الواقعة للنووي, ثم لخصه في كراس واحد.
8- وله رسالة على قول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ...
من شعره:
قسما بما أوليت من فضلكم ... للبعد عن قوارع الأيام
ما غاض ماء وداده وثنائه ... بل ضاعفته سحائب الإنعام
وفاته: قال السيوطي والشوكاني: مات بالقاهرة ليلة الأربعاء ثالث وعشرين ربيع الأول سنة 769 تسع وستين وسبعمائة، ودفن بالقرب من الإمام الشافعي1.
11- ناظر الجيش:
نسبه: هو محمد بن يوسف بن أحمد بن عبد الدائم القاضي محب الدين ناظر الجيوش بالديار المصرية الحلبي الأصل, المصري المولد والدار.
__________
1 بغية الوعاة للسيوطي ص284, والبدر الطالع للشوكاني ج1 ص386 وعصر سلاطين المماليك لمحمود رزق ج4 ص136، وشذرات الذهب ج6 ص214، وكتاب الأعلام للزركلي ج2 ص564.

(1/41)


مولده: قال السيوطي وابن حجر: ولد سنة 697هـ سبع وتسعين وستمائة من الهجرة.
من حياته: اشتغل ببلاده وتنقل على أيدي علمائها وجلس في حلقات دروسهم، ثم قدم القاهرة, ولازم أبا حيان, والجلال القزويني والتاج التبريزي وغيرهم, ومهر في العربية ونبغ فيها وبرع، وحفظ المنهاج والألفية وبعض التسهيل وتلا بالسبع على التقى الصائغ. وسمع الحديث من الحجار ووزيره وجماعة وحدث وأفاد, وكان له في الحساب يد طولى ثم ولي نظر الجيش ونظر البيوت والديوان، وكان مجيدا للقراءة.
قال ابن الجزري في طبقات القراء: قرأ على الصائغ، وعمر زمانا ولم أعلمه أقرأ القراءات بل كان في وظيفته متصديا لقضاء أشغال المسلمين ونفع الخلق وبرهم، قرأ عليه البقرة جمعا الفخر عثمان بن عبد الرحمن الضرير، وقال: إنه سمع من لفظه جميع القرآن بقراءة أبي عمرو غير مرة.
صفاته: كان عالي الهمة نافذ الكلمة كثير البذل والجود والعطاء والرفد للطلبة والرفق بهم، وكان من العجائب، قال السيوطي: أنه مع فرط كرمه وبذله الآلاف في غاية البخل على الطعام حتى كان يقول: إذا رأيت شخصا يأكل طعامي أظن أنه يضربني بسكين.
وقال ابن حجر: إنه مع فرطه وكرمه في غاية البخل على الطعام.
وكان كثير الظرف والنوادر، وبلغت مرتباته في الشهر ثلاثة آلاف.
وكان من محاسن الدنيا مع الدين والصيانة.
مؤلفاته منها:
1- شرح التسهيل إلا قليلا, واعتنى بالأجوبة الجيدة عن اعتراضات أبي حيان.
2- شرح تلخيص المفتاح شرحا مفيدا.
وفاته: قال السيوطي: مات ثاني عشر ذي الحجة سنة 778هـ ثمان وسبعين وسبعمائة.
وقال ابن الجزري: وقد جاوز الثمانين ولم يخلف بعده مثله1.
__________
1 بغية الوعاة للسيوطي ص118، طبقات القراء لابن الجزري ج2 رقم 3550, شذرات الذهب ج6 ص259, حسن المحاضرة ج1 ص231.

(1/42)