توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك

الجزء الأول
مقدمة الألفية
...
الجزء الأول:
قال الشيخ الإمام العالم العلامة بدر الدين أبو عليّ حسن ابن الشيخ الصالح الزاهد قاسم بن عبد الله عليّ المرادي المالكي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته:
الحمد لله والشكر له، وصلاته وسلامه على محمد خير نبي أرسله، وبعد:
فهذا توضيح "مختصر"1 لمقاصد ألفية ابن مالك -رحمه الله تعالى- يجلو معانيها على طلابها ويظهر محاسنها "على حفاظها"2 سألنيه بعض حفاظها المعتنين باستنباط فوائدها من ألفاظها، فأجبته إلى ذلك رغبة في الثواب، وتقريبا على الطلاب، وبالله أستعين، وهو الموفق والمعين.
مقدمة الألفية:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال محمد هو ابن مالك ... أحمد ربي الله خير مالك
قال فعل "ماض"3 واوي العين مفتوحها متعد إلى واحد، وإذا وقعت بعده جملة محكية به فهي في موضع مفعوله والمحكي به في "الرجز"4 أحمد ربي ... إلخ.
وقوله "هو ابن مالك" جملة معترضة بين القول ومحكيه.
فإن قلت: هلا قال: يقول محمد كما "قال"5 ابن "معط"6 في ألفيته؛ لأن المحكي لم يمض "بعد"7.
قلت: "فالجواب عنده"8 ثلاثة أوجه:
__________
1 أ.
2 أ، ب، وفي نسخة ج "لخطابها".
3 نسخة أ.
4 أ، ونسخة ب "البيت".
5 أ, وفي نسخة ب، ج "فعل".
6 وبالأصل معطي.
7 أ.
8 أ، وفي نسخة ب "في الجواب عنده"، ج "فالجواب عنه".

(1/261)


الأول: يجوز أن يكون قد تأخر نظم "قال" عن المحكي فيكون على ظاهره.
والثاني: أن يكون أوقع الماضي موقع المستقبل "تحقيقا له وتنزيلا"1 منزلة الواقع.
والثالث: أن يكون وضع كلمة "قال" أول "نطقه"1 ليحكي بها عند "قضاء"3 الحاجة والفراغ من المحكي، ونظيره "ما أجازه"4 السيرافي5 في قول سيبويه رحمه الله: "هذا باب علم ما الكلم6 من العربية"7 أن يكون وضع كلمة الإشارة غير مشير بها إلى شيء ليشير بها عند الحاجة والفراغ من المشار إليه.
وحذفت ألف "مالك الأول"8 خطأ؛ لأنه علم مشتهر كثير الاستعمال، ويجوز إثبات ألفه أيضا. قال بعضهم: وإثباتها جيد، وأما مالك آخر البيت فلا تحذف ألفه؛ لأنه صفة9.
مصليا على النبي المصطفى ... وآله المستكملين الشرفا
مصليا حال من فاعل أحمد، والمصطفى المختار، الاصطفاء افتعال من الصفو وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدل من تائه طاء لمجاورة الصاد, وكان
__________
1 أ، ج, وفي ب "تحقيقا وتنزيلا له".
2 أ، ج، وفي ب "نظمه".
3 أ، ج.
4 أ، ج, وفي ب "ما أجاز".
5 هو: أبو سعيد الحسن بن عبد الله نشأ بسيراف "من بلاد فارس على الخليج الفارسي" وارتحل إلى عمان في سبيل العلم ثم عاد إلى سيراف ثم اتجه إلى معسكر مكرم ثم توطن بغدد وولي القضاء فيها.
تلقى عن ابن السراج ومبرمان وابن دريد وغيرهم، وألف الكتب القيمة، فشرح كتاب سيبويه بما لم يسبق إليه، وله كتاب أخبار النحويين البصريين، توفي ببغداد سنة 368هـ.
6- أ، ب، وفي ج "علم الكلم".
7 ج1 ص2 سيبويه.
8 أ، ج, وفي ب "مالك الأولى".
9 وفي الكشاف 1/ 9 قرئ: ملك يوم الدين. وفي القاموس المحيط 3/ 320: وككتف وأمير وصاحب ذو الملك ولعله يقصد الحذف وعدمه في الخط فقط لا في النطق, وقال الشيخ الصبان 1/ 8: "وبين مالك الأول ومالك الثاني الجناس التام اللفظي لا الخطي أن رسم الأول بغير ألف كما هو الأكثر في مالك العلم، فإن رسم بها كما هو أيضا جيد كان لفظها خطيا فإطلاق البعض كونه لفظها خطيا محمول على الحالة الثانية".

(1/262)


ثلاثيه لازما تقول صفا الشيء يصفو "صفاء"1 وجاء الافتعال "منه"2 متعديا. وفي معنى الآل3 وأصله خلاف مشهور ليس هذا موضع ذكره4.
واختلف في جواز إضافته إلى الضمير فمنعه الكسائي5 والنحاس6 وأجازه غيرهما7 وزعم أبو بكر الزبيدي8 أن إضافته "إلى"9
__________
1 أ، ب.
2 أ، ج, وفي ب "فيه".
3 في الأصل الأول.
4 قال الأشموني 1/ 5: "أصل آل أهل، قلبت الهاء همزة، كما قلبت الهمزة هاء في "هراق" الأصل "أراق" ثم قلبت الهمزة ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها كما في "آدم وآمن" هذا مذهب سيبويه.
وقال الكسائي: أصله "أول" كجمل من آل يئول، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا, وقد صغروه على "أهيل" وهو يشهد للأول وعلى "أويل" وهو يشهد للثاني, ولا يضاف إلا إلى ذي شرف بخلاف أهل، فلا يقال: "آل الإسكاف", ولا ينتقض بـ"آل فرعون" فإن له شرفا باعتبار الدنيا.
5 الكسائي: هو أبو الحسن الإمام عليّ بن حمزة بن عبد الله الكسائي إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة المشهورين, ولقب الكسائي لأنه أحرم في كساء وقيل: كان يصنع الأكسية، وهو من أهل الكوفة وقد استوطن بغداد وتعلم النحو على كبر، وأخذ عن معاذ الهراء، ولقي الخليل وجلس في حلقته، وجرت بينه وبين الفراء مجالس، وقيل للفراء: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو، فقال: لقد أتيته فناظرته فكأني كنت طائرا يغرف بمنقاره من البحر، وله مؤلفات كثيرة، توفي سنة 189هـ.
6 النحاس: هو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس، أبو جعفر النحوي المصري، رحل إلى بغداد وعاد إلى مصر, وكان لئيم النفس شديد التقتير على نفسه، وقلمه أحسن من لسانه، وصنف كتبا كثيرة منها: الكافي في العربية، المبتهج في اختلاف الكوفيين والبصريين وغير ذلك. وجلس على درج المقياس بالنيل يقطع شيئا من الشعر فسمعه جاهل، فقال: هذا يسحر النيل حتى لا يزيد, فدفعه برجله فغرق، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
7 أ، ب.
8 هو أبو بكر محمد بن الحسن، أصله من زبيد "قبيلة يمنية" ولد في إشبيلية وتأدب على أبيه ثم سمع من أبي عليّ القالي ومحمد بن يحيى الرياحي وغيرهما في قرطبة حتى غدا أوحد زمانه في النحو وحفظ اللغة، فاختاره المستنصر بالله لتأديب ولده, وله مؤلفات: الواضح في النحو، وأبنية الأسماء في الصرف, وطبقات النحويين واللغويين، توفي في قرطبة سنة 379هـ.
9 في الأصل "من" والسياق يقتضي "إلى" بدل "من".

(1/263)


"الضمير"1 من لحن العامة والصحيح أنه من كلام العرب2.
وأستعين الله في ألفيه ... مقاصد النحو بها محويه
للنحو في اللغة أربعة معان: الأول أن يكون مصدرا. تقول: نحوت كذا نحوا أي قصدته قصدا. والثاني أن يكون ظرفا. أنشد أبو الحسن:
يحدو بها كل فتى هبات ... وهن نحو البيت عامدات3
قال أبو الفتح4: وأصله المصدر.
__________
1 أ، ج، وفي ب "المضمر".
2 قال عبد المطلب: وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك, وفي الحديث: "اللهم صل على محمد وآله" راجع الأشموني 1/ 5.
3 البيت من الرجز المسدس وفي شرح الشواهد الكبرى "قائله راجز لم أقف على اسمه" ج1 ص124, وبحثت فلم أعثر له على قائل.
الشرح: "يحدو بها" أي الإبل. أي يزجرها للشيء. قال ابن فارس: الحدو بالإبل زجرها والغناء لها.
هبات على وزن فعال -بالتشديد- من هبت به إذا صاح ودعاه. وكذلك هوت به "نحو البيت" أراد به الكعبة المشرفة، "عامدات": أي: قاصدات من عمد إذا قصد.
الاستشهاد فيه: في قوله "نحو البيت" فإن لفظة "النحو" ههنا ظرف وهو يجيء لمعان كثيرة:
الأول: بمعنى الظرف وهو كثير، تقول: توجهت نحو الدار أي: جهتها.
والثاني: بمعنى القصد. تقول نحوت معروفه أي قصدته.
والثالث: بمعنى الطريق. تقول هذا نحو المدينة أي طريقا.
والرابع: بمعنى مثل. تقول هذا نحو ذلك أي مثله.
والخامس: بنو نحو "من الأزد" قوم من العرب ينسب إليهم النحوي.
والسادس: نحو الكلام وهو قصد القائل أصول العربية ليتكلم مثل ما تكلموا به.
والنحو في اصطلاح القوم معرفة كيفية كلام العرب وتصرفاتهم فيه وما يستحقه كل نوع من الإعراب. كرفع الفاعل ونصب المفعول وجر المضاف إليه، والنسب إليه أيضا نحوي، والفرق بينه وبين النسبة إلى بني نحو بالقرينة.
والسابع: النحو يجيء بمعنى الإمالة. يقال نحوت بصري إذا أملته وكذلك نحيته بمعنى أملته.
الثامن: يجيء بمعنى القسم، تقول هذا على أربعة أنحاء أي: أربعة أقسام.
4 هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي مولدا ونشأة, وأبوه جني مملوك رومي, وكان إماما في العربية ومن أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والصرف، قرأ الأدب على أبي عليّ الفارسي، وأخذ عنه ثم فارقه وقعد للإقراء بالموصل فاجتاز بها شيخه أبو عليّ فرآه في حلقته والناس حوله فقال له: تزببت وأنت حصرم.
وله مصنفات كثيرة منها:

(1/264)


والثالث: أن يكون بمعنى مثل، يقال: هذا نحو هذا أي مثله.
والرابع: أن يكون بمعنى القسم, يقال: هذا على أربعة أنحاء أي أقسام.
وإطلاق لفظ النحو على هذا العلم من إطلاق لفظ المصدر على المفعول به، فالنحو إذن بمعنى المنحو أي المقصود "كالنسج بمعنى المنسوج"1, وخص "به هذا"2 العلم وإن كان كل علم منحوا كاختصاص علم الأحكام الشرعية بالفقه وله نظائر في كلامهم.
سبب تسمية النحو:
وسبب تسمية هذا العلم نحوا، ما روي أن عليًّا رضي الله عنه3 لما أشار إلى أبي الأسود الدؤلي4 أن يضعه وعلمه الاسم والفعل والحرف وشيئا من الإعراب. قال: "انحُ"5 هذا النحو يا أبا الأسود. وقد حد النحو بحدود كثيرة، ومن أقربها قول بعضهم: النحو: علم يعرف به أحكام الكلم العربية إفرادا وتركيبا، ومن أشهرها قول صاحب المقرب6: النحو علم مستخرج بالمقاييس
__________
1- كتاب الخصائص وقد طبعته دار الكتب.
2- اللمع.
3- شرح ديوان المتنبي. وغير ذلك.
توفي أبو الفتح سنة 392هـ ودفن ببغداد.
1 أ، ب, وفي ج "كالنسخ بمعنى المنسوخ".
2 أ، ب, وفي ج "وخص بهذا".
3 هو عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه, ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 أبو الأسود: هو ظالم بن عمرو من الدئل "بطن من كنانة" كان من سادات التابعين, ورد البصرة من عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أن تولى بعض العمل فيها لابن عباس عامل عليّ كرم الله وجهه أيام خلافته, وهو واضع النحو على الصحيح بتعليم عليّ كرم الله وجهه، وأول من دون فيه، كما أنه أول من ضبط المصحف بالشكل. أخذ عنه نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وغيرهما. توفي بالبصرة في الطاعون الجارف سنة 69هـ.
5 في الأصل "انحو" وهو خطأ.
6 هو كتاب في النحو لابن عصفور, أوله: الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من اسمه كلام. مخطوط بقلم قديم وبه خرم من الأول, مودع بدار الكتب المصرية تحت رقم 459.

(1/265)


المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه "التي"1 ائتلف منها، وقد "بسطنا"2 الكلام على ذلك "في غير الكتاب"3.
تقرب الأقصى بلفظ موجز ... وتبسط البذل بوعد منجز
قال الشارح: يقول هذه الألفية مع أنها حاوية للمقصود الأعظم من النحو فيها من المزية على نظائرها، أنها تقرب إلى الأفهام المعاني البعيدة بسبب وجازة اللفظ وتنقيح العبارة "وبسط البذل" أي: توسع العطاء بما تمنحه لقرائها من الفوائد، واعدة بحصول مآربهم وناجزة "بوفائها"4. ا. هـ5.
وتقتضي رضا بغير سخط ... فائقة ألفية ابن معطي6
هو الإمام أبو زكريا يحيى بن معطي بن عبد النور الزواوي الحنفي الملقب زين الدين، سكن دمشق طويلا واشتغل عليه خلق كثير، ثم سافر إلى مصر وتصدر بالجامع العتيق بها لإقراء الأدب إلى أن توفي بالقاهرة في سلخ القعدة سنة 628 ثمان وعشرين وستمائة, ودفن من الغد على شفير الخندق بقرب تربة الإمام الشافعي رضي الله عنه، ومولده سنة 564 أربع وستين وخمسمائة7.
__________
1 أ، ب وفي ج "الذي".
2 أ، ج وفي ب "بسطت".
3 ج وفي أ، ب "في غير الكتاب" راجع الأشموني 1/ 5.
4 أ، ج، وفي ب "لوفائها".
5 ص 3 الشارح.
6 فائقة ألفية ابن معط: من حيث:
أ- أن صاحبها لم يتمكن من حصرها في بحر واحد، كابن مالك في ألفيته من بحر الرجز بل جعلها في بحري الرجز والسريع.
ب- أكثر ابن معط من الإطناب بخلاف ابن مالك فإنه يقتصر على الأهم.
ج- ابن معط وزع بعض المعلومات في أبواب مختلفة كأفعل التفضيل لم يجمعه في باب واحد.
د- جعل ابن معط ألفيته في واحد وثلاثين عنوانا فكان يضم العناوين المتقاربة وابن مالك جعلها في ثمانين عنوانا، لتنشيط النفس، ويتميز كل قسم عن غيره، وإن كان ابن معط زاد بعض الأبواب ولكن قواعدها أقل من قواعد ألفية ابن مالك، ولذلك اشتهرت ألفية ابن مالك, ولعكوف صاحبها على دراسة هذا الفن ومؤلفاته الكثيرة التف الكثير حوله.
7 راجع الأشموني 1/ 6.

(1/266)


وهو بسبق حائز تفضيلا ... مستوجب ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافره ... لي وله في درجات الآخره
يشير بذلك إلى فضل المتقدم على المتأخر وما يستحقه السلف من ثناء الخلف ودعائهم, والدرجات، قال في الصحاح1: هي الطبقات من المراتب, وقال أبو عبيدة2: الدرج إلى أعلى والدرك إلى أسفل.
__________
1 1/ 150 الصحاح.
2 هو معمر بن المثنى اللغوي البصري مولى بني تميم "تيم قريش" رهط أبي بكر الصديق, فارسي الأصل, يهودي الآباء, أخذ عن يونس وأبي عمرو بن العلاء، وأخذ عن المازني وغيره، قيل: كان أعلم من الأصمعي وأبي زيد بالأنساب والأيام, وله تصانيف كثيرة تقارب المائتين في ثلاثة مجلدات، والمجاز في غريب القرآن, وغير ذلك, توفي سنة 213 وقد قارب المائة.

(1/267)