توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك

التعجب:
استعظام فعل ظاهر المزية، ويدل عليه بألفاظ كثيرة غير ما يذكر في هذا الباب نحو: "سبحان الله" و"لله دره"، لم يبوب لها في النحو؛ لكونها لم تدل عليه بالوضع بل بقرينة.
والمبوب له من ألفاظه: أفعَل وأفعِل, وقد أشار إلى الأول بقوله:
بأفعل انطق بعد ما تعجُّبا
أي: انطق بوزن أفعل بعد ما؛ لإنشاء التعجب أو في حال تعجبك.
فقوله: "تعجبا" مفعول له أو حال.
وأشار إلى الثاني بقوله:
أو جئ بأفعِل قبل مجرور ببا
يعني: أو جئ بوزن أفعل قبل اسم مجرور بباء الجر.
ثم قال: وتلو أفعل انصبنه
مذهب البصريين أنه مفعول به، وزعم الفراء ومن وافقه من الكوفيين أن نصبه على حد النصب في نحو: "زيدٌ كريمٌ الأبَ".
فإن قلت: شرط المجرور بعد أفعِل والمنصوب بعد ما أفعَل، أن يكون مختصا لتحصل به الفائدة، ولم ينبه على ذلك.
قلت: في تمثيله الآتي إرشاد إليه.
ثم مثل الصيغة الأولى بقوله:
........ كما ... أوفى خليلينا.......
وهو نظير: "ما أحسن زيدًا" فما اسم لعود الضمير عليها مبتدأ، قيل: بلا خلاف، وقد روي عن الكسائي: أنها لا موضع لها من الإعراب، وهو خلاف شاذ.
وبعد ثبوت اسميتها وأنها مبتدأ، ففي معناها خلاف. مذهب سيبويه وجمهور البصريين أنها اسم تام نكرة، والفعل بعدها خبرها، وهو الصحيح لأن

(2/885)


قصد المتعجب الإعلام بأن المتعجب منه ذو مزية إدراكها جلي، وسبب الاختصاص بها خفي، فاستحقت الجملة المعبر بها عن ذلك أن تفتتح بنكرة غير مختصة؛ ليحصل بذلك إبهام متلو بإفهام.
فإن قلت: كيف ساغ الابتداء بما, وهي نكرة لا مسوغ لها؟
قلت: سوغها قصد الإبهام، وقد ذكره في التسهيل من المسوِّغات1.
وقال الشارح: لأنها في تقدير التخصيص.
والمعنى: شيء عظيم أحسن زيدا, أي: جعله حسنا، فهو كقولهم: "شيء جاء بك وشر أهر ذا ناب"2. انتهى، وفيه نظر.
وذهب الأخفش وطائفة من الكوفيين إلى أنها موصولة, والفعل صلتها والخبر محذوف لازم الحذف, تقديره: الذي أحسن زيدًا شيء عظيم.
ورد بأنه يستلزم مخالفة النظائر من وجهين:
أحدهما: تقدم الإفهام وتأخر الإبهام, والمعتاد فيما تضمن من الكلام إفهاما وإبهاما "أن"3 يقدم الإبهام.
والثاني: التزم حذف الخبر دون شيء سد مسده، وذهب الفراء وابن درستويه إلى أنها استفهامية, ونقله في شرح التسهيل عن الكوفيين.
ورده بأن الاستفهام المشوب بالتعجب لا يليه إلا الأسماء نحو: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} 4 وما المشار إليها مخصوصة بالأفعال، وبأنها لو كان فيها معنى الاستفهام لجاز أن يخلفها أي.
__________
1 التسهيل ص131.
2 يقال: أهره, إذا حمله على الهرير، وهو مَثَل يضرب في ظهور أمارات الشر ومخايله.
3 أ، جـ.
4 من الآية 8 من سورة الواقعة.

(2/886)


وبأن قصد التعجب بما أفعله مجمع عليه والاستفهام زيادة لا دليل عليها, فلا يلتفت إليها.
قلت: وفي الأول نظر.
لأن مذهب الكوفيين أن أفعل اسم, وسيأتي.
وذهب الأخفش في أحد أقواله إلى أنها نكرة موصوفة، وأفعل صفتها والخبر محذوف.
وثاني أقواله: أنها موصولة، وقد تقدم.
وثالثها: كقول سيبويه.
ثم مثّل الصيغة الثانية بقوله: وأصدِقْ بِهِما.
وهو نظير: "أحسِنْ بزيد".
ومذهب جمهور البصريين أن أفعل في نحو: "أحسن بزيد" لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر، فمعنى "أحسن بزيد" أحسن زيد, أي: صار ذا حسن وهو مسند إلى المجرور بعده، والباء الزائدة مع الفاعل مثلها في نحو: {..... وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} 1.
وذهب الفراء ومن وافقه إلى أنه أمر باستدعاء التعجب من المخاطب مسندا إلى ضميره، واستحسنه الزمخشري وابن خروف، وذهب ابن كيسان إلى أن المخاطب ضمير الحسن كأنه قيل: يا حسن أحسن بزيد, أي: دم به؛ ولذلك كان الضمير مفردا على كل حال، قال ابن طلحة: وهو حسن، وعلى هذين القولين فالباء زائدة مع المفعول؛ لأن من جعل أفعل أمرا حقيقة فالهمزة عنده للتعدية.
وأجاز بعض المتأخرين أن تكون الباء للتعدية لا زائدة، والهمزة للصيرورة لا للتعدية، وهو أمر للسبب2 أو للشخص على القولين.
__________
1 من الآية 28 من سورة الفتح.
2 أي: للحدث الموجود في أفعل فهو سبب للتعجب, فقولنا: "أحسن بزيد" الحسن هو سبب التعجب.

(2/887)


والصحيح ما ذهب إليه جمهور البصريين؛ لسلامته مما يرد على غيره.
ورد المصنف قول الفراء بأربعة أوجه:
أحدها: أنه لو كان أمرا لم يكن الناطق به متعجبا, كما لا يكون الآمر بالحلف ونحوه حالفا، ولا خلاف في كونه متعجبا.
الثاني: أنه لو كان أمرا لزم إبراز ضميره.
الثالث: أنه لو كان مسندا إلى ضمير المخاطب لم يَلِهِ ضمير المخاطب في نحو: "أحسن بك".
الرابع: لو كان أمرا لوجب له من الإعلال ما وجب لأقِمْ وابْنِ.
ورد قول ابن كيسان بأن من المصادر ما لا يكون إلا مؤنثا كالسهولة والنجابة، فلو كان الأمر على ما توهمه، لقيل في أسهل به وأنجب به: أسهلى به وأنجبى، وقد أجيب عما رد به، وليس "هذا"1 موضع ذكره.
تنبيهان:
الأول: الباء بعد أفعل لازمة عند الفريقين، إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها, كقول الشاعر2:
__________
1 ب.
2 قائله: هو عباس بن مرداس، وهو من المؤلفة قلوبهم الذين أعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من سبي حنين من الإبل, وهو من الطويل.
وصدره:
وقال نبي المسلمين تقدموا
المعنى: يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرهم بالتقدم إلى أعدائهم ومحاربتهم، ثم تعجب من شدة محبتهم لانتصار الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أعدائه.
الإعراب: "قال" فعل ماض, "نبي" فاعل, "المسلمين" مضاف إليه, "تقدموا" فعل أمر وفاعله والجملة في محل نصب مقول القول, "وأحبب" فعل ماض جاء على صورة الأمر، فعل تعجب، "إلينا" جار ومجرور متعلق بأحبب, "أن" مصدرية وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بباء زائدة مقدرة، وهو فاعل فعل التعجب، وأصل الكلام: وأحبب إلينا بكونك المقدما. =

(2/888)


وأحبِبْ إلينا أن تكون المقدما
الثاني: قال في شرح التسهيل: لو اضطر شاعر إلى حذف الباء المصاحبة غير أن لزمه أن يرفع، وعلى قول الفراء يلزم النصب.
وقوله:
وحذف ما منه تعجبت استبح ... إن كان عند الحذف معناه يضح
يعني: أنه يجوز حذف الاسم المنصوب بعد ما أفعل, والمجرور بالباء بعد أفعل؛ فمثال حذفه بعد ما أفعل قول علي رضي الله عنه1:
جزى الله عنا والجزاء بفضله ... ربيعة خيرا، ما أعفَّ وأكرَما
__________
1 قائله: هو علي -كرم الله وجهه- من كلمة يمدح فيها ربيعة على ما أبلت معه يوم صفين, وهو من الطويل.
اللغة: "جزى" كافأ, "بفضله" بإحسانه, "ما أعف" تعجب من شدة عفتهم عن الدنيا, وهو يريد عفتهم عن المغانم والأسلاب.
الإعراب: "جزى ألله" فعل ماض وفاعله, "عنا" متعلق بجزى, "والجزاء" الواو للحال, والجزاء مبتدأ مرفوع بالضمة, "بفضله" جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ وفضل مضاف وضمير الغائب مضاف إليه, وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب حال, "ربيعة" مفعول أول لجزى, "خيرا" مفعول ثانٍ لجزى, "ما أعف" ما تعجبية مبتدأ، وأعف فعل ماض للتعجب وفاعله يعود على ما والجملة خبر المبتدأ، "وأكرما" عطف على أعف والألف للإطلاق، ومفعول فعل التعجب -وهو المتعجب منه- محذوف للعلم به, أي: ما أعفها وأكرمها.
الشاهد فيه: "ما أعف وأكرما" حيث حذف مفعول فعل التعجب؛ لقيام قرينة تدل عليه, والأصل: ما أعفهم وأكرمهم.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 364/ 2، وابن هشام 69/ 3، والسيوطي ص87, والمكودي ص107، وابن الناظم.

(2/889)


أي: ما أعفهم وأكرمهم.
ومثاله بعد أفعِل قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ....} 1 -أي: بهم- وإنما حذف مع كونه فاعلا؛ لأن لزومه للجر كساه صورة الفضلة خلافا للفارسي.
وذهب قوم إلى أنه لم يحذف, ولكنه استتر في الفعل حين حذفت الباء.
ورُدّ بوجهين:
أحدهما: لزوم إبرازه حينئذ في التثنية والجمع.
والآخر: أن من الضمائر ما لا يقبل الاستتار كنا من: "أكرم بنا"2.
قال في شرح الكافية: ولا تحذف الباء بعد أفعل إلا مع مجرورها, بشرط كون أفعل مسبوقا بآخر معه الفاعل المذكور كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ... } 3.
وقد تحذف الباء ومجرورها بعد أفعل مفردا, كقول الشاعر4:
__________
1 من الآية 38 من سورة مريم.
2 ب، جـ, وفي أ "أكرمنا".
3 من الآية 38 من سورة مريم.
4 قائله: هو عروة بن الورد -المعروف بعروة الصعاليك- في وصف صعلوك, وهو من الطويل.
اللغة: "فذلك" إشارة لصعلوك وصف بأوصاف قبل هذا البيت، "المنية" الموت, "حميدا" محمودا، فهو فعيل بمعنى مفعول، "أجدر" ما أجدره وما أحقه.
المعنى: هذا الصعلوك الموصوف بالصفات المذكورة, إذا صادف الموت صادفه محمودا لما كان عليه من عفة، وإن عاش واستغنى فما أحقه بالغنى.
الإعراب: "فذلك" اسم إشارة مبتدأ, "إن" شرطية, "يلق" فعل مضارع فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر, "المنية" مفعول, "يلقها" فعل مضارع جواب الشرط، وفيه ضمير =

(2/890)


فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
فإن قلت: كيف أطلق على الاسم متعجبا منه في قوله:
#
وحذف ما منه تعجبتَ استبِح
والمتعجب منه إنما هو فعله "لا نفسه"1؟
قلت: قد أجاب الشارح بأنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
وقوله:
إن كان عند الحذف معناه يضح
شرط في استباحة حذف المتعجب منه بعد ما أفعل, وأفعل "به"2.
يعني: أن جواز حذفه مشروط بأن يكون المراد واضحا عند الحذف للعلم به, فلو كان مجهولا لا دليل عليه لم يجز حذفه؛ لعدم الفائدة.
قوله:
وفي كلا الفعلين قدما لزما ... منع تصرف بحكم حُتما
قال في شرح التسهيل: لا خلاف في عدم تصرف فعلي التعجب, انتهى.
وقد أجاز ابن هشام الإتيان بمضارع ما أفعَل, فتقول: "ما يحسن زيدا".
__________
= مستر فاعل, وها مفعول، وجملة الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ, "حميدا" حال من فاعل يلق المستتر فيه, "وإن" شرطية, "يستغن" فعل مضارع فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر, "يوما" متعلق بيستغن, "فأجدر" الفاء لربط الجواب بالشرط وأجدر فعل ماض جاء على صورة الأمر، وقد حذف فاعله والباء، أي: أجدر به.
الشاهد فيه: "فأجدر" حيث حذف المتعجب منه وهو فاعل أجدر مع حرف الجر من غير أن تكون صيغة التعجب المحذوف معمولها معطوفة على أخرى مذكور معمولها المشابه للمحذوف.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 365/ 2، وابن هشام 70/ 3، وابن عقيل 115/ 2، وابن الناظم.
1 أ، جـ, وفي ب "لا وصفه".
2 ب، جـ.

(2/891)


وهو قياس ولم يسمع, فوجب اطّراحه.
فإن قلت: فهلا جعلوا أفعِل أمرا من أفعَل؟
قلت: المانع من ذلك كون الهمزة في أفعِل للصيرورة، وفي ما أفعل للنقل، هذا تفريع على مذهب الجمهور.
قلت: صرح المصنف في هذا البيت بفعلية صيغتي التعجب.
وأما ما أفعله ففيه خلاف؛ ذهب البصريون والكسائي إلى فعليته, وذهب الكوفيون إلى اسميته ولم يستثنه بعضهم، فلعل له قولين.
والصحيح أنه فعل؛ لبنائه على الفتح، ولنصبه المفعول به، وليس من الأسماء التي تنصبه، وللزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية نحو: "ما أفقرني إلى عفو الله" ذكر ذلك المصنف.
قلت: قد حكى الكوفيون عن العرب حذف هذه النون، ولم يجعلوها لازمة، واستدلوا على الاسمية بعدم تصرفه، وبتصغيره، وبصحة عينه.
وأجيب: بأن امتناع تصرفه؛ لأنه لزم طريقة واحدة، وبأن تصغيره وصحة عينه لشبهه بأفعل التفضيل.
وأما أفعل, فقال المصنف وغيره: لا خلاف في فعليته، وفي كلام ابن الأنباري ما يدل على اسميته، قال: وأحسن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث لأنه اسم، انتهى.
فإن قلت: ما إعراب: "ما أحسن زيدًا" عند القائلين باسمية أفعل؟
قلت: نقل الفراء أن الأصل في "ما أظرف زيدا" ما أظرفُ زيد على الاستفهام, ثم نقلوا الصيغة من زيد وأسندوها إلى ضمير "ما", وانتصب زيد بالظرف فرقا بين الخبر والاستفهام، والفتحة في أفعل فتحة إعراب وهو خبر عن "ما", وإنما انتصب؛ لكونه خلاف المبتدأ الذي هو "ما", إذ هو في الحقيقة خبر عن زيد.

(2/892)


وزعم بعض الكوفيين أن أفعل مبني وإن كان اسما؛ لأنه مضمن معنى التعجب وأصله أن يكون للحرف.
وقوله:
وصفهما من ذي ثلاث صرفا ... قابل فضل تم غير ذي انتفا
وغير ذي وصف يضاهي أشهلا ... وغير سالك سبيل فعلا
اشتمل هذان البيتان على شروط ما يصاغ منه فعلا التعجب قياسا، وهي ثمانية:
الأول: أن يكون فعلا، فلا يصاغان من غيره، وبذلك ظهر خطأ من يقول من الكلب: ما أكلبه، ومن الحمار: ما أحمره.
وشذ من ذلك قوله: "أَقْمِنْ به" اشتقوه من قَمِن, أي: حقيق.
وذكر المصنف منه قولهم: "ما أذرَعها" بمعنى: ما أخفها في الغزل، وهو من قولهم: امرأة ذَرَاع، قال: ولم يسمع منه فعل.
وحكى ابن القطاع1: "ذُرعت المرأة": خفت يداها في الغَزْل فهي ذراع, فعلى هذا ليس بشاذ.
فإن قلت: فلِمَ ينص الناظم هنا على هذا الشرط؟
قلت: هو مفهوم من قوله: "من ذي ثلاث".
"لأن التقدير: من قبل ذي ثلاث"2, فحذف الموصوف للعلم به.
__________
1 هو علي بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن محمد, المعروف بابن القطاع. قال ياقوت: كان إمام وقته بمصر في علم العربية وفنون الأدب، قرأ على أبي بكر الصقلي، وروى عنه الصحاح للجوهري.
ومن مؤلفاته: أبنية الأسماء، حواشي الصحاح، تاريخ صقلية, وغير ذلك. ولد في العاشر من صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومات في صفر سنة خمس عشرة, وقيل: أربع عشرة وخمسمائة، ودفن بقرب ضريح الإمام الشافعي.
2 ب، جـ.

(2/893)


الثاني: أن يكون ثلاثيا. ونعني به ثلاثي اللفظ، فلا يصاغان من الرباعي المجرد باتفاق نحو: دحرج، ولم يشذ منه شيء.
وأما الثلاثي المزيد, فإن كان أفعل ففيه مذاهب:
أحدها: جواز صوغهما منه قياسا مطلقا، وهو اختيار المصنف، قال: وهو مذهب سيبويه والمحققين من أصحابه.
والثاني: منعه إلا أن يشذ شيء فيحفظ, وهو مذهب الأخفش والمازني والمبرد وابن السراج والفارسي ومن وافقهم.
والثالث: التفصيل، فإن كانت همزته للنقل لم يجز، وإن كانت لغيره جاز, وصححه ابن عصفور ونسبه إلى سيبويه، والظاهر أن مذهب سيبويه هو الأول؛ لتمثيله بأعطى والهمزة فيه للنقل، يقال: عطوت بمعنى تناولت، وأعطيت بمعنى ناولت، قلت: والقياس على ذلك عند من أجازه مشروط بعدم مانع آخر، فإن وجد مانع لم يجز نحو: أودى بمعنى هلك، فإنه غير قابل للتفاضل، نحو: أجاب فإنهم استغنوا عنه بما أفعل فعله، فلا يقال: ما أجوبه, بل ما أجود جوابه، ذكره سيبويه.
وإن كان غير أفعل فقد شذ منه ألفاظ, منها: ما أشده من اشتد، وما أشوقه من اشتاق، وما أحوله من احتال، وما أخصره من اختُصر.
وفيه شذوذان؛ لأنه مزيد ومبني للمفعول.
وليس من الشاذ: ما أفقره وما أشهاه وما أحياه، خلافا لأكثرهم؛ لثبوت فَقِرَ وفَقَرَ بمعنى افتقر، وشهي بمعنى اشتهى، وحيي بمعنى استحيا.
ولا حجة في قول من خفي عليه ما ظهر لغيره.
ونقل عن الأخفش أنه أجاز التعجب في كل فعل مزيد على استكراه، كأنه راعى أصله.
الثالث: أن يكون متصرفا، فلا يصاغان من غير المتصرف كنعم وبئس, وشذ من ذلك قولهم: "ما أعساه" و"أعسِ به".

(2/894)


فإن قلت: ينبغي أن يقال: كامل التصرف؛ احترازا "من"1 نحو: يدع ويذر.
قلت: إذا أطلق المتصرف فهو محمول على كامل التصرف.
الرابع: أن يكون قابلا للتفاضل، فلا يصاغان من فعل لا يقبل ذلك نحو: مات وفني وحدث؛ لأنه لا مزية فيه لبعض فاعليه على بعض.
الخامس: أن يكون تاما، فلا يصاغان من الأفعال الناقصة خلافا لمن أجاز صوغهما من كان الناقصة.
السادس: أن يكون مثبتا, فلا يصاغان من فعل مقصود نفيه لزوما كلم يَعِجْ, أو جوازا كلم يَعُجْ كذا.
قال في شرح التسهيل: يعني: أن عاج يعيج بمعنى انتفع لم يستعمل إلا منفيا, وعاج يعوج بمعنى مال استعمل مثبتا ومنفيا.
ونوزع في اختصاص الأول بالنفي، فإنه ورد مثبتا فيما أنشده أبو علي القالي في نوادره, قال: أنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي2:
__________
1 ب، جـ، وفي أ "عن".
2 قائله: قال العيني: أنشده أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي, ولم يعزه إلى قائل, وهو من الطويل.
اللغة: "ألذه" من لذذت الشيء ألذه لذا ولذاذة, "أعيج" أي: أنتفع، يقال: شربت دواء فما عجت به، أي: ما انتفعت به، وقال ابن مالك: ونعيج من الكَلِم التي لا تستعمل إلا في النفي.
الإعراب: "لم" حرف نفي, "أر" فعل مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة, "شيئا" مفعول به, "بعد" منصوب على الظرفية, "ليلى" مضاف إليه, "ألذه" جملة من فعل وفاعل ومفعول في محل نصب صفة لشيء, "ولا منظرا" عطف على قوله: شيئا, "أروى به" جملة في محل نصب صفة لمنظرا, "فأعيج" عطف على أروى.
الشاهد فيه: "فأعيج" وذلك أنه علم أن شروط ما يصاغ منه فعلا التعجب ثمانية, منها أن يكون مثبتا، فلا يصاغان من فعل مقصود نفيه لزوما، كلم يعج, أو جوازا كلم يعج. معناه: أن عاج يعيج بمعنى: انتفع، لم يستعمل إلا منفيا، وعاج يعيج بمعنى مال استعمل مثبتا ومنفيا كما في شرح التسهيل.
ولكن نُوزع في اختصاص المعنى الأول بالنفي, بوروده مثبتا في البيت المذكور, حيث قال: فأعيج.

(2/895)


ولم أر شيئا بعد ليلى ألذه ... ولا منظرا أروى به فأعيج
السابع: ألا يكون معبرا عن فاعله بأفعل فعلاء، فلا يصاغان من شهل وحول، ولا فرق بين أن يكون من المحاسن كالأول، أو من العيوب كالثاني.
وعلة المنع عند الجمهور أن حق ما يصاغان منه أن يكون ثلاثيا محضا.
وأصل الفعل في هذا النوع أن يكون على أفعل.
قال في شرح التسهيل: وعندي تعليل آخر أسهل منه، وهو أن يقال: لما كان بناء الوصف من هذا النوع على أفعل لم يُبْنَ منه أفعل التفضيل؛ لئلا يلتبس أحدهما بالآخر، فلما امتنع صوغ أفعل التفضيل امتنع صوغ فعل التعجب؛ لتساويهما وزنا ومعنى, وجريانهما مجرى واحدا في أمور كثيرة.
قال: وهذا الاعتبار بيّن ورجحانه متعيّن.
وشذ من هذا النوع قولهم: "ما أحمقه" و"ما أرعنه" و"ما أهوجه" و"ما أنوكه", بمعنى: ما أحمقه، وما ألده من لد إذا كان عسر الخصومة، ومنه الوصف من كل هذه على أفعل في التذكير، وفعلاء في التأنيث.
وكلامه في الكافية والتسهيل، يقتضي ظاهره أن صوغهما من فِعْلِ أفعَل إذا فهم جهلا أو عسرا مقيس1.
الثامن: ألا يكون مبنيا للمفعول, فلا تقول: "ما أضرب زيدا" وأنت تتعجب من الضرب الواقع "به"2.
__________
1 التسهيل ص131.
2 أ، جـ.

(2/896)


وعلته عند قوم خوف اللبس، وإليه ذهب المصنف؛ فلذلك حكم باطراد صوغهما منه عند أمن اللبس كقولهم: "ما أشغله" من شغل, و"ما أجنّه" من جُنّ, و"ما أولعه" من وُلِع، و"أزهاه" من زُهي.
قال المصنف: وهذا الاستعمال في أفعل التفضيل أكثر منه في التعجب.
وعلته عند قوم: أن الفعل المتعجب منه لا بد أن يكون قبل دخول همزة النقل على فعُل أصلا أو تحويلا، وفعُل أبدا لا يكون فِعْل مفعول، وإليه ذهب ابن عصفور؛ فلذلك جعل ما ورد من ذلك شاذا.
قال: وينبغي أن يتأول على أنه متعجب فيه من فعل فاعل في معنى فعل مفعول لم ينطق به.
قلت: بقي شرط تاسع لم يذكره هنا، وهو ألا يستغنى عنه بالمصوغ من غيره نحو: قال من القائلة, فإنهم لا يقولون: ما أقيَله؛ استغناء بقولهم: "ما أكثر قائلته, وما أنومه في ساعة كذا، كما قالوا: تركت ولم يقولوا: ودَعت، نص على ذلك سيبويه". وقد ذكر في التسهيل فقال: ويُغني في التعجب فعل عن فعل مستوف للشروط، كما يغني في غيره1, وذكر "ذلك"2 في شرحه.
من ذلك "سكر" و"قعد" و"جلس" ضدي "قام" و"قال" من القائلة، وزاد غيره "قام" و"غضب" و"نام" وممن ذكر السبعة ابن عصفور.
وعَدّ "نام" فيها غير صحيح؛ لأن سيبويه حكى: ما أنومه.
فإن قلت: قد ذكر بعضهم في شروطه أن يكون على فعُل أصلا أو تحويلا، وذكر بعضهم أن يكون واقعا3, وذكر بعضهم أن يكون دائما، فهذه ثلاثة شروط لم يذكرها الناظم.
__________
1 التسهيل ص132.
2 أ، جـ.
3 أي: غير مستقبل.

(2/897)


قلت: أما اشتراط كونه على فعُل, فقد ذهب إليه كثير.
والصحيح أن صيغتي التعجب تبنيان من فعَل وفَعِل ولا تحتاجان إلى تحويل وهذا اختيار المصنف، وظاهر كلام سيبويه، قال: وهي تبنى من فعَل وفعِل وفعُل.
وأما اشتراط الواقع والدوام فليس بصحيح، بل يجوز: ما أحسن ما يكون هذا الطفل، وليس بواقع، وما أشد لمع البرق، وليس بدائم.
وقوله:
وأشدِدْ أو أشدَّ أو شبههما ... يخلف ما بعض الشروط عدما
ومصدر العادم بعد ينتصب ... وبعد أفعل جره بالبا يجب
يعني: أنه إذا قصد التعجب من فعل عدم بعض الشروط المذكورة, لم يجز صوغ صيغتي التعجب منه، بل يتوصل إلى التعجب منه بصوغهما مما جمع الشروط، ويؤتى بمصدر الفعل الذي عدم بعض الشروط فيعامل معاملة الاسم المتعجب منه فينصب بعد ما أفعل، ويجر بالباء بعد أفعل مضافا إلى اسم المتعجب منه, فيقال في التعجب من استخرج ونحوه: ما أشد استخراجه وأشدد باستخراجه ومن "نحو"1 مات: ما أفجع موته وأفجع بموته.
هذا حاصل البيت.
تنبيه:
هذا العمل يصح في كل متصرف مثبت مصوغ ذي مصدر مشهور, إذا لم يستوف بقية الشروط.
فإن كان غير متصرف لم يكن فيه هذا العمل؛ لأنه لا مصدر له، وإن كان منفيا أو مبنيا للمفعول لم يصح ذلك فيه، إلا بأن يؤتى به صلة لحرف مصدري معطى ما للمتعجب منه، فيقال: ما أقرب ألا يفعل وأقرب بألا يفعل، وما أشد ما ضرب وأشدد بما ضرب.
وإنما فعل ذلك؛ ليبقي لفظ النفي ولفظ الفعل المبني للمفعول.
__________
1 أ.

(2/898)


قال الشارح: ولو أمن اللبس, جاز إيلاؤه المصدر الصريح نحو: ما أسرع نفاس هند, وأسرع بنفاسها.
فإن لم يكن للفعل مصدر مشهور, فالحكم أن يجعل صلة لما أيضا نحو: ما أكثر ما يذر زيد الشر.
وقوله:
وبالندور احكم لغير ما ذُكر ... ولا تَقِس على الذي منه أُثر
الإشارة بهذا البيت إلى أنه قد ورد بناء فعل التعجب مما لم يستوف الشروط على وجه الشذوذ "فيحفظ ولا يقاس", وقد تقدم بيان ما شذ من ذلك.
وقوله:
وفعل هذا الباب لن يقدما ... معموله ووصله به الزما
قال في شرح الكافية: لا خلاف في منع تقديم المتعجب منه على فعل التعجب، ولا في منع الفصل بينهما بغير ظرف وجار ومجرور، وتبعه الشارح في نفس الخلاف عن غير الظرف والمجرور، قال: كالحال والمنادى.
وليس كما زعما, بل في الحال خلاف.
أجاز الجرمي من البصريين وهشام من الكوفيين الفصل بالحال1, وقد ورد في الكلام الفصيح ما يدل على جواز الفصل بالمنادى, وذلك قول علي رضي الله عنه2:
أعزز عليّ أبا اليقظان أن أراك صريعا مجدلا
وقال في شرح التسهيل بعد ذكر كلام علي رضي الله عنه: وهذا مصحِّح للفصل بالنداء.
وأجاز الجرمي الفصل بالمصدر نحو: "ما أحسن إحسانًا زيدًا" ومنعه الجمهور؛ لمنعهم أن يكون له مصدر.
__________
1 نحو: "ما أحسن مجردة هندا".
2 قاله في حق عمار بن ياسر حين رآه مقتولا, "مجدلا" أي: مرميا على الجدلة -بالفتح- وهي الأرض.
وفيه الفصل بالنداء وهو "أبا اليقظان", فهو شاهد لجوازه.
وفيه الفصل بالمجرور وهو "علي"؛ لأن الأصل: أعزز بأن أراك كذا علي، أي: ما أعز ذلك وأشده علي.

(2/899)


وأجاز ابن كيسان الفصل بلولا ومصحوبها، نحو: "ما أحسن لولا بخله زيدا" ولا حجة له على ذلك.
وأما الظرف والمجرور, ففيهما خلاف مشهور.
قال في شرح الكافية: والصحيح الجواز؛ لثبوت ذلك عن العرب.
وقال في شرح التسهيل: لم يمتنع ولم يضعف؛ لثبوت ذلك نثرا ونظما وقياسا.
فمن النثر قول عمرو بن معديكرب: "لله در بني سالم, ما أحسن في الهيجاء لقاءها، وأكرم في اللَّزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بقاءها"1، ومن النظم قول بعض الصحابة رضي الله عنهم2:
وقال نبي المسلمين تقدموا ... وأحبب إلينا أن تكون المقدما
وقول الآخر3:
أقيم بدار الحزم ما دام حزمها ... وأحْرِ إذا حالت بأن أتحولا
__________
1 وهو صحابي من فرسان الجاهلية والإسلام, قتل سنة إحدى وعشرين من الهجرة. "في الهيجاء" -بالمد والقصر- الحرب, "واللزبات" -بفتح اللام وسكون الزاي- جمع لزبة، وهي الشدة والقحط، "والمكرمات" جمع مكرمة -بضم الراء فيهما- أي: الكرم.
2 تقدم شرحه, والشاهد هنا: الفصل بالجار والمجرور بين فعل التعجب ومعموله.
3 قائله: هو أوس بن حجر, وهو من الطويل.
اللغة: "دار الحزم" المكان الذي تعتبر فيه الإقامة حزما, "أحر" أخلق, "حالت" تغيرت.
المعنى: أقيم بالمكان الذي تعتبر الإقامة فيه من الحزم وحسن التصرف، وذلك حيث يكون الإنسان فيه عزيزا مكرما، فإذا تغير الحال ولاقى الإنسان مهانة فأخلق به أن يتحول عنه إلى مكان آخر، يلقى فيه العزة والكرامة.
الإعراب: "أقيم" فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر, "بدار" متعلق بأقيم, "الحزم" مضاف إليه, "ما" مصدرية ظرفية, "دام" فعل ماض ناقص, "حزمها" اسم دام والهاء مضاف إليه والخبر محذوف أي: موجودا، ويجوز أن يكون دام تامة وحزمها فاعلا به, "وأحر" فعل ماض للتعجب جاء على صورة الأمر, "إذا" ظرف له, "حالت" الجملة في محل جر بإضافة إذا إليها, "بأن أتحولا" الباء زائدة، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بها لفظا, وهو في التقدير فاعل لفعل التعجب مرفوع محلا.
الشاهد فيه: "أحر إذا حالت بأن أتحولا" حيث فصل بين فعل التعجب وهو "أحر" ومعموله وهو "بأن أتحولا", فإن المصدر المؤول من أن وما دخلت عليه فاعل فعل التعجب, والفاصل بينهما ظرف وهو "إذا حالت".
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 369 / 2، وابن هشام 73/ 3, والمكودي ص108، وابن الناظم، وذكره السيوطي في الهمع 90/ 2.

(2/900)


ومن القياس أن الفصل بالظرف والمجرور, مغتفر بين المضاف والمضاف إليه فهنا أولى.
وأجاز بعضهم الفصل بهما على قبح.
فالحاصل ثلاثة مذاهب، والجواز مذهب الفراء والجرمي والمازني والزجاج والفارسي وابن خروف والشلوبين.
وإلى المنع ذهب الأخفش والمبرد وأكثر البصريين، ونسبه الصيمري1 إلى سيبويه.
والحق أنه ليس لسيبويه فيه نص، قال الشلوبين: والصواب أن ذلك جائز, وهو المشهور والمتصور.
قلت: وقد أشار في النظم إلى ترجيح الجواز بقوله: "مستعمل"؛ لأن استعماله دليل جوازه.
تنبيه:
جواز الفصل بالظرف والمجرور عند المجيز مشروط بكونهما متعلقين بفعل التعجب، فإن لم يتعلقا به امتنع الفصل بهما كما امتنع بغيرهما, فلا يجوز: "ما أحسن بمعروف آمرا" وذكر في شرح التسهيل أنه لا خلاف في ذلك.
__________
1 هو عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري النحوي، أبو محمد. له "التبصرة" في النحو كتاب جليل أكثر ما يشتغل به أهل المغرب، وأكثر أبو حيان من النقل عنه.

(2/901)


نعم وبئس وما جرى مجراهما:
فعلان غير متصرفين ... نعم وبئس رافعان اسمين
قوله: "فعلان" خبر مقدم لنعم وبئس، وفي ذلك خلاف. وفي نقله طريقان:
أحدهما: أن البصريين والكسائي ذهبوا إلى فعليتهما, واستدلوا بأوجه:
أحدها: اتصال تاء التأنيث الساكنة بهما عند جميع العرب.
والثاني: اتصال ضمير الرفع البارز بهما في لغة قوم, وحكاها الكسائي والأخفش.
والثالث: بناؤهما على الفتح كسائر الأفعال الماضية.
وذهب الفراء وأكثر الكوفيين إلى أنهما اسمان، واستدلوا بدخول حرف الجر في نحو قوله: "ما هي بنعم الولد"1 و"نعم السير على بئس العير"2.
ويؤول على: بمقول فيها: نعم الولد, وعلى: مقول فيها: بئس العير.
والأخرى: حررها ابن عصفور في تصانيفه المتأخرة, فقال: لا يختلف أحد من النحويين البصريين والكوفيين في أن نعم وبئس فعلان، وإنما الخلاف بينهم بعد إسنادهما إلى الفاعل.
فذهب البصريون: أن "نعم الرجل" جملة فعلية وكذلك "بئس الرجل".
وذهب الكسائي إلى أن قولك: "نعم الرجل" و"بئس الرجل" اسمان محكيان
__________
1 قال حين بشر ببنت: وبقيته: "نصرها بكاء وبرها سرقة" أي: إذا أرادت أن تنصر أباها على أعدائه مثلا لا تقدر على الدفع بنفسها، بل تصرخ لتستغيث بالناس، وبرها -بكسر الباء- أي: إذا أرادت أن تبر أحدا سرقت له من زوجها أو من غيره، ويحتمل أنه بفتح الباء وبالزاي بمعنى السلب والأخذ قهرا.
2 العير -بفتح العين وسكون الياء- هو الحمار وجمعه: أعيار كبيت وأبيات, والأنثى عيرة.

(2/902)


حيث وقعا بمنزلة تأبط شرا وبرق نحره، فنعم الرجل عنده اسم للممدوح وبئس الرجل اسم للمذموم، وهما جملتان في الأصل نقلتا عن أصلهما وسمي بهما.
وذهب الفراء إلى أن الأصل في قولك: "نعم الرجل زيد" و"بئس الرجل عمرو": رجل نعم الرجل زيد، ورجل بئس الرجل عمرو، فحذف الموصوف الذي هو رجل وأُقيمت الصفة التي هي الجملة من نعم وفاعلها وبئس وفاعلها مقامه. فحكم لها بحكمه، فنعم الرجل من قولك: نعم الرجل زيد، وبئس الرجل من قولك: بئس الرجل عمرو، عندهما رافعان لزيد وعمرو، كما أنك لو قلت: ممدوح زيد ومذموم عمرو، لكان زيد مرفوعا بممدوح، وعمرو مرفوعا بمذموم.
والذي حملهما على ذلك أنهما رأيا العرب قد حكمت لنعم الرجل وبئس الرجل بحكم الأسماء في بعض المواضع، فحملاهما على ذلك في سائر المواضع. وقوله: "غير متصرفين" سبب عدم تصرفهما لزومهما إنشاء المدح والذم.
وفي نعم أربع لغات: نَعِم وهي الأصل, ونَعْم بالتخفيف, ونِعِم بالإتباع, ونِعْم بالتخفيف بعد الإتباع، قيل: وأفصحها نِعْم وهي لغة القرآن, ثم نِعِم بالإتباع نعم وهي الأصلية وقرئ "بها"1: "فنِعِمَّ هي"2 ثم نعم في المرتبة الرابعة.
وحكى بعضهم: "نعيم الرجل" واستدل به على الاسمية؛ لأن فعيلا من أوزان الأسماء. ورُد بأن ذلك من باب الإشباع على سبيل الشذوذ، فلا يثبت لغة.
وأما بئس, فنص كثير على أن فيها اللغات الأربع، وقال بعضهم: لم يسمع فيها إلا لغتان: بيس -بالتخفيف بعد الإتباع- وبئس على الأصل، والأخريان بالقياس.
وقال ابن عصفور والمحققون: الهمزة يبدلون منها ياء فيقولون: بيس.
__________
1 أ، جـ في ب "بهما".
2 من الآية 271 من سورة البقرة.

(2/903)


وحكى الأخفش وأبو علي: بيس, بفتح الباء وتسكين الياء.
وقوله: "رافعان اسمين" يعني: أن كلا منهما يقتضي مرفوعا على الفاعلية؛ لأنهما فعلان كما سبق.
فإن قلت: كون المرفوع بعدهما فاعلا، إنما هو على مذهب البصريين، فما وجه رفعه على مذهب الكوفيين؟
قلت: أما على الطريقة الأولى, فقال في البسيط: ينبغي أن يكون تابعا عندهم لنعم إما بدلا أو عطفا، ونعم اسم يراد به الممدوح, فكأنك قلت: الممدوح الرجل زيد, وأما على الثانية فواضح.
وقوله: "مقارني أل" نعت لقوله: "اسمين".
وحاصل كلامه أن فاعل نعم وبئس يكون قسمين: ظاهرا ومضمرا.
فالظاهر شرطه أن يكون معرفا بأل نحو: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 1.
أو مضافا إلى معرف بهما نحو: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} 2.
"أو مضافا إلى"3 مضاف إلى المعرف بهما نحو4:
فنعم ابن أخت القوم غير مكذَّب ... زهير حسامٌ مفردٌ من حمائل
__________
1 من الآية 40 من سورة الأنفال.
2 من الآية 30 من سورة النحل.
3 ب، جـ, وفي أ "أو إلى مضاف إلى معرف".
4 قائله: هو أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- من كلمة يمدح فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويعاتب قريشا على ما كان منها, وهو من الطويل.
اللغة: "حسام" السيف القاطع، وسمي بذلك لأنه يحسم الخلاف بين الناس, "حمائل" جمع حمالة -بالكسر- وهي علامة السيف, "زهير" اسم رجل.
المعنى: يمدح ابن أبي أمية بأنه صادق المودة, وبأنه إذا قال لم يجد من يرد عليه قوله بالتكذيب؛ لأن الناس جميعا يعلمون صدقه، ثم شبهه بالسيف الذي يفرد عنه حمائله, يشير إلى أنه نسيج وحده لا مشارك له في صفاته. =

(2/904)


وقد أشار إلى الأول بقوله: "مقارني أل".
وإلى الثاني بقوله: "أو مضافين لما قارنها".
ومثل بقوله: "كنعم عقبى الكرما".
ولم ينبه على الثالث؛ لكونه بمنزلة الثاني, وقد نبه عليه في التسهيل1.
تنبيهات:
الأول: اشتراط كون الظاهر معرفا بأل أو مضافا إلى المعرفة بها "أو إلى"2 المضاف إلى المعرف بها، هو الغالب، وأجاز بعضهم أن يكون مضافا إلى ضمير ما فيه أل كقوله3:
فنعم أخو الهيجا ونعم شبابها
__________
= الإعراب: "نعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "ابن" فاعل نعم, "أخت" مضاف إليه, "القوم" مضاف إليه أيضا, "غير مكذب" حال من ابن ومضاف إليه، والجملة من نعم وفاعلها خبر مقدم, "زهير" مبتدأ مؤخر، أو زهير خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو زهير، وهو المخصوص بالمدح, "حسام مفرد" خبران لمبتدأ محذوف، لا نعتان لزهير؛ لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة, "من حمائل" متعلق بمفرد, وجر بالكسرة للضرورة.
الشاهد فيه: "نعم ابن أخت القوم" حيث جاء فاعل نعم اسما مضافا إلى اسم مضاف إلى مقترن بأل.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 371/ 2، وابن هشام 82/ 3، وابن الناظم، وذكره السيوطي في الهمع 85/ 2.
1 التسهيل ص126.
2 ب، وفي أ "أو مضافا إلى مضاف".
3 قائله: لم أقف على قائله, وهو شطر من الطويل.
اللغة: "أخو الهيجا" أي: صاحب الهيجاء، وهو كناية عن ملازمته الحرب وشدة مباشرتها، والهيجاء -ممدود- اسم للحرب، وقصرت هنا للوزن، وروي "نعم شهابها", والشهاب: الشعلة من النار الساطعة.
الإعراب: "نعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "أخو" فاعل مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه من الأسماء الستة, "الهيجا" مضاف إليه, "ونعم" الواو حرف عطف ونعم فعل ماض لإنشاء المدح, "شهابها" فاعل والهاء مضاف إليه.
الشاهد فيه: "نعم شبابها" حيث أضيف فاعل نعم إلى ضمير ما فيه الألف واللام.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 371/ 2، وذكره السيوطي في الهمع 85/ 2.

(2/905)


والصحيح أنه لا يقاس عليه؛ لقلته.
وأجاز الفراء أن يكون مضافا إلى نكرة كقوله1:
فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم
ونقل إجازته عن الكوفيين وابن السراج، وخصه عامة النحويين بالضرورة.
وزعم صاحب البسيط أنه لم يرد نكرة غير مضافة، وليس كما زعم، بل ورد، ولكنه أقل من المضافة.
وحكى الأخفش أن ناسا من العرب يرفعون بنعم النكرة مفردة ومضافة, ومنه قوله2: ونعم نيم.
__________
1 قائله: كثير بن عبد الله المعروف بابن الغريرة, وهي أم عبد الله, وهو من البسيط.
وتمامه:
وصاحب الركب عثمان بن عفانا
الإعراب: "نعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "صاحب" فاعل, "قوم" مضاف إليه, "لا" نافية للجنس, "سلاح" اسم لا مبني على الفتح في محل نصب, "لهم" متعلق بمحذوف خبر لا, "وصاحب" عطف على فاعل نعم, "الركب" مضاف إليه, "عثمان" المخصوص بالمدح.
الشاهد فيه: "نعم صاحب قوم" حيث ورد فاعل نعم اسما منكرا مضافا إلى نكرة.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 271/ 2, وذكره السيوطي في الهمع 86/ 2.
2 قطعة من بيت من الوافر, وتمام البيت مع سابقه هو:
وسلمى أكمل الثقلين حسنا ... وفي أثوابها قمر وريم
نياف القرط غراء الثنايا ... وزيد للنساء ونعم نيم
ولم أقف على قائلهما. =

(2/906)


وقد جاء ما ظاهره أن الفاعل علم أو مضاف إلى علم كقول بعض العبادلة: "بئس" عبد الله أنا "إن كان كذا", وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم عبد الله خالد بن الوليد" 1.
وقول سهل بن حنيف: "شهدت صفين, وبئست صفّون".
قال ابن عصفور: وأجاز الجرمي أن يقال: "نعم عبدُ الله هذا".
والصحيح أن ذلك لا يجوز؛ لأن عبد الله ليس معرفا بالألف واللام, ولا مضافا إلى ما تعرف بهما. فأما قول الشاعر2:
بئس قوم الله قوم طُرقوا ... فقروا جارهم لحما وحر
فضرورة.
__________
= اللغة: "قمر" القمر المعروف, "ريم" ولد الظبية ويهمز, "نياف القرط" -بضم القاف وسكون الراء- ما يعلق في شحمة الأذن من الحلي، وأراد بكونها نياف القرط أنها بعيدة مهواه، وذلك مما يكنى به عن طول العنق, "غراء الثنايا" الثنايا: الأسنان التي في مقدم الفم, "ريد النساء" الترب, "نيم" النعمة التامة, ومن يؤتنس به.
الإعراب: "نياف" خبر لمبتدأ محذوف، هي نياف, "القرط" مضاف إليه, "غراء" معطوف على نياف بعاطف مقدر, "الثنايا" مضاف إليه, "وريد" عطف على نياف, "للنساء" متعلق بمحذوف صفة لريد, "ونعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "نيم" فاعل نعم، والجملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: هم نعم نيم.
الشاهد فيه: "نيم" حيث وقع فاعل نعم اسما منكرا.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 372/ 2.
1 أ، جـ.
2 قائله: لم أقف على اسم قائله, وهو من الرمل.
اللغة: "طرقوا" من الطروق وهو إتيان الأهل ليلا, "فقروا" أطعموا, "وحر" -بفتح الواو وكسر الحاء- الذي دبت عليه الوحرة، والوحرة -بفتح الواو والحاء- وزغة تكون في الصحراء، وهي صغيرة حمراء لها ذَنَب دقيق، وسكنت الراء للضرورة. =

(2/907)


وكأن الذي سهل ذلك كون قوم يقع على ما يقع عليه القوم معرفا بالألف واللام, وهو مع ذلك مضاف في اللفظ إلى ما فيه الألف واللام، وإن لم يكن تعريفه بهما.
وأجاز المبرد والفارسي: إسناد نعم وبئس إلى الذي الجنسية1.
ومنع ذلك الكوفيون وجماعة من البصريين منهم: ابن السراج وأبو عمر2 في الفرخ. قال: ولم يرد به سماع، والقياس المنع؛ لأن كل ما كان فاعلا لنعم وكان فيه أل, كان مفسرا للضمير المستتر فيها إذا نُزعت منه و"الذي" ليست كذلك.
قال في شرح التسهيل: ولا ينبغي أن يمنع؛ لأن "الذي" جعل بمنزلة الفاعل؛ ولذلك اطرد الوصف به.
الثاني: اعلم أن ما ورد مما يوهم ظاهره أن الفاعل علم, أو مضاف إلى علم يمكن تأويله على أن الفاعل ضمير مستتر حُذف مفسره، والعلم أو المضاف إليه هو المخصوص.
ذكر هذا التأويل في شرح التسهيل، وهو مبني على جواز حذف التمييز في
__________
الإعراب: "بئس" فعل ماض لإنشاء الذم, "قوم" فاعل, "الله" مضاف إليه, "قوم" المخصوص بالذم, "طرقوا" فعل ماض مبني للمجهول وواو الجماعة للتخلص من التقاء الساكنين, "جارهم" مفعول به أول لقروا وهو مضاف والضمير مضاف إليه, "لحما" مفعول ثانٍ, "وحر" صفة للحم منصوب بالفتحة وسكّن للوقف.
الشاهد فيه: "بئس قوم الله" حيث ورد فاعل بئس اسما مضافا إلى علم, وهو لفظ الجلالة.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 372/ 2.
1 نحو: "نعم الذي آمن زيدٌ".
2 في الأصل: أبي عمرو, والمعروف أن كتاب الفرخ لأبي عمر الجرمي.

(2/908)


نحو ذلك، وسيأتي بيانه، ويمكن أن يحمل على هذا أيضا ما أوهم كون فاعلهما نكرة، إلا أن حكاية الأخفش أن1 ذلك لغة لقوم وتدفع التأويل.
الثالث: "أل"2 في فاعل نعم, ذهب الأكثرون أنها جنسية ثم اختلفوا:
فقيل: حقيقة، فإذا قلت: "نعم الرجل زيد", فالجنس كله هو الممدوح، وزيد مندرج تحت الجنس؛ لأنه فرد من أفراده، ولهؤلاء في تقريره قولان:
أحدهما: أنه لما كان الغرض المبالغة في إثبات المدح للممدوح جُعل المدح للجنس الذي هو منهم، إذ الأبلغ في إثبات الشيء جعله للجنس؛ حتى لا يتوهم كونه طارئا على المخصوص.
والثاني: أنه لما قصدت المبالغة, عدوا المدح إلى جنس المقصود بسببه.
فكأنه قيل: ممدوح جنسه لأجله، وقيل: مجاز.
فإذا قلت: "نعم الرجل زيد" جعلت زيدا جميع الجنس مبالغة، ولم تقصد غير مدح زيد.
وذهب قوم إلى أنها عهدية، ثم اختلفوا فقيل: المعهود ذهني كما تقول: "اشتر اللحم" ولا تريد الجنس ولا معهودا تقدم، وأراد بذلك أن يقع إبهام يأتي التفسير بعده تفخيما للأمر، وقيل: المعهود هو الشخص الممدوح.
فإذا قلت: "زيد نعم الرجل", فكأنك قلت: زيد نعم هو.
واستدل هؤلاء بتثنيته وجمعه.
وعلى القول بأنها للاستغراق بأن المعنى أن هذا المخصوص يَفْضُل أفراد هذا الجنس, إذا ميزوا رجلين رجلين, أو رجالا رجالا.
وعلى القول بأنها للجنس مجازا, بأن كل واحد من الشخصين على حِدَته جنس، فاجتمع جنسان فثُنِّيا.
__________
1 ب، جـ.
2 ب.

(2/909)


وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في غير هذا الموضع.
الرابع: لا يجوز إتباع فاعل نعم وبئس بتوكيد "معنوي"1. قال في شرح التسهيل: باتفاق. قال: وأما التوكيد اللفظي فلا يمتنع، وأما النعت فمنعه الجمهور، وأجاز أبو الفتح في قوله2:
لبئس الفتى المدعوّ بالليل حاتمُ
قال في شرح التسهيل: وأما النعت فلا ينبغي أن يُمنع على الإطلاق, بل يمنع إذا قُصد به التخصيص مع إقامة الفاعل مُقَام الجنس؛ لأن تخصيصه حينئذ منافٍ لذلك المقصد.
__________
1 أ، جـ.
2 قائله: هو يزيد بن قنانة بن عبد شمس العدوي, وهو من الطويل.
وصدره:
لعمري وما عمري عليَّ بهين
اللغة: "لعمري وما عمري" قسم بحياته وهو في هذا الاستعمال مفتوح العين, "وما عمري علي بهين" تأكيد للقسم, وبيان أنه ليس حانثا فيه, "المدعو بالليل" الذي تناديه مستغيثا به؛ لأنه لا يحييك حينئذ ولا يأخذ بناصرك.
الإعراب: "لعمري" اللام للابتداء, عمر مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم وياء المتكلم مضاف إليه، وخبره محذوف وجوبا: لعمرك قسمي, "وما" الواو حالية وما نافية, "عمري" مبتدأ أو اسم ما النافية وياء المتكلم مضاف إليه, "علي" متعلق بهين الآتي, "بهين" الباء زائدة وهين خبر المبتدأ أو خبر ما النافية, مرفوع على الأول أو منصوب على الثاني, بضمة أو فتحة مقدرة, "لبئس" اللام واقعة في جواب القسم, بئس فعل ماض لإنشاء الذم, "الفتى" فاعل, "المدعو" نعت للفتى, "بالليل" متعلق بالمدعو، وجملة بئس في محل رفع خبر مقدم, "حاتم" مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة الظاهرة.
الشاهد فيه: "بئس الفتى المدعو بالليل" حيث جاء فاعل بئس وهو "الفتى" منعوتا بقوله: "المدعو بالليل".
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 373 / 2, وذكره السيوطي في الهمع 85/ 2.

(2/910)


وأما إذا تؤول بالجامع لأكمل الخصال, فلا مانع من نعته حينئذ؛ لإمكان أن ينوى في النعت ما نوي في المنعوت، وعلى هذا يُحمل قول الشاعر1:
نعم الفتى المُرِّي أنت إذا هُمُ ... حضروا لدى الحُجرات نار الموقد
وحمل ابن السراج وأبو علي مثل هذا على البدل، وأَبَيَا النعت، ولا حجة لهما. انتهى.
وأما البدل والعطف, فظاهر سكوته في شرح التسهيل جوازهما.
وينبغي ألا يجوز فيهما إلا ما تباشره نعم.
ولما بين الظاهر, شرع في "بيان"2 المضمر فقال:
ويرفعان مضمرا يفسره ... مميز كنعم قومًا معشره
__________
1 قائله: هو زهير بن أبي سلمى من قصيدة يمدح بها سنان بن أبي حارثة المري, وهو من الكامل.
اللغة: "الحجرات" -بضم الحاء والجيم, أو بضم الحاء وفتح الجيم- جمع حجرة، وأراد بها هنا شدة الشتاء, "الموقد" الذي لا تخمد ناره للضيف والطارق.
الإعراب: "نعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "الفتى" فاعل, "المري" نعت للفتى, "أنت" ضمير منفصل مبتدأ مؤخر وجملة نعم خبر مقدم, "إذا" ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب, "هم" فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل بعده، والتقدير: إذا حضروا, فلما حذف الفاعل انفصل الضمير, "حضروا" فعل ماض وفاعله والجملة مفسرة, "لدى" ظرف مكان متعلق بحضر, "الحجرات" مضاف إليه, "نار" مفعول به لحضر, "الموقد" مضاف إليه.
الشاهد فيه: "نعم الفتى المري", حيث أتبع فاعل نعم وهو "الفتى" بنعت وهو "المري"؛ لأنه أريد بالنعت هنا نفس ما أريد بفاعل نعم من العموم، ولم يرد بالنعت تخصيص المنعوت بفرد مما يحتمله الجنس.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 373/ 2.
2 ب، جـ.

(2/911)


فاعل "نعم" في المثال ضمير مبهم مفسر بالتمييز بعده, و"معشره" هو المخصوص بالمدح، وسيأتي إعرابه.
ولهذا الضمير أحكام:
أحدها: أنه لا يبرز في تثنية ولا جمع؛ استغناء بتثنية تمييزه وجمعه.
وأجاز قوم من الكوفيين تثنيته وجمعه، وحكاه الكسائي عن العرب.
ومنه قول بعضهم: "مررت بقوم نعمُوا قوما" وهو نادر.
الثاني: أنه لا يُتبع لشبهه بضمير الشأن، وأما نحو: "نعم هم قوما أنتم" فهم تأكيد للضمير المستكن، وذلك شاذ لا يعرج عليه.
الثالث: أنه إذا فُسِّر بمؤنث لحقته تاء التأنيث فتقول: "نعمت امرأة هند" كذا مثله في شرح التسهيل.
وقال ابن أبي الربيع: لا تلحق، وإنما يقال: "نعم امرأة هند" استغناء بتأنيث المفسِّر، ونص خطاب على جواز الأمرين.
الرابع: ذهب القائلون بأن فاعل "نعم" الظاهر يراد به الشخص، إلى أن المضمر كذلك، وأما القائلون بأن الظاهر يراد به الجنس، فذهب أكثرهم إلى أن المضمر كذلك، وذهب بعضهم إلى أن المضمر لشخص، قال: لأن المضمر على التفسير, لا يكون في كلام العرب إلا شخصا.
ولمفسر هذا المضمر شروط:
الأول: أن يكون مؤخرا عنه، فلا يجوز تقديمه على نعم وبئس.
الثاني: أن يتقدم على المخصوص, فلا يجوز تأخيره عنه عند البصريين.
وأما قولهم: "نعم زيد رجلا" فنادر.
الثالث: أن يكون مطابقا للمخصوص في الإفراد وضدَّيه، وفي التذكير وضده.

(2/912)


الرابع: أن يكون قابلا لأل، فلا يفسر بمثل وغير وأيّ وأفعل التفضيل؛ لأنه خلف عن فاعل مقرون بأل, فاشتُرط صلاحيته لهما، وسيأتي الكلام على التمييز بما.
الخامس: أن يكون نكرة عامة، فلو قلت: "نعم شمسا هذه "الشمس""1 لم يجز؛ لأن الشمس مفرد في الوجود، ولو قلت: "نعم شمسا شمس هذا اليوم" لجاز.
ذكره ابن عصفور.
تنبيهان:
الأول: نص سيبويه على لزوم ذكر هذا التمييز، وصحح بعضهم أنه لا يجوز حذفه، وإن فهم المعنى، ونص بعض المغاربة على شذوذ "فبها ونعمت".
وقال في التسهيل: لازم غالبا2؛ استظهارا على نحو: "فبها ونعمت"3.
وممن أجاز حذفه لفهم المعنى ابن عصفور.
الثاني: ما ذكر من أن فاعل "نعم" قد "يضمر"4 فيها هو مذهب الجمهور، وذهب الكسائي إلى أن الاسم المرفوع بعد النكرة المنصوبة فاعل نعم, والنكرة عنده منصوبة على الحال, ويجوز عنده أن تتأخر فيقال: "نعم زيدٌ رجلًا", وذهب الفراء إلى أن الاسم المرفوع فاعل كقول الكسائي، إلا أنه جعل النكرة المنصوبة تمييزا منقولا.
والأصل في قولك: "نعم رجلا زيد": "نعم الرجلُ زيدٌ" ثم نقل الفعل إلى اسم الممدوح فقيل: "نعم رجلًا زيدٌ" ويقبح عنده تأخيره؛ لأنه وقع موقع الرجل المرفوع وأفاد إفادته.
__________
1 أ، جـ.
2 التسهيل ص127.
3 لأن التاء الساكنة من خصائص الأفعال.
4 أ، جـ، وفي ب "مظهر".

(2/913)


والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لوجهين:
أحدهما: قولهم: "نعم رجلا أنت" و"بئس رجلا هو", فلو كان فاعلا لاتصل بالفعل.
والثاني: قولهم: "نعم رجلا كان زيد", فأعملوا فيه الناسخ.
قوله:
وجمع تمييز وفاعل ظهر ... فيه خلاف عنهُمُ قد اشتهر
في الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر ثلاثة مذاهب:
المنع وهو مذهب سيبويه، إذ لا إبهام يرفعه التمييز.
والجواز وهو مذهب المبرد وابن السراج والفارسي.
قال المصنف: وهو الصحيح، واستدل بالقياس والسماع.
فالقياس أن التمييز قد ورد مؤكدا, لا لرفع الإبهام في نحو قوله1:
ولقد علمتُ بأن دين محمد ... من خير أديان البريّة دينا
فلا يمتنع مع الفاعل الظاهر للتوكيد "لا لرفع الإبهام"2.
__________
1 قائله: هو أبو طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو من الكامل.
الإعراب: "ولقد" اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق, "علمت" فعل وفاعل، والجملة لا محل لها جواب القسم, "بأن" الباء جارة, وأن حرف توكيد ونصب, "دين" اسم أن منصوب بالفتحة, "محمد" مضاف إليه, "من خير" متعلق بمحذوف خبر أن, "أديان" مضاف إليه, "البرية" مضاف إليه، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بعلم, "دينا" تمييز منصوب بالفتحة الظاهرة.
الشاهد فيه: "دينا", فإنه تمييز مؤكد.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 376/ 2, وذكر في القطر ص245.
2 أ، جـ.

(2/914)


والسماع قوله1:
تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا
وقول الآخر2:
والتغلبيون بئس الفحل فحلهم ... فحلا............
__________
1 قائله: هو جرير بن عطية, من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- وهو من الوافر.
اللغة: "تزود" أصل معناه: اتخذ زادا، وأراد منه هنا السيرة الحميدة وحسن المعاملة.
الإعراب: "تزود" فعل أمر مبني على السكون وفاعله ضمير مستتر, "مثل" مفعول به, "زاد" مضاف إليه, "أبيك" مضاف إليه مجرور بالياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه من الأسماء الستة والكاف مضاف إليه, "فينا" متعلق بتزود, "نعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "الزاد" فاعل، والجملة خبر مقدم, "زاد" مبتدأ مؤخر, "أبيك" مضاف إليه, وضمير المخاطب مضاف إليه, "زادا" تمييز منصوب بالفتحة الظاهرة.
الشاهد فيه: "نعم الزاد زاد" حيث جمع بين الفاعل الظاهر, والنكرة المفسرة تأكيدا.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 376/ 2, والمكودي ص109.
وذكر في المفصل 132/ 7، والمغني 90/ 2.
2 قائله: هو جرير بن عطية, من كلمة له يهجو فيها الأخطل التغلبي.
وتمامه:
........ وأمهم زلاء منطيق
وهو من البسيط.
اللغة: "زلاء" -بفتح الزاي وتشديد اللام- المرأة إذا كانت قليلة لحم الأليتين.
"منطيق" -بكسر الميم- مبالغة ناطق، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو البليغ، والمراد هنا المرأة التي تأتزر بحشية تعظم بها عجيزتها.
المعنى: يذمهم بدناءة الأصل، وبأنهم في شدة الفقر وسوء العيش حتى إن المرأة منهم لتمتهن في الأعمال وتبتذل في الخدمة، فيذهب عنها اللحم، فتضطر إلى أن تتخذ حشية.
الإعراب: "والتغلبيون" مبتدأ, "بئس" فعل لإنشاء الذم, "الفحل" فاعل، والجملة في محل رفع خبر مقدم، "فحلهم" مبتدأ مؤخر، والضمير مضاف إليه، والجملة من المبتدأ وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الذي في أول الكلام, "فحلا" تمييز, "وأمهم" مبتدأ والضمير مضاف إليه, "زلاء" خبر المبتدأ, "منطيق" نعت له.
الشاهد فيه: "بئس الفحل فحلا" حيث جمع بين فاعل بئس الظاهر وهو "الفحل", وبين التمييز وهو "فحلا".
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 376/ 2، وابن عقيل 124/ 2، والسيوطي ص88, وابن الناظم.
وذكره السيوطي في الهمع 86/ 2.

(2/915)


وقول الآخر1:
نعم الفتاةُ فتاةً هندُ لو بذلت ... رد التحية نطقا أو بإيماء
وحكي من كلام العرب: "نعم القتيلُ قتيلًا أصلح بين بكر وتغلب"2.
وهذا وارد في الاختيار.
وتأول المانع السماع. أما فحلا وفتاة وقتيلا فحال مؤكدة، وأما زادا فمصدر محذوف الزوائد، أو مفعول به "وقيل"3: حال.
__________
1 قائله: لم أقف على اسم قائله, وهو من البسيط.
اللغة: "بذلت" أعطت, "بإيماء" بإشارة، مصدر: أومأ إلى الشيء.
المعنى: أن هندا تستحق الثناء والتقدير لو تفضلت برد التحية بالنطق أو بالإشارة، ويعد ذلك منها بذلا ومنحة.
الإعراب: "نعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "الفتاة" فاعل, "فتاة" تمييز مؤكد, "هند" مخصوص بالمدح, "لو" شرطية أو حرف تمن, "بذلت" فعل الشرط, "رد" مفعول بذلت, "التحية" مضاف إليه, "نطقا" منصوب على نزع الخافض أي: بنطق, "أو بإيماء" معطوف على نطقا، وجواب الشرط محذوف للعلم به.
الشاهد فيه: "نعم الفتاة فتاة" حيث جمع بين الفاعل الظاهر وهو "الفتاة", وبين التمييز وهو "فتاة"، وليس في التمييز معنى زائد على ما يدل عليه الفاعل، ولكن الغرض منه التأكيد لا رفع إبهام شيء.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 376/ 2، وابن هشام 85/ 3.
وذكره السيوطي في الهمع 86/ 2.
2 كلمة قالها الحارث بن عباد فارس النعامة, حين بلغه أن ابنه بجيرا قد قُتل في يوم من أيام حرب البسوس.
3 ب، جـ, وفي أ "ومثل".

(2/916)


قال الشيخ أبو حيان: وعندي تأويل أقرب من هذا، وذلك أن يدعى أن في نعم وبئس ضميرا، وفحلا وفتاة وزادا تمييز تأخر عن المخصوص، وفحلهم وهند وزاد أبيك إبدال.
والمذهب الثالث التفصيل، فإن أفاد التمييز معنًى لا يفيده الفاعل جاز نحو: "نعم الرجل رجلًا عالمًا" ومنه في الأثر: "نعم المرءُ من رجل لم يطأ لنا فراشا, ولم يفتش لنا كنفا منذ أتانا"1.
ومنه قوله2:
................. ... فنعم المرء من رجل تهامي
__________
1 كنفا: سترا.
2 قائله: هو أبو بكر بن الأسود المعروف بابن شعوب الليثي، يرثي هشام بن المغيرة.
وصدره:
تخيره فلم يعدل سواه
وهو من الوافر.
اللغة: "تخيره" اصطفاه, "لم يعدل" لم يمل, "تهامي" منسوب إلى تهامة، وتطلق على مكة.
المعنى: أن الموت اختار هشاما ولم يعدل به سواه، ولم يمل إلى غيره من الناس فهو نعم الرجل من تهامة.
الإعراب: "تخيره" فعل ماض والفاعل يعود على الموت في بيت قبله والهاء مفعوله تعود على هشام في بيت قبله, "فلم" الفاء عاطفة ولم جازمة نافية, "سواه" مفعول يعدل منصوب بفتحة مقدرة على الألف والهاء مضاف إليه, "فنعم" عاطفة ونعم فعل ماض, "المرء" فاعل, "من" زائدة, "رجل" تمييز للمرء منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها حرف الجر الزائد, "تهامي" صفة لرجل.
الشاهد فيه: "نعم المرء من رجل" حيث جمع بين فاعل نعم الظاهر وهو "المرء", وبين التمييز وهو "من رجل"، وقد أفاد التمييز معنى زائدا عما أفاده الفاعل، وذلك بواسطة نعته.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 376/ 2، وابن هشام 85/ 3, وذكره ابن يعيش 133/ 7، والسيوطي في الهمع 86/ 4.

(2/917)


وقوله1:
وقائلة نعم الفتَى أنت من فتًى ... .............
لأن المعنى: من مُتَفَتٍّ أي: كريم. فأفاد ما لا يفيده الفاعل، وإلا لم تجز، وصححه ابن عصفور.
تنبيه:
ما نقل عن سيبويه من المنع هو المعروف من مذهبه، وتأول الفارسي كلامه على أنه إنما عنى أنه لا يكون الفاعل ظاهرا حيث يلزم التمييز, بل الفاعل في حال لزوم التمييز مضمر لا غير، وفيه بعد.
وقوله:
ومما مُمَيِّز وقيل فاعل ... في نحو نعم ما يقول الفاضل
إذا وقعت ما بعد نعم وبئس, فتارة يليها فعل نحو: "نعم ما صنعت", وتارة يليها اسم نحو: {فَنِعِمَّا هِيَ} 2.
__________
1 قائله: هو الكروس بن حصن, وقيل: ابن زيد, وهو من الطويل.
وتمامه:
إذا المرضع العوجاء جال بريمها
اللغة: "المرضع" المرأة التي لها ولد ترضعه, "العوجاء" التي اعوجّت هزالا وجوعا, "جال" تحرك, "بريمها" البريم -بفتح الباء وكسر الراء- خيط يفتل على طاقين.
المعنى: يمدح نفسه بأنه كريم في وقت الشدة التي تضنّ فيها النفوس، حتى إن كثيرا من النساء يمتدحنه.
الإعراب: "وقائلة" الواو واو رب, وقائلة مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد, "نعم" فعل ماض, "الفتى" فاعل والجملة خبر مقدم، "أنت" مبتدأ مؤخر, "من" حرف جر زائد, "فتى" تمييز لفاعل نعم, "إذا" ظرف زمان, "المرضع" فاعل لفعل محذوف يدل عليه الكلام بعده, أي: إذا هزلت المرضع, "العوجاء" نعت للمرضع, "جال" فعل ماض, "بريمها" فاعل والضمير مضاف إليه.
الشاهد فيه: "نعم الفتى أنت من فتى" حيث جمع الفاعل الظاهر وهو "الفتى", والتمييز وهو "فتى", وأفاد التمييز معنى زائدا عن الفاعل.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 376/ 2.
2 من الآية 271 من سورة البقرة.

(2/918)


فإن وليها فعل ففيها عشرة أقوال, ومرجعها إلى أربعة:
أحدها: أنها نكرة في موضع نصب على التمييز.
والثاني: أنها في موضع رفع على الفاعلية.
والثالث: أنها المخصوص.
والرابع: أنها كافة.
فأما القائلون بأنها في موضع نصب على التمييز, فاختلفوا على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها نكرة موصوفة بالفعل بعدها والمخصوص محذوف، وهو مذهب الأخفش والزجاج والفارسي في أحد قوليه والزمخشري وكثير من المتأخرين.
والثاني: أنها نكرة غير موصوفة والفعل بعدها صفة لمخصوص محذوف1.
والثالث: أنها تمييز والمخصوص "ما" أخرى موصولة "محذوفة"2, والفعل صلة لما الموصولة المحذوفة, ونُقل عن الكسائي.
وأما القائلون بأنها الفاعل, فاختلفوا على خمسة أقوال:
الأول: أنها اسم معرفة تام أي: غير مفتقر إلى "صلة"3، والفعل بعدها صفة لمخصوص, والتقدير: نعم الشيء شيء صنعت، وقال به قوم منهم ابن خروف, ونقله في التسهيل عن سيبويه والكسائي4.
والثاني: أنها موصولة، والفعل صلتها, والمخصوص محذوف، ونُقل عن الفارسي.
__________
1 أي: شيء.
2 ب، جـ.
3 أ، جـ, وفي ب "جملة".
4 التسهيل ص126.

(2/919)


والثالث: أنها موصولة، والفعل صلتها، وهي فاعل يكتفى بها وبصلتها عن المخصوص. ونقله في شرح التسهيل عن الفراء والفارسي.
والرابع: أنها مصدرية ولا حذف هنا، وتأويله: بئس صنعك، وإن كان لا يحسن في الكلام: بئس صنعك حتى تقول: بئس الصنع صنعك، كما تقول: أظن أن تقوم، ولا تقول: أظن قيامك.
والخامس: أنها نكرة موصوفة في موضع رفع1.
"وأما القائل بأنها المخصوص, فقال: إنها موصولة وهي المخصوص وما أخرى محذوفة، والأصل: نعم ما ما صنعتَ، والتقدير: نعم شيئا الذي صنعته, وهذا قول الفراء"2.
وأما القائل بأنها كافة, فقال: إنما كفت نعم كما كفت قلّ, فصارت تدخل على الجملة الفعلية.
وإن وليها اسم, ففيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنها نكرة في موضع نصب على التمييز, والفاعل مضمر والمرفوع "بعد "ما""3 هو المخصوص. قيل: وهو مذهب البصريين.
قلت: ليس هذا النقل على إطلاقه؛ لما سيذكر.
والثاني: أنها معرفة تامة، وهي الفاعل، وهو ظاهر مذهب سيبويه، ونقل عن المبرد وابن السراج والفارسي، وهو قول الفراء.
والثالث: أن "ما" ركبت مع الفعل، فلا موضع لها من الإعراب والمرفوع بعدها هو الفاعل، وقال به قوم وأجازه الفراء.
__________
1 والمخصوص محذوف.
2 أ، جـ.
3 أ، جـ, وفي ب "بعدها".

(2/920)


تنبيهات:
الأول: قد ظهر مما ذكرته أن قوله: "وما مميز" صادق على ثلاثة أقوال, وأن قوله: "وقيل: فاعل" صادق على خمسة "أقوال"1 إلا أن الظاهر أنه "إنما"2 أراد الأول من الثلاثة والأول من الخمسة؛ لاقتصاره عليهما في شرح الكافية.
الثاني: يندرج في كلامه صورتان -أعني: ما وليه الفعل وما وليه الاسم- فإن القول بأن "ما" تمييز أو فاعل جاز فيهما.
الثالث: ظاهر عبارته هنا يشير إلى ترجيح القول الذي بدأ "به"3 وهو أن "ما" تمييز, وكذا عبارة الكافية، وذهب في التسهيل4 إلى أنها معرفة تامة وأنها فاعل، ونقله عن سيبويه والكسائي, واستدل بأوجه:
أحدها: أن "ما" مساوية للضمير في الإبهام، فلا تكون تمييزا.
والثاني: أنه كثر الاقتصار عليها في نحو: "غسلته غسلا نعما", والنكرة التالية نعم لا يقتصر عليها إلا نادرا.
والثالث: أن التمييز في هذا الباب, وفي غيره أيضا لا بد أن يكون قابلا لأل, ونص ابن عصفور وغيره على أن التمييز لا يكون إلا بالأسماء المتوغلة في البناء, لا بالمتوغلة في الإبهام "كَسِيّ"5 ولا أدخل في الإبهام، والبناء من ما.
الرابع: جزم المصنف بنقل هذا المذهب عن سيبويه نظرا, فإن مستنده قول سيبويه "في"6: دققته دقا نعما، أي: نعم الدق.
وفي فنعما هي: نعم الشيء إبداؤها, وهو محتمل لأن يكون تفسير معنى، لا تفسير إعراب.
__________
1 ب، جـ.
2 ب، جـ.
3 أ.
4 التسهيل ص126.
5 ب، جـ.
6 ب، جـ.

(2/921)


وقوله في الكافية: والرفع بعضهم نمى، لسيبويه, وادعى التعريف مع تمام ما وظاهر قد اتبع، ظاهر في عدم الجزم.
وقوله:
ويُذكر المخصوص بعد مبتدا ... أو خبر اسم ليس يبدو أبدا
المخصوص هو المقصود بالمدح بعد "نعم", وبالذم بعد "بئس".
وله ثلاث أحوال:
الأولى: أن يذكر بعد فاعلها نحو: "نعم الرجلُ زيدٌ" وفي إعرابه حينئذ ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ واجب الإضمار.
وهذا معنى قوله: "ليس يبدو أبدا".
والثالث: أن يكون مبتدأ حُذف خبره.
"والأول هو الصحيح"1 وبه جزم سيبويه.
قال ابن الباذش2: لا يجيز سيبويه أن يكون المخصوص بالمدح أو الذم إلا مبتدأ.
وأجاز الثاني جماعة, منهم السيرافي وأبو علي والصيمري.
وذكر في شرح التسهيل أن سيبويه أجازه، وعبارة سيبويه فيها احتمال، ومن تأمّل كلامه لم يجد فيه ذكرا له.
__________
1 أ، جـ.
2 هو أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن الباذش. وُلد بغرناطة وشبّ على حب الفضيلة والزهد في الدنيا، وبرع في الشريعة والعربية، وبذل همه في النحو فشرح أمهات الكتب؛ إذ شرح كتاب سيبويه، والأصول لابن السراج، والمقتضب للمبرد, وغير ذلك.
توفي بغرناطة سنة 538هـ.

(2/922)


قال في شرح التسهيل: والأول أولى، بل هو عندي متعين؛ لصحته في المعنى وسلامته من مخالفة أصل بخلاف الثاني، فإنه يلزم منه أن ينصب لدخول كان عليه، وأما الثالث فأجازه قوم منهم ابن عصفور، وقال في شرح التسهيل: هو غير صحيح؛ لأن هذا الحذف ملتزم ولم نجد خبرا يلتزم حذفه إلا ومحله مشغول بشيء يسد مسده.
وذهب ابن كيسان إلى أن المخصوص بدل من الفاعل، وردّ بأنه لازم وليس البدل بلازم، وبأنه لا يصلح لمباشرة نعم.
والثانية: أن يذكر قبل نعم وبئس، وهو حينئذ مبتدأ والجملة بعده خبر, سواء أقيل بفعلية نعم وبئس أم باسميتهما، وجوّزوا على القول بالاسمية أن يكونا مبتدأين والمخصوص الخبر والعكس.
فإن قلت: إذا جعل المخصوص مبتدأ والجملة خبره, فما هو الرابط؟
قلت: الرابط عند الجمهور هو العموم الذي في الفاعل, ويجوز دخول نواسخ الابتداء عليه كقول الشاعر1:
__________
1 قائله: يزيد بن الطثرية, وهو من الطويل.
اللغة: "تعذير حاجة" عسرها وعدم تأتِّي قضائها, "أمارس فيها" أعالجها وأحتال لقضائها.
الإعراب: "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان, "أرسلوني" فعل ماض وواو الجماعة فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم مفعول به, "عند" ظرف متعلق بأرسل, "تعذير" مضاف إليه, "حاجة" مضاف إليه, "أمارس" فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه, "فيها" متعلق بأمارس, "كنت" كان واسمها, "نعم" فعل ماض لإنشاء المدح, "الممارس" فاعل، والجملة في محل نصب خبر كان.
الشاهد فيه: "كنت نعم الممارس".
حيث دخلت كان على نعم وفاعلها, وهي من النواسخ.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 379/ 2, وذكره السيوطي في الهمع 88/ 2.

(2/923)


إذا أرسلوني عند تعذير حاجة ... أمارس فيها كنتُ نِعْمَ الممارسُ
وكقول الآخر1:
إن ابن عبد الله نِعْمَ ... أخو الندى وابن العشيرهْ
والثالثة: أن يحذف للدلالة عليه كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} 2.
وإلى هذا أشار بقوله:
وإن يُقَدَّم مشعر به كفى
فإن قلت: قد ظهر بما قدمته أن المخصوص لا يجب تأخيره.
وقوله: ويذكر المخصوص بعد، يقتضي أن يكون متأخرا.
قلت: ما ذكرته من جواز تقديمه, صرح به ابن عصفور والمصنف في التسهيل, وعبارته هنا وفي الكافية وشرحها تُوهِم منع تقديمه, بل قوله:
وإن يقدم مشعر به كفى ... كالعلم نعم المقتنَى والمقتفَى
__________
1 قائله: هو أبو دهبل الجمحي من كلمة يمدح فيها المغيرة بن عبد الله, وهو من الكامل.
اللغة: "أخو الندى" -بفتح النون وتخفيف الدال- أي: صاحب الكرم والسخاء.
الإعراب: "إن" حرف توكيد ونصب, "ابن" اسم إن منصوب بالفتحة, "عبد" مضاف إليه ولفظ الجلالة مضاف إليه, "نعم" فعل ماض, "أخو" فاعل مرفوع بالواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الستة, "الندى" مضاف إليه, "وابن" عطف على أخو, "العشيرة" مضاف إليه، وجملة نعم وفاعله في محل رفع خبر إن.
الشاهد فيه: "إن ابن عبد الله نعم أخو الندى" حيث دخل الناسخ, وهو "إن" على نعم وفاعلها.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 379/ 2, وذكره السيوطي في الهمع 87/ 2.
2 من الآية 44 من سورة ص.

(2/924)


تصريح بأن المتقدم ليس هو المخصوص, بل مشعر به.
والظاهر أن هذا المثال مما تقدم فيه المخصوص، لا مما حذف فيه لدلالة ما قبله.
فإن قلت: كيف خير المصنف بين جعله مبتدأ وجعله خبرا وليسا سواء؛ لأن الأول متفق عليه والثاني قد منعه بعضهم, ومن أجازه فهو أضعف عنده من الأول.
قلت: التخيير بينهما يقتضي جوازهما لا استواءهما في القوة، مع أنه يحتمل ألا يكون تخييرا, بل حكاية خلاف، وقد جرت عادة كثير بعطف الأقوال بأو.
فإن قلت: يحتمل قوله: "مبتدأ" القولين السابقين, "فإنما"1 يحمل كلامه عليه.
قلت: على أن خبره ما قبله؛ إذ لو أراد الآخر لبين أن الخبر محذوف.
تنبيه:
للمخصوص شرطان:
أحدهما: أن يختص وهو شرط غالب كقولهم: "نِعْمَ البعير جمل".
الثاني: أن يكون أخص من الفاعل.
وقوله:
واجعل كبئس ساء......
يعني: معنًى وحكمًا, فتقول: "ساء الرجل أبو جهل", و"ساء رجلًا هو".
فإن قلت: ما وزن ساء؟
قلت: فَعُل -بضم العين- بدليل أنها للمبالغة في الذم؛ ولذلك قيل: لا حاجة لإفراد ساء بالذكر؛ لأنها من أفراد النوع الآتي، وألفها عن واو.
وهي فعل لا يتصرف.
__________
1 أ، جـ, وفي ب "فإنهما".

(2/925)


وقوله:
...... واجعل فَعُلا ... من ذي ثلاثة كنعم
يجوز بناء فعل -بضم العين- من كل فعل ثلاثي، ويجعل مثل نعم وبئس في عدم التصرف، وإفادة المدح والذم, واقتضاء فاعل كفاعل نعم وبئس، فيكون ظاهرا مصاحبا لأل أو مضافا إلى صاحبها أو ضميرا مفسَّرا بتمييز على ما تقدم من التفصيل.
وسواء في ذلك ما وضع على فَعُل كقوله تعالى: { ... كَبُرَتْ كَلِمَةً} 1, أو وضع على فعَل أو فعِل ثم حُول نحو: "قَضُوَ الرجل فلان" و"علُم الرجل زيد".
وقوله: "مسجلا" قال الشارح: أي: بلا قيد، يقال: أسجلت الشيء, إذا أمكنت من الانتفاع مطلقا.
فإن قلت: كيف قال: "مسجلا" وبناء فَعْل من الثلاثي؛ لقصد المدح والذم, مشروط بأن يكون مما يتعجب منه بقياس؟ نص على ذلك ابن عصفور, وحكاه عن الأخفش.
قلت: لعل قوله: "مسجلا" يعني به أن فعل المذكور يجعل مثل نعم مطلقا, أي: في جميع أحكامها.
ويحتمل أن يكون قال: "مسجلا" ليشمل "المصوغ"2 على فعُل, والمصوغ على فعَل أو فعِل.
فإن قلت: مقتضى كلامه أن معنى فعل المذكور إذا قصد به المدح كمعنى نعم, وإذا قصد به الذم كمعنى بئس، وليسا بسواء لأن العرب لا تبني فعُل المذكور وتُضَمِّنه معنى المدح أو الذم, إلا إذا أرادوا معنى التعجب، نص على ذلك ابن عصفور.
فهو إذن يدل على المدح والذم, وزيادة معنى التعجب.
__________
1 من الآية 5 من سورة الكهف.
2 أ, وفي ب، جـ "الموضوع".

(2/926)


قلت: لا نسلم أن مقتضى كلامه أن فعل المذكور بمعنى نعم وبئس, بل يكون قوله: واجعل فعلا كنعم, يعني: في الحكم لا في المعنى، ويؤيده أنه لم يذكر في النظم بئس.
وليس كل فعل للمدح, فكيف يجعل مثل نعم في المعنى؟
وقد ذكر في التسهيل أن فعل المذكور مضمن معنى التعجب1.
فإن قلت: وفي جعل فعُل المذكور مثل نعم في جميع أحكامها نظر؛ لأن من أحكامها أن فاعلها لا يكون إلا مقرونا بأل أو مضافا إلى المقرون بها أو مضمرا يفسره تمييز إلا ما ندر.
وفَعُل المشار إليه يكثر انجرار فاعله بالباء واستغناؤه عن أل وإضماره على وفق ما قبله, كما ذكر في التسهيل2 خلاف نعم3.
قلت: ذكر أبو الحسن الأخفش أن من العرب من يجري فعل المذكور مجرى نعم وبئس, فيجعل فاعله كفاعلهما؛ رعيًا لما تضمنه من معنى المدح والذم.
ومنهم من لا يجريه مجراهما، فلا يلزم إذ ذاك أن يكون فاعله كفاعل نعم وبئس؛ رعيا "لما فيه"4 من معنى التعجب.
وظاهر هذا أنهما لغتان.
تنبيه:
مثل في شرح الكافية وشرح التسهيل بعلُم الرجل، وذكر ابن عصفور أن العرب شذت في ثلاثة ألفاظ فلم تحوِّلها إلى فَعُل، بل استعملتها استعمال نعم من غير تحويل، وهي: عَلِم وجَهِل وسَمِع.
__________
1 التسهيل ص128.
2 التسهيل ص128.
3 مثال ذلك قول الشاعر:
حُبَّ بالزور الذي لا يُرَى ... منه إلا صفحة أو لِمام
وفهُم زيد, والزيدون كرموا رجالا؛ نظرا لما فيه من معنى التعجب هـ 38/ 2 أشموني.
4 ب، جـ، وفي أ "لما فاته".

(2/927)


وقوله: ومثل نعم حَبَّذا.
يعني: أن حبذا بمنزلة نعم وفاعلها في إفادة المدح.
فإن قلت: مقتضى عبارته أن "حبذا" بمجموعه مثل "نعم" وليس كذلك، بل حب بمنزلة نعم، وإذا بمنزلة فاعل نعم.
قلت: كأنه قصد التنبيه على أن حب الذي هو بمنزلة نعم "هو"1 المقرون بذا.
فلذلك لم يقل: "ومثل نعم حب".
فإن قلت: ليس حبذا مثل نعم كما ذكر؛ لأن حبذا يشعر مع دلالتها على المدح العام، بأن الممدوح محبوب وقريب من النفس بخلاف نعم.
قال في شرح التسهيل: والصحيح أن "حب" فعل يقصد به المحبة والمدح.
وجعله فاعله "ذا"؛ ليدل بذلك على الحضور في القلب.
قلت: إنما جعلها مثلها في إفادة المدح العام، فلا ينافي ذلك إشعارها بما ذكر.
وقوله: "الفاعل ذا" هو "ظاهر"2 مذهب سيبويه، وهو المختار. قال ابن خروف بعد أن مثّل بحبذا زيد: حب فعل وذا فاعلها، وزيد مبتدأ وخبره حبذا, هذا قول سيبويه. وأخطأ عليه من زعم غير ذلك.
وفي قوله: "الفاعل ذا" تعريض بالرد على القائلين بتركيب حب مع ذا, ولهم مذهبان:
أحدهما: أن التركيب أزال فاعلية "ذا", فصار "ذا"3 مع حب اسما واحدا مرفوعا بالابتداء وخبره ما بعده.
وهو مذهب المبرد وابن السراج ووافقهما ابن عصفور، ونسبه إلى سيبويه.
وأجاز بعضهم كون "حبذا"4 خبرا مقدما.
__________
1 أ، ب, وفي جـ "هي".
2 جـ.
3 أ.
4 أ، جـ, وفي ب "ذا".

(2/928)


والآخر: أن التركيب أزال اسمية "ذا", فصار مع حب فعلا فاعله المخصوص, وإليه ذهب قوم منهم الأخفش.
والصحيح: القول بعدم التركيب؛ لأن فيه إقرار كل من اللفظين على ما كان عليه.
وقوله:
وإن تُرِدْ ذما فقل لا حبذا
يعني: أنه إذا أُريد الذم أدخلت "لا" النافية؛ لأن نفي المدح ذم.
قال في شرح التسهيل: وتدخل عليها "لا" فتحصل موافقة بئس معنى, وقد تقدم بيان ما يشعر به حبذا مما لا يدل عليه نعم, ولا بئس.
وقوله:
وأول ذا المخصوص......
يعني: اجعل المخصوص بالمدح أو الذم تابعا لذا.
ففُهم من ذلك أنه لا يتقدم، وهذا فرق بينه وبين نعم وبئس، فإن "مخصوصهما"1 لا يمتنع تقديمه.
قال في شرح التسهيل: أغفل أكثر النحويين التنبيه على امتناع تقديم المخصوص في هذا الباب.
فإن قلت: ما سبب امتناعه؟
قلت: ذكر ابن بابشاذ أن سبب ذلك خوف توهم كون المراد من "زيد حبذا": "زيد حب هذا".
قال في شرح التسهيل: وتوهم هذا بعيد، فلا ينبغي أن يكون المنع من أجله، بل المنع من أجل إجراء "حبذا" مجرى المثل.
وقوله: "أيا كان" يعني: أي شيء كان المخصوص, مذكرا كان أو مؤنثا،
__________
1 ب، جـ، وفي أ "مخصوصها".

(2/929)


مفردا كان أو مثنى أو مجموعا، فنقول: "حبذا زيد" و"حبذا الزيدان" و"حبذا الزيدون" و"حبذا هند" و"حبذا الهندان" و"حبذا الهندات".
وقوله: "لا تعدل بذا" يعني: أن لفظ "ذا" لا يغير في تأنيث ولا تثنية ولا جمع.
فلا يقال: "حبذي هند" ولا "حبذان الزيدان" ولا "حبَّ أولاء الزيدون", واختلف في علة ذلك فقيل: لأنه جرى مجرى المثل، والأمثال لا تُغير.
وإليه أشار بقوله: فهو يضاهي المَثَلا.
وقال الفارسي: "ذا" جنس شائع، فلا يختلف كما لا يختلف الفاعل في نعم.
يعني: إذا كان ضميرا.
وقال ابن كيسان: إنما لم يختلف؛ لأن الإشارة فيه أبدا إلى مذكر محذوف، والتقدير في حبذا هند: حبذا حُسنُ هند، وكذا باقي الأمثلة.
ورُدّ بأنه دعوى لا دليل عليها.
تنبيهان:
الأول: إنما يُحتاج إلى الاعتذار عن عدم مطابقته1 على قول من جعل "ذا" فاعلا، وأما على التركيب فلا يحتاج إلى اعتذار.
الثاني: لم يذكر هنا إعراب المخصوص بعد "حبذا"، وأجاز في التسهيل2 أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وأن يكون خبر مبتدأ واجب الحذف.
وإنما لم يذكر ذلك هنا؛ استغناء بتقديم الوجهين في مخصوص نعم.
وقال ابن كيسان: هو بدل من "ذا".
__________
1 في الأصل "عن مطابقة في الأصل".
2 التسهيل ص129.

(2/930)


ورُدّ بلزومه على القول بأن "ذا" فاعل، وأما على القول بالتركيب فتقدم إعرابه.
فإن قلت: إذا أعرب المخصوص مبتدأ والجملة قبله خبره، فما الرابط؟
قلت: الرابط الإشارة أو العموم إذا قلنا: إن "ذا" أريد به الجنس.
الثالث: بين مخصوص حبذا, ومخصوص نعم فروق:
أولها: أن مخصوص حبذا لا يتقدم، بخلاف مخصوص نعم، وقد سبق بيانه.
وثانيها: أنه لا تعمل فيه النواسخ، بخلاف مخصوص نعم.
وثالثها: أن إعرابه خبر مبتدأ محذوف أسهل منه في باب "نعم"؛ لأن ضعفه هناك نشأ من دخول نواسخ الابتداء عليه، وهي هنا لا تدخل.
قاله في شرح التسهيل.
ورابعها: أنه يجوز لك التمييز قبله وبعده نحو: "حبذا رجلًا زيدٌ" و"حبذا زيدٌ رجلًا".
قال في شرح التسهيل: وكلاهما سهل يسير، واستعماله كثير، إلا أن تقديم التمييز أولى وأكثر. انتهى.
وذلك بخلاف مخصوص "نعم"، فإن تأخير التمييز عنه نادر كما سبق.
وقوله:
وما سوى ذا ارفع بحُبَّ أو فَجُر
يعني: أن "حب" قد تفرد عن "ذا" مع إرادة المدح, فيجيء فاعلها مرفوعا نحو: "حب زيد", ومجرورا بباء زائدة نحو: "حب بزيد".
قال في شرح التسهيل: وهذا الاستعمال جائز في كلام ثلاثي, مضمن معنى التعجب.
وقوله:
ودون ذا انضمام الحا كثُر

(2/931)


يعني: كثر ضم الحاء إذا أفردت من "ذا", فيقال: "حب زيد" بنقل حركة العين إلى الفاء، والفتح جائز، وبالوجهين ينشد قوله1:
................... ... وحُبّ بها مقتولة حين تُقتَل
وأما مع "ذا", فلا يجوز إلا الفتح.
فإن قلت: قوله2 لا يدل على أنه أكثر من الفتح.
وقال الشارح: وأكثر ما يجيء "حب"3 مع غير "ذا" مضمومة الحاء.
قلت: قال في شرح الكافية: وهذا التحويل مطرد في كل فعل مقصود به المدح.
وقال في التسهيل: وكذا كل فعل حَلْقي الفاء مراد به مدح أو تعجب4.
__________
1 قائله: الأخطل التغلبي، من كلمة يمدح فيها خالد بن الوليد بن أسيد أحد أجواد العرب.
وصدره:
فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها
وهو من الطويل.
اللغة: "اقتلوها" الضمير يعود إلى الخمر، وقتلها: مزجها بالماء؛ لأنه يدفع سورتها, "وحب بها" ويروى في مكانه: "وأطيب بها".
المعنى: يتعجب من كثرة محبته للخمر إذا مُزجت بالماء، فهو لذلك يأمر أصحابه بأن يشعشعوها له بالماء؛ لتكون على الوجه الذي يحبه ويرغب فيه.
الإعراب: "فقلت" فعل وفاعل, "اقتلوها" فعل أمر وفاعله ومفعوله، والجملة في محل نصب مقول القول, "عنكم" متعلق باقتلوا, "بمزاجها" متعلق باقتلوا أيضا, "وحب" فعل ماض لإنشاء المدح, "بها" الباء زائدة، والضمير فاعل حب, "مقتولة" تمييز, "حين" ظرف متعلق بحب, "تقتل" فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بالضمة، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه، والجملة في محل جر بإضافة "حين" إليها.
الشاهد فيه: "وحب بها" فإنه يروى بفتح الحاء من "حب" وضمها، والفاعل غير "ذا".
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 382/ 2، وابن عقيل 131/ 2, وابن الناظم.
2 قوله: أي: "كثر".
3 ب.
4 التسهيل ص176.

(2/932)