توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك

التحذير والإغراء:
إياك والشرَّ ونحوَه نَصَبْ ... مُحذِّرٌ بما استتارُه وَجَبْ
إنما ذكر التحذير والإغراء بعد باب النداء؛ لأن الاسم في التحذير والإغراء مفعول به بفعل لا يجوز إظهاره كالمنادى، على تفصيل سيأتي.
والتحذير: هو تنبيه المخاطب على مكروه يجب الاحتراز منه، ويكون بثلاثة أشياء: بإياك وأخواته، وبما ناب عنها من الأسماء المضافة إلى ضمير المخاطب، وبذكر المحذر منه.
فإن كان بإياك وأخواته وجب إضمار ناصبه مطلقا، أعني في إفراده وتكراره والعطف عليه، وقد مثل العطف "عليه"1 بقوله: "إياك والشر" فإياك مفعول بفعل واجب الإضمار تقديره: اتق، ونحوه.
فإن قلت: هل يقدر قبل إياك أو بعده؟
قلت: قيل: يجب تقديره بعده؛ لأنه لو قدر قبله لاتصل به فيلزم تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل، وذلك خاص بأفعال القلوب وما ألحق بها.
وقيل: كان الأصل: اتقِ نفسك، فلما حذف الفعل استغني عن النفس وانفصل الضمير.
واختلف في إعراب ما بعد الواو. فقيل: هو معطوف على إياك، والتقدير: اتقِ نفسك أن تدنو من الشر والشر أن يدنو منك. "وهذا"2 مذهب كثير منهم السيرافي واختاره ابن عصفور.
فإن قلت: كيف جاز عطفه على إياك وهما مختلفان في الحكم؛ لأن الأول محذر والثاني محذر منه؟
__________
1 أ، ج.
2 أوفي ب، ج "وهو".

(3/1153)


قلت: الجواب أنه لا يلزم اشتراك المعطوف والمعطوف عليه إلا في المعنى الذي كان إعرابه بسببه، والتقدير السابق يوضح ذلك.
وذهب ابن طاهر وابن خروف إلى أن الثاني منصوب بفعل آخر مضمر، فهو عندهما من قبيل عطف الجمل، واختار في شرح التسهيل مذهبا ثالثا وهو أن الثاني معطوف عطف مفرد لا على التقدير الأول، بل على تقدير: اتقِ تلاقي نفسك والشر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، قال: ولا شك في أن هذا أقل تكلفا فكان أولى.
ومثال التكرار: "إياك إياك من الشر"، ومثال الإفراد: "إياك من الشر".
وقد نبه على وجوب إضمار ناصب "إيا" في الإفراد بقوله:
ودون عطف ذا لإيا انْسُبْ ... ........................
وإن كان التحذير بغير "إيا" لم يلزم الإضمار إلا مع العطف نحو: "مازِ رأسك والسيف، والشيطان وكيده".
أو التكرار نحو: "رأسك رأسك" و"الأسد الأسد".
فإن عدم العطف والتكرار جاز الإظهار والإضمار نحو: "رأسك" وإن شئت: قِ رأسك والأسد، وإن شئت: احذر الأسد، وإلى هذا أشار بقوله:
................... وما ... سواه سَتْرُ فعله لن يلزما
إلا مع العطف أو التكرار
ومثل التكرار بقوله:
............................. ... كالضيغمَ الضيغمَ يا ذا الساري
والضيغم: الأسد.
فإن قلت: ما علة التزام الإضمار مع "إيا" مطلقا، ومع غيرها في العطف والتكرار؟
قلت: علة التزامه مع "إيا" كثرة الاستعمال فشابهت بذلك الأمثال، وغيرها ليس كذلك، إلا أن العطف والتكرار جعلا كالبدل من اللفظ بالفعل؛ فذلك وجب إضماره معهما.

(3/1154)


تنبيهات:
الأول: أجاز بعضهم إظهار العامل مع المكرر، وقال الجزولي: يقبح ولا متنع.
الثاني: شمل قوله: "وما سواه" يعني: النوعين المتقدم ذكرهما، أعني: ما ناب عن إيا من الأسماء المضافة إلى ضمير المخاطب منه.
وكلامه في الكافية وشرحها يقتضي عدم لزوم الإضمار مع التكرار في الأول من هذين النوعين، فإنه قال:
ونحوُ رأسَك كإياك جُعل ... إذا الذي يُحْذَرُ معطوفا وُصِلْ
وقال في الشرح: فلو لم يذكر المعطوف جاز الإظهار والإضمار، وقد صرح الشارح بوجوب الإضمار في نحو "رأسك" رأسك؛ لأجل التكرار.
الثالث: لا يعطف في هذا الباب إلا بالواو1.
الرابع: لا يحذف العاطف بعد إياك إلا والمحذور مجرور بمن نحو: "إياك من الشر" "وتقديرها مع أن تفعل"2 كاف نحو: "إياك أن تفعل" أي: من أن تفعل.
فأما بيت الكتاب وهو3:
فإياكَ إياكَ المراءَ فإنه ... إلى الشر دَعَّاءٌ وللشر جَالِبُ
__________
1 وكون ما بعدها مفعولا معه جائز، فإذا قلت: "إياك وزيدا أن تفعل كذا" صح أن تكون الواو مع. هـ أشموني.
2 أ، ج. وفي ب "وتقريرها مع أن".
3 قائله: هو الفضل بن عبد الرحمن القرشي، وهو من الطويل.
اللغة: "المراء" الجدال والمعارضة بالباطل "دعاء" صيغة مبالغة من دعا فلان فلانا: إذا طلب حضوره "جالب" مسبب له، من جلبه: إذا ساقه وجاء به.
المعنى: أحذرك الجدال والمعارضة مع الناس من غير وجه حق، فإن ذلك كثيرا ما يجر إلى الشرور ويسبب للإنسان متاعب.
الإعراب: "فإياك" منصوب على التحذير بفعل محذوف وجوبا "إياك" الثانية توكيد للأول. "المراء" مفعول ثانٍ لفعل التحذير المحذوف -أي: أحذر المراء- "فإنه" الفاء للتعليل وإن واسمها "إلى الشر" متعلق بدعاء الواقع خبرا لإن "وللشر" جار ومجرور متعلق بجالب المعطوف بالواو على دعاء.
الشاهد: قوله "إياك" فإنه تحذير ومعناه احذر.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 480/ 2، وابن هشام 148/ 3، وذكره سيبويه 141/ 2، وشرح المفصل 25/ 2، وفي المغني 190/ 2، والشاهد 167 في الخزانة.

(3/1155)


فقيل: هو على حذف الجار للضرورة، وقيل: على حذف العاطف للضرورة أيضا، وقيل: إنه بدل من إياك، وقيل: أضمر له ناصب آخر بعد إياك، فقوله: إياك إياك مستقل بنفسه، ثم أضمر بعد إياك فعلا تقديره: اتقِ المراء، على هذا حمله سيبويه.
قال في شرح التسهيل: وعلى كل حال فلا يجوز مثل هذا إلا في الشعر. انتهى.
وقوله: في باب التحذير من التسهيل1: ولا يحذف العاطف بعد إيا إلا والمحذر منصوب بإضمار فعل أو مجرور بمن. يقتضي جواز إياك المراء ونحوه على إضمار فعل؛ لتسويته بينه وبين الجر بمن.
قال أبو البقاء العكبري: في نحو: "إياك الشر" المختار عندي أن يضمر له فعل يتعدى إلى مفعولين نحو: "جنب نفسك الشر" "فإياك في موضع نفسك"2، ومثل الشارح إفراد إيا بقوله: "إياك الشر" وقال: تقديره أحذرك الشر، وهو نظير "إياك المراء" وظاهر تقديره أن الناصب لهما فعل واحد متعد إلى اثنين فهو نحو مما قاله أبو البقاء.
فإن قلت: إذا جعل ناصب المراء فعلا مضمرا بعد إياك فهل يكون إضماره واجبا أم جائزا؟
قلت: قال ابن عصفور: إن حذفت الواو لم يلزم إضمار الفعل نحو: "فإياك إياك المراء".
تقديره: دَعِ المراء، ولو كان في الكلام لجاز إظهار هذا الفعل. انتهى.
وشذ إياي، وإياه أشذ ... ....................
__________
1 التسهيل ص192.
2 ب، ج.

(3/1156)


الشائع في التحذير أن يراد به المخاطب.
وقد ورد للمتكلم كقول من قال: "إيايَ وأن يحذِفَ أحدُكم الأرنبَ"1 أي: إياى نح عن حذف الأرنب ونح حذف الأرنب عن حضرتي، فعلى هذا هو جملة واحدة. وقال الزجاج: إن ذلك جملتان، والتقدير: إياي وحذف الأرنب وإياكم وحذف أحدكم الأرنب، فحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني "وحذف"2 من الثاني ما أثبت نظيره في الأول، وقال بعضهم: إياي ليس على "معنى فعل أمر بل على معنى"3 إياي باعد، فجعله خبرا. وقد ورد للغائب في قولهم: "إذا بلغ أحدكم الستين فإياه وإيا الشواب"4، وإليه أشار بقوله: "وإياه أشذ" أي: أشذ من إياي، وفي هذا المثل شذوذ من وجه آخر، وهو إضافة "إيا" إلى الظاهر.
وعن سبيل القَصْد مَنْ قاس انتبَذْ
يقتضي منع القياس "على إياي وعلى إياه فلا يستعمل إلا حيث سمع"5.
"قلت: ظاهر كلامه في التسهيل جواز القياس"6 على المتكلم؛ لأنه قال بنصب تحذير إياي وإيانا معطوفا عليه المحذور، فلم يصرح بشذوذه، وذكر إيانا معه.
وكمُحذِّرٍ بلا إيا اجْعَلا ... مُغْرًى به في كل ما قصد فُصِّلا
الإغراء: إلزام المخاطب العكوف على ما يُحمد عليه، والمغرى به: منصوب بفعل مضمر، وحكم ناصبه في وجوب الإضمار وجوازه كحكم ناصب المحذر به، فيجب إضماره مع العطف نحو: "الأهل والولد" والتكرار نحو7:
__________
1 ينهى عن حذف الأرنب وغيره بنحو حجر، فإن ذلك لا يحله.
2 أ، ج.
3 أ، ج وفي ب "فعل أمر على معنى".
4 قول سمع عن العرب كما قال سيبويه، والشواب: جمع شابة، ومعناه: إذا بلغ الرجل ستين سنة فلا ينبغي له أن يولع بشابة.
5 ب.
6 ب.
7 قائله: هو مسكين الدارمي، وهو من الطويل.
وتمامه:
........... إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح =

(3/1157)


أخاكَ أخاكَ........... ... .......................
ولا يجب مع الإفراد بل يجوز إظهاره نحو: الزم أخاك. إلا أن الإغراء لا يكون بلفظ إياك وأخواته، فلهذا قال: بلا إيا.
تنبيه:
قد يرفع المكرر في الإغراء والتحذير كقوله1:
لجديرون بالوفاء إذا قا ... ل أخو النجدة السلاحُ السلاحُ
وأجاز الفراء الرفع في قوله: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} 2 على إضمار هذه.
__________
= اللغة: "الهيجا" الحرب، وهي تمد وتقصر.
المعنى: الزم أخاك ولا تفارقه واحرص عليه، فالشخص الذي ليس له أخ يعينه ويقصده كمن يذهب إلى الحرب وليس معه عدتها ولا أداتها.
الإعراب: "أخاك" منصوب على الإغراء بتقدير الزم محذوفا وجوبا للتكرار "أخاك" الثاني توكيد "من" اسم موصول اسم إن "لا" نافية للجنس "أخا" اسمها مبني على فتح مقدر على الألف "له "جار ومجرور خبرها، وقيل: الأحسن أن يكون خبر لا محذوفا و"أخا" مضاف إلى ضمير "له" واللام زائدة، أي: إن لا أخاه موجود، والجملة ومعمولاها صلة الموصول "كساع" متعلق بمحذوف خبر إن "إلى الهيجا" متعلق به.
الشاهد: قوله: "أخاك" فإنه نصب على الإغراء بعامل واجب الحذف لأنه مكرر، أي: الزم أخاك.
مواضعه: ذكره من شراح الألفية: الأشموني 482/ 2، وابن هشام 288/ 3، والسيوطي ص170/ 1، وفي شذور الذهب ص23، والقطر ص296، والشاهد 176 في الخزانة.
1 قائله: لم أقف على اسم قائله، وهو من الخفيف.
وقبله:
إن قوما منهم عمير وأشبا ... هـ عمير ومنهم السفاح
اللغة: "لجديرون" لائقون حريون "أشباه" أمثال "بالوفاء" ويروى باللقاء "النجدة" الشجاعة.
الإعراب: "لجديرون" اللام للتوكيد وجديرون خبر إن -في البيت قبله- "بالوفاء" جار ومجرور متعلق بجديرون "إذا" للشرط "قال" فعل ماض "أخو" فاعل مرفوع بالواو "النجدة" مضاف إليه، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله لجديرون "السلاح" مقول القول.
الشاهد: قوله: "السلاح" إذ أصله خذ السلاح؛ لأن مقول القول يكون جملة ثم رفع؛ لأن العرب ترفع ما فيه معنى التحذير، وإن كان حقه النصب.
2 من الآية 13 من سورة الشمس.

(3/1158)