شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك

فصل في ما ولا ولات وإن المشبهات بليس
إعمال ليس أعملت ما دون إن ... مع بقا النفي وترتيب زكن (1)
وسبق حرف جر أو ظرف ك ما ... بي أنت معنيا أجاز العلما (2)
تقدم في أول باب كان وأخواتها أن نواسخ الابتداء تنقسم إلى أفعال
__________
(1) " إعمال " مفعول مطلق منصوب بقوله " أعملت " الآتي، وإعمال مضاف و" ليس " قصد لفظه: مضاف إليه " أعملت " أعمل: فعل ماض مبني للمجهول، والتاء تاء التأنيث " ما " قصد لفظه: نائب فاعل أعملت " دون " ظرف متعلق بمحذوف حال من " ما " ودون مضاف، وقوله " إن " قصد لفظه: مضاف إليه " مع " ظرف متعلق بمحذوف حال من " ما " أيضا، ومع مضاف، و" بقا " مقصور من ممدود للضرورة: مضاف إليه، وبقا مضاف، و" النفي " مضاف إليه " وترتيب " معطوف على " بقا " السابق " زكن " فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ترتيب، والجملة من زكن ونائب فاعله في محل جر صفة لترتيب، وحاصل البيت: أعملت ما النافية إعمال ليس، حال كونها غير مقترنة بإن الزائدة، وحال كون نفيها باقيا، وكون اسمها مقدما على خبرها.
(2) " وسبق " مفعول به مقدم على عامله وهو قوله " أجاز " الآتي، وسبق مضاف، و" حرف " مضاف إليه، وحرف مضاف، و" جر " مضاف إليه " أو ظرف "
معطوف على حرف جر " كما " الكاف جارة لقول محذوف، ما: نافية حجازية " بي " جار ومجرور متعلق بقوله معنيا الآتي " أنت " اسم ما " معنيا " خبر ما منصوب بالفتحة الظاهرة " أجاز " فعل ماض " العلما " مقصور من ممدود ضرورة: فاعل أجاز.
وحاصل البيت: وأجاز النحاة العالمون بما يتكلم العرب به تقدم معمول الخبر على اسم ما، بشرط أن يكون ذلك المعمول جارا ومجرورا أو ظرفا، لانه يتوسع فيهما ما لا يتوسع في غيرهما، وذلك نحو " ما بي أنت معنيا " أصله ما أنت معنيا بي، تقدم الجار والمجرور على الاسم مع بقاء الخبر مؤخرا عن الاسم، ومعنى: هو الوصف من " عنى فلان بفلان " - بالبناء للمجهول - إذا اهتم بأمره.

(1/301)


وحروف وسبق الكلام على كان وأخواتها وهي من الأفعال الناسخة وسيأتي الكلام على الباقي وذكر المصنف في هذا الفصل من الحروف الناسخة قسما يعمل عمل كان وهو ما ولا ولات وإن.
أما ما فلغة بني تميم أنها لا تعمل شيئا فتقول ما زيد قائم فزيد مرفوع بالابتداء وقائم خبره ولا عمل لما في شيء منهما وذلك لأن ما حرف لا يختص لدخوله على الاسم نحو ما زيد قائم وعلى الفعل نحو ما يقوم زيد وما لا يختص فحقه ألا يعمل.
ولغة أهل الحجاز إعمالها كعمل ليس لشبهها بها في أنها لنفي الحال عند الإطلاق فيرفعون بها الاسم وينصبون بها الخبر نحو ما زيد قائما قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً} وقال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} وقال الشاعر:
75 - أبناؤها مكتنفون أباهم ... حنقو الصدور وما هم أولادها
__________
75 - البيت من الشواهد التي لا يعرف قائلها، وقد أنشده أبو علي ولم ينسبه، وقبله قوله:
وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم أقوادها اللغة: " النذير " المعلم الذي يخوف القوم بما يدهمهم من عدو ونحوه " بحرة " أصله الارض ذات الحجارة السود، وأراد منه هنا الكتيبة السوداء لكثرة ما تحمل من الحديد " أقوادها " جمع قود، وهي الجماعة من الخيل " أبناؤها " أي أبناء هذه الكتيبة التي ينذرهم بها، وأراد رجالها، وأباهم: القائد " متكنفون " أي: قد احتاطوا به، والتفوا حوله، ويروى " متكنفو آبائهم " بالاضافة.
الاعراب: " أبناؤها " أبناء: مبتدأ، وأبناء مضاف وضمير الغائبة العائد إلى الحرة مضاف إليه " متكنفون " خبر المبتدأ " أباهم " أبا: مفعول به لقوله " متكنفون " لانه جمع اسم فاعل، وأبا مضاف وضمير الغائبين مضاف إليه " حنقو " خبر ثان، وحنقو مضاف، و" الصدور " مضاف إليه " وما " نافية حجازية " هم " اسم ما مبني =

(1/302)


لكن لا تعمل عندهم إلا بشروط ستة ذكر المصنف منها أربعة:
الأول: ألا يزاد بعدها إن فإن زيدت بطل عملها نحو ما إن زيد قائم برفع قائم ولا يجوز نصبه وأجاز ذلك بعضهم (1) .
الثاني: ألا ينتقض النفي بإلا نحو ما زيد إلا قائم فلا يجوز نصب قائم وكقوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} وقوله {وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ} خلافا لمن أجازه. (2)
__________
= على الضم في محل رفع " أولادها " أولاد: خبر " ما " منصوب بالفتحة الظاهرة، وأولاد مضاف وها ضمير الحرة مضاف إليه.
الشاهد فيه: قوله " وما هم أولادها " حيث أعمل " ما " النافية عمل " ليس " فرفع بها الاسم محلا، ونصب خبرها لفظا، وذلك لغة أهل الحجاز.
(1) أجاز يعقوب بن السكيت، إعمال " ما " عمل ليس مع زيادة " إن " بعدها
واستدل على ذلك بقول الشاعر: بني غدانة ما إن أنتم ذهبا ولا صريفا، ولكن أنتم الخزف وزعم أن الرواية بالنصب، وأن " ما " نافية، و" أنتم " اسمها، و" ذهبا " خبرها، وجمهور العلماء يروونه " ما إن أنتم ذهب " بالرفع على إهمال " ما "، ومع تسليم صحة الرواية بالنصب فإنا لا نسلم أن " إن " زائدة، ولكنها نافية مؤكدة لنفي ما.
(2) ذهب يونس بن حبيب شيخ سيبويه - وتبعه الشلوبين - إلى أنه يجوز إعمال " ما " عمل ليس مع انتقاض نفي خبرها بإلا، وقد استدل على ذلك بقول الشاعر: وما الدهر إلا منجنونا بأهله وما صاحب الحاجات إلا معذبا فزعم أن " ما " نافية، و" الدهر " اسمها، و" منجنونا " خبرها، وأن " ما " في الشطر الثاني نافية كذلك، و" صاحب الحاجات " اسمها، و" معذبا " خبرها، وبقول الشاعر: وما حق الذي يعثو نهارا ويسرق ليله إلا نكالا =

(1/303)


الثالث: ألا يتقدم خبرها على اسمها وهو غير ظرف ولا جار ومجرور فإن تقدم وجب رفعه نحو ما قائم زيد فلا تقول ما قائما زيد وفي ذلك خلاف. (1)
__________
= فما: نافية، وحق: اسمها، ونكالا: خبرها، وقد جاء به منصوبا مع كونه مسبوقا بإلا.
وجمهور البصريين لا يقبلون دلالة هذه الشواهد، ويؤولونها، فمما أولوا به البيت الاول أن " منجنونا " مفعول به لفعل محذوف، والتقدير: وما الدهر إلا يشبه منجنونا، وجملة الفعل وفاعله في محل رفع خبر المبتدأ، وكذلك قوله " معذبا " في
الشطر الثاني: أي وما صاحب الحاجات إلا يشبه معذبا، وبعضهم يقول: منجنونا مفعول مطلق لفعل محذوف على تقدير مضاف، ومعذبا ليس اسم مفعول، بل هو مصدر ميمي بمعنى التعذيب، فهو أيضا مفعول مطلق لفعل محذوف، ونكالا في البيت الثاني اسم مصدر، فهو كذلك مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: وما الدهر إلا يدور دوران منجنون، وما صاحب الحاجات إلا يعذب معذبا أي تعذيبا، وما حق الذي يفسد إلا ينكل به نكالا أي تنكيلا، وهذه الجمل الفعلية كلها في محل رفع أخبار للمبتدآت الواقعة بعد ما النافية في المواضع الثلاثة.
(1) ذهب بعض النحاة إلى أنه يجوز إعمال ما إعمال ليس مع تقدم خبرها على اسمها، واستدل على ذلك بقول الفرزدق: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ هم قريش، وإذ ما مثلهم بشر قالوا: ما نافية عاملة عمل ليس، ومثل: خبرها مقدم منصوب، والضمير مضاف إليه، وبشر: اسمها تأخر عن خبرها، وزعموا أن الرواية بنصب مثل.
والجمهور يأبون ذلك، ولا يقرون هذا الاستشهاد، ولهم في الرد على هذا البيت ثلاثة أوجه: الاول: إنكار أن الرواية بنصب مثل، بل الرواية عندهم برفعه على أنه خبر مقدم، وبشر: مبتدأ مؤخر.
والثاني: أنه على فرض تسليم نصب " مثل " فإن الشاعر قد أخطأ في هذا، =

(1/304)


فإن كان ظرفا أو جارا ومجرورا فقدمته فقلت ما في الدار زيد وما عندك عمرو فاختلف الناس في ما حينئذ هل هي عاملة أم لا؟ فمن جعلها عاملة قال إن الظرف والجار والمجرور في موضع نصب بها ومن لم يجعلها عاملة قال إنهما في موضع رفع على أنهما خبران للمبتدأ الذي بعدهما وهذا الثاني هو ظاهر كلام المصنف فإنه شرط في إعمالها أن يكون المبتدأ والخبر بعد ما على الترتيب الذي زكن وهذا هو المراد بقوله وترتيب زكن أي علم ويعني به أن يكون المبتدأ مقدما والخبر مؤخرا ومقتضاه أنه متى تقدم الخبر لا تعمل ما شيئا سواء كان الخبر ظرفا أو جارا ومجرورا أو غير ذلك وقد صرح بهذا في غير هذا الكتاب.
الشرط الرابع: ألا يتقدم معمول الخبر على الاسم وهو غير ظرف ولا جار ومجرور فإن تقدم بطل عملها نحو ما طعامك زيد آكل فلا يجوز نصب آكل ومن أجاز بقاء العمل مع تقدم الخبر يجيز بقاء العمل مع تقدم المعمول بطريق الأولى لتأخر الخبر وقد يقال لا يلزم ذلك لما في
__________
= والسر في ذلك الخطأ أنه تميمي، وأراد أن يتكلم بلغة أهل الحجاز، فلم يعرف أنهم لا يعملون " ما " إذا تقدم الخبر على الاسم، ولعله وجد خبر ليس قد جاء متقدما على اسمها، فتوهم أن ما - لكونها بمعنى لبس - تعطي حكمها، ولم يلتفت إلى أن " ما " فرع من ليس في العمل، وأن الفرع ليس في قوة الاصل.
والثالث: سلمنا أن الرواية كما يذكرون، وأن الشاعر لم يخطئ.
ولكنا لا نسلم أن " مثل " منصوب، بل هو مبني على الفتح في محل رفع خبر مقدم، وبشر: مبتدأ مؤخر، وإنما بنيت " مثل " لانها اكتسبت البناء من المضاف إليه، وجاز ذلك البناء ولم يجب، ولهذا شواهد كثيرة منها قوله تعالى: (إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) فمثل في هذه الآية الكريمة صفة لحق مع أن حقا مرفوع ومثل مفتوح، فوجب أن يكون مبنيا على الفتح في محل رفع.
(20 - شرح ابن عقيل 1)

(1/305)


الإعمال مع تقدم المعمول من الفصل بين الحرف ومعموله وهذا غير موجود مع تقدم الخبر.
فإن كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا لم يبطل عملها نحو ما عندك زيد مقيما وما بي أنت معنيا لأن الظروف والمجرورات يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها وهذا الشرط مفهوم من كلام المصنف لتخصيصه جواز تقديم معمول الخبر بما إذا كان المعمول ظرفا أو جارا ومجرورا.
الشرط الخامس: ألا تتكرر ما فإن تكررت بطل عملها نحو ما ما زيد قائم فالأولى نافية والثانية نفت النفي فبقي إثباتا فلا يجوز نصب قائم وأجازه بعضهم (1) .
الشرط السادس: ألا يبدل من خبرها موجب فإن أبدل بطل عملها نحو ما زيد بشيء إلا شيء لا يعبأ به فبشيء في موضع رفع خبر
عن المبتدأ الذي
__________
(1) إذا رأيت " ما " متكررة في كلام فالثانية: إما أن تكون نافية لنفي الاولى، وإما أن تكون نافية مؤكدة لنفي الاولى، وإما أن تكون زائدة، فإذا كانت الثانية نافية لنفي الاولى صار الكلام إثباتا، لان نفي النفي إثبات، ووجب إهمالهما جميعا، وإذا كانت الثانية زائدة وجب إهمال الاولى أيضا عند من يهمل " ما " إذا اقترنت بها " إن " الزائدة، وإن كانت " ما " الاولى نافية والثانية مؤكدة لنفي الاولى جاز لك حينئذ الاعمال، وعلى هذا ورد قول الراجز: لا ينسك الاسى تأسيا، فما مامن حمام أحد مستعصما فما الاولى هنا: نافية، والثانية مؤكدة لها، وأحد: اسمها، ومستعصما: خبرها، ومن حمام: جار ومجرور متعلق بمستعصم، وأصل الكلام: فما أحد مستعصما من حمام.
وبعد، فإنه يجب أن يحمل كلام من أجاز إعمال " ما " عند تكررها على أنه اعتبر الثانية مؤكدة لنفي الاولى، فيكون الخلاف في هذا الموضوع غير حقيقي.

(1/306)


هو زيد ولا يجوز أن يكون في موضع نصب خبرا عن ما وأجازه قوم وكلام سيبويه رحمه الله تعالى في هذه المسألة محتمل للقولين المذكورين أعني القول باشتراط ألا يبدل من خبرها موجب والقول بعدم اشتراط ذلك فإنه قال بعد ذكر المثال المذكور وهو ما زيد بشيء إلى آخره استوت اللغتان يعني لغة الحجاز ولغة تميم واختلف شراح الكتاب فيما يرجع إليه قوله استوت اللغتان فقال قوم هو راجع إلى الاسم الواقع قبل إلا والمراد أنه لا عمل ل ما فيه فاستوت اللغتان في أنه مرفوع وهؤلاء هم الذين شرطوا في إعمال ما ألا يبدل من خبرها موجب وقال قوم هو راجع إلى الاسم الواقع بعد إلا والمراد أنه يكون مرفوعا (1) سواء جعلت ما حجازية أو تميمية وهؤلاء هم الذين لم يشترطوا في إعمال ما ألا يبدل من خبرها موجب وتوجيه كل من القولين وترجيح المختار منهما وهو الثاني لا يليق بهذا المختصر.
ورفع معطوف بلكن أو ببل ... من بعد منصوب بما الزم حيث حل (2)
__________
(1) ظاهر هذا الكلام ليس بسديد، بل يجوز في " شئ " الواقع بعد " إلا " الرفع والنصب، أما النصب فعلى أحد وجهين: الاول الاستثناء، سواء أعملت ما أم أهملتها، الثاني على أنه بدل من شئ المجرور بالباء الزائدة بشرط أن تكون ما عاملة، وأما الرفع فعلى أحد وجهين: الاول أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، وكأنه قيل: إلا هو شئ لا يعبأ به، ولا فرق على هذا الوجه بين أن تكون ما عاملة، أو مهملة، والثاني أن يكون بدلا من شئ الاول بشرط أن تكون ما مهملة.
(2) " ورفع " مفعول به مقدم على عامله، وهو قوله " الزم " الآتي، ورفع
مضاف و" معطوف " مضاف إليه " لكن " جار ومجرور متعلق بمعطوف " أو ببل " =

(1/307)


إذا وقع بعد خبر ما عاطف فلا يخلو إما أن يكون مقتضيا للإيجاب أولا.
فإن كان مقتضيا للإيجاب تعين رفع الاسم الواقع بعده وذلك نحو بل ولكن فتقول ما زيد قائما لكن قاعد أو بل قاعد فيجب رفع الاسم على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير لكن هو قاعد وبل هو قاعد ولا يجوز نصب قاعد عطفا على خبر ما لأن ما لا تعمل في الموجب.
وإن كان الحرف العاطف غير مقتض للإيجاب كالواو ونحوها جاز النصب والرفع والمختار النصب نحو ما زيد قائما ولا قاعدا ويجوز الرفع فتقول ولا قاعد وهو خبر لمبتدأ محذوف والتقدير ولا هو قاعد ففهم من تخصيص المصنف وجوب الرفع بما إذا وقع الاسم بعد بل ولكن أنه لا يجب الرفع بعد غيرهما.
وبعد ما وليس جر البا الخبر ... وبعد لا ونفي كان قد يجر (1)
__________
= معطوف على قوله " بلكن " السابق " من بعد " جار ومجرور متعلق برفع، وبعد مضاف و" منصوب " مضاف إليه " بما " جار ومجرور متعلق بمنصوب " الزم " فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت " حيث " ظرف متعلق بالزم، مبني على الضم في محل نصب " حل " فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو، والجملة من حل وفاعله في محل جر بإضافة حيث إليها.
(1) " وبعد " ظرف متعلق بقوله " جر " الآتي، وبعد مضاف، و" ما " قصد لفظه: مضاف إليه " وليس " قصد لفظه أيضا: معطوف على ما " جر " فعل =

(1/308)


تزاد الباء كثيرا في الخبر بعد ليس وما نحو قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} و {أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} و {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} ولا تختص زيادة الباء بعد ما بكونها حجازية خلافا لقوم بل تزاد بعدها وبعد التميمية وقد نقل سيبويه والفراء رحمهما الله تعالى زيادة الباء بعد ما عن بني تميم فلا التفات إلى من منع ذلك وهو موجود في أشعارهم (1) .
وقد اضطرب رأي الفارسي في ذلك فمرة قال لا تزاد الباء إلا بعد الحجازية ومرة قال تزاد في الخبر المنفي وقد وردت زيادة الباء قليلا في خبر لا كقوله:
__________
= ماض " البا " قصر للضرورة: فاعل جر " الخبر " مفعول به لجر " وبعد " ظرف متعلق بقوله " يجر " الآتي، وبعد مضاف، و" لا " قصد لفظه: مضاف إليه " ونفي " معطوف على لا، ونفي مضاف، و" كان " قصد لفظه: مضاف إليه " قد " حرف تقليل " يجر " فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الخبر.
(1) من ذلك قول الفرزدق يمدح معن بن أوس، والفرزدق تميمي كما قلنا لك آنفا (305) : لعمرك ما معن بتارك حفه ولا منسئ معن ولا متيسر ثم إن الباء قد دخلت في خبر " ما " غير العاملة بسبب فقدان شرط من شروط عملها، وذلك كما في قول المتنخل الهذلي:
لعمرك ما إن أبو مالك بواه، ولا بضعيف قواه فأبو مالك مبتدأ، ولا عمل لما فيه، لكونه قد جاء مسبوقا بإن الزائدة بعد ما؟ وقد أدخل الباء في خبر هذا المبتدأ - وهو قوله " بواه " فدل ذلك على أن كون " ما " عاملة أو حجازية ليس بشرط لدخول الباء على خبرها.

(1/309)


76 - فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
وفي خبر مضارع كان المنفية بلم كقوله:
77 - وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
__________
76 - البيت لسواد بن قارب الاسدي الدوسي - يخاطب فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبله قوله: فأشهد أن الله لا شئ غيره وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا ابن الاكرمين الاطا يب فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل وإن كان فيما جئت شيب الذوائب اللغة: " فتيلا " هو الخيط الرقيق الذي يكون في شق النواة.
الاعراب: " فكن " فعل أمر ناقص، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت " لي " جار ومجرور متعلق بقوله " شفيعا " الآتي " شفيعا " خبر كان " يوم " منصوب على الظرفية الزمانية ناصبه قوله شفيعا " لا " نافية تعمل عمل ليس " ذو " اسمها مرفوع بالواو نيابة عن الضمة، وذو مضاف، و" شفاعة " مضاف إليه " بمغن " الباء زائدة، مغن خبر لا، وهو اسم فاعل - فعله متعد - يرفع فاعلا وينصب
مفعولا، وفاعله ضمير مستتر فيه، و" فتيلا " مفعوله " عن سواد " جار ومجرور متعلق بمغن " ابن " صفة لسواد، وابن مضاف، و" قارب " مضاف إليه.
الشاهد فيه: قوله " بمغن " حيث أدخل الباء الزائدة على خبر لا النافية كما تدخل على خبر ليس وعلى خبر ما.
77 - البيت للشنفري الازدي، وأكثر الرواة على أن اسمه هو لقبه، والبيت من قصيدته المشهورة بين المتأدبين باسم " لامية العرب " وأولها قوله: أقيمو بني أمي صدور مطيسكم فإني إلى قوم سواكم لاميل =

(1/310)


في النكرات أعملت كليس لا ... وقد تلي لات وإن ذا العملا (1)
__________
= اللغة: أقيموا صدور مطيكم " هذه كناية عن طلب الاستعداد لعظائم الامور والجد في طلب المعالي، يقول: جدوا في أمركم وانتبهوا من رقدتكم " فإني إلى قوم سواكم إلخ " يؤذن قومه بأنه مرتحل عنهم ومفارقهم، وكأنه يقول! إن غفلتكم توجب الارتحال عنكم، وإن ما أعاين من تراخيكم وإقراركم بالضيم لخليق بأن يزهدني في البقاء بينكم " أجشع القوم " الجشع - بالتحريك - أشد الطمع " أعجل " هو صفة مشبهة بمعنى عجل، وليس أفعل تفضيل، لان المعنى يأباه، إذ ليس مراده أن الاشد عجلة هو الجشع، ولكن غرضه أن يقول: إن من يحدث منه مجرد العجلة إلى الطعام هو الجشع، فافهم ذلك.
الاعراب: " إن " شرطية " مدت " مد: فعل ماض فعل الشرط، مبني للمجهول، مبني على الفتح في محل جزم، والتاء تاء التأنيث " الايدي " نائب فاعل لمد " إلى الزاد " جار ومجرور متعلق بقوله " مدت " السابق " لم " حرف نفي وجزم وقلب " أكن " فعل مضارع ناقص، وهو جواب الشرط، واسمه ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا " بأعجلهم " الباء زائدة، أعجل: خبر أكن، منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع
من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وأعجل مضاف والضمير مضاف إليه " إذ " كلمة دالة على التعليل قيل: هي حينئذ حرف، وقيل: هي ظرف، وعليه فهو متعلق بقوله " أعجل " السابق، و" أجشع " مبتدأ، وأجشع مضاف، و" القوم " مضاف إليه " أعجل " خبر المبتدأ.
الشاهد فيه: قوله " بأعجلهم " حيث أدخل الباء الزائدة على خبر مضارع كان المنفى بلم.
واستشهاد الشارح بهذا البيت يدل على أنه فهم أن مراد المصنف بقوله " نفي كان " نفي هذه المادة أعم من أن تكون بلفظ الماضي أو بلفظ المضارع، وأعم من هذه العبارة التي في الالفية قول المصنف في كتابه التسهيل " وبعد نفي فعل ناسخ "، لان الفعل الناسخ يشمل كان وأخواتها، وظن وأخواتها، بأي صيغة كانت هذه الافعال.
(1) " في النكرات " جار ومجرور متعلق بقوله " أعملت " الآتي " أعملت " أعمل: فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث " كليس " جار ومجرور متعلق =

(1/311)


وما ل "لات" في سوى حين عمل ... وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل (1)
تقدم أن الحروف العاملة عمل ليس أربعة وقد تقدم الكلام على ما وذكر هنا لا ولات وإن.
أما لا فمذهب الحجازيين إعمالها عمل ليس ومذهب تميم إهمالها (2)
__________
= بمحذوف حال من " لا " أو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: إعمالا مماثلا إعمال ليس " لا " قصد لفظه: نائب فاعل أعملت " وقد " حرف تقليل " تلي " فعل مضارع " لات " فاعل تلي " وإن " معطوف على لات " ذا " اسم إشارة مفعول به لتلي " العملا " بدل أو عطف بيان أو نعت لاسم الاشارة، وتقدير البيت:
أعملت في النكرات " لا " إعمالا مماثلا لاعمال ليس، وقد تلي لات وإن هذا العمل.
(1) " ما " نافية " للات " جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم " في سوى " جار ومجرور متعلق بقوله عمل الآتي، و" سوى " مضاف، و" حين " مضاف إليه " عمل " مبتدأ مؤخر " وحذف " مبتدأ، وحذف مضاف، و" ذي " بمعنى صاحب: مضاف إليه، وذي مضاف و" الرفع " مضاف إليه " فشا " فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى حذف ذي الرفع، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ " والعكس " مبتدأ " قل " فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى العكس، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو العكس.
وتقدير البيت: وما للات عمل في غير لفظ حين وما كان بمعناه، وحذف صاحب الرفع من معموليها مع بقاء المنصوب فاش كثير، والعكس - وهو حذف المنصوب وإبقاء المرفوع - قليل.
(2) قال أبو حيان: " لم يصرح أحد بأن إعمال لا عمل ليس بالنسبة إلى لغة مخصوصة إلا صاحب المغرب ناصر المطرزي، فإنه قال فيه: بنو تميم يهملونها، وغيرهم يعملها، وفي كلام الزمخشري: أهل الحجاز يعملونهما دون طيئ، وفي البسيط: القياس عند تميم عدم إعمالها، ويحتمل أن يكونوا وافقوا أهل الحجاز على إعمالها " وانظر هذا مع كلام الشارح.

(1/312)


ولا تعمل عند الحجازيين إلا بشروط ثلاثة (1) :
أحدها: أن يكون الاسم والخبر نكرتين نحو لا رجل أفضل منك ومنه قوله:
78 - تعز فلا شيء على الأرض باقيا ... ولا وزر مما قضى الله واقيا
__________
(1) وبقي من شروط إعمال " لا " عمل ليس شرطان، أولهما: ألا تكون لنفي
الجنس نصا، فإن كانت لنفي الجنس نصا عملت عمل إن المؤكدة التي تنصب الاسم وترفع الخبر، وبنى اسمها حينئذ على الفتح إن لم يكن مضافا ولا شبيها به، والشرط الثاني: ألا يتقدم معمول الخبر على اسمها، فإن تقدم نحو " لا عندك رجل مقيم ولا امرأة " أهملت.
78 - هذا البيت من الشواهد التي لم يذكروا لها قائلا معينا.
اللغة: " تعز " أمر من التعزي، وأصله من العزاء، وهو التصبر والتسلي على المصائب " وزر " هو الملجأ، والواقي، والحافظ " واقيا " اسم فاعل من الوقاية، وهي الرعاية والحفظ.
المعنى: اصبر على ما أصابك، وتسل عنه، فإنه لا يبقى على وجه الارض شئ، وليس للانسان ملجأ يقيه ويحفظه مما قضاه الله تعالى.
الاعراب: " تعز " فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت " فلا " الفاء تعليلية، ولا: نافية تعمل عمل ليس " شئ " اسمها " على الارض " جار ومجرور متعلق بقوله " باقيا " الآتي، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف صفة لشئ " باقيا " خبر لا " ولا " نافية " وزر " اسمها " مما " من: حرف جر، وما: اسم موصول مبني على السكون في محل جر بمن، والجار والمجرور متعلق بقوله " واقيا " الآتي " قضى الله " فعل وفاعل، والجملة لا محل لها صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: مما قضاه الله، و" واقيا " خبر لا.
الشاهد فيه: قوله " لا شئ باقيا، ولا وزر واقيا " حيث أعمل " لا " في الموضعين عمل ليس، واسمها وخبرها نكرتان.
هذا، وقد ذهب أبو الحسن الاخفش إلى أن " لا " ليس لها عمل أصلا، لا في =

(1/313)


وقوله:
79 - نصرتك إذ لا صاحب غير خاذل ... فبوئت حصنا بالكماة حصينا
__________
= الاسم ولا في الخبر، وأن ما بعدها مبتدأ وخبر، وذهب الزجاج إلى أن " لا " تعمل الرفع في الاسم ولا تعمل شيئا في الخبر، والخبر بعدها لا يكون مذكورا أبدا، وكلا المذهبين فاسد، وبيت الشاهد رد عليهما جميعا، فالخبر مذكور فيه فكان ذكره ردا لما ذهب إليه الزجاج، وهو منصوب، فكان نصبه ردا لما زعمه الاخفش.
79 - هذا الشاهد قد أنشده أبو الفتح بن جنى، ولم ينسبه إلى قائل، وكذا كل من وقفنا على كلام له ذكر فيه هذا البيت ممن جاء بعد أبي الفتح.
اللغة: " بوئت " فعل ماض مبني للمجهول، من قولهم: بوأه الله منزلا، أي أسكنه إياه " الكماة " جمع كمى، وهو الشجاع المتكمى في سلاحه، أي: المستتر فيه المتغطى به، وكان من عادة الفرسان المعدودين أن يكثروا من السلاح وعدد الحرب، ويلبسوا الدرع والبيضة والمغفر وغيرهن، لاحد أمرين، الاول: الدلالة على شجاعتهم الفائقة، والثاني: لانهم قتلوا كثيرا من فرسان أعدائهم، فلكثير من الناس عندهم ثارات، فهم يتحرزون من أن يأخذهم بعض ذوي الثارات على غرة.
الاعراب: " نصرتك " فعل وفاعل ومفعول به " إذ " ظرف للماضي من الزمان متعلق بنصر " لا " نافية تعمل عمل ليس " صاحب " اسمها " غير " خبر لا، وغير مضاف، و" خاذل " مضاف إليه " فبوثت " الفاء عاطفة، بوئ: فعل ماض مبني للمجهول، وتاء المخاطب نائب فاعل، وهو مقعول أول لبوئ " حصنا " مفعول ثان " بالكماة " جار ومجرور جعله العيني متعلقا بقوله " نصرتك " في أول البيت، وعندي أنه يجوز أن يتعلق بقوله " حصينا " الذي بعده، بل هو أولى وأحسن " حصينا " نعت لقوله حصنا السابق.
الشاهد فيه: قوله " لا صاحب غير خاذل " حيث أعمل لا مثل عمل ليس، فرفع
بها ونصب، واسمها وخبرها نكرتان، وهو أيضا كالبيت السابق رد لمذهبي الاخفش والزجاج.

(1/314)


وزعم بعضهم أنها قد تعمل في المعرفة وأنشد للنابغة:
80 - بدت فعل ذي ود فلما تبعتها ... تولت وبقت حاجتي في فؤاديا
وحلت سواد القلب لا أنا باغيا ... سواها ولا عن حبها متراخيا
__________
80 - البيتان للنابغة الجعدي، أحد الشعراء المعمرين، أدرك الجاهلية، ووفد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنشده من شعره، فدعا له، والبيتان من مختار أبي تمام.
اللغة: " فعل ذي ود " أراد أنها تفعل فعل صاحب المودة، فحذف الفعل وأبقى المصدر، والود - بتثليث الواو - المحبة، ومثله الوداد " تولت " أعرضت ورجعت " بقت حاجتي " بتشديد القاف - تركتها باقية " سواد القلب " سويداؤه وهي حبته السوداء " باغيا " طالبا " متراخيا " متهاونا فيه.
الاعراب: " بدت " بدا: فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي " فعل " قال العيني: منصوب بنزغ الخافض، أي: كفل، وعندي أنه منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، أي: تفعل فعل مضاف إلخ، وفعل مضاف، و" ذي " مضاف إليه، وذي مضاف، و" ود " مضاف إليه " فلما " ظرف بمعنى حين ناصبه قوله " تولت " الذي هو جوابه " تبعتها " فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل جر بإضافة لما إليها " تولت " تولى: فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي " وبقت " مثله " حاجتي " حاجة: مفعول به لبقت، وحاجة مضاف وياء المتكلم مضاف إليه " في فؤاديا " الجار والمجرور متعلق بقوله " بقت " السابق " وحلت " حل: فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هي " سواد "
مفعول به لحلت، وسواد مضاف، و" القلب " مضاف إليه " لا " نافية تعمل عمل ليس " أنا " اسمها " باغيا " خبرها، وفاعله ضمير مستتر فيه " سواها " سوى: مفعول به لباغ، وسوى مضاف والضمير مضاف إليه " ولا " الواو عاطفة، ولا: نافية " عن حبها " الجار والمجرور متعلق بقوله متراخيا الآتي، وحب مضاف وضمير المؤنثة الغائبة مضاف إليه " متراخيا " معطوف على قوله باغيا السابق.
الشاهد فيه: قوله " لا أنا باغيا " حيث أعمل " لا " النافية عمل " ليس " مع أن اسمها معرفة، وهو " أنا "، وهذا شاذ، وقد تأول النحاة هذا البيت ونحوه - كما =

(1/315)


واختلف كلام المصنف في هذا البيت فمرة قال إنه مؤول ومرة قال إن القياس عليه سائغ (1) .
الشرط الثاني: ألا يتقدم خبرها على اسمها فلا نقول لا قائما رجل.
الشرط الثالث: ألا ينتقض النفي بإلا فلا تقول لا رجل إلا أفضل من زيد ينصب أفضل بل يجب رفعه ولم يتعرض المصنف لهذين الشرطين.
__________
= أشار إليه الشارح العلامة، نقلا عن المصنف بتأويلات كثيرة، أحدها: أن قوله " أنا " ليس اسما للا، وإنما هو نائب فاعل لفعل محذوف، وأصل الكلام على هذا " لا أرى باغيا " فلما حذف الفعل، وهو " أرى " برز الضمير المستتر، وانفصل أو يكون الضمير مبتدأ، وقوله " باغيا " حال من نائب فاعل فعل محذوف، والتقدير " لا أنا أرى باغيا "، وجملة الفعل المحذوف مع نائب فاعله في محل رفع خبر المبتدأ، ويكون قد استغنى بالمعمول وهو الحال الذي هو قوله " باغيا " عن العامل فيه الذي هو الفعل المحذوف، وزعموا أنه ليس في هذا التأويل ارتكاب شطط ولا غلو في
التقدير، فإن من سنن العربية الاستغناء بالمعمول عن العامل كما في الحال السادة مسد الخبر المفصحة عنه، كما اتضح لك ذلك في باب المبتدأ والخبر، فافهم ذلك، والله يرشدك ويتولاك.
(1) الذي ذهب إلى أن القياس على هذا البيت سائغ، هو أبو حيان، شارح كتاب التسهيل لابن مالك، فإن ابن مالك قال في التسهيل، " ورفعها معرفة نادر " فقال أبو حيان في شرح هذه العبارة ما نصه: " قال المصنف في الشرح (يريد ابن مالك) : وشذ إعمالها في معرفة في قول النابغة الجعدي وحلت سواد القلب لا أنا باغيا البيت اه، وقد حذا المتنبي حذو النابغة فقال: إذا الجود لم يرزق خلاصا من الاذى فلا الحمد مكسوبا، ولا المال باقيا والقياس على هذا سائغ عندي (والمتكلم هو أبو حيان) وقد أجاز ابن جنى إعمال لا في المعرفة، وذكر ذلك في كتاب التمام " اه كلام أبي حيان بحروفه.

(1/316)


وأما إن النافية فمذهب أكثر البصريين والفراء أنها لا تعمل شيئا ومذهب الكوفيين خلا الفراء أنها تعمل عمل ليس وقال به من البصريين أبو العباس المبرد وأبو بكر بن السراج وأبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني واختاره المصنف وزعم أن في كلام سيبويه رحمه الله تعالى إشارة إلى ذلك وقد ورد السماع به قال الشاعر:
81 - إن هو مستوليا على أحد ... إلا على أضعف المجانين
__________
81 - يكثر استشهاد النحاة بهذا البيت، ومع هذا لم يذكره أحد منهم منسوبا إلى قائل معين.
اللغة والرواية: يروى عجز هذا البيت في صور مختلفة: إحداها: الرواية التي رواها الشارح.
والثانية: إلا على حزبه الملاعين والثالثة: إلا على حزبه المناحيس " مستوليا " هو اسم فاعل من استولى، ومعناه كانت له الولاية على الشئ وملك زمام التصرف فيه " المجانين " جمع مجنون، وهو من ذهب عقله، وأصله عند العرب من خبله الجن، والمناحيس في الرواية الاخرى: جمع منحوس، وهو من حالفه سوء الطالع.
المعنى: ليس هذا الانسان بذي ولاية على أحد من الناس إلا على أضعف المجانين.
الاعراب: " إن " نافية تعمل عمل ليس " هو " اسمها " مستوليا " خبرها " على أحد " جار ومجرور متعلق بقوله " مستوليا " السابق " إلا " أداة استثناء " على أضعف " جار ومجرور يقع موقع المستثنى من الجار والمجرور السابق، وأضعف مضاف، و" المجانين " مضاف إليه.
الشاهد فيه: قوله " إن هو مستوليا " حيث أعمل " إن " النافية عمل " ليس " فرفع بها الاسم الذي هو الضمير المنفصل، ونصب خبرها الذي هو قوله " مستوليا ".
=

(1/317)


وقال آخر:
82 - إن المرء ميتا بانقضاء حياته ... ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا
__________
= وهذا الشاهد يرد على الفراء وأكثر البصريين الذين ذهبوا إلى أن " إن " النافية لا تعمل شيئا، لا في المبتدأ ولا في الخبر، ووجه الرد من البيت ورود الخبر اسما مفردا منصوبا بالفتحة الظاهرة، ولا ناصب له في الكلام إلا " إن "، وليس لهم أن يزعموا
أن النصب بها شاذ، لوروده في الشعر كثيرا، ولوروده في النثر في نحو قول أهل العالية " إن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية "، وقد قرأ بهذه اللغة سعيد بن جبير - رضي الله عنه! - في الآية الكريمة التي تلاها الشارح.
ويؤخذ من هذا الشاهد - زيادة على ذلك - أن " إن " النافية مثل " ما " في أنها لا تختص بالنكرات كما تختص بها " لا ": فإن الاسم في البيت ضمير، وقد نص الشارح على هذا، ومثل له.
ويؤخذ منه أيضا أن انتقاض النفي بعد الخبر بإلا لا يقدح في العمل، لانه استثنى بقوله " إلا على أضعف.
إلخ ".
82 - وهذا البيت أيضا من الشواهد التي لا يعلم قائلها.
المعنى: ليس المرء ميتا بانقضاء حياته، وإنما يموت إذا بغى عليه باغ فلم يجد عونا له، ولا نصيرا يأخذ بيده، وينتصف له ممن ظلمه، يريد أن الموت الحقيقي ليس شيئا بالقياس إلى الموت الادبي.
الاعراب: " إن " نافية " المرء " اسمها " ميتا " خبرها " بانقضاء " جار ومجرور متعلق بقوله " ميتا " وانقضاء مضاف، وحياة من " حياته " مضاف إليه، وحياة مضاف والضمير مضاف إليه " ولكن " حرف استدراك " بأن " الباء جارة، وأن مصدرية " يبغى " فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الالف منع من ظهورها التعذر " عليه " جار ومجرور نائب عن الفاعل ليبغي، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالباء، أي بالبغي عليه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، والتقدير " ولكن يموت بالبغي عليه " وقوله " فيخذلا " الفاء =

(1/318)


وذكر ابن جني في المحتسب أن سعيد بن جبير رضي الله عنه قرأ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم بنصب العباد ولا يشترط في اسمها وخبرها أن يكونا نكرتين بل تعمل في النكرة والمعرفة فتقول إن رجل قائما وإن زيد القائم وإن زيد قائما.
وأما لات فهي لا النافية زيدت عليها تاء التأنيث مفتوحة ومذهب الجمهور أنها تعمل عمل ليس فترفع الاسم وتنصب الخبر لكن اختصت بأنها لا يذكر معها الاسم والخبر معا بل إنما يذكر معها أحدهما والكثير في لسان العرب حذف اسمها وبقاء خبرها ومنه قوله تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} بنصب الحين فحذف الاسم وبفي الخبر والتقدير ولات الحين حين مناص فالحين اسمها وحين مناص خبرها وقد قرئ شذوذا ولات حين مناص برفع الحين على أنه اسم لات والخبر محذوف والتقدير ولات حين مناص لهم أي ولات حين مناص كائنا لهم وهذا هو المراد بقوله وحذف ذي الرفع إلى آخر البيت.
وأشار بقوله وما للات في سوى حين عمل إلى ما ذكره سيبويه
من أن
__________
= عاطفة، ويخذل: فعل مضارع مبني للمجهول، معطوف على يبغى، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على المرء، والالف للاطلاق.
الشاهد فيه: قوله " إن المرء ميتا " حيث أعمل " إن " النافية عمل " ليس " فرفع بها ونصب، وفي هذا الشاهد مثل ما في الشاهد السابق من وجوه الاستنباط التي ذكرناها.

(1/319)


لات لا تعمل إلا في الحين واختلف الناس فيه فقال قوم المراد أنها لا تعمل إلا في لفظ الحين ولا تعمل فيما رادفه كالساعة ونحوها وقال قوم المراد أنها لا تعمل إلا في أسماء الزمان فتعمل في لفظ الحين وفيما رادفه من أسماء الزمان ومن عملها فيما رادفه قول الشاعر:
83 - ندم البغاة ولات ساعة مندم ... والبغي مرتع مبتغيه وخيم
__________
83 - قيل: إن هذا الشاهد لرجل من طيئ، ولم يسموه، وقال العيني: قائله محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، ويقال: مهلهل بن مالك الكناني، واستشهد الفراء بقوله " ولات ساعة مندم " ثم قال: ولا أحفظ صدره.
اللغة: " البغاة " جمع باغ، مثل قاض وقضاة وداع ودعاة ورام ورماة، والباغي: الذي يتجاوز قدره " مندم " مصدر ميمي بمعنى الندم " مرتع " اسم مكان من قولهم: رتع فلان في المكان يرتع - من باب فتح - إذا جعله ملهى له وملعبا، ومنه قوله تعالى (نرتع ونلعب) " وخيم " أصله أن يقال: وخم المكان، إذا لم ينجع كلؤه، أو لم يوافقك مناخه.
الاعراب: " ندم " فعل ماض " البغاة " فاعل ندم " ولات " الواو واو الحال، ولات: نافية تعمل عمل ليس، واسمها محذوف " ساعة " خبرها، والجملة في محل نصب حال، أي: ندم البغاة والحال أن الوقت ليس وقت الندم، لان وقته قد فات، وساعة مضاف و" مندم " مضاف إليه " والبغي " مبتدأ أول مرفوع بالضمة الظاهرة " مرتع " مبتدأ ثان مرفوع بالضمة الظاهرة، ومرتع مضاف ومبتغي من " مبتغيه " مضاف إليه ومبتغي مضاف والهاء مضاف إليه " وخيم " خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الاول.
الشاهد فيه: قوله " ولات ساعة مندم " حيث أعمل " لات " في لفظ " ساعة " وهي بمعنى الحين، وليست من لفظه، وهو مذهب الفراء - فيما نقله عنه جماعة منهم الرضي - إذ ذهب إلى أن " لات " لا يختص عملها بلفظ الحين، بل تعمل فيما دل =

(1/320)


وكلام المصنف محتمل للقولين (1) وجزم بالثاني في التسهيل (2) ومذهب الأخفش أنها لا تعمل شيئا وأنه إن وجد الاسم بعدها منصوبا فناصبه فعل مضمر والتقدير لات أرى حين مناص وإن وجد مرفوعا فهو مبتدأ والخبر محذوف والتقدير لات حين مناص كائن لهم والله أعلم.
__________
= على الزمان كساعة ووقت وزمان وأوان ونحو ذلك، وفي المسألة كلام طويل لا يليق بسطه بهذه العجالة.
ومثل البيت الشاهد ما أنشده ابن السكيت في كتاب الاضداد، وهو: ولتعرفن خلائقا مشمولة ولتندمن ولات ساعة مندم (21 - شرح ابن عقيل 1)

(1/321)