شرح شافية ابن الحاجب الرضي الأستراباذي

قال: " الْخَط تَصْوِيرُ اللَّفْظِ بِحُرُوفِ هِجَائِهِ إلاّ أسْمَاءَ الْحُرُوفِ إذَا قُصِدَ بِهَا الْمُسَمَّى، نَحْوُ قَوْلِكَ: اكْتُبْ جِيم، عَيْن، فا، رَا، فَإِنَّكَ تَكْتُبُ هَذِهِ الصُّورَةَ (جَعْفَر) لأَنَّهَا مُسَمَّاهَا خَطُّا وَلْفظاً، وَلِذَلِكَ قَالَ الْخَلِيلُ لَمَّا سَأَلَهُمْ كَيْفَ تَنْطِقُونَ بِالْجِيم مِنْ جَعْفَرٍ فقالوا: جِيمٌ، فقال: إنَّمَا نَطَقْتُمْ بالاسْم ولم تنطقوا بالمسئول عَنْهُ، وَالْجَوَابُ جَهْ، لأنه الْمُسَمَّى، فَإنْ سُمِّيَ بِهَا مُسَمَّى آخَرُ كُتِبَتْ كَغَيْرِها نحو ياسِين وحَامِيم، وَفِي الْمُصْحَفِ عَلَى أصْلِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، نَحْوُ يس وحَم " أقول: حق كل لفظ أن يكتب بحروف هجائه: أي بحروف الهجاء التي ركب ذلك اللفظ منها إن كان مركباً، وإلا فبحرف هجائه: سواء كان المراد باللفظ ما يصح كتابته كأسماء حروف التهجي نحو ألف باتا ثا جيم، وكلفظ الشعر والقرآن ونحو ذلك، أو مالا يصح كتابته كزيد والرجل والضرب واليوم وغيرها، وكذا كان حق حروف أسماء التهجي في فواتح السور، لكنها لا تكتب بحروف
هجائها، بل تكتب كذا (ن والقلم، ق والقرآن) ولا يكتب (نون والقلم) ولعل ذلك لما توهم السفَرَة (1) الأول للمصاحف أن هذه الأسماء عبارة عن الأعداد كما روى عن بعضهم أن هذه الأسماء كنايات عن أعمار قوم وآجال آخرين، وذلك أن أسماء حروف التهجي قد تُصَوَّر مسمياتها إذا قصد التخفيف في الكتابة، نحو قولهم: كُلُّ جَ بَ، وكذا كتابتهم نحو قولهم: الكلمات ثلاث: االاسم، ب الفعل، ج الحروف، فعلى هذا في قوله " إلا أسماء الحروف إذا قصد المسمى " نظر، لأن تلك الأسماء مع قصد المسمى تكتب بحروف هجائها أيضاً، ألا ترى أنه تكتب هكذا: اكتب جيم عين فاء راء، ولا تكتب
__________
(1) السفرة - بفتحات - جمع سافر، وهو اسم دال على النسب، ومعناه صاحب السفر، وهو الكتاب الكبير، وقد يراد منه الكاتب (*)

(3/312)


هكذا: اكتب جَ عَ فَ رَ، والذي يختلف فيه الحال أنك إذا نسبت الكتابة إلى لفظ على جهة المفعولية فإنه ينظر: هل يمكن كتابة مسماه، أولاً، فإن لم يمكن نحو كتبت زيد ورجل، فالمراد أنك كتبت هذا اللفظ بحروف هجائه، وإن أمكن كتابة مسماه نحو كتبت الشعر والقرآن وجيم وعين وفاء وراء، فالظاهر أن المراد به مسمى اللفظ، فتريد بقولك: كتبت الشعر والبيت، أنك كتبت مثلا: * قفانبك مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ * البيت (1) وبقولك: كتبت القرآن، أنك كتبت مثلاً بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، السورة، وبقولك: كتبت جيم عين فاء راء أنك كتبت جعفر، ويجوز مع القرينة أن تريد بقولك: كتبت الشعر والبيت والقرآن، أنك كتبت صورة حروف تهجي هذه الألفاظ
والبحث في أن المراد باللفظ هو الاسم أو المسمى غيرُ البحث في أن ذلك اللفظ كيف يصور في الكتابة، والمراد بقوله " الخط تصوير اللفظ بحروف هجائه " هو الثاني دون الأول قوله " إذا قصد بها المسمى " أي: حروف التهجي قوله " جيم عين فا را " لا تُعْرب شيئاً من هذه الأسماء وإن كانت مركبة مع العامل كما في قولك: كتبت ماء، وأبصرت جيماً، لئلا يظن أنك كتبت كل واحدة من هذه الأحرف الأربعة منفصلة من البواقي، ولم تكتب حروف كل واحدة، فلم تُعرب الأسماء ولم تأت بواو العطف نحو اكتب جيم، وعين، وفاء، وراء، بل وصلت في اللفظ بعضها ببعض تنبيهاً على اتصال مسمياتها بعضها ببعض، لكونها حروف كلمة واحدة
__________
(1) تقدم شرح هذا البيت فانظره في (ج 2 ص 316) (*)

(3/313)


قوله " مسماها خطاً " ظاهر، لأن المسمى جيم مثلاً هذه الصورة جَ، لأنك إذا أمرت بكتابة جيم كتبت هكذا جَ، وكذا هو مسماة لفظاً، لأنك إذا أمرت بأن تتلفظ بجيم قلت: جَهْ قوله " ولذلك قال الخليل " أي: لكون جعفر مسمى جيم عين فار را لفظاً رد الخليل على أصحابه لما سألهم عن جيم جعفر كيف تنطقون به: أي كيف تتلفظون بمسمى هذا اللفظ وهو جيم؟ وذلك لأن المراد بكل لفظ مسماه إذا أمكن إرادته نحو ضربت زيداً: أي مسمى هذا اللفظ، وأما إذا لم يمكن نحو قرأت زيداً وكتبت زيداً فالمراد بأولهما اللفظ وبالثاني حروف هجاء اللفظ قوله " إنما نطقتم بالاسم " لأن جيم الذي هو على وزن فِعْل اسم لهذا المسمى، وهو جَهْ
قوله " فإن فإن سمي بها مسمى آخر " أي: سمي بأسماء حروف التهجي، كما لو سمي بدال مثلاً شخص قوله " كتبت كغيرها " أي: كتبت ألفاظها بحروف هجائها، فإذا قيل: اكتب دال يكتب هكذا " دال " كما يكتب: زيد قوله " وفي المصحف على أصلها " أي: يكتب مسمى أسماء حروف التهجي، ولا تكتب تلك الأسماء بحروف هجائها قوله " على الوجهين " أي: سواء كانت هذه الفواتح أسماءً لحروف التهجي كما قال الزمخشري: " إن المراد بها التنبيه على أن القرآن مركب من هذه الحروف كألفاظكم التي تتلفظون بها فعارِضوه إن قدرتم " فهي إذن تَحَدٍّ لهم، أو لم تكن، وذلك بأن تكون أسماء السور كما قال بعضهم، أو أسماء أشخاص كما قيل: إن يس وطه اسمان للنبي صلى الله عليه وسلم، وق اسم جبل، ون اسم للدواة، وغير ذلك أو تكون أبعاض الكلم كما نسب إلى ابن عباس رضي الله

(3/314)


عنه أنه قال في ألم: إن معناه أنا الله أعلم، وغير ذلك مما قيل فيها قال: " وَالأَصْلُ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ أَنْ تُكْتَبَ بِصُورَةِ لَفْظَها بِتَقْدِيرِ الابْتِدَاءِ بِهَا وَالْوَقْفِ عَلَيْهَا، فَمِنْ ثم كتب نحو ره زيداً، وقِهْ زَيْداً بِالْهَاءِ، ومِثْلُ مَهْ أَنْتَ، ومجئ، مَهْ جِئْتَ، بِالْهَاءِ أيْضاً، بخِلافِ الْجَارِّ، نَحْوَ حَتَّامَ وَإلاَمَ وَعَلاَمَ، لِشِدَّة الاتِّصَالِ بِالْحَرْفِ، وَمِنْ ثَمَّ كُتِبَتْ مَعَهَا بألِفَاتٍ وكُتِبَ مِمَّ وَعَمَّ بِغَيْرِ نُونٍ، فإِنْ قَصَدْتَ إلى الْهَاءِ كَتَبْتها وَرَدَدْتَ الْيَاءَ وَغَيْرَهَا إنْ شِئْتَ " أقول: أصل كل كلمة في الكتابة أن ينظر إليها مفردةً مستقلة عما قبلها وما بعدها، فلا جرم تكتب بصورتها مبتدأ بها وموقوفاً عليها، فكتب
مَنِ " ابْنُك " بهمزة الوصل، لأنك لو ابتدأت بها فلا بد من همزة الوصل، وكتب " ره زيداً " و " قه زيداً " بالهاء، لأنك إذا وقفت على ره فلا بد من الهاء قوله " ومِثْلُ مَهْ أَنْتَ؟ ومجئ مَهْ جِئْتَ؟ " قد ذكرنا في باب الوقف أن ما الاستفهامية المجرورة بالاسم يجب أن تقف عليها بالهاء، وفي المجرورة بالحرف يجوز إلحاق الهاء وتركه، وذلك لأن " ما " شديدة الاتصال بالحرف، لعدم استقلال الحرف دون ما يتصل به قله " ومِن ثَمَّ كتبت " أي: من شدة اتصال " ما " بالحرف كتبت حتى وإلى وعلى بألفات، ولم تكتب بالياء، وذلك لأن كتابتها بالياء إنما كانت لانقلاب ألف على وإلى الياء مع الضمير، نحو عليك وإليه، ومع ما الاستفهامية التي هي كالجزء صارتا نحْوَ غُلام وكَلام، فلا يدخلون الضمير، ولأن حتى تمال اسماً لكون الألف رابعة طرفاً ومع ما الاستفهامية لا تكون طرفاً، وكذا إلى اسماً أميلت، لكون ألفها طرفاً مع الكسرة قبلها وانقلابها ياء مع الضمير ومع " ما " لا تكون طرفاً

(3/315)


قوله " وكتب مِمَّ وعَمَّ بغير نون " أي: من جهة اتصال " ما " بالحرف لم يكتب عَنْ مَهْ ومِنْ مَهْ - بالنون - بل حذفت النون المدغمة خطًّا كما يحذف كل حرف مدغم في الآخَرِ في كلمة واحدة، نحو هَمَّرشٍ وأصله هَنْمَرشٌ (1) وامَّحَى أصله انْمَحَى قوله " فإن قَصَدْتَ إلى الهاء " يعني أنك إذا قلت: ممَّ جئت؟ وعمَّ يتساءلون؟ وقصدت أنك لو وقفت على مِمَّ وعمَّ ألحقتهما هاء السكت وجب عليك إلحاق هاء السكت في الكتابة، لأنك تكون إذا معتبراً لما الاستفهامية مستقلة بنفسها، فتردّ نون من وعن، ويكتب هكذا: من مه جئت؟ وعن
مه يتساءلون؟ قوله " ورددت الياء " يعني في " عَلَى مَهْ " و " حتَّى مه " قوله " وغيرها " يعنى النون في " مِنْ مَهْ جئت " قوله " إن شئت " يرجع إلى رد الياء وغيرها لا إلى كتابة الهاء، لأن كتابتها إذن واجبة، لكن أنت مخير مع كَتْبَةِ الهاء بين رد النون والياء، وترك ردهما، فإن رددتهما فنظرا إلى الهاء، لأنها إنما اتصلت نظراً إلى استقلال " ما " بنفسها، وإن لم ترد فنظرا إلى عدم استقلال حروف الجر دون ما، فيكون " علامه " مثل كيفه، وأينه، كأن الهاء لحقت آخر كلمة واحدة محركة بحركة غير إعرابية ولا مُشْبِهة لها قال: " وَمِنْ ثَمَّ كُتِبَ أنَا زَيْدٌ بِالأَلِفِ، وَمِنْهُ لكِنَّا هُوَ اللهُ، وَمِنْ ثَمَّ كُتِبَتْ تاءِ التَأْنِيثِ في نَحْو رَحْمَةٍ وَتُخَمَةٍ هَاء، وَفِيمَنْ وَقَفَ بِالتَّاءِ تَاءً، بِخِلاَفِ أُخْتٍ وَبِنْتٍ وَبَابِ قَائِمَاتٍ وباب قامت هند "
__________
(1) الهمرش - بزنة جحمرش -: العجوز المضطربة الخلق، أو العجوز المسنة انظر (ح 1 ص 61) ثم انظر (ح 2 ص 364) (*)

(3/316)


أقول: يعني ومن جهة أن مبني الكتابة على الوقف قوله " ومنه لَكِنَّا " يعني إذا لم يقرأ بالألف، فإنه يكتب بالألف في تلك القراءة أيضاً، لأن أصله لَكِن أنا (1) قوله " وفيمَنْ وقف " مر في باب الوقف أن بعضهم يقف عليها بالتاء نحو كظ الجحفَتْ (2) قوله " بخلاف أخت " أي: ولا يوقف على تاء أخت وبنت بالهاء لأنها بدل من لام الكلمة وليست بتاء التأنيث، بل فيها رائحة من التأنيث، بكونها بدلاً
من اللام في المؤنث دون المذكر، وكذا تاء قائما ليست للتأنيث صرفا، بل علامة الجمع، لكن خصت بجمع المؤنث لكون التاء مناسبة للتأنيث، ومن قال كيف البنون والبناة - بالهاء - وجب أن يكتبها بالهاء، وهو قليل، ويعني بباب قائمات جمعَ سلامة المؤنث، وبباب قامت الفعلَ الماضي المتصلَ به تاء التأنيث قال: " وَمِنْ ثَمَّ كُتِبَ الْمُنَوَّنُ الْمَنْصُوبُ بالأَلِفِ، وَغَيْرُهُ بِالْحَذْفِ وَإذَنْ بِالأَلِفِ عَلَى الأَكْثَر، وَكَذَا اضْرِبَنْ، وَكَانَ قِيَاسُ اضْرِبُنْ بِوَاوٍ وَألِفٍ، واضْرِبِنْ بِيَاءٍ، وَهَلْ تَضْرِبُنْ بِوَاوٍ وَنُونٍ، وَهَلْ تَضْرِبِن بِيَاءٍ وَنُونٍ، وَلَكِنَّهُمْ كَتَبُوهُ عَلَى لَفْظِهِ لِعُسْرِ تَبَيُّنِهِ أَوْ لِعَدَمِ تَبَيُّنِ قَصْدِهَا، وَقَدْ يُجْرَى اضْرِبَنْ مُجْرَاهُ " أقول: قوله " وغيره " أي: غير المنصوب المنون، وهو إما المرفوع والمجرور
__________
(1) قد مضى بيان ذلك على التفصيل في باب الوقف فارجع إليه في (ح 2 ص 295) (2) هذه كلمة من بيت من بحر الرجز، وهو مع ما قبله: مَا ضَرَّهَا أمْ مَا عَلَيْهَا لَوْ شَفَتْ * مُتَيَّماً بِنَظْرَةٍ وَأَسْعَفَتْ بل جوز تيهاء كظهر الحجفت وانظره مشروحا شرحا وافيا في (ح 2 ص 277 وما بعدها) (*)

(3/317)


المنونان كجاءني زيد ومررت بزيد، أو غير المنون: مرفوعاً كان أو منصوباً أو مجروراً، كجاءني الرجل ورأيت الرجل ومررت بالرجل، أو مَبْنياً قوله " وإذن بالألف على الأكثر " وذلك لما تبين في الوقف أن الأكثر في إذن الوقف عليه بالألف، فلذا كان أكثر ما يكتب بالألف، والمازني يقف عليه بالنون فيكتبه بالنون، وأما اضْرِبَنْ فلا كلام في أن الوقف عليه بالألف، فالأكثر يكتبونه بالألف، ومن كتبه بالنون فلحمله على أخويه: أي اضربن
واضربن، كما يجئ، وإنما كان قياس اضربُنْ بالواو والألف لما تقدم في شرح الكافية أنك إذا وقفت على النون الخفيفة المضموم ما قبلها أو المكسور هو ردَدْتَ ما حذف لأجل النون: من الواو والياء في نحو اضربوا واضربي، ومن الواو والنون في هل تضربونَ، ومن الياء والنون في هل تضربين، فكان الحق أن يكتب كذلك بناء للكتابة على الوقف، لكن لم يكتب في الحالين إلا بالنون، لعسر تبيّنه: أي لأنه يعسر معرفة أن الموقوف عليه من اضربُنْ واضْربِنْ وهل تضربُنْ وهل تضرِبنْ كذلك: أي ترجع في الوقف الحروف المحذوفة، فإنه لا يَعْرَف ذلك إلا حاذق بعلم الإعراب، فلما تعسر معرفة ذلك على الكُتَّاب كتبوه على الظاهر، وأما معرفة أن الوقف على اضْرِبَنْ - بفتح الباء - بالألف فليست بمتعسرة، إذ هو في اللفظ كزيداً ورجلاً قوله " أو لعدم تبين قصدها " أي: لو كتبت بالواو والياء، والواو والنون، والياء والنون، لم يتبين: أي لم يعلم هل هو مما لحقه نون التوكيد أو مما لم يلحقه ذلك، وأما المفرد المذكر نحو اضربَا فلم يلتبس، لأن المفرد المذكر لا يلحقه ألف، وبعضهم خاف التباسه بالمثنى فكتبه بالنون، أو يقول: كتبه كذلك حملا على اضربُنْ واضربِنْ، لأنه من نوعهما، وهذا معنى قوله " وقد يُجْرى اضربن مجراه "

(3/318)


قوله " تَبَيُّنِ قَصْدِها " أي: المقصود منها: أي من الكلمات المكتوبة، فهو مصدر بمعنى المفعول، أو بمعنى تَبَيُّنِ أنك قصدتها: أي قصدت النون، فيكون المصدر بمعناه قال: " وَمِنْ ثَمَّ كُتِبَ بَابُ قَاضٍ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَبَابُ الْقَاضِي بِالْيَاءِ عَلَى الأَفْصَحِ فِيهِمَا، وَمِنْ ثَمَّ كُتِبَ نَحْوُ بَزَيْدٍ وَلِزَيْدٍ وَكَزَيْدٍ مُتَّصِلاً، لأَنًّهُ لا يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَكُتِبَ نَحْوُ مِنْكَ وَمِنْكُمْ وَضَرَبَكُمْ متَّصِلاً، لأنَّهُ
لا يُبْتَدَأُ بِهِ " أقول: إنما لم تكتب الباء واللام والكاف غير متصلة لكونها على حرف ولا يوقف عليه، ولو كان لعدم الوقوف عليها لكتب نحو من زيد على زيد متصلاً، وإنما لم يبتدأ بالمضمرات المذكورة لكونها متصلة، وأما نحو بكم وبك فقد اجتمع فيه الامران قال: " وَالنَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا لاَ صُورَةَ لَهُ تَخُصُّهُ، وَفِيمَا خُولِفَ بِوَصْلٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ بَدَلٍ، فَالأَوَّلُ الْهَمْزَةُ وَهُوَ أَوَّلٌ وَوَسَطٌ وَآخِرٌ الأَوَّلُ أَلِفٌ مُطْلَقاً نَحْوُ أحَدٍ وَأُحَدٍ وَإبِل، وَالْوَسَطُ: إمَّا سَاكِنٌ فَيُكْتَبُ بِحَرْفِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهُ مِثْلُ يَأكُلُ وَيُؤْمِنُ وَبِئْسَ، وَإمَّا مُتَحَرِّكٌ قَبْلَهُ سَاكِنٌ فَيُكْتَبُ بِحَرْفِ حَرَكَتِهِ مثل يسأل ويلؤم ويسم، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُهَا إنْ كَانَ تَخْفِيفُهَا بِالنَّقْلِ أَوِ الإِدْغَام، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفُ الْمَفْتُوحَةَ فَقَطْ، وَالأَكْثَرُ عَلَى حَذْفِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَ الأَلِفِ، نَحْوُ سَاءَلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْذِفَهَا فِي الْجَمِيعِ، وَإمَّا مُتَحَرِّكٌ وَقَبْلَهُ متحرك فيكتب عَلَى نَحْوِ مَا يُسَهَّلُ، فَلِذَلِكَ كُتِبَ نَحْوُ مُؤَجَّلٍ بِالْوَاوِ وَنَحْوُ فِئَةٍ بِالْيَاءِ، وَكُتِبَ نَحْوُ سَألَ وَلَؤُمَ وَيَئِسَ وَمِنْ مُقْرِئِكَ ورُؤُوسِ بِحَرْفِ حَرَكَتِهِ، وَجَاءَ فِي سُئِلَ وَيُقْرِئُكَ الْقَوْلاَنِ، وَالآخِرُ إنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ سَاكِناًَ حُذِفَ،

(3/319)


نحو خبء وخبء وخبئا، وإن كان متحركا كاكتب بِحَرْفِ حَرَكَةِ مَا قَبْلَهُ كيْفَ كَانَ، نَحْوُ قَرَأَ وَيُقْرِئُ وَرَدُؤَ وَلَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يُقْرِئْ وَلَمْ يَرْدُؤْ، وَالطَّرَفُ الَّذِي لاَ يُوقَفُ على لاتِّصَالِ غَيْرِهِ كَالْوَسَطِ نَحْوُ جُزْؤُكَ وَجُزْأَكَ وَجُزْئِك، وَنَحْوُ رِدْؤُكَ وَرِدْأََكَ وَردْئِكَ، وَنَحْوُ يَقْرَؤُهُ وَيُقْرِئُكَ، إلا فِي نَحْوِ مَقْرُوءَة وَبَرِيئَة، بِخِلافِ الأَوَّلِ الْمُتَّصِلِ بِهِ غَيْرُهُ، نَحْوُ بِأحَدٍ
وَكَأَحَدٍ وَلأَحَدٍ، بِخِلاَفِ لِئَلاَّ، لِكَثْرَتِهِ، أَوْ لِكَرَاهَةِ صُورَتِهِ، وَبِخِلاَفِ لَئِنْ، لِكَثْرَتِهِ، وَكُلُّ هَمْزَةٍ بَعْدَهَا حَرْفُ مَدٍّ كصُورَتِهَا تُحْذَفُ نَحْوَ خَطَئَا في النَّصْبِ وَمُسْتَهْزِؤُونَ ومستهزءين، وَقَدْ تُكْتَبُ بِالْيَاءِ، بِخِلاَفِ قَرَأَا ويقرأ ان لِلَّبْسِ، وَبِخِلاَفِ نَحْوِ مُسْتَهْزِئَيْنِ فِي الْمُثَنَّى لِعَدَمِ الْمَدِّ، وَبِخِلاَفِ نَحْوِ ردَائِي وَنَحْوِهِ فِي الأَكْثَرِ، لِمُغَايَرَةِ الصُّورَةِ، أوْ لِلْفَتْحِ الأَصْلِيِّ، وَبِخِلاَفِ نَحْوِ حِنَّائِيٍّ فِي الأَكْثَرِ، لِلْمُغَايَرَةِ وَالتَّشْدِيدِ، وَبِخِلاَفِ لَمْ تَقْرَئِي لِلْمُغَايَرَةِ وَاللَّبْسِ " أقول: قدم للكتابة أصلاً، وهو كونها مبنية على الابتداء والوقف، ثم شرع في التفصيل، فذكر أولاً حال، لحرف الذي ليس له صورة مخصوصة، بل له صورة مشتركة، وتستعار له صورة غيره، وهو الهمزة، وذلك أن صورة الألف: أعني هذه (أ) لمّأ كانت مشتركة في الاصل بين الألف والهمزة - ولفظة الألف كانت مختصة بالهمزة، لأن أول الألف همزة، وقياس حروف التهجي أن تكون أولَ حرف من أسمائها كالتاء والجيم وغيرها، ثم كثر تخفيف الهمزة، ولا سيما في لغة أهل الحجاز، فإنهم لا يحققونها ما أمكن التخفيف - استعير للهمزة في الخط وإن لم تخفف صورة ما يقلب إليه إذا خففت، وهي صورة الواو والياء ثم يعلّم على تلك الصورة المستعارة بصورة العين البتراء هكذا (ء) ليتعين كونها همزة، وإنما جعلت العين علامة الهمزة لتقارب مخرجيهما، فإن لم تكن الهمزة في موضع التخفيف

(3/320)


وذلك إذا كانت مبتدأ بها كتبت بصورتها الأصلية المشتركة أعني هذه (ا) نحو إبل وأحد وأَحَد، وكذلك تكتب بهذه الصورة إذا خففت بقلبها ألفاً، نحو راس ثم نقول: إذا كانت الهمزة وسطاً ساكنة متحركاً ما قبلها كتبت بمقتضى حركة ما قبلها نحو يُؤمن ويأكل وبِئْس، لأنها تخفف هكذا (ا) إذا خففت
وتكتب الوسط المتحركة المتحرك ما قبلها نحو مؤجَّل بالواو وفئة بالياء والخمسة بحرف حركته نحو سأل ولؤُم ويئس ومِن مقرئِك ورؤُوس، وأما الاثنان الباقيان نحو سُئِل ويُقْرئُك فعلى مذهب سيبويه بحرف حركته، وعلى مذهب الأخفش بحرف حركة ما قبله، كل ذلك بناء على التخفيف، كما تقدم في باب تخفيف الهمزة وكذا يكتب الوسط الذي قبله ألف باعتبار حركته، لأن تخفيفه باعتبارها فيكتب نحو سأل بالألف والتساؤل بالواو وسائل بالياء، والأكثرون على ترك صورة الهمزة المفتوحة بعد الألف استثقالاً للألفين، فيكتبون ساءَل بألف واحدة وكذا المقروء والنبئ، وكذا يتركون صورة الهمزة التي بعدها الواو إذا كان حق الهمزة أن تكتب واواً لولا ذلك الواو نحو رءوس، وكذا في نحو سئامة ومستهزءين، إلا إذا أدى إلى اللبس، نحو قرأا ويقرأ ان ومستهزئين كما يجئ، ويكتب الأخير المتحرك ما قبله بحرف حركة ما قبله سواء كان متحركاً كما في يقرأ ويردُؤ ويُقْرِئ، أو ساكناً كما في لَمْ يَقْرَأْ ولم يردُؤْ ولم يُقْرِئْ، وذلك لأن الحركة تسقط في الوقف، ومبنى الخط على الوقف فتدبر الهمزةُ بحركة ما قبلها وأما إن كانت الأخيرة في حكم الوسط وهو إذا اتصل بها غير مستقل فهي في حكم المتوسطة، نحو يقرَؤُه ويقرئُه ونحو ذلك، وكان قياس نحو السماء والبناء أن تكتب همزته بالألف لأن الأكثر قلب مثلها ألفاً في الوقف كما مر في باب

(3/321)


تخفيف الهمزة (1) ، لكنه استكره صورة ألفين، ولذا لم تكتب في نحو قولك: علمت نبئاً، صورة للهمزة هذا كله حكم كتابتها إذا كانت مما تخفف بالقلب بلا إدغام، فإن كانت
تخفف بالحذف، فإن كانت أخيراً فإنها تحذف في الخط أيضا نحو خبء، وجزء ودفء، وذلك لأن الآخِر محل التخفيف بالحذف خطا كما هو محل التخفيف لفظاً، وإن كان في الوسط كيسأل ويُسْئِم ويَلْؤُم، أو في حكم الوسط باتصال غير مستقل بها نحو جُزْأَكَ وجُزْؤُكَ وجُزْئِكَ، فالأكثر أنها لا تحذف خطّاً وإن كان التخفيف بحذفها، وذلك لأن حذفك في الخط لما هو ثابت لفظاً خلاف القياس اغتفر ذلك في الآخر الذي هو محل التخفيف، فيبقى الوسط ثابتاً على أصله فلما لم يحذف ولم تبن كتابتها على التخفيف أعيرت صورةَ حرفِ حركتها، لأن حركتها أقرب الأشياء إليها فكتبت مسألة وَيَلْؤُم ويسم وسَوْءة وجُزْأَكَ وجُزْؤُك وجُزْئِكَ بتدبير حركة الهمزات، وإن كانت تخفف بالقلب مع الإدغام حذفت في الخط سواء كانت في الطرف كالمقروء والنبئ، أو في الوسط كالقَرُوآء على وزن البَروكاء (2) أو في حكم الوسط كالبريّة والمقروَّة، وذلك لأنك في اللفظ تقلبها إلى الحرف الذي قبلها وتجعلها مع ذلك الحرف بالإدغام كحرف واحد، فكذا جعلت في الخط هذا، وبعضهم يبني الكتابة في الوسط أيضاً على التخفيف فيحذفها خطاً في كل ما يخفف فيه لفظاً بالحذف أو الإدغام، وبعضهم يحذف المفتوحة فقط لكثرة مجيئها نحو مَسَلَة، ويَسَلُ، وإنما لم تكتب الهمزة في أول الكلمة إلا بالألف وإن كانت قد تخفف بالحذف كما في الأرْض وقَدَ أفْلح لأن مبنى الخط على الوقف
__________
(1) انظر (ص 43، 44 من هذا الجزء) (2) البروكاء: الثبات في الحرب، وانظر (ح 1 ص 248) (*)

(3/322)


والابتداء، وإذا كانت الكلمة التي في أولها الهمزة مبتدأ بها لم تخفف همزتها فتكتب بالصورة التي كانت لها في الأصل وإن كانت مشتركة
فإن قيل: إذا اتصل بآخر الكلمة غير مستقل نحو جزؤه ويجزئه تجعل الهمزة التي حقها الحذف كالمتوسطة فهلا تجعل المصدرة التي حقها هذه الصورة (ا) إذا اتصل بها غير مستقل نحو الأرْض وبأحُد ولأحَد كالمتوسطة قلت: لأني إذا جعلت الهمز الذي حقه الحذف ذا صورة فقد رددته من الحذف الذي هو أبعد الأشياء من أصله أعني كونه على هذه الصورة (ا) إلى ما هو قريب من أصله وهو تصورة بصورة ما وإن لم تكن صورته الأصلية، وإذا غيرت ما حقه هذه الصورة أي المصورة بالحذف أو بإعارتها صورة الواو والياء فقد أخرجت الشئ عن أصله إلى غيره، فلهذا لم تجعل المصدرة في الخط كالمتوسطة إلا في لِئَلاَّ كما يجئ قوله " فيما لا صورة له تخصه " إنما قال ذلك لأن هذه الصورة (ا) مشتركة في أصل الوضع بين الهمزة والألف كما مضى قوله " فيما خولف ": أي خولف به عن أصل الكتابة الذي كان حق الخط أن يكون عليه قوله " الأول الألف مطلقاً ": أي مضمومة كانت أو مفتوحة أو مكسورة، وذلك لما قلنا قوله " يكتب بحرف حركته " إلا أن يكون تخفيفه بالادغام كسؤال على وزن طومَارٍ (1) فإنه يحذف كما ذكرنا قوله " ومنهم من يحذف المفتوحة " أي: يحذف من جملة ما يخفف بالنقل
__________
(1) الطومار: الصحيفة.
وانظر (ح 1 ص 198، 217) ثم انظر (ص 76 من هذا الجزء) (*)

(3/323)


المفتوحة فقط نحو يسئل ومسألة، ولا يحذف نحو يلؤُم ويُسْئِم
قوله " والأكثر على حذف المفتوحة " أي: أن الأكثرين يحذفون المفتوحة فقط بعد الألف نحو ساءَلَ، ولا يحذفونها بعد ساكن آخر، ولا يحذفون غير المفتوحة بعد ساكن قوله " ومنهم من يحذفها في الجميع " أي: يحذف الهمزة المتوسطة الساكن ما قبلها، سواء خففت بالقلب أو بالحذف أو بالإدغام قوله " كيف كان " أي: متحركاً أو ساكناً قوله " إلا في نحو مقروة وبرية " إذ حقها الإدغام كما ذكرنا قوله " لئلا لكثرته " أي لكثرة استعماله صار لام لئلا متصلاً بالهمزة وإن كان متصلاً بلا، فصارت الثلاثة ككلمة واحدة نحو فئة قوله " أو لكراهة صورته " أي لو كتب هكذا (لا لا) قوله " وكل همزة بعدها حرف مد " في الوسط كانت كرءوف ونئيم وسئال أو في الطرف نحو خَطئاً في النصب ومستهزؤون ومستهزءين، حذفت إذا لم يلتبس لاجتماع المثلين، والأكثر على أن الياء لا تحذف، لأن صورتها ليست مستقلة كنئيم ومستهزئين، وهذا معنى قوله " وقد يكتب الياء " وأما في الطرف فقد يكتب الياءان لاختلاف صورتيهما نحو ردائي قوله " بخلاف قرأا ويقرأ ان " فإنهما لو كتبا بألف واحدة لا لتبس قرأا بالمسند إلى ضمير الواحد ويقرأ ان بالمسند إلى ضمير جمع المؤنث قوله " بخلاف مستهزئَين في المثنى لعدم المد " ليس بتعليل جيّد، لأن المد لا تأثير له في الخط، بل إنما كان الحذف لاجتماع المثلين خطا، وهو حاصل: سواء كان الثاني مداً أو غير مد، بل الوجه الصحيح أن يقال: إن الأصل أن لا تحذف الياء كما ذكرنا لخفة كتابتها على الواو كما ذكرنا، بخلاف الواوين والألفين مع

(3/324)


أن أصل مستهزئين وهو مستهزئان ثبت فيه للهمز صورة، فحمل الفرع عليه في ثوبتها، وأما أصل مستهزئين في الجمع فلم يكن للهمز فيه صورة نحو مستهزءون لاجتماع الواوين فحمل الفرع عليه قوله " أو للفتح الأصلي " يعني لم يكن في الأصل مداً، وقد ذكرنا ما عليه، وكذا قوله " للتشديد " أي: لم يكن مداً قوله " واللبسِ " أي: يلتبس بلم تقرى من القرى قال: " وَأَمَّا الْوَصْلُ فَقَدْ وَصَلُوا الْحُرُوفِ وَشِبْهَهَا بِمَا الْحَرْفِيَّةِ، نَحْوَ إنما إلهكم إله وَأَيْنَمَا تَكُنْ أَكُنْ وَكُلَّمَا أَتَيْتَنِي أَكرَمْتُك، بِخِلاَفِ إن ما عِنْدِي حَسْنٌ وَأَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي وَكُلُّ مَا عِنْدِي حَسَنٌ، وَكَذَلِكَ عَنْ مَا وَمِنْ مَا فِي الْوَجْهَيْنِ، وَقَدْ تُكْتَبَانِ مُتَّصِلَتَيْنِ مُطْلَقاً لِوُجُوبِ الإدْغَام، وَلَمْ يَصِلُوا مَتَى، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَغْيِيرِ الْيَاءِ، وَوَصَلُوا أَنِ النَّاصِبَةِ لِلْفِعْل مَعَ لاَ بِخِلاَفِ الْمُخَفَّفَةِ نَحْوُ عَلِمْتُ أَنْ لا يَقُومُ، وَوَصَلُوا إنِ الشَّرْطِيَّةَ بِلاَ وَمَا، نَحْوُ إِلاَّ تفعلوه وإما تخافن، وَحُذِفَتِ النُّونُ فِي الْجَمِيعِ، لِتَأكِيدِ الاتصال، ووصلوا نَحْوَ يَوْمَئِذٍ وَحِينَئِذٍ فِي مَذْهَبِ الْبِنَاءِ فَمِنْ ثَم كُتِبَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً، وَكَتَبُوا نَحْوَ الرَّجُل عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مُتَّصِلاً، لأنَّ الْهَمْزَةَ كَالْعَدَمِ، أَوِ اخْتِصَاراً لِلْكَثْرَةِ ".
أقول: قوله " الحروف وشِبْهَهَا " أي: الأسماء التي فيها معنى الشرط أو الاستفهام نحو أينما وحيثما وكلما، وكان ينبغي أن يقول: بما الحرفية غير المصدرية، لأن " ما " المصدرية حرفيية على الأكثر ومع هذا تكتب منفصلة نحو إن ما صنعت عجب: أي صنعك عجب، وإنما كتب المصدرية منفصلة مع كونها حرفية غير مستقلة أيضاً تنبيهاً على كونها مع ما بعدها كاسم واحد، فهي من تمام ما بعدها لا ما قبلها قوله " في الوجهين " أي: إن كان " ما " حرفا نحو عما قليل ومما خطيئاتهم

(3/325)


وصلت، لأن الأولى والثانية حرفان ولهما اتصال آخر من حيث وجوب إدغام آخر الأولى في أول الثانية، وإن كانت " ما " اسمية نحو بعدت عن ما رأيت، وأخذت من ما أخذت، فصلت لانفصال الاسمية لسبب استقلالها، وقد تكتب الاسمية أيضاً متصلة، لكونها كالحرفية لفظاً على حرفين، ولمشابهتها لها معنى، ولكثرة الاستعمال، ولاتصالها اللفظي بالإدغام، وهو معنى قوله " لوجوب الإدغام " وقوله " مطلقاً " أي: اسمية كانت أو حرفية قوله " متى " يعني في قولهم: متى ما تركَبْ أركب قوله " لما يلزم من تغيير الياء " يعني لو وصلتَ كتبت الياء ألفاً فيكتب متى ما كعلام وإلام وحتام، ولا أدري أي فساد يلزم من كتب ياء متى ألفاً كما كتبت في عَلاَمَ وإلام؟ والظاهر أنها لم توصل لقلة استعمالها معها، بخلاف عَلاَمَ وإلام قوله " أنِ الناصبة للفعل " في لئلا، المخففة، لأن الناصبة متصلة بما بعدها معنى من حيث كونها مصدرية ولفظاً من حيث الإدغام، والمخففة وإن كانت كذلك إلا أنها منفصلة تقديرا بدخلوها على ضمير شأن مقدر بخلاف الناصبة.
قوله " ووصلوا إن الشرطية بلا وما دون المخففة والزائدة " نحو أنْ لا أظنك من الكاذبين، وأنْ ما قلتُ حَسَن، لكثرة استعمال إن الشرطية وتأثيرها في الشرط بخلافهما قوله " وحذفت النون في الجميع " أي: لم يكتب هكذا: منْما وعنْما ولئنْلا وإنْلاَ وإنْما، بنون ظاهرة، بل أدغم مع الاتصال المذكور لتأكيد الاتصال، وإنما ذكر هذه لأنه لم يَذكر قبلُ إلا الاتصالَ، والاتصال غير الإدغام كما صورنا.
قوله " في مذهبِ البناء " أي: إذا بنى الظرف المقدم على إذ، لأن البناء
دليل شدة اتصال الظرف بإذ، والأكثر كتابتهما متصلين على مذهب الإعراب

(3/326)


أيضاً، حملاً على البناء، لأنه أكثر من الإعراب قوله " فمن ثم " أي: من جهة اتصال الظرف بإذ وكون الهمزة متوسطة كتبت ياء كما في سَئِم، وإلا فالهمزة في الأوّل، فكان حقها أن تكتب ألفاً كما في بأحد ولإبل قوله " على المذهبين " أي: مذهب الخليل وسيبويه: أما على مذهب سيبويه فظاهر، لأن اللام وحدها هي المعرفة، فهي لا تستقل حتى تكتب منفصلة، وأما على مذهب الخليل وهو كونها كبَلْ وهَل، فإنما كتبت متصلة أيضاً لأن الهمزة وإن لم تكن للوصل عنده لكنها تحذف في الدرج فصارت كالعدم، أو يقال: الألف واللام كثيرة الاستعمال فخفف خطَّا بخلاف هل وبل قال: " وَأَمَّا الزَّيَادَةُ فَإِنَّهُمْ زَادُوا بَعْدَ وَاوِ الْجَمْعِ الْمُتَطَرِّفَةِ فِي الْفِعْلِ ألِفاً نَحْوُ أكَلُوا وَشَرِبُوا فرقا بينها فِي التَّأْكِيدِ بِأَلِفٍ، وَفِي الْمَفْعُولِ بِغَيْرِ ألِفٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُهَا فِي نَحْوِ شَارِبُوا الْمَاء، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحذِفُهَا فِي الْجَمِيعِ، وَزَادُوا فِي مَائَةِ أَلِفاً فَرْقاً بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِنْهُ، وَأَلْحَقُوا الْمُثَنَّى بِهِ، بِخِلافِ الْجَمْعِ وَزَادُوا فِي عَمْرٍو وَاواً فَرْقاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ مَعَ الْكَثْرَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَزِيدُوهُ فِي النَّصْبِ، وَزَادُوا فِي أُولئِكَ وَاواً فَرْقاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِلَيْكَ، وَأُجْرِي أُولاَءِ عَلَيْهِ، وَزَادُوا فِي أولِي وَاواً فَرْقاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ إلَى، وَأَجْرِيَ أُولُو عَلَيْهِ ".
أقول: قوله " المتطرفة " احتراز عن نحو ضربوهم وضربوك وضربوه، والأصل أن لا تكتب الألف إلا في واو الجمع المنفصلة، نحو مَرُّوا، وعَبَروا إذ المتصلة لا تلتبس بواو العطف، إذ هي لا تكتب إلا منفصلة، لكنه طرد
الحكم في الجميع، كما أنه كتب في نحو عبروا وإن لم يأت بعده ما يمكن أن يكون

(3/327)


معطوفاً، لما كان يلبس في بضع المواضع، نحو إن عبروا ضربتهم قوله " بخلاف يدعو ويغزو " لأن الواو التي هي اللام لا تنفصل عن الكلمة كواو الجمع حتى لا تلتبس بواو العطف، وهي من تمام الكلمة: متصلة كانت في الخط كيدعو، أو منفصلة كيغزو قوله " في التأكيد بألف " لأن الواو إذن متطرفة، بخلاف واو ضربوهم، إذا كان " هم " مفعولاً، والأكثرون لا يكتبون الألف في واو الجمع الاسمي نحو شاربو الماء، لكونه أقلَّ استعمالاً من الفعل المتصل به واو الجمع، فلم يبال اللبس فيه إن وقع لقلته، ومنهم من يحذف الألف في الفعل والاسم لندور الالتباس فيهما، وإنما ألحق مائتان بمائة في إلحاق الألف دون مئات ومئين وإن لم يحصل اللبس لا في المثنى ولا في المجموع، لأن لفظ المفرد باق في المثنى، بخلاف الجمع، إذ تاء المفرد تسقط فيه قال: " وأما النقص فَإِنَّهُمْ كَتَبُوا كُلَّ مُشَدَّدٍ مِنْ كَلِمَةٍ حَرْفاً وَاحِداً نَحْوُ شَدَّ وَمَدَّ وَادّكَرَ، وَأُجْرِي، نَحْوُ قَتَتُّ مُجْرَاهُ، بِخِلاَفِ نَحْوُ وَعَدْتُ وَاجْبَهْهُ، وَبِخِلاَفِ لاَم التَّعْرِيفِ مُطْلَقاً نَحْوُ اللَّحْمِ وَالرَّجُلِ، لِكَوْنِهِمَا كَلِمَتَيْنِ، وَلِكَثْرَةِ اللَّبْسِ، بِخِلاَفِ الَّذِي وَالَّتي وَالَّذِينَ لِكَوْنِهَا لاَ تَنْفَصِلُ، وَنَحْوُ اللذَيْنِ فِي التَّثْنِيَةِ بِلاَمَيْنِ لِلْفَرْقِ، وَحُمِلَ اللتين عليه، وكذا اللاءون وَأخَوَاتُهُ، وَنَحْوُ عَمَّ وَمِمَّ وَإمَّا وَإلاَّ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَنَقَصُوا مِنْ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الألِفَ لَكَثْرَتِهِ بِخِلاَفِ بِاسْمِ اللهِ وَباسْم رَبِّكَ وَنَحْوهِ، وَكَذَلِكَ الألفُ مِنَ اسم الله والرحمن مُطْلَقاً، وَنَقَصُوا مِنْ نَحْوِ لِلرَّجُلِ وَلَلرَّجُلُ وَلِلْدَّارِ وَلَلدَّارُ جَرّاً وَابْتِدَاءً الأَلِفَ لِئَلاَّ يَلْتَبِسَ بالنَّفِي، بِخِلاَفِ بِالرَّجُلِ وَنَحْوِهِ، وَنَقَصُوا مَعَ
الألفِ واللاَّمِ مِمَّا فِي أَوَّلِهِ لامٌ نَحْوُ لِلَّحْمِ ولِلَّبَنِ كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ ثَلاثِ لامَاتٍ، وَنَقَصُوا مِنْ نَحْوِ أَبْنُكَ بَارٍّ في الاسْتِفْهَامِ وَأصْطَفَى البنات ألَفَ الْوَصْلِ، وجَاءَ

(3/328)


فِي الرَّجُلُ الأمْرَانِ، وَنَقَصُوا مِنِ ابْنٍ إِذَا وَقَعَ صِفَةً بَيْنَ عَلَمَيْنِ أَلِفَهُ مِثْلُ هَذَا زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، بِخِلاَفِ زَيْدٌ ابْنُ عَمْرٍو، وَبِخِلاَفِ الْمُثَنَّى، وَنَقُصُوا أَلِفَ هَا مَعَ اسْم الإِشَارَةِ نَحْوُ هَذَا وَهَذِهِ وَهَذَانِ وهؤلاءِ، بِخِلاَفِ هَاتَا وَهَاتِي لِقِلْتِهِ، فَإِنْ جَاءَتِ الْكَافُ رُدَّتْ، نَحْوُ هاذاك وهاذانك، لاتِّصَالِ الْكَافِ وَنَقصُوا الأَلِفِ مِنْ ذَلِكَ وأولئك، ومن الثلث والثلثين، وَمِنْ لَكِنْ وَلَكِنَّ، وَنَقَصَ كَثِيرٌ الْوَاوَ مِنْ داوَدُ وَالألَفَ مِنْ إبراهيم وإسماعيل وإسحق وَبَعْضُهُمْ الألِفَ مِنْ عُثْمَان وسُلَيْمَانَ وَمُعَاوِيَةَ " أقول: قوله " كل مشدد من كلمة " احتراز من نحو شكر رَبَّكَ قوله " شد ومد " مثال لمثلين في كلمة قوله " ادكر " مثال المتقاربين في كلمة وإنما كتب المشدَّد حرفاً في كلمة للزوم جعلهما في اللفظ كحرف بالتشديد، فجعلا في الخط حرفاً، وأما إذا كانا في كلمتين فلا يلزم جعلهما كحرف في اللفظ فلم يجعلا أيضا حرف في الخط، وأيضاً فإن مبنى الكتابة على الوقف والابتداء، وإذا كان كذا فلا يلتقي إذن مثلان ولا متقاربان حتى يكتبا حرفاً قوله " وأجري قََتَتُّ " وذلك لكون التاء بكونه فاعلاً وضميراً متصلاً كجزء الفعل، فجعلا في الخط حرفاً، لوجوب الإدغام بسبب تماثلهما، وأما في وعدت فلم يكتبا حرفاً لعدم لزوم الإدغام وعدم تماثلهما في الخط، ولا اجْبَهْهُ، لأنهما وإن كانا مثلين والثاني ضمير متصل لكنه ليس كالجزء من الفعل، لكونه فضله، إذ هو مفعول
قوله " وبخلاف لام التعريف مطلقاً " أي: سواء كان بعدها لام كاللحم، أو غيرها مما تدغم فيه كالرجل، فإنها لا تنقص في الخط في الموضعين، لكون لام التعريف وما دخلته كلمتين، وقد احترز عنه بقوله " في كلمة " وأما

(3/329)


اتصال تاء قَتَتّ فهو أشد من اتصال كل اسم متصل باسم، لما ذكرنا من الوجهين، مع أنه قد يكتب قَتَتُّ بثلاث تاءات قوله " ولكثرة اللبس " يعني لو كتب هكذا الحم وارجل لا لتبس بالمجرد عن اللام إذا دخل عليه همزة الاستفهام أو حرف النداء، وأما الذى التى واللذين في الجمع فإنه لا لَبْسَ فيها، إذ اللام لازمة لها، فلا يلتبس بالمجرد الداخل عليه الهمزة، وإنما يكتب اللَّذيْن في التثنية بلام وإن كانت في الأصل لام التعريف أيضاً فرقاً بين المثنى والمجموع، وحمل اللذان رفعا عليه، وكذا اللتان واللَّتَيْنِ، وإن لم يكن ليس، إجراءً لباب المثنى مجرى واحداً، وكان إثبات اللام في المثنى أولى منه في الجمع، لكون المثنى أخف معنى من الجمع، فخفف الجمع لفظاً دلالة على ثقل معناه قوله " وكذا الاءون وأخواته " أي اللاتي، واللائي، واللواتي، واللواءِ، وذلك لانها أجريت مجرى اللاء الذي لو كتب بلام واحدة لا لتبس بألاَ قوله " ليس بقياس " لأنهما كلمتان، وكذا لئلا، وكان حق المشدد أن يكتب حرفين، وهذا وإن كان على خلاف القياس إلا أن وجه كتابتهما حرفاً واحداً ما تقدم في ذكر الوصل من شدة الاتصال وكثرة الاستعمال قوله " لكثرته " أي حذف ألف اسْمٍ إذا كان في البسملة لكثرة استعمالها بخلاف نحو باسم ربك، فإنها ليست كثيرة الاستعمال، وكذا إذا اقتصرت على باسم الله، نحو: باسم الله أصول
قوله " الله والرحمن مطلقاً " أي: سواء كانا في البسلمة أولاً قوله " جراً وابتداء " أي: سواء كانت اللام جارة أو لام الابتداء قوله " لئلا يلتبس بالنفي " إذ لو كتب هكذا لا لرجل التبس بلا لرجل ولا للنفي، وأما نحو بالرجل وكالرجل فلا يلتبس بشئ

(3/330)


قوله " كراهية اجتماع ثلاث لامات " يعني لو كتب هكذا اللَّحْم، وفيما قال نظر، لأن الأحوط في مثله أن يكتب بثلاث لامات، لئلا يلتبس المعرف بالمنكر قوله " أبْنُكَ بار، وأصطفى البنات " يعني إذا دخلت همزة الاستفهام على همزة وصل مكسورة أو مضمومة فإنهم يحذفون همزة الوصل خطاً كراهة اجتماع ألفين، ودلالة على وجوب حذفهما لفظاً، بخلاف نحو الرجل فإنه يجوز فيه الحذف كراهة اجتماعهما خطاً، ويجوز الإثبات دلالة على إثباتهما لفظاً قوله " إذا وقع صفة " احتراز من كونه خبر المبتدأ نحو: زَيْدٌ ابْنُ عَمْرٍو، وقوله " بين علمين " احتراز من مثل جاءني زيد ابن أخينا، والرجل ابن زيد، والعالم ابن الفاضل، وذلك لأن الابن الجامع للوصفين كثير الاستعمال فحذف ألف ابن خطا كما حذف تنوين موصوفه لفظاً.
على ما ذكرنا في باب النداء، ونقص التنوين خطاً من كل منون فرقاً بين النون الأصلي والنون العارض غير اللازم، وأما نون اضْرِبَنْ فانما كتبت لعسر تبيها، عن ما تقدم، بخلاف التنوين، فإنه لازم لكل معرب لا مانع فيه منه، فيعرف إذن ثبوته بعدم المانع، وإن لم يثبت خطاً قوله " ونقصوا ألف ها مع اسم الاشارة " لكثرة استعمالها معه وأما هاتا وهاتي فقليلان، فإن جاءت الكاف ردت ألف " ها " فيما حذفت منه لقلة استعمال اسم الإشارة المصدر بحرف التنبيه المكسوع بحرف الخطاب
قوله " لاتصال الكاف " يعني أن الكاف لكونها حرفاً وجب اتصالها بالكلمة لفظاً، إذ صارت كجزئها فتثاقلت الكلمة فخففت بحذف ألف ها، وفيما قال بعد، لأن الكلمة لم تتثاقل خطا، إذ الألف منفصلة، فلم يحصل بكون الكاف حرفاً امتزاج في الخط بين ثلاث كلمات، وكلامنا في الخط لا في اللفظ إلا أن يقول: نقصوا في الخط تنبيهاً على الامتزاج المعنوي.

(3/331)


قوله " نقصوا الألف من ذلك وأولئك ومن الثلث والثلثين " وذلك لكثرة الاستعمال، ونقص كثير من الكتاب الواو من داود، لاجتماع الواوين، وبعضهم يكتبها، ونقص بعضهم الألف من عثمان وسليمان ومعاوية، والقدماء من وراقي الكوفة (كانوا) ينقصون على الإطراد الألف المتوسطة إذا كانت متصلة بما قبلها نحو الكفرون والناصرون وسلطن ونحوه.
قال: " وَأَمَّا الْبَدَلْ فَإِنَّهُمْ كَتَبُوا كُلَّ ألِفٍ رَابِعَةٍ فَصَاعِداً فِي اسْمِ أَوْ فِعْلٍ يَاءً إلاَّ فِيمَا قَبْلَهَا يَاءٌ إلاَّ فِي نَحْوَ يَحْيَى وَرَيَّى عَلَمَيْنِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِن كَانَتْ عَنْ يَاءٍ كُتِبَتْ يَاءً وَإِلاَّ فَبِالألِفِ، ومنهم من يكتب الباب كله بالاف وَعَلَى كُتْبِهِ بِالْيَاءِ فإِنْ كَانَ مُنَوَّناً فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَهُوَ قِيَاسُ الْمُبَرِّدِ، وَقَيِاسُ الْمَازِنِيِّ بِالألِفِ، وَقِيَاسُ سِيبَوَيْهِ: الْمَنْصُوبُ بِالأَلِفِ وَمَا سِوَاهُ بِالْيَاءِ، وَيُتَعَرَّفُ الْوَاوُ مِنْ الْيَاءِ بِالتَّثْنِيَةِ نَحْوُ فَتَيَانِ وَعَصَوَانِ وَبِالْجَمْعِ نَحْوُ الْفَتَيَاتِ وَالْقَنَوَاتِ وَبِالْمَرَّةِ نَحْوُ رَمْيَةٍ وَغَزْوةٍ وَبِالنَّوْعِ نَحْوُ رِمْيَةٍ وَغِزْوَةٍ، وَبِرَدِّ الْفِعْلِ إلى نَفْسِكَ نَحْوُ رَمَيْتُ وَغَزَوْتُ: وَبالمُضَارَع نَحْوُ يَرْمِي وَيَغْزُو، وَبِكَوْنِ الْفَاءِ وَاواً نَحْوُ وَعَى، وَبِكَوْنِ الْعَيْنِ وَاواً نَحْوُ شَوَى إلاَّ مَا شَذَّ نَحْوُ الْقُوى وَالصُّوَا، فإِنْ جُهِلَتْ: فَإنْ أمِيلَتْ فَالْيَاءُ نَحْوُ مَتَى، وَإلاَّ فَالأَلِفُ وَإِنَّمَا كَتَبُوا لَدَى بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِم لَدَيْكَ وَكِلاَ كُتِبَتْ عَلَى الْوَجْهَيْن
لاحْتِمَالِهَا، وَأمَّا الْحُرُوفُ فَلَمْ يُكْتَبْ مِنْهَا بِالْيَاءِ غَيْرُ بَلَى وَإلَى وَعَلَى وَحَتَّى، وَالله أعلم بالصواب ".
أقول: إنما كتبت الألف الرابعة المذكورة ياء دلالة على الإمالة، وعلى انقلابها ياءً، نحو يُغْزَيَان وَيَرْضَيَان وأغْزَيْت وأَعْلَيَان ومُصْطَفَيَانَ ونحوها، وإن كان قبلها ياء كتبت ألفاً، وإن كانت على الصفة المذكورة أيضاً نحو أحْيَا وَاسْتَحْيا، كراهة لاجتماع يَاءَيْنِ، وإن اختلفا صورة، إلا فِي نَحْوَ يَحْيَى ورَيَّى عَلَمَيْنِ،

(3/332)


وكذا ما أشبههما، فإنه يكتب بالياء، فرقاً بين العلم وغيره، والعلم بالياء أولى، لكونه أقل فيحتمل فيه الثقل.
قوله " وأما الثالثة " أي: الألف الثالثة.
قوله " ومنهم من يكتب الباب كله " أي: جميع باب المقصورة: ثالثة كانت، أو رابعة، أو فوقها، عن الياء كانت أو عن غيرها، بالألف على الأصل، وقد كتبت الصلاة والزكاة بالواو، دلالة على ألف التفخيم، كما مر قوله " فإن كان منوناً " أي: اسماً مقصوراً منوناً، لأن الذي في آخره ألف وهو منون لا يكون إلا اسماً مقصوراً قوله " ويتعرف الياء من الواو " لما ذكر في الثلاثي أنه يكتب بياء إن كانت ألفه عن ياء وإلا فبالألف ذكر ما يعرف به الثلاثي الواوي من اليائي قوله " بالتثنية " أي: إن سمعت، وكذا إن سمع الجمع، وغير ذلك قوله " وبالمضارع " كما مر في باب المضارع من أن الناقص الواوي مضموم العين، واليائي مكسورها قوله " وبكون الفاء واواً " كما مر في أول باب الإعلال قوله " وإنما كتبوا لدى " وإن لم تمل بالياء لقولهم لَدَيْك
قوله " لاحتمالها " لأن قلبها في كلتا تاءً مشعرٌ بكون اللام واو كما في أخت، قال المصنف: وإمالتها تدل على الياء، لأن الكسرة لاتمال لها ألف ثالثة عن واو، وقد مر الكلام عليه في باب الإمالة قوله " غير بلى " وذلك لإمالتها قوله " وإلى وعلى " وذلك لقولهم: إليك، وعليك، وأما حَتَّى فللحمل على إلى والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي العربي وآله الأطياب، وسَلَّم تسليماً كثيراً

(3/333)


قد اعتمدنا في تصحيح هذا الكتاب - سوى جميع النسخ المطبوعة - على نسخة خطية فرغ ناسخها من كتابتها في شهر صفر الخير من عام سبع وخمسين وسبعمائة، وقد وجد بآخر هذه النسخة ما نصه: " والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد وعترته الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا، وفق الله تعالى لاتمام تصنيفه في ربيع الاول سنة ثمان وثمانين وستمائة بالحضرة الشريفة المقدسة الغروية على مشرفها أفضل التحية والسلام ".
فنهاية تأليف هذا الشرح هي سنة وفاة الشارح رحمه الله، وبين كتابة النسخة التى اعتمدنا عليها في تصحيح الكتاب ووفاة المؤلف تسعة وستون عاما.
والله الموفق والمستعان، وهو وحده الذى يجزى المحسنين

(3/334)


قد تم - بعون الله تعالى، وحسن توفيقه - مراجعة الجزء الثالث من كتاب " شرح شافية ابن الحاجب " للعلامة رضى الدين الاسترابادي، وتحقيقه، والتعليق عليه، في ستة أشهر آخرها ليلة الاثنين المبارك الموافق 24 من شهر رمضان
قوله " وإلى وعلى " وذلك لقولهم: إليك، وعليك، وأما حَتَّى فللحمل على إلى والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي العربي وآله الأطياب، وسَلَّم تسليما كثيرا

(3/335)


قد اعتمدنا في تصحيح هذا الكتاب - سوى جميع النسخ المطبوعة - على نسخة خطية فرغ ناسخها من كتابتها في شهر صفر الخير من عام سبع وخمسين وسبعمائة، وقد وجد بآخر هذه النسخة ما نصه: " والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد وعترته الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا، وفق الله تعالى لاتمام تصنيفه في ربيع الاول سنة ثمان وثمانين وستمائة بالحضرة الشريفة المقدسة الغروية على مشرفها أفضل التحية والسلام ".
فنهاية تأليف هذا الشرح هي سنة وفاة الشارح رحمه الله، وبين كتابة النسخة التى اعتمدنا عليها في تصحيح الكتاب ووفاة المؤلف تسعة وستون عاما.
والله الموفق والمستعان، وهو وحده الذى يجزى المحسنين

(3/334)


قد تم - بعون الله تعالى، وحسن توفيقه - مراجعة الجزء الثالث من كتاب " شرح شافية ابن الحاجب " للعلامة رضى الدين الاسترابادي، وتحقيقه، والتعليق عليه، في ستة أشهر آخرها ليلة الاثنين المبارك الموافق 24 من شهر رمضان المبارك عام ثمان وخمسين بعد الثلثمائة والالف من هجرة الرسول الاكرم سيدنا محمد ابن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبه ينتهى هذا الكتاب، وسنلحقه - إن شاء الله تعالى - بشرح شواهده للعلامة عبد القادر البغدادي المتوفى في عام 1093 من الهجرة

(3/335)


بسم الله الرحمن الرحيم وبه الْعَوْنُ
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد أفضل المرسلين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين وبعد، فلما فَرَغْتُ بتوفيق الله من شرح شواهد الكافية لنجم الأئمة الشيخ الرَّضي الأستراباذي (1) ، رحمه الله وتجاوز عنه، رأيتُ أن ألحق به شرح أبيات شواهد الشافية له أيضاً، وهي مائة وستة وتسعون بيتاً (2) ، لكونهما ككتاب واحد مَتْناً وشَرْحاً، فكذلك ينبغي أن يكون شرح أبياتهما وأشار إليَّ بعض الأفاضل بأن أضم إليها أبيات شرح المحقق العلامة أحمد ابن الحسن الجاربردي التي انفرد بها، لمسيس الحاجة إليها لكثرة تداولها تدريساً ومراجعة، حتى يعم النفع، وهي اثنان وخمسون بيتاً، فأجبته إلى ذلك وشرعت مسعينا بالله ذي الطَّوْل والإعانة، في يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الآخرة من سنة تسع وسبعين وألف، أسأل الله إتمامه، والنفع به، آمين
__________
(1) الاستراباذى: نسبة إلى مدينة أستراباذ، وهى بفتح الهمزة وسكون السين بعدها تاء مثناة مفتوحة وآخره ذال معجمة: بلدة كبيرة مشهورة من أعمال طبرستان بين سارية وجرجان
(2) ترك المؤلف بعض الشواهد فلم يتكلم عليها، ولعل عذره في ذلك اختلاف النسخ، وتجد ذلك موضحا تمام التوضيح في حواشينا على شرح الشافية، فقد نبهنا هناك على الابيات التى لم يشرحها، وذكرنا ما سقط منها من بعض نسخ الشرح (*)

(4/3)


أبنية الاسم أنشد الجاربردي (ص 19) (من الرجز) 1 - فهو ذا، فَقَدْ رَجَا النَّاسُ الْغِيَرْ * مِنْ أمْرِهِمْ عَلَى يَدَيْكَ وَالثُّؤَرْ (1)
مِنْ آلِ صَعْفُوقٍ وَأتْبَاعٍ أُخَرْ * الطَّامِعِينَ لا يبالون الغمر (2) على أن صَعْفُوقاً على فَعْلُول بالفتح نادر، وهو الذي قَلَّ وجوده وإن كان على القياس، والشاذ: هو الذي على خلاف القياس، وإن كان كثيراً، والضعيف: هو الذي في ثبوته كلام قال الإمام أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي في كتاب المعربات: صعفوق اسم أعجمي، وقد تكلمت به العرب، يقال: بنو صعفوق خَوَلٌ باليمامة، وقال العجاج: * فهو ذا لقد رجا الناس الغير * إلى آخر الأبيات، وقال يخاطب عمر بن عبيد الله بن معمر " هوذا " أي الأمر هو الذي ذكرته من مدحى لعمر، " والغير ": أي رجوا أن يتغير أمرهم من فساد إلى صلاح بإمارتك ونظرك في أمرهم وَدَفْعَ الخوارج عنهم، والثؤر: جمع ثُؤْرَةٍ، وهو الثأر، أي أمّلوا أن تثأر بمن قتلت الخوارج من المسلمين انتهى، ونقله الجاربردى وعمر بن عبيد الله هذا كان عبد الملك بن مروان وَلاَّه حَرْبَ أبي فُدَيْكٍ الحروري، فأوقع به، وأراد العجاج تحقير أمر الخوارج، فوصفهم بأنهم سوقة
__________
(1) في ديوان العجاج (ص 16) * ها فهو ذا، فقد رجا ... * وفى أصول الكتاب * ... لقد رجا الناس ... * (2) في شرح الجاربردى * الطاعمين ... * وفى أصول كتابنا * الطاعنين ... * وفى ديوان العجاج * من طامعين ... * (*)

(4/4)


وعبيد، وأتباع، اجْتمعوا إلى (أبي) فُديك، وليسوا ممن يقاتل على حسب ويرجع إلى دين صحيح ومنصب، والرواية هنا " فهو ذا فقد رجا " بسكون هاء (1) فهو، ومعناه خذا أبا فديك، فهو هذا قد أمكنك، والناس قد رجوا أن يغير الله هذه الحال على يديك، ويثأر لهم من الخوارج، والثؤرة بالهمزة كعُقْدة، وجمعها ثؤر كعُقَد،
بمعنى الثأر أيضاً بالهمز، ويسهل، وَهو الحقد، يقال: ثأرت القتيل، وثأرت به، من باب نفع، إذا قتلت قاتله، وقد جمعهما الشاعر فقال (من الطويل) : طَلَبْتُ بِهِ ثَأْري فَأدْرَكْتُ ثؤرثى * بَني عَامِرٍ هَلْ كُنْتُ فِي ثُؤْرَتِي نِكْسا (2) والنكس - بالكسر -: الضعيف العاجز، والغير - بكسر ففتح - اسم من قولك: غيرت الشئ تغييراً، ويأتي جمع غِيرَةٍ أيضاً، بمعنى الدية، وليس هذا بمراد هنا، يقال: غارنى الرجل يغيرني: أي أعطاني الدية، والاسم الْغِيَرة بالكسر وجمعها غِير، قال هُدْبَةُ بن الْخَشْرَم (من البسيط) : لَنَجْدَعَنَّ بِأَيْدِينَا أُنُوفَكُمُ * بَنِي أمَيَّةَ إنْ لَمْ تَقْبَلُوا الْغِيرَا قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: بنو صَعْفوق كانوا يخدمون السلطان باليمامة، كان معاوية بن أبي سفيان قد صَيَّرَهُمْ بها، وقال الأصمعي: صعفوق قرية باليمامة، كان ينزلها خَوَلُ السلطان، وقال ابن الأعرابي: يقال هو صَعْفَقِي فيهم، والصعافقة: قوم من بقايا الأمم الخالية باليمامة ضلت أنسابهم، وقيل: هم الذين يشهدون الأسواق ولا بضائع لهم فيشترون ويبيعون ويأخذون الأرباح، انتهى *
__________
(1) أي على حذف حرفين من أول البيت، وهو محتمل عند بعض العروضيين، ومجازه عندهم أنه حذف الثاني الساكن، ثم خرم بحذف الحرف الاول، ومنع ذلك الخليل (2) في اللسان (مادة ث أر) * شفيت به نفسي ... بنى مالك ... * وفيه أيضا * قتلت به ثأري ... * على أن الثأر هو الرجل المطلوب بدم حميمك (*)

(4/5)


وفي العباب قال الليث: الصعافقة خَوَلٌ لبني مروان أنزلهم اليمامة (1) ، ومروان بن أبي حَفْصَةَ منهم، ولا يجئ في الكلام فَعْلُول إلا صعفوق، والصعافقة قوم يشهدون السوق للتجارة وليس لهم رءوس أموال، فإذا اشترى التجار شيئاً دخلوا معهم،
الواحد منهم صَعْفَقِي وصَعْفَق، وجمعهم صعافقة وصعافيق.
قال: والصَّعْفوق: اللئيم من الرجال، وهم الصعافقة، كان آباؤهم عبيداً فاستعربوا، قال العجاج: * من الصَّعَافيق وأتباع أخر * (و) قال أعرابي: ما هؤلاء الصعافقة حَوْلَكَ؟ ويقال: هم بالحجاز مسكنهم، وهم رُذَالَةُ الناس، انتهى ما قاله الليث، وقال غيره: صَعْفُوق: قرية باليمامة قد شُقَّ فيها قناة يجرى منا نهر كبير، وبعضهم يقول صعفوق بالهاء، وصعفوق لا ينصرف للعجمة والمعرفة ووزنه نادر، انتهى كلام العباب.
واعلم أن العرب إذا عربت كلمة أعجمية لا تلتزم إلحاقها بأوزانهم، بل قد تلحقها وهو الأكثر، وقد تتركها على حالها فلا تلحقها، قال سيبويه في الاسم المعرب من العجم وهم ما عدا العرب: ربما ألحقوه بأبنية كلامهم، وربما لم يلحقوه، وذكر مما ألحق بأبنيتهم قولهم درهم بهرج، وما لم يلحق نحو آجُرّ وفِرند وإبريسم، وتحقيقه أن تلك الكلمة المعربة لا تخلو من أن تكون مغيرة بنوع تصرف من تبديل وتغيير حركة، أولا تكون مغيرة أصلاً، وعلى كل من التقديرين لا تخلو من أن تكون ملحقة بأبنيتهم، أولا، فالأقسام أربعة: أحدها ما لم تتغير ولم تكن ملحقة كخراسان، وثانيها ما لم تتغير ولكن كانت ملحقة كَخُرَّم، وثالثها ما تغيرت ولكن لم تكن ملحقة بها كآجُرٍّ، ورابعها ما تغيرت وكانت ملحقة بها كدِرْهَم وَصَعْفوق من القسم الثالث، وليست بكلمة فارسية إذ الصاد والقاف مهجوران في لغة الفرس، إلا إن كانا في كلمة دخيلة في لغتهم.
وفي قوله " من آل صعفوق " إشكال من جهة إضافة " آل " فإنهم قالوا:
__________
(1) سبق قريبا عن ابن السيد أن الذى أنزلهم اليمامة معاوية (*)

(4/6)


إنها لا تضاف إلا لمن له شرف وخطر، وصعفوق قد عرفت حاله، ولا يرد هذا عَلَى
الرواية الأخرى، وهي * من الصعافيق وأتباع أخر * وأبو فُدَيْك المذكور بضم الفاء وفتح الدال، وهو أبو فديك عبد الله بن ثور من بني قيس بن ثعلبة الخارجي، كان أولاً من أتباع نافع بن الأزرق رئيس الخوارج، ثم صار أميراً عليهم في مدة ابن الزبير، وكان الخوارج متغلبين عَلَى البحرين وما والاها، فلما كانت سنة اثنتين وسبعين من الهجرة بعث خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جند كثيف على أبي فديك إلى البحرين، فهزمه أبو فديك، فكتب إلى عبد الملك بن مروان بذلك، فأمر عبد الملك عمر بن عبيد الله ابن معمر أن يندب الناس مع أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله، فانتدب معه عشرةُ آلاف، وسار بهم حتى انتهوا إلى البحرين، فالتقوا، واصطفوا للقتال، فحمل أبو فديك وأصحابه حَمْلة رجل واحد فكشفوا الميسرة، ثم رجع أهل الميسرة وقاتلوا واشتد قتالهم حتى دخلوا عسكر الخوارج، وحمل أهل الميمنة حتى استباحوا عسكر الخوارج، وقتلوا أبا فديك وستة آلاف من أصحابه، وأسروا ثمانمائة، وذلك في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، كذا في تاريخ النويري والعجاج: شاعر راجز إسلامي قد ترجمناه في الشاهد الواحد والعشرين من شواهد شرح الكافية وأنشد الشارح، وهو الشاهد الثاني، للحماسي (من البسيط) (1) : 2 - نَحْوَ الأُمَيْلِحِ مِنْ سَمْنَان مُبْتَكِراً * بِفِتْيَةٍ فيهِم الْمَرَّارُ وَالحَكَمُ على أنه لا دليل في منع صرف سَمْنَان فيه على كونه فَعْلاَن، لجواز كونه فعلالاً، وامتناع صرفه لكونه علم أرض، وفيه رد على الجار بردى في زعمه أن
__________
(1) في نسخة: وأنشد الشارح وهو للحماسي الشاهد الثاني.
(*)

(4/7)


منع الصرف للتعريف والزيادة، وإنما يدل على كونه فعلان ما سيجئ من أن التضعيف في الرباعي والخماسي لا يكون إلا زائداً، إلا أن يُفْصَل أحد المثلين بحرف أصلى كزلزال.
والحماسي: منسوب إلى كتاب الحماسة، وهو مجموعة أشعار من شعر الجاهلية والإسلام انتقاها واختارها أبو تمَّام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور، وقد وقع الإجماع من النقاد على أنه لم يتفق في اختيار المقطعات أنْقَى (1) مما جمعه أبو تمام في كتاب الحماسة، وَلا في اختيار المقصدات أو في مما دوَّنه المفضل في المفضليات، وقد رتب أبو تمام ما اختاره على ثمانية أبواب: أولها باب الحماسة، وآخرها باب الملح، وقد اشتهر تسميته بالجزء الأول منه، والحماسة: الشجاعة، وقد جرت عادة المصنفين إذا استشهدوا بشئ مما فيه أن يقولوا قال الحماسي، ونحوه، والمراد الشاعر المذكور في كتاب الحماسة، تنويهاً برفعة ما فيه من الأشعار، فإن جميع ما فيه مما يصح به الاستشهاد، ولأنه قد يتعذر أولا يحضر معرفة قائله فينسب إليه.
والبيت المذكور من قصيدة طويلة في الحماسة لزياد بن منقذ العدوي (2) التميمي، ولم يقل غير هذه القصيدة، ولم يقل أحد مثلها في جودة جميع أبياتها، وكان قد نزل بصنعاء (اليمن) فاجتواها ولم توافقه فَذَمَّها في هذه القصيدة، ومدح بلاده وأهله، وذكر اشتياقهُ إلى قومه وأهله وإلى وطنه ببطن الرُّمَّةِ (3) وهو واد بنجد، وقبل البيت:
__________
(1) في نسخة " أبقى " ولها وجه (2) في شرح الحماسة (ج 3 ص 180) أنه زياد بن حمل بن سعد بن عميرة بن حريث، ويقال زياد بن منقذ (3) الرمة: بضم الراء، والميم مفتوحة مشددة أو مخففة، وهو قاع عظيم
بنجد تنصب فيه أودية، قاله في القاموس (*)

(4/8)


ياليت شعرى متى أغدوا تُعَارِضُنِي * جَرْدَاءُ سابِحَةٌ أوْ سَابِحٌ قُدُمُ (1) تمنى أن يكون في بلاده راكباً ذاهباً إلى الأُمَيْلح مع أخويه وأصحابه، وَالْجَرْدَاءُ: الفرس القصيرة الشعر، وقصر الشعر في الخيل محمود، لأنه إنما يكون في كرائمها، والفرس السابحة: اللينة الْجَري لا تتعب راكبها كأنها تسبح في سيرها وجريها، وَالْقُدُم - بضمتي القاف والدال - بمعنى المتقدم يوصف به المذكر والمؤنث.
ومعارضة الخيل: أن تخرج عن جادّة الطريق فتذهب في عرضها لنشاطها، وقوله " نَحْوَ الأُمَيْلِح إلخ " نحو بمعنى جهة وجانب، وهو ظرف متعلق بأغدو، والأميلح على وزن مصغر الأملَح.
قال ياقوت في معجم البلدان وتبعه الصاغاني في العباب: هو ماء لبني ربيعة الجوع (2) ، وأنشد هذين البيتين لزياد بن منقذ المذكور، وقالا: (و) المرَّار والحكم أخواه (3) وَسَمْنان من ديار الشاعر بنجد، وقال الشراح: هو ماء لبني ربيعة، وليس كما قالوا، بل الماء هو الأُمَيْلِح، وفي القاموس: سَمْنَان بالفتح موضع، وبالكسر بلد، وبالضم حبل، وليست هذه الكلمة في الصحاح، وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: سَمْنَان كَسَكْران مدينة بين الري ونيسابور، وسُمْنان بالضم جبل في ديار بني أسد، وقال أبو حاتم: في ديار بني تميم، انتهى.
وهذا الضبط مخالف لشراح الحماسة فإنهم ضبطوه بالفتح كما هنا، ومُبْتكراً: حال من فاعل أغدو: أي ذاهباً في بُكرة النهار، وهي أوله، وصلته محذوفة: أي نحو
__________
(1) في الحماسة * بل ليت شعرى ... * ومثله في معجم البلدان لياقوت (مادة أميلح) ، وفيهما * نحو الاميلح أو سمنان * (2) ربيعة الجوع بالاضافة: من تميم، وفى تميم ربيعتان: إحداهما هذه وهى الكبرى، وأبوها ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، والثانية ربيعة الصغرى (ويقال
الوسطى) .
وأبوها ربيعة بن حنظلة بن مالك (3) في شرح الحماسة عن الاصمعي أن المرار أخو الشاعر والحكم ابن عمه (*)

(4/9)


الأميلح، ويجوز أن يكون من " ابتكرت إلى الشئ " أي أسرعت إليه، كما يقال: بكَّرْت إليه تبكيراً، وبَكَرْت إليه بُكوراً، من باب قعد، والباء في قوله " بفتية " بمعنى (مع) متعلقة بمتبكرا.
والفتية: جمع فتيّ، على وزن غَنِيٍّ، وهو الشاب القوي، كصبية جمع صبيّ وعِلْيه جمع علي، ويجوز أن يكون جمع فَتىً كعصاً، وهو الشاب، والمَرَّار بفتح الميم وتشديد الراء، والْحَكَمُ بفتحتين.
و" من سمنان " حال من الأميلح، وقد نسب جماعة هذه القصيدة إلى المرَّار، وهذا البيت يَرُدُّ عليهم، وبطن الرمة قال أبو العلاء المعري: يُروى بتشديد الميم وتخفيفها، وهو واد بنجد، وقال ياقوت: الرمة بالتخفيف ذكره أبو منصور في باب ورم وخففه ولم يذكر التشديد، وقال: بطن الرمة واد معروف بعالية نجد وقال السكوني: هو منزل لاهل البصرة إذا أرداوا المدينة، بها يجتمع أهل الكوفة والبصرة، وقد أطال عليه وأطاب وزياد بن منقذ شاعر إسلامي من معاصري الفرزدق وجرير، وقد ترجمناه مع أخيه المرار، وشرحنا أبياتاً من هذه القصيدة في الشاهد التاسع والسبعين بعد الثلاثمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث (من الطويل) : 3 - جرئ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ * سَرِيعاً، وَإِنْ لاَ يُبْد بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ على أن " يُبْدَ " أصله يبدأ بالهمز، فقلبت الهمزة ألفاً لانفتاح ما قبلها، ثم حذفت للجازم، وهو إن، قال أبو جعفر النحوي في شرح معلقة زهير بن أبي سُلْمَى
ونقله الخطيب التبريزي في شرحه: قوله " وإن لايبد بالظلم " الأصل فيه الهمزة، من بدأ يبدأ، إلا أنه لما اضطر أبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذفت (1) الالف للجزم
__________
(1) في شرح القصائد العشر للتبريزي (ص 118) الذى نقل المؤلف عنه " ثم حذف الالف " (*)

(4/10)


وهذا من أقبح الضرورات، وحكى (عن) سيبويه أن أبا زيد قال له: من العرب من يقول قرَيتُ في قرأتُ، فقال سيبويه: فكيف أقول في المستقبل؟ قال: تقول اقرأ، فقال سيبويه: كان يجب أن تقول أقْرِي، حتى يكون مثل رميت أرمي، وإنما أنكر سيبويه هذا لأنه إنما يجئ فَعَلْت أفْعَلُ إذا كانت لام الفعل أو عينه من حروف الحلق، ولا يكاد يكون هذا في الألف، إلا أنهم قد حكوا أبي يأبى، فجاء على فَعَلَ يَفعَل، قال أبو إسحق (قال إسماعيل بن إسحاق) (1) إنما جاء هذا في الألف لمضارعتها حروف الحلق، فشبهت بالهمزة، يعني فشبهت بقولهم قرأ يقرأ انتهى و " جرئ " بالجر صفة لأسد في بيت (2) قبله، المراد به حُصَيْن بن ضَمْضم، ويجوز رفعه ونصبه على القطع، و " يُظْلَمْ " و " يُبْدَ " كلاهما بالبناء للمفعول، و " يعاقب " و " يظلم " كلاهما بالبناء للفاعل، والجرئ، ذو الجراءة والشجاعة، يقول: هو شجاع متى ظُلم عاقب الظالم بظلمه سريعاً، وإن لم يظلمه أحد ظلم الناس إظهاراً لعزة نفسه وجراءته، وسريعاً حال أو صفة مصدر: أي يعاقب عقاباً سريعاً وهذا البيت من معلقة زهير المذكور، وقد شرح ما قبله وما بعده وسبب نظمها في الشاهد السادس والخمسين بعد المائة، وفي الشاهد الثاني بعد الخمسمائة وزهير شاعر جاهلي، تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن (والثلاثين بعد المائة) من شرح شواهد شرح الكافية
__________
(1) سقطت هذه العبارة من أصول الكتاب عامة، وهى ثابتة في شرح القصائد العشر للتبريزي، وفى شرح أبى جعفر " قال أبو إسحاق قال إسماعيل بن إسحاق قاضى بغداد " (2) هذا البيت هو قوله: - لدى أسد شاكى السلاح مقذف * له لبد أظفاره لم تقلم (*)

(4/11)


وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع من (الطويل) 4 - رَأَيْتُ الْولِيدَ بْنَ اليزيد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كَاهِلُهْ على أن دخول اللام في الدُّئل علماً منقولاً من فعل مبني للمفعول، كدخولها على يزيد من قوله " الوليد بن اليزيد " وقد تكلم الشارح المحقق على لام اليزيد في باب المنادى وفي باب العلم من شرح الكافية والبيت من قصيدة لابن مَيَّادة مدح بها الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي وترجمة ابن ميادة تقدمت في الشاهد التاسع عشر من أوائل شرح أبيات شرح الكافية وأعباء: جمع عبء كالحمل وزناً ومعنى، والكاهل: ما بين الكتفين وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد التاسع عشر من شرح الكافية وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس (من المنسرح) : 5 - جاءوا بجيش لو قيس معرسه * ما كَانَ إلاَّ كَمُعْرَسِ الدّئِلِ على أن الدُّئل فيه اسم جنس لدويبه شبيهة بابن عُرْس، قال الصاغاني في العباب:
دَأَل يَدْألُ دَأْلاً وَدَأَلاَناً ودَأَلَى: أي ختل، قال: * وأنا أمشي الدألى حوالكا (1) *
__________
(1) هذا بيت من الرجز ذكر في اللسان أن سيبويه أنشده فيما تضعه العرب على ألسنة البهائم لضب يخاطب ابنه، وقبل هذا البيت: - * أهدموا بيتك لا أبالكا * (*)

(4/12)


وقال أبو زيد: هي مشية شبيهة بالختل ومشي المثقل.
وذكر الأصمعي في صفة مشي الخيل الدأَلاَن مشي يقارب فيه الخطو ويُبْطَأ (1) فيه كأنه مثقل، والدئل: دويبة شبيهةٌ بابن عرس، قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله تعالى عنه في جيش أبي سفيان الذين وردوا المدينة في غزوة السويق وأحرقوا النخيل ثم انصرفوا (من المنسرح) : جاءوا بجيش لوفيس معرسه * ما كان إلا كمعرس الدئل عار مِنَ النَّسْلِ والثَّرَاءِ وَمِنْ * أَبْطَالِ أَهْلِ الْبَطْحَاءِ والأسَلِ قال ثعلب: لا نعلم اسماً جاء على فُعِل غير هذا، قال الأخفش: وإلى المسمى بهذا الاسم نسب أبو الأسود الدؤلي إلا أنهم فتحوا الهمزة في النسبة استثقالا لتوالي كسرتين مع ياءي النسب، كما ينسب إلى نَمِرٍ نَمَرِيّ، وربما قالوا أبو الأسود الدُّولي، بلا همز، قلبوا الهمزة واواً لأن الهمزة إذا انفتحت وكانت قبلها ضمة فتخفيفها أن تقلبها واواً محضة، كما قالوا في مؤن مون، انتهى.
وإنما قيل لها غزوة السويق لان أبا سفيان قبل إسلامه رضى الله عنه لما غزا المدينة في مائتي راكب بعد غزوة بدر فحرق بعض نخل المدينة وقتل قوما من الانصار خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ موضعا يقال له قرقوة الكدر فقر أبو سفيان، وجعل أصحابه يلقون مزاود السويق يتخففون للفرار، فسميت
غزوة السويق وقوله " لو قيس معرسه " هو من القياس والتخمين، والمعرس - بضم الميم وفتح الراء - مكان النزول من آخر الليل، والاشهر فيه معرس - بتشديد الراء
__________
(1) كذا في أصول الكتاب، والذى في الصحاح واللسان عن الاصمعي " ويبغى فيه " وباقى العبارة كما هنا بنصها، وفى عبارة ابن برى تفسير ذلك حيث قال: " والدألان بالدال مشى الذى كأنه يسعى في مشيه من النشاط " اه (*)

(4/13)


المفتوحة - يقال: عرس تعريسا، إذا نزل آخر الليل، وصف جيش أبى سفيان بالقلة والحقارة، يقول: لو قدر مكانهم عند تعريسهم كان كمكان هذه الدابة عند تعريسها.
والنسل: الولد، والثراء: الكثرة، وأهل البطحاء: قريش، وهم الذين ينزلون الشعب بين جبلى مكة، وهم قريش البطاح، وقريش الظواهر: الذين ينزلون خارج الشعب، وقريش البطاح أكرم من قريش الظواهر، والاسل: الرماح وكان أبو سفيان نذر بعد بدر أن لا يمس رأسه ماء حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، قال صاحب الاغانى: قال أبو سفيان وهو يتجهز من مكة المكرمة خارجا إلى المدينة المنورة أبياتا من شعر يحرض فيها قريشا (من المنسرح) : كروا عى يثرب وجمعهم * فان ما جمعوا لكم نفل إن يك يوم القليب كان لهم * فان ما بعده لكم دول آليت لا أقرب النساء ولا * يمس رأسي وجلدي الغسل حتي تبيروا قبائل الاوس * والخزرج إن الفؤاد مشتعل فأجابه كعب بن مالك رضى الله عنه (من المنسرح) : يا لهف أم المستمحين على * جيش بن حرب بالحرة الفشل
جاءوا بجيش لو قيس معرسه * ما كان إلا كمعرس الدئل عار من النصر والثراء ومن * أبطال أهل النكاء والاسل والنكاء: بمعنى النكاية وكعب بن مالك الانصاري شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والستين من شواهد (شرح) الكافية.
وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس (من الطويل) : 6 - وحب بها مقتولة حين يقتل

(4/14)


على أن فَعُل الذي فيه معنى التعجب يقال (فيه) فعل كما هنا، فان حب بضم الحاء أصلها حبب بفتح العين حول فتح عينه إلى الضم للمدح والتعجب، فصار حبب، ثم نقلنا ضمة العين إلى الفاء بعد حذف حركتها فصار حب، بضم الحاء، ويجوز حذف ضمة العين دون نقلها فيصير حب بفتح الحاء، والباء في " بها " زائدة، والضمير فاعل حب، وهو راجع إلى الخمر، و " مقتولة " حال منه، والقتل: مزج الخمر بالماء حتى تذهب حدتها، فكأنها قتلت بالماء، وهذا عجز، وصدره: * فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها * وهو من أبيات في وصف الخمر من قصيدة للاخطل النصراني، وتقدم الكلام عليها مفصلا في الشاهد الواحد والسبعين بعد السبعمائة من شواهد (شرح) الكافية.
وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع، وهو من شواهد سيبويه (من الرجز) 7 - لو عصر منها المسك والبان انعصر على أنه سكن عين الفعل في الفعل المبنى للمجهول كراهة لتوالى الثقيلين في
الثلاثي الخفيف، وكذا قول القطامى (من الوافر) ألم يخز التفرق جند كسرى * ونفخوا من مدائنهم فطاروا قال سيبويه في باب ما يسكن تخفيفا وهو في الاصل عندهم متحرك: وذلك قولهم في فخذ فخذ، وفى كبد كبد، وفى عضد عضد، وفى كرم كرم، وفى علم علم، وهى لغة بنى بكر بن وائل وأناس كثير من بنى تميم، وقالوا في مثل: لَمْ يُحْرَمْ مَنْ فُصْدَ له، وقال أبو النجم: * لو عصر منها المسك والبان انعصر * يريد عصر

(4/15)


وإنما حملهم على هذا أنهم كرهوا أن يرفعوا ألسنتهم عن المفتوح إلى المكسور والمفتوح أخف عليهم فكرهوا أن ينتقلوا من الاخف إلى الاثقل، وكرهوا في في عصر الكسرة بعد الضمة كما يكرهون الواو مع الياء في مواضع، ومع هذا إنه بناء ليس من كلامهم إلا في الموضع من الفعل، فكرهوا أن يحولوا ألسنتهم إلى الاستثقال، انتهى كلامه وقال الاعلم في شرح شواهده: الشاهد في تسكين الثاني من عصر طلبا للاستخفاف، وهى لغة فاشية في تغلب بن وائل، وأبو النجم من عجل، وهم من بكر بن وائل، واستعمل لغتهم، ووصف شعرا يتعهد بالبان والمسك ويكثر فيه منهما حتى لو عصرا منه لسالا، انتهى وبهذا يعلم أن في نسبة هذه التفريعات إلى تميم تقصيرا من الشارح المحقق، رحمه الله وقوله " إن أبا النجم تميمي " لا أصل له، فانه من بكر بن وائل، فان أبا النجم شاعر إسلامى، واسمه الفصل بن قدامة بن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث بن
عبدة بن الياس بن العوف بن ربيعة بن عجل بن لجيم بن صعب بن على بن بكر ابن وائل، وقد ترجمناه في الشاهد السابع من شواهد شرح الكافية، وهذا البيت من رجز له يصف فيه امرأة بكثرة الطيب، وقبله: كأنما في نشرها إذا نشر * فغمة روضات تردين الزهر هيجها نضح من الطل سحر * وهزت الريح الندى حتى قطر لو عصر منها البان والمسك انعصر النشر: الرائحة الطيبة، " ونشر " بمعنى أنتشر، والفغمة بفتح الفاء وسكون الغين المعجمة بعدها ميم: الرائحة التى تملا الانوف، ولا تكون إلا من الطيب، يقال منه: فغمتني رائحة الطيب، إذا سدت خياشيمك، شبه رائحة المرأة الطيبة برائحة

(4/16)


الروضات، وجملة " تردين الزهر " صفة لروضات: أي لبسن النور كالرداء، وعنده يكون كمال طيب الروضات، والروضة: الموضع المعجب بالزهور، قيل: سميت بذلك لاستراضة المياه السائلة إليها: أي لسكونها بها، والزهر بفتح الهاء وسكونها: النور، قالوا: ولا يسمى النور زهرا حتى يستقيم ويتفتح، وقال ابن قتيبة: حتى يصفر، وقبل التفتح هو برعوم، وأزهر النبت: أخرج زهره، و " هيجها " الضمير للروضات بتقدير مضاف: أي هيج رائحتها، يقال: هاج الشئ يهيج هياجا بالكسر وهيجان: ثار، وهجته، يتعدى ولا يتعدى، وهيجته بالتشديد مبالغة، وهذا من تمام وصف الروضات، فانه يزداد طيبها بما ذكره، و " نضح " فاعل هيجها، والنضح بالحاء المهملة: الرش، والطل: المطر الضعيف، وسحر: منصوب على الظرفية، وسكن على لغة ربيعة، وهزت: حركت، وقوله " لو عصر منها " الضمير للمرأة التى تغزل فيها، وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب: قيل: بل الضمير في منها يعود إلى الروضة، أي المسك ينعصر من
الروضة، هذا ما نقله، وهو بعيد، وروى " لو عصر منه " بتذكير الضمير، كما رواه سيبويه، فالضمير راجع إلى الفرع المذكور قبل في قوله: بيضاء لا يشبع منها من نظر * خود يغطى الفرع منها المؤتزر والخود بفتح الخاء المعجمة: الجارية الناعمة، والجمع خود بالضم، والفرع بفتح الفاء وآخره عين مهملة: شعر الرأس بتمامه، والمؤتزر: محل الازار، وهو الكفل حيث يعقد الازار، وقوله " البان " نائب الفاعل لعصر على تقدير مضاف: أي دهن البان، وقوله " والمسك " الواو بمعنى أو، ولهذا قال " انعصر " بالافراد، ولم يقل انعصرا، بضمير التثنية، ورواه ابن جنى في المنصف وهو شرح تصريف المازنى: * لو عصر البان يوما لا نعصر * وعلى هذا الرواية لا إشكال فيه، والمسك: معروف، معرب مشك بالفارسية، بضم الميم وسكون الشين المعجمة، وانعصر: سال وجرى بالانعصار

(4/17)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن (من الطويل) 8 - وَمَا كُلُّ مُبْتَاعٍ وَلَوْ سَلفَ صَفْقُهُ * بِرَاجِعِ مَا قَدْ فَاتَهُ برداد على أن أصله سلف بفتح اللام، وتسكين العين المفتوحة شاذ ضرورة، قال سيبويه في ذلك الباب: وأما ما توالت فيه الفتحتان فإنهم لا يسكنون منه، لان الفتح أخف عليهم من الضم والكسر، كما أن الالف أخف من الواو والياء، وذلك نحو جمل وحمل ونحو ذلك، انتهى وقد أورده ابن عصفور في كتاب الضرائر، فقال: فأما نقص الحركة فمنه حذفهم الفتحة من عين فعل مبالغة في التخفيف، نحو قول الراجز (من الرجز) على محالات عكسن عكسا * إذا تسداها طلايا غلسا
يريد غلسا، وقول الاخر (من الطويل) * وما كل مغبون ولو سلف صفقه * يريد سلف، وقول الاخر (من الطويل) وقالوا ترابى فقلت صدقتم * أبى من تراب خلقه الله آدم يريد خلقه الله، وقول أبى خراش (من الطويل) ولحم امرئ لم تطعم الطير مثله * عشية أمسى لا يبين من البكم يريد من البكم، انتهى وقد تكلف له ابن جني في شرح تصريف المازنى فقال: هذا من الشاذ عند أصحابنا، ويحتمل عندي وجها (آخر) (1) وهو أن يكون مخففا من فعل مكسور العين، ولكنه فعل غير مستعمل، إلا أنه في تقدير الاستعمال وإن لم ينطق به، كما أن قولهم تفرقوا عباديد وشماطيط كأنهم قد نطقوا فيه بالواحد من (هذين) (2) الجمعين
__________
(1، 2) الزيادة من شرح تصريف المازني لابن جني الذى نقل عنه المؤلف (ورقه رقم 20 من نسخة خطية) (*)

(4/18)


وإن لم يكن مستعملا في اللفظ، وكأنهم استغنوا بسلف هذا المفتوح عن ذلك المكسور أن ينطقوا به غير مسكن، وإذا كانوا قد جاءوا بجموع لم ينطقوا لها بآحاد مع أن الجمع لا يكون إلا عن واحد، فأن يستغنى (بفعل) عن فعل من لفظه ومعناه وليس بينهما إلا فتحة عين هذا وكسرة عين ذلك أجدر، وأرى أنهم استغنوا بالمفتوح عن المكسور لخفة الفتحة، فهذا ما يحتمله القياس، وهو أحسن من أن تحمل الكلمة على الشذوذ ما وجدت لها ضربا من القياس (1) فإن قلت: فإنا لم نسمعهم يقولون يسلف بفتح اللام فما تنكر أن يكون هذا يدل على أنهم لا يريدون سلف على وجه، إذ لو كان مرادا عندهم لقالوا في مضارعه
يسلف، كما أن من يقول قد علم فيسكن عين الفعل لا يقول في مضارعه إلا يعلم فالجواب أنهم (لما) لم ينطقوا بالمكسور على وجه واستغنوا عنه بالمفتوح صار عندهم كالمرفوض الذى لا أصل له، وأجمعوا على مضارع المفتوح (2) ، هذا كلامه والبيت من قصيدة للاخطل النصراني، وعدتها ستة عشر بيتا، وهذا أولها، ويليه: أتغضب قيس أن هجوت ابن مسمع * وما قطعوا بالعز باطن وادى وكنا إذا احمر القنا عند معرك * نرى الارض أحلى من ظهور جياد كما ازدحمت شرف نهال لمورد * أبت لا تناهي دونه لذياد وقد ناشدته طلة الشيخ بعدما * مضت حقبة لا ينثنى لنشاد
__________
(1) الذى في شرح تصريف المازني لابن جنى: " وهو أحسن من أن تحمل الكلمة على الشذوذ مرة ما قد وجدت له ضربا من القياس " ولعل ما في الاصل كتابنا أحسن (2) في الاصول التى بأيدينا " وأجمعوا على المضارع المفتوح " وهو خطا والصواب ما أثبتناه نقلا عن شرح تصريف المازنى وذلك لانهم إنما قالوا يسلف كيضرب وهذا مضارع الماضي المفتوح العين، وليس هو المضارع المفتوح (*)

(4/19)


رأت بارقات بالاكف كأنها * مصابيح سرج أوقدت بمداد وطلته تبكى وتضرب نحرها * وتحسب أن الموت كل عتاد وما كل مغبون ولو سلف صفقه البيت وقوله " أتغضب قيس " الخ ابن مسمع - بكسر الميم الاولى وفتح الثانية، هو مالك بن مسمع بن شيبان بن شهاب أحد بنى قيس بن ثعلبة، وقوله " وما قطعوا " وصفهم بالذل، والواو ضمير قيس باعتبار الحى والقبيلة، وقوله
" وكنا إذا احمر القنا " أي بدم القتلى، وصف قومه بزيادة الشجاعة في أنهم يرغبون في المجالدة بالسيوف وهم مشاة أكثر من التطاعن بالقنا على ظهور الخيل، وقوله " كما ازدحمت شرف - الخ " يقول: نحن نقع على الموت ونزدحم عليه كما تزدحم الابل العطاش على مورد ولا تنتهى عنه بطرد، والشرف بالضم: جمع شارف، وهى الناقة المسنة، والنهال: جمع ناهلة اسم فاعل من النهل بفتحتين، وهو العطش، ويأتى بمعنى الرى أيضا، وليس بمراد هنا، وذياد: مصدر ذاد الراعى إبله عن الماء يذودها ذودا وذيادا، إذا منعها، وقوله " وقد ناشدته - الخ " أي تسأله وتقسم عليه، والطلة بفتح الطاء المهملة: الزوجة، والحقبة بكسر الحاء المهملة: المدة، ولا ينثنى: لا ينزجر، ونشاد: مصدر ناشده مناشدة ونشادا، وقوله " رأت بارقات " أي رأت سيوفا لامعة كالسرج التى أمدت بمداد من الدهن، وقوله " وطلته تبكى " أي زوجته تبكى عليه، والنحر: الصدر، وهو في الاصل موضع القلادة من الصدر، وقوله " وتحسب أن الموت - الخ " قال جامع ديوانه السكرى: يقول: تحسب أن الموت بكل فج وطريق، وكل ما هيأته لشئ وأعددته فهو عتاد بالفتح، وقوله " وما كل مبتاع - الخ " المبتاع: المشترى، ورواية السكرى وابن قتيبة في في أدب الكاتب " وما كل مغبون " من غبنه في البيع والشراء غبنا -

(4/20)


من باب ضرب - مثل غلبه، فانغبن، وغبنه: أي نقصه، وغبن بالبناء للمفعول فهو مغبون: أي منقوص في الثمن أو غيره، كذا في المصباح، وسلف بمعنى مضى ووجب، والهاء في " صفقه " ضمير المبتاع والمغبون، قال السكرى: وصفقه إيجابه البيع، والصفق: مصدر صفق البائع صفقا، إذا ضرب بيده على (يد) صاحبه عند المبايعة بينهما، وقوله " براجع ما قد فاته " رواه السكرى بالباء
فتكون زائدة في خبر ما النافية، وراجع اسم فاعل مضاف إلى " ما " الواقعة على المبيع أو الثمن، ورواه غيره " يراجع " بالمثناة التحتية على أنه مضارع من الرجوع (1) ، وما مفعوله، وفاعله ضمير المغبون أو المبتاع، وقوله " برداد " الباء للسببية متعلقة براجع أو بيراجع، والرداد بكسر الراء مصدر راد البائع صاحبه مرادة وردادا، إذا فاسخه البيع قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: ذكر ابن قتيبة أن هذا البيت للاخطل، ولم أجده في ديوان شعره الذى رواه أبو على البغدادي، ولعله قد وقع في رواية أخرى، انتهى والاخطل شاعر نصراني من بنى تغلب، كان معاصرا للفرزدق وجرير، وقد ترجمناه في الشاهد الثاني والسبعين من أوائل شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع (من الرجز) 9 - فَبَاتَ مُنْتَصْباً وَمَا تكردسا * إذا أحس نبأة توجسا على أن أصله منتصبا بكسر الصاد فسكنت، وكذا قولهم " أراك منتفخا " أصله منتفخا بكسر الفاء، وهو اسم فاعل من انتصب بمعنى قام ووقف، وأورده الشارح المحقق في باب الابتداء أيضا، وكذا أورده أبو على في كتاب نقض الهاذور، وابن جنى في كتاب الخصائص، قال: ومما أجرى
__________
(1) الصواب " من المراجعة " (*)

(4/21)


فيه بعض الحروف مجرى جميعه قوله: - * فبات منتصبا وما تكردسا * فأجرى منتصبا مجرى فخذ فأسكن ثانيه، وعليه حكاية الكتاب أراك منتفخا انتهى
وتكردس: بمعنى انقبض واجتمع بعضه إلى بعض، يريد ما سقط أعلاه إلى أسفله لانه متوجس خائف لا ينام والبيت من رجز للعجاج (1) في وصف ثور وحشى، ورواه الصاغانى في العباب: فبات منتصا، بتشديد الصاد، على أنه من المنصة: أي مرتفعا، قال في مادته: وانتصت العروس على المنصة لترى من بين النساء: أي ارتفعت، عن الليث (2) ، وأنشد هذا البيت، وأورده في باب كردس أيضا، قال: التكردس: الانقباض واجتماع بعضه إلى بعض، قال العجاج يصف ثورا: - * فبات منتصا وما تكردسا * والعجاج راجز إسلامى في الدولة الاموية، وقد ترجمناه في الشاهد الواحد والعشرين من أوائل (شرح) أبيات شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد العاشر، وهو من شواهد سيبويه (من الطويل) 10 - * وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ * على أن أصله " لم يلده " بكسر اللام، فسكنت وفتحت الدال، قال (3) سيبويه: ومما أشبه الاول فيما ليس على ثلاثة أحرف قولهم: أراك متنفخا،
__________
(1) هو في الديوان ص 32 - ورواه * فبات منتصا ... * كما ذكر المؤلف عن الصاغانى (2) في نسخة عن اللبس (3) أنظر كتاب سيبويه (1: 340 و 2: 258) (*)

(4/22)


تسكن الفاء، تريد منتفخا، فما بعد النون بمنزلة كبد، ومن ذلك قولهم انطلق فيفتحون (1) القاف لئلا يلتقى ساكنان، كما فعلوه ذلك بأين وأشباهها، حدثنا بذلك الخليل عن العرب، وأنشد (نا) بيتا وهو لرجل من أزد السراة عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ ابٌ * وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ
وسمعناه من العرب كما أنشده الخليل، ففتحوا الدال كيلا يلتقى ساكنان، وحيث أسكنوا موضع العين حركوا الدال، انتهى قال الاعلم (2) : أراد يلده فسكن اللام المكسورة تخفيفا كقولهم في علم علم فسكنت لامه قبل ساكن الجزم، وتحركت الدال لالتقاء الساكنين بحركة أقرب المتحركات إليها، وهى الفتحة، إذ الياء مفتوحة، وحمل الدال عليها غير معتد باللام (3) الساكنة، لانها حاجز غير حصين وقوله " عجبت لمولود - الخ " أراد بالمولود عيسى بن مريم عليهما السلام، وأراد بذى ولذ آدم عليه السلام، وبعده: وذى شامة سوداء في حر وجهه * مجللة لا تنقضي لاوان ويكمل في تسع وخمس شبابه * ويهرم في سبع مضت وثمان وأراد من هذين البيتين القمر، وقد شرحنا هذه الابيات بأكثر مما هنا في باب الترخيم من شرح شواهد شرح الكافية الماضي وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي عشر (من الكامل)
__________
(1) الذى في سيبويه (ج 2 ص 258) : " بفتح القاف " (2) الموضع الذى ذكر الاعلم فيه هذا الكلام ليس هو الموضع الذى نهنا عليه في الكلمة السابقة، وإنما ذكره في (ج 1 ص 341) .
وقد نقل المؤلف عبارة الاعلم بالمعنى على خلاف عادته في النقل (3) كان في أصول الكتاب " غير مقيد " والصحيح عن عبارة الاعلم (*)

(4/23)


11 - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ * زَيَّافَةٍ مِثْلِ الفنيق المكدم على أن أصله ينبع، وتولدت الالف من إشباع فتحة الباء، وفاعل ينباع
ضمير الرب - بضم الراء - وهو شبيه الدبس، وهو في بيت قبله (1) شبه العرق السائل من رأس هذه الناقة وعنقها برب يترشح، وعرق الابل أسود، والذفرى بكسر الذال المعجمة والقصر: الموضع الذى يعرق من الابل خلف الاذن، والغضوب: الناقة الصعبة الشديدة، شبهت بالغضوب من الانسان، والجسرة بفتح الجيم: الناقة الماضية في سيرها، وقيل: الضخمة القوية، والزيافة: المتبخترة في مشيها، مبالغة زائفة، من زاف زيفا - بالزاى المعجمة - إذا تبختر في مشيه، والفنيق، بفتح الفاء وكسر النون: الفحل المكرم الذى لا يؤذى ولا يركب لكرامته، والمكدم: اسم مفعول قياسه أن يكون من أكدمه، لكنهم لم ينقلوا إلا كدمه ثلاثيا من الباب الاول والثانى، قالوا: الكدم العض بأدنى الفم كما يكدم الحمار، وروى المقرم بدله، على وزنه، وهو البعير الذى لا يحمل عليه ولا يذلل وإنما هو للفحلة (2) بكسر الفاء
__________
(1) البيت المشار إليه هو قوله: - وكأن ربا أو كحيلا معقدا * حش الوقود به جوانب قمقم والرب: ذكره المؤلف.
والكحيل: القطران، شبه عرق الناقة بالرب أو القطران، والمعقد: الذى أوقد تحته حتى انعقد وغلظ، والوقود - بفتح الواو - الحطب، وارتفاعه لانه فاعل حش، وجوانب مفعوله، ويجوز أن يكون حش لازما بمعنى احتش فالوقود فاعله وانتصاب " جوانب قمقم " على الظرفية، والقمقم: كما في اللسان ضرب من الاتية (2) يقال: بعير ذو فحلة بكسر فسكون، إذا كان صالحا للافتحال: أي اتخاذه فحلا، والفحلة التلقيح، ويقال: إنه لبين الفحولة - بالضم - والفحالة والفحلة - بكسرها - بالمعنى السابق (*)

(4/24)


وهذا البيت من معلقة عنترة، وقد شرحناه بأوفى من هذا في الشاهد الثاني عشر من أوائل شرح الكافية وأنشد الجار بردى (1) بعده، وهو الشاهد الثاني عشر (من الوافر) 12 - وأنت من العوائل حيث ترمى * ومن ذم الرجال بمتنزاح على أن الالف تولدت من إشباع فتحة ما قبلها قال ابن جني في سر الصناعة: هكذا أنشدناه أبو على لابن هرمة يرثى ابنه وقال: أراد بمنتزح، فأشبع فتحة الزاى، انتهى وقال الصاغاني في العباب: وانتزح: ابتعد، وأنت بمنتزح من كذا: أي ببعد منه، قال إبراهيم بن على بن محمد بن سلمة بن عامر بن هرمة يمدح بعض القرشيين وكان قاضيا لجعفر بن سليمان بن على: فأنت من الغوائل حيث تنمى (2) * ومن ذم الرجال بمنتزاح إلا أنه أشبع فتحة الزاى فتولدت الالف، هكذا أنشده بعض أهل اللغة، وفى شعره " بمستراح " فلا ضرورة، انتهى والغوائل: جمع غائلة، وهى الفساد والشر، وقال الكسائي: الغوائل: الدواهي، وترمى بالبناء للمفعول مسند إلى ضمير الغوائل، وكذا تنمى يقال: نمى الشئ ينمى، من باب رمى، نماء، بالفتح والمد، أي كثر، وفى لغة ينمو نموا، من باب قعد، ويتعدى بالهمزة والتضعيف وابن هرمة بفتح الهاء وسكون الراء المهملة بعدها ميم: شاعر من مخضرمي الدولتين، وهو آخر من يستشهد بكلامه
__________
(1) أنظر صفحة 41 من شرح الجاربردى على الشافية طبع الاستانة، وفيها ... وعن ذم الرجال ... (2) في نسخة " حين تنمى " (*)

(4/25)


وقد ترجمناه في الشاهد الثامن والستين من أوائل شواهد شرح الكافية وأنشد الجاربردى (1) أيضا بعده، وهو الشاهد الثالث عشر (من البسيط) والشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكى عليك نجوم الليل والقمرا على أن تبكى للمغالبة، ونجوم الليل مفعولة، وهى مغلوبة بالبكاء، فان الشمس غلبت النجوم بكثرة البكاء، ثم حكى قولين آخرين: أحدهما نصب النجوم بكاسفة، ثانيهما نصبها على المفعول معه، بتقدير الواو التى بمعنى مع، والوجه الاول نقله عن الجوهرى، ولم يتعرض له ابن بري في أماليه على صحاحه ولا الصفدي في حاشيته، وقال الصاغاني في العباب: وكسفت الشمس تكسف كسوفا وكسفها الله، يتعدى ولا يتعدى، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز: فالشمس كاسفة، ليست بطالعة * تبكى عليك نجوم الليل والقمرا هكذا الرواية: أي أن الشمس كاسفة تبكى عليك الدهر، والنحاة يروونه مغيرا، وهو * الشمس طالعة ليست بكاسفة، أي ليست تكسف ضوء النجوم مع طلوعها، لقلة ضوئها وبكائها عليك، انتهى فكاسفة على روايته بمعنى منكسفة، من الفعل اللازم، وجملة " تبكى " خبر بعد خبر، أو صفة لكاسفة، وقوله " الدهر " أي: أبدا أشار به إلى أن نصب النجوم على الظرف كما يأتي بيانه، وأشار إلى أن قوله ليست بطالعة بمعنى كاسفة، إذ المراد من طلوعها إضاءتها، فإذا ذهب نورها فكأنها غير طالعة
__________
(1) أنظر صفحة 42 من شرح الجاربردى على الشافية طبع الاستانة وفيها * فالشمس طالعة ليست بكاسفة * وكذا في العقد الفريد (2: 236 طبع بولاق) وفى الديوان (304) * فالشمس كاسفة ليست بطالعة * وكذا في القاموس مادة
(ك س ف) وفى الصحاح مادة (ب ك ى) * الشمس طالعة ليست بكاسفة * وكذا فيه مادة (ك س ف) (*)

(4/26)


وقد تبعه صاحب القاموس فرواه كروايته، وقال: " أي كاسفة لموتك تبكى أبدا، ووهم الجوهرى فغير الرواية بقوله * فالشمس طالعة ليست بكاسفة * وتكلف لمعناه " انتهى وقوله " تكلف لمعناه " يعنى أنه جعله من باب المغالبة، وتغليط الجوهرى في الرواية المذكورة غير جيد، فإنها رواية البصريين، وما صححه تبعا لصاحب العباب رواية الكوفيين.
قال ابن خلف في شرح شواهد سيبويه: اختلف الرواة في هذا البيت، فرواه البصريون * الشمس طالعة ليست بكاسفة * ورواه الكوفيون * الشمس كاسفة ليست بطالعة * ورواه بعض الرواة بنصب النجوم، وبعض آخر برفعها، وقد اختلف أصحاب المعاني وأهل العلم من الرواة وذوو المعرفة بالاعراب من النحاة في تفسير وجوه هذه الروايات وقياسها في العربية، ومن روى * الشمس طالعة ليست بكاسفة * فإنه استعظم أن تطلع ولا تنكسف مع المصاب به، ومثل هذا قول الاخر (هو لليلى بنت طريف الخارجية ترثى أخاها الوليد) (من الطويل) أيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف ومعناه عند بعضهم تغلب ببكائها عليك نجوم الليل، وفى هذا التأويل وجهان: أحدهما أن يراد بالنجوم والقمر حقيقتهما ادعاء، ثانيهما أن يراد بهما سادات الناس والاماثل، وقال آخرون: " نجوم " مفعول تبكى من غير اعتبار المغالبة، والمعنى أن الشمس تبكى عليك مدة نجوم الليل والقمر، فنصب على الظرف، وحكى عن العرب لا أكلمك سعد العشيرة: أي زمانه، وقال جماعة: إن نجوم الليل
منصوبة بكاسفة، والقمر معطوف عليها، وهذا أشهر الاجوبة وأقربها مأخذا، والمعنى أن الشمس لم تقو على كسف النجوم والقمر لاظلامها وكسوفها، انتهى كلام ابن خلف

(4/27)


وممن رواه كذلك ابن عبد ربه في العقد الفريد (1) ، وقال: يقول إن الشمس طالعة وليست بكاسفة نجوم الليل لشدة الغم والكرب الذى فيه الناس وكذا رواه الاخفش المجاشعى في كتاب المعاياة، وقال: أراد الشمس طالعة ولا ضوء لها، فترى مع طلوعها النجوم بادية لم يكسفها ضوء الشمس، فليست بكاسفة نجوم الليل والقمر وكذا رواه اللبلى في شرح فصيح ثعلب، وقال: يعنى أن الشمس طالعة ليست مغطية نجوم الليل والقمر وهؤلاء الثلاثة جعلوا نجوم الليل منصوبة بكاسفة وكذا رواه السيد المرتضى (2) في أماليه ونقل في نصب النجوم ثلاثة أقوال: أولها نصبهما بكاسفة، وقال: أراد أن الشمس طالعة وليست مع طلوعها كاسفة نجوم الليل والقمر، لان عظم الرزء قد سلبها ضوءها، فلم يناف طلوعها ظهور الكواكب، ثانيها: أن نصبها على الظرف، قال: كأنه أخبر بأن الشمس تبكيه ما طلعت النجوم (وظهر القمر) (3) ثالثها: على المغالبة، وهو أن يكون القمر والنجوم باكين الشمس على هذا المرثى المفقود، فبكتهن أي غلبتهن بالبكاء وكذا رواه المبرد في (4) الكامل " الشمس طالعة " وقال: وأما قوله نجوم
__________
(1) ذكره في (ج 2 ص 336 طبع بولاق) مع البيتين السابقين عليه وسيذكرهما المؤلف، وليس في الموضع الذى أشرنا إليه من العقد الكلام الذى
نقله عنه المؤلف في شرح البيت (2) انظر أمالى المرتضى (ج 1 ص 39) (3) الزيادة التى بين قوسين عن أمالى المرتضى في الموضع المذكور (4) أنظر كامل المبرد (ج 1 ص 402 طبع المطبعة الخيرية سنة 1308) تر أن جميع الزيادات الموجودة بين قوسين مثبتة فيها (*)

(4/28)


الليل والقمر ففيه أقاويل كلها جيد، فمنها أن تنصب (1) نجوم الليل (والقمرا بقوله) بكاسفة، يقول: الشمس طالعة ليست بكاسفة نجوم الليل والقمر، وإنما تكسف النجوم (والقمر) بإفراط ضيائها، فإذا كانت من الحزن عليه قد ذهب ضياؤها ظهرت الكواكب، ويجوز أن يكون نجوم الليل والقمر أراد بهما الظرف، يقول تبكى (الشمس) عليك مدة نجوم الليل والقمر كقولك تبكى عليك الدهر والشهر، وتبكى عليك الليل والنهار يافتى، ويكون (1) تبكى عليك (الشمس) النجوم كقولك: أبكيت زيدا على فلان، وقد قال في هذا المعنى (أحد المحدثين شيئا مليحا وهو) أحمد أخو أشجع السلمى، يقوله لنصر بن شبث العقيلى، وكان أوقع بقوم من بنى تغلب بموضع يعرف بالسواجين (من الكامل) : لله سيف في يدى نصر * في حده ماء الردى يجرى أوقع نصر بالسواجين ما * لم يوقع الجحاف بالبشر أبكى بنى بكر على تغلب * وتغلبا أبكى على بكر ويكون تبكى عليك نجوم الليل والقمر على أن تكون الواو في معنى مع، وإذا كانت كذلك فكأن قبل الاسم (الذى يليه أو بعده) فعل، انتصب لانه في المعنى مفعول وصل إليه الفعل فنصبه، ونظير ذلك استوى الماء والخشبة، لانك لم ترد استوى الماء واستوت الخشبة ولو أردت ذلك لم يكن إلا الرفع، ولكن
التقدير ساوى الماء الخشبة، انتهى كلامه، ولم يذكر معنى المغالبة فيه قال ابن السيد فيما كتبه عليه: الوجه الاول (هو) أصح في المعنى، وهو أن ينصب نجوم الليل والقمر بكاسفة، لان في هذا إخبار بأن الشمس قد ذهب نورها
__________
(1) في الاصل " أن نصب " والتصحيح عن الكامل في الموضع المذكور (2) هذا وجه آخر غير نصب نجوم الليل على الظرف، ومفاده أن انتصابها على المفعولية (*)

(4/29)


لفرط الحزن فلم تمنع الدرارى من النجوم أن تظهر، وهذا هو الذى يذكره الشعراء عند تهويل الرزية بالمفقود، انتهى وطالعته في نسختين صحيحتين جدا من الكامل مضبوطة بالرفع على الخبرية، وجملة " ليست بكاسفة " صفة لطالعة، وجملة " تبكى " خبر ثان وزعم الفيومى في المصباح (1) أن طالعة وتبكى حالان، فانه قال: في البيت تقديم وتأخير، والتقدير الشمس في حال طلوعها وبكائها عليك لبست تكسف النجوم والقمر لعدم ضوئها، هذا كلامه وقال ابن خلف: يجوز أن تكون جملة " تبكى " حالا إما من الشمس أو من التاء في ليست (2) كأنه قال: ليست في حال بكاء، وقد تكون سادة مسد خبر ليس، انتهى والوجه الاول مأخوذ من كلام ابن السيد في شرح أبيات المعاني، وهو إنما يتمشى على مذهب سيبويه القائل بجواز مجئ الحال من المبتدأ، والوجه الثاني فاسد، لان بكاءها بيان لكسفها النجوم، والوجه الثالث خطأ معنى وإعرابا (3) وقول المبرد " يجوز أن يكون أراد بهما الظرف " يريد أن الشاعر أقامهما مقام مصدر محذوف هو المراد به معنى الظرف، فكأنه قال: دوام نجوم الليل
والقمر: أي في مدة دوامهما، فحذف المضاف وأعرب المضاف إليه باعرابه، ويكون
__________
(1) أنظر مادة (ك س ف) من المصباح (2) العبارة غير صحيحة فنيا لان التاء حرف دال على التأنيث فلا يجئ منه الحال، وغرضه أن طالعة حال من الضمير المستتر في ليس المدلول على تأنيثه بالتاء (3) أما فساده معنى فلان حاصل تقدير الكلام: ليست الشمس موجودة في حال بكاء عليك، وهذا غير المراد، وأما فساده من جهة الاعراب فلان محل سد الحال مسد الخبر إذا كان المبتدأ مصدرا صريحا أو مؤولا أو كان اسم تفضيل مضافا إلى المصدر وليس هذا واحدا منها (*)

(4/30)


مراده من النجوم الدهر، ومن القمر الشهر ويرد على هذا الوجه وعلى الاوجه الثلاثة الاتية وعلى وجه المغالبة أن كاسفة يكون من الفعل اللازم فلا يصح المعنى به لانه حينئذ يكون نافيا للكسوف عن الشمس في ذاتها، وإذا لم تنكسف الشمس في ذاتها فلا حزن لها على المذكور، وهو ضد ما أراده الشارح، وهذا لايرد على الوجه الاول المتعدى، فانه لم ينف عن الشمس الانكساف في ذاتها، إنما نفى عنها أن تكسف غيرها لذهاب نورها وانكسافها في ذاتها ويجاب بمنع جعله من اللازم، فيكون من المتعدى، ويقدر له مفعول محذوف، وتقديره ليست بكاسفة شيئا، فحذف للتعميم، والمعنى يدل عليه، كما تقول: زيد (غير) ضارب وقول ابن السّيد فيما كتبه على الكامل " إن قدر كاسفة بمعنى منكسفة صح الوجه الاول فقط " غير صحيح، فتأمل، ويريد بالوجه الاول النصب على الضرف، وبما ذكرنا ظهر وجه رجحان نصب النجوم بكاسفة على غيره،
وهو منشأ من صوب رواية والشمس كاسفة وقول المبرد " ويكون تبكى عليك النجوم كقولك أبكيت زيدا على فلان " يريد أن تبكى في البيت بضم (1) التاء مضارع أبكاه على فلان بمعنى جعله باكيا عليه ويرد على هذا أيضا أن الا بكاء على الشئ كالبكاء عليه سببهما الحزن، ونفى الكسوف مناقض لذلك، ويجاب بما ذكرنا
__________
(1) ذلك لان بكى المتعدى معناه فيما لو قلت بكيت زيدا أنك بكيت عليه فأما إن أردت معنى هيجت بكاءه على آخر فأنك تقول أبكيته، والذى في الكامل " بكيت زيدا على فلان " فالتاء مفتوحه لانه مضارع الثلاثي (*)

(4/31)


وقول المبرد " ويكون تبكى عليك نجوم الليل والقمرا على أن تكون الواو في معنى مع " يريد رفع النجوم بتبكى والواو بعدها بمعنى مع، ولم يذكر أبو حيان في الارتشاف غير هذا الوجه في البيت، قال فيه: قال الاستاذ أبو على: إذا كان العطف نصا على معنى مع وكان حقيقة في المعنى ضعف النصب، كقولك: قام زيد وعمرو، فهذا لا يقال بالنصب إلا إن سمع، ومنه: - * تبكى عليك نجوم الليل والقمرا * أي مع القمر، انتهى وقال ابن الملا في شرح المغنى: وأما تجويز رفع النجوم على أنها فاعل تبكى ونصب القمر على أنه مفعول معه فانه وإن صح معناه لكنه يؤدى إلى عدم ارتباط المصراع بالاول، وألا يكون للمصراع الاول معنى يناسب المقام إلا على رواية
* فالشمس كاسفة ليست طالعة * هذا كلامه، وهو مختل من وجوه: الاول: كيف جاز له أن يقول " وإن صح معناه " مع قوله " لا يكون للمصراع الاول معنى يناسب المقام " وهل هو إلا تناقض؟ الثاني قوله " يؤدى إلى عدم ارتباط المصراع الثاني بالاول " لا مانع منه، فان جملته مستأنفة، وكاسفه بمعنى منكسفة، فيكون استعظاما لطلوع الشمس عدم انكسافها مع عظم المصيبة، فيكون أنكر طلوعها كذلك مع أن النجوم مع القمر تبكى عليه، الثالث أن ما أورده على هذا الوجه وارد على وجه المغالبة ونصب النجوم على الظرف أيضا، وقد ذكرهما هو ولم يتنبه له، الرابع: لا ينحصر معنى المصراع الاول على رواية " فالشمس كاسفة " لما ذكرنا آنفا، ولما قدمنا من تقدير المفعول ولم يذكر المبرد نصب النجوم " بتبكى " بفتح التاء لا على وجه المغالبة ولا على

(4/32)


غيرها، وهما قولان آخران، وقد نقلناهما، ولم يذكر أيضا نصب النجوم على حذف واو المفعول معه، وهو قول نقله ابن السيد في شرح أبيات المعاني، قال: " الرابع من الوجوه التى ذكرها النحاة في نصب النجوم، أن يكون أراد التى في معنى مع، فكأنه قال: تبكى عليك ونجوم الليل والقمر: أي مع نجوم الليل والقمر، فيكون مفعولا معه، وقد حذف الواو، وهذا أبعدها " اه، ووجه الابعدية أن هذه الواو لم يثبت حذفها ولا بأس بشرح أصل كاسفة بعد الفراغ من الاعراب، قال القيومى في المصباح: كسفت الشمس من باب ضرب كسوفا، وكذلك القمر، قاله ابن فارس والازهري، وقال ابن القوطية أيضا: كسف القمر والشمس والوجه: تغير، وكسفها الله كسفا، من باب ضرب أيضا، يتعدى ولا يتعدي، والمصدر فارق، ونقل
" انكسف الشمس " فبعضهم يجعله مطاوعا، مثل كسرته فانكسر، وعليه حديث رواه أبو عبيد وغيره " انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وبعضهم يجعله غلطا فيقول: كسفتها فكسفت هي لا غير، وقيل: الكسوف ذهاب البعض والخسوف ذهاب الكل، وقال أبو زيد: كسفت الشمس كسوفا اسودت بالنهار، وكسفت الشمس النجوم غلب ضوءها على النجوم فلم يبد منها شئ والبيت من أبيات ثلاثة لجرير قالها لما نعى إليه عمر بن عبد العزيز بن مروان رحمه الله تعالى، وهى: نعى النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج بيت الله واعتمرا (1) حملت أمرا عظيما فاضطلعت به * وقمت فيه بأمر الله يا عمرا فالشمس طالعة ... البيت
__________
(1) في الديوان: تنعى النعاة ... * وفيه: فاصطبرت له، وفى الكامل: حملت أمرا جسيما فاصطبرت له * وفيه: بحق الله ... * (*)

(4/33)


في المصباح: " نعيت الميت نعيا، من باب نفع، أخبرت بموته، فهو منعى، واسم الفعل المنعي والمنعاة، بفتح الميم فيهما مع القصر، والفاعل نعى على فعيل، يقال: جاء نعيه أي ناعيه، وهو الذى يخبر بموته، ويكون النعى خبرا أيضا " انتهى، والنعاة: جمع ناع كقضاة جمع قاض، وأراد بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ولى الخلافة بعهد ابن عمه سليمان بن عبد الملك في صفر سنة تسع وتسعين، فقدمت إليه مراكب الخلافة فلم يركبها، وركب فرس نفسه، ومنع من سب على كرم الله وجهه آخر الخطبة، وجعل مكانه (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) الاية (1) ، ومناقبه كثيرة ألف فيها جلدا حافلا الامام ابن الجوزى، ومات بدير سمعان سنة إحدى ومائة، وقوله " يا خير من حج الخ "
أي: فقلت يا خير الخ، وقال ابن الملا: منصوب بتقدير قائلين، وقوله " حملت أمرا " هو بالبناء للمفعول وتشديد الميم، والخطاب، وأراد بالامر العظيم الخلافة، واضطلع بهذا الامر: إذا قدر عليه كأنه قويت ضلوعه بحمله، والالف في " يا عمرا " ألف الندبة، وبه استشهد ابن هشام في المغنى وفى شرح الالفية (2) ، قال المبرد في الكامل: قوله " يا عمرا ندبة، أراد يا عمراه، وإنما الالف للندبة وحدها، والهاء تزاد في الوقف لخفاء الالف، فإذا وصلت لم تزدها، تقول: يا عمرا ذا الفضل، فإذا وقفت قلت: يا عمراه، فحذف الهاء في القافية لاستغنائه عنها ".
اه وجوز الاخفش المجاشعى في كتاب المعاياة أن تكون الالف هي المبدلة من ياء المتكلم، وأن يكون عمر منادى منكرا منصوبا وألفه بدل من نون التنوين،
__________
(1) ويقال: بل جعل مكان سب على قوله تعالى: (ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان - الاية) (2) أنظر مغنى اللبيب (حرف الالف) وأنظر أوضح المسالك (2: 128) (*)

(4/34)


وهذه عبارته: وإنما نصب أبو على يا عمراه أضافه إلى نفسه أو لم يضفه، وجعله نكرة، كما قال الاخر (وهو الاحوص) (من الوافر) سلام الله يا مطرا عليها * وليس عليك يا مطر السلام جعل مطرا نكرة فنصب، وقال بعضهم: هو معرفة.
ولكنه لما نونه قام التنوين مقام الاضافة فنصب كما ينصب المضاف، انتهى كلامه.
ونقل هذه الوجوه ابن السّيد فيما كتبه على الكامل عن الفارسى، قال: أجاز الفارسى في " يا عمرا " أن يكون أضافه إلى نفسه كما قال " هو لابي النجم) (من الرجز) * يا ابنة عما لا تلومى واهجعي *
وأجاز أن يكون على معنى الندبة، وأجاز أن يكون جعله نكرة، كما قال * سلام الله يا مطرا عليها * قال: وقيل في قوله " يا مطرا " إنها معرفة، ولكنه لما نونه قام التنوين مقام الاضافة فنصبه كما ينصب المضاف، وهو قول عيسى بن عمر، انتهى وقوله " فالشمس طالعة - الخ " أورد المصراع الثاني صاحب الكشاف (1) في سورة الدخان عند قصة مهلك قوم فرعون وتوريث نعمهم، وهو قوله تعالى (كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والارض) قال: إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والارض، وبكته الريح.
وأظلمت له الشمس، وفى الحديث " ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكته (2) السماء والارض " وقال جرير: * تبكى عليك نجوم الليل والقمرا *
__________
(1) أنظر تفسير الكشاف للزمخشري (ج 2 ص 314 بولاق سنة 1281) (2) الذى في الكشاف " إلا بكت عليه السماء والارض، وفيه بعد ذكر قول جرير ذكر بيت ليلى بنت طريف الخارجية الذى تقدم ذكره في هذا الكتاب (*)

(4/35)


وذلك على سبيل التمثيل والتخييل، مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الارض ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى (فما بكت عليهم السماء والارض) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال فيه بكت عليه السماء والارض، وعن الحسن رحمه الله فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين، يعنى فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الارض، انتهى.
وهذا ملخص من أوائل) أمالى الشريف المرتضى، وفيها زيادة، ونحن نلخص ما فيها أيضا، قال (1) : في الاية وجوه أربعة من التأويل، أولها: أن المراد أهل السماء والارض، فحذف كقوله تعالى (واسأل القرية) ، ثانيها: أنه تعالى أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر وسقوط المنزلة، لان العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت: كسفت الشمس لفقده، وأظلم القمر، وبكاه الليل والنهار والسماء والارض، يريدون بذلك المبالغة في عظم الامر وشمول ضرره، قال جرير: الشمس طالعة - البيت، وقال يزيد بن مفرغ (من الكامل) الريح تبكى شجوها * والبرق يلمع في الغمامه وهذا صنيعهم في وصف كل أمر جل خطبه وعظم موقعه، فيصفون النهار بالظلام، وأن الكواكب طعت نهارا لفقد نور الشمس وضوئها، قال النابغة (من البسيط) تبدو كواكبه والشمس طالعة * لا النور نور ولا الاظلام إظلام ثالثها: أن يكون معنى الاية الاخبار عن أنه لا أحد أخذ بثأرهم، ولا انتصر لهم، لان العرب كانت لا تبكى على القتيل إلا بعد الاخذ بثأره، فكنى الله تعالى بهذا اللفظ عن فقد الانتصار والاخذ بالثأر، على مذهب القوم الذين خوطبوا
__________
(1) أنظر الامالى (1: 38) (*)

(4/36)


بالقرآن، رابعها: أن يكون ذلك كناية عن أنه لم يكن لهم في الارض عمل صالح يرفع إلى السماء، ويطابقه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاية قيل له: أو تبكيان على أحد؟ قال: نعم، مصلاه في الارض ومصعد عمله في السماء، وروى عن أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من مؤمن إلا وله باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه،
فإذا مات بكيا عليه " ومعنى البكاء هنا الاخبار عن الاختلال بعده، كما يقال: بكى منزل فلان بعده، قال مزاحم (من الطويل) بكت دارهم من أجلهم فتهللت * دموعي، فأى الجازعين ألوم؟ ويمكن في الاية وجه خامس، وهو أن يكون البكاء كناية عن المطر والسقيا، لان العرب تشبه المطر بالبكاء، ويكون المعنى أن السماء لم تسق قبورهم، ولم تجد على قبورهم، على مذهب العرب، لانهم يستسقون السحاب لقبور من فقدوه من أعزائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم والرياض، قال النابغة (1) (من الطويل) فلا زال قبر بين تبني وجاسم * عليه من الوسمى طل ووابل فينبت حوذانا وعوفا منورا * سأتبعه من خير ما قال قائل وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام ومسألة الله لهم الرضوان، والفعل
__________
(1) البيتان للنابغة الذبيانى من قصيدة يرثى فيها النعمان بن الحرث بن أبى شمر الغساني، وأولهما في رواية الاصمعي سقى الغيث قبرا بين بصرى وجاسم * بغيث من الوسمى قطر ووابل وتبنى، وبصرى، وجاسم: مواضع بالشام.
والوسمى: أول المطر، والطل: الخفيف منه، والوابل: الكثير، والحوذان، والعوف: نبتان، وأولها أطيب رائحة (*)

(4/37)


الذى أضيف إلى السماء وإن كان لا تجوز إضافته إلى الارض فقد يصح بتقدير فعل، فيكون المعنى أن السماء لم تسق قبورهم وأن الارض لم تعشب عليها، وكل هذا كناية عن حرمانهم رحمة الله ورضوانه، انتهى.
وجرير شاعر إسلامى، ترجمناه في الشاهد الرابع من أوائل شرح الكافية
وأنشد بعده (من الطويل) 6 - * وحب بها مقتولة حين تقتل * على أن أصل حب حبب بكسر العين، ثم نقل إلى فعل بضم العين للمدح والتعجب، ثم حذفت الضمة وأدغم، فصار " حب " بفتح الحاء، ويجوز نقل الضمة إليها كما تقدم قال الصاغانى في العباب: تقول: ما كنت حبيبا ولقد حَبِبْتَ بالكسر: أي صرت حبيباً، قال الاصمعي: قولهم " حب بفلان إلى " معناه ما أحبه إلى، وقال الفراء: معناه حبب بضم الباء، ثم أسكنت وأدغمت في الثانية، انتهى وقال ابن مالك في التسهيل: وقد يرد حب بضم الحاء بنقل ضم العين إلى الفاء.
قال: وكذا كل فعل حلقي الفاء مراد به مدح أو تعجب: أي نحو حسن الرجل أدبا، فتقول: حسن الرجل أدبا ولم أعرف وجه تقييد الشارح المحقق حب المنقول إلى المدح بكونه من حبب بكسر العين، مع أن أصل المنقول إلى المدح والذم يجوز أن يكون عينه مضموما أو مفتوحا أو مكسورا، سواء كان من فعل لازم أو متعد، وقد جاء حب متعديا من بابين، فإنه يقال: حببته أحبه، من باب ضرب، والقياس أحبه بالضم، لكنه غير مستعمل، ويقال: حببته أحبه من باب تعب، كما في المصباح، فيجوز نقل أحدهما إلى فعل بضم العين للمدح والباء في " بها " زائدة، والضمير فاعل حب، وقد تقدم شرحه في الشاهد السادس

(4/38)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع عشر، 14 - بعد ما متأملي وهو قطعة من بيت وهو (من الطويل)
قَعَدْتُ لَهُ وَصُحْبَتِي بَيْنَ ضَارِجٍ * وَبَيْنَ الْعُذَيْبِ بَعْدَما مُتَأَمَّلِي على أنه يجوز على أحد التأويلين أن يكون أصله بعد بضم العين أصالة.
ألحق بفعل المدح والتعجب ثم حذفت الضمة تخفيفا، والتأويل الثاني فيه أن يكون سكون العين أصليا، وتكون بعد ظرفا، لا فعل مدح وتعجب قال الرياشى: بعد هنا روى بفتح الباء، وبعد تحتمل معنيين: أحدهما أن المعنى بعد، ثم حذفت الضمة، ويجوز أن يكون المعنى بعد ما تأملت، انتهى، فما على هذا الوجه زائدة لا غير، " ومتأملي " مضاف إليه بعد، وعلى الوجه الاول يجوز أن تكون زائدة، و " ومتأملي " فاعل بعد وهو مضاف إلى الياء، والرفع فيه مقدر، والمخصوص بالمدح محذوف، ويجوز أن تكون اسما نكرة منصوبة المحل على التمييز للضمير المستتر في بعد، ومتأملي هو المخصوص بالمدح والتعجب، فتكون " ما " فيه كما في قوله تعالى (فنعما هي) وعلى تقدير الفعلية قد روى بضم الباء وفتحها، قال العسكري في كتاب التصحيف: رواه أبو إسحق الزيادي عن الاصمعي " بعد " مضمومة الباء، ومعناه يا بعد ما تأميلت، على التعجب، أي تثبت في النظر أين تسقى، ورواه أبو حاتم بفتح الباء، وقال: خفف بعد فأسكن العين وبقيت الباء مفتوحة، مثل كرم وكرم، انتهى.
وهذا يرد على ابن مالك، فإنه نقل فيه ضمة العين إلى الفاء مع أنها ليست بحرف حلقى، وأما الشارح المحقق فانه لم يقيد في شرح الكافية جواز نقل الضم بكون الفاء حرفا حلقيا، بل أطلق، ومثل بهذا البيت بعينه، والبيت من معلقة امرئ القيس، وقبله: أصاح ترى برقا أريك وميضه * كلمع اليدين في حبى مكلل

(4/39)


يضئ سناه أو مصابيح راهب * أهان السليط بالذبال المفتل والهمزة للنداء، وصاح مرخم صاحب، وحذفت همزة الاستفهام بعده للضرورة،
والوميض: اللمعان، واللمع: التحرك والتحريك جميعا، والحبي بالحاء المهملة وكسر الموحدة: السحاب المتراكم، سمى به لانه حبا بعضه إلى بعض: أي تراكم وجعله مكللا لانه صار كالاكليل لاسفله، ومنه قولهم: كللت الرجل، إذا توجته، ويروى " مكلل " بكسر اللام اسم فاعل من كلل تكليلا، إذا تبسم، يقول لصاحبه: يا صاحبي هل ترى برقا أريك لمعانه في سحاب متراكم صار أعلاه كالاكليل لاسفله أو في سحاب متبسم بالبرق يشبه برقه تحريك اليدين، يريد يتحرك كتحرك اليدين، وتقديره أريك وميضه في حبى مكلل كلمع اليدين شبه لمعان البرق وتحركه بتحرك اليدين، وقوله " يضئ سناه " السنا بالقصر: الضوء والسليط: الزيت، وقيل: الشيرج، والذبال: جمع ذبالة، وهى الفتيلة، ومعنى " أهان السليط " أنه لم يعزه وأكثر الايقاد به، يقول: هذا البرق يتلالا ضوءه فهو يشبه في تحركه لمع اليدين أو مصابيح الرهبان التى أميلت فتائلها بصب الزيت عليها في الاضاءة، يريد أن تحركه يحكى تحرك اليدين، وضوءه يحكى ضوء مصابيح الرهبان، فمصابيح بالجر معطوف على لمع، وقوله " قعدت له - الخ " ضارج والعذيب: مكانان، يقول: قعدت لذلك البرق أنظر من أين يجئ بالمطر، ثم تعجب من بعد تأمله.
وقال الزوزنى: قعدت للنظر إلى السحاب وأصحابي بين هذين الموضعين (وكنت معهم) (1) فبعد متأملي وهو المنظور إليه: أي بعد السحاب الذى كنت أنظر إليه وأرقب مطره وأشيم برقه، يريد أنه نظر إلى هذا السحاب من مكان بعيد فتعجب من بعد نظره.
انتهى وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين من شواهد شرح الكافية، وتقدم شرح هذا البيت أيضا في الشاهد السبعين بعد السبعمائة منه
__________
(1) هذه العبارة ليست في شرح الزوزنى (*)

(4/40)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس عشر، وهو من شواهد سيبويه (1) (من الطويل) 15 - وَقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لمَيَّةَ نَاقَتِي * فما زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ وَأُسْقِيهِ حتى كادمما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه على أن " أسقيه " بمعنى أدعو له بالسقيا، مضارع أسقاه قال سيبويه (1) ، وقالوا: أسقيته في معنى سقيته فدخلت على فعلت، ثم أنشد البيتين، قال أبو الحسن الاخفش في شرح (2) نوادر أبى زيد: قالوا في أسقاه الله، إنه في معنى سقاه الله، وأنشدوا قول لبيد (من الوافر) سقى قومي بنى مجد وأسقي * نميرا والقمائل من هلال قال الاصمعي: هما يفترقان، (وهذا الذى أذهب إليه) (3) فمعنى سقيته أعطيته ماء لسقيه، ومعنى أسقيته جعلت جعلت له ماء يشربه أو عرضته لذلك، أو دعوت له، كل هذا يحتمله هذا اللفظ، وأنشد قول ذى الرمة: * وَقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لمَيَّةَ ناقتي * البيتين قوله " وأسقيه " أدعو له بالسقيا، وهذا أشبه بكلام العرب، وقال ابن الاعرابي: معناه أسقيه من دمعى، وهذا غير بعيد من ذلك المعنى: أي أجعل له سقيا من دمعى على سبيل الاغراق والافراط، كما قال (من الطويل) : وصلت دما بالدمع حتى كأنما * يذاب بعينى لؤلؤ وعقيق انتهى
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (ج 2 ص 235) (2) انظر نوادر أبى زيد (ص 213) ، وفيها في بيت لبيد " بنى نجد " والذى في الاصل كرواية الاعلم في شرح شواهد سيبويه (ج 2 ص 235) (3) الزيادة عن شرح الاخفش لنوادر أبى زيد (ص 213) (*)

(4/41)


وقال الاعلم: قوله " وأسقيه " معناه أدعو له بالسقيا، يقال: سقيته، إذا ناولته الشراب، وأسقيته (إذا جعلت له سقيا يشرب منه، وأسقيته وسقيته) (1) إذا قلت له سقيا لك، وبعضهم يجيز سقيته وأسقيته بمعنى إذا ناولته ماء يشربه، واحتج بقول الشاعر: * سقى قومي بنى مجد - البيت * والاصمعى ينكره ويتهم قائله (2) ، انتهى.
وقوله " وقفت على ربع - الخ " هذا مطلع قصيدة طويلة لذى الرمة، ووقفت الدابة وقفا ووقوفا: أي منعتها عن السير، ووقفت هي أيضا، يتعدى ولا يتعدى، ووقفت الدار وقفا: حبستها في سبيل الله، وأوقفت الدار والدابة بالالف لغة تميم، وأنكرها الاصمعي، وقال: الكلام وقفت بغير ألف.
وحكى بعضهم ما يمسك باليد يقال فيه أوقفته بالالف، وما لا يمسك باليد يقال وقفته بغير ألف والفصيح وقفت بغير ألف في جميع الباب، إلا في قولك: ما أوقفك ها هنا، وأنت تريد أي شأن حملك على الوقوف، فان سألت عن شخص قلت: من وقفك، بغير ألف.
كذا في المصباح، والربع: الدار حيث كانت، وأما المربع فالمنزل في الربيع خاصة، ومية: اسم محبوبة ذى الرمة، وقوله " وأسقيه " معطوف على أخاطبه، " وأبثه " بفتح الهمزة وضمها، يقال: بثثته ما في نفسي وأبثثته، إذا أخبرته بما تنطوى عليه وتسره، و " الملاعب " جمع ملعب، وهو الموضع الذى يلعب فيه الصبيان وترجمة ذى الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول شرح الكافية
__________
(1) الزيادة عن شرح شواهد سيبويه للاعلم (ج 2 ص 235) (2) في الاعلم زيادة " لانه لو كان عربيا مطبوعا لم يجمع بين لغتين لم يعتد
إلا إحداهما " (*)

(4/42)


وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس عشر، وهو من شواهد سيبويه (من البسيط) 16 - ما زلت أفتح أبوابا وأغلقها * حَتَّى أَتَيْتُ أبَا عَمْرِو بْنِ عمار على أن أفتح وأغلق فيه بمعنى أفتح وأغلق بالتشديد، قال سيبويه في باب افتراق فعلت وأفعلت في الفعل للمعنى ما نصه: " وقالوا أغلقت الباب وغلقت الابواب حين كثروا العمل (1) ، وإن قلت أغلقت الابواب كان عربيا جيدا، (و) (2) قال الفرزدق: * ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها * البيت وقال أيضا في الباب الذى يليه وهو باب دخول فعلت على فعلت، الاول بالتشديد والثانى بالتخفيف " نحو كسرته وقطعته فإذا أردت كثرة العمل قلت كسرته وقطعته " إلى أن قال: " واعلم أن التخفيف في هذا حائز كله (3) عربي، إلا أن فعلت إدخالها لتبيين الكثر، وقد يدخل في هذا التخفيف، قال الفرزدق * مَا زِلْتُ أَفْتَحُ أبوابا وأغلقها * البيت وفتحت في هذا أحسن، وقد قال جل ذكره (جنات عدن مفتحة لهم الابواب) انتهى.
فظهر أن كليهما مبالغة، لا في أغلقها فقط، ولهذا نبه عليهما الشارح المحقق وقال الاعلم: " الشاهد في جواز دخول أفعلت على فعلت فيما يراد به التكثير، يقال: فتحت الابواب وأغلقتها، والاكثر فتحتها وغلقتها، لان الابواب جماعة فيكثر الفعل الواقع عليها " انتهى واقتصر ابن السراج في الاصول على التنبيه على أغلقها فقط، قال: " يجئ
__________
(1) في سيبويه (ج 2 ص 237) زيادة قوله: " وستري نظير ذلك في باب
فعلت (بالتشديد) إن شاء الله " (2) الزيادة عن كتاب سيبويه في الموضع السابق (3) في الاصول: " أن التخفيف في هذا كله جائز عربي " والتصحيح عن سيبويه في الموضع السابق (*)

(4/43)


أفعلت في معنى فعلت، كما جاءت فعلت في معناها: أقللت وأكثرت في قللت وكثرت، وقالوا: أغلقت الابواب وغلقت، قال الفرزدق: ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها ... البيت، انتهى وأورد سيبويه هذا البيت أيضا في باب ما يذهب التنوين فيه من الاسماء (1) قال: " وتقول هذا أبو عمرو بن العلاء، لان الكنية كالاسم الغالب، ألا ترى أنك تقول: هذا زيد بن أبى عمرو، فتذهب التنوين كما تذهبه في قولك: هذا زيد ابن عمرو، لانه اسم غالب (2) ، وقال الفرزدق في أبى عمرو بن العلاء: * ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها * البيت قال الأعلم " الشاهد فيه حذف التنوين من أبى عمرو، لان الكنية في الشهرة والاستعمال بمنزلة الاسم العلم (فيحذف التنوين منها إذا نعتت بابن مضاف إلى علم كما يحذف التنوين من الاسم) (3) وأراد أبا عمرو بن العلاء بن عمار " انتهى.
وزعم ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه أن عمارا جد من أجداده، ورد عليه الاسود أبو محمد الأعرابي في فرحة الاديب بأن عمارا جده الادنى، وليس بجد من أجداده، وهو أبو عمرو زبان بن العلاء بن عمار المازنى، من بنى مازن ابن مالك بن عمرو بن تميم، وأنشد بعد ذلك البيت بيتين آخرين، وهما: حتى أتيت فتى محضا ضريبته * مر المريرة حرا وابن أحرار
ينميه من مازن في فرع نبعتها * أصل كريم وفرع غير خوار
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (ج 2 ص 147) وما بعدها (2) في كتاب سيبويه هنا زيادة قوله " وتصديق ذلك قول العرب هذا رجل من بنى أبى بكر بن كنانة " (3) الزيادة عن شرح الاعلم لشواهد سيبويه (ج 2 ص 148) (*)

(4/44)


والضريبة: الطبيعة، يعنى أنه أصل كريم لا يخالط طبعه لؤم، والمحض: الخالص الذى لا يخالطه شئ آخر، والمريرة: العزيمة، يعنى أنه شديد الانفة تعاف نفسه أن يفعل أفعالا غير عالية، وينميه: ينسبه ويرفعه، وفاعله أصل، والفرع: شريف قومه، والفرع الغصن والاعلى من كل شئ، والفرع الشجرة، والنبعة: شجرة، والفرع الثاني مقابل الاصل، وهو مأخوذ من فرع الشجرة، والخوار: الضعيف وقال بعض من كتب على أبيات سيبويه: أراد بقوله " أفتح أبوابا وأغلقها " أنى كشفت عن أحوال الناس وفتشتهم فلم أر فيهم مثل أبى عمرو وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: " الفتح والاغلاق هنا مثلان لما استغلق عليه من الامور وما انفتح، وأحسب الفرزدق يعنى أبا عمرو بن العلاء " وأقول: كأنهما لم يقفا على ما في طبقات النحاة لابي بكر محمد التاريخي فانه روى بسند إلى الاصمعي أنه قال: حدثنى أبو عمرو بن العلاء قال: دخل على الفرزدق فغلقت أبوابا ثم أبوابا، ثم فتحت أبوابا ثم أبوابا، فأنشأ الفرزدق: * مَا زِلْتُ أَفْتَحُ أَبْوَاباً وأغلقها * البيت وقال التاريخي أيضا: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: حدثنا الاصمعي، قال: دخل الفرزدق على أبى عمرو بن العلاء وصعد إلى غرف فقال " ما زلت أفتح أبوابا " البيت وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالى: إن أبا عمرو بن العلاء كان
هاربا من الحجاج مستترا، فجاء الفرزدق يزوره في تلك الحالة، فكان كلما يفتح له باب يغلق بعد دخوله، إلى أن وصل إليه، فأنشده هذه الابيات وترجمة الفرزدق تقدمت في شرح الشاهد الثلاثين من أوائل شواهد شرح الكافية وأبو عمر بن العلاء هو أحد القراء السبعة، كان رحمه الله من أعلم الناس بالقرآن ولغاته وتفسيره وعربيته، وكان إماما في الشعر والنحو واللغة وأيام العرب

(4/45)


أصله من كازرون، وولد بمكة شرفها الله تعالى سنة ثمان، وقيل تسع وستين، ونشأ بالبصرة، ومات بالكوفة سنة أربع، وقيل خمس وخمسين ومائة، واختلف في اسمه: فقيل زبان بفتح الزاى المعجمة وتشديد الباء الموحدة، وهو الصحيح، وقيل: العريان، وقيل: محبوب، وقيل: يحيى، وقيل: عيينة: وقيل اسمه كنيته، ويرده كلام سيبويه، واشتهر بأبيه العلاء، لان أباه كان على طراز الحجاج (1) ، وكان مشهورا معروفا، وجده عمار كان من أصحاب أمير المؤمنين على ابن أبى طالب، وقرأ أبو عمرو على مجاهد وعكرمة وعطاء وأبى العالية ويحيى بن يعمرو سعيد بن جبير، ويروى أنه قرأ على ابن كثير رحمه الله مع أنه في درجته تتمة: قد وقع البيت في أبيات جيمية للراعي النميري وهى (من البسيط) : ومرسل ورسول غير متهم * وحاجة غير مزجاة من الحاج طاوعته بعد ما طال النجى بنا * وظن أنى عليه غير منعاج ما زال يفتح أبوابا ويغلقها * دوني وأفتح بابا بعد إرتاج حتى أضاء سراج دونه بقر * حمر الانامل عين طرفها ساج وبعده أبيات أخر أوردها الامدي في ترجمته من المؤلف والمختلف، والمبرد في أوائل الكامل وشرحها، وأراد بالمرسل نفسه، يقول: هي حاجة مكتومة إنما يرسل
إلى امرأة فهو يكتمها، والمزجاة: اليسيرة، والنجى: المناجاة، جاء به على فعيل كالصهيل ومنعاج: منعطف، وأراد بالبقر النساء، والعرب تكنى عن المرأة بالبقرة والنعجة وساج: ساكن، ولا أدرى أيهما أخذه من صاحبه، والله أعلم وأنشد بعده وهو الشاهد السابع عشر (من الكامل) : 17 - * إن البغاث بأرضنا يستنسر * على أن يستنسر معناه يصير كالنسر في القوة، قال القالى في أماليه: قال الاصمعي: من أمثال العرب إن البغات الخ، يضرب مثلا للرجل يكون ضعيفا
__________
(1) أي: كان فيما على نسج ثياب الحجاج (*)

(4/46)


ثم يقوى، قال القالى: سمعت هذا المثل من أبى المياس، وفسره لى فقال: يعود الضعيف بأرضنا قويا، ثم سألت عن أصل هذا المثل أبا بكر بن دريد فقال: البغاث ضعاف الطير، والنسر أقوى منها، فيقول: إن الضعيف يصير كالنسر في قوته، انتهى وفى الصحاح: قال ابن السكيت: البغاث طائر أبغث إلى الغبرة دوين الرخمة بطئ الطيران، وفى المثل " إن البغاث بأرضنا يستنسر " أي من جاورنا عزبنا، وقال يونس: فمن جعل البغاث واحدا بغثان، مثل غزال وغزلان ومن قال للذكر والانثي بغاثة فالجمع بغاث، مثل نعامة ونعام، وقال الفراء: بغاث الطير شرارها ومالا يصيد منها، وبغاث وبغاث وبغاث ثلاث لغات وكتب ابن برى على ما نقله عن ابن السكيت: هذا غلط من وجهين: أحدهما أن البغاث اسم جنس واحده بغاثة مثل حمام وحمامة، وأبغث صفة، بدليل قولهم أبغث بين البغثة، كما تقول أحمر بين الحمرة، وجمعه بغث، مثل أحمر وحمر، وقد يجمع على أباغث لما استعل استعمال الاسماء، كما قالوا أبطح وأباطح، والثانى
أن البغاث ما لا يصيد من الطير، وأما الابغت من الطير فهو ما كان لونه أغبر، وقد يكون صائدا وغير صائد، انتهى وهو مصراع من الشعر، ولم أقف على تتمته بعد التتبع وبذل الجهد، والله أعلم وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن عشر (من الرجز) 18 - إِنِّي أَرَى النّعَاسَ يَغْرَنْدَيني * أَطْرُدُهُ عنى ويسر ندينى على أن هذين الفعلين قد جاءا متعديين في الظاهر، والاصل يغرندى علي، ويسرندى علي، أي يغلب ويتسلط، وحمل ابن هشام في المغنى تعديهما على الشذوذ، وقال: ولا ثالث لهما، وقال ابن جني في شرح تصريف المازني: افعليت على ضربين: متعد وغير متعد، فالمتعدى نحو قول الراجز:

(4/47)


قد جعل النعاس يغرندينى * أدفعه عنى ويسرندينى وغير المتعدى نحو قولهم: احر نبى الديك، انتهى.
وتبعه السخاوى في سفر السعادة فقال: السرندى هو الجرئ الشديد، ومنه قولهم: اسرنداه، إذا ركبه، وأنشد الرجز، وكذا في الصحاح، قال: اسرنداه اعتلاه، والاسرنداء: الاغرنداء، والمسرندى: الذى يعلوك ويغلبك، وأنشد الرجز، ولم يتعرض له ابن بري في أماليه عليه بشئ، ولا الصفدي في حاشيته عليه، وقلما خلا عن هذا الرجز كتاب من علم الصرف، ومع ذلك لم يعرف قائله، والله أعلم.
المضارع وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع عشر: 19 - بُنَتْ على الْكَرَمِ هو قطعة من بيت وهو (من المنسرح) : نَسْتَوْقِدُ النبل بالحضيض ونصطاد * نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ
على أن أصله بنيت، وطئ تفتح قياساً ما قبل الياء إذا تحركت الياء بفتحة غير إعرابية، فتنقلب الياء ألفاً، وكانت طرفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار بُنَاتْ فحذفت الألف لالتقاء الساكنين قال ابن جني في إعراب الحماسة: هذه لغة طائية، وهو كثير، إلا أنه ينبغي أن تعْلم أن الكسرة المبدلة في نحو هذا فتحةً مُبَقَّاة الحكم غير مَنْسِية ولا مطروحة الاعتداد بها، ألا ترى أن من قال في بَقِيَ بَقَا وفى رضى رضا لا يقول في مضارعه إلا يَبْقَى ألبتة، ولو كان الفعل مبنياً على فَعَل أو مُنْصَرِفاً به عن إرادة فَعِلَ معنى كما انصرف به عنه لفظاً لوجب أن تقول في رَضَا: يَرْضُو، كما تقول في غَزَا: يغزو، وفي فَنَا يفْنُو، لأنه عندي من الواوي، وذلك أنه من معنى الْفِناء للدار وغيرها، إلى آخر ما ذكره

(4/48)


وهذا البيت قبله بيت وهو (من المنسرح) : نَحْنُ حَبَسْنَا بَنِي جَدِيلَةَ فِي * نَارٍ مِنَ الْحَرْبِ جَحْمَةِ الضَّرَمِ نستوقد النبل إلخ وأوردهما أبو تمام في أوائل الحماسة (1) ، ونسبهما إلى بعض بني بولان من طى، وبَوْلان - بفتح الموحدة وسكون الواو - علم مرتجل من البَوْل.
قال أبو العلاء المعري: يجوز أن يكون اشتقاقه من البال، وهو الخلد والحال، وجَدِيلة - بفتح الجيم - حي من طي، وهو المراد هنا، وجديلة حي من الأزد أيضاً، وحي من قيس عيلان أيضاً، وجحمة - بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة - مصدر جَحَمَت النار، فهي جاحمة: أي اضطرمت والتهبت، ومنه الجحيم، والضرم - بفتحتين - التهاب النار، وقد ضَرِمَت واضطرمت وتضرمت.
يقول: حبسنا هؤلاء القوم على نار من الحرب شديدة الاضطرام والالتهاب وقوله " نستوقد النبل: إلخ " نستوقد بالنون، والنَّبل - بفتح النون -
السهام مفعولُهُ، يقول: تنفذ سهامنها في الرَّمِيَّة حتى تصل إلى حضيض الجبل فتخرج النار، لشدة رمينا وقوة سواعدنا، ونصيد بها نفوساً مبنية على الكرم، يعني أنا نقتل الرؤساء، وهذا من فصيح الكلام، كأنه جعل خروج النار من الحجر عند ضربهم النبل له استيقاداً منهم لها، والحضيض: قرار الجبل وأسفله، وروي " تستوقد النبل " (2) بالمثناة الفوقية، والنبل فاعله، وروى أبو محمد
__________
(1) انظر شرح الحماسة للتبريزي (ج 1 ص 86) فقد أخذ المؤلف أكثر ما كتبه على هذا الشاهد منه وإن لم يجر ذكره (2) أشار التبريزي في الموضع المذكور إلى هذه الرواية ولكنه جعل فاعل تستوقد ضميرا مستترا عائدا إلى الحرب في البيت السابق وجعل النبل منصوبا على أنه مفعول به (*)

(4/49)


الأعرابي فيما نقض به على أبي عبد الله النمري أول شارح للحماسة هذين البيتين لرجل من بني الْقَيْن على وجه لا شاهد فيه، وهو كذا نستوقد النبل بالحضيض ونقتاد * نفوساً صِيْغَتْ على كرم قال: وهذا البيتان لرجل من بَلْقين، وسبب ذلك أن القين بن جَسْر وطيئاً كانوا حُلَفَاء، ثم لم تزل كلب بأوس بن حارثة حتى قاتل القين يوم مَلَكَان (1) فحبستهم بنو القين ثلاثة أيام ولياليها، لا يقدرون على الماء، فنزلوا على حكم الحارث بن زهدم أخي بني كنانة بن (2) القين، فقال شاعر القين يومئذ هذين البيتين، انتهى.
وأنشد بعده، وهو الشاهد العشرون (من الرمل) 20 - لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيْلِي مَا الذي * غاله في الحب حتى وَدَعَهْ على أن ماضي يدع، وهو ودع، لم يستعمل إلا ضرورة، وبالغ سيبويه فقال: (3) " أماتوا ماضي يدع " أي لم يستعملوه، لا في نثر ولا في نظم، وقالوا أيضاً:
لم يستعمل مصدره ولا اسم فاعله ولا اسم مفعوله، مع أن الجميع قد ورد، فالأقرب الحكم بالشذوذ، لا بالإماتة، ولا بالضرورة، كما قال ابن جني في المحتسب، قال: قرأ (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ) خفيفة النبي صلى الله عليه وسلم، وعروة بن الزبير، وهذه قليلة الاستعمال
__________
(1) ملكان: ضبطه ياقوت بفتحات، وضبطه في القاموس مثله أو بكسر الميم وسكون اللام، وقالا: هو جبل بالطائف، وذكر ياقوت أنه يقال: ملكان، بفتح الميم وكسر اللام، وأنه واد لهذيل على ليلة من مكة وأسفله بكنانة (2) في بعض النسخ " أخى بنى بنانة بن القين " وهو تحريف، والترجيح عن نسخة أخرى وعن شرح الحماسة للتبريزي عند شرحه لهذين البيتين (ج 1 ص 86) (3) عبارة سيبويه (ج 2 ص 256) : " كما أن يدع ويذر على ودعت ووذرت وإن لم يستعمل " (*)

(4/50)


وقال الصاغانى في العباب: وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم أصل هذه اللغة فيما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ (ما ودعك) مخففة، وكذلك قرأ عروة ومقاتل وأبو حَيْوَة وإبراهيم وابن أبي عبلة ويزيد النحوي، انتهى وقال ابن الأثير في النهاية عند حديث " لينتهين أقوام عن ودعتهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم " أي: عن تركهم إياها والتخلف عنها، يقال: ودع الشئ يَدَعُهُ وَدْعاً، إذا تركه، والنحاة يقولون " إن العرب أماتوا ماضي يدع ومصدره، واستغنوا عنه بترك " والنبي عليه السلام أفصح، وإنما يحمل قولهم على قلة استعماله، فهو شاذ في الاستعمال فصيح في القياس، وقد جاء في غير حديث، حتى قرئ (به (1)) قوله تعالى (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وما قلى) بالتخفيف، انتهى
وكذا في التقريب لنور الدين محمود ابن صاحب المصباح أحمد بن محمد الفيومي، قال: ودعت الشئ وَدْعاً تركته، وقرئ (مَا وَدَّعَكَ ربك) مخففاً ومنه " مَنْ وَدَعَه الناس لشره " و " عَنْ وَدْعهم الجمعات " وقوله " غير مُوَدَّع ربنا ولا مكفور (2) " أي غير متروك ولا مفقود، يريد الطعام، أو المراد الله تعالى أي غير متروك الطاعة أو غير متروك الطلب إليه والسؤال منه، كما قال " غير مستغنى عنه "، وبكسر الدال أي غير تارك طاعتك ربنا، وقيل: هو من الوداع، انتهى وقال أبوه في المصباح: ودعته أدعه وَدْعاً، تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثَمَّ حذفت الواو، ثم فتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدمين: وزعمت النحاة أن العرب أماتت ماضي يدع ومصدره واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد وعروة ومقاتل وابن أبي عبلة ويزيد النحوي (ما ودعك ربك) بالتخفيف،
__________
(1) الزيادة عن النهاية لابن الاثير (2) وقع الحديث هكذا في اللسان وفى النهاية، ولكن لا يتم الاستشهاد به على هذه الرواية (*)

(4/51)


وفي الحديث " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات " أي عن تركهم، فقد رويت هذه الكلمة عن أفصح العرب ونقلت من طريق القراء فكيف يكون إماتة، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة، انتهى وقد روى الماضي (1) في أبيات أخر: قال سويد بن أبي كاهل اليشكري يصف نفسه (من الرمل) وَرِثَ الْبِغَضَةَ عن آبائِهِ * حافظ العقل لما كان استمع فَسَعَى مَسْعَاتُهُمْ في قَوْمِهِ * ثُمَّ لَمْ يَظْفَرْ وَلاَ عَجْزاً وَدَعْ ويروى * ولا شيئاً ودع *
وقال آخر (من المنسرح) وكانَ مَا قدموا لأنفسهم * أكْثَرَ نَفْعاً مِنَ الَّذي وَدَعُوا
__________
(1) قال التبريزي في شرح الحماسة (ج 2 ص 85) : " وقوله: أرى ضيعة الاموال أن لا يضمه * إمام، ولا في أهله المال يودع يجوز أن يكون يودع في معنى يترك، وتلك لغة قليلة، وقد حكوا ودع في معنى ترك، فإذا بنى الفعل على ما لم يسم فاعله وجب أن يقال ودع يودع، وقد روى أن بعضهم قرأ (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى) ، وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشدوا بيتا ينسب إلى أبى الاسود الدؤلى: لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيْلِي مَا الَّذِي * غَالَهُ في الود حتى ودعه ويجوز أن يكون يودع في البيت المتقدم محمولا على الوديعة كما قال: وما المال والاهلون إلا وديعة * ولابد من أن تسترد الودائع اه كلامه، والبيت الاول الذى أنشده لغالب بن الحر بن ثعلبة الطائى والبيت الاخير في كلامه للبيد بن ربيعة العامري (*)

(4/52)


وأما اسم الفاعل فقد جاء في شعر رواه أبو عَلِيّ (1) في البصريات، وهو (من الطويل) فَأَيُّهُمَا مَا أتْبَعَنَّ فَإِنَّنِي * حَزِينٌ عَلَى ترك الَّذِي أنَا وَادِعُ وأما اسم المفعول فقد جاء في شعر خُفَاف بن نُدْبَة الصحابي، وهو (من الطويل) إذَا ما استَحَمَّت أرْضُهُ مِنْ سَمَائِهِ * جرى وهو مودع وواعد مصدق أي: متروك لا يضرب ولا يزجر وهذا البيت من أبيات لأنس بن زنيم قالها لعبيد الله بن زياد بن سُمَيَّة وهي: سَلْ أمِيري مَا الَّذِي غَيَّرَهُ * عَنْ وِصَالِي الْيَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ
لا تُهِنِّي بَعْدَ إكْرَامِكَ لِي * فَشَدِيدٌ عَادَةٌ مُنْتَزَعَهْ لاَ يَكُنْ وَعْدُكَ برقا خلبا * إنَّ خَيْرَ الْبَرْقِ مَا الْغَيْثُ مَعَهْ كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ الْعُلَى * وَشَرِيفٍ بُخْلُهُ قَدْ وضَعَهْ وتقدم شرح هذه الأبيات مع ترجمة قائلها في الشاهد التاسع والثمانين بعد الأربعمائة من شرح شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادى والعشرون (من الكامل) : 21 - لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة * تدع الصَّوَادِيَ لاَ يَجُدْنَ غَلِيلاً على أن ضم الجيم من يَجُد لغة بني عامر، كما هو في هذا البيت، ومراده هذه اللفظة بخصوصها، ووجه ضعفها الشذوذ بخروجها عن القياس والاستعمال، وكسر الجيم هو القوي فيها، وقد سمع، قال السيرافي: إنهم يقولون ذلك في يجد
__________
(1) في أصول هذا الكتاب كلها " أبو يعلى " وهو تحريف من النساخ، لان صاحب البصريات هو أبو على الفارسى الحسن بن أحمد بن عبد الغفار المتوفى ببغداد في عام 277 هـ، ويؤيد هذا قول صاحب اللسان: وقد جاء في بيت أنشده الفارسى في البصريات " اه، ثم ذكر هذا البيت نفسه (*)

(4/53)


من الْمَوْجَدَة والْوِجْدَان، وبنو عامر في غير يجد كغيرهم، وكذا قال صاحب الصحاح، وأطلق صاحب العباب وتبعه صاحب القاموس فحكيا الضم في هذه الكلمة، ولم يذكرا بني عامر، قال السيرافي: وروى " يجدن " بالكسر في البيت، وصرح الفارابي وغيره بقصر لغة بني عامر بن صعصعة على هذه اللفظة، وكذا جرى عليه أبو الحسن بن عصفور، فقال: وشذ من فَعَل الذي فاؤه واو لفظة واحدة، فجاءت بالضم، وهي وجدَ يَجُد، قال: وأصله يَوْجِد، فحذفت الواو لكون الضمة هنا شاذة، والأصل الكسر، انتهى
وزعم ابن مالك في التسهيل أن لغة بني عامر فيما فاؤه واو من المثال ضم العين: أي فيقولون: وَعَدَ يَعُد وَوَلَد يَلُدُ، ونحو ذلك، بضم العين ورده أبو حيان في الارتشاف، قال: ويجد من الموجدة والوجدان بضم الجيم شاذ، وقيل: لغة عامرية في هذا الحرف خاصة، وجَعْل ابن مالك ذلك قانوناً كلياً لغة بني عامر في كل ما فاؤه واو من فعل ليس بصحيح، انتهى وكذا اعترض عليه شراحه كابن عقيل والمرادي، ويشهد لهم قول ابن جني في سر الصناعة: ضم الجيم من يَجُد لغة شاذة (غير معتد بها (1)) لضعفها وعدم نظيرها ومخالفتها ما عليه الكافة فما هو بخلاف وضعها، وقال أيضاً في شرح تصريف المازني: فأما قول الشاعر * لا يَجُدْنَ غَلِيلاَ * فشاذ، والضمة عارضة، ولذلك حذفت الفاء كما حذفت في يَقَع وَيَزَعَ، وإن كانت الفتحة هناك لأن الكسرة هي الأصل، وإنما الفتح عارض (2) ، انتهى
__________
(1) هذه الكلمة غير موجودة في كتاب سر الصناعة لابن جنى في باب حرف الواو (نسخة خطية محفوظة في مكتبتنا الخاصة) (2) في شرح تصريف المازنى: " لان الكسر هو الاصل " (نسخة خطية محفوظة في مكتبتنا الخاصة) (*)

(4/54)


وهذا التوجيه هو التوجيه الأول من توجيهي الشارح، وأما توجيهه الثاني وهو أن تكون الضمة أصلية - فيرده مجئ الكسر في هذه الكلمة كما نقلنا.
والبيت الذي أنشده الشارح المحقق ليس للبيد العامري، وإنما هو لجرير، وهو تميمي، وهو في هذا تابع للجوهري، قال في صحاحه: وجد مطلوبه يجده وجودا ويجده أيضا بالضم لغة بنى عامر (1) ، لا نظير لها في باب المثال، قال لبيد وهو عامري * لو شئت قد نقع الفؤاد - البيت * قال ابن بري في أمالية
على الصحاح: البيت لجرير، وليس للبيد كما زعم، وكذا نسبة الصاغاني في العباب لجرير، وأنشد هذه الأبيات الثلاثة له، وهي أول قصيدة هجا بها الفرزدق: لَمْ أرَ مِثْلَكَ يا أُمَامُ خَلِيلاً * أنْأَى بِحَاجَتِنا وأَحْسَنَ قِيلاً لو شئت قد نقع الفؤاد بشربة * تدع الصوادي لاَ يَجُدْنَ غَليلا (2) بِالْعَذْبِ في رَصْفِ الْقِلاَتِ مَقِيلُهُ * قَضُّ الأَبَاطِحِ لا يَزَالُ ظَليلا (3) وأمامُ: مرخم أُمامة بضم الهمزة اسم امرأة، والخليل: الصديق، والأنثى خليلة، كذا في العباب، وإنما لم يؤنثه هنا للحمل على صديق، فإنه يقال: رجل صديق وامرأة صديق، وأنأى: وصف لخليل، وهو أفعل تفضيل من النأي،
__________
(1) في الصحاح: " لغة عامرية " (2) في الديوان، وشرح تصريف المازنى، وسر الصناعة: " تدع الحوائم " والحوائم: العطاش واحدها حائم (3) في أصول الكتاب هنا: " بالعذب من " والتصحيح عن اللسان والديوان، ووقع في اللسان مادة (وج د) رضف القلات (بالضاد المعجمة محركة) وهو تحريف من وجهين لان الرضف بالمعجمة الساكنة الحجارة المحماة تطرح في اللبن ليذهب وخمه ولا يصلح ههنا والتحريك غير موجود (*)

(4/55)


وهو البعد، والباء متعلقة به، والقيل: القول، يريد أنها تقول ما لا تفعل، فقولها قريب حَسن مُطِمعٌ في حصول المراد، وهي أبعد بحصوله له من كل شئ، وزعم العيني أن قوله أنأى بحاجتنا من قولهم: أناءه الحمل، إذا أثقله، ونقله السيوطي في شرح أبيات المغنى، وهو غير صحيح، لأن أفعل التفضيل لا يكون إلا من الثلاثي، وكأن المراد من حسن القول قرب المأمول، ويقابله بعده، لا إثقاله، قال
صاحب الصحاح: وأناءه الحمل مثال أناعه: أي أثقله، (وأماله) (1) ويقال أيضاً: ناء به الحمل، إذا أثقله، فيتعدى بالباء والهمزة، وهو من ناء ينوء نَوْءاً، إذا نهض بِجَهد ومشقة، وناء بالحمل: إذا نهض به مثقلاً، وقوله " لو شئت - إلخ " بكسر التاء خطاب لأمامة، وجملة " قد نقع الفؤاد " جواب لو، قال ابن هشام في المغني: وورد جواب لو الماضي مقروناً بقد، وهو غريب، كقول جرير * لو شئت قد نقع الفؤاد - البيت * ونظيره في الشذوذ اقتران جواب لولا بها، كقول جرير أيضاً * لَوْلاَ رَجَاؤكَ قَدْ قَتَّلْتَ أَوْلاَدِي * انتهى.
و" نقع " بالنون والقاف، يقال: نقع زيد بالماء: أي ارتوى منه، وشرب حتى نقع: أي شفي غليله، والغليل - بالغين المعجمة - حرارة العطش، قال ابن بري: يقال نقع الفؤاد رَوِي، ونقع الماء العطش: أذهبه، نَقْعاً ونُقُوعاً فيهما، والماء الناقع: العذب الْمَرْوي، وقوله " بشربه " متعلق بنقع، والشربة: المرة من الشرب، وأراد به ماء ريقها، وروى بدله " بِمَشْرِب " وهو مصدر ميمي، وقوله " تدع الصوادى " فاعل تدع ضمير الشربة، ومعناه تترك، والصوادي: جمع صادية: أي الفرقة الصادية، أو هو جمع صادٍ.
والصَّدى: الْعَطْش، والصادي: العطشان، يقول: لو ذاقت الفرق الصوادي من تلك الشربة
__________
(1) الزيادة عن صحاح الجوهرى (*)

(4/56)


لتركتهم بلا عطش، وجملة " لا يجدن غليلا " حال من الصوادي، ومن العجيب قول نظام الأعرج في شرحه: الصوادي في البيت النخيل الطوال على ما في الصحاح، وقوله " بالعذب " متعلق بشَرْبة، والباء بمعنى من، أي بشربة من الماء العذب، وهو وصف من عَذُب الماء - بالضم - عذوبة: أي ساغ
مشربه، و " في رصف " حال منه، والرصف بفتح الراء وسكون الصاد المهملتين (1) الحجارة المرصوف بعضها إلى بعض، والْقِلاَت - بكسر القاف - جمع قلتٍ بفتحها وسكون اللام - وهي النقرة في الصخرة أو الجبل يستنقع فيها ماء السماء، ومقيلة بالقاف: أي موضع الماء العذب، وهو مبتدأ، وقوله " قِضُّ الأباطح " خبره، وَالْقَضُّ - بكسر القاف وتشديد الضاد المعجمة - الحصى الصغار والأرض ذات الحصى أيضاً، وهو مضاف إلى الأباطح جمع أبطح، وهو كل مكان متسع، والماء الموصوف بهذين الوصفين يكون أصفى المياه وأطيبها وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أول شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والعشرون (من الرجز) : 22 - بنيتي سَيِّدَةَ الْبَنَاتِ * عِيشي وَلاَ نَأْمَنُ أنْ تَمَاتِي على أنه جاء تَمَاتُ مضارع مِتّ بكسر الميم كتخاف مضارع خِفت، وزاد ابن القطاع حرفين آخرين على ما ذكره الشارح المحقق من الحرفين، وهما كِدْتَ تَكُود وجِدْتَ تَجُودُ بكسر أول الماضي فيهما، وجاء فيهما تكاد وتجاد وبنيتي: منادى بحرف نداء مقدر، وهو مصغر بنت مضاف إلى ياء المتكلم وسيدة: بالنصب نعت له، ويجوز رفعه، وعيشي: دعاء لها بأن تعيش
__________
(1) الذى في اللسان أنه بفتح الراء والصاد المهملتين (*)

(4/57)


وهذا الرجز كذا أنشده الجوهري في الصحاح غير معْزُوٍّ إلى قائله، ولم يكتب عليه ابن بري شيئاً في أماليه عليه، ولا الصفدي في حاشيته، وقال الصاغاني في العباب: قد مات يموت ويمات أيضاً، وأكثر من يتكلم بها طئ وقد تكلم بها سائر العرب، قال: * بُنَيّ يَا سَيِّدَةَ الْبَنَاتِ *
هكذا أنشده ابن دريد، وأنشد غيره بُنَيَّتِي يا خِيْرَةَ الْبَنَاتِ * عِيشِي، وَلاَ يُؤْمَنُ أنْ تَمَاتِي ويروى " ولا يؤمن بأن (1) " ويروى " نأمَن أنْ " وقال يونس في كتاب اللغات: إن يَميت لغة فيها، انتهى وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والعشرون: (من الرجز) 23 - فإنه أهل لان يؤ كرما * على أنه شاذ، والقياس يُكْرَمَ بحذف الهمزة، وهذا المقدار أورده الجوهري في صحاحه في مادة كرم غير معزو إلى قائله، ولا كتب عليه ابن بري شيئاً في أماليه، ولا الصفدي في حاشيته عليه، وهو مشهور في كتب العربية قلما خلا عنه كتاب، وقد بالغت في مراجعة المواد والمظانّ فلم أجد قائله ولا تتمته، وقال العيني: تقدم الكلام عليه مستوفى في شواهد باب النعت وفي شواهد نوني التوكيد وأقول: لم يذكره فيهما أصلاً، فضلاً أن عن يستوفى الكلام عليه
__________
(1) كذا في عامة الاصول، وليس بشئ، لان وزن البيت يختل، إلا أن تسكن النون من " يؤمن " ضرورة.
(*)

(4/58)


وقال الجاربردى (1) أوله: * شَيْخٌ عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّما * وأقول: هذا من قصيدة مرَجَّزة منها: يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ َيَعْلَمَا * شَيْخَاَ عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا لَوْ أَنَّهُ أَبَانَ أوْ تَكَلَّمَا * لَكَانَ إيَّاهُ وَلكِنْ أَعْجَمَا وقد شرحناها في الشاهد التاسع والأربعين بعد التسعمائة من آخر شواهد
شرح الكافية، وليس في تلك القصيدة * فإنه أهل لان يؤ كرما * وأنشد الجاربردي (2) ، وهو الشاهد الرابع والعشرون، وهو من شواهد سيبويه (3) (من السريع) : لَمْ يَبْقَ مِنْ آيٍ بِهَا يُحَلَّيْنْ * غَيْرَ رَمَادٍ وَحُطَامٍ كِنْفَيْنْ وَغَيْرَ وَدٍّ جَاذِلٍ أوْ وَدَّيْنْ * وَصَالِيَاتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ على أن يؤثفين بالهمز شاذ، والقياس يُثْفَيْنَ جاء على الأصل المهجور لضرورة الشعر ووزنه يُؤَفْعَلْنَ بزيادة الياء والهمزة، وهذا أحد قولين، ومعناه جعلت أثافي جمع أُثْفِيَّة، وعليه فَأُثْفِيَّة أُفْعُولَة أصلها أُثْفُوية قلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت الفاء لتبقى الياء على حالها، واستدلوا على زيادة الهمزة بقول العرب: ثَفَّيْتُ القدر، إذا جعلتها على الأثافي، والقول الثاني - وهو لجماعة - أن وزنه يُفَعْلَيْنَ، فالهمزة أصل ووزن أثفية على هذا فُعْلِيَّة، واستدلوا بقول النابغة (من البسيط) :
__________
(1 و 2) انظر شرح الجار بردى (ص 58) (3) انظره (ج 2 ص 331) ، وقد جعلوا الشاهد من بحر الرجز (*)

(4/59)


لا تَقْذِفَنِّي بِرُكْنٍ لاَ كِفَاءَ لَهُ * وَإِنْ تَأَثَّفَكَ الأَعْداءُ بالرِّفَدِ (1) فقوله تَأَثَّفَكَ وزنه تَفَعَّلَكَ لا يصح فيه غيره، ولو كان من ثَفَّيْتُ القِدْرَ لقال تَثَفَّاك، ومعنى البيت صار أعدائي حولك كالاثافى تَظَافُراً، قال ابن جني في شرح تصريف المازني: وَيُفَعْلَيْنَ أولى من يؤفعلن، لانه لا ضرورة فيه، قال أبو الفتح بن جني: يقال أثْفَيْتُ القدر وَأَثَّفْتُها وثَفَّيْتُها، إذا أصلحت تحتها الأثافي، وقال صاحب الصحاح: ثَفَّيْتُ القدر تَثْفِيَةً، وضعتها على الأثافي، وَأَثْفَيْتُها
جعلت لها أثافي، وأنشد البيت وهذا الشعر لخِطَام الْمُجَاشِعِي، ونسبه الصقلي شارح أبيات الإيضاح للفارسي، والجوهري في الصحاح، إلى هِمْيَان بن قُحَافَة، وأوله: حَيِّ دِيَارَ الْحَيِّ بَيْنَ السَّهْبَيْنْ * وَطَلْحَةِ الدَّوْمِ وَقَدْ تَعَفَّيْنْ و " حَيِّ " أمر من التحية، والحي: القبيلة، والسهبان: موضع، وكذا طلحة الدوم، والنون في تَعَفَّيْنَ ضمير ديار الحي، وَتَعَفَّى بمعنى عفا اللازم.
يقال: عفا المنزل يَعْفُو عُفُوّاً، إذا درس، والآي: جمع آية بمعنى العلامة.
والتَّحْلِية: الوصف يقال: حَلَّيْتُ الرجل مثلاً، إذا وصفته، يقول: لم يبق من علامات حلولهم في ديارهم تُحلّيها وتصفها غير ما ذكر، ومن: زائدة، وآي فاعل، وغير منصوب على الاستثناء، وجملة يُحَلَّيْنَ صفة لآي، وبها متعلق به.
والخُطَامُ بضم المهملة: ما تكسر من الحطب، والمراد به دِقُّ الشجر الذي قطعوه فظلوا به الخيام، ورماد مضاف إلى كَنْفَيْن ويجوز تنوينه، وكنف بفتح الكاف وسكون النون الناحية والجانب.
وأصله بفتح النون سكنها للضرورة أي رماد من جانبي الموضع.
وقيل الكِنْفُ هنا بكسر الكاف وسكون النون، وهو خرج يضع فيه
__________
(1) الرفد - بكسر أوله وفتح ثانيه: جمع رفدة - بكسر فسكون - وهى العصبة من الناس، يقول: لا ترمنى منك بما لا مثل ولا أستطيع دفعه وإن احتوشك الاعداء متعاونين (*)

(4/60)


الراعي أشياءه: فيكون المعنى رماد ملء كنفين، والجاذل بالجيم والذال المعجمة المنتصب، جَذْلَ جُذُولاً: انتصب وثبت، والْوَدّ: الوتد، وأراد بالصاليات الأثافي الثلاثة التي توضع عليها القدر لأنها صليت بالنار أي أحرقت حتى اسودَّت وهي معطوفة على " حطام " أي وغير أثافي صاليات بالنار، وليست الواو واو رُبَّ
كما توهمه ابن يَسْعَوْنَ.
وروى بدلها " وغير سُفْع " جمع أسفع، أراد به الأثافي أيضاً لأنها قد سفعتها النار أي سودتها وغيرت لونها، وروى أيضا " وما ثلات " أي منتصبات، يقول: إن هذه الأثافي تدل على قرب عهد بالعمارة ببقائها على الحال التي وضعتها عليه أهل العمارة فكانت لذلك أجلب للشوق والتذكار، وقوله " ككما " قيل: الكاف الأولى حرف والثانية اسم بمعنى مثل، وقيل: مؤكدة للأولى، وقيل: زائدة، قال أبو علي: " ما " في ككما يجوز أن تكون مصدرية كأنه قال مثل الإثفاء، ويجوز أن تكون موصولة بمنزلة الذي، وقال ابن السيد: الكافان لا يتعلقان بشئ، فإن الأولى زائدة والثانية قد جرت مجرى الأسماء لدخول الجار عليها، ولو سقطت الأولى وجب أن تكون الثانية متعلقة بمحذوف صفة لمصدر مقدر محمول على معنى الصاليات لأنها نابت مناب مُثْفَيَات فكأنه قال: ومثفيات إثفاء مثل إثفائها حين نصبت للقدر، ولابد من هذا التقدير ليصح اللفظ والمعنى، وقد شرحنا أبياتاً أخر من هذه القصيدة وترجمنا قائلها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة من شواهد شرح الكافية الصفة المشبهة وأنشد فيها، وهو الشاهد الخامس والعشرون، وهو من شواهد سيبويه (1) (من الرجز) 25 - * مَا بَالُ عَيْنِي كالشعيب العين *
__________
(1) انظر (ج 2 ص 372) (*)

(4/61)


على أنه لم يأت على فَيْعَل بفتح العين شئ من الصفة المشبهة غير حرف واحد في المعتل وهو عَيَّنٌ، قال الأعلم: الشاهد فيه بناء الْعَيَّن على فَيْعَل بالفتح، وهذا شاذ في المعتل لم يسمع إلا في هذه الكلمة وكان قياسها أن تكسر العين فيقال
عَيِّن كما قيل سيِّد وهيَّن وليِّن، ونحو هذا، وهذا بناء يختص به المعتل ولا يكون في الصحيح كما يختص الصحيح بفَيْعَل مفتوحة العين نحو صَيْرَفٍ وحَيْدَرٍ، وهو كثير، انتهى وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: وجدت في نسخة من شعر رؤبة بخط أبي يعقوب إسحق بن إبراهيم بن الجنيد قرأها على أبى بكر بن دريد (وعليها خط ابن دريد وإجازته) (1) العَيِّن بكسر الياء، وقال: العين الذي قد رَقَّ (2) وتهيأ للخرق، انتهى وكذا قال ياقوت في هامش الصحاح، قال: أنشده سيبويه على فَيْعَل بفتح العين، وقال: ولم يجئ غير عَيَّن في المعتل، وهو نادر، والقياس فَيْعِل بكسر العين، والذي وجدته في شرح رجز رؤبة العين بكسر الياء ولا يجوز فتحها، انتهى.
والبيت أول أرجوزة بن العجاج، وبعده (3) : وَبَعْضُ أَعْرَاضِ الشَّجُونِ الشُّجَّنِ * دَارٌ كَرَقْمِ الكَاتِبِ الُمُرَقِّنِ * بَيْنَ نَقَا المُلْقَى وَبَيْنَ الأَجْؤُن * قوله " ما بال عيني " ما استفهامية مبتدأ أو خبر مقدم، وبال خبر أو مبتدأ مؤخر، وهو بمعنى الشأن والحال، وقوله " كالشعيب " في موضع الحال، والشعيب - بفتح الشين المعجمة -
__________
(1) الزيادة عن شرح أدب الكاتب لابن السيد البطليوسى (ص 472) (2) في الاصول " تمزق وتهيأ للخرق " والتصويب عن شرح أدب الكاتب (3) انظر أراجيز رؤية (160) (*)

(4/62)


قال ابن دريد في الجمهرة: المزادة الصغيرة.
قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب: " هي في الأصل صفة غالبة، فعيل
بمعنى مفعول، والعين: التي فيها عيون، فهي تسيل، وهو يشبهون خروج الدمع من العين بخروج الماء من خرز (1) المزادة، قال: كأنهما مزادتا مستعجل " انتهى وقال الجوهري " يقال: بالجلد عَيَنٌ، وهي دوائر رقيقة، وذلك عيب.
تقول منه: تعين الجلد، وسقاء عين ومتعين " وأنشد البيت.
وكتب ابن بري في أمالية على صحاحه: العين الجديد في لغة طئ قال الطرماح (من الطويل) قَدِ اخْضَلَّ مِنْهَا كُلُّ بَالٍ وَعَيِّنٍ * وَجَفَّ الرَّوَايا (2) بِالْمَلاَ الْمُتَبَاطِنِ انتهى.
وقال الأعلم: " الشَّعيبُ: القربة، والعين: الخَلَقُ البالية، شبه عينه لسيلان دمعها بالقربة الخلق في سيلان مائها من بين خرزها لبلاها وقدمها " اه وقوله " وبعض أعراض إلخ " قال ابن السيد: دار خبر بعض، والمُرَقِّن: الذي ينقط الكتاب، والْمُلْقَى والاجؤن مكانان، كذا وجدته الملقي مضموم الميم مفتوح القاف، والأجؤن مضموم الواو مهموزاً كأنه جمع جُؤن، ووجدته في غيره الاجون مفتوح الواو غير مهموز، انتهى وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أوائل شرح الكافية: المصدر أنشد فيه، وهو الشاهد السادس والعشرون: (من البسيط)
__________
(1) الخرز - بضم أوله وفتح ثانيه: جمع خرزة - كغرفة - وهى كل ثقبة وخيطها (2) الروايا: جمع راوية، وهى المزادة، والملا: موضع، وهو أيضا الصحراء، والمتباطن: المنخفض (*)

(4/63)


26 - إن الخليط أجد والبين فَانْجَرَدُوا * وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا
على أن الفراء قال في قوله تعالى (مِّن بَعْدِ غلبهم سيغلبون) يجوز أن يكون في الأصل غلبتهم بالتاء، فحذفت التاء كما حذفت من " عدا الأمر " في البيت والأصل عدة الأمر، وهذا كلام الجوهري في الصحاح وأقول: لم يورد الفراء هذا البيت عند هذه الآية، وهذا نصه في تفسيرها " وقوله من بعد غلبهم كلام العرب غلبته غلبة، فإذا أضافا أسقطوا الهاء كما أسقطوها في قوله تعالى (وإقام الصلاة) والكلام إقامة الصلاة " انتهى.
وإنما أورده عند تفسير الآية الأخرى من سورة النور قال: " وأما قوله تعالى (وإقام الصلاة) فإن المصدر من ذوات الثلاثة إذا قلت: أفعلت كقولك أقمت وأجبت، يقال فيه: إقامة وإجابة، ولا تسقط منه الهاء، وإنما أدخلت لأن الحرف قد سقطت منه العين، كان ينبغي أن يقال: إقْوَاماً فلما سكنت الواو (1) وبعدها ألف الإفعال فسكنتا فسقطت الأولى منهما فجعلوا الهاء كأنها تكثير للحرف، ومثله مما أسقط منه بعضه فجعلت فيه الهاء، قوله وعدته عدة ووجدت المال جدةً ولما أسقطت الواو من أوله كثر من آخره بالهاء وإنما استجيز سقوط الهاء من (وإقام الصلاة) لإضافتهم إياه، وقالوا: الخافض وما خفض بمنزلة الحرف الواحد، فلذلك أسقطوها في الإضافة، وقول الشاعر: * إن الخليط أجدوا البين - إلخ * يريد عدة الأمر، فاستجاز إسقاط الهاء حين أضافها " انتهى كلامه والبيت للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، قال الجوهري: الخليط: المخالط، كالنديم المنادمُ والجليس المجالسُ، وهو واحد وجمع، قال: إنَّ
__________
(1) أي بعد نقل حركتها إلى الساكن قيلها

(4/64)


* إنَّ الخليط أجدوا البين فانصرموا *
وقوله " أجدوا " في العباب: وأجدَّه: صيّره جديداً، فالبين مفعوله، وهو بمعنى البعد والفراق هنا، وقوله " فانجردوا " بالجيم: أي بعدوا، في العباب: وانجرد بنا السير: أي امتد وطال، وروى بدله " فانصرموا ": أي انقطعوا عنا ببعدهم والفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، واسمه عبد العزى، ابن عبد المطلب بن هاشم، كان من شعراء الهاشميين وفصحائهم، توفي في زمن الوليد بن عبد الملك حكي أنه كان بالمدينة تاجر يسمى العقرب، وكان أمطل الناس، فعامله الفضل، وكان أشد الناس تقاضياً، فلما حل المال قعد الفضل بباب العقرب يقرع، وعقربٌ على سجيّته في المطل، فلما أعياه قال يهجوه (من السريع) : قَدْ تَجَرَتْ فِي سُوقِنَا عَقْرَبٌ * لاَ مَرْحَباً بِالْعَقْرَبِ التَّاجِرَهْ كُلُّ عَدُوٍّ كَيدُهُ فِي اسْتِهِ * فَغَيْرُ مَخْشِيّ وَلاَ ضَائِرَهْ إن عَادَتِ الْعَقْرَبُ عُدْنا لَهَا * وَكَانَت النَّعْلُ لَهَا حَاضِرَهْ وكان الفضل شديد الأُدمة ولذلك قال (من الرمل) : وَأَنَا الأَخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي * أَخْضَرُ الْجِلْدَةِ فِي بَيْتِ الْعَرَبْ مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِداً * يَمْلأُ الدَّلْوَ إلى عَقْدِ الْكَرَبْ وسمعه الفرزدق ينشد هذا الشعر فنزع ثيابه وقال: أنا أساجله، فقال له: من أنت؟ فلما انتسب له لبس ثيابه وقال (له) : والله لا يساجلك إلا من عض بأير أبيه، وهو هاشمي الأبوين، أمه بنت العباس بن عبد المطلب وإنما أتته الأدمة من قبل جدته وكانت حبشية وأنشد الجاربردي (1) وهو الشاهد السابع والعشرين (من الوافر) :
__________
(1) انظره في ص 63 من شرح الجاربردى (*)

(4/65)


27 - بكت عين وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا *
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلاَ الْعَوِيلُ (1) وهو مطلع قصيدة في رثاء حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم لما استشهد في غزوة أحد.
واختلف في قائلها، فقيل: هي لحسان بن ثابت رضي الله عنه، وليست في ديوانه، وقال عبد الملك بن هشام في السيرة: " قال ابن إسحاق: هي لعبد الله ابن رَوَاحَة، وقد أنشدنيها أبو زيد الأنصاري (لكعب بن مالك) (2) وهؤلاء الثلاثة هم شعراء النبي صلى الله عليه وسلم " وقد أورد ابن هشام القصيدة في غزوة أحد وهذه أبيات منها بعده: عَلَى أسَدِ الإِلَهِ غَدَاةَ قَالُوا * أحمزة ذاكم الرجل القتيل أصبب المُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعاً * هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرَّسُولُ أيَا يَعْلَى لَكَ الأَرْكَانُ هُدَّتْ * وَأَنْتَ الْمَاجِدُ البَرُّ الْوَصُولُ عَلَيْكَ سَلاَمُ رَبِّكَ في جِنَانٍ * مُخَالِطُهَا نَعِيمٌ لاَ يَزُولُ ألاَ يَا هَاشِمُ الأَخْيَارُ صَبْراً * فَكُلُّ فَعَالِكُمْ حَسَنٌ جَمِيلُ رَسُولُ الله مُصْطَبِرٌ كَرِيمٌ * بِأَمْرِ الله يَنْطِقُ إذْ يَقُولُ قوله " وحق لها بكاها " أي صار البكاء لها حقاً لازماً، وحكى الأزهري: ما أغنى فلان شيئاً، بالغين والعين، أي: لم ينفع في مهم ولم يكف مؤنة.
فيكون المفعول هنا محذوفا " والعويل " اسم من أعول عليه إعوالاً وهو البكاء والصراخ، وقوله " على أسد الإله " متعلق بالبكاء أو العويل على سبيل التنازع،
__________
كذا في الجاربردى وفى اللسان (ب ك ى) وفى سيرة ابن هشام (ح 3 ص 148) ووقع في الاصول محرفا (ولا يغنى) (2) الزيادة عن سيرة ابن هشام (ح 3 ص 148) ولا يتم الكلام إلا بها (*)

(4/66)


وأسد الله: لقب سيدنا حمزة، والألف في قوله " أحمزة " للاستفهام، و " أبو يعلى " كنيته رضي الله عنه، وأنشد الشارح وهو الشاهد الثامن والعشرون (من الرجز) : 28 - فَهْيَ تُنَزِّي دَلْوهَا تَنْزِيَّا كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا على أن مجئ المصدر المعتل اللام لفعَّل على تَفْعِيل ضرورة، والقياس أن على تَفْعِلَة كتكرمة، وأورده أبو عبيد القاسم بن سلام في الغريب المصنف في باب نعوت الخرقاء والعجوز كذا * بات ينزي دلوه تنزيا * وقال: هي الشهيرة (1) والشهلة يعني العجوز، وخص الشهلة لأنها أضعف من الشابة فهي تنزي الصبي: أي ترقصه بثقل وضعف، والمعنى هذه المرأة تحرك دلوها في الاستقاء وترفعها وتخفضها عند الاستقاء لتمتلئ تحريكاً مثل تحريك عجوز صبيها في ترقيصها إياه وقال ابن يعيش: يقال: امرأة شهلة، إذا كانت نَصَفاً وصار كالاسم لها بالغلبة، ولا يقال ذلك للرجال، وفي المصباح: نزا يَنْزُو من باب قتل، ونَزَواناً، بمعنى وثب، ويتعدى بالهمزة والتضعيف، فيقال: أنزاه إنزاء ونزاه تنزيةً، وهذا الشعر مشهور في كتب اللغة وغيرها، ولم يذكر أحد تتمته ولا قائله والله أعلم وأنشد بعده وهو الشاهد التاسع والعشرون (من الطويل) : 29 - بُثَيْنُ الْزَمِي " لاَ " إنَّ لاَ إن لزمته * على كثرة الواشين أي معون
__________
(1) الشهبرة والشهربة لغتان بمعنى العجوز الكبيرة، والرجل شهبر وشهربة عن ابن السكيت، وقال الازهرى: ويقال للرجل: شهبر (*)

(4/67)


على أن السيرافي قال: أصله معونة، فحذفت التاء لضرورة الشعر، وأجاز ابن جني في شرح تعريف المازني أن يكون كذا وأن يكون جمع معونة، وكذا أجاز الوجهين في مَكْرُم ومأْلُكٍ، وأورده ابن عصفور في كتاب الضرائر في ترخيم الاسم في غير النداء للضرورة والبيت من قصيدة لجميل بن عبد الله بن مَعْمَرٍ العذري.
يقول: إن سألك سائل يابثين هل كان بينك وبين جميل وصل فقولي: لا، فإن فها عوناً على الواشين (و) دفعاً لشرهم، و " بثين " مرخم بثينة منادى وهو اسم محبوبته.
يقول: ردي على الواشين قولهم، وإذا سألوك شيئاً فقولي: " لا " فإنهم إذا عرفوا منك ذلك انصرفوا عنك وتركوك، فيكون لزوم كلمة " لا " عوناً عليهم، و " أيُّ " دالة على الكمال مرفوعةً خبرُ إن: أي إن " لا " معونة أيُّ معونة، وبعده: وَنُبِّئْتُ قَوْماً فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي * فَلَيْتَ الرِّجَالَ الْمُوعِدِيَّ لَقُونِي إذا ما رَأَوْنِي طَالِعاً مِنْ ثَنِيَّةٍ * يَقُولُونَ مَنْ هذَا وَقَدْ عَرَفُونِي وترجمة جميل تقدمت في الشاهد الثاني والستين من أوائل شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده وهو الشاهد الثلاثون (من الرجز) : 30 - * لِيَوْمِ رَوْعٍ أوْ فَعَالِ مَكْرُمِ * لما تقدم قبله وقال الفراء عند تفسير قوله تعالى (وَجَعَلْنَا لمهلكهم) من سورة الكهف: فأما قول الشاعر: * ليوم روع أو فعال مكرم * فإنه جمع مكرمة، ومثله قول الآخر:

(4/68)


* على كثرة الواشين أي معون * أراد جمع معونة، وكان الكسائي يقول: هما مَفْعُل نادران لا يقياس عليهما، وقد ذهب مذهباً، إلا أني أجد الوجه الأول أجمل للعربية مما قال، انتهى قال ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق، والجواليقي (1) في شرح أبيات أدب الكاتب: قبله * وَهْوَ إذَا مَا هُزَّ لِلتَّقَدُّمِ * وقالا: يقول: إذا هُزَّ في يوم روع تقدم وقاتل، وكذا إن هَزَّ في عطاء وَجُودٍ أعطى وجاد، يصفه بالشجاعة والجود، انتهى وهُزَّ بالبناء للمفعول: من هَزَزْتهُ هزاً من باب قتل حركته فاهتز، والرَّوْع بالفتح: الفزع، الْفَعَال بفتح الفاء: الوصف الحسن والقبيح أيضاً، فيقال: هو قبيح الْفَعَال، كما يقال: هو حسن الْفَعَال، ولهذا خصصه بما بعده بالإضافة، ويكون مصدراً أيضاً، يقال: فعل فَعَالاً، كذهب ذَهَاباً، والْمَكْرُمة - بضم الراء - اسم من الكرم، وفعل الخير مكرمة: أي سبب للكرم أو التكريم، من كرم الشئ إذا نفس وعز وقال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: البيت لأبي الأخزر الحماني، وقبله: * مَرْوَانُ مَرْوَانُ أخُو الْيَوْمِ الْيَمِي * كذا رواه سيبويه، وروى غيره: * مَرْوَانُ يَا مَرْوانُ لِليَوْمِ الْيَمِي * وقوله " الْيَمي " صفة لليوم من لفظه، كما قالوا: يوم أَيْوَمُ، وليل أَلْيل، ووزنه فَعِل على مثال حَذِر، وأصله اليَوِمُ فنقلت (2) اللام إلى موضع العين فصار الْيَمِوُ،
فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها
__________
(1) انظره في شرح الجواليقى (ص 400) (2) في نسخة " قلبت " ولها وجه (*)

(4/69)


وقال السيرافي: أصله أخُو اليومِ اليَوْمُ، كما قال الاخر (من الرجز) : * إنَّ مَعَ الْيَوْمِ أخَاهُ غدوا * فقدم الميم بضمتها إلى موضع الواو، فصار الْيَمُو، فوقعت الواو طرفاً وقبلها ضمة، فقلبت ياء، وكسر ما قبلها، كما قيل في جمع دلو أدْلٍ، فموضع اليمي على قول السيرافي رفع، وموضعه على القول الأول خفض، وهذا التأويل الذي تأوله السيرافي هو الظاهر من مذهب سيبويه، وهو تأويل لا يصح إلا على رواية من روى " أخو اليوم اليمي " وأما من رواه * مروان يا مروان لليوم اليمي * فلا يكون موضع اليمي إلا خفضاً على الصفة، وكذلك لا يمتنع أن يكون موضعهُ خفضاً على من روى " أخو اليوم اليمي " ويكون معناه أن مروان أخو اليوم الشديد الذي يُفرِّج غمه ويجلي همه، وهو أشبه بمعنى الشعر، لأن البيتين لا يلتئمان على تفسير السيرافي ومذهب سيبويه، وأنشد المبرد في كتاب الأزمنة: * نِعْمَ أخُو الْهَيْجَاءِ فِي الْيَوْمِ الْيَمِي * وهذا يدل أيضا على أن اليمى في موضع خفض، وكذلك قال المبرد، وإليه ذهب ابن السكيت، انتهى.
ومروان هو ابن محمد بن مروان بن الحكم بن العاص، وأبو الأخزر راجز إسلامي اسمه قتيبة، والأخزر بالخاء والزاي المعجمتين وآخره راء مهملة، والْحِمَّاني منسوب إلى حِمّان بكسر المهملة وتشديد الميم وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والثلاثون (من الوافر) 31 - * كَفَى بِالنَّأْيِ مِنْ أَسْمَاءَ كَافِي * على أن " كافي " اسم فاعل منصوب على الحالية من النأي، وهو فاعل كفى،
والباء زائدة، وهذه الحال مؤكدة لعاملها وهو كفى، وحذف النصب منه كما حذف من قوله " فلو أن واشٍ " وذلك إما على لغة ربيعة فإنهم يسكنون المنصوب، وإما لضرورة الشعر، وقد حذفت الياء منهما لالتقائها ساكنة مع سكون نون التنوين،

(4/70)


والنأي: البعد، ومن: متعلقة به، وأسماء: اسم امرأة أصله وَسْمَاء من الْوَسَامَة، وهي الحسن وهذا صدر بيت، وعجزه: * وَلَيْس لِنَأْيِهَا إذْ طَالَ شَافِ * وشاف: اسم ليس، ولنأيها: متعلق به، وإذ تعليلية، وفاعل طال ضمير النأي، والخبر محذوف أي عندي أو موجود والبيت مطلع قصيدة لبشر بن أبي خَازِم، وهو جاهلي، وتقدم شرحه وترجمة بشر في الشاهد الثالث والعشرين بعد الثلاثمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والثلاثون (من الطويل) 32 - * فَلَوْ أَنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ داره * تمامه: * ودارى بأعلى حضر موت اهْتَدَى لِيَا * وتقدم توجيهه والواشي: الذي يُزَوِّق الكلام ليُفُسد بين متحابين، واليمامة: اسم بلد بين نجد والحجاز، وَحَضْرَمَوْت - بفتح الميم وضمها -: مدينة باليمن، غير متصرف، واللام في " ليا " بمعنى إلى والبيت من قصيدة لمجنون بني عامر تقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والثمانين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والثلاثون، وهو من شواهد سيبويه (1) (من الطويل)
__________
(1) انظره في كتاب سيبويه (ج 1 ص 173) (*)

(4/71)


33 - ألم ترني عاهدت ربي وإنني * لَبَيْنَ رِتَاجِ قَائماً وَمَقَامِ عَلَى حَلْفَةٍ لا أشْتُمُ الدَّهْر مسلما * ولا خارجا من في زور كَلاَمِ على أن قوله " خارجاً " عند سيبويه مصدرٌ حذف عامله: أي ولا يخرج خروجاً، وعند عيسى بن عمر حال معطوف على الجملة الحالية وهي " لا أشتم " وهذا نص سيبويه: وأما قول الفرزدق: عَلَى حَلْفَةٍ لا أشتم الدهر مسلما * ولا خارجا من فِيَّ زُورُ كَلاَمِ فإنما أراد ولا يخرج فيما استقبل، كأنه قال: ولا يخرج خروجاً، ألا تراه ذكر عاهدت في البيت الذي قبله، فقال " ألَمْ ترني عاهدت ربي إلخ " على حَلْفَةٍ، ولو حمله على أنه نفى شيئاً هو فيه ولم يرد أن يحمله على " عاهدت " جاز (1) وإلى هذا الوجه كان يذهب عيسى (بن عمر) فيما نُرَى، لأنه لم يكن يحمله عَلَى " عاهدت " انتهى، فجملة " لا أشتم " على قول سيبويه جواب القسم لقوله عاهدت، وقوله " ولا خارجاً " بتقدير ولا يخرج خروجاً، معطوف على جواب القسم وجعل خارجاً في موضع خروجاً، كأنه قال حلفت بعهد الله لا أشتم الدهر مسلماً ولا يخرج من فيَّ زور كلام، فلا أشتم ولا يخرج هما جواب القسم فيما يستقبل من الاوقات قال المبرد في الكامل: (2) وقوله " ولا خارجاً " إنما وضع اسم الفاعل في موضع المصدر، أراد لا أشتم الدهر مسلما، ولا يخرج خروجاً من فيّ زور كلام، لأنه على ذا أقسم، والمصدر يقع في موضع اسم الفاعل، يقال: ماءٌ غَوْرٌ: أي غائر (كما قال الله عزّ وجلَّ: (إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً) ويقال: رجُلٌ عَدْلٌ: أي عادل،
وَيَوْم غَمٌّ: أي غامٌّ) (3) وهذا كثير جداً، فعلى هذا جاء المصدر على فاعل كما جاء اسم الفاعل على المصدر، قُمْ قائماً، فيوضع في موضع (قولك) (3) قم قياما،
__________
(1) في سيبويه " لجاز " (2) انظر كتاب الكامل (1: 71) (3) الزيادة عن الكامل، وسقطت من جميع النسخ (*)

(4/72)


وجاء من المصدر على لفظ فاعل حروف منها فُلِجَ فَالِجاً (وعوفي عافية) ، انتهى.
وقد قيل: إن الجواب يجوز أن يكون جواباً لقوله " عَلَى حَلْفة " ويكون تقدير الكلام ألم ترني عاهدت ربي على أني أحلف لا أشتم ولا يخرج من فيّ كلام قبيح ومعنى قول سيبويه " نفى شيئاً هو فيه ": أي نفى ما في الحال، ولم ينف المستقبل.
وفسّر المبرد في الكامل قول عيسى بن عمر " إنَّ خارجاً حال " قال: وكان عيسى بن عمر يقول: إنما قوله " لا أشتم " حال، فأراد عاهدت ربي في هذه الحال وأنا غير شاتم ولا خارج من فيّ زور كلام، ولم يذكر الذي عاهد عليه، انتهى.
والفعل المستقبل يكون في معنى الحال، كقوله: جاز زيد يضحك، وجعل العامل في الحال على مذهب عيسى بن عمر " عاهدت " كأنه قال: عاهدت ربي لا شاتماً الدَّهْرَ، والمعنى موجباً على نفسي ذلك ومقدار ذلك، كذا شرح المبرد والزجاج قول عيسى بن عمر قال السيرافي: وكلام سيبويه الذي حكاه عن عيسى يخالفه، وهو قوله: لأنه لم يكن يحمله على " عاهدت " وإذا لم يكن العامل في الحال " عاهدت " كان
عاملها " ألم ترني " كأنه قال: ألم ترني لا شاتماً مسلماً ولا خارجا من فِيَّ زور كلام، وهذا الوجه ذكره أبو بكر مَبْرَمَان (1) ، وهذا يعجبني، لأن " عاهدت " في موضع المفعول الثاني، فقد تم المفعولان بعاهدت، وإما حَلفة (2) وهذا أجود منه
__________
(1) في الاصول " مبرجان " وهو تحريف، قال المجد في القاموس: " ومبرمان لقب أبى بكر الازمى " (2) هذا معطوف على قوله " ألم ترنى " في قوله " كان عاملها ألم ترنى " وكان من حق الكلام أن يقول: كان عاملها إما ألم ترنى الخ وإما حلفة.
(*)

(4/73)


كأنه قال: على أن حلفت لا شاتماً ولا خارجاً، انتهى وذهب الفراء في تفسير سورة القيامة إلى أنهما حالان، والعامل " عاهدت " قال: إنما نصب خارجاً لأنه أراد عاهدت ربي لا شاتماً أحداً ولا خارجاً من فِيَّ زور كلام، وقوله " لا أشتم " في موضع نصب، انتهى وأيد ابن هشام في المغنى (1) قول سيبويه، فقال: والذي عليه المحققون أن خارجاً مفعول مطلق، والاصل ولا يخرج خروجاً، (ثم حذف الفعل، وأناب الوصف عن المصدر، كما عكس في قوله تعالى: (إِنْ أصبح ماؤكم غورا)) (2) لأن المراد أنه حلف بين باب الكعبة وبين مقام إبراهيماً أنه لا يشتم (مسلماً) (2) في المستقبل ولا يتكلم بزور، لا أنه حلف في حال اتصافه بهذين الوصفين على شئ آخر، انتهى وبهذا أيضاً يرد على ما ذهب إليه بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل فإنه بعد أن قرر مذهب سيبويه قال: قلت: لا يبعد أن يكون قوله " لا أشتم " بياناً لما عاهد عليه ربه على وجه الاستئناف، كأن قائلاً قال: ما الذي عاهدت عليه ربك؟ فقال: لا أشتم، والمعنى ألم ترني يعني رأيتني عاهدت ربي على أمر هو أني لا أشتم طول الدهر مسلما ولا يخرج من في زور كلام: أي كونه على حلفة:
أي حالفاً بالله على ذلك، فوقع القسم مؤكِّداً لما عاهد عليه ربه، ويجوز أن يكون المعاهد عليه محذوفا، والتقدير عاهدت ربي على حسن السيرة أو ترك ما لا يعني، ثم خص عدم الشتم للمسلم وعدم خروج الكلام الزور عن فيه تأكيداً لنفيهما عن نفسه، وقوله " على حلفة " في هذا الوجه يجوز أن يتعلق بمحذوف قدرناه، وأن يتعلق بقوله " لا أشتم " كأنه قال: عاهدت ربي على حسن السيرة حالفاً بالله على
__________
(1) في مبحث الجمل التى لا محل لها من الاعراب، في جملة جواب القسم (2) الزيادة عن المغنى في الموضع المذكور (*)

(4/74)


ذلك، أو عاهدت ربي على ذلك حالفاً بالله لا أشتم طول الدهر مسلماً خصوصاً ولا أهجوه ولا يخرج من فيّ كلام زور، هذا كلامه وقوله " وإنني لبين رتاج " بكسر همزة فإن جملتها حالية، وقول " لبين رتاج ومقام " خبر إنّ، وقائماً - وروى بدله " واقفاً " - حال من الضمير المستقر في الطرف، وروي بالرفع فهو خبر ثان، أو هو خبر إنَّ والظرف متعلِّقة كقولك إن زيداً لفي الدار قائم، والرتاج - بكسر الراء وآخره جيم - قال (1) المبرد: الرتاج: غَلَق الباب، ويقال: باب مُرْتج: أي مغلق، ويقال: أُرْتج على فلان: أي غلق عليه الكلام، انتهى.
وقال ابن السّيد فيما كتبه على الكامل: الرِّتاج الْغَلَق، وذكره صاحب العين، وأنشد هذا البيت، وقال: يعني باب البيت ومقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ويدل على هذا قول أبى شجرة السلمي: * مثل الرتاج إذَا مَا لَزَّهُ الْغَلَقُ * فهذا يدل على أن الرتاج غير الغلق، ومما يقوي قول المبرد في الرتاج قولً الحطيئة * إلى عَجُزٍ كَالْبَابِ شُدَّ رِتَاجُهُ * انتهى
وفي العباب الرَّتجُ بالتحريك - الباب العظيم، وكذلك الرِّتاج، ومنه رتاج الكعبة، ويقال: الرتاج الْمُغَلَق (2) وعليه باب صغير، انتهى و " أشتم " جاء من باب ضرب ونصر قال المبرد (1) : التقى الحسن والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ (قال: وما يقولون؟ قال) (3) : يقولون
__________
(1) انظر الكامل (1: 70 و 71) (2) يريد الباب المغلق وعليه باب صغير (3) الزيادة عن الكامل (1: 70) (*)

(4/75)


اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: كلا، لستُ بخير الناس ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ فقال: شَهَادَة أن لا إله إلا الله منذ ستون سنةً، وخمسَ نجائب لاَ يُدْرَكْنَ، يعني الصلوات الخمس، فتزعم التميمية (1) أن الفرزدق رؤي في النوم فقيل له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي (فقيل له: بأى شئ؟ فقال) (3) بالكلمة التي نَازَعَنِيهَا الحسن، وحدّثني العباس بن الفرج (الرياشي) في إسنادٍ له ذكره، قال: كان الفرزدق يخرج من منزله فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم فيسر بذلك وَيَجْذَل به، ويقول: إيه فِدَاءً (2) لكم أبي وأمي، كذا والله كان آباؤكم، ونظر إليه أبو هريرة الدَّوْسيُّ رضي الله عنه فقال (له) : مهما فعلت فَقَنَّطَكَ الناس فلا تقنط من رحمة الله، ثم نظر إلى قدميه فقال: إني أرى لك قدمين لطيفتين فابتغ لهما موقفاً صالحاً يوم القيامة والفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلق بأستار الكعبة وعاهد الله أن لا يكذب ولا يشتم مسلماً: ألَمْ تَرَنِي عَاهَدْتُ رَبِّي وَإنَّنِي * لَبَيْنَ رِتَاجٍ قَائِماً وَمَقَامِ
إلى آخر البيتين.
وقال ابن السّيد فيما كتبه على كامله: قوله " والتقى الحسن والفرزدق في جنازة ذكر الهيثم بن عدى بن أبي بكر بن عياش أن الفرزدق لقي الحسن رحمه الله في جنازة عِمْرَان بن مِلْحَان أبي رجاء العطاردي، سنة خمس ومائة،
__________
(1) في الكامل " فيزعم بعض التميمية " (2) في الكامل " فدى " مكسورا مقصورا، واستدركه أبو الحسن الاخفش فقال: إنما هو فداء لكم، من فتح قصر لا غير، ومن كسر مده لكنه كسر الممدود على هذه الرواية.
(*)

(4/76)


في أول خلافة هشام بن عبد الملك فكلّمه بما ذكره المبرد، ثم انصرف الفرزدق فقال: من (الطويل) : ألَمْ تَرَ أنَّ النَّاسَ مَاتَ كَبِيرُهُم * وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْبَعْثِ بَعْثِ مُحَمَّدِ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ عَيْشُ سَبْعِينَ حِجَّةً * وَسِتِّينَ لَمَّا بَانَ غَيْرَ مُوَسَّدِ إلى حُفْرَةٍ غَبْرَاءَ يُكْرَهُ وِرْدُها * سِوَى أنَّهَا مَثْوَى وَضِيع وَسَيِّدِ نَرُوحُ وَنَغْدُو وَالحُتُوفُ أمَامنا * يَضَعْنَ لَنَا حَتْفَ الرَّدَى كلَّ مَرْصَدِ وَقَدْ قَالَ لِي مَاذَا تُعِدُّ لِمَا تَرَى * فَقِيهٌ إذَا مَا قَال غَيْرُ مَفَنَّدِ فَقُلْتُ لَهُ أعْدَدْتُ لِلْبَعْثِ وَالَّذِي * أُرَادُ بِهِ أنِّي شِهيدٌ بِأَحْمَدِ وَأَنْ لاَ إله غَيْرُ رَبِّي هُوَ الَّذِي * يُمِيتُ وَيُحْيِي يَوْمَ بَعْثٍ وَمَوْعِدِ فهذا الذى أعددت لا شئ غَيْرُهُ * وَإنْ قُلْتَ لِي أكْثِرْ مِنَ الْخَيْرِ وَازْدَدِ فَقَالَ قدِ اعْتَصَمْتَ بِالْخَيْرِ كُلِّهِ * تَمَسَّكْ بهذا يَا فَرَزْدَقُ تَرْشُدِ وذكر الأصبهاني عن محمد بن سلام أنها كانت جنازة النَّوار زوج الفرزدق.
وبعده قوله:
أطَعْتُكَ يَا إبْلِيسُ سَبْعِينَ حِجَّةً (1) * فَلَمَّا انْتَهَى شَيْبِي وَتَمَّ تَمَامِي رَجَعْتُ إلَى رَبِّي وَأَيْقَنْتُ أنَّنِي * مُلاَقٍ لأَيَّامِ الْمَنُونِ حِمَامي وهي قصيدة مطولة أنشدها يعقوب بن السكيت، انتهى ما كتبه ابن السيد.
وفي أمالي السيد الشريف (2) المرتضى رحمه الله تعالى روى أن الفرزدق
__________
(1) كذا في الديوان، وفى أمال المرتضى (1: 46) " تسعين حجة " وفيه " فلما قضى عمرى " وفيه " فزعت إلى ربى " وفيه " لايام الحتوف " (2) انظر أمالى المرتضى (1: 46) (*)

(4/77)


تعلق بأستار الكعبة، وعاهد الله على ترك الهجاء والقذف اللذين (كان) ارتكبهما وقال: ألم ترني عاهدت ربي، إلى آخر الأبيات الأربعة.
ثم حدث عن أبي عبيد الله الْمَرْزُباني بسند له أن الحسن البصري شهد جنازة النَّوَار امرأة الفرزدق، وكان الفرزدق حاضراً، فقال له الحسن وهو عند القبر: يا أبا فراس، ما أعددت لهذا المضجع؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانون سنة فقال له الحسن: هذا العمود فأين الطُّنُبُ؟ وفي رواية أخرى أنه قال: نِعْمَ ما أعدت، ثم قال الفرزدق في الحال: أخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إنْ لَمْ يُعَافِنِي * اشَدَّ مِنَ الْمَوْتِ التِهَاباً وأضيقا إذا جاءني يوم القيامة قائد * عنيف وسواق يسوق الفرزدقا لَقَدْ خَابَ مِنْ أوْلاَدِ آدَمَ مَنْ مَشَى * إلى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلاََدَةِ أزْرَقَا يُقَادُ إلَى نَارِ الْجَحيمِ مُسَرْبَلاً * سَرَابيلَ قَطْرَانٍ لِبَاساً مُحَرِّقا قال: فرأيت الحسن يدخل بعضه في بعض، ثم قال: حَسْبُك، ويقال: إن رجلاً رأى الفرزدق في منامه (1) بعد موته، فقال: ما فعل الله بك؟ فقال:
عفى عني بتلك الأبيات، انتهى.
وقال محمد بن حبيب في شرح المناقضات: إن الفرزدق حَجَّ فعاهد الله بين الباب والمقام أن لا يهجو أحداً وأن يُقيِّد نفسه حتى يجمع القرآن حفظاً، فلما قدم البصرة قَيَّدَ نفسَهُ وحلف أن لا يُطْلق قيده عنه حتى يجمع القرآن، وقال * ألم ترني عاهدت ربي ... * الأبيات، وبلغ نساء بني مجاشع فحش الْبَعِيث وجرير بهنَّ فأتين الفرزدق مقيداً فقلن: قبح الله قَيْدَكَ وقدهتك جرير عورات نسائك، فأغضبنه ففض قيده وقال قصيدة يجيبهما، منها:
__________
(1) في أمالى المرتضى " بعد موته في منامه " (*)

(4/78)


فَإِنْ يَكُ قَيْدِي كَانَ نَذْراً نَذرْتُهُ * فَمَا بِيَ عَنْ أحْسَابِ قَوْمِي مِنْ شُغْلِ أنَا الضَّامِنُ الرَّاعِي عَلَيْهِمْ، وَإنَّمَا * يُدَافِعُ عَنْ أحْسَابِهِمْ أنَا أَوْ مِثْلِي (1) والقصيدة التي البيت الشاهد منها أوردها الخضر الموصلي في شواهد التفسيرين، عند قوله تعالى (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رسولا) وقد مرت ترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين من شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والثلاثون (من الطويل) 34 - لَقِيْتُ بِدَرْبِ الْقُلَّةِ الْفَجرَ لَقْيَةً * شَفَتْ كَمَدِي وَاللَّيْلُ فِيهِ قَتِيلُ على أنه يجوز أن يأتي مصدر لقيته على لَقْيَةٍ قياساً كما في البيت وهو من قصيدة للمتنبي مدح فيها سيف الدولة أولها: لَيَالِيَّ بَعْدَ الظَّاعِنِينَ شُكُولُ * طِوَالٌ، وَلَيْلُ الْعَاشِقِينَ طَوِيلُ إلى أن قال " لقيت بدرب القلة - إلخ " يريد أن الليل انقضى وبدت تباشير
الصبح وقد وافى المكان فشفى لقاء الصبح كمده والليل قتيل في الفجر، لأنه ينقضي بطلوعه، وقد أخذ بعضهم هذا المعنى وكشف عنه فقال: وَلَمَّا رَأَيْتُ الصّبْحَ قَدْ سَلَّ سَيْفَهُ * وَوَلَّى انْهِزَاماً لَيْلُهُ وَكَوَاكِبُهْ وَلاَحَ احْمِرَارٌ قُلْتُ قَدْ ذُبِحَ الدجى * وهذا دَمٌ قَدْ ضَمَّخَ الأَرْضَ سَاكِبُهُ كذا في شرح الواحدي، والكمد: الحزن المكتوم، وهو مصدر من باب تَعِب، وكأنه لقي من الليل سَهَراً وكآبةً وطولاً فأكمده ذلك، ثم فرح بلقاء
__________
(1) كذا في النقائض والديوان، ويرويه النحاة " أنا الذائد الحامى الذمار " وانظر معاهد التنصيص (119 بولاق) وانظر دلائل الاعجاز للجرجاني (253 المنار) (*)

(4/79)


الصباح فجعل الفجر قاتلا لليل شافياً له منه، ودَرْبُ القلة بضم القاف - موضع فرب ملطية (1) كان سيف الدولة غزا تلك النواحي في سنة اثنين وأربعين وثلثمائة، وذكر المتنبي المواضع التي غزاها في تلك السنة في هذه القصيدة وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والثلاثون (من البسيط) : 35 - هَا إنْ تا عِذْرةٌ إنْ لَمْ تَكُنْ قُبِلَتْ * فَإنَّ صَاحِبَها قَدْ تَاهَ فِي الْبَلَدِ على أن عِذره - بكسر العين - مصدر للنوع بتقدير صفة معلومة بقرينة الحال: أي عذر بليغ، والوجه أن هذا الوصف مفعوم من التنوين وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة بعد أن هرب منه إلى ملوك غَسَّان في الشام لما اتُّهِمَ بامرأته المتجردة وأراد قتله وأرسل إلى النعمان قصائد يتنَصَّل (بها) عما اتهم به ويعتذر إليه عن هروبه وإقامته عند ملوك غسان، وقد شرحنا حاله في الشاهد الرابع بعد المائة من شواهد شرح الكافية
وقبل هذا البيت: نُبِّئْتُ أنَّ أبَا قاَبُوسَ أوْعَدَنِي * وَلاَ قَرَارَ عَلَى زَأْرٍ من الاسد (2)
__________
(1) ملطية - بفتح أوله وثانيه وسكون الطاء وتخفيف الياء، والعامة تقوله بتشديد الياء وكسر الطاء -: بلدة من بلاد الروم مشهورة تتاخم الشام وفيها يقول المتنبي: وكرت فمرت في دماء ملطية * ملطية أم للبنين ثكول ويقول أبو فراس: وألهبن لهبي عرقة وملطية * وعاد إلى موزار منهن زائر (2) في الديوان " أنبئت " وفيه " ولا مقام " والبيت الذى ذكره المؤلف ليس متصلا ببيت الشاهد، وبيت الشاهد آخر القصيدة كما قال (*)

(4/80)


وهما آخر القصيدة.
ونبئت - بالبناء للمفعول - بمعنى أخبرت، وأبو قابوس: كنية النعمان، وقابوس معرب كاووس اسم ملك من ملوك العجم، وأوعد - بالألف - لا يكون إلا في الشر، بمعنى هددني، والزأر: مصدر زَأرَ الأسدُ إذا صَوَّت بحنق، وهو تمثيل لغضبه، وقوله " ها إن تا عذرة " استشهد به الشارح في باب اسم الإشارة وفي هاء التنبيه من شرح الكافية، على أن الفصْل بين " ها " وبين اسم الإشارة بغير " أنا " وأخواته قليل، والفاصل هنا " إنَّ "، وتا: اسم إشارة للمؤنث، بمعنى هذه، وروي أيضاً " ها إن ذي عِذْرَة "، والإشارة لما ذكر في قصيدته من يمينه على أنه لم يأت بشئ يكرهه، وقيل: الإشارة للقصيدة: أي إن هذه القصيدة ذات عذرة، وقال بعضهم: التقدير أن عذرتي هذه عِذْرَة، والعِذْرة - بالكسر - اسم للعذر بالضم، قال صاحب الصحاح: يقال: عَذَرْته فيما صنع أعْذِره عذرا، والاسم الْمَعْذِرة والْعُذْرى، وكذلك العِذْرَة وهي مثل
الرِّكبة والجلْسة وأنشد هذا البيت، وفي المصباح عَذَرته فيما صنع عُذْراً، من باب ضرب، رفعت عند اللوم فهو معذور: أي غير ملوم وقوله " إن لم تكن نفعت فإن صاحبها " المحدث عنه في الجميع العِذْرَة، وأراد بصاحب العذرة نفسه وتاه الإنسان يتيه تَيْهاً: ضل عن الطريق، وأراد لازمه وهو الهلاك، والمعنى إن لم تقبل عذري فترضى عني فإني أضل في البلدة التي أنا فيها لما أنا فيه من عظيم الدهشة الحاصلة من وعيدك والنابغة الذبيانى شاعر جاهلي، وقد ترجمناه هناك:

(4/81)


أسماء الزمان والمكان أنشد الجار بردى فيهما: كَأَنَّ مَجِرَّ الرَّامِسَاتِ ذُيُولَهَا * عَلَيْهِ قَضِيمٌ نَمَّقَتْهُ الصَّوَانِعُ وسيأتي شرحه إن شاء الله تعالى في أول باب المنسوب الآلة أنشد فيها، وهو الشاهد السادس والثلاثون (من الرجز) 36 - يَمَّمْنَ أعدادا بلبني أوأجا * مُضْفْدِعَاتٍ كُلُّها مُطَحْلِبَهْ على أنه يقال: مُضَفْدِع ومُطَحْلِب، بوزن اسم الفاعل، بمعنى كثير الضفادع وكثير الطحالب والبيت أورده الجوهري في مادة الضفدع، وقال: يريد مياهاً كثيرة الضفادع وقال الصاغاني في العباب: وضَفْدَعَ الماء، إذا صارت فيه الضفادع، وأنشد البيت أيضاً ويمَّمْن بمعنى قَصَدْنَ، بنون الإناث، والأعداد: جمع عِدّ بكسر العين المهملة،
وهو الماء الذي له مادَّة لا تنقطع كماء العين وماء البئر، ولُبْنَى - بضم اللام وسكون الموحدة بعدها نون وألف مقصورة - اسم جبل، وروي بدله " سَلْمى " وهو اسم جبل أيضا لطئ، وكذلك أجأجبل لطي بفتح الهمزة بعدها جيم، والأكثر همز آخره، قال امرؤ القيس: أبَتْ أَجَأٌ أنْ تُسْلِمَ الْعَامَ جَارَهَا * فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْهَضْ لَهَا مِنْ مُقَاتِلِ (1) وقد لا يهمز، كما في البيت، وكما قال العجاج: * فإنْ تَصِرْ لَيْلَى بسلمى أو أجا *
__________
(1) " من " ههنا ليست للتبعيض، بل هي بيانية، والمعنى من شاء من المقاتلين أن ينهض لمحاربة أهل أجأ فليفعل (*)

(4/82)


وقوله " بلبنى " الجار متعلق بمحذوف صفة لأعداد، وقوله " مضفدعات " صفة ثانية لأعداد، وكلها مبتدأ، والضمير للأعداد، ومطحلبة خبر المبتدأ، والجملة صفة ثالثة، والطُّحْلُب - بضم الطاء واللام ويجوز فتح اللام - شئ أخضر لزج يخلق في الماء ويعلوه، يقال: ماء طَحِل - بفتح فكسر - أي كثير طحلبه، وعين طحلة كذلك، ومطحلب قليل ولبيد رضي الله عنه هو شاعر صحابي من بني عامر، وقد تقدم ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة من شواهد شرح الكافية المصغر أنشد فيه، وهو الشاهد السابع والثلاثون (من البسيط) 37 - يَا مَا أُمَيْلِحَ غِزْلأَناً شَدَنَّ لَنَا * مِنْ هو ليائكن الضَّالِ وَالسَّمُرِ على أن تصغير أميلح من قبيل تصغير لُطَيّف ونحوه، يريد أن التصغير في فعل التعجب راجع إلى المفعول المتعجب منه، أي هذه الغزلان مُلَيِّحات، قال
سيبويه (1) : أرادوا تصغير الموصوف بالملاحة، كأنهم قالوا مُلَيِّح، لكنهم عدلوا عن ذلك وهم يعنون الأول، ومن عادتهم أن يلفظوا بالشئ وهم يريدون شيئاً آخر، وقد أوردنا ما يتعلق به مفصلاً في الشاهد السادس من أوائل شرح الكافية
__________
(1) نقل المؤلف عبارة سيبويه بالمعنى وإليك العتارة نقلا عن سيبويه (2: 135) " وسألت الخليل عن قول العرب ما أميلحه فقال: لم يكن ينبغى أن يكون في القياس لان الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الاسماء لانها توصف بما يعظم ويهون، والافعال لا توصف فكرهوا أن تكون الافعال كالاسماء لمخالفتها إياها في أشياء كثيرة ولكنهم حقروا هذا اللفظ، وإنما يعنون الذى تصفه بالملح كأنك قلت مليح شبهوه بالشئ الذى تلفظ به وأنت تعنى شيئا آخر نحو قولك يطؤهم الطريق وصيد عليه يومان ونحو هذا كثير في الكلام، وليس شئ من الفعل ولا شئ مما سمى به الفعل يحقر إلا هذا وحده وما أشبهه من قولك ما أفعله " اه (*)

(4/83)


ويا: حرف نداء، والمنادى محذوف، والتقدير يا صاحبي، وما: استفهامية تعجبية (1) ، وأملح: فعل تعجب من الملاحة وهي البهجة وحسن المنظر، وفعله ملح الشئ بالضم مَلاَحَة، وغزلاناً: مفعول فعل التعجب، جمع غزال، وهو ولد الظبية، قال أبو حاتم: الظبي أوَّلَ ما يولد طَلىً، ثم هو غزال، والأنثى غزالة، فإذا قوي وتحرك فهو شَادِن، فإذا بلغ ستة أشهر أو سبعة أشهر فهو خِشْفٌ، والرَّشَأَ: الفتي من الظباء، فإذا أثنى فهو ظبي، ولا يزال ثَنِيّاً حتى يموت والأنثى ثنية وظبية، والثَّنِيُّ على فَعِيل: الذي يُلقي ثنيّتَهُ أي سنة من ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة، وشَدَنَّ: من شَدَنَ الغزال بالفتح يَشْدُن بالضم شدونا، إذا قوي وطلع قرْنَاه واستغنى عن أمه، والنون الثانية ضمير الغزلان، وجملة " شدن " صفة غزلان، ولنا ومن: متعلقان بشدن، وقوله " من هو ليائكن " هو مصغر هؤلاء
شذوذاً، وأصله أولاء - بالمد والقصر - وها: للتنبيه، وأولى: اسم إشارة يشار به إلى جمع، سواء كان مذكراً أو مؤنثاً، عاقلاً أو غير عاقل، والكاف حرف خطاب، والنون حرف أيضاً لجمع الإناث، وقد استشهد به النحاة على دخول التنبيه عليه وعلى تصغيره شذوذا، ورواه الجوهرى " من هؤ لياء بَيْنَ بين الضال والسمر " وقال: لم يصغروا من العل غير هذا، وغير قولهم " ما أحَيْسِنه " والضال: عطف بيان لاسم الإشارة، وهو السدر البري، جمع ضالة، ولهذا صح إتباعه لاسم الإشارة إلى الجمع، وألفه منقلبة من الياء، والسِّدر: شجر النبق، والسَّمُر بفتح السين وضم الميم: جمع سَمُرة، وهو شجر الطَّلح، وهو شجر عظيم شائك والبيت من جملة أبيات اختلف في قائلها، وعدتها، وقد ذكرنا الكلام عليه مستوفى هناك في الشاهد السادس
__________
(1) في نسخة " تعجيبية " (*)

(4/84)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والثلاثون: 38 - وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بينهم * دويهية تصفر منها الأنامل على أن تصغير دُوَيْهية قريب من التصغير للتعظيم، وحقق الشارح المحقق أن تصغيرها للتحقير، قال: إذ المراد بها الموت: أي يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل، والقول بأن تصغيرها للتعظيم هو قول الكوفيين، وسوف هنا للتحقيق والتأكيد، والداهية: مصيبة الدهر، مشتقة من الدَّهْي بفتح الدال وسكون الهاء، وهو النكر، فإن كل واحد ينكرها ولا يقبلها، ودَهَاه الأمر يَدْهَاه إذا أصابه بمكروه، ورواه ابن دريد في الجمهرة " خُوَيْخِيَةٌ تصفر - إلخ " وقال: الْخُويْخِيَة الداهية، وهو بخاءين معجمتين مصغر الْخَوْخَة
بالفتح، وهي الباب الصغير، وكذا روى الطوسي أيضاً عن أبي عمرو، وقال: يقول: ينفتح عليهم باب يدخل عليهم منه الشر، وإذا مات الرجل أو قتل اصفرت أنامله واسودَّت أظافره.
وقيل: المراد من الأنامل الأظفار، فإن صفرتها لا تكون إلا بالموت والبيت من قصيدة للبيد، رضى الله عنه، ابن عامر الصحابي، وتقدم شرح أبيات منها مع ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والثلاثون (من الطويل) 39 - فُوَيْقَ جُبَيْلٍ شَاهِقِ الرأس لم تكن * لتبلغه حتى تكِلَّ وتَعْمَلاَ على أنه استُدل لمجئ التصغير بتصغير جبيل في البيت قال ابن (1) : يعيش: للتصغير معان ثلاثة: تحقير ما يتوهم (2) أنه عظيم كرجيل
__________
(1) انظر شرح المفصل لابن يعيش " 5: 113 مصر " (2) في شرح المفصل " ما يجوز أن يتوهم أنه الخ " وكذا في الذى بعده (*)

(4/85)


وتقليل ما يتوهَّم أنه كثير كدُرَيْهِمَات، وتقريب ما يجوز أن يتوهم أنه بعيد كبُعَيْدِ العصر وقُبَيْلَ الفجر، وأضاف الكوفيون قسماً رابعاً يسمونه تصغير التعظيم، كقول الشاعر: * دُوَيْهِيَة تصفرُّ منْها الأنامل * والمراد التعظيم، إذ لا داهية أعظم من الموت، وقال آخر: * فويق جبيل شاق الرأس - البيت * قال " جبيل " ثم قال " شاهق الرأس " وهو العالي، فدل على أنه أراد تفخيم شأنه، وهذا ليس من أصول البصريين، وجميع ما ذكروه راجع إلى معنى التحقير، فأما قولهم " دويهية " فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأمور العظام، فحتف
النفوس قد يكون بصغير الأمر الذي لا يؤبه له، وأما " فويق جبيل " فالمراد أنه صغير العرض دقيق الرأس شاق المصعد لطوله وعلوه، انتهى ومن الكوفيين أبو حنيفة الدِّيَنَوريُّ، قال في كتاب النبات: وإنما صغر الجبل على وجه التعظيم، كما قالوا للداهية: دويهية، ولم يرد التحقير، وكيف قد قال " شاهق الرأس " وكذا قال ابن السكيت في شرحه للبيت، قال: يقول: هو صغير العرض ذاهب في السماء، وفويق جبيل أراد أن يكبره بتصغيره كما قال * وكل أناس سوف ... البيت * ويروى " سامق الرأس " و " شاهق الرأس " و " شامخ الرأس " والجميع واحد، انتهى وتبعهم ابن هشام في (1) المغني، فقال: ونظير رب في إفادة التكثير تارة والتقليل أخرى صيغ التصغير، تقول حجير ورجيل فتكون للتقليل، وقال:
__________
(1) في مباحث " رب " من الباب الاول من كتاب المغنى (*)

(4/86)


* فُوَيْقَ جُبَيْلٍ شَامِخٍ لَنْ تَنَالَهُ - البيت (1) * وقال لبيد رضي الله عنه: * وكل أناس سوف - البيت * ولم يتعرض له شراحه بشئ قال الشمني: تمثيله بجبيل ودُويهية للتكثير، وبحجير ورجيل للتقليل، مبنى على عدم الفرق بين التعظيم والتكثير وبين التحقير والتقليل، انتهى.
وقال ابن الملا: والتصغير في كل من فويق وجبيل ليس للتقليل الذي يراد به التحقير، لأن وصفه بما ذكر مناف لحقارته، بل هو للتعظيم، وأريد بالدويهية
الموت، ومن ثم قلنا إن تصغيرها للتعظيم إذ لا داهية أعظم من الموت، ومن زعم أن الداهية إذا كانت عظيمة كانت سريعة الوصول فالتصغير لتقليل المدة فقد تَكَلَّفَ، أو أن التصغير على حسب احتقار الناس لها وتهاونهم فيها: أي يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفس الامر فقد تعسَّف، هذا كلامه وهذا مجرد دعوى من غير بيان للتكلف والتعسف والبيت من قصيدة لأوس بن حَجَر في وصف قوس، ولابد من نقل أبيات قبله حتى يتضح معناه، قال بعد ستة أبيات من القصيدة: وَإنِّي امْرُؤٌ أعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ بَعْدَما * رَأَيْتُ لَهَا نَاباً مِنَ الشَّرِّ أعْصَلاَ أصَمَّ رُدَيَنِيّاً كَأَنَّ كُعُوبَهُ * نَوَى الْقَسْبِ عَرَّاصاً مُزَجًّى مُنَصَّلا عَلَيْهِ كَمِصْبَاحٍ الْعَزِيزِ يَشْبُّهُ * لِفِصْحٍ ويَحْشُوهُ الذُّبَالَ الْمُفَتَّلا وَأَبْيَضَ هِنْدِيًّا كَأنَّ غِرَارَهُ * تَلأْلُؤُ بَرْقٍ في حَبِيّ تَكَلَّلاَ إِذَا سُلَّ مِنْ غِمْدٍ تأكَّلَ أَثْرُهُ * عَلَى مِثْلِ مِسْحَاةِ اللُّجَيْنِ تأكلا
__________
(1) تمامه في هذه الرواية: * بقنته حتى تكل وتعملا * (*)

(4/87)


كَأَنَّ مَدَبَّ النَّمْلِ يَتَّبِعُ الرُّبَا * وَمَدْرَجَ ذَرٍّ خَافَ بَرْداً فَأَسْهَلاَ عَلَى صَفْحَتَيْهِ بَعْدَ حينِ جِلاَئِهِ * كَفَى بِالَّذِي أُبْلي وَأَنْعَتُ مُنْصُلاَ وَمَبْضُوعَةً مِنْ رَأْسِ فَرْعٍ شَظِيَّةً * بِطَوْدٍ تَرَاهٌ بالسَّحَابِ مُجَلَّلاَ عَلَى ظَهْرِ صَفْوَانٍ كَأَنَّ مُتُونَهُ * عُلِلْنَ بدُهْنٍ يُزْلِقُ الْمُتَنَزِّلاَ يُطِيفُ بِهَا رَاعٍ يُجَشِّم نَفْسَهُ * ليكلأَ فِيهَا طَرْفَهُ مُتَأَمِّلاَ فَلاَقَى امْرأً مِنْ بَيْدَعَان وَأَسْمَحَتْ * قَرُونَتُهُ بِالْيَأْسِ.
مِنْهَا وَعَجَّلاَ فَقَالَ لَهُ هَلْ تَذْكُرَنَّ مخيرا * يَدُلُّ عَلَى غُنْمٍ وَيْقْصُرُ مُعْمِلاَ
عَلَى خَيْرِ مَا أَبْصَرْتَهَا مِنْ بِضَاعَةٍ * لِمُلْتَمِسٍ بَيْعاً بِهَا أَوْ تَبَكُّلاَ فُوَيْقَ جُبَيْلٍ شَامِخِ الرَّأْسِ لَمْ تَكُنْ * لِتَبْلُغَهُ حَتَّى تَكِل وَتَعْمَلاَ فَأَبْصَرَ ألْهَاباً مِنَ الطَّوْدِ دُونَهَا * يَرَى بَيْنَ رَأْسِي كُلِّ نِيقَيْنِ مَهْبِلاَ فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَه وَهُوَ مُعْصِمٌ * وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلاَ وقَدْ أكَلَتْ أظْفَارَهُ الْصَّخْرُ كلما * تعيا عليه طول مرقى تَسَهَّلاَ فَمَا زَالَ حَتَّى نَالَهَا وَهْوَ مُعْصِمٌ * عَلَى مَوْطِنٍ لَوْ زَلَّ عَنْهُ تَفَصَّلاَ فَلَمَّا نَجَا مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ لَمْ يَزَلْ * يُمظِّعُهَا مَاءَ اللِّحَاءِ لِتَذْبُلاَ فَلَمَّا قَضى مِما يُرِيدُ قَضَاءَهُ * وَصَلَّبَهَا حِرْصاً عَلَيْهَا فَأَطْوَلاَ أَمَرَّ عَلَيْهَا ذات حد دعالها * رَفِيقاً بِأَخْذٍ بِالْمَداوِسِ صَيْقَلاَ فَجَرَّدَهَا صَفْرَاءَ لاَ الطُّولُ عَابَهَا * وَلاَ قِصَرٌ أزْرَى بِهَا فَتَعَطَّلاَ ثم وصفها بعشرة أبيات وقال: فَذَاكَ عَتَادِي في الْحُرُوبِ إِذَا الْتَظَتْ * وَأرْدَفَ بَأْسٌ مِنْ حُروبٍ وَأَعْجَلاَ قوله " وإني امرؤ أعددت ": أي هيأت عدة، و " أعصل " بمهملتين أعوج قال ابن السكيت في شرحه: يقول: هي حرب قَدُمَتْ وَأَسَنَّت فهو أشد لها وقوله " أصم ردينيا إلخ " هو مفعول أعددت: والأصم: المصمت الذي لا جوف له

(4/88)


وموصوفه محذوف أي رمحاً أصم، والرمح الرُّدَيْنِيُّ منسوب إلى ردينة بالتصغير وهي امرأة كانت تقوم الرماح وكان زوجها سَمْهَرٌ أيضاً يقوم الرماح، يقال لرماحه السمهرية، قال ابن السكيت: الكعب الأنبوب، ويسمون العقدة كعباً، وهو المراد هنا، والقَسْبُ: تمر يابس نواه مر صلب، والعرص - بمهملات - الشديد الاضطراب، والمُزَجَّى: الذي جعل له زُجٌّ بضم الزاي وتشديد الجيم، وهي الحديدة التي في أسفل الرمح تغرز في الأرض، والْمُنَصَّلُ: الذي جعل له نصل، وهو السنان
وقوله " عليه كمصباح العزيز إلخ " المصباح: السراج، والعزيز: الملك، وسراجه أشد ضوءاً، وَيَشُبُّهُ: يوقده، والفِصْح بالكسر - يوم فطر النصارى، والذبال بالضم الفتائل، وكل فتيلة ذبالة، ويحشوه: أي يحشو موضع الفتائل، يقول: على ذلك الرمح الأصم سراج كسراج الملك من توقده لارتفاع ناره، ثم وصف الرمح بثلاثة أبياتٍ أُخَر.
وقال " وأبيض هنديّاً إلخ " هو معطوف على أصم: أي وأعددت أيضاً أبيض هنديّاً وهو السيف، والغرار بكسر المعجمة حد السيف، والحبي: ما حبا من السحاب أي ارتفع وأشرف، وتكلَّل السحاب: صار بعضه فوق بعض، وهو أشد لإضاءة البرق، وقوله " إذا سل من غمد إلخ " سَلَلْت السيف من غمده: أي أخرجته من قرابه، وتأكل: توهج واشتد، وأثر السيف بالفتح: جوهره، والمِسْحَاة بالكسر إناء من فضة، وهو القدح، واللجين الفضة، يقول على متن سيف كأنه فضة، وقوله " كأن مَدَبَّ النمل إلخ " الْمَدَبُّ الموضع الذي يدب فيه، والرّبا جمع رَبْوَة وهو ما ارتفع من الأرض، والْمَدْرج كالمدب وزناً ومعنى، وإنما يتبع النمل الربا لأنه يفر من الندى، يقول: اشتد على النمل البرد في أعلى الوادي فأسهل أي أتى السهل فاستبان أثره، قوله " على صفحتيه " متعلق بمدب النمل، والجِلاء: الصقل قال ابن السكيت: أُبلِي - بضم الهمزة - أشفيك من نعته وأحدثك عنه ويقال أبْلِنِي يميناً أي طيِّب نفسي، وَالْمُنْصُل - بضم الميم والصاد - السيف.
وقوله ومبضوعة

(4/89)


هو معطوف على أصم أيضاً: أي وأعددت قوساً مبضوعة أي مقطوعة، والفرع أعلى الشجرة، والشظية - بفتح الشين وكسر الظاء المعجمتين - الشقة والفلقة، وهي صفة لمبضوعة، والباء في بطود متعلقة بمحذوف حال من رأس فرعٍ، وجملة " تراه إلخ " صفة لطود، والرؤية بصرية، ومفعولها الهاء الراجعة إلى طود، ومجللاً حال من الهاء، وهو اسم مفعول من جلله بمعنى غطاه وألبسه، وبالسحاب متعلق
به، وقوله " على ظهر صفوان إلخ " قال ابن السكيت: يقول: نبتت على حجر يزلق الرجل المتنزل لملاسته، وَعُلِلْنَ سقين مرة بعد مرة، وقوله " يطيف بها راع إلخ " قال ابن السكيت: يطيف بهذه القوس المبضوعة راعٍ أي حافظٌ ليجعل طرفه كالئاً يحفظ منها منظراً، والكالئ الحافظ، وقوله " فلاقى امرء امن بيدعان إلخ " قال ابن السكيت: " فعجل به اليأس: أي لم يتحبَّس به اليأس، هذا الذي رآها لاقى امرءا من بيدعان وهو حي من اليمن من أزد السراة.
وقد استشعر اليأس منها، فاستشار الآخر فقال: هل تذكر رجلاً يصيب الغنم ويقصر العمل: أي يجئ بعمل قصير، أراد أنهما تشاورا فدله على الذي رأى فعجلا، يقول: كان نسي أنه يئس منها فلما دله عليها عجَّل إلى ما قال، وأسمحت قرونته وقرينته جميعاً وهي النفس باليأس: أي تابعته نفسه علي اليأس ولم تنازعه، وهذا مثل قولك: لقي فلان فلاناً ونسي ما أتى إليه: أي وقد نسي، انتهى كلامه، وقوله " فقال له هل إلخ " أي: هل تذكرن رجلاً يدل على غنيمة، ويقصر معملاً: أي ويقل العمل والعناء: وقوله " على خير ما أبصرتها " قال ابن السكيت: " أي فقال هل تدل على خير ما أبصرتها؟ أي: خير ما أبصرت من بضائع الناس، والتبكل: التغنم، يقال: تبكل أي تغنم إن أراد بيعاً أو غنماً، وقال: المتبكل الذي يتأكل بها الناس يقول لهذا سوف أبيعك ولهذا سوف أعيرك " انتهى وقال أبو حنيفة في كتاب النبات: ميدعان حي من أزد السراة، وهم أهل

(4/90)


جبال، شجيرة، يقول: إما لأن يبريها وإما لأن يتخذها معاشاً لصيد أو غزو، والتبكل التكسب من ها هنا وها هنا وأصل البكل الخلط، والقواسون يطلبون هذه العيدان العتق من مظانها من منابتها، حيث كانت من السهول والوعور، ويستدلون عليها الرِّعاء وقناص الوعول ويجعلون فيها الجعائل وربما أبصروا
الشجرة منها بحيث لا يستطيعه راق ولا نازل فيتدلون عليها بالحبال في المهاوي والمهالك كما يتدلى من يشتار العسل على الوقاب (1) وأخبرني بعض الأعراب: قال يطلب القواسون هذه العيدان الْعُتْق فإن وجدوها مستحكمة اقتطوها، وإن لم تكن مستحكمة حوضوا حولها وحملوا إليها الماء، فربما ربوها كذلك سنين حتى تستحكم، قال: وإذا وجد الرعاء منها شجرة دلوا عليها القواس وأخذوا على ذلك ثواباً، فقلت له: وكم تبلغ القوس عندكم؟ فقال: (تبلغ) إذا كانت جيدة خمسمائة درهم، وقد ذكر أوس ابن احجر كل ذلك في وصفه القوس فقال في منَعَة منبت عودها: ومبضوعة من رأس فرع إلى آخر أبيات ثلاثة، ثم قال ثم ذكر استرشاده مَنْ عسى أن يدله فقال: فلاقى امرأ من ميدعان إلى آخر أبيات ثلاثة.
ثم قال ثمّ وصف امتناع منبتها وتدلِّيه عليه بالحبال فُوَيق جبيل شاهق الرأس إلى آخر الابيات، وقوله " فويق " مصغر فوق، وهو ظرف متعلق بأبصرتها من قوله " على خير ما أبصرتها " في البيت المتقدم، والبلوغ: الوصول، وَكَلّ يَكِلّ من باب ضرب كلالة تعب وأعيا، ويتعدى بالالف، وتعمل: أي تجتهد في العمل، فهو مضمن معنى الاجتهاد ولهذا لم يتعد، وأصله التعدي، يقال: عملته أعمله عملاً من باب فرح: أي صنعته، والاجتهاد مقدم في المعنى على الكلال، ولا مانع من تأخره لفظاً لأن
__________
(1) الوقاب: جمع وقب وهو الكوة والنقرة في الجبل يجتمع فيها الماء (*)

(4/91)


الواو لمطلق الجمع لا تفيد ترتيبا، فقد يكون مدخلوها متقدماً على سابقه باللفظ، كقوله تعالى (وَمِنْكَ ومن نوح) وروي " وَتُعْمِلا " بضم التاء وكسر الميم، والمعنى وتجهد نفسك أو غيرك فالمفعول محذوف، وأصل أعمل تعديه إلى مفعولين، تقول: أعْمَلْتُهُ كذا أي جعلته عاملاً له، وروي البيت كذا أيضاً: فُوَيْقَ جُبَيْلٍ شَامِخٍ لَنْ تَنَالَهُ * بِقُنَّتِهِ حتى تكل وتعملا
والنيل: الاصابة والوصول إلى الشئ، وقنة الجبل - بضم القاف وتشديد النون - أعلاه كقلته، باللام، وقوله " فأبصصر ألهاباً - إلخ " جمع لِهْب بكسر اللام وسكون الهاء، قال الجوهري: هو الفرجة والهواء يكون بين الجبلين، وأنشد هذا البيت، والطود: الجبل، ودونها أي دون المبضوعة، ودون هنا: بمعنى أمام، وفاعل أبضر ضمير الرجل من ميدعان، والنيق - بكسر النون - المشرف من الجبل، والْمَهْبِل - بفتح الميم وكسر الموحدة - المهوي والمهلك، قال أبو حنيفة: ثم ذكر تدليه عليها بالحبال ومخاطرته بنفسه فقال " فأشرط فيها نفسه - إلى آخر أبيات ثلاثة " وقال ابن السكيت: أشرط نفسه: جعلها علماً للموت، ومنه أشراط الساعة، ويقال: أشرط نفسه في ذلك ذلك الأمر: أي خاطر بها، والْمُعْصِم والْمُعْتَصِم واحد، وهو المتعلق: أي متعلقاً بالحبل، فذلك الذي ألقى من أسباب حباله، والسبب: الحبل، والجمع أسباب، ويصلح أن يكون الواحد سبّاًَ بالكسر، قال أبو ذؤيب * تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبّ وَخَيْطَةٍ فالسِّب: الحبل، والخيطة: الوتد، انتهى.
وتَوَكَّل: أي اعتمد على الله، وقوله " وقد أكلت أظفاره " قال ابن السكيت يتوصل من مكان ثم ينزل بعده وروي " طول مَرْقىً تَوَصَّلا " أي توصل من مكان إلى مكان، كقولك: اجعل هذه وُصْلَةً، وقوله " فما زال حتى نالها " قال ابن السكيت: مُعْصِمٌ: مشفق،

(4/92)


والموطن: الموضع الذي صار إليه، انتهى، وتفصل: تقطع: وقوله " فأقبل لا يرجو - إلخ " قال ابن السكيت يقول: عسى أن أفلت وأنجو، وقوله " فلما نجا من ذلك الكرب " هو الشدة، ويمظعها بالظاء المعجمة والعين المهملة، وَاللِّحاء بكسر اللام، قشر العود، وقال ابن السكيت يمظعها: يشربا، يقال: مظع الأديم
الودك: أي شربه، يقول: لم يزل يسقيها ماء لحائها ليكون أجود لها، ولو قشر اللحاء عنها لأفسدها، وقوله " فلما قضى مما يريد - إلخ " صَلَّبها: يبسها، يقال: ثمرة مصلبة: أي يابسة، وأطول: أطال، وقوله " أمر عليها - إلخ " قال ابن السكيت: الرفيق: الحاذق، والمداوس: المصاقل، واحدها مدْوَسٌ، وهو الذي يصقل به، وقوله " فجردها صفراء - إلخ " قال ابن السكيت: يقول: لو كانت قصيرة لتعطلت وكانت أصغر من أن يرمي عنها ولم تعب من طول فتُعَطَّل: تترك لا تتخذ قوساً، وقوله " فذاك عَتَادي - إلخ " الإشارة راجعة إلى الرمح والسيف والقوس، وَالْعَتَاد: العُدة، والتظت: التهبت.
ويعجبنى قوله بعد هذا بأربعة أبيات: وَإنِّي وَجَدْتُ النَّاسَ إلاَّ أقَلَّهُمْ * خِفَافَ الْعُهُودِ يُسْرِعُونَ التَّنَقُّلا بَنِي أُمِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِيرِ يَرَوْنَهُ * وَإنْ كَانَ عَبْداً سَيِّد الامر حجفلا وَهُمْ لِمُقِلِّ الْمَالِ أوْلاَدُ عَلَّةٍ * وَإنْ كَانَ مَحْضاً فِي الْعَشِيرَةِ مَخْوَلاَ وَلَيْسَ أخْوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي * يَذُمُّكَ إنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلاَ وَلَكِنْ أخُوكَ الناءِ مَا كُنْتُ آمِنَاً * وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إذَا الأَمْرُ أعْضَلاَ وهذا آخر القصيدة: وأراد التنقل عن المودة، وجحفل: كثير الأتباع، وجيش جحفل: إذا كان كثير الأصوات، وقوله " وهم لمقل المال - إلخ " أي: يبغضون من لا مال له وإن كان شريفاً، والمحض: الخالص النسب، ومُخْوَل - بفتح الواو - كثير الأخوال، والناء: البعيد، حذفت الياء لضرورة الشعر،

(4/93)


وروي النأي على المصدر، قال ابن السكيت: صَيَّر المصدر في موضع الصفة، وأعضل الأمر: اشتد وأوس بن حجر شاعر جاهلي بفتحتي الحاء المهملة والجيم، وتقدمت ترجمته
في الشاهد الرابع عشر بعد الثلاثمائة من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الأربعون، وهو من شواهد سيبويه (من الرجز، أو السريع) : 40 - وَمَهْمَهَيْنَ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ * ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ على أن الشاعر إذا قال قصيدة قبل رويها ياء أو واو ساكنة مفتوح ما قبلها فهي مردفة، ولزمه أن يأتي (بالردف) في جميع القصيدة، كما في هذين البيتين، وتقدم بعض منها في الشاهد الرابع والعشرين * لَمْ يَبْقَ مَنْ آيٍ بِهَا يُحَلَّيْنْ * وقوله " ومهمين - إلخ " الواو واو ربَّ، والْمَهْمَهُ: القَفْر المخوف، والْقَذَف - بفتح القاف والذال المعجمة بعدها فاء - البعيد من الأرض، والْمَرْت - بفتح الميم وسكون الراء المهملة - الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات، وَالظَّهر: ما ارتفع من الأرض، شبهه بظهر ترس في ارتفاعه وَتَعَرِّيه من النبت، وجواب رب المقدرة هو قوله * جُبْتُهُمَا بالنَّعْتِ لا بِالنَّعْتَيْنْ * من جاب الوادي يجوبه جَوْباً، إذا قطعه بالسير فيه، وقد نُعِتَا لي مرةً واحدة فلم أحتج إلى أن ينعتا لى مرة ثانية، وصف نفسه بالحذق والمهارة، والعرب تفتخر بمعرفة الطرق وتقدم شرحه بأكثر من هذا في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة، وفي الشاهد الثالث والسبعين بعد الخمسائة، من شواهد الكافية

(4/94)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والأربعون (من الهزج) : 41 - وَقَدْ أَغْدُو على أشقر * يَغْتَالُ الصَّحَارِيَّا على أنه جمع صحراء، فلما قلبت الألف بعد الراء في الجمع ياء قلبت الهمزة التي أصلها ألف التأنيث ياء أيضاً، وهذا أصل كل جمع لنحو صحراء، ثم يخفف بحذف
الياء الأولى فيصير صَحَارِيَ بكسر الراء وتخفيف الياء مثل مَدَارِيَ، ويجوز أن تبدل الكسرة فتحة فتقلب الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها كما فعلوا في مَدَاري، وهذان الوجهان هما المستعملان، والأول أصل متروك يوجد في الشعر وقد تقدم الكلام عليه بأبسط من هذا في الشاهد الثاني والخمسين بعد الخمسمائة.
وأغدو: مضارع غدا غُدُوّاً إذا ذهب غدوة، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، والأشقر من الخيل: الذي حمرته صافية، والشُّقْرَة في الإنسان: حمرة يعلوها بياض، ويغتال: يُهْلك، يقال: اغتاله أي أهلكه، واستعار يغتال لقطع المسافة بسرعة شديدة، فإن أصل اغتاله بمعنى قتله على غفلة، والصحراء من الأرض: الفضاء الواسع، والشعر للوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والأربعون 42 - حِمّى لاَ يُحَلُّ الدَّهْرَ إلاَّ بِأَمْرِنَا * وَلاَ نَسْأَلُ الأَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيْاثِقِ على أنه حُكِيَ أن المياثق لغة لبعض العرب، وهو جمع ميثاق، وأصله مِوثاق قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، فكان القياس في الجمع أن ترجع الواو، لزوال موجب قلبها ياء قال أبو الحسن (1) الأخفش فيما كتبه على أمالي أبي زيد: رواه الفراء
__________
(1) انظر كتاب النوادر لابي زيد (ص 64) (*)

(4/95)


" عَقْدَ المياثق " أخبرنا بذلك عنه ثعلب، وهذا شاذ، والرواية " عهد المواثق " وهو أجود وأشهر (1) ورواه الصاغاني في العباب بالياء عن ابن الأعرابي، قال: الميثاق العهد،
وأخْذُ الميثاق بمعنى الاسْتحلاف، وصارت الواو ياء لانكسار ما قبلها، والجمع المواثق والمياثيق على اللفظ، وقد جاء في الشعر المياثق، أنشد ابن الأعرابي لعياض ابن دُرَّة الطَّائي: * حمى لا يحل الدهر ... البيت * انتهى وراه أبو زيد الأنصاري في أماليه على القياس، قال: وقال عياض بن أم دُرَّة الطائي، وهو جاهلي: وَكُنَّا إذَا الدِّينُ الْغُلُبَّى بَرَى لَنَا * إذَا مَا حَلَلْنَاهُ مُصَابَ الْبَوَارِقِ حِمىً لا يحل الدَّهْر إلاَّ بإِذْنِنَا * وَلاَ نَسْأَلُ الأَقْوَامَ عَهْدَ الْمَوَاثِقِ الدين: الطاعة، والغلبي: المغالبة، ويرى لنا: عرض، يَبْرِي بَرْياً، وانبرى ينبري انبراء، انتهى.
قال أبو الحسن الأخفش: قال أبو سعيد: حِفْظِي عياض بن درة، انتهى فعهد المواثق فيه شذوذ واحد، وهو حذف الياء من مواثيق، وفي عهد المياثق شذوذان: عدم رجوع الواو، وحذف الياء بعد المثلثة، ولا يخفى أن الْغُلُبَّى - بضم الغين واللام وتشديد الموحدة - ليس مصدراً للمفاعلة، إنما هو أحد مصادر غلبة يغلبه غَلْباً بسكون اللام وَغَلَبَاً بتحريكها وغَلَبَة بإلحاق الهاء وَغَلاَبية كَعَلانية وَغُلَبَّة كحُزَقَّة وَغُلُبَّى ومَغْلَبَة بفتح اللام، كذا في العباب، وَالْمَصَاب بفتح الميم: اسم مكان من صابه المطر إذا مطر، والصوب: نزول المطر، والبوارق: جمع بارقة، وهي سحابة ذات برق
__________
(1) عبارة الاخفش " والرواية الاولى أجود وأشهر " (*)

(4/96)


وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث والأربعون (من الوافر) : 43 - وقاءٌ مَّا مُعَيَّةُ مِنْ أبِيهِ * لِمَنْ أوْفَى بِعَهْدٍ أوْ بِعَقْدِ
على أن مُعَيَّة مصغر مُعاوِية، حذفت ألفه عند التصغير فصار مُعَيْوِية، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها فصار مُعَيِّية بثلاث ياءات، فحذف الياء الثالثة التي هي لام الفعل وفتحت الثانية لأجل الهاء فصار مُعَيَّة، على وزن مُفَيْعة، كذا قال ابن يعيش وفي الجمهرة لابن دريد: وَفَى يفي وفاء وأوفى يوفي، لغتان فصيحتان، قال الشاعر * وقاء ما معيه من أبيه * البيت معية: هو ابن الصمة أخو دريد، وكان الصمة قتل في جوار بَيْبة (1) بن سفيان بن مجاشع، وكان مُعَيَّة أسيراً في أيديهم، فقال الصمة وهو يكيد بنفسه هذه القصيدة، يقول: أما إذا غدرتم فأطلقوا عن ابني مُعَية، فإن فيه وقاء مني، انتهى كلامه والوقاء - بكسر الواو وفتحها بعدها قاف - هو ما وقيت به شيئاً، وما زائدة، والعهد: الأمان والمواثق (2) والذِّمَّة، وَالْعَقْد: إحكام العهد من عَقْدَتُ الحبلَ عَقْداً والصِّمَّة - بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم - فارس شاعر جاهلي من بني جُشَم بن معاوية بن بكر بن هوازن، وهو والد دُرَيْد بن الصمة الذي قتل في غزوة حُنَيْنٍ كافراً
__________
(1) بيبة - بفتح الموحدة بعدها ياء مثناة ساكنة فموحدة - سيد مجاشع، وهو أبو الحارث ابن بيبة الذى خلفه في سيادة قومه (2) لعله " والمواثق " حتى يطابق التفسير المفسر (*)

(4/97)


وأنشد الجاربردي (1) ، وهو الشاهد الرابع والأربعون 44 - وَهْوَ إذَا الْحَرْبُ هَفَا عُقَابُهُ * مِرْجَمُ حَرْبٍ تَلْتَظِي حِرَابُهُ
على أن الحرب قد يكون مذكراً كما في البيت، فإن الهاء من " عُقَابه " ضمير الحرب وهذا الرجز أورده الجوهري في الصحاح (2) ، ونقل كلامه الجاربرديُّ برمته، وهو فيه غير منسوب لأحد، ولم يتكلم عليه ابن بري في أماليه بشئ، وقد وقع في بعض نسخ الصحاح " تلتقي " بدل " تلتظي " وقال الصفدي في حاشيته عليه: الذي رواه ابن الأعرابي " تلتظي حرابه " بدل " تلتقي " وكذا هو بخط الجوهري، والذي وجدته بخط ياقوت " تلتقي " والصواب " تلتظي " كما رواه ابن الأعرابي، انتهى.
" وهو " ضمير الممدوح بالشجاعة، قال الجوهري: وهفا الطائر بجناحه: أي خَفَقَ وطار، وأنشد هذا الرجز، وَالْعُقَاب - بالضم - من أعظم جوارح الطير، شبه الحرب الشديدة به، وَالْمِرْجَم - بكسر الميم وفتح الجيم - قال الجوهري: ورجل مِرْجَم: أي شديد كأنه يُرْجَم به معاديه، والرجم الرمي بالحجارة، انتهى.
وأضافه إلى الحر لانه لا يُرْجم على الأعداء فيها، وتلتظي: تلتهب، جملة حالية، والحراب - بالكسر - جمع حربة، يريد أن لها بريقاً كشُعْلة النار، وصحَّفه الجار برى بالجيم، فقال: وجراب البئر جوفها من أسفلها إلى أعلاها، انتهى.
والهاء ضمير مرجم، وإذا: ظرف متعلق بمرجم وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والاربعون (من الرجز)
__________
(1) انظر الجاربردى " ص 88 " ووقع فيه (من جم حرب) وهو تحريف ظاهر.
(2) انظر الصحاح (مادة: ح ر ب) و (هـ ف ا) (*)

(4/98)


45 - إنَّا وَجَدْنَا عُرُسَ الْحَنَّاطِ * لَئِيمَةً مَذْمُومَةَ الْحُوَّاط
على أن الْعُرُسُ مؤنثة، بدليل لئيمة ومذمومة، وَالعُرُس: بضمتين وبضمة فسكون، قال الجوهري: والعرس طعام الوليمة، يذكر ويؤنث، قال الراجز: إنَّا وَجَدْنَا عُرُسَ الْحَنَّاطِ * لَئِيمَةً مَذْمُومَةَ الْحُوَّاط * نَدْعَى مَعَ النَّسَّاجِ وَالْخَيَّاطِ * والجمع الأعراس وَالْعُرُسَات، وقد أعْرَس فلان: أي اتخذ عُرُساً، وأعرس بأهله إذا بنى بها، وكذلك إذا غشيها، ولا تقل عَرَّس (أي بالتشديد) والعامة تقوله، انتهى.
وكذا قال صاحب العباب وزاد بعد البيت الثالث * وَكُلِّ عِلْجٍ شَخِمِ الآباطِ * ثم قال: وقال دُكَيْن وقد أتى عُرْساً فحجب، فرجز بهم، فقيل: من أنت؟ فقال: دكين، فقال (من مشطور الرجز) : تَجَمَّعَ النَّاسُ وَقَالُوا عُرْسُ * إذَا قِصَاعٌ كَالأَكُفِّ خَمْسُ وَدُعِيَتْ قَيْسٌ وَجَاءَتْ عَبْسُ فَفُقِئَتْ عَيْنٌ وَفَاظَتْ نَفْسُ (1) انتهى وأورد ابن السكيت في إصلاح المنطق الرجز الأول، وقال شارح أبياته ابن السيرافي: الْحَنّاط: بائع الحنطة، والْحَوَّاط: الذين أحاطوا بالعرس، وذمها لأن المدعوين فيها الحاكة والخياطون، انتهى.
ولم يتكلم عليه ابن بري في أماليه على
__________
(1) روى الجوهرى في مادة " ف ى ظ " البيت الاول والرابع، وترك الثاني والثالث وفيه " اجتمع الناس - الخ ".
وفى بعض نسخ الاصل " وفاضت نفس " بالضاد المعجمة، وكل العلماء يجيزون أن تقول: فاظت نفس فلان، إلا الاصمعي فانه كان ينكرها، وهو تابع لابي عمرو بن العلاء.
(*)

(4/99)


الصحاح بشئ، ولا الصفدي في حاشيته عليه وكتب ياقوت الموصلي الخطّاط على هامش الصحاح: الْحُوَّاط: القوم الذين يقومون على رءوس الناس في الدعوات، والرجز لدكين الراجز، انتهى: ونُدعَى: بضم النون وفتح العين، والْعِلج - بكسر العين - الرجل من كفار العجم، وَالشَّخِم - بفتح الشين وكسر الخاء المعجمتين - المنتن ودكين بالتصغير: راجز إسلامي من معاصري الفرزدق وجرير، وهو دكين ابن رجاء من بني فقيم، ومدح عمر ابن عبد العزيز وهو والي المدينة وله معه حكاية أوردها ابن قتيبة في كتاب (1) الشعراء وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والأربعون (من المتقارب) 46 - * عَلَيْهِ مِنَ اللُّؤْمِ سِرْوَالَةٌ * على أن السِّرْوَالَة واحد السراويل، وتمامه * فَلَيْسَ يَرِقُّ لِمُسْتَعْطِفِ * وقائله مجهول حتى قيل: إنه مصنوع واللؤم بالهمز الشح ودناءة الآباء، وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثالث والثلاثين من شرح شواهد الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والأربعون، وهو من شواهد سيبويه (2) (من الرجز) قَدْ رَوِيَتْ إلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا * قُلَيِّصَاتٍ وَأُبَيْكِرِينا 47 - على أنه كان القياس دُهَيْدِهَات وَأبَيْكِرَات قال سيبويه (2) الدَّهْدَاه
__________
(1) انظر كتاب الشعراء لابن قتيبة (ص 387 طبع أوربة) (2) أنظر الكتاب " 2: 142 " وفيه " قد شربت إلا دهيد هينا " (*)

(4/100)


حاشية الابل، فكأنه حقر دهاده فرده إلى الواحد، وهو دَهْداه، وأدخل الياء والنون كما تدخل في أرضين وسنين، وذلك حين اضطر في الكلام إلى أن يدخل ياء التصغير، وأما أبيكرينا فانه جمع الا بكر (كما يُجْمَعَ الْجُزْرَ وَالطُّرُق فتقول جُزُرات وَطُرُقَات) (1) ولكنه أدخل الياء والنون كما أدخلها في الدُّهَيْدِهِين.
انتهى كلامه وقال ابن جني في سر الصناعة عند سَرْد ما جمع بالواو والنون من كل مؤنث معنوي كأرض أو مؤنث بالتاء محذوف اللام كُثَبة، ما نصُّه: " فإن قلت: فما بالهم قالوا: * قَدْ رَوِيْتَ إلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا * إلخ فجمعوا تصغير دَهْدَاه، وهو الحاشية من الإبل، وَأَبْكُراً، وهو جمع بَكْر بالواو والنون، وليسا من جنس ما ذكر؟ فالجواب أن أبكراً جمع بكر، وكل جمع فتأنيثه سائغ مستمر لأنه جماعة في المعنى، وكأنه قد كان ينبغي أبْكِرَة، وإذا ثبت أن أفْعُلا من أمثلة الجموع يجوز في الاستعمال والقياس تأنيثه، فصار إذن جمعهم إياها بالواو والنون في قوله " أُبَيْكرونا " إنما هو عوض من الهاء المقدرة، فجرى مجرى أرض في قولهم، وأما " دهيدهينا " فإن واحده دَهْدَاه فهو نظير الصِّرْمة فكأن الهاء فيها لتأنيث الفرقة، كما أن الهاء في عصبة لتأنيث الجماعة، فكأنه كان في التقدير دهداهة، فجمع الواو والنون تعويضاً من الهاء المقدرة، قال أبو علي: وحسن أيضاً جمعه بالواو والنون أنه قد حذفت ألف دهداه في التحقير، ولو جاء على الأصل لقيل دُهَيْدِيه، فواحد " دهيدهينا " إنما هو دُهَيْدِه، وقد حذفت الألف من مكبره، فكان ذلك أيضا مستهلا للواو والنون وداعياً إلى التعويض بهما، انتهى.
__________
(1) الزيادة عن سيبويه في الموضع المذكور (*)

(4/101)


والبيتان من رجز أورده أبو عبيد في الغريب المصنف، قال: الحاشية صغار الإبل، والدَّهْداه مثل ذلك، قال الراجز: يَا وَهْبُ فَابْدأ بِبَنِي أبينَا * ثُمَّتَ ثَنِّ بِبَنِي أخِينَا وَجِيرَةِ الْبَيْتِ الْمُجَاوِرِينَا * قَدْ رَوِيَتْ إلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا إلاَّ ثَلاَثِينَ وَأرْبَعِينَا * قُلَيِّصَاتٍ وَأُبَيْكِرِينَا وقليصات: جمع مصغر قَلُوص، وهي الناقة الشابة، وأبَيْكِرِين: جمع أبيكر مصغر أبْكُر، وهو جمع بَكْر بالفتح، وهو في الإبل بمنزلة الشاب في الناس.
وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا الشاهد الثالث والثمانين بعد الخمسمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده وهو الشاهد الثامن والأربعون (من السريع) : 48 - * فِي كُلِّ يَوْمٍ ماو كل ليلاوه * على أن " ليلاه " في معنى ليلة، وعليه جاء التصغير في قولهم: لُيَيْلية، وجاء الجمع أيضاً في قولهم اللَّيَالي قال ابن جني في باب الاستغناء بالشئ عن الشئ من الخصائص (1) : " ومن ذلك استغناؤهم بليلة عَنْ لَيْلاه، وعليها جَاءتْ لَيالٍ، على أن ابن الأعرابي قد أنشد: في كُلِّ يَوْمٍ مّا وَكُلِّ لَيْلاَهْ * حَتَّى يَقُولُ كُلُّ رَاءٍ إذْ رَآهْ * يَا وَيْحَهُ منْ جَمَلٍ ما أَشْقَاهْ * وهذا شاذ لم يسمع إلا من هذه الجهة وقال في المحتسب أيضاً: " فأمَّا أهَالٍ فكقولهم ليال، كأن واحدهما أهلات
__________
(1) انظر كتاب الخصائص ": 275 " (*)

(4/102)


ولَيْلاَه، وقد مر بنا تصديقاً لقول سيبويه فإن واحدهما في التقدير ليلاة ما أنشده ابن الأعرابي: في كُلِّ يَوْمٍ مّا وَكُلِّ ليلاه * حتى يقول من رآه إذْ رَآهْ وقال السيوطي في شرح أبيات المغني: ونقل ابن جني في ذي القد (1) عن أبي علي أنه أراد " وكل ليلة " ثم أشبع فتحة اللام، فصارت ليلاة، انتهى: وفي العباب للصاغاني " يقال: كان الأصل ليلاه فحذفت الألف لأن تصغيرها لُيَيْلِية " وقال الفراء: ليلة كانت في الاصل ليلية، ولذلك صغرت لييلية، ومثلها الكيكةً البيضةُ، كانت في الأصل كيكية، وجمعها الكياكي، انتهى.
" في كل يوم ما - إلخ " متعلق الجار في بيت قبله لم أقف عليه، والمعنى أعمله في كل يوم وكل ليلة، وأنشد السيوطي بعده البيتين فقال ابن الملا في شرح المغنى: في متعلقة بقوله ما أشقاه، ولم يذكر البيت الآخر، وما زائدة، ورواه ابن الملا " في كل ما يوم " وقال: ما زائدة، وقوله " إذ رآه " بحذف الهمزة، وهي عين الكلمة، والْوَيْح: كلمة ترحم تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، ومن " جمل " بيان للضمير في ويحه، " ما أشقاه " تعجب وهذا الرجز لم أقف على قائله، والله أعلم به وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والأربعون (من البسيط) : 49 - أمَا أقاتل عن ديني على فرس * ولا كذا رَجُلاً إلاَّ بِأَصْحَابِ على أن رجلاً بمعنى راجل، قال ابن يعيش (2) : ومن تصغير الشاذ قولهم رُوَيْجل في تصغير رجل، وقياسه رجيل، كأنهم صغروا راجلاً في معنى رجل وإن لم
__________
(1) كذا في الاصول، وهو تصحيف لم يتضح لنا وجه الصواب فيه، وقد رجعنا الى النسخ المطبوعة والخطية من شرح أبيات المغنى للسيوطي فلم نجد هذا النقل
عند الكلام على هذا الشاهد، وقد مرت عبارة ابن جنى نقلا عن الخصائص (2) انظر شرح المفصل " 5: 133 " وفيه في رواية البيت " أو هكذا رجلا " (*)

(4/103)


لم يظهر به استعمال، كما قالوا: رجل في معنى راجل، وأنشد البيت، ثم قال: فكأنهم صغروا لفظاً وهم يريدون آخر والمعنى فيهما واحد، انتهى.
وفي نوادر أبي زيد (1) قال حُيي بن وائل وأدرك قطريّاً (ابن الفجاءة) (2) الخارجي أحَدَ بني مازن: أما أقاتل عن ديني على فرس * ولا كذا رجلا إلا بأصحاب لقد لقيت إذن شراً وأدركني * ما كنت أزعم في خَصْمي مِنَ العاب قال أبو عمر الجرمي (3) : رجل راجل، قال السكري: قوله رجلاً معناه راجل، كما يقول العرب جاءنا فلان حافياً رجلاً أي راجلاً كأنه قال: أما أقاتل فارساً ولا كما أنا راجلاً إلا ومعي أصحاب لقد لقيت إذن شرّاً لو أني أقاتل وحدي ويقال راجل ورجال، قال تعالى: (فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) وكذلك (يأتوك رجالا (وعلى كل ضامر) (4)) ورَاجِلُ وَرَجْلَةٌ وَرَجُلٌ وَرِجَالٌ ورُجَالَى، والعاب العيب انتهى.
والأول: ما بعد الآية على وزن فاعل، والثاني على وزن فَعْلَةٍ: - بفتح الفاء وسكون العين - والثالث: على وزن فَعْل بفتح الفاء وسكون العين، والرابع: على وزن فعَّال بضم الفاء وتشديد العين، والخامس: فُعَالَى بضم الفاء وتخفيف العين والقصر، قوله " لقيت إذاً شرّاً لو أني أقاتل وحدي " كذا رأيته في نسخة قديمة صحيحة، ورواه أبو الحسن الأخفش: أي إني أقاتل وحدي أي " إني " موضع " لو " والمعنى عليه كما يظهر بالتأمل، ويؤيده أن غير أبي زيد روى أن حُيي بن وائل خرج راجلاً يقاتل السلطان، فقيل له: أتخرج راجلاً (تقاتل) (4) ؟ فقال: أما أقاتلهم إلا على فرس، كذا قال الأخفش، وقال: قال أبو حاتم: قوله " أما
__________
(1) انظر النوادر " ص 5 " (2) الزيادة عن النوادر في الموضع المذكور (3) هذا الكلام بعينه في نوادر أبى زيد " ص 5 " عن أبى حاتم، وسيأتى التصريح به (4) الزيادة عن تعليقات أبى الحسن الاخفش على نوادر أبى زيد (*)

(4/104)


مخفف الميم مفتوح الألف، واحترز بهذا الضبط عن القراءة بكسر الهمزة وتشديد الميم فتكون أما بالتخفيف استفتاحية وحيى - بضم الحاء المهملة وفتح المثناة التحتانية الأولى وتشديد الثانية -: رجل من الخوارج وفي نسخ الشرح " أو هكذا رجلاَ إلا بأصحاب " وكذا في شرح الجاربردي في باب الجمع، وقال: معنى البيت الإنكار على من يرى أن مقاتلة هذا الشاعر لا تجوز إلا حال مصاحبته مع أصحابه، فقال: لم لا أقاتل منفرداً سواء أكون فارساً أو راجلاً، انتهى.
وهذا المعنى مراده قطعاً، لكن في أخذه من البيت خفاء وفي تركيبه (1) تعقيد وقلاقة وينظر في هذا الاستثناء (2) ثم رأيت في أمالي الصحاح لابن بري قال بعد أن نقل كلام أبي زيد ما نصه: وقال ابن الأعرابي: قوله " ولا كذا ": أي ما ترى رجلاً (3) ، وقال المفضل: أمَا خفيفة بمعنى ألا، وألا تنبيه يكون بعدها أمر أو نهي أو إخبار (فالذي بعد أما هنا إخبار) (4) كأنه قال: أما أقاتل فارساً وراجلاً، وقال أبو علي في الحجة بعد أن حكى عن أبي زيد ما تقدم: فرجُل على ما حكى أبو زيد صفة ومثله نَدُسٌ وفطن وحذر
__________
(1) في نسخ الاصل وفى تركبه، وهو تحريف (2) قد نظرنا في هذا الاستثناء على المعنى الذى ذكره الجاربردى فوجدناه
استثناء مفرغا والمستثنى منه المقدر عموم الاحوال، وكأن في الاستفهام الذى أجاب عنه الشاعر بالبيت الشاهد حذف الواو مع ما عطفت، وكأنهم قالوا له: أتخرج راجلا ومنفردا (3) الذى في اللسان عن ابن الاعرابي: " أي ما ترى رجلا كذا " (4) الزيادة عن اللسان عن المفضل وهى ضرورية (*)

(4/105)


وأحرف نحوها، ومعنى البيت كأنه يقول: اعلموا أني أقاتل عن ديني وعن حسبي وليس تحتي فرس ولا معي أصحاب، انتهى كلام ابن بري المنسوب أنشد فيه، وهو الشاهد الخمسون (من الطويل) : 50 - كَأَنَّ مَجَرَّ الرَّامِسَاتِ ذُيُولَهَا * عَلَيْهِ قَضِيمٌ نَمَّقَتْهُ الصَّوانِعُ عَلَى أن فيه حذف مضاف، والتقدير كان أثر مجر أو موضع مجر، ومَجَرٌّ مصدر ميمي مضاف لفاعله، وذيولها: مفعوله، ولا يجوز أن يكون اسم مكان، فإنه لا يرفع فضلاً عن أن ينصب، وكذا اسم الزمان والآلة، وإنما كان بتقدير مضاف لأنه إن كان مصدراً فلا يصلح الإخبار عنه بقضيم، وإن كان اسم مكان فلا يصح نصبه المفعولَ، وروي بجر " ذيولها " فيكون بدلاً من الرامسات بدلَ بعض، وعليه فالمجر اسم مكان ولا حذف وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح لأبي علي.
قال أبو الحجاج: بل لابد من اعتقاد محذوفات ثلاثة يصح بها المعنى، تقديرها كأنَّ أثر موضع مجر الرامسات ذيولَهَا نَقْشُ قضيم، والرامسات: الرياح الشديدة الهبوب، من الرَّمْس وهو الدفن، وذيولها: مآخيرها، وذلك أن أوائلها تجئ بشدة ثم تسكن، والقضيم - بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة - حصير منسوج خيوطة سيور،
وقال ابن بري: القضيم الجلد الأبيض عن الأصمعي وغيره، وقال يعقوب: الصحيفة البيضاء، وقال أيضاً: هو النِّطَع الأبيض، وقال صاحب العين: هو الحصير المنسوج تكون خيوطه سيوراً بلغة أهل الحجاز، شبه آثار الديار بنقش على ظهر مِبْنَاة، انتهى قال شارح ديوان النابغة: شبه آثار هذه الرامسات في هذا الرسم بحصير من

(4/106)


جريد أو أدم برمله الصوانع: أي تعمله وتخرزه، ومن فسر القضيم بجلد أبيض يكتب فيه كالأندلسي وابن يعيش والجاربردي لم يصب، فإن الصوانع جمع صانعة، والمعهود في نساء العرب النسيج وما أشبهه لا الكاتبة، والمعنى يقتضيه أيضاً، فإن الرَّمْل الذي تمر عليه الريح يشبه الحصير المنسوج، والعرب لا تعرف الكتابة رجالها فضلا عن نسائها، وإنما حدث فيها الخَطُّ والكتابة في الإسلام وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: يقول: كأن أثر جرّ الرياح الرامسات ذيولها على ذلك الربع قضيم: أي خطوط قضيم زينته بالكتابة النساء الحاذقات للكتابة، أو كان موضع الرامسات قضيم، شبه أثار جر الرياح بالخطوط في القضيم، أو موضِعَهَا الذي (1) هبّت عليه بالقضيم الْمُنَمَّق، وفي البيت سؤال وجواب، أما السؤال فإن المجَر اسم مكان، وقد عمل في ذيولها، وبيان كونه اسم مكان أنه أخبر عنه بقضيم، ولا يستقيم المجر بمعنى الجر لأنه يؤدي إلى تشبيهه وهو معنى بالرَّقِّ وهو عين، ولا معنى لذلك، والجواب أن اسم المكان لا يعمل باستقراء لُغتهم، وإذا وجدنا ما يخالفه وجب تأويله، وله هنا تأويلان: أحدهما: تقدير مضاف قبل مجر، والمجر مصدر، والتقدير كأنَّ موضع جر الرامسات، وهو خير من تقدير أثر، لئلا يحصل ما هرب عنه من الإخبار بقضيم إذ الأثر يشبه بالكتابة لا بالرق، وغرضنا هنا التشبيه بالرق، ولقائل أن يقول:
لعل من قال إن تقديره كان أثر جر الرامسات قدر قبل قضيم مضافاً محذوفاً، وهو خطوط قضيم، فيصح المعنى، والثاني: أن يكون مجر موضعاً على ظاهره، والمضاف محذوف من الرامسات، كأنه قال: مجرجر الرامسات، هذا كلامه وهو ملخص من شرح المفصل للاندلسي، وقد نقله ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل، ورد قوله " تقدير موضع خير من تقدير أثر " بأنه لا فرق بينهما لان أثر الجر وموضع الجر واحد، إلا أن يتوهم متوهم أن أثره ما بقي من فعله، وموضعه مكان فعله، انتهى:
__________
(1) في أصول الكتاب " التى " وهو تحريف (*)

(4/107)


وقوله " والثاني أن يكون مجر موضعاً - إلخ " قال الأندلسي: والوجه الثاني أن يكون مجر موضعاً على ظاهره، والمضاف محذوف من الرامسات، كأنه قال: كأن مجرجر الرامسات، ويتأكد هذا بأمرين: أحدهما: مطابقة المشبه بالمشبه به، لأن فيه ذكر الموضع أولاً والأثر ثانياً، كما أن المشبه به ذكر فيه الرق أولاً والتنميق ثانياً، والآخر أن المحذوف مدلول عليه بمجر لان مجرا معناه الجر، فلم يقدر إلا بما دلَّ عليه، بخلاف التقدير الأول، فإن المؤدي إليه امتناع استقامته في الظاهر، وهو موجود بعينه ها هنا مع الوجهين الآخرين، ويضعف من جهة أن " ذيولها " تكون منصوبة بمصدر مقدر، والنصب بالمصدر المقدر لا يكاد يوجد، ومن أجل ذلك قدم التقدير الأول، انتهى.
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني، قال بعد بيتين من أولها: تَوَهَّمْتُ آياتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا * لِسِتَّةِ أعوام واذ الْعَامُ سَابِعُ رَمَادٌ ككُحْلِ الْعَيْنِ ما إنْ تُبينُهُ * وَنُؤْيٌ كجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ كَأَنَّ مَجَرَّ الرَّامِسَاتِ ذيولها * عليه قضيم نمقته الصَّوانِعُ عَلَى ظَهْرِ مِبْنَاة جَديدٍ سُيُورُهَا * يَطُوفُ بِهَا وَسْطَ اللَّطِيمَةِ بَائِعُ
توهمت: تفرست، وآيات الدار: علامات دار الحبيبة لا ندراسها، واللام بمعنى بعد، ورمادٌ ونؤيٌ استئناف لتفسير بعض الآيات: أي بعض الآيات رماد وبعضها نُؤْي، وإنْ: زائدة، وتبينه: تظهره، وفاعله إما ضمير ديار الحبيبة وإما ضمير المخاطب، والنؤى - بضم النون وسكون الهمزة - حفيرة تحفر حول الخباء، ويجعل تُرَابها حاجزاً لئلا يدخل المطر، والْجَذْمُ بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: الأصل، والباقي.
والخاشع: اللاطئ بالأرض قد اطمأن وذهب شخوصه، وقوله " كأن مجر الخ " ضمير عليه راجع إلى النؤى، وقال بعض شراح الشواهد: راجع إلى الربع، وليس الربع مذكوراً في الشعر، وإنما قاله على

(4/108)


التخمين، ونمقته: حسنته، والصوانع: جمع صانعة، من الصنع بالضم وهو إجادة الْفِعْل، وليس كل فعل صنعا (1) ، ولا يجوز نسبته إلى الحيوان غير الآدمي ولا إلى الجمادات وإن كان الفعل ينسب إليها، وقوله " على ظهر مبناة - إلخ " الْمِبْنَاة - بكسر الميم وسكون الموحدة بعدها نون - النطع بكسر فسكون وبفتحتين وكعنب بساط من أديم، وقال ابن برى: الْمِبْنَاةَ هي كَالْخِدْرِ تتخذ للعروس يبني بها زوجها فيه (2) ، ولذلك سميت مِبْنَاةً، وكانوا ينقشون النِّطْع بالقضيم وهي الصحف البيض تقطع وينقش بها الأدم تلزق عليه وتخرز، وقال الأصمعي: كانوا يجعلون الحصير المزين المنقوش على نطع ثم يطوفون به للبيع، قال قطرب: وسمي المسك لطيمة لأنه يجعل على الملاطم، وهي الخدود، انتهى.
وقال غيره: واللطيمة بفتح اللام وكسر الطاء سوق فيها بز وطيب، يقول: القضيم الذي هو الحصير على هذا النطع يطوف بها بائع في الموسم، قال الأصمعي: كان من يبيع متاعاً يفرش نطعاً وَيَضَع عليه متاعه، والنطع يسمى مبناة، فيقول: نشر هذا التاجر حصيراً على نِطَعٍ، وإنما سميت مبناة لأنها كانت تتخذ قباباً، والقبة والبناء سواء،
والانطاع يبني بها القباب والنابغة الذبياني شاعر جاهلي ترجمناه في الشاهد بعد المائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والخمسون (من الرجز) : 51 - * ذَكَّرْتَنِي الطعن وكنت ناسيا *
__________
(1) في الاصول " وليس كل صنع فعلا " وهو مخالف لما ذكره من قبل ومن بعد في تفسير الصنع، إذ الصنع فعل وزيادة قيد، فهو أخص مطلقا، والفعل أعم مطلقا، فكل صنع فعل وليس كل فعل صنعا (2) في أصول الكتاب " فيها " والانسب لما قبله ولما بعده ما ذكرناه (*)

(4/109)


على أنه مثل يضرب في الحديث يستذكر به حديث غيره وأول من قاله رُهَيْم ابن حَزْن الْهِلاَلِي، وكان انتقل بأهله وماله من بلده يريد بلداً آخر، فاعترضه قوم من بني تغلب، فعرفوه وهو لا يعرفهم، فقالوا له: خَلِّ ما معك وانج بنفسك، قال لهم: دونكم المالَ ولا تتعرضوا لِلْحُرَم، فقال له بعضهم: إن أردت أن نفعل ذلك فألقِ رمحك، فقال: وإن معي لَرُمْحاً؟ فشدَّ عليهم، فجعل يقتل واحداً بعد واحد، وهو يرتجز ويقول: رُدُّوا عَلَى أقْرَبِهَا الأقَاصِيَا * إنَّ لَهَا بالمَشْرِفِيِّ حَادِيَا * ذَكَّرْتَنِي الطَّعْنَ وَكُنْتُ نَاسِيَا * وقيل: إن أصله أن رجلاً حمل على رجل ليقتله، وكان في يد المحمول عليه رمح فأنساه الدهش ما في يده، فقال له الحامل: ألْقِ الرمح، فقال الآخر: إن معي رمحاً لا أشعر به؟ * ذَكَّرْتَنِي الطَّعْنَ وَكُنْتُ نَاسِيَا *
فحمل على صاحبه فطعنه حتى قتله أو هزمه، يضرب في تذكر الشئ بغيره، ويقال: إن الحامل صخر بن معاوية السلمي، والمحمول عليه يزيد بن الصَّعِق، كذا في غاية الوسائل إلى معرفة الأوائل تأليف إسماعيل بن هبة الله الموصلي الشافعي، واقتصر الزمخشري في مستقصى الأمثال على القول الأول والثالث وقوله " ردوا على أقربها " الضمير للإبل، والأقاصي: جمع أقصى وهو البعيد، والْمَشْرِفي - بفتح الميم والراء - السيف نسبة إلى مشارف على خلاف القياس (1) ، ومَشَارِف - بفتح الميم - اسم قرية يعمل فيها السيوف الجيدة،
__________
(1) اعلم أن العلماء قد اختلفوا في مشارف، أهو اسم لجمع من القرى يقال لكل قرية منها مشرف أم هو اسم لقرية واحدة، وأصله جمع فسمى به، فمن ذهب إلى الاول فان النسب إليه حينئذ بقولهم مشرفى قياس، لانه جمع والجمع (*)

(4/110)


والحادي: السائق، ورُهَيْم: مصغر رُهْم بضم الراء وسكون الهاء، وروي مكبراً أيضاً، وحَزْن - بفتح الهاء وسكون الزاي - وهو شاعر جاهلي وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والخمسون (من السريع) 52 - وَكُنْتُ كَالسَّاعِي إلى مثعب * موائلا من سبل، الرَّاعِدِ ضربه هنا مثلاً، وهو كقوله: المُسْتَجِيرُ بِعُمْرِهِ عِنْدَ كُرْبَتِهِ * كَالْمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ والبيت لسعيد بن حسان، وقبله: فَرَرْتُ مِنْ مَعْنٍ وَإفْلاَسِهِ إلَى الْيَزِيديّ أبِي وَافِدِ ومعن: هو معن بن زائدة الجواد المشهور المضروب (مثلاً) في الجود والكرم، وكان من أمراء الدولة الأموية والدولة العباسية، وإنما قال " وإفلاسه " لأن الإفلاس لازم للكرام في أكثر الأيام، واليزيدي: هو أحد أولاد يزيد بن عبد الملك،
والساعي: من سَعَى الرجل إلى صاحبه: أي ذهب إليها، وَالْمَثْعب - بفتح الميم وسكون المثلثة وفتح العين المهملة - قال الجوهري: هو أحد مثاعب الحياض، وانثعب الماء: جرى في المثعب، والْمُوائل: اسم فاعل من واءل منه على وزن فاعَل: أي طلب النجاة وهرب، والْمَوْئل: الملجأ، وقد وأل يَئل وَأْلاً، أي لجأ، والسبل بالسين المهملة والباء الموحدة المفتوحتين: هو المطر، والراعد: سحاب ذو رعد، ويقال: رَعَدَتْ السماء رَعْداً من باب قتل ورُعُوداً: لاح منها الرعد، يقول أنا في التجائي إليه كالهارب من السحاب ملتجئأً إلى الميزاب، فقد وقعت في أشد مما هربت منه، ولم أر هذين البيتين إلا في تاريخ يمين الدولة محمود بن سبكتكين للعتبي، أوردهما تمثيلاً، ونسبهما إلى سعيد المذكور.
__________
(1) يرد إلى أصله، ومن ذهب إلى الثاني فالواجب أن ينسب إليه على لفظه فقيال مشار في، ومشرفي شاذ، وهذا هو الذى ذهب إليه المؤلف (*)

(4/111)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والخمسون (من الطويل) : 53 - وَلَسْتُ بِنَحْوِيّ يَلُوكُ لِسَانَهُ * وَلكِنْ سَلِيقِيٌّ أقول فأعرب على أن السليقي في النسبة لسليقة شاذ قال صاحب العباب: السليقة: الطبيعة، يقال: فلان يتكلم بالسليقة: أي بطبعة لا عن تعلم، وفي حديث أبي الأسود الدؤلي أنه وضع النحو حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقية: أي اللغة التي يسترسل فيها المتكلم بها على سليقته من غير تعهد إعراب ولا تجنب لحن، قال: * وَلَسْتُ بِنَحْوِيّ يَلُوكُ لِسَانَه * البيت ولم يتكلم عليه ابن بري في أماليه على الصحاح، ولا الصفدي في حاشيته عليه، وكذا أورده ابن الأثير في النهاية غير منسوب إلى قائله
والنحوي: الرجل المنسوب إلى علم النحو، ويلوك لسانه: من لاك الشئ في فمه، إذا عَلَكَهُ، يريد التكلف والتصنع في الكلام، وسليقي: خبر مبتدأ محذوف: أي أنا سليقي، والقياس سَلَقي كحنفي في النسبة إلى حنيفة، وأعرب: من الإعراب، وهو القول المفصح عما في الضمير، وجملة " أقول - إلخ " صفة كاشفة لسليقي.
ولم أقف على قائله، والله سبحانه أعلم وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والخمسون (من الوافر) 54 - جَرَى الدَّمَيَانِ بالْخَبَرِ الْيَقِينِ على أنه شاذ، والقياس الدَّمَانِ، لما سيأتي في البيت الذي بعده وقد أوردنا ما قيل فيه مستوفى في الشاهد الخامس والستين بعد الخمسمائة من شرح شواهد شرح الكافية

(4/112)


وهذا المصراع من أبيات ثلاثة لعلي بن بَدَّالٍ السّلمِيِّ، رواها ابن دريد في المجتبى، وهي: لَعَمْرِكَ إنَّنِي وَأَبا رَباحٍ * عَلَى حَالِ التكاشر منذ حين لا بغضه وَيُبْغِضُنِي وَأَيْضاً * يَرَانِي دُونَه وَأَرَاهُ دُونِي وَلَوْ أنَّا عَلَى جُحْرٍ ذُبِحْنَا * جَرَى الدَّمَيَانِ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ والتكاشر: المباسطة في الكشر وهو التبسم، ورواه ابن دريد في الجمهرة كذا * عَلَى طُولِ التَّجَاوُرِ مُنْذُ حِينِ * والْجُحْرُ - بضم الجيم وسكون الحاء -: الشق في الأرض، وقوله " جرى الدميان إلخ " أراد بالخبر اليقين ما اشتهر عند العرب من أنه لا يمتزج دم المتباغضين،
وهذا تلميح، قال ابن الأعرابي: معناه لم يختلط دمي ودمه من بغضي له وبغضه لي، بل يجري دمي يَمْنَةً ودمه يسرة وقد استقصينا الكلام على معناه وإعلاله هناك، فليراجع ثمة وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والخمسون (من الكامل) : 55 - يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلِّم على أنه شاذ، والقياس يَدان بدون رَدِّ اللام المحذوفة، لأن هذه اللام لم ترد عند الإضافة إذا قلت: يَدُه قال ابن يعيش: وإذا لم يرجع الحرف الساقط في الإضافة لم يرجع في التثنية، ومثاله يَدٌ وَدَمٌ، فإنك تقول دَمَانِ ويَدَانِ، فلا ترد الذاهب، لانه لايرد في الإضافة، فأما قوله: * يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ ... البيت *

(4/113)


وقول الاخر: * جَرَى الدَّمَيَانِ ... البيت * وحمله (1) أصحابنا على القلة والشذوذ وجعلوه من قبيل الضرور، والذى أراه أن بعض العرب يقول في اليد يَداً في الأحوال كلها، يجعله مقصوراً كرحىً وفَتىً، وتثنيته على هذه اللغة يَدَيَانِ، مثل رَحَيَانِ، يقال منقوصاً ومقصوراً، وعليه قول الشاعر: فَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا * وَلَكنْ عَلَى أقْدَامِنَا يَقْطُرُ الدَّمَا انتهى: وقد أشبعنا الكلام عليه في الشاهد الرابع والستين بعد الخمسمائة، وتمامه: * قَدْ يَمْنَعَانِكَ أنْ تُضَامَ وَتُهْضَمَا *
ومُحَلِّم - بكسر اللام -: اسم رجل، وضامه يضيمه بمعنى ظلمه، وكذا، هضمه وفيه روايات أخر ذكرناها هناك وأنشد هنا الجار بردى، وهو الشاهد السادس والخمسون (من الطويل) 56 - فَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا * وَلَكنْ عَلَى أقْدَامِنَا يَقْطُرُ الدَّمَا على أن دما أصله دَمَيٌ تحرك الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فصار دماً كما في البيت، وهذا إنما يتم إذا كان فتح الميم قبل حذف اللام، وعلى أنّ يقطر بالمثناة التحتية، وعلى أن الدما بمعنى الدم، وفي كل منها بحث ذكرناه مفصلاً في الشاهد السادس والستين بعد الخمسمائة من شواهد شرح الكافية، والاعقاب:
__________
(1) كذا في الاصول وفى شرح المفصل لابن يعيش (4: 151) وخير من هذا أن يقال " فحمله أصحابنا " على أن يكون ذلك جواب أما، وتوجيه عبارته ان يجعل الجواب محذوفا مقترنا بالفاء والمذكور معطوف عليه (*)

(4/114)


جمع عَقِب - بفتح فكسر - وهو مؤخر القدم، والكلوم: جمع كَلْم - بفتح فسكون - وهو الجرح، يقول إذا جرحنا في الحرب كانت الجراحات في مقدمنا لا في مؤخرنا، وسالت الدماء على أقدامنا لا على أعقابنا، وتقدم بقية الكلام هناك وأنشد بعده وهو الشاهد السابع والخمسون (من الطويل) : 57 - هُمَا نَفَثَا فِي فِي مِنْ فَمَوَيْهِمَا عَلَى أنه من قال في التثنية فموان قال في النسبة فموي، وفيه الجمع بين البدل والمبْدَل منه وهي الميم والواو، وتقدم بسط الكلام عليه في الشاهد السادس والعشرين بعد الثلاثمائة من شرح شواهد شرح الكافية، وتمامه * عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ *
وضمير التثنية لا بليس وابن إبليس، ونفثا: ألْقَيَا على لساني، وأراد بالنابح هنا من تعرض لهجوه من الشعراء، وأصله في الكلب، ومثله العاوي، والرِّجام: مصدر راجَمة بالحجارة: أي راماه، وراجم فلان عن قومه إذا دفع عنهم، جعل الهجاء في مقابلة الهجاء كالمراجعة، لجعله الهاجي كالكلب النابح والبيت آخر قصيدة للفرزدق قالها في آخر عمره تائباً إلى الله تعالى مما فرط منه من مهاجاته الناس، وذمّ فيها إبليس لإغوائه إياه في شبابه، وقد أوردنا غالب أبيات القصيدة هناك وأنشد بعده وهو الشاهد الثامن والخمسون (من الطويل) 58 - تَزَوَّجْتُهَا رَامِيَّةً هُرْمُزِيَّةً * بِفَضْلِ الَّذِي أَعْطى الأَمِيرُ مِنَ الرِّزْقِ على أن جاء النسبة إلى الجزأين في رامهرمز، قال أبو حيان في الارتشاف: وتركيب الْمَزْج تحذف الجزء الثاني منه، فتقول في بعلبك: بَعْلِيٌّ، وأجاز الجرمي

(4/115)


النسب إلى الجزء الثاني مقتصراً عليه، فتقول: بَكّيٌّ، وغير الجرمي كأبي حاتم لا يجيز ذلك إلا منسوباً إليهما قياساً على " رامية هرمزية " أو يقتصر على الاول، انتهى قال ياقوت في معجم البلدان: معنى رام بالفارسية المراد والمقصود، وهرمز أحد الا كاسرة، فكأن هذه اللفظة مركبة معناها المقصود هرمز وقال حمزة: رامهرمز: اسم مختصر من رامهرمز أزدشير، وهي مدينة مشهورة بنواحي خورستان، والعامة يسمونها رامز كسلاً مهم من غير تتمة اللفظ، وفي رامهرمز يجتمع النخل والجوز والثلج والاترج، وليس ذلك يجتمع بغيرها من مدن خورستان، وقد ذكرها الشعراء، فقال وَرْدُ بن الوَرْدِ الجعدي:
أمُغْتَرِباً أصْبَحْتُ في رَامَهُرْمُز * ألا كُلُّ كَعْبِيٍّ هُنَاكَ غَرِيبُ إذَا رَاحَ رَكْبٌ مُصْعِدُونَ فَقَلْبُهُ * مَعَ الْمُصْعِدِينَ الرَّائِحِينَ جَنِيبُ وَلاَ خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إذَا لَمْ تَزُرْ بِهَا * حَبِيباً وَلَمْ يَطْرَبْ إلَيْكَ حَبِيبُ انتهى وقوله " رام بمعنى المقصود " هذا غير معروف في تلك اللغة، وإنما معناها عندهم: المطيع، والمنقاد، واسم يوم من أيام كل شهر.
والفضل: الزيادة، والرزق: ما يعطى الجندي في الشهر أو في السنة من بيت مال المسلمين والبيت أنشده صاحب العباب ولم يَعْزُهُ إلى أحد، وقال الشاطبي: أنشده السيرافي غُفلاً، ولم أقف على قائله ولا تتمته، والله أعلم وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والخمسون (من الطويل) 59 - * طَبيبٌ بِمَا أَعْيَا النِّطَاسِيَّ حِذْيَمَا * على أن الأصل " ابْن حذيم " فحذف ابن لظهور المراد وشهرته عند المخاطب، وهو بكسر الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح المثناة التحتية، قال ابن الأثير

(4/116)


في المرصع: ابن حِذْيَم: شاعر في قديم الدهر، يقال: إنه كان طبيباً حاذقاً يضرب به المثل في الطب، فيقال: أطَبُّ بالكي من ابن حِذْيم، وسمّاه أوس حِذْيَماً فقال * عَلِيمٌ بِمَا أعْيَا النِّطَاسِيَّ حِذْيَماً * انتهى: وقال ابن السكيت في شرح ديوان أوس: حِذْيَمٌ: رجل من تيم الرباب، وكان متطببا عالماً، هذا كلامه فعنده أن الطبيب حذيم لا ابن حذيم، وتبعه صاحب القاموس، فلا حذف
فيه ولا شاهد، وبقية الكلام عليه مذكورة في الشاهد الرابع عشر بعد الثلاثمائة وهذا عجز، وصدره: * فَهَلْ لَكُمُ فيهَا إلَيَّ فَإِنَّنِي * وهو من أبيات لأوس بن حجر قالها لبني الحارث بن سَدُوس بن شيبان، وهم أهل القرية باليمامة حيث افتسموا معزاه، وقد شُرِحَت هناك، وقوله " فهل لكم فيها " أي: في ردها، والضمير للمعزي وقوله " بما أعيا " فاعله ضمير ما الموصولة الواقعة على الداء: أي أنني حاذق بالداء الذي أعجز الأطباء في مداواته، والنِّطاسي بكسر النون - قال ابن السكيت: هو العالم الشديد النظر في الأمور وبعده (من الطويل) : فأُخْرِجَكُمُ مِنْ ثَوْبٍ شَمْطَاءَ عَارِكٍ * مُشَهَّرَةٍ بَلَّتْ أسَافِلَهُ دَماً والشمطاء: المرأة في رأسها شَمَط - بالتحريك - وهو بياض شعر الرأس يخالطه سواد، والعارك: الحائض، ومشهرة: من الشهرة، وهو وضوح الأمر، يقول: هل لكم ميل في ردِّ مِعْزَاي إليَّ فأخرجكم من سبة شنعاء تلطخ أعراضكم وتدنسها كما تدنس الحائض ثوبها بالدم فأغسله عنكم، وهذا مثل ضربه

(4/117)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الستون (من الطويل) 60 - وما أنا كنتي وما أنا عاجن * وشر الرِّجَالِ الْكُنْتُنِيُّ وعَاجِنُ على أنه قيل في النسبة إلى كنتُ " كنتي " بلا نون، " وكنتني " بنون، في الصحاح: قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله كنت في شبابي كذا، وأنشد البيت كذا (من الطويل) فَأَصْبَحْتُ كُنْتَيًّا وَأَصْبَحْتُ عَاجِناً * وشَرُّ خِصَالِ الْمَرْءِ كُنْتُ وعَاجِنُ وقال في مادة عجن أيضاً: وعجن الرجل إذا نهض معتمداً على الأرض من
الكبر، أنشد البيت أيضاً.
ولم يتعرض له ابن برى بشئ ولا الصفدي فيما كتبا عليه، وكذلك أورده ابن يعيش ثم قال: ومنهم من قال كنتني فزاد نون الوقاية مع ضمير الفاعل، كأنه حافظ على لفظ كنت ليسلم كنت من الكسرة، قال الشاعر أنشده ثعلب (من الطويل) وما أنا كنتي وما أنا عاجن * وشَرُّ الرِّجَالِ الْكُنْتُنِيُّ وعَاجِنُ وقد أعاب أبو العباس كنتياً (1) ، وقال: هو خطأ وقال ابن جني في سر الصناعة: أنشد أبو زيد (من الوافر) إذَا مَا كُنْتَ مُلْتَمِساً لِقُوتٍ * فَلاَ تَصْرُخْ بِكُنْتِيّ كَبِيرُ وأنشد أحمد بن يحيى (من الطويل) فَأَصْبَحْتُ كُنْتيّاً وَأَصْبَحْتُ عَاجِناً * وَشَر خِصَالِ الْمَرْءِ كُنْتُ وَعَاجِنُ فقوله " كنتياً " معناه أن يقول: كنت أفعل في شبابي كذا، وكنت في حداثتي أصنع كذا، و " كنت " فعل وفاعله التاء، ومن الأصول المستمرة أنك لو سميت رجلاً بجملة مركبة من فعل وفاعل ثم أضفت إليه: أي نسبت لأوقعت الإضافة على الصدر وحذفت الفاعل، وعلى ذلك قالوا في النسبة إلى تأبط شراً: تأبطي، وفي قمت: قومي، حذفوا التاء وحركت الميم بالكسرة التي تجلبها ياء الإضافة، فلما تحركت
__________
(1) الذى في ابن يعيش (ج 6 ص 8) : " وما أنت ... وقد عاب أبو العباس كنتنيا " (*)

(4/118)


رجعت الواو التي كانت سقطت لسكونها تلك الواو عين الفعل من قام فقلت قومِيّ، وكَذا كان القياس أن تقول في كنت: كُونِيٌّ، تحذف التاء لأنها الفاعل وتحرك النون فترد الواو التي هي عين الفعل، فقولهم " كنتي " وإقرارهم التاء مع الياء الإضافة يدل على أنهم قد أجروا ضميرا الفاعل مع الفعل مجرى دَال زيد من زائه ويائه، وكأنهم نَبَّهوا بهذا على اعتقادهم قوة اتصال الفعل بالفاعل، وأنهما قد
حلا جميعاً محل الجزء الواحد، انتهى كلامه ولم أقف على قائله والله أعلم.
وأنشد بعده (من الكامل) 11 - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ وتقدم شرحه في الشاهد الحادي عشر وأنشد بعده، وهو البيت الحادي والستون (من الطويل) 61 - وَمَا أنَا وَحْدِي قُلْتُ ذَا الشِّعْرَ كله * ولكن لشعري فيك مِنْ نَفْسِهِ شِعْرُ وهو من قصيدة للمتنبي يمدح بها على بن عامر الأنطاكي، قال الواحدي: يقول ما انفردت أنا بإنشاء هذا الشعر، ولكن أعانني شعري على مدحك لأنه أراد مدحك كما أردته، والمعنى من قول أبي تمام (من البسيط) تَغَايَرَ الشِّعْرُ فِيهِ إذْ سَهِرْتُ لَهُ * حَتَّى تَكَادُ قَوَافِيهِ سَتَقْتَتِلُ انتهى، ومثله للمتنبي أيضاً (من الطويل) لك الحمد في الدار الَّذِي لِيَ لَفْظُهُ * وَإنَّكَ مُعْطِيهِ وَإنِّيَ نَاظِمُ وقد أكثر الناس تداول هذا المعنى، قال ابن الرومي (من الوافر) وَدُونَك مِنْ أقَاوِيلِي مَديحاً * غَدَاً لَكَ دُرُّهُ وَلِيَ النِّظَامُ

(4/119)


وقال أبو إسحق الغزي (من الطويل) مَعَانِيْكَ فِي الأَشْعَارِ تَنْظِمُ نَفْسَهَا * وَمَنْ لَمْ يَخُنْهُ السَّجْلُ والشَّطَنُ اسْتَقَى وله أيضاً: (من الطويل) وَمَا أنَا فِي مَدْحِيكَ إلاَّ كماسِحٍ * بِكَفَّيْهِ مَتْنَ السَّيْفِ وَهْوَ صَقِيلُ وقال تميم بن المعز (من الطويل)
وَسَارَ بِمَدْحِي فِيكَ كُلُّ مُهَجِّرٍ * وَغَنَّى به فِي السَّهْلِ وَالْوَعْرِ مَنْ يَحْدُو وصَاغَتْ لَهُ عُلْيَاكَ حُسْناً وَزينَةً * وَحِيكَ بِهَا مِنْ حَلِيْ ألْفَاظِهَا بُرْدُ وَلَيْسَ لِكُلِّ النَّاسِ يُسْتَحْسَنُ الثَّنَا * كَمَا لَيْسَ فِي كُلِّ الطُّلاَ يَحْسُن الْعِقْدُ وقال الخفاجي (من الطويل) وَلِي فِيكَ مِنْ عز الْقَوَافِي قَصَائِدٌ * تُقَبِّلُ أفْوَاهَ الرُّوَاةِ لَهَا رَشْفاً وَمَا أدَّعِي دُرَّ الْكَلاَمِ لأَنَّهُ * صِفَاتُكَ إلا أنَّنِي لا أُحْسِنُ الرَّصْفا وقال ابن المعلم (من البسيط) أخّذْتُ مِنْكَ الَّذِي أُثْنِي عَلَيْكَ بِهِ * فَأَنْتَ لاَ أَنَا بالنُّعْمَى مُؤَلِّفُهُ فَمَا أتَيْتُ بِشِعْرٍ بِتُّ أنْظِمُهُ * لِلْمَدْحِ فِيكَ وَلاَ شِعْرٍ أُصَنِّفُهُ وقال الصفي الحلي: (من الخفيف) لَيْسَ لِي فِي صِفَاتِ مَجْدِكَ فَضْلٌ * هِي أبْدَتْ لَنَا بَدِيعَ الْمَعَانِي كُلَّمَا بَدَّعَتْ سَجَايَاكَ مَعْنًى * نَظَمَتْ فِكْرَتِي وَخَطَّ بَنَانِي وقال ابن قلاقس (من الوافر) وَمِنْكَ وَفِيكَ تَنْتَظِمُ الْقَوَافِي * وَمَنْ وَجَدَ الْمَقَالَ الرَّحْبَ قَالاَ وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والستون: (من البسيط) 62 - دَعِ الْمَكَارِمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا * وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أنْتَ الطاعم الكاسي

(4/120)


على أن الطاعم والكاسي للنسبة: أي ذو كسوة وذو طعام والبيت من قصيدة للحطيئة هجا بها الزبرقان بن بدر، قال شارح ديوانه: أي أنك ترضى بأن تشبع وتلبس، يقال: كَسِيَ الرجل يَكْسَى إذا اكتسى، ولما بلغ الزبرقان قول الحطيئة " دع المكارم - البيت " استعدى عليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقال يا أمير المؤمنين، هجاني، قال: أنشدني الذي هجاك
فأنشده الزبرقان قول الحطيئة هذا، فقال عمر: ما أراه هجاك ولكنه مدحك، فقال الزبرقان: اجعل بيني وبينه حسان بن ثابت، فبعث عمر رضي الله عنه إلى حسان، فلما أتاه أنشده قول الحطيئة، فقال حسان: يا أمير المؤمنين ما هجاه ولكن سلح عليه، انتهى.
وقد ذكرنا في الشاهد الرابع عشر بعد المائتين من شواهد شرح الكافية سبب هجو الحطيئة للزبرقان، ومن هذه القصيدة أزْمَعْتُ يَأساً مُبِيناً مِنْ نَوَالِكُمُ * ولن ترى طاردا للحر كَالْيَاسِ وما أحسن هذا البيت: مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لاَ يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ * لاَ يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ وترجمة الحطيئة تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة من شرح شواهد شرح الكافية.
الجمع أنشد فيه، وهو الشاهد الثالث والستون، وهو من شواهد سيبويه: من الكامل) 63 - عَنْ مُبْرِقَاتٍ بِالْبُرِينَ وَتَبْدُو * بالأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ على أن ضم الواو لضرورة الشعر وهذا نص سيبويه " وأما فُعُل فإن الواو فيه تسكن لاجتماع الضمتين والواو

(4/121)


فجعلوا الإسكان فيها نظيراً للهمزة في الواو في أدؤر وقؤول، وذلك قولهم: عوان وعون، ونَوَار ونُور، وقَوُول، وقوم قُولٌ، وألزموا هذا الاسكان، إذ كانوا يسكنون غير المعتل نحو رسل وعضد ونحو ذلك، ولذلك آثروا الإسكان فيها على الهمزة حيث كان مثالها يسكن للاستثقال، ولم يكن لادؤر وقؤول مثال من غير المعتل
يسكن فيشبه به ويجوز تثقيله في الثعر كما يضعفون فيه مالا يضعف في الكلام، قال الشاعر وهو عدي بن زيد: * وَفِي الأَكْفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ * انتهى كلامه.
قال الأعلم: الشاهد فيه تحريك الواو من سُوُرْ بالضم على الأصل تشبيهاً للمعتل بالصحيح عند الضرورة، فالمستعمل في هذا تسكين الثاني تخفيفا، إذ كان التخفيف جائزاً في الصحيح في مثل الحُمْر والرُّسْل، فلما كان في الصحيح جائزاً مع خفته كان في المعتل لازماً لثقله، والسُّوُر: جمع سِور.
وأراد بالأكف المعاصم فسماها باسمها لقربها منها، انتهى.
وقال ابن جني في شرح تصريف المازني: تثقيل مثل هذا إنما يجئ لضرورة الشعر كقوله: (من المتقارب) أغَرُّ الثَّنَايَا أحَمُّ اللِّثَاثِ * تَمْنَحُهُ سُوُكَ الإِسْحِلِ وحكى أبو زيد رجل جواد وقوم جُوْدٌ وجُودُ، قال: وقالوا رجل قوول من قوم قُوُل، وقولهم سُوُر جمع سِوَار وسُوُك جمع سِواك، ولم أسمع شيئاً من هذا مهموزاً وهمزه جائز في القياس لأن الضمة في الواو لازمة، فإن كانوا قد أجمعوا على ترك همزهِ فإنما فعلوا ذلك لئلا يكثر تثقيل هذا الضرب في كلامهم فيحتاجوا إلى همزة هرباً من الضمة في الواو، فحسموا المادة أصلاً بأن ألزموه التخفيف في الأمر العام لا غير، انتهى.

(4/122)


والبيت من قصية لعدي بن زيد بن أيوب العبادي أولها: قَدْ حَانَ إنْ صَحَوْتَ أنْ تُقْصِرْ وَقَدْ أتَى لما عهدتَ عُصُرْ عَنْ مُبْرِقَاتٍ بِالْبُرِيْنَ وَتَبْدُو البيت
بِيضٌ عَلَيْهِنَّ الدِّمَقْسُ وَفِي ال * أَعْنَاقِ مِنْ تحت الاكفة ذر كَالْبِيضِ في الرَّوْضِ المُنَوِّرِ قد * أفْضَى بِهِنَّ إلى الكثيب نُهر بِأرج من أرْدَانِهِنَّ مَعَ المسك * الزّكِيِّ زنبق وقُطُر جَارَيْتُهُنَّ فِي الشَّبَابِ وَإذْ * قَلْبِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ غِرْ قوله " قد حان " أي: قرب، وإن: شرطية، وجوابها محذوف يدل عليه ما قبلها، وصحوت: خطاب لنفسه، والصحو: الافاقة من السكر، وروي " لو صحوت " ولو للتمني، وقيل: شرطيةٌ ما قبلها دليل جوابها، وقوله " أن تقصر " بفتح أنْ وهي مع ما بعدها في تأويل مصدر مرفوع فاعل " حَانَ " وسكن الراء للوقف، وقيل: إنها مهملة هنا، وتُقْصر مرفوع، وهي لغة لبعض العرب يُجْرُونها مُجْرَى ما، وتقصر من أقصر عن الشئ إذا كف عنه وانزجر، قال الجوهري: أقصرت عنه كففت ونزعت مع القدرة عليه، فإن عجزت قلت قَصَرْت بلا ألف، وقوله " وقد أتى - إلخ " جملة حالية من فاعل تقصر، وقيل: جملة اعتراضيه، وعُصُر فاعل أتى، وهو بضمتين بمعنى الْعَصْر بفتح فسكون، واللام بمعنى على، والمعنى أتى زمن الشيوخة على ما عهدت من زمن الشباب، وقوله " عن مبرقات " متعلق بتقصر، قال صاحب العباب: أبرقت المرأة إذا تحسنت وتزينت: ثم قال: وبرقت المرأة إذا تحسنت وتعرضت مثل أبرقت، وَالْبُرِين: جمع بُرَة - بضم الباء - وهي الْخِلْخَالُ يكون في أرْجل النساء، وهذا الجمع على

(4/123)


خلاف القياس (1) ، وتبدو: تظهر، وفاعله ضمير المبرقات، والفعل معطوف على مُبْرِقات لأنه في معنى يُبْرِقن، والباء في " بالأكف " بمعنى على متعلقة بمحذوف خبر مقدم، وسُوُر: جمع سوار، هو ما تلبسه النساء في سواعدهن، مبتدأ مؤخر، والجملة حال من فاعل تبدو المستتر، والرابط إما محذوف: أي وعلى الأكف منها، وإما
" أل " في الأكف، لأنها عوض (2) عن الضمير، والأصل " وبأكفها " والمعنى قد مضى دَهْرٌ بعد شبابك، فقد حان أن تكف عن النساء التي تتزين بزينتها وتظهر للرجال بها وقد روى الأندلسي - وتبعه بعضهم - هذين البيتين كذا: قَدْ آنَ لَوْ صَحَوْتَ أنْ تُقْصِرْ * وَقَدْ أتَى لِمَا عَهَدْتَ عُصُرْ عَنْ مُبْرِقَاتٍ بِالْبُرَى وَتَذَرْ * وَفِي الأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ وقال: الْبُرَى بالقصر جمع بُرّة، وهي الحلقة، والمراد هنا الحلى، والباء للتعدية، وقوله " تذر " عطف على " تقصر " وقوله " وفي الأكف " يريد في أذرع الأكف لأن السوار إنما يكون في الذراع لا الأكف، هذا كلامه وقوله " بيض " جمع بَيْضاء: أي حسناء، وَالدِّمْقْسُ - بكسر الدال وفتح الميم -: الحرير الأبيض، والأكفَّة: جمع كفاف بالكسر، كأسْوُرَة جمع سِوار، والكفاف: الخياطة الثانية، والشل: الخياطة الأولى، وقوله " كالْبَيْضِ " بالفتح جمع بيضة النعام، والمنوِّر: بكسر الواو المشددة، و " نهر " بضمتين: جمع نَهَر بفتحتين، ويَأْدَج: يفوح، " وقُطُر " بضمتين: العود الذي يتبخر به، وقوله
__________
(1) لانه جمع كما يكون جمع المذكر السالم، مع أن مفرده ليس علما ولا صفة لمذكر عاقل، وأيضا لم يسلم بناء واحده، فهو مخالف للقياس من وجهين: كون مفرده مما لا يجمع هذا الجمع، وكون الجمع لم يسلم فيه بناء الواحد (2) نيابة أل عن الضمير إنما هو مذهب الكوفيين (*)

(4/124)


" جاريتُهُنَّ " التفات من الخطاب إلى التكلم، " وغر " بكسر العين المعجمة، يقال: رجل غر: أي غير مجرب للأمور وعدي بن زيد شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين من شرح
شواهد شرح الكافية وأنشد الجاربردي هنا (1) (من البسيط) 49 - أمَا أُقَاتِلُ عَنْ دِينِي عَلَى فَرَسِي * أوْ هكَذَا رَجُلاً إلاَّ بِأَصْحَابِي وتقدم شرحه في الشاهد التاسع والأربعين وأنشد بعده أيضاً، وهو الشاهد الرابع والستون (من الكامل) 64 - مَا زِلْتَ تَحْسِبُ كُلَّ شئ بَعْدَهُمْ * خَيْلاً تَكُرُّ عَلَيْكُمُ وَرِجَالاَ على أن " رِجَالاً " فيه بمعنى رَجَّالَة بفتح الراء وتشديد الجيم جمع راجل، هذا معناه، وأما لفظه فهو جمع رَجُل - بفتح فضم - صفة مشبهة بمعنى راجل، وكذا رجال في قول الأخطل.
وَبَنُو غَدَانَةَ شَاخِصٌ أبْصَارُهُم * يَسْعَوْنَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالاً قال السكري في شرحه الرِّجَال المشاة الرَّجَّالة والبيت من قصيدة لجرير هجا بها الأخطل التغلبي النصراني وكان الأخطل هجا جريراً قبل بقصيدة مطلعها: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ * غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ فعارضه جرير بهذه القصيدة، وهى إحدى الملحمات ومطلعها:
__________
(1) انظر شرح الجاربردى (ص 131) (*)

(4/125)


حَيِّ الْغّدَاةَ بِرَامَةَ الأَطْلاَلاَ * رَسْماً تَقَادَمَ عَهْدُهُ فَأَحَالاَ إلى أن قال: قَبَحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ إنها * هانت على معاطسا وسبالا عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ * وَبِجِبْرِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالاَ
لا تطلبن خؤولة من تغلب * الزنح أكْرَمُ مِنْهُمُ أخْوَالاَ لَوْ أنَّ تَغْلِبَ جَمَّعَتْ أحسابها * يوم التفاضل لَمْ تَزِنْ مِثْقَالاَ وَالتَّغْلِبِيُّ إذَا تَنَحْنَحَ لِلْقِرَى * حَكَّ أسْتَهُ وَتَمَثَّلَ الأَمْثَالاَ إلى أن خاطبه وقال: أنِسِيتَ قَوْمَكَ بِالْجَزِيرَةِ بَعْدَمَا * كَانَتْ عُقُوبَتُهُ عَلَيْكَ نَكَالاَ ألاَّ سأَلْتَ غثاء دجلة عَنْكُمُ * وَالْخَامِعَاتِ تُجَزِّرُ الأَوْصَالاَ حَمَلَتْ عَلَيْكَ حُمَاةُ قَيْس خَيْلُهُمْ * شُعُثاً عوابس تحمل الابطالا ما زلت تحسب كل شئ بَعْدَهَا * خَيْلاً تَشُدُّ عَلَيْكُمُ ورِجَالاَ زُفَرُ الرَّئِيسُ أبُو الْهُذَيْلِ أتاكُمُ * فَسَبَا النِّسَاءَ وَأحْرَزَ الأَمْوَالاَ وأشار بهذه الأبيات إلى ما جرى على تغلب بجزيرة ابن عمر (1) من القتل والسبي والنهب وكان سبب هذه الوقيعة بهم أن بني تغلب لما قتلوا عمير بن الحباب في موضع قرب الثرثار من تكريت أتى أخوه تميمُ بن الحباب زفرَ بن الحارث وسأله الأخذ بثأره فكره ذلك، فشجعه ابنه الهذيل بن زفر، فرضي، فتوجه تميم بمن معه من
__________
(1) قوله " ابن عمر " ليس هو ابن عمر بن الخطاب كما يظنه العوام بل هو ابن عمر من بلدة برقعيد، كذا في هامش نسخ الاصل، وفى معجم ياقوت: جريرة ابن عمر بلدة فوق الموصل بينهما ثلاثة أيام وستاق مخصب واسع الخيرات، واحسب أو أول من عمرها الحسن بن عمر بن خطاب التغلبي اه (*)

(4/126)


قيس حتى انتهوا إلى الثرثار، فوجه زفر زيد بن حُمْرَان في خيل إلى بني فدو كس من تغلب فقتل رجالهم واستباح نساءهم، وبعث ابنه الهذيل إلى بني كعب بن زهير فقتلهم قتلاً ذريعاً، وبعث مسلم بن ربيعة إلى ناحية أخرى فأسرف في قتلهم،
وبلغ ذلك بني تغلب فارتحلوا يريدون عبور دجلة، فلحقهم زفر بالكحيل، وهو نهر على أسفل الموصل على عشرة فراسخ، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وترجل أصحاب زفر أجمعون، وبقي زفر على بغلة له، فقتلوهم من ليلتهم، وبقروا بطون النساء، وكان من غرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف وقوله " ألا سألت غثاء دجلة " الْغُثاء - بالضم والمد -: ما يطفو على الماء من حطب وزبد ونحوه، يريد به من قتل من تغلب، والخامعات - بالخاء المعجمة -: الضباع، وتجوز: تقطع، والأوصال: جمع وصل - بالكسر - وهو مفصل العضو، يريد أنها تأكل قتلاهم، وقوله " ما زلت تحسب إلخ " خطاب للأخطل، وضمير " بعدها " للجزيرة وروي " بعدهم " فالضمير لقيس ومن معهم، وتكر عليكم: تحمل عليكم، وكذا " نشد " بمعناه، وقد أخذ المتنبي هذا المعنى فقال (من البسيط) وَضَاقَتِ الأَرْضُ حَتَّى كَانَ هَارِبُهُمْ * إذَا رأى غير شئ ظَنَّهُ رَجُلاَ وقد كرر جرير هذا المعنى فقال في قصيدة أخرى (من الطويل) وَلَوْ أنَّهَا عُصْفُورَةٌ لَحَسِبْتَهَا * مُسَوَّمَةً تَدْعُو عُبَيْداً وأزْنَمَا والمسومة: الخيل المعلمة في الحرب، وعبيد بالتصغير، وأزنم بالزاي والنون: قبيلتان من يربوع، قال صاحب مناقب الشبان - عند هذا البيت - نظيرُهُ قول جرير أيضاً: * ما زِلت تحسب كل شئ بعدهم * البيت ويروى أن الأخطل لما سمع هذا البيت قال: قد استعان عليه بالقرآن، يعني قوله تعالى: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) والمعنى في الآية بأجل لفظ وأحسن

(4/127)


اختصار، وقريب من هذا البيت وليس مثله قول الآخر (من الطويل) إذَا خَفَقَ الْعُصْفُورُ طَارَ فُؤَادُهُ * وَلَيْثٌ حَدِيدُ النَّابِ عِنْدَ الثَّرَائِدِ
انتهى.
وقد أنشده صاحب الكشاف عند تفسير (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عليهم) قال: ومنه أخذ الأخطل: * مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كل شئ بَعْدَهُمْ * انتهى، وصوابه ومنه أخذ جرير كما ذكرنا.
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده أيضاً، وهو الشاهد الخامس والستون (من الرجز) 65 - فَتَسْتَرِيْحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا على أن إسكان الفاء من زَفْرَاتِهَا ضرورة، والقياس فتحها، قال ابن عصفور في كتاب الضرائر في فصل نقص الحركة للضرورة: ومنه قول ذي الرمة (من الطويل) .
أبَتْ ذِكَرٌ عَوَّدْنَ أحْشَاءَ قَلْبِهِ * خُفُوقاً وَرَفْضَاتُ الْهَوَى فِي الْمَفَاصِلِ حكم لرفضات وهي اسم بحكم الصفة، ألا ترى أن رفضات جمع رَفْضة، ورفضة اسم، والاسم إذا كان على وزن فَعْلَة، وكان صحيح العين فإنه إذا جمع بالألف والتاء لم يكن بد من تحريك عينه اتباعاً لحركة فائه نحو جَفْنَة وَجَفَنَات، وإذا كان صفة بقيت العين على سكونها، نحو ضخمة وضخمات، وإنما فعلوا ذلك فرقاً بين الاسم والصفة، وكان الاسم أولى بالتحريك لخفته، واحتمل لذلك ثقل الحركة، وأيضاً فإن الصفة تشبه الفعل لأنها ثانية عن الاسم غير الصفة، كما أن الفعل ثان عن الاسم، فكما أن الفعل إذا لحقته علامة جمع نحو ضربوا ويضربون

(4/128)


لم يغير، فكذلك لم تغير الصفة إذا لحقتها علامتا الجمع وهما الألف والتاء، فكان ينبغي على هذا أن يقول: إلا أنه لما اضطر إلى التسكين حكم لها بحكم الصفة
فسكن العين، ومما يبين لك صحة ما ذكرته من أن تسكين العين إنما هو بالحمل على الصفة أن أكثر ما جاء ذلك في الشعر إنما هو مصدر لقوة شبه المصدر باسم الفاعل الذي هو صفة، ألا ترى أن كل واحد منهما قد يقع موقع صاحبه، يقال: رجل عَدْل: أي عادل، فوقه المصدر موقع اسم الفاعل، وقال تعالى (لَيْسَ لوقعتها كاذبة) أي كذب، فوقع كاذبة وهو اسم الفاعل موقع كذب وهو مصدر، انتهى.
وهذا البيت من رجز أوله: عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دَوَلاَتِهَا * يُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِنْ لَمَّاتِهَا فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا * وَتَنْقَعَ الْغُلَّةَ مِنْ غُلاَّتِهَا وفيه شواهد: الأول علّ بفتح اللام وكسرها، استدل به البصريون على أن عل أصله عل واللام في أولها زائدة، وردوا على الكوفيين في زعمهم أنها أصلية، وقد ذكرنا ما يتعلق به في الحروف المشبهة بالفعل من شرح شواهد شرح الكافية.
الثاني: روى بجر " صروف " واستدل به على أن عَلَّ حرف جر، وقد تقدم الكلام عليه هناك.
الثالث: نصب المضارع بأن بعد الفاء في جواب الترجي وهو نصب " تستريح " قال الفراء عند تفسير قوله تعالى (لعلى أبلغ الاسباب أسباب السموات فأطلع) بالرفع يرده على قوله " أبلغ " ومن جعله جواباً للعلي نصبه، وقد قرأ به بعض القراء، قال: وأنشدني بعض العرب * عَلَّ صُرُوفُ الدَّهْرِ * إلى آخر الابيات الثلاثة الاول، وقال: فنصب على الجواب بلعل، وأنشده أيضاً في سورة " عَبَسَ " قال: قد اجتمع القراء على (فتنفعه الذكرى) بالرفع، ولو كان نصباً على جواب الفاء للعلَّ كان صواباً، أنشدني بعضهم * عَلَّ صروف الدهر * إلى آخر الأبيات الأربعة.
ولم يذكر قائل الرجز في الموضعين.

(4/129)


وتبع ابن مالك الفراء لوروده في النظم والكلام الفصيح، كما تقدم.
قال أبو حيان في الارتشاف: وذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن ينتصب الفعل بعد الفاء في جواب الرجاء، وزعموا أن لعل يكون استفهاماً، وذهب البصريون إلى منع ذلك، والترجي عندهم في حكم الواجب، قيل: والصحيح مذهب البصريين لوجوده نظماً ونثراً، ومنه قوله تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى) في قراءة عاصم، وهي (قراءة) من متواتر السبع، ويمكن تأويل النصب، انتهى.
وقد ذكر تأويله ابن هشام في الباب الرابع من المغنى، قال: وقيل في قراءة حفص (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطَّلِعَ) بالنصب: إنه عطف على معنى لعلي أبلغ، وهو لعلي أن أبلغ، فإنَّ خبر لَعَلِّي يقترن بأن كثيراً، نحو قوله عليه السلام: " فلعل بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعض " ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد: * وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي * ومع هذين الاحتمالين يندفع قول الكوفي: إن في هذه القراءة حجة على جواز النصب في جواب الترجي حملاً له على التمني، انتهى.
وقوله " عَلَّ صروف الدهر " جمع صَرْفٍ كَفَلْسٍ وفُلُوس، وهو الحادثة والنائبة المغيِّرة من حال إلى حال بالتصرف، وضمير " دولاتها " لصروف الدهر، والدَّوْلة: بفتح الدال وضمها، قال الأزهري: هي الانتقال من حال الضر والبؤس إلى حال الغبطة والسرور، وقال أبو عبيد: الدولة بالضم: اسم الشئ الذي يُتَدَاوَلَ به بعينه، والدَّوْلَةُ بالفتح: الفعل، وقيل: الدولة في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى، يقال: كانت لنا عليهم الدَّوْلَة، والدُّولة بالضم في المال، يقال: صار الفئ دُولَةً بينهم يتداولونه مرة لهذا ومرة لهذا

(4/130)


كذا في العباب، وقوله " يُدِلْننا " هو مضارع أداله مسند إلى النون ضمير الصروف، أو ضمير الدولات، ونا: مفعوله كما تقول من أقام: إن النِّساء يقمننا، قال صاحب العباب: الإدالة: الغلبة، يقال: اللهم أدِلْنِي على فلان وانصرني عليه، وتداولته الأيدي: أخذته هذه مرة وهذه مرة، وقوله تعالى (وَتِلْكَ الايام نداولها بين الناس) أي: نديرها، من دال: أي دار، انتهى: وقال ابن الأثير في النهاية: وفي حديث وفد ثفيف " نُدَال عليهم ويُدَالُون علينا " الإدالة: الغلبة، يقال: أديل لنا على أعدائنا: أي نصرنا عليهم، وكانت الدولة لنا، والدولة: الانتقال من حال الشدة إلى حال الرخاء، ومنه حديث أبي سفيان وهرقل " ندال عليه ويدال علينا " أي: نغلبه مرة ويغلبنا أخرى، ومنه حديث الحجاج " يوشك أن تُدَالَ الأرض منا " أي تجعل لها الكرة والدولة علينا فتأكل لحومنا كما نأكل ثمارها وتشرب دماءنا كما نشرب مياهها، انتهى كلامه.
فعرف من هذا كله أن الادالة متعدية إلى مفعول واحد صريحاً، وإلى الثاني بحرف جر، فضمير المتكلم مع الغير مفعوله وأما اللَّمَّة فمنصوبة على نزع الخافض: أي على اللمة، ولم يصب العيني في قوله: " واللمة مفعول ثان ليدلننا " انتهى.
واللَّمة بفتح اللام، قال الجوهري: هي الشدة، وأنشد هذا البيت.
وفي النهاية لابن الأثير: وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه " لابن آدم لَمَّتَان لَمَّة من الملك ولَمَّة من الشيطان " اللَّمة: الهمة والخطرة تقطع في القلب، أراد إلمام الملك أو الشيطان به والقرب منه، فما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان، انتهى وهذا المعنى أنسب، وروي في بعض الكتب " يدْلينَنا " بمثناة تحتية بعد اللام، وهو مضارع أدْلَى دَلْوَهُ في البئر إدْلاَء: أي أرسلها، وهذا لا مناسبة له، وهو تحريف من النساخ، وقوله " من لماتها " متعلق بمحذوف حال من اللمة، ويجوز أن يكون وصفاً لها لكون اللمة معرفة بلام الجنس فتكون قريبة من النكرة،

(4/131)


وقال العينى صفة للمة تقديره اللمة الكائنة من لماتها، هذا كلامه فتأمله (1) وقوله " فتستريح النفس " نصب تستريح بأن المقدرة بعد الفاء في جواب الرجاء، والنفس فاعل، واللام عوض عن الياء: أي نفسي، والزفرة، الاسم من زفر يزفر من باب ضرب زَفِيرا، والزفير: اغتراق النفس محركة بالشدة، وأنشد الجوهري هذا البيت هنا ونبه على أن تسكين الفاء ضرورة، وقوله " وتنقع الغلة " بالنصب معطوف على تستريح، والفاعل ضمير النفس، والغلة مفعولة، ونقع من باب نفع، في الصحاح: ونقع الماء العطش نقعاً ونُقُوعاً: أي سكنه، وفي المثل " الرشف أنقع " أي: أن الشراب يتشرف قليلا قليلا للعطش وأنجع وإن كان فيه بطء، والغلة بضم المعجمة وهي حرارة العطش.
وأنشد بعده أيضاً، وهو الشاهد السادس والستون (من الطويل) : 66 - * أخُو بيضات رائح متاوب * بلى أن بَيَضَاتٍ بفتح العين جاء على لغة هذيل، فإنهم يفتحون العين في جمع فعلة صحيحاً كان أو معتلاً.
وهذا صدر، وعجزه: * رفيقٌ بِمَسْحِ الْمُنْكِبَيْنِ سَبُوحُ * قال بعض فضلاء العجم في شراح أبيات المفصل: الرائح: الذي يسير، والمتأوب الذي يسير (2) ، يصف ظليماً، وهو ذكر النعامة، شبه به ناقته، فيقول: ناقتي في سرعة سيرها ظليم له بيضات يسير ليلاً ونهاراً ليصل إلى بيضاته رفيق يمسح المنكبين
__________
(1) هو صحيح لا غبار عليه، ولا ندرى كيف يلمز العينى في ذلك مع أنه يقرر جواز كون الجار والمجرور صفة للمحلي بأل الجنسية.
(2) كذا، ولعله " الرائح: الذى يسير نهار، والمتأوب: الذى يسير ليلا " (*)

(4/132)


عالم بتحريكهما في السير سبوح حسن الجري، وإنما جعله أخا بيضات ليدل على زيادة سرعته في السير لأنه موصوف بالسرعة، وإذا قصد بيضاته يكون أسرع، انتهى.
وهذا البيت لم أقف على تتمته ولا قائله، والله أعلم، وقد ذكرنا في شرحه ما أمكننا في الشاهد الثالث والتسعين بعد الخمسمائة من شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد الشارح المحقق، وهو الشاهد السابع والستون، وهو من شواهد سيبويه (من البسيط) : 67 - * في أقواس نَازَعَتْهَا أيْمُنٌ شُمُلاَ * على أن شُمُلا بضمتين جمع شمال بالكسر، قال سيبويه: وقالوا أذرع وذراع حيث كان مؤنثة ولا يجاوز بها هذا البناء، وإن عَنَوْا الأكثر كما فعل ذلك بالأكف والأرجل، وقالوا شِمال وأشمل وقد كسرت على الزيادة التي فيها فقالوا شَمَائِلَ كما قالوا في الرسالة رَسَائِلَ إذ كانت مؤنثة مثلها، وقالوا شمل فجاءوا بها على قياس جدد، وقال الأزرق العنبري: طِرْنَ انْقِطَاعَةَ أوْتَارِ مُحَظُرَبَةٍ * فِي أقْوُسٍ نَازَعَتْهَا أيْمُنٌ شُمُلاَ انتهى.
قال الأعلم: " الشاهد في جمعه شِمَالاً على شُمُلٍ تشبيهاً بِجِدَارٍ وجُدُر، لأن البناء واحد، والمستعمل أشْمَلُ في القليل، لأن الشمال مؤنثة، وشمائل في الكثير، وصف طيرا فشبه صوت طيرانها بسرعة بصوت أوتار انقطعت عند الجذب والنزع عن القوس، وأوقع التشبيه على الانقطاع لأنه سبب الصوت المشبه به، وأنث الانقطاع لتحديد المرة الواحدة منه، والمحظربة: المحكمة الفتل الشديدة، والأقوس: جمع قوس، وقوله نازعتها أيمن شملا أي جذبت هذه إلى ناحية وهذه إلى ناحية
أخرى لأن جاذب الوتر تخالف يمينه شماله في جذبها وتُنَازَعها " انتهى.

(4/133)


والحظربة بالحاء المهملة والظاء المعجمة - كالحضربة بالضاد المعجمة بدلها: شدة الفتل ووتر محظرب ومحضرب، كذا في العباب.
وقوله " نازعتها " الضمير المؤنث ضمير الأوتار، ونازع يتعدى إلى مفعول واحد، يقال: نازعه في كذا، فأيمن فاعله، وشُمَلاَ مفعوله، فتعديته إلى ضمير الأوتار من قبيل الحذف والإيصال، والتقدير نازعت اليمين شمالَهَا في جذب الأوتار: أي غالبت الأيمن الأشمل في جذبها ومدها، يقال: نزع الرجل في القوس أو الوتر، إذا مد أحدهما.
والأزرق العنبري لم أقف على ترجمته ولا على أصل شعره هذا، والله أعلم وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والستون (من الرجز) 68 - * حَتَّى رَمَى مَجْهُولَهُ بالأَجْنُنِ * على أن جمع جنين على أجنن شاذ، والجنين: الولد ما دام في بطن أمه، لأنه جُنَّ: أي ستر قال السخاوي في سفر السعادة: أجنن جمع جنين، ويروى قول رؤبة: - * إذا رمى مجهوله بالأجْبُنِ * بالباء على أنه جمع جبين، وبالنون على أنه جمع جنين، فمن رواه بالباء فمعناه ينظرون ما قدامهم من بُعد الطريق، ومن رواه بالنون فمعناه أنه يُسْقط الأجنة، وذكر الروايتين العبدي وعيزر، انتهى وعلى الروايتين الجمع شاذ، لأن كلاً من المفردين مذكر، والقياس في أفْعُل أن يكون جمع فعيل إذا كان مؤنثاً وهذا البيت من أرجوزة طويلة مدح بها بلال بن أبي بُرْدَةَ وذكر فيها قطع المفاوز والقفار حتى وصل إليه، قال: تَفْتَنُ طُولَ الْبَلَدِ الْمُفَنَّنِ * إذَا رَمَتْ مَجْهُولَهُ بالأَجُبُنِ
وَخَلَّطَتْ كُلُّ دِلاَث علجن * غوج البرج الآجُرِ الْمُلَبَّنِ

(4/134)


بَلَّغْنَ أقْوَالاً مَضَتْ لا تَنْثَنِي * أبْقَى وأمْضِي مِنْ حِدَادِ الأَذْأَنِ وصف إبله بشدة السير قال شارح ديوانه: قوله " تفتن " يقول: تشق هذا الطريق في عُرض البلد وقوله: " المفنن " وهو الذي على غير جهة واحدة، انتهى وقوله: " إذا رمت " هكذا رأيته في نسختين صحيحتين من ديوانه، وفاعل " رمت " ضمير الإبل، وضمير " مجهوله " للبلد، والطريق المجهول: الذي لا يسلكه أحد لعدم مائه ونباته، فلا يكون فيه علامة يستدل بها و " الأجبن " - بالجيم والموحدة - كذا رأيته، قال شارح ديوانه: هو جمع جبين، يقول: قد استقبلته ثم رمته بوجوهها، ومعناه على رواية " الأجنن " بالنون أن هذه النوق من شدة وخْدِهِنَّ وفرط جَهْدهنَّ يسقطن أجنتهن بمجهول هذا البلد، ففيه قلب، والأصل حتى رمت أجنتها بمجهوله، والدِّلاَثَ بالكسر -: هي اللَّيَّنة الأعطاف والْعَلْجَن: الناقة المكتنزة اللحم، والغوج - بفتح الغين المعجمة والجيم - اللَّيِّنة الصدر، قال شارحه: يقول: كأنها برج من آجر لبنٍ قد طبح، وقوله " بَلَّغْنَ " من التبليغ، وأبقى وأمضى أفعل تفضيل صفة لاقوال، وحِدَاد: جمع حديد بمعنى قاطع، قال شارحه: يقال: أزْأَنَ وَيَزْأَنَ وأزنِي وَيَزْنِي، منسوب إلى ذي يَزَن، و " بلغن " جواب إذا وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والستون (من الطويل) 69 - ... وَمَا لَوْمِي أخِي مِنْ شِمَالِيَا * على أن شمالاً بمعنى الطبع يكون واحداً وجمعاً، والمراد هنا الجمع: أي من شمائلي.
قال سيبويه: " وزعم أبو الخطاب أن بعضهم يجعل الشمال جمعاً " وقال السيرافي

(4/135)


" هو في هذا البيت جمع " وتبعه ابن جني، قال في سر الصناعة: " وقالوا أيضاً في جمع شمال، وهي الخليقة والطبع: شمال، قال عبد يغوث: * وما لومي أخي من شماليا * أي من شمائلي " انتهى.
وإنما قيدوا الشمال بمعنى الطبع للاحتراز عن الشمال بمعنى الريح المعروفة، فإنها لم يقل أحد إنها تكون جمعاً ومفرداً، وفي شينها الفتح والكسر، بخلاف معنى الطبع فإن شينها مكسورة لا غير، وإنما جعلوه هنا جمعاً لأجل من التبعيضية، كما يأتي في البيت الآتي وقد ذكر جمهور اللغويين أنه مفرد، وجمعه شمائل، قال (من الوافر) هم قَوْمِي وَقَدْ أنْكَرْتُ مِنْهُمْ * شَمَائِلَ بَدَّلُوهَا مِنْ شِمَالِي وأجاز أبو علي الفارسي في الإيضاح أن يكون ما في البيت مفرداً وجمعاً، وغلب الإفراد، قال أحد الشراح أبياته: ألا ترى أنه يسوغ أن يكون المعنى وما لومي أخي من طبعي، فلذلك لم يجعله نصافى الجمعية، والدليل على أنه قد يكون جمعاً قول لبيد رحمه الله: * هم قَوْمِي وَقَدْ أنْكَرْتُ مِنْهُمْ * - البيت ومثل شمال " عِصَام " حكى أبو زيد أنه يكون واحداً وجمعاً، والعصام: ما يُشَدُّ به الدلو والقربة، ومثلهما دلاص وهجان، تقول: ناقة هجان ونوق هجان، وردع دلاص وأدرع دلاص، إلا أن مجئ دلاص وهجان في حال الجمع على صيغة المفرد أحسن من مجئ شمال وعصام في حال الجمع على صيغة المفرد، على أنهما صفتان، وقيل: الصفة تكسر على فِعال،
نحو ظريف وظِرَاف، وفِعَال أحق بفعيل، ألا ترى أن كل واحد منهما ثلاثي

(4/136)


ثالثه حرف لين زائد فحسن تكسيره (تكسيرَهُ) لذلك، فأما قولهم رجل جُنُب ورجال جُنُب فليس من هذا الباب، وإن كان فُعُل من أبنية الجمع، بل من قبيل الوصف بالمصدر، لأنك تقول: رجلان جُنُب، فتصف به الاثنين، ولا تقول ناقتان هجان، ولا درعان دلاص، وكذلك ما كان من الأسماء واقعاً على الواحد والجمع، ولم يكن على وزن من أوزان الجموع، ليس من باب دِلاَص نحو حَشَم، تقول: هم حَشَم لي، وهذا الغلام حشم لي، وهذا أسَدٌ عِنَاش، ومن كلام عمرو بن معدي كرب يوم القادسية " يا معشر المسلمين، كونوا أسُداً عِنّاشاً " بل نعتقد في حشم أن يكون مفرداً، واسم جمع، وأما عِنَاش فالوصف به من قبيل الوصف بالمصدر، يقال: عانشة: أي عانقة، فتقول على هذا: هما أسدان عِنَاش وهذا المصراع من قصيدة طويلة لعبد يغوث الحارثي، وهو جاهلي، وقد شرحناها كاملة في الشاهد الخامس عشر بعد المائة من شرح شواهد شرح الكافية، وقبله: ألا لا تُلُومَانِي كَفَى اللَّوْمَ مَا بِيَا * فمَالَكُمَا فِي اللَّوْمِ خَيْرٌ وَلا لِيَا ألَمْ تَعْلَمَا أنَّ الْمَلاَمَةَ نَفْعُهَا * قَلِيلٌ وَمَا لَوْمِي أخِي مِنْ شماليا وقليل: ضد كثير، ويستعمل بمعنى النفي، وهو المراد هنا، بدليل قوله " فما لكما في اللوم خير ولا ليا " يقول: اللوم على الفائت قليل نفعه لا يُجْدِي إسماعه ولا سمعه شيئاً فلذلك طهرت منه شمالي وصنت عنه مقالي، والخطاب لمن أسره، وهو أبو عِصْمَةَ من تَيْم الرباب، وقوله " وما لومي إلخ " جملة معطوفة على أنَّ وصلتها، وساغ ذلك
لأنها مصدرة بما النافية، والجملة إذا كانت كذلك جاز تعليق فعل القلب الداخل

(4/137)


عليها ووقوعها موقع مفعوليه، كما أنَّ أنَّ وصلتها تقع موقعها، وقد يجوز أن تكون معطوفة على قوله في البيت قبله " فما لكما اللوم خير ولا ليا "، ويكون قوله " ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل " جملة اعترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا ينبغي أن تجعل معطوفة على قوله " ألم تعلما " لأن الجملتين ليستا لمقام واحد وأنشد بعده، وهو الشاهد السبعون (من الرجز) : 60 - دَعْهَا فَمَا النَّحْوِيُّ مِنْ صَدِيقِهَا * على أن صديقاً فيه جمع، لان من للتبعيض، ولا يصح أن يكون النحوي بعض صديق، بل يكون بعض الأصدقاء، كأنه قال: دعها فما النحوي من أصدقائها، كما تقول: دعني فما أنت من أشكالي، وفعيل من صيغ الجمع كالكليب والعبيد، ومثله قول قعنب ابن أم صاحب (من البسيطٍ) مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ ثُمَّ لَيْسَ لَهُمْ * دِيْنٌ وَلَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ إذَا اتُّمِنُوا وقول جرير: (من الطويل) دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا * بِأَعْيُنِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صَدِيقُ وحكى أبو حاتم عن أهل الحجاز أنهم يقولون: حدثني بعض صديقي والنحوي: العالم بصنعه الإعراب، والنحوي أيضاً: المنسوب إلى نَحْو، بطن من العرب، وهو نَحْو بن شمس بن عمرو بن غالب بن الأزد قال الصاغاني في العباب: قال ابن دريد: أخبرنا أبو عثمان عن التَّوَّزِيّ، قال: كان رؤبة يقعدُ بعد صلاة الجمعة في رَحْبة بني تميم فينشد، ويجتمع الناس إليه، فازحموا يوماً، فضيَّقوا الطريق، فأقبلت عجوز معها شئ تحمله، فقال رؤبة:
تَنَحَّ لِلْعَجُوزِ عَنْ طَرِيقِها * قدْ أقْبَلَتْ رَائِحَةً مِنْ سُوقِهَا

(4/138)


دَعْهَا فَمَا النَّحْوِيُّ مِنْ صَدِيقِهَا أي: من أصدقائها، انتهى وقال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي: ولعل المخاطب على هذه الحكاية رجل من نحو بن شمس، وقيل: إن المخاطب بقوله " دعها " يونس بن حبيب النحوي، وذلك أن رؤبة كان يسير ومعه أمه إذ لقيهما يونس، فجعل يداعب والدة رؤبة ويمنعها الطريق، فخاطبه رؤبة بهذه الأبيات، وقيل: هذا الشعر لامرأة من العرب خاطبت به أبا زيد الأنصاري، قال ابن الأنباري: مرت امرأة من العرب بأبي زيد النحوي وأصحابه، وقد منعوا الطريق، فلم يمكنها أن تجوز، فخاطبته بالأبيات: أي أن هؤلاء إنما لازموك لصداقتهم، وأنا لست كذلك، فدعني أسير وينبغي أن يجعل الألف واللام في " النحوي " للجنس، كأنه قال: ما هذا الجنس من صيدقها، لأنك إن لم تجعل أل كذلك لزم أن يكون الظاهر واقعاً موقع ضمير المخاطب في غير نداء ولا اختصاص، ألا ترى أنه يخاطب النحوي، فكان ينبغي أن يقول: فما أنت من صديقها وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والسبعون (من البسيط) 71 - إنَّ مِنَ القوم موجودا خليفته * وما خليف أبي وهب بِمَوْجُودِ على أن خليفاً قد ورد بمعنى خليفة، فيكون جمعُ خليف على خلفاء وجمع خليفة على خلائف قال أبو حاتم: إنه يقال خليف، وجمعه خلفاء، واستشهد له بهذا البيت، ولم يحفظ سيبويه ولا أبو عمرو خليفاً، بل جعلا خُلَفَاء تكسير خليفة من أجل أنه
لا يقع إلا على مذكر، فحمل على المعنى

(4/139)


قال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي: إن كان لم يثبت خليف بمعنى خليفة إلا في هذا البيت، وهو الأظهر، فلا حجة فيه، لأنه يحتمل أن يكون مما رخم في غير النداء، ضرورة نحو قوله (من الرجز) * لِيَوْم رَوْعٍ أو فَعَالِ مكرُمِ * يريد مكرمة، انتهى والبيت آخر أبيات خمسة لأوس بن حَجَر التميمي الجاهلي، وهي: يَا عَيْنُ جُودِي عَلَى عَمْرِو بنِ مَسْعُودِ * أهْلِ الْعَفَافِ وَأهْلِ الْحَزْمِ وَالْجُودِ أوْدَى رَبِيعُ الصَّعَالِيكَ الأَلَى انْتَجَعُوا * وَكُلُّ مَا فَوْقَهَا مِنْ صَالِحٍ مُودِ الْمُطْعِمُ الْحَيِّ والأَمْوَات إنْ نَزَلُوا * شَحْمَ السَّنَامِ مِنَ الْكُومِ الْمَقَاحيدِ وَالْوَاهِبِ الْمَائَةِ الْمَعكاء يَشْفَعُهَا يَوْمَ النِّضَالِ بِأُخْرَى غَيْرَ مَجْهُودِ إنَّ مِنَ الْقَوْمِ مَوْجُوداً خَلِيفَتُهُ البيت وعمرو بن مسعود: ابْنُ عدي الأسدي، وهو المقول فيه وفي خالد بن نضلة الأسدي (من الطويل) : ألاَ بَكَرَ النَّاعِي بِخَيْرَيْ بَنِي أسَدْ * بِعَمْرِو بُنِ مسعود وبالسيد الصَّمَدْ قال ابن هشام في السيرة: هما اللذان قتلهما النعمان بن المنذر اللخمي وبنى عليهما الْغَرِيَيْنِ بظهر الكوفة.
وقال القالي في الذيل: إن الذي قتلهما المنذر، ومن أجلهما اتخذ يوم البؤس ويوم النعيم.
وقال ابن السيرافى في شرح إصلاح المنطق: إن الذي قتلهما كسرى.
وأودى: هلك، واسم الفاعل مُودٍ، والصُّعْلُوك: الفقير، والكوم: جمع

(4/140)


كَوْمَاء، وهي الناقة السمينة، والمَقَاحيد: جمع مقحاد، وهى الناقة العظيمة السنام، والمعكاء - بكسر الميم والمد - الإبل الغِلاظ الشداد، والنِّضَال: المحاربة بالسهام.
قال ابن حبيب: العرب تقول: فلان خليفة فلان، إذا قام مقامه وفعل فعله، وإن لم يستخلفه، وأنشد هذه الأبيات، وأبو وهب: كنية عمرو بن مسعود، يقول الشاعر: إذا مات أحد خلفه من يقوم مقامه ويفعل مثل فعله، إلا أبا وهب، فإنه لم يخلفه أحد في وجوه وشجاعته.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والسبعون (من الرجز) : 72 - * أخَذْتِ خَاتَامِي بِغَيْرِ حَقٍّ * على أن خاتا ما لغة في خاتم، وعليه جاء في الجمع خواتيم.
وقال المبرد في الكامل: فَاعَالٌ نظيره من الكلام سَابَاطٌ وَخَاتَامٌ، قال الراجز (من الرجز) : يَا مَيُّ ذَاتَ الْجَوْرَبِ الْمُنْشَقِّ * أخَذْتِ خَاتَامِي بِغَيْرِ حَقِّ انتهى وقال أبو الحسن الأخفش فيما كتبه عليه: " يقال خَاتَم بفتح التاء وكسرها، وخَيْتَام على وزن دَيَّار، وخاتام على وزن سَابَاط " انتهى.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والسبعون (من الوافر) : 73 - * وَمِثْلِي في غَوَائِبِكُمْ قَلِيلُ * على أنه جمع غائب، وهو جمع شاذ قال الشاطبي في شرح الألفية: ذكر السيرافي أنه وجد غير ذلك، قال عتيبة بن الحارث لجزء بن سعد (من الوافر) :
أُحَامِي عَنْ ذِمَارِ بَنِي أبيكمْ * وَمِثْلِي في غَوَائِبِكُمْ قَليلُ

(4/141)


فقال جَزْءْ: نعم، وفي شواهدنا، قال: وهذا جمع غائب وشاهد من الناس، انتهى.
وأحامي: من الحماية: وهى الحظ، والذمار: بكسر الذال المعجمة، قال صاحب الصحاح: وقولهم " فلان حامي الذمار " إي إذا ذُمِّر (1) وغَضِبَ حمى، و " فلان أمنع ذماراً من فلان " ويقال: الذمار: ما وراء الرجل مما يحقُّ عليه أن يحميه، لأنهم قالوا: حامي الذمار، كما قالوا: حامي الحقيقة، وسمي ذماراً لأنه يجب على أهله التذمر له، وسميت حقيقة لأنه يحق على أهلها الدفع عنها، " وظل يتذمر على فلان " إذا تنكر له وأوعده.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والسبعون (من الكامل) : 74 - وَإذَا الرِّجَالُ رَأوْا يَزِيدَ رَأيْتَهُمْ * خُضُعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الأَبْصَارِ على أن جمع ناكس على نواكس مما هو وصف غالب أصل، وأنه في الشعر شائع حسن، قاله المبرد.
أقول: الذي قاله المبرد في الكامل بعد إنشاد هذا البيت إنما هو " وفي هذا البيت شئ يستطرفه النحويون، وهو أنهم لا يجمعون ما كان من فاعل نعتاً على فَوَاعِل، لئلا يلتبس بالمؤنث، لا يقولون: ضَارِب وضوارب، لأنهم قالوا: ضاربة وضوارب، ولم يأت هذا إلا في حرفين: أحدهما فوارس، لأن هذا مما لا يستعمل في النساء، فأمنوا الالتباس، ويقولون في المثل " هو هالك في الهوالك " فأجروه على أصله لكثرة الاستعمال، لأنه مثل، فلما احتاج الفرزدق لضرورة الشعر إجراه على أصله، فقال " نَوَاكس الأبصار " ولا يكون
__________
(1) أي: استثير (*)

(4/142)


مثل هذا أبداً إلا ضرورة، انتهى كلامه، فتأمله مع ما نقلوه عنه، وقد ذكرنا في الشاهد الثلاثين من شواهد شرح الكافية أن ما جمع من هذا النمط إحدى عشرة كلمة (1) ، وقد ذكرنا هناك - مما يتعلق بشرح البيت مستوفى، وشرح القصيدة، وذكر سببها، مع ترجمة يزيد والفرزدق - ما فيه كفاية، ويزيد هو يزيد بن الْمُهَلَّب بن أبي صفرة أحد الشجعان والكرماء، كان والياً على خُراسان من قبل بني أمية.
وأنشد بعده (من الهزج) : لَقَدْ أغْدُو عَلَى أشْقَرَ يَغْتَالُ الصَّحَارِيا وتقدم شرحه في الشاهد الواحد والأربعين من هذا الكتاب.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والسبعون (من الوافر) : 75 - * فَمَا وَجَدَتْ بَنَاتُ بَنِي نِزَارٍ * حَلاَئِلَ أسْوَدِينَ وَأَحْمَريْنَا على أنه جمع أسود وأحمر جمع تصحيح لضرورة الشعر.
وحلائل: مفعول وجدت، وهو جمع حليل، وهو زوج المرأة.
والبيت من قصيدة لحكيم الأعور هجا بها قبائل مُضَر، وتقدم الكلام عليه في الشاهد الرابع والعشرين من أوائل شرح شواهد شرح الكافية
__________
(1) ذكرنا هذه الكلمات في شرحنا على الشافية عند الكلام على هذا البيت (ج 2 ص 154) (*)

(4/143)


وأنشد الجاربردي هنا، وهو الشاهد السادس والسبعون (من الطويل) :
76 - أتَانِي وَعِيدُ الْحُوصِ مِنْ آلِ جَعْفَرٍ فَيَا عَبْدَ عَمْرٍو لَوْ نَهَيْتَ الأَحَاوِصا على أن الأحوص بالنظر إلى كونه في الأصل وصفاً جمع على الحوص، وبالنظر إلى الاسمية جمع على أحَاوص والبيت من قصيدة للأعشى ميمون هجا بها عَلْقَمَة بن عُلاَثَةَ الصحابي، وأراد بالحوص والأحاوص أولاد الأحوص بن جعفر، وهم: عوف بن الأحوص، وعمرو بن الأحوص، وشُرَيح بن الاحوص، وربيعة بن الأحوص والأحوص: اسمه ربيعة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وسمي الأحوص لضيق كان في عينه، قال صاحب الصحاح: والْحَوَص بمهملتين مفتوحتين: ضيق في مؤخر العين، والرجل أحوص وعلقمة هو عَلْقَمَة بن عُلاَثة بن عوف بن الأحوص المذكور، وعبد عمرو وهو ابن شريح بن الأحوص، فهو ابن عم علقمة وكان سبب هجو الأعشى أن علقمة كان تهدده بالقتل، وقد شرحناه بقدر الكافية في الشاهد السادس والعشرين من شواهد الكافية وأنشد بعده (من الرجز) * مَا بَالُ عيني كالشعيب العين * وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والعشرين من هذا الكتاب وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والسبعون (من الطويل) 77 - * جَنَى النَّحْلِ فِي ألْبَانِ عُوذٍ مَطَافِلِ * على أن العرب جَوَّزُوا في جمع مُفْعِل المؤنث زيادة الياء وتركها، وعلى الترك

(4/144)


جاء مطافل، فإنه جمع مُطْفِل: أي امرأة ذات طفل، وجاء المطافيل أيضاً في جمعه
بزيادة الياء في بيت بعده، فإن المصراع من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي، وهذان بيتان منا في التعزل: وَإن حَدِيثاً مِنْكِ لَوْ تَبْذُلِينَهُ * جَنَى النَّحْلِ فِي ألْبَانِ عُوذٍ مَطَافِلِ مَطَافِيلَ أبْكَارٌ حَدِيثٌ نَتَاجُهَا * تُشَابُ بِمَاءٍ مِثْلِ مَاءِ الْمَفَاصِلِ يقول: إن حلاوة حديثك لو تفضلت به حلاوةُ العسل مَشُوباً باللبن والجني: أصله الثمر المجتَنَى، فاستعاره، والعوذ: الحديثات النِّتاج، واحدها عائذ - بالعين المهملة والذال المعجمة - قال السكري في شرح أشعار الهذليين: " ألبان العوذ أطيب، لأنها إذا عتقَ لبنها تغير، يقول: حديثك كأنه العسل ممزوجاً بألبان الإبل، وقال الإمام المرزوقي في شرحه: مطافل جمع مُطْفِل وهي التي معها طفلها، وإنما انكر قوله حديثاً منك ليبين أن موقع كلامها منه على كل وجه ذلك الموقع، ودل بقوله لو تبذلينه على تمنعها وتعذر ذلك من جهتها " انتهى.
وقال ابن هشام في شرح بانت سعاد: " العوذ: جمع عائذ، وهي القريبة العهد بالنتاج من الظباء والإبل والخيل، فإذا تجاوزت عشرة أيام من يوم نتاجها أو خمسة عشر فهي مطفل، وسميت بذلك لأن معها طفلها، وجمعها مطافل، والمطافيل بالياء إشباع " انتهى.
وقال شارح ديوان الأعشى: " العوذ: الحديثات العهد بالنِّتاج قبل أن توفي خمس عشرة ليلة، ثم هي مطفل بعده " وقال ابن خلف: " هي الحديثة العهد بالنِّتاج كان معها ولدٌ أو لم يكن، وهو جمع عائذ، وهو جمع غريب، ونظيره حائل وحُوْل، وفارِه وفُرْه "، وقال الأعلم: " وسميت عائذاً لأن ولدها يعوذ بها لصغره، وبني على فاعل لأنه على نية النسب، لا على ما يوجب التصريف، كما قالوا عيشة راضية " انتهى.
والبكر

(4/145)


- بالكسر - التي ولدت بطناً واحداً، وخصها لأن لبنها أطيب الألبان، والحديث: نقيض القديم، والنِّتاج: اسم يجمع وضع جميع البهائم، وقد خصَّ بعضهم الغنم بالولادة، ويُشَاب: يخلط، والمفاصل: الحجارة الصلبة المتراصفة، وقيل ما بين الجبلين، وقيل: منفصل الجبل من الرمة يكون بينهما رضراض وحصى صغار يصفو ماؤه، وروي عن الأصمعي، وقيل: ماء المفاصل هنا شئ يسيل من المفصلين إذا قطع أحدهما من الآخر، شبيه بالماء الصافي، قال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي: " شبه ما بخلت به من حديثها بعسل مجعول في ألبان هذه النوق ممزوجاً بماء شبيه في الرقة والصفاء بماء المفاصل، واختار ابن يَسْعَوْنَ أن يراد بالمفاصل في البيت الحجارة المتراصفة في بطن المسيل لصفاء مائه وبرده، قال: ويؤيده قول ذي الرمة (من الطويل) : وَنِلْتُ سِقاطاً مِنْ حَدِيثٍ كأنَّهُ * جنى النخل مَمْزُوجاً بِمَاءِ الْوَقَائِعِ لأن الوقائع جمع وقية، وهى منقع ماء في الجبل، وأن يرا بماء المفاصل في البيت ما يسيل من بين المفصلين إذا قطع أحدهما من الآخر أحق وأخلق، ويكون قد شبّه الماء في صفائه ورقته بماء المفاصل، إذ لو أراد المعنى الأول لكان الوجه أن يجعله مشوباً بماء المفاصل لا بمثله، لأن ما يشبَّه من المياه بماء المفاصل دونه في الصفاء والرقة، فلما قال " بماء مثل ماء المفاصل " دل على أن المراد ما ذكرته، وقد قيل في قول الشاعر (من الطويل) : * عُقَارٌ كماء النئ ليست بخمطة * إنه شبه الخمر نماء النئ في الصفاء، وقيل: في الْحُمْرَة، فيكون على أحد القولين مثل قول أبي ذؤيب الهذلي " إلى هنا كلام شارح أبيات الإيضاح، وقوله " مطافيل أبكار ... إلخ " قال الإمام المرزوقي: " مطافيل بدل من قوله عوذ مطافل، وأشبع الكسرة في الفاء للزومها، فحدثت الياء، والأبكار: التي

(4/146)


وضعت بطناً واحداً، لأن ذلك أول نتاجها: فهى أبكار، وأولادها أبكار، وعلى هذا قالوا: باكورة الربيع، ولبنها أطيب وأشهى، فلذلك خصه وجعله مزاجاً وقوله تُشَاب في موضع الصفة لالبان عوذ: أي مشوبة بماء متناهٍ في الصفاء، وقيل في المفاصل: إنها المواضع التي ينفصل فيها السيل من الجبل حيث يكون الرضراض، فينقطع الماء به ويصفو إذا جرى فيه، وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو، واعترض عليه فقيل: هلا قال " بماء من مياه المفاصل " وما له يشبه به ولا يجعله منه؟ فقيل: هذا كما يقال: مثل فلان لا يفعل كذا، والمراد أنه في نفسه لا يفعل، لا أنه أثبت له مثل ينتفي ذلك عنه، ألا ترى أنه لو جعل ذلك لنظيره لكان المدح لا يعلق به، وقد عُلم أن القصد إلى مدحه، وعلى هذا قد حمل قوله تعالى: (ليس كمثله شئ) وقال أبو نصر: أراد بالمفاصل مفاصل الجبل حيث يقطر الوَشْلُ، وذلك أصفى من مياه المناقع والعيون، وقال بعضهم: أراد تشاب بماء كالدمع صفاء، فالمفاصل شئون الرأس، وهي تسمى مفاصل ومواصل، والدمع منها يخرج، وهذا كما يقال: جئتك بخمرة كماء العين وأصفى من الدمع، فالتشبيه حاصل في هذا الوجه، وهو عندي حسن والمراد بماء العين الدمع لا غير، وقال أبو سعيد: ماء المفاصل الدم، وأراد بالماء الخمر، وشبَّهها به، وقال ابن الأعرابي: ماء المفاصل ماء اللحم النئ، شبَّه حمرته بحمرته، وعِهْدَة هذين القولين عليهما دوني " هذا كلام المروزقى، وحديث: بمعنى حادث، والنتاج: الولادة، وتُشَاب: من الشَّوْب وهو الخَلْط والُمَزْجُ، والمفاصل: جمع مَفْصِل - بفتح الأول وكسر الثالث.
وأبو ذؤيب الهذلي شاعر مخضرم إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين من شرح شواهد شرح الكافية

(4/147)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والسبعون (من الطويل) : 78 - * مَعَ الصُّبْحِ رَكْبٌ مِنْ أُحَاظَةَ مُجْفِلُ * على أن ركباً لفظه مفرد، بدليل عود الضمير إليه من صفته مفرداً، وهو مُجْفِلٌ.
وهذا المصراع عجز، وصدره: * فَعَبَّتْ غِشَاشاً ثُمَّ مرت كأنها * وهو بيت منن أبيات لامية العرب للشَّنْفَرَى، في وصف قطا وَرَدَتْ ماء وأنه سبقها إليه فشربت فضْلَتَهُ.
وقوله " فعبت غشاشاً - إلخ " العب: شرب الماء بلا مَصّ، قال ثعلب: عَبَّ يعب، إذا شَرِب الماء فصبه في الحلق صبا، وفاعل " عَبَّتْ " ضمير القطا، و " غِشَاشاً " بكسر الغين المعجمة بعدها شينان معجمتان - قال بعض أهل اللغة: معناه على عجلة، وقال بعض آخر: أي قليلاً أو غير مرئ، يقول: وردت القطا على عجل ثم صدرت في بقايا من ظلمة الفجر، وهذا يلد على قوة سرعتها، وقوله " من أحاظة " متعلق بمحذوف على أنه صفة لركب، وأحاظة - بضم الهمزة بعدها حاء مهملة وظاء مشالة معجمة - قبيلة من الأزد في اليمن، ومجفل: صفة ثانية لركب، وهو بالجيم اسم فاعل من أجفل بمعنى أسرع، و " الركب " قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: أصحاب الإبل، وهم العشرة ونحو ذلك، قال شارحه ابن ابن السَّيِّد: هذا الذي قاله ابن قتيبة قاله غير واحد، وحكى يعقوب عن عمارة ابن عقيل قال: لا أقول راكب إلا لراكب البعير خاصة، وأقول: فارس وبَغَّال وحَمَّار، ويقوي هذا الذي قاله قول قُرَيْطٍ العنبري (من البسيط) : فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْماً إذَا رَكِبُوا * شَنُّوا الإغَارَةَ فُرْسَاناً ورُكْبَانَا
والقياس يوجب أن هذا غلط، والسماع يعضد ذلك، ولو قالوا إن هذا هو

(4/148)


الأكثر في الاستعمال لكان له وجه، وأما القطع على أنه لا يقال راكب ولا ركب إلا لاصحاب الابل خاصة فغير صحيح، لأنه لا خلاف بين اللغويين في أنه يقال: ركبت الفرس، وركبت البغل، وركبت الحمار، واسم الفاعل من ذلك راكب، وإذا كثرت الفعل قلت: رَكَّاب ورَكُوب، وقد قال تعالى: (والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وزينة) فأوقع الركوب على الجميع، وقال امرؤ القيس (من المتقارب) : * إذَا ركبوا الخيل واستلاموا * وقال زيد الخيل (من الطويل) : * وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ فِينَا فَوَارِسُ * وهذا كثير في الشعر وغيره، وقد قال تعالى: (فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) وهذا اللفظ لا يدل على تخصيص شئ بشئ، بل اقترانه بقوله (فَرِجَالاً) يدل على أنه يقع على كل ما يقع على الأرض، ونحوه قول الراجز (من الرجز) : بَنيْتَه بِعْصْبَةٍ من ماليا * أخشى ركيبا أو رُجَيْلاً عَادِياً فجعل الرَّكْب ضد الرَّجْل، وضد الرَّجْل يدخل فيه راكب الفرس وراكب الحمار وغيرهما، وقول ابن قتيبة أيضاً " إن الركب العشرة ونحو ذلك " غَلَطٌ آخر، لأن الله تعالى قال: (والركب أسفل منكم) يعنى مشركي قريش يوم بدر، وكانوا تسعمائة وبضعا وخمسين، والذى قال يعقوب في الركب هم العشرة فما فوقها، وهذا صحيح، وأظن أن ابن قتيبة أراد ذلك فغلط في النقل، انتهى كلام ابن السيد وقد تكلمنا على هذا البيت بأبسط من هذا في الشاهد السابع والخمسين بعد
الخمسمائة من شرح شواهد شرح الكافية

(4/149)


وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والسبعون (من الرجز) 79 - * أخْشَى رُكَيْباً أوْ رُجَيْلاً عَادِياً * على أن رَكْباً اسم جمع، ولفظه مفرد، بدليل تصغيره على لفظه كما تصغر المفردات، قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " جميع ما كان اسماً للجمع تحقِّره على لفظه، أخبرنا أبو علي أن أبا عثمان أنشده (من الرجز) بَنيْتَه بِعْصْبَةٍ مِنْ مَالِيا * أخْشَى رُكَيْباً أوْ رُجَيْلاً عَادِيَا فهذان تحقير رَكْب ورَجْل، وهما اسمان للجمع بمنزلة ركَّاب ورَجَّالة، وكان أبو الحسن يقول في تحقير ركب: رُوَيْكِبُون: لأنه جمع كسر عليه راكب، وقولهم " رُكيْب " يدل على خلاف مذهبه، وهو قول سيبويه، وهو الصواب انتهى.
والشعر لا حيحة بنُ الْجُلاَح، وهو هكذا: بَنَيْتُ بَعْدَ مُسْتَظَلّ ضاحيا * بَنَيْتُهُ بِعْصْبَةٍ مِنْ مَالِيَا وَالشَّرُّ مِمَّا يَتْبَعُ الْقَوَاضِيَا * أخْشَى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً عَادِيا وأنشد صاحب الكشاف البيت الأخير عند تفسير قوله تعالى: (حرسا شديدا) من سورة الجن، على أن الحرس) اسم مفرد بمعنى الْحُرَّاس كالْخَدَم بمعنى الْخُدَّام وكالرَّجْل والرَّكْب في البيت فإنهما بمعنى الرجالة والرُّكَّاب وقال شارح أبيات التفسيرين خضر الموصلي: هذا البيت كأنه في وصف حِصْنٍ بناه ليمنعه من الحوادث لم أطلع له على خبر، انتهى أقول: أورد خبره الأصفهاني في الأغاني، قال: كان لأحيحة بن الْجُلاَح أُطُمان أُطُمٌ في قومه يقال له المستظل، وهو الذي تحصَّن فيه حين قاتل تُبَّعاً أبا كرب
الحميري، وأطمه الضَّحْيَان بالعُصْبة في أرضه التي يقال لها الغيابة، بناه بحجارة سود بني عليه مَنَارَة بيضاء مثل الْقَصَّة، ثم جعل عليها مثلها، يراها الراكب من مسيرة،

(4/150)


وكانت الآطام عِزَّهُمْ وحصونهم يتحرَّزونَ فيها من عدوهم، ويزعمون أنه لما بناه هو وغلام له أشرف ثم قال: لقد بنيت حصناً حصيناً ما بنى مثله رجل من العرب أمنع منه، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع لوقع جميعاً، فقال غلامه: أنا أعرفه، قال: فأرنيه يا بني، قال: هو هذا، وصرف إليه رأسه، فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات، حتى لا يعرف ذلك الحجر أحد، ولما بناه قال: * بَنَيْتُ بَعْدَ مُسْتَظَلّ ضَاحِيَا * الأبيات الأربعة قال: وكان أحيحة سَيِّد قومه الأوس، وكان رجلاً صَنَعاً للمال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم، وكانت له تسع وتسعون بئراً كلها يُنْضح عليها، انتهى.
قال الزمخشري في كتاب الأمكنة: عَصْبة: موضع بقباء، وأنشد الشعر المذكور، انتهى.
وقال السمهودي في تاريخ المدينة المنورة: أطم يقال له مستظل عند بئر غرس كان لأحيحة ثم صار لبني عبد المنذر، انتهى.
وقال صاحب الصحاح: والاطم (مثل الأجم (1)) يخفف ويثقل، والجمع آطام، وهي حصون لأهل المدينة، والواحدة أطَمَةٌ بفتحات، انتهى.
و" المستظل " معناه موضع الاستظلال، و " الضَّحْيان " بمعنى الضاحي، وهو البارز غير المستتر، وكأنه سَمَّاه بهما، ولما لم يستقم له في الشعر الضَّحْيَان جاء بالآخر موضعه، وعَصْبَة بفتح العين وسكون الصاد المهملتين فباء موحدة،
وليس لهذه الكلمات ذكر في معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري، ولا في
__________
(1) سقطت هذه الكلمة من بعض النسخ، وهى ثابتة في بعض (*)

(4/151)


في الصحاح، ولما لم يقف ابن بري على هذا النقل ظن أن العصبة الرجال، فقال في شرح أبيات الإيضاح للفارسي: العصبة من الرجال نحو العشرة، واستعارها للجزء من المال، وعلى هذا تكون من صفةً للعصبة متعلقة بمحذوف، ويجوز أن يريد بالعصبة الرجال ومِنْ متعلقة ببنيته: أي بنيته من مالي بعصبة، والباء متعلقة بمحذوف: أي مستعيناً بعصبة، ويروى " غاديا " بالغين المعجمة من الاغتداء، هذا كلامه.
وقوله " والشر " هو ضد الخير، أراد أن الشر يتبع الأمور المقضية المحتمة وقوله " أخشى ركيباً - إلخ " صغر الرَّكْب والرَّجْل للتقليل، وإذا كان يخشاهما مع قلتهما فخشيته مع كثرتهما من باب أولى، والركب: اسم جمع راكب، وقال صاحب المصباح: وراكب الدابة جمعه ركب كصاحب وصحب، وكذا قال في الرَّجْل، قال: الراجل: خلاف الفارس، وجمعه رَجْل، مثل صاحب وصحب، وكان ينبغي أن يقول: والراجل خلاف الراكب، و " عاديا " صفة رجيْلاً، وصفة " ركيباً " محذوفة لدلالة الثاني عليه، وهو من عدا عليه يعدو عَدْوا وعُدْوَاناً وعَدَاء، بالفتح والمد، إذا ظلم وتجاوز الحد.
وأحيحة بن الْجُلاَح جاهلي، وأُحَيْحَة بضم الهمزة وفتح الحاءين المهملتين بينهما ياء تصغير، والجُلاَح - بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره حَاء مهملة - وقد ذكرنا نسبة وترجمته في شرح الشاهد السابع والعشرين بعد المائتين من شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثمانون (من الرجز) :
80 - * وَفَاضِحٍ مُفْتَضِحٍ في أرهطه * على أن الا رهط مفرد الأراهط، والأرْهط جمع رهط - بفتح فسكون - قال

(4/152)


الصاغاني في العُباب: رَهْط الرجل: قومه وقبيلته، يقال: هم رهطه دِنْيَةً، والرهط: ما دون العشرة من الرجال لا تكون فيهم امرأة، وليس له واحد من لفظه، مثل ذَوْدٍ، وقال بعضهم: الرَّهْط عند العرب: عدد يجمع من سبعة إلى عشرة، قال ابن دريد: وربما جاوز ذلك قليلاً، وما دون السبعة إلى الثلاثة النفر، وقد يحرك فيقال: الرَّهْط، والجمع أرهط، وأنشد الأصمعي: * وَفَاضِحٍ مُفْتَضِحٍ فِي أرْهُطِهْ * انتهى.
وقد ورد رجز رؤبة بن العجاج أيضاً، قال (من الرجز) : * وَهْوَ الذَّلِيْلُ نَفَراً فِي أَرْهُطِهْ * وبهذا يرد على أبى على الفارسي في زعمه أن اسم الجمع كرَكْب ورَجْل ورَهْط وطَيْر لا يجمع جمع قلة، وقد قالوا أيضاً: قوم وأقوام، قال في المسائل البغدادية: حكى سيبويه أطيار، وحمله على أنه جمع طائر، مثل صاحب وأصحاب، وشَاهِدٍ وأشهاد، وفَلُو وأفلاء، لأن فَلوًّا مثل فاعل في الزيادة والزنة (1) ، فإن قال قائل: هلا حمله على أنه جمع طَيْر؟ قيل له: لا يكون عنده إلا جمع طائر، لأن طائراً زعم أنه جمع على طير مثل تَاجر وَتَجْر، وإذا كان مثل تَجْر ورَكْب لم يجز جمعه، ألا ترى أنه لم نجز ذلك (2) في جمع الجمع؟ ويمتنع جمع هذا أيضاً من جهة القياس، لأن تَجْراً وبابه يراد به الكثرة، فحكمه إذا جمع أن يراد به التكثير، وأفْعَال لا يراد به الكثرة، بل خلافها، فإن قيل: فهلا جاز جمعه على أفْعَال كما جاز إبِلاَنِ؟ قيل له: هذا قليل لا يقاس عليه، فإن
قيل: فهلا جاز تكسيره كما جاز تحقيره؟ حكى سيبويه رَجْلٌ ورُجَيْلٌ، وكما
__________
(1) يريد في عدد الحروف دون الحركات (2) في نسخة " لم نجز جواز ذلك " (*)

(4/153)


قرأت على أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان قال: أنشدني الأصمعي لأحَيْحة بن الْجُلاَح: * أخْشَى رُكَيْباً أوْ رُجَيْلاً عَادِيُا * قيل: لا ينبغي أن يجوز التكسير من حيث جاز التصغير، وذاك أن هذا الاسم على بناء الآحاد، والمراد به الكثرة، فلو كسر كما صغر لكان في ذلك إجراؤه مجرى الآحاد وإزالته عما وضع له من الدلالة على الكثرة، إذ كان يكون في ذلك مساواته له من جهة البناء والتكسير والتحقير والحديث عنه كالحديث عن الآحاد، نحو ما أنشده أبو الحسن (من الطويل) : * لَهُمْ جَامِلٌ لا يهدأ اللَّيْلَ سَامِرُهْ * وهذا كل جهاته أو عامته، فيجب إذا صغر أن لا يكسر فيكون بتولد تكسيره منفصلاً مما يراد به الآحاد دون الكثرة، ومتميزا بها منها، على أن ركيباً في البيت يجوز أن يكون محقراً على حذف الزيادة كباب أزْهَر وزُهَير، فإن قال قائل: أليس أشياء من باب رَكْب وتَجْرٍ وجَامِلٍ، وقد حدثكم أبو بكر عن أبى عباس قال علماؤنا عن الأصمعي قال: وقف أعرابي على خلف الأحمر، فقال: إن عندك لأشَاوَى، فكسر أشياء على أشَاوى، فما أنكرت أن يجوز جمع طير وبابه؟ قيل له: هذا أشبه، لأنه مكسر على بناء يكون للكثير، وأطيار للقليل، وهذا ردئ لخروجه إلى حيز الآحاد، وهذه حكاية نادرة، لا يجب
القياس عليها فإن قيل: أليس ضأن من هذا الباب لأنه جمع ضائِن، كما أن طيْراً جمع طائر، فقد قيل: ضأن وضئين، كما قالوا: عبد وعبيد، وكلب وكليب، فما أنكرت

(4/154)


أن يجوز تكسير طير وركب وبابه كما جاز تكسير ضأن إذ هو مثله؟ قيل له: ليس ضئين عندنا جمع ضأن، إنما هو جمع ضائن، وليس ضائن بجمع، إنما هو واحد، ألا تراهم قالوا: ضائنة، فأنثوا، وقالوا: ضوائن، فكسروا، ولو كان جمعاً لم يكسر كما لا يكسر ركب وجامل ونحوه، هذا كلام أبي علي وقول الشاعر " وفاضح مفتضح - إلخ " الفضيحة: العيب، وفَضَحه فَضْحاً من باب نفع، كشف عيبه، فتقديره: وكاشف عيب رهطه ومُنْكَشِفٍ عيبُه في رَهْطِهِ وهذا البيت لم أقف على قائله، ولا عَلَى تتمته، والله أعلم وأنشد بعده (من السريع) : * فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا وَكُلِّ لَيلاَهْ * وتقدم شرحه في الشاهد الثامن والأربعين وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادي والثمانون (من الرجز) : 81 * بِأَعْيُنَاتٍ لَمْ يُخَالِطْهَا الْقَذَى * على أنه يجوز في الشعر أن يجمع الجمع كما هنا، فإنَّ أعْيُناً جمع عَيْن، وقد جمع بالألف والتاء والقذى: ما يسقط في العين أو في الشراب، وَقَذِيَتْ عينه تَقْذَى قَذًى، إذا سقطت في عينه قَذَاه، وقَذَتْ عينه تَقذِي قَذْياً: أخرجت القذى، وَأَقْذَيْت عينه: رميت فيها القذى، وقذيتها تقذية: إذا أخرجت منها القذى

(4/155)


التقاء الساكنين أنشد فيه، وهو الشاهد الثاني والثمانون (من الرجز) : 82 - أقْبَلْتُ مِنْ عِنْدِ زِيَادٍ كَالْخَرِفْ * تَخُطُّ رِجْلاَيَ بخط مختلف * تكثبان في الطريق لام الف * على أن الشاعر نقل فتحة همزة ألف إلى ميم لام وأورده الشارح المحقق في شرح الكافية على أن مقصوده اللام والهمزة، لا صورة " لا "، فيكون معناه أنه تارة يمشى مستقيما فتخط رجلاه خطا شبيها بالالف، وتارة يمشى معوجا فتخط رجلاه خطا شبيها باللام وقد تقدم الكلام عليه هناك في شرح الشاهد السابع من أوله بمالا مزيد عليه وهذه الابيات الثلاثة لابي النجم، وهو راجز إسلامى، قال الصولى: كان لابي النجم العجلى صديق يسقيه الشراب فينصرف من عنده ثملا، وأنشد له هذه الابيات.
والخرف - بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء - صفة مشبهة من خرف الرجل خرفا من باب تعب، إذ افسد عقله لكبره، وخط على الارض خطا: أعلم علامة، و " كتب " بالتخفيف والتثقيل، وتثقيله هنا لتكثير الفعل.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والثمانون (من المتقارب) : 83 - لها متنتان خطاتا كَمَا * أكَبَّ عَلَى سَاعِدَيْهِ النَّمِرْ على أن بعضهم جوز رَدَّ الالف مستشهدا بخظاتا، فإنه يقال: خظا يخظو، إذا تحرك، وكان من حقه أن يقول: خضتا، كما يقال: غزتا، تثنية غزت، إلا أنه رد الالف التى كانت سقطت لاجتماع الساكنين في الواحد، ولما تحركت

(4/156)


تاء التأنيث لاجل ألف التثنية رجعت الالف المحذوفة للساكنين، وهذا قول الكسائي.
وقال الفراء: أراد " خضاتان "، فهو مثنى حذفت نونه للضرورة، كما قال أبو داود (من الهزج) : ومتناه خطاتان * كز حلوف من الهضب قال ابن قتيبة في أبيات المعاني: يقال: لحمه خظا بظا، إذا كان كثير اللحم صلبه، والزحلوف: الحجر الاملس، وقال امرؤ القيس: * لها متنتان خظاتا * - إلخ ويقال: هو خاظى البضيع، إذا كان كثير اللحم مكتنزه، وقوله " خظاتا " فيه قولان: أحدهما أنه أراد خظاتان كما قال أبو دواد، فحذفت نون الاثنين، يقال: متن خظاة ومتنه خظاة، والاخر أنه أراد خظتا: أي ارتفعتا، فاضطر فزاد ألفا، والقول الاول أجود، وقوله " كَمَا أكَبَّ عَلَى سَاعِدَيْهِ النَّمِرْ " أراد كان فوق متنها نمرا باركا لكثرة لحم المتن " انتهى كلام ابن قتيبة.
وأيد ابن جنى قول الكسائي، قال في سر الصناعة: وأما قول امرئ القيس: * لها متنتان خظاتا ... البيت * فإن الكسائي قال: أراد خظتا، فلما حرك التاء رد الالف التى هي بدل من لام الفعل، لانها إنما كانت حذفت لسكونها وسكون التاء، فلما حركت التاء ردها، فقال: خظاتا، ويلزمه على هذا أن يقول في قضتا وغزتا: قضاتا وغزاتا، إلا أن له أن يقول: إن الشاعر لما اضطر أجرى الحركة العارضة مجرى الحركة اللازمة في نحو قولا وبيعا وخافا، وذهب الفراء إلى أنه أراد خظاتان، فحذف النون، كما قال أبو داود الايادي
* ومتنان خظاتان * كزحلوف من الهضب *

(4/157)


وأنشد الفراء أيضا: (من الرجز) * يا حبذا عينا سليمى والفما * قال: أراد والفمان، يعنى الفم والانف، فثناهما بلفظ الفم للتجاور الذى بينهما، وأجاز الفراء أيضا أن تنصبه على أنه مفعول معه، كأنه قال: مع الفم، ومذهب الكسائي في " خظاتا " أقيس عندي من قول الفراء، لان حذف نون التثنية شئ غير معروف، فأما " والفما " فقد يجوز أن ينصب بفعل مضمر، كأنه قال: وأحب الفم، ويجوز أن يكون الفم في موضع رفع إلا أنه اسم مقصور بمنزلة عصا، وعليه جاء بيت الفرزدق: * هُمَا نَفَثَا فِي مِنْ فَمَوَيْهِمَا * فاعرفه، ومما يؤيد عندي مذهب الكسائي أنه أراد خظتا فلما حرك التاء وإن كانت الحركة عارضة غير لازمة رد الالف التى هي بدل من الواو التى هي لام الفعل، كقولهم " الحمر " في الاحمر، و " لبيض " في الابيض، ألا ترى أنهم اعتدوا بحركة الهمزة المحذوفة لما ألقوها على اللام المعرفة، فأجروا ما ليس بلازم مجرى اللازم؟ ونحو من ذلك قراءتهم (لكنا هو الله ربى) وأصلها لكن أنا، فلما حذفت الهمزة للتخفيف وألقيت فتحتها على نون لكن صار التقدير لكننا فلما اجتمع حرفان مثلان متحركان كره ذلك كما كره شدد وجلل، فأسكنوا النون الاولى، وأدغموها في الثانية فصار لكنا، كما أسكنوا الحرف الاول من شدد وجلل، وأدغموه في الثاني فقالوا: شد وجل، أفلا ترى أنهم أجروا المنفصل وهو لكن أنا مجرى المتصل في شد وجل، ولم يقرأ أحد لكننا مظهرا، فهل ذلك إلا لاعتدادهم بالحركة وإن كانت غير لازمة؟ وعلى هذا قالوا (سل بنى إسرائيل)
وأصله اسال، فلما خففت الهمزة فحذفت وألقيت حركتها على السين قبلها اعتد بها فحذفت همزة الوصل لتحرك الحرف بعدها، ونظائر هذا كثير، ومنها قولهم في تخفيف

(4/158)


رؤيا: ريا، وأصلها رويا، إلا أنهم أجروا الواو في رويا وإن كانت بدلا من الهمزة مجرى الواو اللازمة فأبدلوها ياء وأدغموها في الياء بعدها، فقالوا: ريا، كما قالوا: طويت طيا وشويت شيا، وأصلهما طويا وشويا، ثم أبدلوا الواو ياء وأدغموها في الياء فعلى هذا قالوا: ريا، ومن اعتد بالهمزة المنوية وراعى حكمها - وهو الاكثر والاقيس - لم يدغم فقال: رويا، فهذا كله وغيره مما يطول ذكره، يشهد باجرائهم غير اللازم مجرى اللازم ويقوى مذهب الكسائي، إلا أن للفراء أن يحتج لقوله ببيت أبى داود * ومتنان خظاتان * فهذا يقوى أن خظاتا تقديره خظاتان وأنشدوا بيتا آخر، وهو قوله: (من الطويل) لنا أعنز لبن ثلاث فبعضها * لاولادها ثنتا وما بيننا عنز تقديره ثنتان، فحذف النون " وهذا آخر كلام ابن جنى (1) وبقى في البيت قول ثالث، وهو أن خظاتا مثنى حذفت نونه للاضافة إلى قوله " كما أكب " وهو قول أبى العباس المبرد، نقل عنه ياقوت الحموى في معجم الادباء في ترجمة أبى العباس أحمد الشهير بثعلب رحمه الرب، ونقله عنه أيضا علم الدين السخاوى في سفر السعادة، وعبارتهما واحدة، قالا: قال أحمد بن يحيى ثعلب: دخلت على محمد بن عبد الله فإذا عنده أبو العباس المبرد وجماعة من أصحابه وكتابه، فلما قعدت قال لى محمد بن عبد الله: ما تقول في بيت امرئ القيس * لها متنتان خظاتا ... البيت * قال: فقلت: أما الغريب فانه يقال: لحم خظا بظا، إذا كان صلبا مكتنزا، ووصفه بقوله " كما أكب على ساعديه " أي في صلابة النمر إذا اعتمد على يديه،
والمتن: الطريقة من عن يمين الصلب وشماله، وأما الاعراب فإنه خظتا، فلما
__________
(1) لو تصفحت كلام ابن جنى في حرف النون من سر الصناعة لوجدت المؤلف لم ينقله بنصه الكامل بل تصرف فيه بعض التصرف من غير إخلال بالمقصود (*)

(4/159)


تحركت التاء أعاد الالف من أجل الحركة والفتحة، فأقبل بوجهه على المبرد، فقال: أعز الله الامير، إنما أراد في " خظاتا " الاضافة، أضاف خظاتا إلى كما، قال ثعلب فقلت له: ما قال هذا أحد! ! فقال: بلى سيبويه يقوله، فقلت لمحمد بن عبد الله: ما قال هذا سيبويه قط، وهذا كتابه فليحضر، ثم قلت: وما حاجتنا إلى الكتاب؟ أيقال: مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيضاف نعت الشئ إلى غيره؟ فقال محمد لصحة طبعه -: والله ما يقال هذا، ونظر إلى محمد بن يزيد، فأمسك ولم يقل شيئا، ونهض المجلس، وزاد ياقوت في آخر هذه الحكاية " لا أدرى لم لا يجوز هذا، وما أظن أحد ينكرا قول القائل: رأيت الفرسين مركوبي زيد، ولا الغلامين عبدى عمرو، ولا الثوبين دراعتي (1) زيد، ومثله مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيكون مضافا إلى عمرو وهو صفة زيد، وهذا ظاهر لكل متأمل " هذا كلامه وأقول: هذه الامثلة كلها أبدال لا نعوت، لعدم الربط وهذا البيت من جملة أبيات في وصف فرس من قصيدة لامرئ القيس قد شرحناها في الشاهد العشرين بعد السبعمائة من شرح شواهد شرح الكافية وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع والثمانون: (من المنسرح) 84 - لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أنْ * تَرْكَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ على أن أصله " لا تهينن الفقير " فحذفت نون التوكيد الخفيفة لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة دليلا عليها وهذا آخر أبيات للاضبط بين قريع السعدى، وقبله:
قد يجمع المال غير آكله * ويأكل المال غير من جمعه
__________
(1) الدراعة: ثوب لا يكون إلا من صوف، وهو المدرعة أيضا، ويقال: تمدرع، إذا لبسه (*)

(4/160)


فاقبل من الدهر ما أتاك به * من قر عينا بعيشه نفعه وصل حبال البعيد إن وصل الحبل * وأقص القريب إن قطعه وهى أكثر من هذا، وقد شرحناها في الشاهد الرابع والخمسين بعد التسعمائة من آخر شرح شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والثمانون، وهو من شواهد سيبويه (من الرجز) : 85 - يستوعب البوعين من جريره * مِنْ لَدُ لَحْيَيْهِ إِلَى مَنْحُورِهِ على أن أصله " من لدن " فحذفت النون قال سيبويه: " فأما لدن فالموضع الذى هو أول الغاية، وهو اسم يكون ظرفا، يدلك على أنه اسم قولهم: من لدن، وقد يحذف بعض العرب النون حتى يصير على حرفين، قال الراجز غيلان * يستوعب البوعين ... إلى آخر البيتين " * قال الاعلم: " أراد أن لد محذوفة من لدن منوية النون فلذلك بقيت على حركتها، ولو كانت مما بنى على حرفين للزمها السكون كعن ونحوها، وصف بعيرا أو فرسا بطول العنق، فجعله يستوعب من حبله الذى يوثق به، مقدار باعين، فيما بين لحييه ونحره، والمنحور والنحر: الصدر، واللحى: العظم الاسفل من الشدق، وسمى بذلك لقلة لحمه، كأن اللحم لحى عنه: أي قشر، والبوع: مصدر بعت الشئ بوعا إذا ذرعته بباعك، والجرير: الحبل " انتهى كلامه
وقبلهما: يتبعن شهما لان من ضريره * من المهارى رد في حجوره قوله يتبعن إلخ " أي: يتبع الابل جملا " شهما ": أي حديد النفس ذكى

(4/161)


القلب، والضرير - بالضاد المعجمة -: النفس وشدتها، يقال: ناقة ذات ضرير، إذا كانت شديدة النفس بطيئة اللغوب، والضرير من الدواب: الصبور على كل شئ، كذا في العباب: يريد أنه لان شئ من شدة نفسه وامتناعه، ولو كانت نفسه على ما كانت عليه من الصعوبة لشق عليها، وقوله " من المهاوى " أي: من الابل المهارى نسبة إلى مهرة.
قال صاحب العباب: ومهرة بن حيدان أبو قبيلة من اليمن تنسب إليه الابل المهرية، والجمع المهارى، وإن شئت خففت الياء فقلت المهارى كالصحارى والصحارى وقوله " رد في حجوره " أي: في كرم أمهاته، يريد أنه من نسل إبل كرام.
وقوله " يستوعب البوعين الخ " بفتح المواحدة، قال صاحب العباب: قال الليث البوع والباع لغتان.
فلا حاجة إلى ما تكلفه الاعلم، والجرير - بفتح الجيم -: الحبل، يريد أن طويل الحبل الذى هو مقوده من لحيبه إلى موضع نحره مقدار باعين، يريد طول عنقه وقوله " من لد لحييه " مثل لحى - بفتح اللام وسكون الحاء المهملة - وهو العظم الذى ينبت عليه الاسنان، والمنحور: بضم الميم وبعد النون حاء مهملة، كذا في العباب، وهو لغة في النحر لمنحر، ومعناه أعلى الصدر، وهو الموضع الذى تقع عليه القلادة والموضع الذى ينحر فيه الهدى وغيره، وصحفه الجوهرى فرواه بالخاء المعجمة، وقال: المنخور لغة في المنخر، وأنشده، وكذا رواه أيضا في مادة
لدن، ونبه ابن بري في أمالية عليه، قال: " وصواب إنشاده كما أنشده سيبويه " إلى منحوره " بالحاء، والمنحور النحر، وهو المنحر، وصف هذا الشاعر فرسا بطول العنق فجعله يستوعب من حبله مقدار باعين من لحييه إلى نحره " انتهى.
وكذا قال في مادة (ل د ن) ، وصوابه يصف كما ذكرنا، وتبعه الصفدى في حاشيته على

(4/162)


الصحاح، وقال: هذا الذى عليه العلماء، ولا معنى فيه لما قاله الجوهرى، ورواه الصاغانى في العباب بالوجهين: بالحاء المهملة، والمعجمة، في المادتين، قال: ويروى منخوره بالخاء المعجمة أيضا، ويروى حنجوره، فزاد رواية ثالثة، وهى بضم الحاء المهملة وبعد النون جيم، لغة في الحنجرة كحيدرة، وهى الحلقوم ونسب ابن برى أيضا هذا الرجز إلى غيلان بن حريث الربعي، وتقدم في الشاهد الثالث والسبعين بعد السبعمائة من شرح شواهد شرح الكافية أنى لم أقف على ترجمة، والله أعلم به وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والثمانون: (من الرجز) 86 - * وحاتم الطائى وهاب المئى * على أنه حذف التنوين من حاتم لضرورة الشعر، وقبله * حيدة خالي ولقيط وعلى * والبيتان من رجز لامرأة تفتخر بأخوالها من اليمن، وأورده الشارح المحقق في شرح الكافية على أن المئى أصله عند الاخفش المئين، حذفت النون الجمع للضرورة.
وقد شرحناه مفصلا بما لا مزيد عليه مع بقية في الشاهد الرابع والأربعين بعد الخمسمائة هناك فارجع إليه وأنشد بعده: (من الطويل) عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ ابٌ * وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ
وتقدم الكلام عليه في الشاهد العاشر من هذا الكتاب وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والثمانون، وهو من شواهد سيبويه: (من الوافر) 87 - فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيرٍ * فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا

(4/163)


على أن يونس سمعهم ينشدونه بفتح الضاد من قوله: فغض، قال سيبويه: " ومنهم من يدعه إذا جاء بالالف واللام على حاله مفتوحا، يجعله في جميع الاشياء كإن، وزعم يونس أنه سمعهم يقولون: * فغض الطرف ... البيت * " انتهى ونسب الزمخشري في المفصل الفتح الى بنى اسد، قال: " ومنهم من فتح وهم بنو أسد، قال: فغض الطرف، ونمير بالتصغير: أبو قبيلة، وهو نمير بن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ابن قيس بن عيلان بن مضر، وكعب وكلاب أخوان، وهما ابنا ربيعة بن عامر ابن صعصعة، فنمير وربيعة أخوان وأمهما رقية بنت جُشَم بن معاوية بن بكر بن هوازن، قال ابن الكلبى في الجمهرة: ولد ربيعة بن عامر كلابا وإليه البيت، وكعبا وإليه العقد، كان إذا كان في ولد ربيعة جوار تولوا هم ذلك دون ولد أبيه، ومن أولاد ربيعة كليب بالتصغير وعامر والحرث، فهؤلاء الخمسة أولاد ربيعة لا غير و " غض " فعل أمر من غض طرفه وصوته، ومن طرفه وصوته، غضا، من باب قتل، إذا خفضهما، وغض الطرف: إرخاء الجفون، والطرف: نظر العين، يقول: لا تفتح عينيك بتحديق كنظر العزيز، بل انظر الذليل بغض وتغميض: فإن قبيلتك بنى نمير لم يشرفوا كشرف بنى أخى نمير، وأنت خامل،
ولبنى عمك النباهة والذكر، فلا نلت رتبة كعب في السيادة ولا بلغت منزلة كلاب في العز، والتفضيل بين الاقارب عند العرب ممض مؤلم تأثيره أشد من الهجاء المقذع.
والبيت من قصيدة لجرير هجا بها الراعى النميري مطلعها: أقلى اللوام عاذل والعتابا * وقوله إن أصبت لقد أصابا

(4/164)


وسبب هجوه أن الراعي كان شاعر مضر وذا سنِّها، ولما قدم البصرة دخل بين جرير والفرزدق، فقال: (من الكامل) يَا صَاحِبَيَّ دَنَا الأَصِيلُ فَسِيرَا * غَلَبَ الْفَرَزْدَقُ فِي الْهِجَاءِ جَرِيرَا فلقيه جرير، فقال له: إني وابن عمي الفرزدق نستب صباحاً ومساءً، وما عليك من غلبة الغالب والمغلوب، فإما أن تكف عنا، وإما أن تُغَلِّبَنِي، فقال له الراعي: صدقت، لا أبعدك (الله) من خير، فبينما هما في القول إذ رآهما جندل بن الراعي فأقبل على فرس له فضرب بغلة أبيه وقال له: مالك يراك الناس واقفاً على كلب بني كليب، فصرفه عنه، فقال جرير: أما والله لأثقلن رواحلك، ثم أقبل إلى منزله وقال لروايته: زد في دهن سراجك الليلة وأعدد لَوْحاً ودواة، ثم أقبل على هجاء بني نمير، فلم يزل يمل حتى ورد عليه قوله: * فغض الطرف إنك من نمير ... البيت * فقال: حسبك أطفئ سراجك ونم، فرغت منه ثم إن جريراً أتم القصيدة بعد وسماها الدامغة حتى إذا أصبح ورأى الراعي في سوق الإبل أنشده إياها حتى وصل إلى قوله أجَنْدَلُ، مَا تَقُولُ بَنُو نُمَيْرٍ * إذَا مَا الأَيْرُ في اسْتِ أبِيكَ غَابَا؟ فقال الراعي: شراً والله تقول، إلى أن قال:
إذَا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ * رَأَيْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَابَا فغُضَّ الطَّرف إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ * ... البيت قال ابن رشيق في العمدة: " وممن وضعه ما قيل فيه من الشعر حتى أنكر نسبه وسقط على رتبته وعيب بفضيلته: بنو نمير، كانوا جمرة (1) من جمرات العرب إذا سئل أحدهم: ممن الرجل؟ فخَّمَ لفظه ومدَّ صوته وقال: من بني نمير، إلى أن صنع جرير قصيدته التي هجا بها الراعي فسهر لها فطالت ليلته إلى أن قال:
__________
(1) الجمرة: القبيلة التى لا تحالف غيرها اعتدادا بنفسها (*)

(4/165)


* فغض الطرف إنك من نمير البيت * فأطفأ سراجه ونام، وقال: والله قد أخزيتهم آخر الدهر، فلم يرفعوا رأساً بعدها إلا نكس بهذا البيت، حتى إن مولى لبني باهلة كان يرد سوق البصرة ممتاراً، فيصيح به بنو نمير: يَا جُوَاذِبَ (1) باهلة، فَقصَّ الخبر على مَوَاليه، وقد ضجر من ذلك، فقالوا له: إذا نبزوك فقل لهم * فغض الطرف إنك من نمير * ومر بهم بعد ذلك فنبزوه، وأراد البيت فنسيه، فقال: غض وإلا جاءك ما تكره، فكفوا عنه ولم يعرضوا له بعدها، ومرت امراة ببعض مجالس بني نمير، فأداموا النظر إليها فقالت: قبحكم الله يا بني نمير، ما قبلتم قول الله عزّ وجلّ (قل للمؤمنين يغضو من أبصاهم) ولا قول الشاعر: فَغُضَّ الطَّرْفِ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... البيت وهذه القصيدة تسميها العرب الفاضحة، وقيل: سماها جرير الدامغة، تركت بني نمير بالبصرة ينتسبون إلى عامر بن صعصعة ويتجاوزون أباهم نميراً إلى أبيه هرباً من ذكر نمير وفراراً مما وسم به من الفضيحة وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا في الشاهد الرابع من أول شرح شواهد
شرح الكافية وقد خبط خبط عشواء في هذا البيت بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصَّل، قال: " البيت لجرير يهجو به الفرزدق، لأن نميراً أبو قبيلة من قيس وهو نمير بن عامر بن صعصعة، بن مجاشع من أجداد الفرزدق، وكعب وكلاب في قريش " هذا كلامه، وفيه خلل من وجوه: الأول أن المهجو نميري والفرزدق تميمي، الثاني أن صعصعة والدَ عامر ليس جد الفرزدق، الثالث أن صعصعة جد الفرزدق ليس ابنَ مجاشع، وإنما هو صعصعة بن ناجية بن عقال ابن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارِم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد
__________
(1) في الاصول " يا جؤداب " وهو تصحيف، والجواذب: شسع النعل (*)

(4/166)


مناة بن تميم، أن صعصعة هذا ليس من أجداد الفرزدق، وإنما هو جده الأقرب، لأن الفرزدق ابنُ غالب بن صعصعة، الخامس أن كعباً وكلاباً في البيت ليسا من قريش، وإنما هما ابنا ربيعة أخي نمير، والله أعلم وأنشد الجار بردى هنا، وهو الشاهد الثامن والثمانون (من الكامل) : 88 - ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى * وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُوْلَئِكَ الأَيَّامِ على أنه روى ذُمَّ بفتح الميم وكسرها وهو من قصيدة لجرير، مطلعها: سَرَتِ الْهُمُومُ فَبِتْنَ غَيْرَ نِيَامِ * وَأَخُو الْهُمُومِ يَرَومُ كُلَّ مَرَامِ وأورده في المفصل في باب الإشارة أيضاً، على أن " أولئك " يستعمل في العقلاء وغير العقلاء، كقوله تعالى: (إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كان عنه مسئولا) وأورده البيضاوي - بَيَّض الله وجهه يوم تبيض
وجوه - أيضاً عند الآية، قال العيني: ويروى " الأقوام " بدل " الأيام " وحينئذٍ لا شاهد فيه، وزعم ابن عطية أن هذه الرواية هي الصواب، وأن الطبري غلط إذ أنشد " الأيام " وأن الزجاج اتبعه في هذا الغلط، انتهى و " ذُمَّ " فعل أمرٍ، و " العيش " معطوف على المنازل، والمعنى أنه تأسف على منزله باللِّوى وأيام مضت له فيه، وأنه لم يتهنَّ بعيش بعد تلك الأيام، ولا راق له منزل وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والثمانون (من الرجز) : 89 - يا عجبا لقد رأيت عجبا * حمار قبان يسوق أرنبا خاطمها زأمها أن تذهبا * فقلت: أرْدِفْنِي، فَقَالَ: مَرْحَبَا على أن أبا زيد حكى عن أيوب السختياني دأبَّة وشَأَبَّة وأنشد هذا الشعر

(4/167)


أقول: لم ينشد أبو زيد هذا الرجز، لا في نوادره، ولا في كتاب الهمز، ولا نقل عن أيوب، وإنما قال في آخر كتاب الهمز: وسمعت رجلاً من بني كلاب يكنى أبا الأصنع يقول: هذه دأبَّة، وهذه شأبة، وهي امرأة مَأدَّة، وهذا شأبّ، ومأدّ، فيهمز الألف في كل هذه الحروف، وذلك أنه ثقل عليه إسكان حرفين مَعاً وإن كان الأصل الآخر منهما التحريك، كما استثقل بعض العرب في الوقف إسكان الحرفين في قولهم: اضْرِبُهْ، أكْرِمُهْ، أحْبِسُهْ، قال: (من الرجز) * قَدْ قُلْتُ لِلسَّائِلِ قَدْهُ أعْجِلُهُ * انتهى.
وهذا آخر كتاب الهمز، ويشهد لما قلنا كلام ابن جني في أكثر تآليفه، قال في شرح تصريف المازني ومنه أخذ الشارح هذا الفصل: إن
الألف إذا حركت صارت همزة، كقراءة أيوب السختياني (وَلاَ الضَّألِّين) لما حرَّك الألف لسكونها وسكون اللام الأولى بعدها انقلبت همزة، وحكى أبو العباس عن أبي عثمان عن أبي زيد أنه قال: سمعت عمرو بن عبيد يهمز (فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ وَلاَ جَأنٌّ) فظننته قد لحن إلى أن سمعت العرب يقولون (1) شأبَّة ودأبَّة، قال أبو العباس: فقلت لأبي عثمان: أتقيس هذا؟ قال: لا ولا أقبله، وقال الراجز: * خاطِمَها زَأمَّها أنْ تّذْهَبَا * وجاء في شعر كثيّر " احْمَأَرَّتِ (2) " يريد احْمَارَّتِ، كما أراد الأول
__________
(1) في نسخة " تقول " (2) قد وردت هذه الكلمة في بيت من الشعر لكثير عزة، وذلك قوله: وأنت ابن ليلى خير قومك مشهدا * إذا ما احمارت بالعبيط العوامل (*)

(4/168)


زَامَّها، فهذه الهمزات في هذا الموضع إنما وجبت عن تحريك الألف لسكونها وسكون ما بعدها، انتهى وقال في سر الصناعة: " فأما إبدال الهمزة من الألف فنحو ما حكى عن أيوب السختياني أنه قرأ (ولا الضَّألِّين) فهمز الألف، وذلك أنه كره اجتماع الساكنين الالف واللام الأولى، فحرك الألف لاجتماعهما، فانقلب همزة، لأن الألف حرف ضعيف واسع المخرج لا يحمل الحركة، فإذا اضطروا إلى تحريكه قلبوه إلى أقرب الحروف منه وهو الهمزة، وعلى ذلك ما حكاه أبو زيد فيما قرأته على أبي علي في كتاب الهمز عنه من قولهم: دأبَّة وشأبَّة ومأدة، وأنشدت الكافة: * يَا عَجَبَا لقد رأيت عجبا *
إلى آخر الأبيات يريد زامّها.
وحكى أبو العباس، عن أبي عثمان، عن أبي زيد، قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ (إنْسٌ وَلا جأن) فظننته قد لحن، حتى سمعت العرب تقول: دأبّة، وشأبة، قال أبو العباس: فقلت لأبي عثمان: أتقيس ذلك؟ قال: لا ولا أقبلها.
وقال آخر (من الطويل) وَبَعْدَ انْتِهَاض الشَّيْبِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * عَلَى لِمَّتِي حَتَّى اشْعَألَ بَهِيمُهَا
__________
(1) وكان كثير كثيرا ما يهمز، وذلك نحو قوله أيضا: نمت لابي بكر لسان تتابعت * بعارفة منه فخصت وعمت ولِلأَرْضِ أمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلَتْ * بَيَاضاً، وَأمَّا بِيضُها فادهأمت ومن ذلك قوله أيضا: تأرض أخفاف المناخة منهم * مكان التى قد بعدت فاز لامت واز لامت: أي ذهبت فمضت، وقيل: ارتفعت في سيرها (*)

(4/169)


يريد اشعال، من قوله تعالى (واشتعل الرأس شيبا) فهذا لا همز فيه، وقال دُكَيْنٌ (من الرجز) رَاكِدةٌ مِخْلاتُهُ وَمَحْلَبُه * وَجُلُّهُ حَتَّى ابْيَأَضَّ مَلْبَبُهُ يريد ابْيَاضَّ، فهمز، وقرأت على أن أبي الفرج علي بن الحسين لكُثَيِّر من الطويل) ولِلأَرْضِ أمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلَتْ * بَيَاضاً وَأمَّا بِيضُها فَادْهَأمَّتِ يريد ادْهَامَّتْ، وقد كاد يتسع هذا عنهم، وحكى عنهم في الوقف هذه حُبلأ يريد حُبْلى، ورأيت رَجُلاً، يريد رجلاً، فالهمزة في رجلأ إنما هي بدل من الألف التي هي عوض من التنوين في الوقف، ولا ينبغي أن يحمل على أنها بدل
من النون، لقرب ما بين الهمزة والألف وبعد ما بينها وبين النون، ولأن حبلى لا تنوين لها، وحكى أيضاً هو يَضْرِبُهأ، وهذا كله في الوقف، فإذا وصلت قلت: هو يضربها يا هذا، ورأيت حبلى أمس " انتهى كلامه.
وقال في الخصائص في باب شواذ الهمز: وإذا تحركت الألف انقلبت همزة، من ذلك قراءة أيوب السختياني (ولا الضَّألِّين) وحكى أبو العباس عن أبي عثمان عن أبي زيد، قال: سمعت عمرو بن عبيد - إلى آخر الحكاية، وأنشدوا قوله: * يَا عَجَبَا لَقَد رَأَيْتُ عَجَبَا * إلى آخر الأبيات.
وقال أيضاً في المحتَسب: " ومن ذلك قراءة أيوب السختياني (وَلاَ الضِّألِّين) ذكر بعض أصحابنا أن أيوب سئل عن هذه الهمزة، فقال: هي بدل من المدة لالتقاء الساكنين.
واعلم أن أصل هذا ونحوه الضالين، وهو الفاعلون من ضَلَّ يضلُّ، فكره اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد على غير الصور المحتملة في ذلك، فأسكنت اللام الأولى، وأدغمت في الآخرة، فالتقى

(4/170)


ساكنان: الألف، واللام الأولى المدغمة، فزيد في مدة الألف، واعتمدت وطأة المد، فكان ذلك نحواً من تحريك الألف، وذلك أن الحرف يزيد صوتاً بحركاته، كما يزيد صوت الألف بإشباع مدته، وحكى أبو العباس عن أبي عثمان عن أبي زيد قال: سمعت عمر بن عبيد - إلى آخر الحكاية، ثم أورد أمثلة كثيرة، ونظائر عديدة، وقال: وفيه أكثر من هذا، ولولا كراهية الإملال لأتينا به، على أنه مثبت في أماكن من تآليفنا، وقد ذكرنا من هذا الضرب في كتابنا الموسوم بالخصائص ما فيه كافٍ من غيره " وقال صاحب الصحاح: " وحمَار قَبَّان دويبة، وهو فَعْلاَن، من قبّ لأن
العرب لا تصرفه، وهو معرفة عندهم، ولو كان فَعَّالاً لصرفته، تقول: رأيت قطيعاً من حمر قبان، وقال: يَا عَجَباً وَقَد رَأَيْتُ عَجَباً * حِمَارَ قَبَّانَ يَسُوقُ أرْنَبَا " انتهى ولم يكتب عليه ابن بري شيئاً في أماليه، ولا الصفدي في حاشيته وقال السيوطي في ديوان الحيوان وهو مختصر حياة الحيوان: " حمار قَبَّان: دويبة مستديرة تتولد من الأماكن النَّدِيَّة، على ظهرها مثل المِجَنِّ مرتفعة الظهر، كأن ظهرها قبة، إذا مشت لا يرى منها سوى أطراف رجليها، وهي أقل سواداً من الخنفساء، وأصغر منها، على قدر الدينار، ولها ستة أرجل، تألف أماكن السباخ وذكر الحاحظ في التبيان أن رأسها لا يرى عند المشي، ولا ترى إلا أن تنقلب على وجهها، لأن أمام وجهها حاجزاً مستديراً، وأكثر ما تظهر بالليل، قال: ومن حمار قبان نوع ضامر البطن غير مستدير، والناس يسمونه أبا شحيمة، والظاهر أنه صغار حمار قبان، وأنه بعدُ يأخذ في الكبر، قال:

(4/171)


وأهل اليمن يطلقون حمار قبان على دويبة فوق الجرادة من نوع الفراش وفي مفردات ابن البيطار: حمار قبان يسمى حمار البيت أيضاً، ومن أمثالهم " هو أذَلُّ من حمار قَبَّان " انتهى كلام السيوطي وقال الجوهري في مادة (زم) : تقول زَمَمْتُ النعل وزممت البعير، خطمته وأنشد هذا الرجز ثانياً والخطام: هو الزمام، وخاطِمَها بالنصب: حال من حمار قبان، والإضافة لفظية، والتقدير خاطماً إيَّاهَا، ويجوز رفعه أنه خبر مبتدأ محذوف: أي
هو خاطمها، وزامها مثل خاطمها، لان تأكيد له، وقوله " أن تذهبا " بتقدير اللام: أي لتذهب معه، أو بتقدير مضاف وهو صلة لخاطمها: أي خوف أن تذهب وتفر منه، وقوله " فقلت أردفني " أي: فقلت لحمار قبان: اجعلني رِدْفاً لك أركب على الأرنب خلفك، فقال: اركب مرحباً بك، وقوله " يا عجبا " يا للتنبيه، وعجباً منصوب على المصدرية: أي أعجب عجبا، فهو منون، ويجوز أن يكون يا للنداء، وعجباً منادى، والأصل يا عجبي، فقلبت ياء المتكلم ألفاً، وعلى هذا هو غير منون، وهذا يشبه أن يكون من خرافات العرب، ولم أقف على شرح له.
وقد رأيت البيت الشاهد في رجز آخر، قال السيوطي رحمه الله في ديوان الحيوان في الكلام على الضب: " قال أبو عمر الْجَرْمي: سألت أبا عبيد عن قول الراجز: أَهَدَمُوا بَيْتَكَ لاَ أبَالَكَا * وَأنا أمْشِي الدَّألَى حَوَالَكَا فقلت: لمن هذا الشعر؟ قال: تقول العرب: هذا يقوله الضب لولده الْحِسْل أيامَ كانت الأشياء تتكلم، والعرب تقول: لما كان كل شئ يتكلم خَاطَرَ الضب الضِّفْدَعَ أيهما أصبر على الظمأ، وكان للضفدع حينئذٍ الذنب، وكان الضب ممسوح

(4/172)


الذنب، قالوا: فصبر الضفدع يوماً، ثم نادت: يا ضب ورداً ورداً.
فقال الضب: أصْبَحَ قلب صَرِدا * لا يشتهي أن يَرِدا إلاَّ عَرَاداً عَرِدَا * وَصِلِّيَاناً بَرِدَا وعَنْكَثَا مُلْتَبِدا.
فلما كان اليوم الثالث قالت الضفدع: يا ضب ورداً ورداً، فلم يجبها، فلما لم يجبها بادرت إلى الماء، وتبعها الضب، فأخذ ذنبها، وأنشد:
خَاطِمَهَا زَأمَّهَا أنْ تَذَهَبَا * وَجربَ الضَّبُّ فَقَالَ جَرِّبَا ألا أرى لِي ذَنَباً مُرَكَّبَا " انتهى كلامه.
والدِّأَلى بفتحات، قال صاحب العباب: " دأل يَدْألُ دَأْلاً وَدَأَلاَناً ودَأَلَى: أي ختل، قال: * وأنا أمشي الدألى حوالكا * وقال أبو زيد: هي مشية شبيهة بالختل ومشي المثقل، وذكر الأصمعي في صفة مشي الختل الدألاَنُ: مشي يقارب فيه الخطو ويُبْغى فيه، كأنه مثقل من حمل " انتهى وقوله " صَرِداً " بفتح الصاد المهملة وكسر الراء، قال الجوهري: صَرِد الرجل بالكسر يَصْرَد صَرَداً فهو صرِد ومِصْرَاد، يجد البر سريعاً، قال: أصْبَحَ قَلْبِي صَرِدا * لا يَشْتَهي أنْ يَرِدَا.
انتهى وقوله " إلا عَراداً عِرَدَا " العراد بفتح العين المهملة وآخره دال: اسم نبت كذا في الصحاح، وأنشد البيت، والْعِرَد: وصف له من لفظه للتوكيد، والمبالغة في كلامهم كقولهم: شعر شاعر: وَلَيْلَة ليلاء.
وقال خضر الموصلي في شرح أبيات التفسيرين: الْعَرِد: الصلب من كل شئ، وقيل: هو الجراد، وهذا

(4/173)


كلامه، وقوله " وصليانا بردا " بكسر الصاد وللام المشددة بعدها مثناة تحتية، قال السخاوي في سفر السعادة: (و) صِلِّيَانٌ فعْلِيان، والواحدة صليانة، وهي بقلة، وهو مأخوذ من الضمة، والصلة: واحدة الصلال، وهى القطع من الأمطار المتفرقة التي يقع منها الشئ بعد الشئ، وقيل للعشب الصِّلِّيان من ذلك، سمي باسم المطر، وقال الجرمي: الصليان: نبات، ويقولون لمن يسرع في اليمين ولا
يتوقف " لقد جَذَّهَا جذَّ الصّلِّيَانة "، لأن العير إذا ارتعى جذ الصِّلِّيانة واقتلعها من أصلها، وجَذَّ: مصدر مضاف إلى المفعول، ويقولون: الصِّليان خبز الإبل، انتهى.
" وبرد " بمعنى بارد وهذا البيت أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (وملح أجاج) على قراءة من قرأ (مَلِحٌ) بفتح الميم وكسر اللام، على أنه تخفيف مالح كبَرِد في البيت من بارد وقوله " عَنكثاً مُلْتَبِدا " العنكث: بفتح العين المهملة وسكون النون وبعد الكاف ثاء مثلثة، قال صاحب الصحاح: هو اسم نبت، وأنشد البيت، والملتبد: المجتمع بعضه فوق بعض، يقال: التبد الشجر.
إذا كثر ورقه، وفي كل بيت أنشده الجوهري من هذه الأبيات يقول: قال الساجع، بناء على أن الرجز عنده سجع وليس بشعر، وهو مذهب بعض العروضيين، وأورد ابن بري الأبيات الخمسة في مادة عنكث، وقال: هذا مما تحكيه العرب على ألسنة البهائم، زعموا أنه اختصم الضب والضفدع، فقالت الضفدع: أنا أصْبُر منك عن الماء، وقال الضب: أنا أصبر منك، فقال الضفدع: تعالى حتى نرعى فيعلم أينا أصبر، فَرَعَيَا يومهما، فاشتد عطش الضفدع، فجعلت تقول: وِرْداً يا ضب، فقال الضب: * أصْبَحَ قَلْبِي صَرِدا * إلى آخر الأبيات، فبادرت الضفدع إلى الماء، إلى آخر الحكاية

(4/174)


وأنشد بعده، وهو الشاهد التسعون (من الرجز) 90 - يَا دَارَ مَيَّ بد كاديك الْبُرَقْ * صَبْراً فَقَدْ هَيَّجْتِ شَوْقَ الْمُشْتَئِقْ على أن أصله المشتاق فقلب الألف همزة وحركها بالكسر لان الالف بد
من واو مكسورة، قال ابن جني في سر الصناعة: " أنشد الفراء: * يا دارمي بد كاديك * إلخ والقول فيه عندي أنه اضطر إلى حكرة الألف التي قبل القاف من المشتاق، لأنها تقابل لام مستفعلن، فَلمَّا حركها انقلبت همزة، إلا أنه حركها بالكسر لأنه أراد الكسرة التي كانت في الواو المنقلبة الألف عنها، وذلك أنه مُفْتَعِلٌ من الشوق، وأصله مُشْتَوِق ثم قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلما احتاج إلى حركة الألف حركها بمثل الكسرة التي كانت في الواو التي هي أصل للألف، ونحو هذا ما حكاه الفراء أيضاً عنهم من قولهم: رجل مَئِل، إذا كان كثير المال، وأصلها مَوِلٌ كحَذِرٌ، يقال: مال الرجل يمَال، إذا كثر ماله، وأصلها مَوِلَ يَمْوَل مثل خاف يخاف، من الواو، وقالوا: رجل خاف كقولهم رجل مالٌ وأصلهما خَوِفٌ ومَوِلٌ، انقلبت الواو ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار خافٌ ومالٌ، ثم إنهم أتوا بالكسرة التي كانت في واو مَوِلٍ فحركوا بها الألف في مال فانقلبت همزة فقالوا مثل " انتهى كلامه و " مي " اسم امرأة، ودكاديك: جمع دكداك، وهو الرمل المتلبد في الأرض ولم يرتفع، والبُرَق: جمع برقة بالضم وهى غلظ حجارة ورمل، ورواه الجوهري " بالدَّكاديك البُرَق " بالوصف لا بالإضافة، وقوله " صبرا " مفعول مطلق: أي اصبري صبرا، أو مفعول به لفعل محذوف: أي أعطيني صبرا، وروى بدله

(4/175)


" سَقْيا ": أي سقاكِ الله سقياً، دعاء لها بالسقي، على عادة العرب في طلب السقي لمنازل أحبابهم.
قال ابن المستوفي هذان البيتان أنشدهما الفراء لرؤبة، ومثله (من الرجز) : سُقِيتِ مِنْ وَدْقِ (1) السَّحَابِ الْمُنْبَعِقْ (2) *
يَكَادُ قَلْبِي مِنْ هَوَاكِ يَحْتَرِقْ كَذَا دُعَاءُ كُلِّ صِبٍّ مُشْتَئِقْ الابتداء أنشد فيه، وهو الشاهد الحادي والتسعون (من الرجز) : 91 - بِاسْمِ الَّذِي فِي كُلِّ سُورَةٍ سِمُهْ * على أنه يقال: سِمٌ بدون همزة وصل قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " روى بكسر السين وضمها، والباء من " باسم " متعلق بأرسل في بيت قبله، وهو: أرْسَلَ فِيهَا بَازِلاً يُقَرِّمُهْ * فَهْوَ بِهَا يَنْحُو طَرِيقاً يَعْلَمُهْ باسْمِ الَّذِي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهْ وهذه الأبيات الثلاثة أوردها أبو زيد في نوادره (3) .
وقال: " هي لرجل زعموا أنه من كلب " والضمير المستتر " في أرسل " للراعي، والبارز من " فيها " للإبل، و " البازل ": البعير الذي انشق نابه، وهو في السنة التاسعة، و " يقرمه " يتركه عن الاستعمال
__________
(1) الودق: المطر: شديده وهينه، والمراد هنا الشديد (2) المنبعق: المندفع بالماء (3) انظر النوادر (ص 166) (*)

(4/176)


ليتقوى لِلفِحْلة، والمعنى أرسل هذا الراعي باسم الذي في كل سورة يذكر اسمه هذا الفحلَ في هذه الإبل فهو أي البازل ينحو بها أي يقصد بالإبل المذكورة، طريقاً يلعمه لاعتياده بتلك الفعلة وقال خضر الموصلي شارح شواهد التفسيرين: البيت من رجز لرؤبة بن
العجاج، أوله * قُلْتُ لِزيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ * انتهى.
أقول: قد فتشت (1) هذه الأرجوزة مراراً فلم أجد فيها البيت الشاهد، وقد تبعه شيخنا الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي، ونقل ما سطره من غير مراجعة، وأورد أبو زيد بعد تلك الأبيات ما نصه، وأنشدني أعرابي (من البسيط) أنَا الْحُبَابُ الَّذِي يَكْفِي سِمُي نَسَبي * إذَا الْقَمِيصُ تعَدَّى وَسْمَهُ النَّسَبُ الأصمعي: الوسم: تغير النجار، وقال: فَدَعْ عَنْكَ ذِكْرَ اللَّهْوِ وَاعْمِدْ لِمِدْحَةٍ * لِخَيْر يَمَانٍ كُلِّها حَيْثُ إنْتَمَى لأوْضَحِهَا وَجْهاًَ وَأَكْرَمِهَا أباً وَأَسْمَحِهَا كَفّاً وَأَعْلَنِهَا سُمَا انتهى.
وسُمِي - بضم السين وكسرها، والياء ضمير المتكلم - والنجار بكسر لنون بعدها جيم: الأصل، وسُمَا في اليبت الثاني - بضم السين والقصر - لغة في الاسم، وهو أعدل شاهد في هذه اللغة، وأنشده ابن جني في شرح تصريف المازني، وقال: ويروى " سِماً " فمن كسر السين فالألف عنده للوصل بمنزلة الألف في قول الاخر (من البسيط)
__________
(1) وقد فتشنا أراجيز رؤبة فلم نجد هذه الابيات في الارجوزة التى ذكر الموصلي أولها (*)

(4/177)


* يَا دَارَ عَمْرَةَ مِنْ مُحْتَلِّهَا الْجَرَعَا * (1) ولا يجوز أن تكون لام الفعل، لأنا لا نعلمهم قالوا: هذا سِمىً بوزن رِضاً، وأما من ضم السين فعندي يحتمل أمرين: أحدهما ما عليه الناس، وهو
أن تكون ألف الوصل، بمنزلتها في قول من يكسر السين، والوجه الآخر: أن تكون لام الفعل، بمنزلة الألف في القافية التي قبلها وهي " انتمى "، ويكون هذا التأويل على قول من قال: هذا سُمىً، بوزن هدى، إلا أنه حذف اللام لالتقاء الساكنين، يريد أنه منصوب منون حذفت ألفه لالتقاء الساكنين، انتهى.
وأقول: يرد على الوجه الأول أنه يبقي الشعر بلا رَوي، وهو فاسد، وأما قوله في الوجه الثاني " إلا أنه حذف لالتقاء الساكنين وهذه الألف هي المبدلة من التنوين للوقف " فهذا فاسد أيضاً، للزومه (2) عدم الروي، وقد حقق الشارح المحقق فيما يأتي في الشاهد الثالث بعد المائة عن السيرافي أنه استدل على أن الألف لام الكلمة لمجيئها رَويا في النصب وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والتسعون (من الطويل) 92 - * وَقَالَ اضرِبِ السَّاقَيْنِ إمُّكَ هَابِلُ * على أنه روي بكسر همزة " إمك " إتباعاً لكسرة نون الساقين والذي رواه ابن جني في أول المحتسب على غير (3) هذا، قال عند قراءة
__________
(1) هذا صدر بيت هو مطلع قصيدة * هيجت لى الهم والاحزان والوجعا * (2) كذا، وصوابه " لاستلزامه عدم الورى " (3) لا تنافى بين ما ذكره ابن جنى وما ذكره الشارح المحقق، بل الذى ذكره ابن جنى لا يتحقق إلا بعد أن يتحقق ما ذكره الشارح، وذلك أن الشاعر لم يتبع الميم للهمزة إلا بعد أن أتبع الهمزة للنون، فالبيت شاهد لهما جميعا (*)

(4/178)


من قرأ (الحمْدِ لله) بكسر الدال إتباعاً لكسرة اللام: ومثل هذا في إتباع الإعراب البناءَ ما حكاه صاحب الكتاب في قولهم بعضهم
* وَقَالَ اضْرِبِ السَّاقَيْنِ إمِّكَ هَابِلُ * كسر الميم لكسرة الهمزة، انتهى كلامه و " هابل " من هَبِلَتْهُ أمه: أي ثكلته وعدمته، وفعله كفرح يفرح، وهابل هنا على النسبة: أي ذات هَبَل، كحائض وطالق، و " اضرب " فعل أمر، و " الساقين " مفعوله، وجملة " إمك هابل " دعائية وهذا المصراع لم أقف على تتمته، ولا على قائله وأنشد الجاربردى، وهو الشاهد الثالث والتسعون (من الكامل) : 93 - وَلَقَدْ لَحَنْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْقَهُوا * وَاللَّحْنُ يَفْهَمُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ على أن صاحب الكشاف قال: اللحن أن تَلْحَنَ بكلامك: أي تميله إلى نحو من الأنحاء، ليفطن له صاحبك، وَأنشد البيت، وأورده عند تفسير قوله تعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول) وكذا أورده الجوهري، قال: " واللَّحَن بالتحريك: الفطنة، وقد لَحِن بالكسر، وفي الحديث " وَلَعَلَّ أحدكم أَلْحَنُ بحجته " أي أفطن لها من الآخر، أبو زيد: لَحَنْتُ بالفتح لَحْناً، إذا قلت له قولاً يفهمه عنك، ويخفى على غيره، ولَحِنه هو عني بالكسر يَلْحَنه لَحْناً: أي فهمه، وألحنته أنا إياه، ولاحنت الناس: فاطنتهم، قال الفزاري (من الخفيف) وَحَدِيثٍ ألَذهُ وَهْوَ مِمَّا * يَنْعَتُ النَّاعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنَا مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَتَلْحَنُ أحْيَا * نَاً وخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا يريد أنها تتكلم وهي تريد غيره، وَتُعَرِّض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها، كما قال تعالى (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لحن القول) أي: في فَحْوَاه

(4/179)


ومعناه، وقال القَتَّال الكلابي (من الكامل) :
وَلَقَدْ وَحَيْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا * وَلَحَنْتُ لَحْناً لَيسَ بِالْمُرْتَابِ وكأن اللحن في العربية راجع إلى هذا، لأنه من العدول عن الصواب " انتهى كلامه والوحي: الإشارة والكتابة والرسالة والكلام الخفي، ولم يعرف خضر الموصلي شارح أبيات التفسيرين تتمة البيت ومنشأه، ولم يزد على نفس كلام الجوهرى سوى ترجمة قائله وهو من قصيدة أوردها السكري في كتاب اللصوص قال: " كان عمرو ابن سلمة بن سكن بن قريط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب قد أسلم رضي الله عنه، ووفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقطعه حمىً بين الشقراء والسعدية، وهما ماءان تسعة أميال في ستة أميال، فأقطعها إياه فأحماها إياه زماناً، ثم هلك عمرو بن سلمة وقام بعده حُجْر بن عمرو (1) فأحماها، ثم إن نفراً من بنى جعفر ابن كلاب فيهم أجدُر بن بشر بن عامر بن مالك بن جعفر استرعوه خيلهم، فأرعاهم، فأرسلوا نعمهم مع خيلهم بغير إذنه، فغضب حُجْر وأراد إخراجهم فقاتلوه بالعصي والحجارة، وظهر عليهم حُجْر، ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح على أن يدع كل قوم ما فيهم من الجراحات، فتواعدوا الصلح بالغداة وكان أخ لحُجْر يدعى سعيد بن عمرو متنحيا عن الحمى عند امرأة من بني بكر تداويه من سِلْعة (2) كانت بحلقه، فبلغه الخبر وأقبل يريد أخاه حتى إذا كان في المنتصف
__________
(1) كان في الاصل " جحوش ابن عمر " والتصويب عن ياقوت في مادة (الشقراء) من معجم البلدان (2) السلعة - بكسر أوله، أو فتحه، مع سكون الثاني فيهما، وبفتح أوله وثانيه، وبكسر أوله وفتح ثانيه -: الخراج، والغدة (*)

(4/180)


ما بين رحلهم والحي غَدَر الجعفريون فاحتملوا عند المساء فمضوا وخلفوا ثلاثة فوارس: أحدهم قراد بن الأجدر بن بشر، فلقوا سعيد بن عمرو، فحمل قراد بن الأجدر عليه بالرمح فقتله، فبلغ الخبر حُجْراً وأوقد نار الحرب واجتمع إليه جمع من بني بكر، فخرج يطلب جعفراً حتى لحقهم، فقال بنو جعفر: ثأركم قراد ابن الأجدر، وقد هرب، وهذا أخوه جُنادة بن الأجدر، قال: إنا لحاملون عليكم أو تعطونا وفاء حتى نرى رأينا، فلما عرفوا منهم الجد اتقوهم بجُنادة وأمه ميسون بنت سهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، فدفعوه إلى حجر، فسار بجُنادة قليلاً فضرب عنقه بأخيه، وكان القتَّال أرسل إلى بني جعفر أن لا تعطوهم رهينة فإنهم يقتلونه، فلم يطيعوه، فقال القتال في ذلك قصيدة، وهذه أبيات منها بعد ثمانية عشر بيتاً: وَلَقَد لَحَنْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا * وَوَحَيْتُ وَحْياً لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ وَلَقَدْ بَعَثْتُ إلَيْكُمُ بصَحِيْفَةٍ * عَرَبِيَّةٍ مِنِّي مَعَ ابْنِ عُقَابِ وَمَعَ ابْنِ قَارِبَةَ السَّفِيرِ كَأَنَّمَا * وَثِقُوا بِرَأْي عُتَيْبَةَ بْنِ شِهَابِ أمَّا ابْنُ مَيْسُونَ الْمُقَادُ فِإنَّهُ * رَدَّ الرِّجَالَ بِهِ عَلَى الأَعْقَابِ هَلَكَ الَّذِينَ تمالئوا في قَتْلِهِ * وَنَجَوْتُ مِنْهُ طَاهِرَ الأَثْوَابِ يُسْقَوْنَ مَاءَ الْمُهْلِ كُلَّ عَشِيَّةٍ * يُجْزَوْنَ مَا كَسَبُوا مَعَ الكُتَّابِ هَلاَّ قَتَلْتُمْ قَاتِلاً بِقَتِيْلِهِ * فَيَكُونَ عِنْدَ الله أوْفَقَ بَابِ بَعْدَ الَّذِي مَا حَلْتُمُ عَنْ نَفْسِهِ * وَقَتَلْتُمُوهُ غَيْرَ ذِي أسْبَابِ وَيَكُونُ أبْرَأَ لِلصُّدُورِ مِنَ الْجَوَى * وَأَقَلَّ تَخْزَاءً غداة عِتَابِ لَنْ تُفْلِحُوا أبَداً وَلَوْ أسْمَنْتُمْ * وَرَعَيْتُمُ القفرات في الاعشاب وهذا آخر القصيدة قال السكري: ابن عُقاب - بالضم -: رجل من بني جعفر بن كلاب، وعُقَابُ

(4/181)


أمه سوداء نوبية، وابن قاربة: مولى لقريش كان وجَّه به، وعتيبة بن الحرث ابن شهاب اليربوعي كان فارس تميم كلها، وكان ذا رأي في الحرب وشجاعة ويُمْن نقيبة (1) ، وابن ميسون هو جُنادة بن أجدر، وتمالئوا: اتفقوا، والتخزاء - بالفتح - مصدر كالخزي بمعنى الفضيحة والقتال هو أحد بني بكر بن كلاب شاعر إسلامي في الدولة المروانية، وقد ترجمناه في الشاهد الخامس بعد السبعمائة من شرح شواهد شرح الكافية والبيتان اللذان أوردهما الجوهري هما لمالك ابن أسماء بن خارجة بن حصين ابن حذيفة بن بدر الفزاري، كان الحجاج تزوج أخته هنداً وولاه أصفهان، ولهما خبر أورده الأصبهاني في الأغاني قال " أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال: حدثني أبي قال: قلت للجاحظ: إني قرأت في فصل من كتابك البيان والتبيين أن مما يستحسن من النساء اللحن في الكلام فاستشهدت ببيتي مالك بن أسماء، قال: هو كذلك، فقلت: أما سمعت بخبر هند بنت أسماء بن خارجة مع الحجاج حين لحنت كلامها، فعاب ذلك عليها، فاحتجت ببيتي أخيها، فقال لها: إن أخاك أراد أن المرأة فطنة، فهي تلحن بالكلام غير الظاهر المعنى تستر معناه وتُوَرِّي عنه وتفهمه من أراد تعريفه بالتعريض، كما قال تعالى (ولتعرفنهم في لحن القول) ولم يرد الخطأ من الكلام، والخطأ لا يستحسن من أحد، فوجم الجاحظ ساعة ثم قال: لو وقع لي هذا الخبر لما قلت ما تقدم، فقلت له: فاصلحه، فقال: الآن وقد صار الكتاب في الآفاق؟ " انتهى.
وقال العسكري في كتاب التصحيف: " أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنى يحيى بن المنجم قال: حدثني أبي قال: قلت للجاحظ: مثلك في علمك
__________
(1) النقيبة: النفس، والعقل، والمشورة، ونفاذ الرأى، والاظهر ههنا المشورة
يريد أنه إذا أشار بشئ فاتبعوه عاد عليهم بالخير والبركة (*)

(4/182)


ومقدارك من الأدب تقول: يستظرف من الجارية أن تكون غير فصيحة وأن يعتري منطقها اللحن، وتقول: قال مالك بن أسماء في بعض نسائه وكانت لا تصيب وربما لحنت * وخير الكلام ما كان لحنا *؟ وتفسره على أنه أراد اللحن في الإعراب، وإنما وصفها بالظرف والفطنة وأنها تورى في لفظها عن أشياء قال: قد فطنت لذلك بعد، قلت: فغيره، قال: كيف لي بما سارت به الركبان " انتهى.
ونقل هذا الخبر عن العسكري السيد المرتضى في أول أماليه المسماة بغرر الفرائد ودرر القلائد وقال: " وقد تبع الجاحظ على هذا الغلط ابنُ قتيبة في كتابه المعروف بعيون الأخبار، وأورد أبيات الفزاري، واعتذر بها من لحن إن أصيب في كتابه " وكذا نقل السهيلي تَغليطَ الجاحظ وابن قتيبة في غزوة الخندق من كتابه الروض الأنف وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والتسعون: (من الطويل) 94 - إذَا جَاوَزَ الإِثْنَيْنِ سِرٌّ فَإِنَّهُ * بِنَثٍّ وَتَكْثِيرِ الْوُشَاةِ قَمينُ على أن قطع همزة الإثنين شاذ في ضرورة الشعر، قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: ومنها قطع همزة الوصل في الدرج إجراء لها مجراها حال الابتداء بها، وأكثر ما يكون ذلك في أول النصف الثاني من البيت، لتعذر الوقف على الأنصاف التي هي الصدور، نحو قول حسان رضي الله عنه (من البسيط) : لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكاً فِي دِيَارِكُمُ * الله أكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا وقال الآخر (من السريع) لاَ نَسَبَ الْيَوْمَ وَلاَ خلة * إتسع الحرق عَلَى الرَّاقِعِ
وقد يقطع في حشو البيت، وذلك قليل، ومنه قول قيس بن الخطيم: إذَا جَاوَزَ الإثْنَيْنِ سِرٌّ فَإنَّهُ ... البيت

(4/183)


وقول جميل: (من الطويل) ألاَ لاَ أرَى إثْنَيْنِ أحْسَنَ شِيْمَةً * عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنِّي وَمِنْ جُمْلِ وأنشد قدامه: (من الرجز) يَا نَفْسُ صَبْراً كُلُّ حَيٍ لاَقٍ * وَكُلُّ إثْنَيْنِ إلى افْتِرَاقِ انتهى.
وقد أنشد أبو زيد (1) بيت جميل في نوادره، وكتب عليه أبو الحسن الأخفش: " أخبرنا أبو العباس محمد بن يزيد أنه لا اختلاف بين أصحابه أن الرواية * ألا لا أرى خِلَّين * وهذه هي الرواية والأولى (2) ليست بثَبَتٍ، وإنما رواها أبو زيد والاخفش (3) على الشذوذ فليسا يعتدان بها، وكذلك أخبرنا في البيت الذي يعزى إلى قيس بن الحطيم وهو: إذَا ضيَّعَ الإثْنَانِ سِرّاً فَإنَّهُ * بِنَثٍ وَتَكْثَيرِ الْوُشَاةِ قَمِينُ قال: الرواية * إذا جاوز الخلين سر * قال: وهذه أشياء ربما يخطر ببال النحوي أنها تجوز على بعد في القياس، فربما غير الرواية " انتهى.
وهذا غير جيد، فإنه يقتضي عدم الوثوق برواية الثقات، وهم مأمونون فيما ينقلونه وقال ابن المستوفي: " وقال سيبويه في بيت قيس بن الحطيم: إنما هو * إذا جاوز الخلين سر * ولكنه صنع، والذي في شعره الإثنين، وهو أعم من الخلين وأتم في الدعوى " انتهى.
ولا يخفى أن سيبويه لم يورد هذا البيت في كتابه البتة، وليس من دأبه
__________
(1) انظر النوادر (ص 204)
(2) وقع في أصول الكتاب " وهذه الرواية الاولى ليست بثبت " وفى النوادر " وهذه الرواية، والاولى ليست بثبت " (3) المراد به أبو الخطاب الاخفش الكبير شيخ سيبويه ورصيف أبى زيد (*)

(4/184)


الطعن في الرواية كالمبرد، وقدسها قلمه، فنسب إلى سيبويه كلام المبرد ومثله (1) قول الصّلتان العبدي: (من المتقارب) وسرك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ * وَسِرُّ الثَّلاَثَةِ غَيْرُ الْخَفِيّ ومثله قول الآخر: (من الطويل) فَلاَ تَجْعَلَنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ثَالِثاً * وَكُلُّ حَدِيثٍ جَاوَزَ اثنين شائع أقول: قد بالغ في كتم السر، فقال: المراد من الاثنين الشفتان لا شخصان، وقوله " فإنه بنث " - بفتح النون وتشديد المثلثة - مصدر مؤنث الحديث ينثه نثا إذا أفشاه وروى " ببث " - بموحدتين - وعليها اقتصر الجاربردي فقال: يقال بث الخبر: أي نشره، وروي أيضاً " فإنه بنشر " وضمير فإنه للسر، والباء متعلقة بقمين بمعنى جدير وخليق وحَرِيّ ولائق، وكلها ألفاظ مترادفة وقوله " وتكثير " بالجر معطوف على نث، وهو مصدر مضاف إلى المفعول: أي السر المجاوز اثنين يكثر الأعداء والوشاة، وهو جمع واش، وهو النمام الذي يزوق الكلام ويحسنه عند نقله على جهة الإفساد، وقال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: هو مصدر مضاف إلى الفاعل، ومفعوله محذوف: أي وتكثيرِ الوشاة ذلك السر والبيت من أبيات لقيس بن الخطيم رواها له القالي في أماليه، وهي: أجود بمضمون التِّلاَدِ وَإنَّنِي * بِسِرِّكِ عَمَّنْ سَالَنِي لَضَنِينُ (2) إذَا جَاوَزَ الإثْنَيْنِ سِرٌ فإنه * بنث وتكثير الوشاة قمين
__________
(1) يريد في هذا البيت والذى بعده أنهما مثل بيت الشاهد في المعنى لا في قطع همزة الوصل (2) سألني مخفف سألني مثل قول حسان: سالت هذيل رسول الله فاحشة * ضلت هذيل بما قالت ولم تصب (*)

(4/185)


وَإنْ ضَيَّعَ الإخْوَانُ سِرّاً فَإنَّنِي * كَتُومٌ لأَسْرَارِ الْعَشِيرِ أمِينُ يَكُونُ لَهُ عِنْدِي إذَا مَا ضَمِنْتُهُ * مَكَانٌ بِسَوْدَاء الْفُؤَادِ كَنِينُ ويروى: ... إذَا مَا ائْتُمِنْتُهُ * مَقَرٌّ بِسَوْدَاء الْفُؤَادِ كَنِينُ سَلِي مَنْ جَلِيسِي في النَّدِيِّ وَمَأْلَفِي * وَمن هو لِي عِنْدَ الصَّفَاءِ خَدِينُ وَأيَّ أخِي حَرْبٍ إذَا هِيَ شَمَّرَتْ * وَمِدْرَهِ خَصْمٍ يَا نَوَارُ أكُونُ وَهَلْ يَحْذَرُ الْجَارُ الْغَرِيبُ فجِيْعَتِي * وَخَوْني، وبعض المقرفين خئون وَمَا لَمَعَتْ عَيْنِي لِغِرَّةِ جَارَتِي * وَلاَ وَدَّعَتْ بِالذَّمِّ حِينَ تَبِينِ (أبَا الذَّمَّ آبَاءٌ نَمَتْنِي جُدُودُهُمْ * وَفِعْلِي بِفِعْلِ الصَّالِحِينَ مُعينُ فَهَذَا كما قد تَعْلَمِينَ وإنَّنِي * لَجَلْدٌ عَلَى رَيْبِ الخُطُوبِ مَتِينُ) (1) وإنِّي لأَعْتَامُ الرِّجَالِ بخُلَّتِي * إلَى (2) الرَّأْيِ فِي الأَحْدَاثِ حِينَ تَحِينُ فَأُبْرِي لَهُمْ صَبْرِي وأُصْفِي مَوَدَّتِي * وَسِرُّكِ عِنْدِي بَعْدَ ذَاكِ مَصُونُ أُمِرُّ عَلَى الْبَاغِي وَيَغْلُظُ جَانِبي * وَذُو الْوُدِّ أحلو لى لَهُ وَأَلِينُ هذا ما أورده القالي، وهذا المقدار هو الموجود في ديوانه، والتلاد: كل مال قديم، والمضنون: اسم مفعول من ضن بالشئ يضن من باب تعِب ضنا وضِنّة - بالكسر - إذا بخل به فهو ضنين، وأراد بالتلاد المضنون به، وقوله " سالني "
بالألف وأصلها الهمزة، والعشير: المعاشر، وكنين: مكنون، أي مستور محفوظ،
__________
(1) سقط هذان البيتان من أصل الكتاب، وهما ثابتان في الامالى (ح 2 ص 177 طبع دار الكتب) ، وقد شرح المؤلف بعض ألفاظهما (2) كذا في أصول الكتاب، وعليها شرح المؤلف، والثابت في الاولى " أولى الرأى " أي: أصحاب الرأى، فهو من وصف الرجال (*)

(4/186)


والندي: المجلس، والخدين: الصديق، والمدره - بكسر الميم وآخره هاء - من دَرَه عن القوم يدرَه - بالفتح - إذا تكلم عنهم ودفع فهو مدره، ونَوَار: اسم امرأة، والفجيعة: المكروه، والخون: الخيانة، والمقرفُ - بضم الميم وكسر الراء -: من أبوه غير أصيل، ولمعت: نظرت، والغرة - بالكسر -: الغفلة، ونمتني: رفعتني، و " جدودهم " فاعله، وأعتام: أقصد، وهو من العيمة، وأصله شدة شهوة اللبن، والخُلَّة: - بالضم - الصداقة، و " إلى " بمعنى مع، وأبْري: مضارع أبرأ إبراء بمعنى شفاه، وقلب الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، و " أصْفِي مَوَدَّتِي " أجعلها صافية، وأمِرُّ من أمَرَّ الشئ: أي صار مرا، وأحلو لى: أصير حلواً وقيس بن الخطيم: شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس بعد الخمسمائة من شرح شواهد شرح الكافية وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس والتسعون، وهو من شواهد سيبويه (من الكامل) : وَلاَ تُبَادِرُ فِي الشِّتَاءِ وَلِيدَنَا * ألقِدْرَ تُنْزِلُهَا بِغَيْرِ جِعَالِ على أن قطع ألف " ألقدر " لضرورة الشعر قال سيبويه: وتذهب ألف الوصل إذا كان قبلها كلام، إلا أن تقطع كلامك، وتستأنف به، كما قالت الشعراء في الأنصاف، لأنها مواضع فصول،
فإنما ابتدأوا بعد قطع، قال الشاعر: * وَلاَ تُبَادِر فِي الشِّتَاءِ * البيت * وقبل البيت: يَا كَنَّةً مَا، كُنْتِ غَيْرَ لَئِيمَةٍ * للضَّيْفِ مِثْلَ الرَّوْضَةِ الْمِحْلاَلِ مَا إنْ تُبَيِّتُنَا بِصَوْت صلب * فيبيت منه القوم في بلبال وَلا تُبَادِرِ فِي الشِّتَاءِ وَلِيدَنَا البيت

(4/187)


والكنة - بفتح الكاف وتشديد النون - امرأة الابن، وما: زائدة أو إبهامية، قال الزمخشري في تفسير (مَثَلاً مَا بَعُوضَةً) : ما إبهامية، وهي التي إذا اقترنت بنكرة زاد إبهامها وشياعها، كقولك: أعْطِني كتاباً مَا، تريد أي كتاب كان، أو صلة للتأكيد، كالتي في قوله تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِم) انتهى.
والإبهامية تؤكد ما أفاده تنكير الاسم قبلها: إما فخامة: أيْ كنة أيَّ كنة، أو حقارة نحو أعطه شيئاً ما، أو نوعية نحو اضربه مَّا، ويجوز أن تكون استفهامية خبراً لكُنْت: أي أي شئ كُنْتِ، ويكون " غَيْرَ لئيمة " صفة لكنَّة، والروضة المحلال: التي تحمل المارَّ بها على الحلول حولها للنظر إلى حسنها وبهجتها، والصوت الصُّلَّب: الشديد، بضم الصاد وتشديد اللام، والْبَلْبَال: الغم والحزن، وتبادر: من " بَادَرَه " أي سبقه، وفاعله ضمير الكنة، و " وليدنا " مفعوله، والمراد بالشتاء زمن القحط، فإن الشتاء زمن الشدة عند العرب لعدم نبات الأرض، والوليد: الصبي الصغير، والخادم أيضاً، والجِعَال - بكسر الجيم - الخرقة ينزل بها القدر، يريد أنها لا شَرَهَ لها للطعام، وهذا أمر ممدوح، ويجوز في القدر رفعها ونصبها ونسب ابن عصفور البيت إلى لبيد العامري الصحابي رضي الله تعالى عنه
وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والتسعون (من الوافر) : 96 - أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أنَا أبْتَغِيهِ * أمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي على أن همزة الوصل في الخير بين، وقبله: وَمَا أدْرِي إذَا يَمَّمْتُ وَجْهاً * أريدُ الْخَيْرَ أيُّهُمَا يَلِينِي قال الفراء عند تفسير قوله تعالى (أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ من ربه) قال: أيُّهما (1) وأما ذكر الخير وحده فلأنَّ المعنى يُعَرَّف أن المبتغي للخير مُتَّقٍ للشر، انتهى
__________
(1) يريد أي الشخصين أقرب إلى الخير: من كان على بينة من ربه، ومن لم يكن (*)

(4/188)


وشوائع (1) والملهاة وأصلها الْمَاهَةُ (2) ، وَأَمْهَيْتُ الحديد (3) في أَمَهْتُهُ، ونحو جَاءٍ عند الخليل، وقد يُقدَّمُ متلوُّ الآخر على العين نحو طَأمَنَ وأصله طَمْأنَ (4) لأنه من الطُّمَأْنِينَة، ومنه اطْمَأَنَّ يطمئنُّ اطمئناناً، وقد تُقَدَّمُ العين على الفاء كما في أَيِسَ وَجَاهٍ وأيْنُقٍ والآراء والآبار والآدُرِ (5) ، وتقدم اللا على الفاء كما في أشياء على الأصح، وقد تؤخر الفاء عن اللام كما في الحادي وأصله الواحد
__________
الثلاثة فيما ورد مجرورا بالكسرة، فأما المرفوع والمنصوب بالفتحة على الحرف الصحيح فلا يجئ الا أحد
الوجهين، وإن كان على غير ذلك فهو على ما ذكر آخرا ليس غير (1) شوائع: جمع شائعة، تقول: أخبار شائعة وشوائع إذا كانت منتشرة، وكذا تقول شاعية وشواع بالقلب، وتقول: جاءت الخيل شوائع وشواعي: أي متفرقة (2) الماهة: واحدة الماء، وهو الماء، قاله في اللسان، والمهاة - بفتح الميم - الحجارة البيض التى تبرق، وهى البلورة التى تبص لشدة بياضها، وهى الدرة أيضا، والمهاة - بضم الميم - ماء الفحل، وإذا استقرأت أمثلة القلب المكانى علمت أنه لابد بين معنى اللفظ المقلوب والمقلوب عنه من المناسبة لكن لا يلزم أن يكون هو نفسه، بل يجوز أن يكون مما شبه بمعنى المقلوب عنه أو من بعض أفراده، قال ابن منظور: " المهو من السيوف: الرقيق، وقيل: هو الكثير الفرند، وزنه فلع، مقلوب من لفظ ماه، قال ابن جنى: وذلك لانه أدق حتى صار كالماء " اه (3) تقول: أمهيت الحديدة إذا سقيتها الماء وأحددتها ورققتها وتقول: اماه الرجل السكين وغيرها إذا سقاها الماء وذلك حين حين تسنها به، ومثل ذلك قولهم في حفر البئر أمهى وأماه إذا انتهى إلى الماء (4) طأمن الرجل الرجل: إذا سكنه، والطمأنينة: السكون، والذى ذهب إليه المؤلف من أن طأمن مقلوب عن طمأن هو ما ذهب إليه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه ذهب إلى أن طمأن مقلوب عن طأمن، انظر اللسان فان فيه حجة الامامين وتفصيل المذهبين (5) الجاه: المنزلة والقدر عند السطان: وأصله وجه قدمت العين فيه على الفاء ثم حركت الواو، لان الكلمة لما لحقها القلب ضعفت فغبروها بتحريك ما كان ساكنا (*)

(4/189)


قال ابن رشيق في العمدة: ومن مليح ما رويته في الموازنة والتعديل قول ذي الرمة: أستحدث الركب من أشياعهم خبرا * أم راجع القلب من أطرابه طرب (لأن قوله " أستحدث الركب ") (1) موازن لقوله " أم راجع القلب " وقوله " عن أشياعهم خبرا " موازن لقوله، " من أطرابه طرب " وذو الرمة: شاعر في الدولة الأموية، عصريُّ الفرزدق وجرير وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن من أول شرح شواهد الكافية وأنشد بعده (من الرجز) * فَبَاتَ مُنْتَصْباً وما تكردسا * وتقدم شرحه في الشاهد التاسع من هذا الكتاب وأنشد هنا الجاربردي، وهو الشاهد الثامن والتسعون (من البسيط) 98 - وَقُمْتُ لِلزَّورِ مُرْتَاعاً وَأَرَّقَنِي * فَقُلْتُ أهْيَ سَرَتْ أمْ عَادَنِي حُلُمُ على أن سكون الهاء من " أهْيَ " عارض، ولهذا لم يؤت بألف الوصل،
والإسكان مع همزة الاستفهام قليل، وقيل: ضعيف.
والبيت من قصيدة لِلْمَرَّار العدوي، وقبله: زَارَتْ رُوَيْقَةُ شُعْثاً بَعْدَ مَا هَجَعُوا * لَدَى نَوَاحِلَ فِي أرْسَاغِها الْخَدَمُ يقول: زار خيالُ رويقة قوماً شُعْثاً غُبْراً بعد ما ناموا عند إبل ضوامر شدت في أرساغها سيور القد لشدة سيرها وتأثير الكَلال فيها.
والزَّوْر: مصدر من الزائر المراد به طيفها، يريد أني قمت لاجل الطيف
__________
(1) سقطت هذه العبارة من أصول الكتاب، وانظر (العمدة لابن رشيق: 2 - 19 طبع المكتبة التجارية) (*)

(4/190)


منتبهاً مذعوراً للقائه، وأرقني لما لم يَحْصَل اجتماع محقق، ثم ارتبت لعدم الاجتماع: هل كان على التحقيق أو كان ذلك في المنام؟ ويجوز أن يريد فقمت للطيف وأنا في النوم إجلالاً في حال كوني مذعوراً لاستعظامها، وأرقني ذلك لما انتبهت فلم أجد شيئاً محققاً، ثم من فرط صبابته شك أهي في التحقيق سرت أم كان ذلك حلماً، على عادتهم في مبالغاتهم.
وقد تكلمنا عليه وعلى غالب القصيدة وترجمة قائلها في شرح الشاهد التاسع والسبعين بعد الثلثمائة من شرح شواهد شرح الكافية.
الوقف أنشد فيه، وهو الشاهد التاسع والتسعون (من المتقارب) 99 - * وَآخُذُ مِنْ كُل حَيّ عُصُمْ * على أن أصله عُصُماً، ووقف عليه في لغة ربيعة بالسكون، فإنهم يجيزون تسكين المنصوب المنون في الوقف.
وهذا المصراع من قصيدة للأعشى ميمون مدح بها قيس بن معدي كرب،
وقبله: - وَيَهْمَاءَ تَعْزِفُ جِنَّانُها * مَنَاهِلُهَا آجِنَاتٌ سُدُمْ قَطَعْتُ بِرَسَّامَةٍ جَسْرَةٍ * عذافرة كالفنيق القطم إلَى الْمَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى * وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍ عُصُمْ قوله " ويهماء " الواو واو رب -، واليهماء - بفتح المثناة التحتية -: الفلاة التي لا يُهْتَدى فيها، وتعزف - بالعين المهملة والزاي المعجمة - أي: تصوتُ، والجنان - بكسر الجيم - جمع جانّ، والمنهل: المورد، والآجن: الماء التغير المطعم واللون، والسدُم - بضم السين والدال المهملتين - وهي البئر المدفونة، وقوله " قطعت " جواب رب المقدرة، وهو العامل في محل يهماء النصب، والرسَّامة:

(4/191)


الناقة التي تؤثر في الأرض من شدة الوطء، والجَسْرَة - بفتح الجيم - الناقة القوية، ومثلها الْعُذافرة، والفنيق - بفتح الفاء وكسر النون - الفحل العظيم الخلق، والقطم - بفتح القاف وكسر الطاء - وصف من قطم الفحل بالكسر: أي هاج للضِّراب، وهو في هذه الحالة أقوى ما يكون، وقوله " إلى المرء " أراد المرء المستغرق لخصائص أفراد الرجال، وقيس: بدل منه أو عطف بيان، والسري: السير، وهذه طريقة المتقدمين في التخلص إلى المديح، وهو أنهم يصفون الْفَيَافِي وقطعها بسير الإبل وذكر ما يقاسون من الشدائد في الوصول إلى الممدوح ليوجبوا عليه ذمَّة ويُجْزِل لهم الصلة والإكرام، و " آخذ " معطوف على أطيل، والحي: القبيلة، والْعُصُم: مفعول آخذ، قال ابن جني: هو بضمتين جمع عِصَام، وعصام القربة، وكاؤها وعروتها أيضاً، يعني عَهْداً يبلغ به وقال ابن هشام صاحب السيرة النبوية: هو بكسر ففتح جمع عِصْمة، وهي الحبل والسبب، وإنما كان يأخذ من كل قبيلة إلى أخرى عهداً لأن له في كل قبيلة
أعداء ممن هجاهم أو ممن يكره ممدوحه فيخشى القتل أو غيره فيأخذ عهداً ليصل بالسلامة إلى ممدوحه.
وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا في شرح الشاهد الرابع والعشرين بعد الثلاثمائة من شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد هنا قول الشاطبي رحمه الله، وبه تُوفَّى المائة.
100 - وَفِي هَاءِ تَأْنِيثٍ وَميم الجميع قل * وَعَارِض شكل لم يكونا ليدخلا وفي الهاء للإضمار قوم أبوهما * ومن قبله ضم أو الكسر مثلا أو اماهما واو وياء، وبعضهم * يُرَى لَهُمَا فِي كُلِّ حَالٍ مُحَلِّلاَ على أن ابن الحاجب ظن أن الشاطبي أراد بقوله " وبعضهم يرى لهما في كل حال

(4/192)


محللاً " كلَّ حال من أحوال هاء التأنيث وميم الجمع وعارض الشكل وهاء المذكر، كما وهم بعض شراح كلامه أيضاً، فأجاز ابن الحاجب بناءً على هذا الوهم الرَّوْمَ والإشمام في الاربعة، وإنما معنى قول " الشَاطبي في كل حال " من أحوال هاء الضمير فقط.
أقول: شرح الجعبرى كما ذكره الشارح، ثم نقل أن بعضهم جعله عاما في هذه الثلاثة وغيرها، قال: وتوهم بعضهم في كل حال من أحوال الحرف الموقوف عليه، ومنها النصب، وهذا صرف للكلام إلى غير ما فرض، وغلط في النقل، انتهى وكذا شرح أبو شامة، على ما ذكره الشارح المحقق، وكذا شرح السمين، لكنه عمم في آخر كلامه، وهذه عبارته: قوله " وبعضهم يرى لهما في كل حال محللا " إشارة إلى أن بعض أهل الاراء حلل الروم والاشمام: أي جوزهما: في هاء الاضمار في كل حال، حتى في الحال التى منع فيها، وهى ما إذا كانت الهاء مضمومة بعد ضمة أو واو مكسورة بعد كسرة أو ياء، فيروم ويشم ونحو (يعلمه) و (بمزحزحه) و (عقلوه)
و (لابيه) ، وممن ذهب إلى جواز الروم والاشمام مطلقا أبو جعفر النحاس، وليس هو مذهب القراء.
وقد تحصل مما تقدم أن الامر دائر في الروم والاشمام بين ثلاثة أشياء: استثناء هَاء التَّأْنِيثِ ومِيمِ الْجَمْعِ وَالْحَرَكَةِ العارضة، وهذا أشهر المذاهب، الثاني استثناء هذه الثلاثة مع هاء الكناية بالشرط المتقدم عند بعض أهل الاراء، الثالث عدم استثناء شئ من ذلك، وهو الذى عبر عنه بقوله " وبعضهم يرى لهما في كل حال محللا " انتهى كلامه.
فقوله " وهذا أشهر المذاهب " يؤكد (1) ما حكاه ابن الحاجب من جوازهما في الثلاثة أيضا، وقول الشارح المحقق " لم أر أحداً من القراء ولا من النحاة ذكر أنهما يجوزان في أحد الثلاثة " وهم، فإن بعض القراء صرح بجوازهما في ميم
__________
(1) في نسخة " يؤيد " (*)

(4/193)


الجمع، قال أبو شامة والسمين: وما ذكره الناظم من منع الروم والاشمام في ميم الجمع هو المشهور، وهو اختيار أبى عمرو الدانى وغيره، وخالف في ذلك مكى فجوزهما فيها، قال (مكى) : ميم الجمع أغفل القراء الكلام عليها، والذى يجب فيها على قياس شرطهم أن يجوز فيها الروم والاشمام، لانهم يقولون: لا فرق بين حركة الاعراب وحركة البناء في جواز الروم والاشمام، فالذي يشم ويروم حركة النص غير مفارق له، والذى لا يروم حركة الميم خارج عن النص بغير رواية، اللهم إلا أن يوجد الاستثناء فيها منصوصا، فيجب الرجوع إليه إذا صح، وليس ذلك بموجود، ومما يقوى جواز ذلك فيها نصهم على هاء الكناية بالروم والاشمام، فهى مثل الهاء لانها توصل بحرف بعدها حركة، كما توصل الهاء، وتحذف ذلك الحرف في الوقف كما تحذف مع الهاء، فهى مثلها في هذا، غير أن
الهاء أخفى منها، فلذلك امتنعت الهاء من الروم والاشمام إذا كانت حركتها مثل حركة ما قبلها أو كان قبلها ساكن من جنس حركتها، وهذا لا يكون في الميم، لانها ليست بالخفية، ولو كانت في هذا مثل الهاء لم يجز الإشمام في يقوم ويحكم، وليس في جوازه اختلاف، وليس قول من يمنع ذلك لأن الميم من الشفتين بشئ، لاجماع الجميع على الروم والإشمام في الميم التي في أواخر الأفعال والأسماء التي ليست للجمع، ولو تم له منع الإشمام فيها لم يتم له منع الروم، إلى آخر ما فصله.
قال السمين: فمكي جوز ذلك فيها لثلاثة أوجه: أحدها الدخول في عموم نص القراء على جوازهما في المتحرك، ولم يستثنوا من ذلك ميم الجمع، فالمتمسك بذلك فيها غير خارج عن النص ولا مفارق له، الثاني القياس على هاء الإضمار، بل جعل الميم أولى بذلك لعدم خفائها، الثالث إفساد علة من عَلَّلَ منعهما فيها بأنها من حروف الشفتين، وقد أغلظ الداني في الرد على مكي، وفرق بين ميم

(4/194)


الجمع وهاء الكناية، ورُدَّ على الداني في ذلك كما فصله السمين وقول الشاطبي: " وفي هاء تأنيث " قال أبو شامة: هذا مشروع فيما يمتنع فيه الروم والإشمام على رأي القراء، والألف في " يكونا " و " ليدخلا " يرجع إلى الروم والإشمام، أي: لم يقعا في هذه المواضع الثلاثة حيث كانت، انتهى، ومفهومه أنهما يجوزان في الثلاثة عند غير القراء وقوله " وعارض شكل " قال السمين: أي عارض الحركة، وذلك على قسمين: الأول ما عرض تحريكه لالتقاء الساكنين، نحو: (ومن يُشَاقّ الله) (وإن امرؤ) و (قالت اخرج) و (قل الله) والثاني ما عرض تحريكه بالنقل، نحو: (من استبرق) و (من أجل ذلك) و (قد أفلح) وكلا القسمين ممتنع
فيه الروم والإشمام، ثم قال: واعلم أنهما يمتنعان في حركة التقاء الساكنين، إذا كان الساكنان من كلمتين، نحو (ومن يشاق الله) و (عَصَوُا الرسول) أو من كلمة واحدة وأحدهما التنوين، نحو يومئذٍ وحينئذٍ، أما إذا كان الساكنان في كلمة واحدة وليس أحدهما تنويناً فإن الرَّوْم والإشمام جائزان في تلك الحركة وإن كانت حركة التقاء الساكنين، لوجود علة الحركة وصلاً ووقفاً، وذلك نحو (وَمَنْ يُشَاقّ الله) فالروم فيه غير ممتنع، لأن الساكن الذي وجدت الحركة من أجله موجود في الوصل والوقف، بخلاف ما مر، فإن الساكن الذي وجدت الحركة من أجله معدوم في الوقف حيث كان بعضه من كلمة أخرى، وفي بعضه تنويناً، وبهذا يعلم أن إطلاق من أطلق منع دخول الروم والإشمام في حركة التقاء الساكنين ليس بجيد، انتهى وهذا أيضاً يرد على الشارح في قوله " لم أرد أحداً من القراء أجازهما في أحد الثلاثة المذكورة " وقول الشاطبي " وفي الهاء للإضمار " إلى آخر البيتين، قال السمين: أخبر

(4/195)


عن قوم من أهل القرآن أنهم أبو أي امتنعوا من الرَّوْمِ والإشمام في هاء الضمير بشرط أن يكون قبلها ضمة أو كسرة أو واو أو ياء ساكنة، وذلك نحو (يعلمه) و (بمزحزه) و (عقلوه) و (لأبيه) فكل هذه الأمثلة الأربعة وما أشبهها لايدخل فيها روم ولا إشمام.
وقوله " وفي الهاء " الظاهر أنه متعلق بمقدر: أي أعني في الهاء، ولا يجوز تعلقه بقوله " أبوهما " لأن القاعدة تمنع من تقديم المعمول حيث لا يتقدم العامل عندهم، و " أبوهما " لا يجوز تقديمه على " قوم " لأنه صفة له أو خبر، وعلى كلا التقديرين تقديمه ممتنع، لأن الصفة لا تتقدم على موصوفها والخبر الفعلي لا يتقدم على مبتدئه (1)
وقوله " للإضمار " حال من الهاء أي كائنة للإضمار، وقوله " قوم " مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما أنه محذوف تقديره ومن القراء قوم، " وأبوهما " على هذا في موضع النعت للمبتدأ، والثاني أنه قوله " أبوهما " وحينئذٍ يقال: ما المسوغ للابتداء بقوم، وهو نكرة؟ والجواب أن المسوغ له العطف، وهو معدود من المسوغات، والإباء: الامتناع، وقوله " ومن قبله ضم " مبتدأ مؤخر قدم خبره عليه، والهاء في " قبله " فيها وجهان ذكرهما أبو شامة: أحدهما أنه تعود على الإضمار، وهذا وإن كان مساعداً له من حيث اللفظ إلا أنه غير ظاهر من حيث المعنى إذ الإضمار معنى من المعاني، فلا يتحقق أن يكون قبله ضم، والثاني أنها تعود على الهاء، وهذا واضح: أي ومن قبل الهاء ضم، قال أبو شامة: ولو قال قبلها لجاز على هذا، وكان أحسن
__________
(1) هذا الذى ذكره من أن الخبر الفعلى لايتقدم على المبتدأ ليس على إطلاقه بل هو مخصوص بما إذا كان الفعل مسندا إلى ضمير الواحد نحو قولك " محمد حضر " فأما إذا كان الفعل مسندا إلى ضمير الاثنين نحو " المحمدان حضرا " أو إلى ضمير الجمع نحو " المحمدون حضروا " فانه يجوز التقديم فتقول: حضرا المحمدان، وحضروا المحمدون.
(*)

(4/196)


لأنه أوضح، والوزن مُواتٍ له، والجملة من قوله " ومن قبله " ضم في موضع الحال من الهاء: أي أبوهما في الهاء للإضمار والحال أن قبلها ضماً أو كسراً، وقوله " أو الكسر " عطف على " ضم " عطف معرفة على نكرة، وأو للتنويع، وقوله " مُثِّلاَ " جملة فعلية في موضع الحال أو في موضع رفع، فإن كانت حالاً ففي صاحبها ثلاثة أوجه: أحدها أنه الكسر، والثاني أنه الضم، فإن قيل: كيف ساغ مجيئها من نكرة؟ فجوابه أن سيبويه، يرى ذلك، أو تقول: العطف يسوغه كما سوغ الابتداء، وقد ذكروا أن كل ما سوغ الابتداء بنكرة سوغ مجئ الحال منها، والثالث أنه الضمير
المستتر في الخبر، وهو قوله " ومن قبله "، وهو في الحقيقة راجع لأحد القولين المتقدمين، فإن الضمير المستتر عائد على الضم أو الكسر، وحيث جعلناه حالاً من أحدهما فالحال في الآخر مرادة، وإنما استغنى عنها لدلالة المعنى، ولأن العطف بأو، وهو يقتضي الإفراد، وإن كانت في موضع رفع فهى صفة لقولهم ضم، وحينئذٍ يكون الحال من قوله " أو الكسر " لدلالة صفة الأول عليها، فإنه لا فرق بين الصفة والحال معنى، والألف في " مثلا " الظاهر أنها للإطلاق، لأن العطف بأو، وجوز أبو شامة أن تكون للتثنية، فتعود على قوله ضم أو الكسر، ومعنى مُثِّلَ شُخِّص من مَثُل بين يديه: أي شخَص، ومنه قول العلماء: مثل له المسألة: أي شخصها له، وقوله " أو أماهما " أو عاطفة على ضم أو كسر، فالضمير في " أماها " للضم والكسر، ويعني بأمَّيْهما الواو والياء، ولذلك بينهما بقوله " واو وياء " أي: أم الضم الواو وأم الكسر الياء، فهو من باب اللف والنشر، لأن كل واحد يليق بصاحبه للتجانس المعروف، ونقل حركة همزة " أما هما " إلى واو " أو " فضمها، وأسقط همزة " أما هما " على قاعدة النقل، وأم الشئ: أصله، وقوله " واو وياء " بدل من أما هما، وقوله " أو أماهما " بناء منه على المذهب الصحيح، وهو أن الحرف أصل الحركة، وَالحركة مُتَوَلِّدَة منه، وقيل بالعكس

(4/197)


وقد سبق الناظم إلى هذه العبارة الحصري في قصيدته المشهورة حيث يقول (من الطويل) : وَأشْمِمْ وَرُمْ مَا لَمْ تَقِفْ بَعْدَ ضَمَّةٍ * وَلاَ كَسْرَةٍ أوْ بَعْدَ أُمِّيْهِما فَادْرِ وقوله " وبعضهم " مبتدأ، والضمير للقراء، للعلم بهم، و " يُرَى " مبني للمفعول، ومرفوعة ضمير بعضهم، و " لهما "، و " في كال حال " متعلقاً منه بمحللاً، ومحللاً: مفعول ثان للرؤية، والمحلل: اسم فاعل من حلل الشئ تحليلاً: أي
جعله حلالاً، ضد حرَّمه، إذا منعه: أي أن بعضهم أباح ذلك في كل حال والشاطبي: هو القاسم (1) بن فيرة بن خلف بن أحمد الرُّعَيْني الشاطبي نسبة إلى شاطبة قرية بجزيرة الأندلس كان إماماً في القرآن والحديث والنحو واللغة في شدة ذكاء، وكراماته تلوح منه، ولد آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، فيكون عمره أقل من اثنين وخمسين سنة (2) ، وهذه القصيدة في القراءات السبع سماها حرز الأماني ووجه التهاني، ولها شروح تفوت الحصر، وأجلها هذه الشروح الثلاثة، وشرح، الإمام علم الدين السخاوي تلميذ المصنف، وهو أول من شرحها، وشرح أبي عبد الله الفاسي، رحمهم الله تعالى ونفعنا بعلومهم وأنشد بعده، وهو الشاهد الواحد بعد المائة (من الرجز) 101 - * بل جوز تيهاء كظهر الحجفت *
__________
(1) في الاصول " هو أبو القاسم " وليس صحيحا، والتصويب عن بغية الوعاة للسيوطي (2) هذه التفريع غير ظاهر، لانه إنما يتم بعد ذكر سنة وفاته، وجميع أصول الكتاب خالية من ذلك، وقد توفى القاسم بن فيرة في جمادى الاولى من عام 590 تسعين وخمسمائة من الهجرة، وانظر ترجمته في البغية (379) (*)

(4/198)


على أنه يجوز الرَّوم والإشمام عند من يقف بالتاء، فيجوز في " الحجفت " الروم دون الإشمام قال السمين في شرح الشاطبية: وفي قول الناظم رحمه الله تعالى " وفي هاء تأنيث " شبهة على أنه لو لم تبدل التاء هاء في الوقف، وذلك كما رسمت بعض التاءات بالتاء دون الهاء، نحو (جَنَّتُ نَعيم) و (رحمْتُ رَبِّك) و (بقِيَّتُ الله فإن الروم والإشمام بعد خلاف تلك التاء لانتفاء العلتين المانعتين من روم الهاء
وإشمامها، أعني كون الحركة فيها نفسها وكونها غير مشبهة ألف التأنيث، وقد نص مكي على ذلك، فقال: لم يختلف القراء في هاء التأنيث أنهم يقفون عليها بالاسكان، ولا يجوز الروم والإشمام فيها، لأن الوقف على حرف لم يكن عليه إعراب إنما هو بدل من الحرف الذي كان عليه الإعراب، إلا أن تقف على شئ منها بالتاء إتباعاً لخط المصحف، فإنك تروم وتشم إذا شئت، لأنك تقف على الحرف الذي كانت الحركة لازمة له فيحسن الروم والإشمام، انتهى وقال ابن جني في سر الصناعة: من العرب من يُجْري الوقف مجرى الوصل فيقول في الوقف: هذا طلحت، وعليه السلام والرحمت، وأنشدنا أبو علي: * بَلْ جَوْزِتَيْهَاءَ كَظَهْرِ الْحَجَفَتْ * انتهى وقال الصاغاني في العباب: ومن العرب من إذا سكت على الهاء جعلها تاء، وهو طيئ، فقال: هذا طلحت، وخبز الذُّرَتْ وقال ابن المستوفي أيضاً: وجدت في كتاب أنها لغة طيئ وقوله " بل جوزتَيْهاء " قال الصاغاني في " بل ": ربما وضعوا بل موضع رب، قال سؤر الذئب * بَلْ جَوْزَتَيْهَاءَ كَظَهْرِ الْحَجَفَتْ *

(4/199)


أي: رب جوزتَيْهَاء، كما يوضع الحرف موضع غيره، والجوز - بفتح الجيم وآخره زاي معجمة - الوسط، وجوز كل شئ: وسطه، والجمع أجواز، والتيهاء - بفتح المثناة الفوقية - المفازة التي يتيه فيها سالكها: أي يتحير، والحجفة - بفتح الحاء المهملة والجيم والفاء - الترس، قال عبد القاهر: يقولون تيهاء كظهر المجنّ، يريدون الملاسة، وقال ابن المستوفي: شبه التيهاء بظهر
المجن في الملاسة، والشئ قد يشبه بالشئ ويراد منهما معنى فيهما، " كظهر الحجفت " إنما أراد أن التيهاء ملساء لا أعلام فيها كظهر الحجفة ملاسةً، ولم يرد أنها مثله في المقدار، انتهى وذكر الوسط ليدل على أنه تَوَسَّط المفازة ليصف نفسه بالقوة والجلادة، قال صاحب العباب: يقال للترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عَقَب: حَجَفَة، ودَرَقَة، وأنشد البيت لسُؤر الذئب، وكذا قال الجوهري، وقال: قال الراجز: مَا بَالُ عَيْنِي عَنْ كَرَاهَا قَدْ جَفَتْ * مُسبِلَةً تَسْتَنُّ لَمَّا عَرَفَتْ دَاراً لِلَيْلَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ * بَلْ جَوْزِتَيْهَاءَ كَظَهْرِ الْحَجَفَتْ انتهى.
قال ابن بري في أمالية على الصحاح: هذا الرجز لسؤر الذئب، وصواب إنشاده: مَا بَالُ عَيْنِي عَنْ كَرَاهَا قَدْ جَفَتْ * وَشفَّهَا مِنْ حُزْنِهَا مَا كُلِفَتْ كَأَنَّ عُوَّاراً بِهَا أوْ طُرِفَتْ * مُسْبَلَةً تَسْتَنُّ لم عَرَفَتْ دَاراً لِلَيْلَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ * كَأَنَّهَا مَهَارِقٌ قَدْ زخرفت تسمع للحلى إذا ما انصرمت * كَزَجَلِ الرِّيحِ إذَا مَا زَفْزَفَتْ

(4/200)


مَا ضَرَّهَا أمْ مَا عَلَيْهَا لَوْ شَفَتْ * منيما بِنَظْرَةٍ وَأَسْعَفَتْ (1) بَل جَوْزِتَيْهَاءَ كَظَهْرِ الْحَجَفَتْ * قَطعْتُها إذَا الْمَهَا تَجَوَّفَتْ مَآزِقاً إلَى ذَرَاهَا أهْدَفَتْ (2) انتهى ما أورده وقوله " ما بال عيني " ما استفهامية مبتدأ، وبال: خبره، والبال: الشأن والحال،
وعن: متعلقة بجفت، والكرى: النوم، قال الخوارزمي: جفت أي انقطعت عن كراها، انتهى.
وهو بالجيم، وهو من جفا الشئ عن كذا وتجافى عنه: أي نبا عنه وتباعد، وجملة " قد جفت " حال من العين، و " شفها " من شفَّه الهم يشفه: أي هزله وأنحله، و " كُلِفت " بالبناء للمفعول، والعُوَار - بضم العين وتشديد الواو، وهو ما يسقط في العين فتدمع، يقال: بعينه عُوَّار: أي قذى، ومثله العائر، " وطُرِفَت " بالبناء للمفعول، من طَرَفْتُ عينه طَرْفاً - من باب ضرب - إذا أصبتها بشئ، فدمعت.
فهى مطروفة، ومسلبة: أي تصب دمعها، من أسبلت الماء: أي صببته، وتَسْتَنَّ: تجري بدمعها، من سَنَنْتُ الماء، إذا أرسلته إرسالاً من غير تفريق، وقوله " دارا لليلى " مفعول عرفت، وعفت: ذهبت آثارها وانمحت معالمها، وقوله " كأنها " أي كأن ليلى،
__________
(1) في اللسان (ح ج ف) زيادة بيت بعد هذا البيت وهو * قد تبلت فؤاده وشغفت * (2) في اللسان (ح ج ف - أرن) " مآرنا إلى ذراها - الخ " والمآرن: جمع إران على غير لفظه كمحاسن ومشابه، أو جمع مئران، وهو كناس الوحش، وأصله على هذا الوجه مآرين، كما قال جرير: قد بدلت ساكن الارام بعدهم * والباقر الخنس يبحثن المآرينا فحذف الياء كما حذفت في قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) وكما قال الراجز وجمع عوارا: * وكحل العينين بالعواور * (*)

(4/201)


والمهارق: جمع مُهْرَق، وهي الصحيفة البيضاء يكتب (1) فيها، شبهها بالكاغد لصقالته وبياضه ونعومته، وزُخْرفت: زينت بالذهب، والزخرف: الذهب،
والحَلْي - بفتح فسكون - ما تتزين به المرأة كالْخَلْخَال والسِّوار، وانصرفت: ذهبت فمشت، وزَجَلُ الريح: صوتها، وهو بفتح الزاي والجيم، وزفزفت - بزاءين معجمتين وفاءين - أي هبت بشدة، وقوله " قَطَعْتُهَا " هو جواب رُبَّ المقدرة بعد بل، والمها - بالفتح -: جمع مهاة، وهي البقرة الوحشية، والمأزق: جمع مَأْزِق، وهو المضيق، وذَرَاها - بفتح الذال - أي: ناحيتها، وأهدفت: قربت، قال شمر: الإهداف الدنو من الشئ والاستقبال له وأنشد الجاربردي بعد هذا البيت، وهو الشاهد الثاني بعد المائة (من الرجز) 102 - * بَلْ مَهْمَهٍ قَطَعْتُ بَعْدَ مَهَمَهِ * على أن رُبَّ بعد بل مقدرة، والجر بها والمهمة: المفازة البعيدة الأطراف، ومفعول " قطعت " محذوف، وهو ضمير المهمة: أي قطعتها وتجاوزتها وهذا البيت نُسِبَ إلى رؤبة، ورجعت إلى ديوانه فلم أجده فيه، ونسب إلى والده العجاج، قال العيني: لم أجده في ديوانه، والله تعالى أعلم وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث بعد المائة (من الرجز) : 103 - وَرُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الْحَيَّ سرى * صادف زادا وحديثا ما اشتهى
__________
(1) هو فارسي معرب، وزنته كزنة اسم المفعول من الرباعي، قال حسان: كم للمنازل من شهر وأحوال * لال أسماء مثل المهرق البالى (*)

(4/202)


* إنَّ الْحَدِيثَ جَانِبٌ مِنَ الْقِرَى * على أن السيرافي استدلَّ على كون الاف لام الكلمة في الأحوال أنها
جاءت رَوِيّاً في النصب، فألف " سرى " لام الكلمة، لا أنها بدل من نون التنوين للوقف، إذ لا يجوز أن تكون رويا مع الألف الأصلية كألف " اشتهى " و " القرى " وبما حقق الشارح المحقق من مذهب سيبويه يُرَدُّ على ابن هشام اللخمي في شرح المقصورة الدريدية عند قوله (من الرجز) فاستنزل الزَّبَّاءَ قَسْراً وَهْيَ مِنْ * عُقَابِ لَوْحِ الْجَوِّ أعْلَى مُنْتَمَى (1) قال في شرحه: قوله " منتمى " قد غلط فيه، لأن العرب لا تقف بالتنوين، ومنتمي هنا منصوب على التمييز، والوقف فيه عند سيبويه على الألف المبدلة من التنوين، هذا كلامه.
وقال أبو حيان في الارتشاف: " والمقصور المنون يوقف عليه بالألف، وفيه مذاهب: أحدها أن الألف بدل من التنوين، واستصحب حذف الألف المنقلبة.
وصلاً ووقفاً، وهو مذهب أبي الحسن والفراء والمازني وأبي علي في التذكرة، والثاني أنها الألف المنقلبة، لما حذف التنوين عادت مطلقاً، وهو مروي عن أبي عمرو والكسائي والكوفيين وسيبويه والخليل فيما قال أبو جعفر الباذش، والثالث اعتباره بالصحيح، فالألف في النصب بدل من التنوين، وفي الرفع والجر هي بدل من لام الفعل، وذهب إليه أبو علي في أحد قوليه، ونسبه أكثر الناس إلى سيبويه ومعظم النحويين، انتهى.
وهذا من رجز أورده أبو تمام في باب الأضياف والمديح من الحماسة، قال: وقال الشماخ في عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أخي أسد الله علي كرَّم الله وجههما.
__________
(1) لوح الجو - بضم اللام - أعلاه (*)

(4/203)


إنك يا ابن جَعْفَرٍ خَيْرُ فَتَى * وَنِعْمَ مَأْوَى طَارِقٍ إذَا أتَى
وَرُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الحَيَّ سُرَى * صَادَفَ زَاداً وَحَدِيثاً ما اشْتَهَى إنَّ الحَدِيثَ طَرَفٌ مِنَ الْقِرَى * ثُم اللِّحَافُ بَعْدَ ذَاكَ فِي الذَّرى انتهى.
وفي الأغاني أن الشماخ خرج يوماً يريد المدينة، فلقيه عَرَابة بن أوس، وكان سيداً من سادات قومه، وجواداً، فسأله عما أقدمه المدينة، فقال: أردت أن أمتار لأهلي، وكان معه بعيران، فأوقرهما له براً وتمراً، وكساه وبَرَّهُ وأكرمه، فخرج عن المدينة وامتدحه بقصيدته التي يقول فيها (من الوافر) رَأَيْتُ عَرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَسْمُو * إلى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ * تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ ولما سمع ابن دَأبٍ كلام الشماخ في عبد الله بن عبد جعفر بن أبي طالب * إنَّكَ يا ابن جعفر نعم الفتى * إلى آخر الأبيات، قال: العجب للشماخ، يقول هذا في عبد الله بن جعفر، ويقول في عرابة بن أوس: إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ * تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ باليمين ابن جعفر كان أحق بهذا من عرابة، انتهى.
قال عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة قول الشماخ: * رأيت عَرَابَةَ الأوسيّ * البيت - معناه علمته كذا وصح عندي ذلك منه، ويجوز أن يكون هنا بمعنى أبصرته، وهو الأمثل عندي، ويكون " يسمو " حالاً، وذلك أن المشاهدة أدل شئ على صحة الأمر، فلا دليل أقوى منها، والخيرات هي: الأفعال المعتدلة المتوسطة بين طرفين هما شر، فكأنه قال: شاهدت منه أفعال الخير والفضائل، وقوله " إذا ما راية رفعت لمجد " هذا استعارة: أي إذا حدث أمر يقتضي فعل مكرمة ويفتقر فيه أن يضطلع به ربُّ فضيلة وشرف تلقَّاهَا

(4/204)


عرابة باليمين: أي بقوة وبطش واجتهاد وانشراح صدر، وفي قوله " تلقاها " ما يشعر بهذا المعنى أشدَّ من قوله أخذها، وهذا البيت دل به على الأخلاق العتيدة والفضائل النفسية، وأما البيت الأول فدل به على الأفعال الحميدة والخيرات المشاهدة، فصار البيت الأول توطئة للثاني، وكالدال عليه والمثبت له، فإن الأفعال المشاهدة سابقة في الإحساس لما في النفس ودالة عليه، فتلمح ذلك وأعجب لشرف طباع هؤلاء كيف تسمو بهم جَوْدَةُ القريحة وصحة الفكرة والروية إلى مثل هذا، انتهى كلامه.
ومثله للمبرد في الكامل قال: قوله " تلقاها عرابة باليمين " قال أصحاب المعاني معناه بالقوة، وقالوا مثل ذلك في قوله تعالى (والسموات مطويات بيمينه) وقال معاوية لَعَرَابةَ بن أوس الأنصاري: بم سُدْت قومك؟ قال: لست بسيدهم، ولكني رجل منهم، فعزم عليه، فقال: أعطيتُ في نائبتهم، وحملت عن سفيههم وشَدَدْتُ على يَدَي حليمهم، فمن فعل منهم مثل فعلي فهو مثلي، ومن قَصَّر عنه فأنا أفضل منه، ومن تجاوزني فهو أفضل مني، وكان سبب ارتفاع عرابة أنه قدم من سفر فجمعه الطريق والشماخ بن الضرار الْمُرِّي فتحادثا، فقال له عَرَابَة: ما الذي أقدمك المدينة؟ قال: قدمت لأمتار منها، فملأ له عرابة رواحله براً وتمراً وأتحفه بغير ذلك، فقال الشماخ * رأيت عَرَابة الأوسي يسمو * إلى آخر الابيات انتهى.
وأما عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب فقد قال ابن عبد ربه (1) في العقد الفريد: أجواد أهل الإسلام أحد عشر رجلاً في عصر واحد لم يكن قبلهم ولا بعدهم مثلهم، فأجواد أهل الحجاز ثلاثة في عصر واحد: عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص، إلى أن قال: ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن
__________
(1) انظر العقد الفريد لابن عبد ربه (1: 112) (*)

(4/205)


عمار (1) دخل على نَخَّاس يعرض قِيَاناً له، فعلق واحدة منهن، فشهر بذكرها حتى مشي إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذولنه، فكان جوابه (من البسيط) يَلُومُنِي فِيكِ أقْوَامٌ أجَالِسُهُمْ * فَمَا أبالِي أطَارَ اللَّوْمُ أمْ وَقَعَا فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر، فلم يكن له همٌّ غيره، فحج فبعث إلى مَوْلى الجارية، فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت، وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه، فقال: ما لى لا أرى ابن عمار (1) زارنا؟ فأخبر الشيخ، فأتاه مسلماً، فلما أراد أن ينهض استجلسه، ثم قال: ما فعل حب فلانة؟ قال: في اللحم والمخ والعصب! قال: أتعرفها لو رأيتها؟ قال (2) نعم، فأمر بها مباركاً لك فيها، فلما ولى قال: يا غلام، احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها، فبكى عبد الرحمن وقال: يا أهل البيت، لقد خصكم الله بشرف ما خصَّ به أحداً قبلكم من صُلْب آدم، فهنيئاً لكم هذه النعمة وبورك لكم فيها، ومن جوده أيضاً أنه أعطى امرأة سألته مالاً عظيماً، فقيل له: إنها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير، قال: إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى إلا بالكثير، وإن كاتت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي، هذا ما أورده ابن عبد ربه.
وزعم الخطيب التبريزي في شرح الحماسة، وتبعه العيني، أن المخاطب بقوله * إنك يا ابن جعفر * إلى آخر الشعر، هو عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، وهذا لا يصلح، فإن الشماخ صحابي وجعفر كان في زمن هارون الرشيد، والصواب أيضاً أن يقول: جعفر الصادق بن محمد الباقر.
وقوله " خير فتى " أي الجامع المروءة، وقوله " ونعم مأوى طارق "
__________
(1) في العقد " بن أبى عمار " (2) في العقد " لو أدخلت الجنة لم أنكرها " (*)

(4/206)


الطارق: الذي يأتي ليلاً، والْمَأْوَى: اسم مكان من أوى إلى منزله يأوي، من باب ضرب، أويا: أي قام، وهو فاعل " نِعْمَ "، وجَاءَ الفاعل هنا منكراً على قلة، والكثير الغالب تعريفه باللام، حكى الأخفش أن ناساً من العرب يرفعون بنعم النكرة مفردة ومضافة، نحو نعم امرؤ زيد، ونعم صاحب قوم عمروٌ، وقد روى أيضاً: إنك يا ابن جَعْفَرٍ نِعْمَ الْفَتى * وَخَيْرُهُمْ لِطارقٍ إذَا أتَى وقوله " طرق الحي سرى " الطُرُوق: الإتيان ليلاً، والحي: القبيلة، والسُّرَى: جمع سُرْية (1) بضم السين وفتحها، يقال: سَرَيْنَا سَرْيَة من الليل بالضم والفتح، قال أبو زيد: ويكون السُّرى أولَ الليل وأوسطه وآخره، وهو في البيت على حذف: أي طروق سُرىً، وقال الخطيب التبريزي، وتبعه العيني: سُرىً أي ليلاً، لأن السري لا يكون إلا ليلاً، وقوله " صادف " جواب رب، وما: مصدرية ظرفية، والقرى: الضيافة، والذرى - بالفتح: الكَنَفُ وَالناحية.
وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه (من الرمل) : 104 - وَقَبِيلٌ مِنْ لُكَيْزٍ شَاهِد * رَهْطُ مَرْجُومٍ وَرَهْطُ ابن الْمُعَلْ على أنه قد يحذف الألف المقصورة في ضرورة الشعر، كما حذف الألف هنا من " الْمُعَلْ "
__________
(1) الذى في اللسان والقاموس أن السرى بمعنى السرية - بضم السين أو فتحها - والذى نراه أنه سرى في هذا البيت منصوب على أنه مفعول مطلق أو على أنه
ظرف مثل قولك: أزورك قدوم الحواج (*)

(4/207)


قال سيبويه لا يقولون في جَمَل جَمْل، أي بسكون الميم، لأن الفتحة أخف عليهم والألفَ، فمن ثمة لم تحذف الألف، إن لم يضطر شاعر فيشبهها بالياء، لأنها أختها، وهي قد تذهب مع التنوين، قال لبيد رضي الله عنه حيث اضطر: وَقَبِيلٌ مِنْ لكيز شاهد * رهط مرجوم ورهط ابن المعل قال الأعلم: الشاهد فيه حذف ألف الْمُعَلَّى في الوقف ضرورة، تشبيهاً بما يحذف من الياءات في الأسماء المنقوصة، نحو قاضٍ وغازٍ، وهذا من أقبح الضرورة، لأن الألف لا تستثقل كما تستثقل الياء والواو، وكذلك الفتحة، لأنها من الألف، انتهى.
وقال أبو علي في المسائل العسكرية: ومما حذف في الضرورة مما لا يستحسن حذفه في حال السعة الالف (1) من " المعل " في القيافة تشبيهاً بالياء في قوله: * وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرْ * فكما حذفت الياء في القوافي والفواصل كذلك حذف منه الألف ولم يكن (ليحذف (2) لأن من يقول: (ما كنا نَبْغْ) يقول: (والليل إذا يَغْشَى) فلا يحذف، كما أن الذين يقولون: " هذا عَمْرْو " يقولون: رأيت عَمْراً، إلا أن " المعلَّى " في الضرورة لا يمتنع، للتشبيه، ويؤكد ذلك أن أبا الحسن قد أنشد (من الوافر) : فَلَسْتُ بِمُدْرِكٍ مَا فَاتَ مِنِّي * بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لواتى فقال " ليت " وهو يريد ليتني، فحذف النون مع الضمير للضرورة، ثم
__________
(1) في الاصول " حذف الالف " وله وجه بعيد
(2) زيادة لابد منها (*)

(4/208)


أبدل من الياء الألف، ثم حذف، وقد يمكن أن يكون " يا ابن أم " على هذا كأنه محذوف منه مثل قول من قال (من الرجز) : * يا ابنة عما لا تلومني وَاهْجَعِي * فأبدل ثم حذف، وعلى هذا تأويل أبو عثمان قول من قرأ: " يَا أبَتَ لِمَ تَعْبُدُ " انتهى أقول: ألف " يا ابن أم " وألف " يا أبَتَ " كلمة، لأنها ضمير المتكلم فهي مستقلة، وليست كألف المُعَلى، فإنها جزء كلمة، فليست مثلها، واعتبر ابن عصفور في كتاب الضرائر حذف اللام الثانية مع الألف، قال: وقد يحذف المشدد ويحذف حرف بعده، ومن ذلك قول لبيد: * ورهط ابن المعل * يريد المعلى، وقول النابغة: (من الوافر) إذَا حَاوَلْتَ فِي أسَدٍ فُجُوراً * فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنْ يريد مني، انتهى وعدُّ بيت النابغة من الضرورة غير جيد، قال سيبويه في " باب ما يحذف من الأسماء من الياءات في الوقف التي لا تذهب في الوصل (ولا يلحقها تنوين) (1) : وتركها في الوقف أقيس وأكثر، لأنها في هذه الحال، ولأنها ياء لا يلحقها التنوين على كل حال، فشبهوها بياء " قاضي " لأنها ياء بعد كسرة ساكنة في اسم وَذلك قولك: هذا غلام، وأنت تريد هذا غلامي، (وقد أسقانْ وأسقنْ، وأنت تريد أسقاني وأسقني، لأن ني اسم) (1) و (قد) (1) قرأ أبو عمرو (فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنْ) و (رَبِّي أهَانَنْ) على الوقف، وقال النابغة: (من الوافر)
__________
(1) ما بين القوسين ثابت في كلام سيبويه، ولكنه غير موجود في الاصول التى
بأيدينا.
أنظر كتاب سيبويه (ح 2 ص 289) (*)

(4/209)


* فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنْ * انتهى.
وقال الأعلم: الشاهد فيه حذف الضمير من قوله: " مِنِّي " وهو جائز في الكلام، كما قرئ في الوقف (أكرَمَنْ) و (أهَانَنْ) يقول: هذا لعيينة بن حصن الفزارى، وكان قد دعاه وقومه لمقاطعة بنى أسد ونقضض حِلْفهم، فأبى عليه وتوعده، وأراد بالفجور: نقض الحلف، انتهى وقال " وقبيلٌ من لُكَيْز إلخ " قبيل: مبتدأ، و " من لكيز " في موضع الصفة له، وشاهد: خبره، والقبيل: العريف والكفيل، وهذا هو المناسب هنا، لأنه كما قال الأعلم: " وصف لبيد رضي الله عنه مقاماً فاخر فيه قبائل ربيعة بقبيلته من مضر " انتهى ولا يناسبه أن يكون القبيل بمعنى الجماعة تكون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتى من الزنج والروم والعرب، وقال العيني: القبيل هنا بمعنى القبيلة، ولم أره كذا في كتب اللغة، ولكيز - بضم اللام وفتح الكاف وآخره زاي معجمة -: أبو قبيلة، وهو لكيز بن أفْصى - بالفاء والصاد المهملة والألف - ابن عبد القيس بن أفصى بن دُعْمِيّ - بضم الدال وسكون المهملة وكسر الميم وتشديد الياء - ابن جَدِيلة - بالجيم - ابن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وكان لكيز عاقاً لأمه لَيْلى، وكانت تحبه، وكان شقيقه شَنٌّ باراً بها، فحملها شَنٌّ ذات يوم فجعلت تقول: فَدَيْت لُكَيزاً، فرمى بها شن من بعيرها، وكانت عجوزاً كبيرة، فماتت، فقال شنَّ: دونَكَ لكيزُ جَعَرَاتِ (1) أُمِّك، وقال: " يَحْمِلُ شَنٌّ ويُفَدَّى لُكَيز " فذهبت مثلاً، فولد لكيز وديعة
وصُبَاحاً - بضم الصاد - ونُكْره - بضم النون - وكل منهم بطن، ثم
__________
(1) الجعرات: جمع جعرة، وهو ما ليس من العذرة في الدبر (*)

(4/210)


صار في أولاد كل منهم بطون، كذا في جمهرة الأنساب، وشاهد: بمعنى حاضر، وبه روي أيضاض، والرهط: قوم الرجل وقبيلته، والرهط أيضاً: ما دون العشرة من الرجال لا تكون فيهم امرأة، ومرجوم: بالجيم، قال ابن دريد في الجمهرة هو لقب رجل من العرب، كان سيداً ففاخر رجلاً من قومه إلى بعض ملوك الحيرة، فقال له: " قد رَجَمْتُك بالشرف "، فسمي مرجوماً، وأنشد هذا البيت، وكذا في التصحيف للعسكري، قال: " وفي فرسان عبد القيس مرجوم بن عبد القيس بعد الراء جيم، قال الشاعر: * رَهْطُ مَرْجُومٍ وَرَهْطُ ابنِ الْمُعَلّ * وإنما سمي مرجوماً لأنه نافر رجلاً إلى النعمان فقال له النعمان: " قد رَجَمَكَ بالشرف " فسمي مرجوماً، وإنما ذكرته لان من لا يعرفه يصحفه بمرحوم - بحاء غير معجمة، وأما مرحوم بن عبد العزيز - بالحاء غير المعجمة - فرجل من محدثي البصرة " انتهى ورهط مرجوم: بالرفع خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو رهط مرجوم، ويجوز نصبه بتقدير أعني، وقال العيني: " رهط مرجوم بالرفع بدل من قبيل أو عطف بيان " هذا كلامه فتأمله (1) .
وقال الأعلم: " مرجوم وابن المعل سيدان من لُكَيز " وهذه نسبة مرجوم من الجمهرة، قال: " مرجوم هو ابن عبد عمرو بن قيس بن شهاب بن زياد بن عبد الله بن زياد بن عَصَر - بتحريك المهملات - بن عمرو بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز " وأما المعلى فقد قال ابن
دريد في الجمهرة: " هو جد الجارود بشر بن عمرو بن المعلى " انتهى والجارود: اسمه بشر، وسمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء (من الطويل) :
__________
(1) الخطأ في تجويزه عطف البيان، لكون الثاني معرفة والاول نكرة، وشرطه التوافق (*)

(4/211)


* كما جردا الْجَارُود بَكْرَ بْنَ وَائِلِ * (1) وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه المنذر بن الجارود استعمله علي بن أبي طالب رضي الله عنه على فارس، وعبد الله بن الجارود كان رأس عبد القيس، واجتمعت إلى القبائل من أهل البصرة وأهل الكوفة فقاتلوا الحجاج فظفر بهم، فأخذه الحجاج فصلبه، والحكم بن المنذر بن الجارود سيد عبد القيس (2) مات في حبس الحجاج الذي يعرف بالدِّيماس، وهذه نسبته من الجمهرة: الجارود: هو بشر بن حَنَش بن المعلى، وهو الحارث بن يزيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز المذكور، ولم أقف على ما قبل البيت وبعده حتى أورده.
ولبيد رضي الله عنه صحابي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة من شرح شواهد شرح الكافية وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس بعد المائة وهو من شواهد سيبويه (من الرجز) 105 - خَالِي عُوَيْفٌ وأبو علج * المطعمان اللحم بالعشج
__________
(1) في اللسان (ج ر د) والجارود العبدى: رجل من الصحابة، واسمه بشر ابن عمرو، وسمى الجارود لانه فر بأبله إلى أخواله من بنى شيبان وبابله داء ففشى ذلك الداء في إبل أخواله فأهلكها، وفيه يقول الشاعر: * لقد جَرَدَ الْجَارُود بَكْرَ بْنَ وَائِلِ *
ومعناه شتم عليهم، وقيل: استأصل ما عندهم، وللجارود حديث، وقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم وقتل بفارس في عقبة الطين (2) وهو الذى عناه الشاعر بقوله: يا حكم بن المنذر بن الجارود * سرادق المجد عليك ممدود وهو من شواهد سيبويه (*)

(4/212)


وبالغداة فلق البرنج * يقلع بالود وبالصيصج على أن بعض بني سعد يبدلون الياء، شديدة كانت أو خفية، جيماً في الوقف، كما في قوافي هذه الأبيات، فإن الجيم في أواخر ما عدا الأخير بدل من ياء مشددة، وأما الاخير فالجيم فيه بدل من ياء خفيفة، كما يأتي بيانه وإنما حركها الشاعر هنا لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، قال سيبويه: " وأما ناس من بني سعد فإنهم يبدلون الجيم مكان الياء في الوقف، لأنها خفية، فأبدلوا من موضعها أبين الحروف، وذلك قولهم: هذا تميمجُّ، يريدون تميميّ، وهذا علج، يريدون عليّ، وسمعت بعضهم يقول: عربانجّ يريدون عربانيّ، وحدثني من سمعهم يقولون: خَالِي عُوَيْفٌ وَأَبُو عَلِجِّ * الْمُطْعِمَانِ اللحم بالْعَشِجِّ * وَبِالْغَدَاةِ فِلَقَ الْبَرْنِجِّ * يريدون بالعشى والبرنى، فزعم أنهم أنشدوه هكذا " انتهى كلامه ولم يذكر إجراء الوصل مجرى الوقف، وذكره الزمخشري في المفصل، وكلام ابن جني في سر الصناعة وغيره ككلام سيبويه، قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل: " ومتى خرج هذا الإبدال عن هذين الشرطين، وهما الياء المشددة والوقف، عدوه شاذاً، ولذلك قال الزمخشري: وقد أجرى الوصل مجرى الوقف "
انتهى.
وهذه الأبيات لبدوي، قال ابن جني في سر الصناعة: " قرأت على أبي بكر، عن بعض أصحاب بن السكيت، عن يعقوب، قال: قال الأصمعي: حدثني خلف، قال: أنشدني رجل من أهل البادية: * عَمِّي عُوَيْفٌ وأبُو عَلجِّ *

(4/213)


إلى آخر الأبيات الأربعة يريد أبو علي وبالعشي والصيصَية، وهي قرن البقرة " انتهى.
وقال شارح شواهد أبي علي الفارسي: " جاء به أبو علي شاهداً على أن ناساً من العرب يبدلون من الياء جيماً، لما كان الوقف على الحرف يخفيه والإدغام فيه يقتضي الإظهار ويستدعيه أبدلوا من الياء المشددة في الوقف الجيم، لأنها أبين، وهي قريبة من مخرجها، وزعم أبو الفتح أنه احتاج إلى جيم مشددة للقافية، فحذف الياء ثم ألحق ياء النسب كما ألحقوها في الصفات مبالغة، وإن لم يكن منسوباً في المعنى نحو أحْمَريٌّ في أحمر، ثم أبدل من الياء المشددة جيماً، ثم قال: وما علمت أحداً تعرض لتفسيره قبلي، سوى أبي علي فيما أظن، قال الشيخ: أقرب من هذا وأشبه بالمعنى أن يكون أراد الصيصاء، وهو ردي التمر الذي لا يعقد نوى، ألحقته بقنديل فقال: صيصئ، ثم أبدل من الياء جيماً في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف في هذا " انتهى كلامه افتخر بخاله أو بعميه، والمطعمان: صفة لهما، واللحم والشحم: مفعوله، والعشي: قيل: ما بين الزوال إلى الغروب، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: من الزوال إلى الصباح، وقيل: من صلاة المغرب إلى الْعَتْمة، كذا في المصباح، والغداة: الضحوة، والفِلَق - بكسر الفاء وفتح اللام - جمع فِلقَة، وهي القطعة
وروي " قِطَعَ " بدله، وروى أيضاً " كُتَلَ البرنج " وهو جمع كُتْلَة - بضم الكاف - قال الجوهري: الكتلة: القطعة المجتمعة من الصمغ وغيره، والبَرْنِي - بفتح الموحدة -: نوع من أجود التمر، ونقل السهيلي أنه عجمي، ومعناه حمل مبارك، قال: " بر " حمل و " نى " جيد، وأدخلته العرب في كلامها وتكلمت به، كذا في المصباح، وأقول: " بَرْ " في لغة ثمرة الشجرة أيّ شجرة كانت، وأما حملها فهو عندهم " بارْ " بزيادة ألف، والفرق أن " بَرْ " الثمر الذي يؤكل، وأما " بارْ " فعام سواء كان مما يؤكل أم لا، فصوابه أن يقول: " بَرْ " ثمر الشجر لا حملها، وأما " نى "

(4/214)


فأصله نيك - بكسر النون، فعند التعريب حذفت الكاف وشددت الياء، و " نيك " في لغة الفرس الجيد، ويُقْلَع بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل ضمير البرنج، وَالجملة حال منه، وقال العيني: صفة له، والود، بفتح الواو لغة في وَتِدٍ، والصيصِيَة بكسر الصادين وتخفيف الياء: القرن، واحد الصِّيصِي، والجمع الصياصِي، وصياصِي البقر: قرونها، وكان يقلع التمر المرصوص بالوتد وبالقرن، قال ابن المستوفي: الصيصي: جمع صيصِيَة، وهي القرن، كأنه شدد في الوقف على لغة من يشدد ثم أبدل، وزادها أن أجرى الوقف مجرى الوصل، كما قال (من الرجز) : * مِثْلَ الْحَرِيقِ وَافَقَ الْقَصَبَّا * وقال الزمخشري في الحواشي: " شدد ياء الصيصي في الوقف كما لو وقف على القاضي " انتهى وقال ابن جني في شرح تصريف المازني: " الذي عندي فيه أنه لما اضطر إلى جيم مشددة عَدَل فيه إلى لفظ النسب، وإن لم يكن منسوباً في المعنى، كما تقول: أحمر وأحْمَرِيّ، وهو كثير في كلامهم، فإذا كان الأمر كذلك جاز أن يراد بالصيصج لفظ النسب، فلما اعتزمت على ذلك حذفت تاء التأنيث، لأنها لا تجتمع
مع ياء النسبة، فلما حذفت الهاء بقيت الكلمة في التقدير صيصٍ بمنزلة قاضٍ، فلما ألحقها ياء النسبة حذفت الياء لياء النسبة، كما تقول في النسبة إلى قاض: قاضيّ، فصارت في التقدير صيصيّ، ثم إنها أبدلت من الياء المشددة الجيم، كما فعلت في القوافي التي قبلها، فصارت صيصجّ، كما ترى، فهذا الذي عندي في هذا، وما رأيت أحدا من عرض لتفسيره، إلا أن يكون أبا علي فيما أظنه " انتهى وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس بعد المائة (من الرجز) : 106 - يَا رَبِّ إن كنت قبلت حجتج * فلا يزال شاحج يأتيك بج

(4/215)


أقمر نهات ينزى وفرنج على أنه أبدل الجيم من الياء الخفيفة، وأصله حِجَّتي وبِي ووَفْرَتي، بياء المتكلم في الثلاثة وأنشد أبو زيد هذه الأبيات الثلاثة في أوائل الجزء الثالث من نوادره، قال: " قال المفضل: أنشدني أبو الغول هذه لبعض أهل اليمن " ولم يخطر ببال أبي علي ولا على بال ابن جني رواية هذه الأبيات عن أبي زيد في نوادره، ولهذا نسباها إلى الفراء، وقالا: أنشدها الفراء، ولو خطرت ببالهما لم يعدلا عنه إلى الفراء البتة، لأن لهما غراماً بالنقل عن نوادره، ولو أمكنها أن لا ينقلا شيئاً إلا منها فعلا، قال ابن جني في سر الصناعة: " وكان شيخنا أبو علي يكاد يصلي بنوادر أَبي زيد إعظاماَ لها، وقال لي وقت قراءتي إياها عليه: ليس فيها حرف إلا لأبي زيد تحته غرض ما، وهو كذلك، لأنها محشوة بالنكت والأسرار " انتهى كلامه رحمه الله ولله در الشارح المحقق في سعة إطلاعه، فإنه لم يشاركه أحد في نقل هذه
الأبيات عن أبي زيد إلا ابن المستوفي وقد ذهب ابن عصفور في كتاب الضرائر إلى أن إبدال الياء الخفيفة جيماً خاص بالشعر، ولم أره لغيره، قال: " ومنها إبدالهم الجيم من الياء الخفيفة، نحو قول هِمْيَان بن قُحَافَة (من الرجز) (1) * يُطِيرُ عَنْهَا الْوَبَرَ الْصُّهَابِجَا * يريد الصُّهَابيَّ، فحذف إحدى الياءين تخفيفاً، وأبدل من الأخرى جيماً، لتتفق القوافي، وسهل ذلك كون الجيم والياء متقاربين في المخرج، ومثل ذلك قول الآخر، أنشده الفراء:
__________
(1) انظر سمط الالى في شرح أمالى على القالى (ص 572) (*)

(4/216)


* يَا رَبِّ إنْ كُنْتَ قَبِلَتَ حِجَّتِجْ * إلى آخر الأبيات يريد حجتي، ويأتيك بي، ويُنَزِّي وفرتي، فأبدل من الياء جيماً، وقول الآخر (من الرجز) : * حَتَّى إذَا مَا أمسحت وَأَمْسَجَا * يريد أمْسَتْ وأمْسَى: لأنه رَدَّهما إلى أصلهما وهو أمْسَيَتْ وأمْسَيَا، ثم أبدل الياء جيماً لتقاربهما لما اضطر إلى ذلك " انتهى وجعله ابن المستوفي من الشاذ، قال: " ومن الإبدال الشاذ قوله، وهو مما أنشده أبو زيد: * يَا رَبِّ إنْ كُنْتَ قَبِلْتَ حِجَّتِجْ * وهذا أسهل من الاول، لانه أورد الشاعر في الوقف، إلا أن الياء غير مشددة " انتهى وقوله " يا ربن إن كنت " أنشده الزمخشري في المفصل " لاَهُمَّ إن كنت "
وكذا أنشده ابن مالك في شرح الشافية، والحجة - بالكسر -: المرة من الحج، قال القيومى في المصباح: " حج حجا من باب قتل: قصد، فهو حاج، هذا أصله، ثم قصر استعماله في الشرع على قصد الكعبة للحج أو العمرة، يقال: ما حج ولكن دَجّ، فالحج: القصد للنسك، والدج: القصد للتجارة، والاسم الحج بالكسر، والحجة المرة بالكسر، على غير قياس، والجمع حِجَجٌ، مثل سِدْرَة وسدَر، قال ثعلب: قياسه الفتح، ولم يسمع من العرب، وبها سمي الشهر ذو الحجة بالكسر، وبعضهم يفتح في الشهر، وجمعه ذوات الحجة " انتهى والشاحج - بالشين المعجمة والحاء المهملة قبل الجيم -: البغل والحمار، من شَحَجَ البغل والحمار والغراب - بالفتح - يشحج - بالفتح والكسر - شَحِيجاً وشُحاجاً، إذا صوت، وقال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: " قال

(4/217)


صدر الأفاضل: أراد بشاحج حماراً: أي عَيْراً، قيل في نسخة الطباخي بخطه: شبه ناقته أو جملة، بالعَيْر " انتهى وروى ابن جني عن أبي علي في سر الصناعة " شامخ " أيضاً بالخاء المعجمة بعد الميم، وقال: يعني بعيراً مستكبراً، انتهى.
وهذا لا يناسبه " أقمر نهات " وقوله " يأتيك " يأتي بيتك بي، والأقمر: الأبيض، والنَّهَّات: النَّهَّاق، يقال: نَهَتَ الحمار يَنْهِتُ - بالكسر - أي نهق، ونَهَت الأسد أيضاً: أي زأر، والنهيت: دون الزئير، وينزى - بالنون والزاي المعجمة -: أي يحرك، والتنزيه: التحريك، والْوَفْرَة بالفاء: الشعر إلى شحمة الأذن، قال ابن المستوفي: أي يحرك لسرعة مشيه، وقال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل قيل: عبر بالوَفْرَة عن نفسه كما يعبر بالناصية تسمية للمحل باسم الخال، يقول: اللهم
إن قبلت حجتي هذه فلا تزال دابتي تأتي بيتك وأنا عليها محرك وَفْرَتي أو جسدي في سيرها إلى بيتك: أي إن علمت أن حجتي هذه مقبولة فأنا أبداً أزور بيتك وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع بعد المائة (من الرجز) : 107 - الله نجاك بكفي مسلمت * مِنْ بَعْدِ مَا وَبَعْدِ مَا وَبَعْدِ مَتْ صَارَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ عِنْد الْغَلْصَمَتْ * وَكَادَتْ الْحُرَّةُ أنْ تُدْعَى أمَتْ على أن هاء التأنيث في نحو مَسْلَمَتْ وَالْغًلْصَمَتْ وأمَتْ بعضُ العرب يقف عليها بالتاء كما هنا، وأبو الخطاب من مشايخ سيبويه، وهذا الكلام نقله عنه سيبويه في كتابه بدون هذا الشعر، وهذا نصه (1) : " أما كل اسم مُنَوَّن فإنه
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (2: 281) تعلم أنه لم ينقل العبارة بحروفها، ولكنه تصرف فيها (*)

(4/218)


يلحقه في حال النصب في الوقف الألف، كراهية أن يكون التنوين بمنزلة النون اللازمة للحرف، ومثل هذا في الاختلاف الحرف الذي فيه تاء التأنيث، فعلامة التأنيث - إذَا وَصَلْته - التاءُ، وإذا وقفت ألحقت الهاء، أرادوا أن يفرقوا بين هذه التاء والتاء التي هي من نفس الحرف نحو تاء ألْقَتِّ (1) وما هو بمنزلة ما هو من نفس الحرف نحو تاء سَنْبَتَة (2) وتاء عِفْرِيت، لأنهم أرادوا أن يلحقوها ببناء قحطبة وقنديل، وكذلك التاء في بنْتٍ وأُخت: لأن الاسمين ألحقا بالتاء ببناء عُمْر وعِدْل، وفرقوا بينها وبين منطلقات لأنها كأنها منفصلة من الأول، وتاء الجميع أقرب إلى التاء التي بمنزلة ما هو من نفس الحرف من تاء طلحة، لأن تاء طلحة كأنها منفصلة، وزعم أبو الخطاب أن نَاساً من العرب يقولون في الوقف: طَلْحَتْ، كما قالوا في تاء الجميع قولاً واحداً في الوقف والوصل " انتهى كلام
سيبويه وقال ابن جني في سر الصناعة: " فأما قولهم قائمة وقاعدة فإنما الهاء في الوقف بدل من التاء في الوصل، والتاء هي الأصل، فإن قيل: وما الدليل على أن التاء هي الأصل وأن الهاء بدل منها؟ فالجواب أن الوصل ما يُجْرَى فيه الأشياء على أصولها، والوقف من مواضع التغيير، ألا ترى أن من قال في الوقف: هذا بَكُرْ، ومررت بَبَكِرْ، فنقل الضمة والكسرة إلى الكاف في الوقف، فإنه إذا وصل أجرى الأمر على حقيقته، وكذلك من قال في الوقف هذا خالِدّ، وهو يجعلّ، فإنه إذا وصل خفف الدال واللام، على أن من العرب من
__________
(1) القت: اسم للكذب، ومنه الحديث " لا يدخل الجنة قتات " هو النمام أو المتسمع أحاديث الناس (2) هذا التمثيل في نص كلام سيبويه، وقد اعترضه أبو سعيد السيرافى بأن هذا المثال مما يوقف عليه بالهاء لا التاء فكان ينبغى أن يمثل بسنبت ونحوه مما يوقف عليه بالتاء (*)

(4/219)


يجري الوقف مجرى الوصل، فيقول في الوقف: هذا طلحت، وعليه السلام والرحمت، وأنشدنا أبو علي (من الرجز) : * بَلْ جَوْزِتَيْهَاءَ كَظَهْرِ الْحَجَفَتْ * وأخبرنا بعض أصحابنا يرفعه بإسناده إلى قُطْرُب أنه أشد (من الرجز) : الله نجاك بكفي مسلمت * من بعدما وبعدما وَبَعْدِمَتْ صَارَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ عِنْدَ الْغَلْصَمَتْ * وَكَادَتِ الْحُرَّةُ أنْ تُدْعَى أمَتْ فلما كان الوصل مما يُجْرَى فيه الأشياء على أصولها في غالب الأمر، وكان الوقف مما يغير فيه الأشياء عن أصولها، ورأينا علم التأنيث في الوصل تاء نحو قائِمَتَانِ وقائمتكم، وفي الوقف هاءً نحو ضاربَهْ، علمنا أن الهاء في الوقف بدل
من التاء في الوصل، وأما قوله " وبعد مت " فأصله " وبعد ما " فأبدل من الألف في التغيير هاء، فصارت " وبَعْدِمه " كما أبدلها الآخر من الألف فقال فيما أخبرنا به بعض أصحابنا يرفعه بإسناده إلى قُطْرُب (من الرجز المجزوء) : قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمْكِنَهْ * من ها هنا وَمِنْ هُنَهْ يريد " ومن هنا " فأبدل من الألف في الوقف هاء، فصار التقدير على هذا " مِنْ بَعْدِ مَا وَبَعْدِ مَا وبعدمَهْ " ثم أبدل الهاء تاء ليوافق بقية القوافي التي تليها، ولا تختلف، وشجعه على ذلك شبه الهاء المقدرة بهاء التأنيث في طلحة وحمزة، ولما كان يراهم يقولون في بعض المواضع في الوقف: هذا طَلْحَتْ، قال هو أيضاً: " وبعدمَتْ " فأبدل الهاء المبدلة من الألف تاء تشبيهاً لفظيّاً، وأما ما قرأته على محمد بن الحسن من قول الآخر (من المتقارب) : إذَا اعْتزَلَتْ مِنْ مَقَامِ الْقَرِينِ * فَيَا حُسْنَ شَمْلَتِهَا شَمْلَتَا فقال فيه: إنه شبه هاء التأنيث في " شملة " بالتاء الأصلية في نحو بَيْت وَصوت، فألحقها في الوقف عليها ألفاً، كما تقول: رأيت بيتاً، فَشَمْلَتَا على هذا

(4/220)


منصوب على التمييز، كما تقول: يا حُسْنَ وجهها وَجْهاً: أي مِنْ وجه " انتهى كلام ابن جني باختصار.
فقول الشارح المحقق " والظاهر أن هؤلاء لا يقولون في النصب رأيت أمَتَا " يريد أنهم لا يقولون في الاختيار، وأما في الضرورة فقد قيل، كما نقله ابن جني في " شَمْلَتَا ".
وروى ابن عصفور الشعر في كتاب الضرائر بالهاء على الأصل، قال: " ومنه إبدال ألف " ما " و " ها هنا " هاء في الوقف عند الاضطرار إلى ذلك نحو قوله: الله نَجَّاكَ بِكَفِّي مَسْلَمَهْ * مِنْ بَعْدِمَا وَبَعْدِمَا وَبَعْدِمَهْ
يريد " وبعدما " وقوله: قَدْ وردت من أمكنه * من ههنا وههنه يريد " وها هنا " وسهل ذلك كون الألف والهاء من مخرج واحد " انتهى.
وهذا الشعر لم أقف على قائله.
وقوله " الله نجاك - إلخ " الله: مبتدأ، وجملة " نجاك " خبره، ونجاه من الهلاك تنجيةً: أي خلَّصَه، ويقال: أنجاه، أيضاً، وبه رواه ابن هشام في شرح الألفية، و " بكَفَّي " الباء متعلقة بنجاك، وكفي: مثنى كف، قال الأزهري: الكف الراحة مع الأصابع، سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن، وأراد بالكف اليد، من إطلاق الجزء على الكل، واليد: من المنكب إلى أطراف الأصابع، والمراد من اليد هنا الدفع، يقال: مالي بهذا الأمر يد، ولا يدان، لأن المباشرة والدفاع إنما تكون باليد، فكأن يَدَيْه معدومتان لعجزه عن الدفع، وإنما ثنى لأن كمال الدفع بهما، قال ابن الأثير في النهاية: " في الحديث " عليكم بالجماعة فإن يد الله عليها " كناية عن الحفظ والدفاع عن أهل الضر، كأنهم خصوا بواقية الله وحسن دفاعه، ومنه الحديث الآخر " يَدُ الله على الجماعة " أي أن الجماعة المتفقة من أهل الإسلام في كَنَف الله ووقايته "

(4/221)


ومَسْلَمة - بفتح الميم واللام - الظاهر أنه مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وقوله " من بعدما " الأصل من بعدما صارت نفوس القوم فكرر " من بعدما " ثلاث مرات للتهويل، وأبدل ألف ما الثالثة هاء فتاء للقافية، وقوله " صارت نفوس القوم " متصل في التقرير ببعدما الأولى، ويقدر للثانية والثالثة مثلها، أولا يقدر، لأنهما كررا لمجرد التهويل، و " ما " قيل: هي كافة لبعد عن الإضافة ومهيئتها للدخول على الجملة الفعلية، وقيل: مصدرية، وهو الأولى، لأن فيه إبقاء " بعد "
على أصلها من الإضافة، ولأنها لو لم تكن مضافة لنونت، كذا قال ابن هشام في المغني، والنفوس: جمع نفس، وهي الروح، يقال: جاد بنفسه، وخرجت نفسه، وهي مؤنثة، قال تعالى: (خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) وإن أريد بها الشخص فمذكرة، كذا في المصباح، والْغَلْصَمَة - بالفتح: رأس الحلقوم، وهو الموضع النّاتئ في الحلق، والجمع غَلاَصم، كذا فيه أيضاً، و " كادت " معطوف على صارت، والحرة: خلاف الأمة، والحر: خلاف العبد، وأصل الحر الخالص من الاختلاط بشئ غيره، فالحر والحرة مأخوذان منه، لأنهما خلصا من الرق، يقول: كاد الأعداء يُسْبَوْنَ فتصير الحرة أمة، و " تدعى " بالبناء للمفعول: أي تسمى، وجاءت أن في خبر كاد على أحد الجائزين وأنشد الجاربردي هنا، وهو الشاهد الثامن بعد المائة (من الرجز) 108 - لَوْ كُنْتُ أدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ * مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أنِّي مَنْ أنَهْ على أنه يوقف على " أنا " بالهاء قليلاً، كما في البيت قال ابن جني في سر الصناعة: " فأما قولهم في الوقف على " أنَ فَعَلْتُ ": أنا، وَأَنَهْ، فالوجه أن تكون الهاء في " أنَهْ " بدلاً من الألف في " أنا " لأن الأكثر في الاستعمال إنما هو أنا بالألف، والهاء قليلة جداً، فهي بدل من الألف، ويجوز

(4/222)


أن تكون الهاء أيضاً في " أنَهْ " أُلحقت لبيان الحركة كما ألحقت الألف، وَلا تكون بدلاً منها، بل قائمة بنفسها " انتهى والبدنة: ناقة أو بقرة أو بعير، ولا تقع على الشاة، وقال بعض الأئمة: البدنة هي الإبل خاصة، وإنما ألحقت البقرة بالإبل بالسُّنَّة، وقوله " من كثرة " متعلق بالفعل المنفي ضمناً: أي ما أدري من كثرة التخليط، والتخليط في الأمر:
الإفساد فيه، و " أنِّي " بفتح الهمزة، ومَنْ: مبتدأ، وأنَهْ: خبره، وقيل بالعكس، والجملة في محل رفع خبر أنِّي، وجملة " أنِّي من أنه " في محل نصب سادة مسد مفعولي أدري، وروى صدره الشارح المحقق رحمه الله في شرح الكافية " إنْ كُنْتُ أدْرِي " بإن الشرطية وهذا البيت لم أقف على أثر منه وأنشد هنا، وهو الشاهد التاسع بعد المائة (من الوافر) : 109 - أنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي * حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السِّنَامَا على أن إثبات ألف " أنا " في الوصل لضرورة الشعر، كما في البيت، والقياس حذفها فيه وتقدم ما يتعلق به في الشاهد الثامن والسبعين بعد الثلاثمائة من شرح شواهد شرح الكافية وَ " حُمَيْداً " روي مصغراً ومكبراً، وهو بدل من الياء في " فاعرفوني " لبيان الاسم، أو هو منصوب على المدح بتقدير أعني، وَ " تَذَرَّيْتُ السنام " بمعنى علوته، وهو من الذروة بالكسر والضم، وهو أعلى السنام، وحقيقته علوت ذروة السنام، وقائله حميد بن بحدل الكلبى، وتقدمت ترجمته هناك

(4/223)


وأنشد بعده، وهو الشاهد العاشر بعد المائة (من الرمل) 110 - يَا أبَا الأَسَودِ لِمْ خَلَّيْتَنِي * لِهُمُومٍ طَارِقَاتٍ وَذِكَرْ على أنه سكن الميم من " لِمْ " إجراء للوصل مجرى الوقف وتقدم أيضاً ما يتعلق به في الشاهد السادس عشر بعد الخمسمائة من شرح شواهد شرح الكافية
و" لِمْ " معناه لاجل أي شئ، وَخَلَّيْتَنِي: تركتني، وروي " أسْلَمْتَنِي " وروي أيضاً " خَذَّلْتَنِي "، والطروق: المجئ ليلاً، وإنما جعل الهموم طارقات لأن أكثر ما يعتري الإنسان في الليل حيث يجمع فكره ويخلو بَالُهُ فيتذكر ما فيه من الهموم المؤلمة، و " ذِكَر " بكسر ففتح جمع ذكر على غير قياس وأنشد بعده، وهو الشاهد الحادس عشر بعد المائة (من الوافر) : 111 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ * كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي دَمَانِ على أن بع العرب لا يحذف ألف " ما " الاستفهامية المجرورة وتقدم أيضاً ما يتعلق به في الشاهد السادس والثلاثين بعد الأربعمائة من شرح شواهد شرح الكافية وصواب العجز: * كخنزير تَمَرَّغَ في رماد * (1) لأن القافية دالية، وهو من أبيات لحسَّان بن ثابت شرحناها هناك وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاثنى عشر بعد المائة (من الرجز) : 112 - * قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقا *
__________
(1) هذا هو الموجود في نسخ الشارح التى بأيدينا (*)

(4/224)


على أن الشاعر سكن الراء، وهي عين الفعل، وكان حقها الكسر، كأنه توهم أنها لام الفعل فسكن الامر (1) وأبو الخطاب: من مشايخ سيبويه، وما نقله عنه الشارح هو في كتاب سيبويه، وليس فيه هذا الشعر، وهذا نصه: " وزعم أبو الخطاب أن ناسا من العرب يقولون: ادْعِه، من دعوت، فيكسرون العين، كأنها لما كانت في موضع الجزم توهموا أنها ساكنة، إذ كانت آخر شئ في الكلمة في موضع
الجزم، فيكسرون حيث كانت الدال ساكنة، لأنه لا يلتقي ساكنان، كما قالوا: رديا يا فتى، وهذه لغة رديئة، وإنما هو غلط، كما قال زهير (من الطويل) : بَدَالِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى * وَلاَ سَابِقٍ شيئا إذا كان حائيا " انتهى.
وأورده ابن عصفور في الضرائر الشعرية، قال: " فإن كانت الضمة والكسرة اللتان في آخر الكلمة عَلاَمتي بناء اتفق النحويون على جواز حذفها في الشعر تخفيفاً، نحو قول أبى نخيلة (من الرجز) : إذا اعوجبن قُلْتُ صَاحِبْ قَوّمِ * بالدَّوِّ أمْثَالَ السَّفِينِ العُوَّم وقال العذافى الكندي (من الرجز) قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا دقيقا * وهات خبر الْبُرِّ أوْ سَوِيقَا وقال الآخر (من الرجز) فاحذ وَلاَ تَكْتَرْ كَرِيّاً أهْوَجَا * عِلْجاً إذَا سَاقَ بِنَا عَفَنْجَجَا وقال الآخر (من الوافر) : وَمَنْ يَتَّقْ فإن الله معه * ورزق الله موتاب وَغَادي ألا ترى أن الأصل: صاحِبُ قَوِّمِ، واشتر، ولا تكتر كريا، ومن يتق
__________
(1) في نسخة " فسكن اللام " وما هنا أدق (*)

(4/225)


فإن الله معه، إلا أنه أسكن إجراء للمتصل مجرى المنفصل أو إجراء للوصل مجرى الوقف، كما تقدم في تسكين المرفوع والمخفوض؟ فأما قراءة من قرأ (ويَخْشَ الله ويَتَّقْهِ) فسكن القاف يريد ويتقه بكسرها، فإن التسكين فيها أحسن من التسكين في اشتر لنا وَأمثاله، لشدة اتصال الضمير بما قبله " انتهى وقال شارح شواهد أبي علي الفارسي: " لما كانت الياء في هذا الفعل حرف
علة، وكانت تحذف في حالتي الجزم والأمر وتبقى الكسرة في الراء قبلها دالة عليها، اغتفر هذا الشاعر كونها منتهى الكلمة فحذفها للأمر، شبَّه الوصل بالوقف، أو شبّه المتصل بالمنفصل، وهذا أشبهَ " أشْرَبْ (1) "، لأنه لم يخل بإعراب، لأن اتصال اللام بمتعلقها أشد من اتصال غيره، أو حذف الياء تخفيفاً كما حذفها من لا أدْرِ ولا أُبَالِ، ثم أدخل الجازم، ولم يعتد بما حذفه فأسكن للجزم كما أسكن لم أُبَلِهْ قبل أن يحرك لالتقاء الساكنين " انتهى كلامه والبيت الأول من الأربعة من شواهد سيبويه قال الأعلم: " الشاهد تسكين باء صاحبْ ضرورة، وهو يريد يا صاحبُ - بالضم - وهذا من أقبح الضرورة، والدوُّ: الصحراء، وأراد بأمثال السفين: رواحل محملة تقطع الصحراء كقطع السفن البحر " انتهى.
والبيت الشاهد من رجز أورده أبو زيد في نوادره لرجل من كندة يقال له العذافر، وهو: قَالَتْ سليمى اشتر لنا سويقا * وهات بُرَّ الْبَخْسِ أوْ دَقِيقَا واعْجَل بِلَحْمٍ نَتَّخِذْ خُرِدْيقا * واشْتَرْ وَعَجَّل خَادِمَاً لَبيقا واصْبُغْ ثِيَابِي صَبَغاً تَحْقِيقَا * مِنْ جَيِّدِ الْعُصْفُرِ لاَ تشريفا
__________
(1) يشير إلى قول امرئ القيسي فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واغل (*)

(4/226)


الخرديق: المرقة باللحم، وتشريقاً: مشرق قليل الصبغ، واصبغ واصبغ: لغتان " انتهى.
وزاد بعدها أبو محمد الأعرابي ضالَّة الأديب سبعة أبيات، وهي: يَا سَلْمُ لَوْ كُنْتُ لِذَا مُطِيقَا
لَمَا جَعَلْتُ عَيْشَكُمْ تَرْمِيقَا فَارْضَيْ بِضَيْحِ الرَّائِبِ الممذوقا وارضى بِحَبِّ الْحَنْظَلِ الْمَدْقُوقَا فَبَرَّقَتْ وَصَفَّقَتْ تَصْفِيقَا ثُمَّ غَدَتْ تَلْتَحِمُ الطَّرِيقَا نَحْوَ الأَمِيرِ تَبْتَغِي التَّطْلِيقَا وقال: هذه الأبيات لسُكَيْن بن نضرة عبدٍ لبَجيلة، وكان تزوج بصرية فكلفته عيش العراق والسويق: ما يجعل من الحنطة والشعير، معروف، والبر - بالضم - الحنطة والقمح، والبخس - بفتح الموحدة وسكون الخاء المعجمة وآخره سين مهملة -: أرض تنبت من غير سقى، ورواه أبو محمد الأعرابي كذا: * وهَاتِ خُبْزَ الْبُرِّ أوْ دَقِيقَا * والخُرديق - بضم الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة - قال أبو الحسن فيما كتبه على نوادر أبي زيد: الخُرْديق بالفارسية: المرقة مرقة الشحم بالتابل، واللَّبيق: الحاذق، واللباقة: الحذاقة، واصبغ - بفتح الباء وضمها - من بابي نفَع وقتَل وفي لغة من باب ضرب، والصَّبَغ - بفتحتين - لغة في سكون الباء، وقوله " يا سَلُمُ " هو مرخم سَلْمَى، وكنتُ - بضم التاء - والترميق: ضيق المعيشة، وفلان مُرَمَّق العيش: أي ضيقة، ويروى: ترنيقاً - بالنون موضع

(4/227)


الميم - وهو التكدير، قال ابن الأعرابي: رنَّق الماء ترنيقاً: أي كدره، والضَّيْح - بإعجام الأول وإهمال الآخر - وهو اللبن الرقيق من كثرة الماء، والمذق: الخلط، وارْضَيْ: أمر بالرضا في الموضعين، وبرقت: أي عبنها، وتلتحم الطريق:
أي تسده بكثرة الناس عليها من صياحها وشرها وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث عشر بعد المائة (من الوافر) : 113 - وَمَنْ يتق فإن الله معه * وَرِزْقُ الله مُؤْتَابٌ وَغَادِي لما تقدم قبله من تسكين الآخر، والقياس كسر القاف، وقد أورده الجوهري في موضعين من صحاحه: في مادة (أوب) قال: آب رجع، وأتَابَ مثل آب فَعَلَ وافْتَعَلَ بمعنى، وأنشد البيت، وأورده ثانياً في مادة الوقاية فأصل مؤتاب بهمز الواو، لأن الهمزة فاء الكلمة، والألف مبدلة من واو هي عين الكلمة ولم أقف على تتمته، ولا على قائله، ولم يكتب ابن بري ولا الصفدي عليه شيئاً في الموضعين.
وأنشد الجاربردي، وهو الشاهد الرابع عشر بعد المائة (من الرجز) : 114 - يَا رَبِّ يَا رَبَّاهُ إيَّاكَ أسَلْ * عَفْرَاءَ يَا رَبَّاهُ مِنْ قَبْلِ الأَجَلْ * فَإنَّ عَفْرَاءَ مِنَ الدُّنْيَا الأَمَلْ * على أن إلحاق هاء السكت في الوصل لضرورة الشعر، وحرّكَهَا بالكسر، ورُوِي ضمها أيضا.
وقد تكملنا عليه في الشاهد الثاني والثلاثين بعد الخمسمائة من شرح شواهد شرح الكافية.

(4/228)


وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس عشر، وهو من شواهد سيبويه: (من الكامل) 115 - وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفرْ على أن أصله يفري، فحذفت الياء، وسكنت الراء، للوقف على القافية، ولا يبالون بتغير وزن الشعر وَانكساره
قال سيبويه: (1) " واعلم أن الياءات والواوات اللاتي هن لامات إذا كان ما قبلها حرف الروي فُعل بها ما فُعل بالياء والواو اللتين ألحقتا للمد في القوافي، لأنها تكون في المدة بمنزلة الملحقة، ويكون ما قبلها رَوِياً، كما كان ما قبل تلك رَوِياً، فلما ساوتها في هذه المنزلة ألقحت بها في المنزلة الأخرى، وذلك قولهم لزهير: * وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُم لاَ يَفْرْ * وكذلك " يغزو " لو كانت في قافية كنت حاذفها إن شئت، وهذه اللامات لا تحذف في الكلام، وما حذف منهن في الكلام فهو هاهنا أجدر أن يحذف، إذ كنت تحذف هنا مالا يحذف في الكلام انتهى كلامه.
قال الأعلم (1) : " الشاهد فيه حذف الياء في الوقف من قوله يَفْري فيمن سكن الراء، ولم يطلق القافية للترنم، وإثبات الياء أكثر وأقيس، لأنه فِعْل لا يدخله التنوين ويعاقب ياءه في الوصل، فيحذف لذلك في الوقف كقاض وغاز وما أشبههما " انتهى.
وقال شارح شواهد أبي علي الفارسي: " جاء شاهداً على أن مثل هذه الياء في الفواصل والقوافي حُذِف: حذف الياء لثقلها، ثم أسكن الراء للوقف، كما يفعل ذلك في الفواصل من كتاب الله، ولا يفعلون ذلك في الألف لخفتها إلا في ضرورة الشعر، كما قال (من الرمل) :
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (2: 289) (*)

(4/229)


رهط مرجوم ورهط ابْنِ الْمُعَلّ أراد المعلَّى، فحذف، وشبه الألف بالياء ضرورة " انتهى كلامه.
والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها هَرِمَ بن سِنان المري، وقد شرحنا ثلاثة أبيات من أولها في الشاهد السابع والستين بعد الأربعمائة من شرح
شواهد شرح الكافية.
وقوله " ولأنت تفري إلخ " هذا مثل ضربه لممدوحه، وهو هَرِم بن سنان المري، والمراد العزم، و " تفري " بالفاء تقطع، يقال: فريت الاديم، إذا قطعته على وجه الإصلاح، وأفريته - بزيادة ألف - إذا قطعته على وجه الإفساد، والخَلْق: أحد معانيه التقدير، وهو المراد هنا، يقال: خلقت الأديم، إذا قدرته لتقطعه، فضربه هنا مثلاً لتقدير الأمر وتدبيره ثم إمضائه وتنفيذ العزم فيه، والمعنى أنك إذا تهيأت لأمر مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه، وبعض القوم يقدر الأمر وَيتهيأ له ثم لا يعزم عليه ولا يمضيه عجزاً وضعف همة: وأنشد بعده * رَهْطً مرجوم ورهط بن المعل * على أن أصله ان المعلَّى فحذفت الألف، لضرورة الشعر، وهو عجز وصدره: * وَقَبِيلٌ مِنْ لُكَيْزٍ شَاهِدٌ * وتقدم شرحه في الشاهد الثالث بعد المائة من هذا الكتاب.
وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس عشر بعد المائة (من الكامل) : 116 - وَلأَنْتَ أشْجَعُ مِنْ أسامة إذ * دعيت نزال ولج فِي الذُّعْرْ

(4/230)


على أنه حذف الياء من " لا يَفْر " في البيت السابق تبعاً لحذف الياء من " الذُّعْر " في هذا البيت، والياء في " الذعر " إذا أطلقت القافية ولم تسكن تنشأ من كسرة الراء، فهي زائدة حصلت من الإشباع، بخلاف " يفري " فإنها لام الكلمة.
وهذا البيت قبل البيت السابق في القصيدة، وليس البيت في شعر زهير
كما أنشده، فإن المصراع الأول أجنبي، وإنما قوله: وَلَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذَا * دُعِيَتْ نَزَالِ وَلُجَّ فِي الذُّعْرْ وذاك المصراع إنما هو للمسَيَّب بن عَلَس، وهو قوله من قصيدة (من الكامل) : وَلأَنْتَ أشْجَعُ مِنْ أُسَامَةَ إذْ * يَقَعُ الصُّرَاخُ ولُجَّ في الدعر فالبيت مركب من شعرين، تبع فيه صاحب الصحاح، وقد حققنا الكلام فيه وفي القصيدتين في الشاهد السابع والستين بعد الأربعمائة.
وأسامة - بضم الهمزة - معرفة علم للأسد، " ودعيت " بالبنال للمفعول، و " نزال " في محل رفع نائب الفاعل، ونزال بالكسر: اسم فعل أمر بمعنى أنزل، وقد استدل الشارح المحقق وغيره بهذا البيت على أن فَعَالِ الامرى مؤنث، ولهذا أنث لها الفعل المسند إليها، ومعنى دعاء الأبطال بعضهم بعضاً بنزال أن الحرب إذا اشتدت بهم وتزاحموا فلم يمكنهم التطاعن بالرماح تَدَاعَوْا بالنزول عن الخيل والتضارب بالسيوف، ومعنى " لُجَّ في الذعر " بالبناء للمفعول: تتابع الناس في الفزع، وهو من اللِّجاج في الشئ، وهو النمادى فيه.
وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع عشر بعد المائة (من الطويل) :

(4/231)


117 - وَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَلْمَى سِنِينَ ثمانيا * على صِيرِ أمْرٍ مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلْ على أنه حذف الواو من " يَحْل " للوقف، وهي لام الكلمة، كما حذفت واو الإشباع من " الثقل " في البيت الذي هو بعده.
وهو مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها سنان بن أبي حارثة المري.
وصحا: أفاق: أي رجع عقله إليه، وأقفر: صار قفراً لا أنيس به، والتعانيق:
موضع، وكذا الثقل - بكسر المثلثة وسكون القاف - موضع، يقول أفاق قلبي من حُبِّ سلمى لبعدها منه، وقد كان لا يفيق من شدة التباس حبها به، وقوله: و " قد كنت من سلمى - إلخ " الصِّير - بكسر الصاد المهملة -: الإشراف على الشئ والقرب منه، يقال: أنا من حاجتي على صير: أي على طرف منها، وإشراف من قضائها، وفى الصحاح: " وأمر الشئ: صار مرا، وكذلك مر الشئ يمر بالفتح مرارة، وأمره غيره ومَرَّه " انتهى.
وأنشد العسكري هذا البيت في كتاب التصحيف، وقال: " على صِير أمْرٍ " على منتهاه ويقال: صِيره وصَيْرُورَتَهُ، قال أبو عمرو: أي على شَرَف أمرٍ، والياء من يُمرُّ مضمومة، لأن اللغة العليا أمر الشئ يُمر إمراراً، وهو مذهب البصريين وابن الأعرابي، وأهل بغداد يقولون: مر الشئ، قالوا: من العرب من يقول: مر الشئ يَمَرَ مَرَارَة، انتهى.
و" يحلو " مضارع حَلاَ الشئ: أي صار حلواً، وأما أحْلَى فمعناه أن يجعله حُلواً، يقال: فلان لا يحلو ولا يمر: أي لا يأتي بحلو ولا مر، وقوله " ما يمر وما يحلو " أي: لم يكن الأمر الذي بيني وبينهما مراً فأيأس منه، ولا حلواً فأرجوه، وهذا مثل، وإنما يريد أنها كانت لا تصرمه فيحمله ذلك على اليأس والسلو ولا

(4/232)


تواصله كل المواصلة فيهون أمرها عليه، ويشفَي قلبه منها، يقول: كنت في هذه السنين بين يأس وطمع، ولم أيئس منها فيمِر عيشي ولم أطمع أن تصلني فيحلو، وأنشد بعده، وهذا الشاهد الثامن عشر بعد المائة (من الطويل) 118 - صَحَا الْقَلْبُ عَنْ سَلْمَى وَقَدْ كَادَ لاَ يَسْلْ * وأَقْفَرَ مِنْ سَلْمَى التَّعَانِيقُ فَالثِّقْلْ على أنه حذفت واو الإطلاق من " الثقل " فسكن اللام للوقف، وهذه
الواو ناشئة من إشباع ضمة اللام، وقد تقدم شرحه وأنشد بعده وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: من الرجز) 119 - دَايَنْتُ أرْوَى وَالدُّيّونُ تقضى * فمطلت بعضا وأدت بعظا على أن الألف لا يجوز حذفها في الوقف قال سيبويه: " وأما يخشى ويرضى ونحوهما فإنه لا يحذف منهن الألف، لأن هذه الألف لما كانت تثبت في الكلام جعلت بمنزلة ألف النصب التي تكون في الوقف بدلاً من التنوين، فكما تبيِّن تلك الألف في القوافي فلا تحذف، كذلك لا تحذف هذه، فلو كانت تحذف في الكلام ولا تمد إلا في القوافي لحذفت ألف يخشى كما حذفت ياء يقضى، حيث شبهتها بالياء التي في " الأَيَّامِي " فإذا ثبتت التي بمنزلة التنوين في القوافي لم تكن التي هي لام أسوأ حالاً منها، ألا ترى أنه لا يجوز لك أن تقول (من الطويل) : * ... لَمْ يَعْلَمْ لَنَا النَّاسُ مُصْرَعْ * فتحذف الألف؟ لأن هذا لا يكون في الكلام، فهو في القوافي لا يكون،

(4/233)


فإنما فعلوا ذلك بيقضي ويغزو لأن بناءهما لا يخرج نظيره إلا في القوافى، وإن شئت حذفته فإنما ألحقتا بما لا يخرج في الكلام، وألحقت تلك بما يثبت على كل حال، ألا ترى أنك تقول: دَايَنْتُ أرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى * فَمَطَلَتْ بَعْضَاً وَأَدَّتْ بَعْضَا فكما لا تحذف ألف بعضاً كذلك لا تحذف ألف تُقْضَى " (1) انتهى.
وقوله " في الأيَّامِي " هو قطعة من بيت لجرير عليه رحمة ربه القدير، وهو:
(من الكامل) أيْهَاتَ مَنْزِلُنَا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ * كانَتْ مُبَارَكَةً مِنَ الايامى وقول: " لم يعلم لنا الناس إلخ " فهو أيضاً قطعة من بيت ليزيد بن الطثريَّة (2) ، وهو: (من الطويل) فَبِتْنَا تَحِيدُ الْوَحْشُ عَنَّا كَأَنَّنَا * قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (ح 2 ص 300) (2) في الاغانى (ح 8 ص 155 طبع دار الكتب) : " والطثرية أمه فيما أخبرني به على بن سليمان الاخفش عن السكرى عن محمد بن حبيب، امرأه من طثر (بفتح فسكون) وهم حى من اليمن عدادهم في جرم، وقال غيره: إن طثرا من عنز ابن وائل إخوة بكر بن وائل ... وزعم بعض البصريين أن الطثرية أم يزيد كانت مولعة باخراج زبد اللبن فسميت الطثرية، وطثرة اللبن: زبدته " اه وفى القاموس (ط ث ر) " والطثرية محركة: أم يزيد بن الطثرية الشاعر القشيرى "، ولم يخالفه المرتضى في شرحه.
وفى ابن خلكان (2: 299) " والطثرية: بفتح الطاء وسكون الثاء وبعدها راء ثم ياء النسب وهاء، وهى أم يزيد ينسب إليها، وهى من بنى طثر بن عنز بن وائل، والطثر: الخصب وكثرة اللبن، يقال: إن أمه كانت مولعة بأخراج زبد اللبن " اه

(4/234)


وَ " أرْوَى " بالقصر اسم امرأة.
يقول: أسلفتها محبة ووُدّاً توجب المكافأة عليها فلم تجازني على فعلي وهذا مطلع أرجوزة لرؤبة بن العجاج، إنما هي غَزَل وافتخار، قال الأصمعي: هي من رجز رؤبة القديم، وبعدهما:
وَهْي تَرَى ذَا حَاجَةٍ مُؤْتَضَّا * ذَا مُعْضٍ لَوْلاً تَرُدُّ الْمَعْضَا فَقُلْتُ قَوْلاً عَرَبِيًّا غَضَّا * لَوْ كَانَ خَرْزاً فِي الكُلاَ مَابَضَّا (1) قال الجوهري: يقال أضَّنِي إليك كذا وكذا يَؤُضُّنِي وَيَئْضُّني: أي الجأني واضطرني، وائتَضَّنِي إليه ائتضاضاً: أي اضطرني إليه، قال الراجز: * وَهْي تَرَى ذَا حَاجَةٍ مُؤْتَضَّا * انتهى.
وقوله " ذَا مَعَضٍ إلخ " هو بالعين المهملة، قال الجوهري: مَعِضْتُ من ذلك الأمر أمْعَضُ مَعَضاً.
وامتعضت منه، إذا غضبت وشق عليك، قال الراجز: * ذَا مَعَضٍ لَوْلاَ تَرُدُّ الْمَعْضَا * انتهى.
يريد أن فعله من باب فرِح، وجاء في مصدره تسكين العين أيضاً، كما في البيت، وترد بالبناء للفاعل، والغض - بالغين المعجمة -: الطريّ.
وقوله: " لو كان خَرْزاً في الكُلا " مرادهُ ما بضَّ منها بلل: أي لم يسل لإحكامه تتمة: لم يذكر الشارح المحقق حكم ألف الإطلاق التي لم يلحقها التنوين، وحكمُها جواز حذفها سواء كانت في اسم أم فعل، وقد ذكرها سيبويه، قال: " إذا أنشدوا ولم يترنموا فعلى ثلاثة أوجه: ثالثها أن يُجْرُوا القوافي مُجْراها لو كانت
__________
(1) انظر هذه الابيات في ديوان رؤبة (ص 79) (*)

(4/235)


في الكلام ولم تكن قوافي شعر، جعلوه كالكلام حيث لم يترنموا وتركوا المدة (لعلمهم أنها في أصل البناء) (1) ، سمعناهم يقولون لجرير: (من الوافر) * أقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابْ *
وللأخطل: (من البسيط) * وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَة الْبَكْرِيِّ مَا فَعَلْ * وكان هذا أخف عليهم، ويقولون: (من الرجز) * قَدْ رَابَنِي حَفْصٌ فَحَرِّكْ حَفْصَا * يثبتون الألف، لأنها كذلك في الكلام " انتهى.
قال الأعلم: " الشاهد فيه حذف الألف من " ما فعلا " حيث لم يرد الترنم، وهذا في المنصوب غير المنون جائز حسن، مثله في الكلام، ولا فرق بينه وبين المخفوض والمرفوع في الحذف والسكون، ما لم يريدوا التغني، وقوله " قد رابني حفص إلخ ": " الشاهد فيه إثبات الألف في قوله " حفصاً " لأنه منون ولا يحذف في الكلام إلا على ضعف كالمُعَلْ " انتهى.
وأنشد بعده، وهو الشاهد العشرون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من البسيط) 120 - لاَ يُبْعِدِ الله إخْوَاناً تَرَكْتُهُمُ * لَمْ أدْرِ بَعْدَ غَدَاةِ الْعَيْنِ مَا صَنَعْ على أن أصله " صنعوا " فحذفت واو الضمير للوقف، وإن كان ينكسر الشعر بحذفها، فإنهم لا يبالون للوقف.
قال سيبويه: " وزعم الخليل أن ياء يقضي وواو إذا كانت واحدة منهما
__________
(1) الزيادة من كتاب سيبويه (ح 2 ص 299) (*)

(4/236)


حرف الروي (لم تحذف، لأنها ليست بوصل حينئذٍ، وهي حرف روي) كما أن القاف في: * وقَاتِم الأعماق خَاوِي الْمٌخْتَرَقْ *
(حرف الروي) ، وكما لا تحذف هذه القاف لا تحذف واحدة منهما، وقد دعاهم حذف ياء يقضي إلى أن حذف ناس كثير من قيس وأسد الواوَ والياء اللتين هما علامة المضمر، ولم تكثر واحدة منهما في الحذف ككثرة ياء يقضي، لأنهما تجيئان لمعنى الأسماء، وليستا حرفين بنيا على ما قبلهما، فهما بمنزلة الهاء في قوله: (من الطويل) * يَا عَجَبَا لِلدَّهْرِ شَتَّى طَرَائِقُهْ * سمعت ممن يروي هذا الشعر من العرب ينشده (من البسيط) : لاَ يُبْعِدِ الله أصْحَاباً تَرَكْتُهُمْ * لَمْ أدْرِ بَعْدَ غَدَاةِ الْبَيْنِ مَا صَنَعْ يريد ما صنعوا.
وقال (من الكامل) * يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالْجِوَاءِ تَكَلَّمْ * يريد تكلمي ".
مع أبيات أخر قال الأعلم: " الشاهد فيه حذف واو الجماعة من صنعوا، كما تحذف الواو الزائدة، إذا لم يريدوا الترنم، وهذا قبيح لما تقدم من العلة " (1) انتهى.
والبيت من قصيدة لتميم بن أُبَيِّ بن مُقْبِل، وقبله: نَاطَ الْفُؤَادُ مَنَاطاً لاَ يُلاَئِمُهُ * حَيَّانِ دَاعٍ لإصْعَادٍ وَمُنْدَفِعُ حَيٌّ مَحَاضِرُهُمْ شَتَّى ويَجْمَعُهُمْ * دَوْمُ الأَيَادِي وَفَاثُورٌ إذَا انْتَجَعُوا لاَ يُبْعِدِ الله أصحابا تركتهم * ... البيت
__________
(1) يريد بالذى تقدم أن الواو اسم جاء لمعنى فلا يحسن حذفه كما تحذف حروف الترنم إذا كانت زائدة

(4/237)


ناط الشئ ينوط نوطاً: أي علَّقه، فالفؤاد مفعوله، وحَيَّان: فاعله، والحي: القبيلة، وداع ومندفع: بدل من حيان، وأصعد من بلد بكذا إلى بلد كذا إصعاداً،
إذا سافر من بلد سفلى إلى بلد عليا، وأصعد إصعاداً، إذا ارتقى شَرَفاً، كذا في المصباح، ومندفع: منحدر إلى أسفل، وَالْمَحَاضِر: الذين يحضرن المياه، في الصِّحاح " يقال: على الماء حاضر، وقوم حُضَّار إذا حضروا المياه، ومحاضر " وشَتَّى: جمع شتيت بمعنى متفرق، ودوْم الأيادي: موضع، وهو فاعل يجمعهم، وفاثُورٌ - بالفاء والمثلثة - معطوف على دوم، قال ياقوت في معجم البلدان: فاثُور: موضع أو واد بنجد، وأنشد هذا البيت، وإذا: ظرف ليجمعهم، وانتجع القوم: إذا ذهبوا لطلب الكلأ في موضعه وقوله " لا يُبْعِد الله إلخ " لفظه إخبار ومعناه دعاء، ويجوز أن يقرأ بالجزم على أنه دعاء صورة النهي، و " يبعد " مضارع أبعده بمعنى أهلكه، ويجوز أن يكون بمعنى بعّده تبعيداً: أي جعله بعيدا، و " إخوانا " مفعلوله، وتركتهم: فارقتهم، والبين: الفراق، وما: استفهامية وتميم: شاعر إسلامى معاصر للفرزدق وجرير وقد ترجمناه في الشاهد الثاني والثلاثين من شرح شواهد شرك الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الواحد والعشرون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الكامل) 121 - يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالْجِوَاءِ تَكَلَّمْ * وَعِمِي صَبَاحاًَ دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلَمْ على أن أصله تكلمي، واسلمي، حذف ضمير المخاطبة منهما - وهو الياء - للوقف والبيت من أوائل معلقة عنترة بن شداد العبسي، وعبلة - بالعين المهملة

(4/238)


والموحدة -: اسم امرأة، والجواء - بكسر الجيم والمد -: اسم موضع، قال يونس: سئل أبو عمرو بن العلاء عن قول عنترة: وعِمِي صَبَاحاً، فقال: هو
من قولهم: يَعِم المطرُ ويَعِم البحرُ إذا كثر زبده، وكأن يدعو لدارها بكثرة الاستسقاء والخير، وقال الأصمعي: عِمْ وانْعَمْ واحد: أي كن ذا نعمة وأهل إلا أن عِمْ أكثر في كلام العرب، وأنشد بيت امرئ القيس (من الطويل) : الأعم صباحا أيها الطلل البالى * وهل يعمن من كان في العصر الخالى وقد استقصينا ما قيل في هذه الكلمة في الشاهد الثالث من أول شرح شواهد شرح الكافية.
و" دار عبلة " منادى، وحرف النداء محذوف، يقول: يا دار حبيبتي بهذا الموضع تكلمي، وأخبريني عن أهلك ما فعلوا، ثم أضرب عن استخبارها إلى تحيتها فقال: طاب عيشك في صباحك، وسلمت يادار حبيبتي.
وقد ترجمنا عنترة مع شرح شئ من هذه القصيدة، وبيان التسمية وعدد المعلقات في الشاهد الثاني عشر من أوائل شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه (من الطويل) 122 - * خَلِيْلَيَّ طِيْرَا بِالتَّفَرُّقِ أوقعا * على أنه لا يجوز حذف الالف من " قعا " للوقف لانه ضمير مثنى، قال سيبويه: " وأنشدنا الخليل: * خَلِيْلَيَّ طِيْرَا بِالتَّفَرُّقِ أوْقَعَا * فلم يحذف الألف كما لم يحذفها من تُقْضَى "، قال الأعلم: " أراد أن الالف من قوله " قعا " لا تحذف كما لا تحذف ألف تُقْضى، يقال: وقع الطائر، إذا نزل بالأرض، والوقوع: ضد الطيران " انتهى.

(4/239)


وخليليَّ: مثنى خليل مضاف إلى ياء المتكلم، و " طيرا " فعل أمر الطيران
مسند إلى ضمير الخليلين، و " قَعَا " فعل أمر من الوقوع مسند إلى ضميرهما، ومعموله محذوف، بدليل ما قبله: أي به ولم أقف على تتمته ولا على قائله والله تعالى أعلم وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد المائة (من البسيط) : 123 - تَعَثَّرَتْ بِهِ فِي الأَفْوَاهِ ألسنها * والبرد في الطرق وَالأَقْلاَمُ فِي الْكُتُبِ على أنه إذا كان قبل هاء الضمير متحرك فلا بد من الصلة، إلا أن يضطر شاعر فيحذفها، كما حذفها المتنبي من قوله " به "، قال ابن جني في سر الصناعة: " ومن حذف الواو في نحو: (من الوافر) له رجل كَأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ * إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَئِيرُ وقول الآخر: (من البسيط) وَأَشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ * إلاَّ لأَنَّ عُيُونَهُ سَيْلُ وَادِيهَا لم يَقُلْ في نحو " رأيتها " و " نظرتها " إلا بإثبات الألف، وذلك لخفة الألف وثقل الواو، إلا أنا قد روينا عن قطرب بيتاً حذفت فيه هذه الألف تشبيهاً بالواو والياء لما بينهما وبينها من الشبه، وهو قوله: (من البسيط) أعْلَقْتُ بِالذِّيْبِ حَبْلاً ثُمَ قُلْتُ لَهُ * الْحَقْ بِأَهْلِكَ وَاسْلَمْ أيُّهَا الذِّيبُ أما تَقُودُ بِهِ شَاةً فَتَأْكُلَهَا * أوْ أَنْ تَبيعَهُ فِي بَعْضِ الأَرَاكِيبِ يريد تبيعها، فحذفت الألف، وهذا شاذ " انتهى.
وقافية البيت الثاني مُقَواة.

(4/240)


والبيت من قصيدة للمتنبي نظمها في الكوفة بعد رجوعه إليها من مصر رَثَى
بها خَوْلَة أخت سيف الدولة بن حمدان البكري، وتوفيت بميَّا فَارِقِينَ، من ديار بكر، لثلاث بقين من جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ورد خبر موتها العراق، فرثاها بهذه القصيدة في شعبان وأرسلها إليه، وقبله: طَوَى الجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرٌ * فَزِعْتُ فِيهِ بآمَالي إلَى الْكَذِبِ حَتَّى إذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ أمَلاً * شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كَادَ يَشْرَقُ بِي تَعَثَّرَتْ بِهِ فِي الأَفْوَاهِ ألْسُنَهَا ... البيت طَيُّ البلاد: قطعها بالسير، والجزيرة: بلد يتصل بأرض الموصل، والفزع إلى الشئ: الاعتصام به والالتجاء إليه، والشَّرَقُ: الغصص، وتعثر الألسن: توقفها عن الإبانة، مستعار من عثار الرِّجْل، والبُرْد - بالضم - رجال يحملون الرسائل على دواب تتخذ لهم، الواحد منها يريد، يقول: طوى أرض الجزيرة خبر هذه المتوفاة مسرعاً غير متوقف حتى طرقني بغتة، وورد عليَّ فجأة، ففزعت بآمالي فيه إلى تكذيب صدقه ومخادعة نفسي في أمره، ثم قال: حتى إذا لم يدع لي صدقُهُ أملاً أتعلل بانتظاره ورجاء أخدع نفسي بارتقابه أعلنت بالحزن، واستشفيت بالدمع فأذريت منه ما أشرقني تتابعه، وأدهشني ترادفه، حتى كدت أولمه كتألمي به وأُشرقه كشرَقِي به، ثم قال: تعثرت الألسن بذلك الخبر في الأفواه فلم تظهره لشنعته، ولم تفصح به لجلالته، وكذلك تعثرت به البُرد في الطرق استعظاماً لحمله، والأقلام في الكتب استكراهاً لذكره وقد أوردنا ما يتعلق به بأبسط من هذا في الشاهد السادس والثمانين بعد الأربعمائة من شرح شواهد شرح الكافية

(4/241)


وأنشد بعده: (من الرمل)
* رَهْطُ مَرْجُومٍ وَرَهْطُ ابْنِ الْمُعَلْ * وتقدم شرحه في الشاهد الثالث بعد المائة وأنشد بعده، وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الطويل) 124 - * قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ * على أن حرف الإطلاق لا يلحق الكلمة في الوقف إلا في الشعر إذا أريد التغني والترنم، كما ألحقت الياء لام منزل، ولولا الشعر لكانت اللام ساكنة، قال سيبويه في باب وجوه القوافي في الإنشاد: " أما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو ما ينون وما لا ينون، لأنهم أرادوا مدّ الصوت، وذلك قولهم لامرئ القيس: * قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ * وقال في النصب ليزيد بن الطثَرية: (من الطويل) فَبِتْنَا تَحِيدُ الْوَحْشُ عَنَّا كَأَنَّنَا * قتيلان لم يَعْلَمْ لَنَا النَّاسُ مَصْرَعا وقال في الرفع للأعشى: (من الطويل) * هُرَيْرَةَ وَدِّعْهَا وَإنْ لاَمَ لاَئِمُ * هذا ما ينون فيه، وما لا ينون فيه قولهم لجرير: (من الوافر) * أقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابَا * وقال في الرفع لجرير أيضاً: (من الوافر) * سُقِيتِ الْغَيْثَ أيَّتُهَا الْخِيَامُ * وقال في الجر لجرير أيضاً: (من الكامل) * كَانَتْ مُبَارَكَةً مِنَ الأَيَّامِ *

(4/242)


وإنما ألحقوا هذه المدة في حروف الروي لأن الشعر وضع للغناء والترنم، فألحقوا كل حرف الذي حركته منه، فإذا أنشدوا ولم يترنموا فعلى ثلاثة أوجه: أمّا أهل الحجاز فَيَدَعُون هذه القوافي: ما نون منها، وما لم ينون، على حالها في الترنم، ليفرقوا بينه وبين الكلام الذي لم يوضع للغناء، وأما ناس كثير من بني تميم فإنهم يبدلون مكان المدة النونَ فيما ينوّن وفيما لم ينوّن لما لم يريدوا الترنم أبدلوا مكان المدة نوناً، ولفظوا بتمام البناء وما هو منه، كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد، سمعناهم يقولون للعجاج: (من الرجز) * يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَنْ * و * يَا صَاحِ مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ * وقال العجاج: * مِنْ طَلَلٍ كالاتحمى أنهجن * وكذلك الجر والرفع، والمكسور والمفتوح والمضموم في جميع هذا كالمجرور والمنصوب والمرفوع، وأما الثالث فأن يُجْرُوا القوافي مُجْراها لو كانت في الكلام ولم تكن قوافي شعر، جعلوه كالكلام حيث لم يترنموا وتركوا المدة (لعلمهم أنها في أصل البناء) (1) ، سمعناهم يقولون لجرير: (من الوافر) * أقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالْعِتَابْ * وللأخطل: (من البسيط) * وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَة الْبَكْرِيِّ مَا فَعَلْ * وكان هذا أخف عليهم.
ويقولون: (من الرجز) * قَدْ رَابَنِي حَفْصٌ فحرك حفصا *
__________
(1) هذه الزيادة عن سيبويه (2: 299) (*)

(4/243)


يثبتون الألف لأنها كذلك في الكلام " انتهى كلام سيبويه، ونقلناه برمته، لأن الشارح المحقق لم يورد مسائله بتمامها والمصراع صدره، وعجزه * بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فحومل * والبيت مطلع معلقة امرئ القيس، وقد شرحناه شرحاً وافياً في الشاهد السابع والثمانين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائة: (من الخفيف) 125 - * آذنتنا بِبَيْنِهَا أسْمَاءُو * على أن واو الإطلاق لحقت الهمزة من " أسماء " في الوقف لإرادة الترنم، ولو كان في نثر لكنت الهمزة ولما جاز إلحاق الواو لها والمصراع صدر، وعجزه: * رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ * والبيت مطلع معلقة الحارث بن حلزة اليشكرى، وبعده: آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا ثُمَّ وَلَّتْ * لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ اللِّقَاءُ و " آذنتنا " أعلمتنا، قال تعالى: (فَقُلْ آذنتكم على سواء) قال ابن السكيت: يقال: آذن يُؤْذن إيذَاناً، وأذَّن يُؤَذِّنُ تَأْذيناً، والاسم الأذَان، بمعنى الإعلام، والبين: الفراق، مَصْدَر بَانَ يَبِينُ بَيْنَاً وَبَيْنُونَة، وأسماء: اسم امرأة، لا ينصرف للعلمية والتأنيث، وأصله وَسْمَاء، أبدلت الواو همزة، ووزنه فَعْلاء، من الوَسْم والوَسَامَة: أي الحسن والجمال، ولم يصب النحاس في شرح المعلقة في زعمه أنه قبل العلمية جمع اسم (1) قال: ولو سميت به رجلا
__________
(1) عدم تصويب أبى جعفر النحاس في ذلك غير سديد، فان هذا مذهب (*)

(4/244)


لكان الأكثر فيه الصرف، لأنه جمع اسم، وقد قال: إنه لا ينصرف إذا سميت به رجلاً لأن الأصل أن يكون اسماً لمؤنث فقد صار بمنزلة زينب " انتهى وقوله " رُب ثاو - إلخ " أرسله مثلاً، والتقدير رب شخص ثاوٍ، وجواب رُبَّ العامل في محل مجرورها هو يُمَل بالبناء للمفعول، بمعنى يُسْأَم، يقال: مَلِلْتُه أمَلُّه ورجل مَلُول ومَلُولة، والهاء للمبالغة، والثاوي: المقيم، يقال: ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً وَثَوَاية، إذا أقام، يقول: أعلمتنا أسماء بمفارقتها إيانا: أي بعزمها على فراقنا، ورب مقيم تُمَل إقامته، ولم تكن أسماء ممن يُمَلّ وإن طال إقامتها.
وتقدم ترجمته مع شرح أبيات من هذه المعلقة وذكر سببها في الشاهد الثامن والأربعين من شرح شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائة (من الطويل) 126 - وَمُسْتَلْئمٍ كَشَّفْتُ بِالرُّمْحِ ذَيْلَهُ * أقَمْتُ بِعَضْبٍ ذِي شَقَاشِقَ مَيْلَهُ لما تقدم قبله والواو واو رب، والمستلئم: اسم فاعل من استلأم الرجُل: أي لبس الَّلأمة، واللأمة بالهمز: الدرع، وكشفت - بالتشديد - للمبالغة، وذيله: مفعوله، يعني طعنته بالرمح فسقط عن فرسه وانكشف ذيله، وأقمت: بمعنى عَدّلْت تعديلاً، والْعَضْب - بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة -: السيف القاطع، وهنا مستعار للسان (1) ، شبه به للتأثير والإيلام، والشقاشق: جمع شِقْشِقة
__________
(1) للفراء، نعم الاول مذهب سيبويه، وهو أرجح المذهبين، لكون النقل إلى العلمية من الصفة أكثر من النقل من الجمع.
(1) دعاه إلى ذلك التصحيف، والرواية " بعضب دى سفاسق " والسفاسق: جمع سفسقة، وهى فرند السيف، وانظر اللسان.
(*)

(4/245)


بكسر الشين، وهى شئ كالرئة يخرجها البعير من فيه إذا هاج، ويشبه الفصيح المنطبق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته، وميله: اعوجاجه، وهو مفعول أقمت وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه (من الرجز) : 127 - بِبَازِلٍ وَجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّ على أنهم جوزوا في الشعر تحريك اللام المضعف لأجل حرف الإطلاق مع أن حقه السكون في غير الشعر كما جوزوا فيه أن يحركوا لأجل المجئ بحرف الإطلاق ما حقه السكون في غيره قال سيبويه: " وأما التضعيف فقولك: هذا خالدّ، وهو يجعلّ، (وهذا فَرَجّ) (1) حدثنا بذلك الخليل عن العرب، ومن ثمَّ قالت العرب (في الشعر) (1) في القوافي سَبْسَبَّا تريد السَّبْسَبَ، وعيهلُّ تريد العيهلُ، لأن التضعيف لما كان في كلامهم في الوقف أتبعوه الياء في الوصل والواو على ذلك.
كما يلحقون الواو والياء في القوافي فيما لا تدخله واو ولا ياء في الكلام، وأجروا الألف مجراهما، لأنها شريكتهما في القوافي، ويمد بها في غير موضع التنوين، (ويلحقونها في غير التنوين) (1) ، فألحقوها بها فيما ينون في الكلام، وجعلت سَبْسَب كأنه مما لا تلحقه الألف في النصب، إذا وقفت، قال رجل من بني أسد (من الرجز) * بِبَازِلٍ وجْنَاء أوْ عَيْهَلِّ * وقال رؤبة: (من الرجز) لَقَدْ خَشِيْتُ أنْ أرَى جَدَبَّا * في عامنا ذا بعد ما أخصبا أراد جَدْباً، وقال رؤبة: (من الرجز)
__________
(1) هذه الزيادة عن كتاب سيبويه (2: 282) (*)

(4/246)


* بَدْءٌ يُحبُّ الْخُلُقَ الأضْخَمَّا * فعلوا هذا إذ كان من كلامهم أن يضعفوا " انتهى كلامه وقوله " ومن ثمة قالت العرب في الشعر سبسبَّا تريد السبب، وعيهلِّ تريد العيهل " صريحٌ في أنه ضرورة، وكذا صرح الأعلم بقوله: " الشاهد فيه تشديد عيهلِّ في الوصل ضرورة، وأراد جَدْباً فشدد الباء ضرورة، وحرك الدال بحركة الباء قبل التشديد لالتقاء الساكنين، وكذلك شدد أخْصبَّا للضرورة " انتهى.
فقول الشارح المحقق " وليس في كلام سيبويه ما يدل على كون مثله شاذا أو ضرورة " مخالفٌ لنصه وقد أورده ابن السراج في باب الضرائر الشعرية من كتابه الأصول، قال: " الثاني إجراؤهم الوصل كالوقف، من ذلك قولهم في الشعر للضرورة في نصب) (1) سَبْسَب وكلكل رأيت سبسباً وكلكلاً، ولا يجوز مثل هذا في الكلام، إلا أن تخفف، وإنما جاز هذا في الضرورة لأنك كنت تقول في الوقف في الرفع والجر: هذا سَبْسَبُّ، ومررت بِسَبْسَبِّ، فتثقل على أنه متحرك الآخرِ في الوصل، لأنك إذا ثقلت لم يجز أن يكون الحرف الآخر إلا متحركاً، لأنه لا يلتقي ساكنان، فلما اضطر إليه في النصب أجراه على حاله في الوقف، وكذلك فعل به في القوافي المرفوعة والمجرورة في الوصل، ثم أنشد أبيات سيبويه، وقال: فهذا أجراء في الوصل على حده في الوقف " انتهى.
وكذلك عدة ابن عصفور ضرورة في كتاب الضرائر، وقد نقلنا مثله من المسائل العسكرية لأبي علي في الشاهد الثاني والأربعين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية
__________
(1) سقطت هذه الكلمة من بعض النسخ (*)

(4/247)


وقال ابن جني في شرح تصريف المازني: " التثقيل إنما يكون في الوقف، ليعلم باجتماع الساكنين في الوقف أنه متحرك في الوصل، حرصاً على البيان، لأنه معلوم أنه لا يجتمع في الوصل ساكنان، وعلى هذا قالوا: خالد وهو يجعل، فإذا وصلوه قالوا: خالد أنى، وهو يجعلُ لك، فكان سبيله إذا أطلق في الأضخم بالنصب أن يزيل الثقيل، إلا أنه أجراه في الوصل مجراه في الوقف للضرورة، ومثله: (من الرجز) * بِبَازِلٍ وَجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّ * يريد الْعَيْهَل، وهذا أكثر من أن أضبطه لك لسعته وكثرته " وقال في المحتسب أيضاً: " وقد كان ينبغي - إذ كان إنما شدد عوضاً من الإطلاق - أنه إذا أطلق عاد إلى التخفيف إلا أن العرب قد تجري الوصل مجرى الوقف تارة، وتارة الوقف مجرى الوصل " انتهى.
والبيت من أرجوزة طويلة لمنظور بن مَرْثَد الأسدي، وقيل: لمنظور بن حَبَّة (1) الأسدي، أولها: لَيْتَ شَبَابِي (كان) (2) لِلأَوَّلِّ * وَغَضَّ عَيْشٍ قَدْ خَلاَ أرْغَلِّ شدد لام أوَّل، وأرغلُ كذلك، وهو بالغين المعجمة، قال صاحب العباب " وعيش أرغَل وأغرل: أي واسع " * مَنْ لِي مِنْ هِجْرَانِ لَيْلََى مَنْ لِي * * وَالْحَبْلِ مِنْ حبالها المنحل *
__________
(1) منظور بن حبة هو بعينه منظور بن مرثد، قال المجد: " ومنظور بن حبة راجز، وحبة أمه، وأبوه مرثد " اه
(2) هذه زيادة يقتضيها الوزن، وقد بحثنا عن هذا البيت في كثير من المظان لنثبت لفظ الشاعر نفسه فلم نجده، فأثبتنا ما يقتضيه المقام (*)

(4/248)


قال أبو علي في المسائل العسكرية: " المنحل لا يخلو من أن يكون محمولاً على الحبل أو الحبال، وكلا الأمرين قبيح " تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانٍ حِلِّ * تَعَرُّضَ الْمُهْرَةِ في الطِّوَلِّ * تَعَرُّضاً لَمْ تَعْدُ عَنْ قَتْلاً لِي (1) * قال أبو علي: قال " أبو الحسن (1) : يكون " عَنْ قَتْلاً لي " على الحكاية، ويكون يريد أنْ، فأبدل منها العين في لغة من يقولون في أنَّ: عَنَّ، وتسمى عنعنة تميم " انتهى.
والطول بكسر الطاء وتخفيف اللام، وشددت لما ذكرنا، وهو الحبل الذي يطول للدابة فترعى فيه، ورواه صاحب العباب: * تَعَرُّضاً لَمْ تَأْلُ عَنْ قَتِلٍ لِي * أي: لم تقصر عن قتل، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تأويل: تَرَى مَرَادَ نِسْعِهِ الْمُدْخَلِّ * بَيْنَ رَجَى الْحَيْزُومِ وَالْمَرْحَلِّ * مِثْلَ الزَّحَالِيفِ بِنَعْفِ التَّلِّ * وقال ابن جني في سر الصناعة: " يريد الْمُدْخَلَ والْمَرْحَلَ فشدد "، إلى أن قال: إنْ تَبْخَلِي يَا جُمْلُ أوْ تَعْتَلِّي * أوْ تصبحي في الظاعن المولى
__________
(1) هذان وجهان ذكرهما ابن المكرم عن ابن برى، وذكر وجها ثالثا عن سيبويه عن الخليل، قال: أراد عن قتلى، فلما أدخل عليه لاما مشددة كما أدخل نونا مشددة في قول دهلب بن قريع جارية ليست من الوخشن * كأن مجرى دمعها المستن
قطنة من أجود القطن * أحب منك موضع القرطن وصار الاعراب فيه - فتح اللام الاولى كما تفتح في قولك مررت بتمر وبتمرة وبرجل وبرجلين " اه (*)

(4/249)


نُسَلِّ وَجْدَ الْهَائِمِ الْمُغْتَلِّ * بِبَازِلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّ كَأَنَّ مَهْوَاهَا عَلَى الْكَلْكَلِّ * وَمَوْقِعاً مِنْ ثَفِنَاتٍ زل موقع كفى راهب يضلى * في غَبَشِ الصُّبْحِ وَفِي التَّجَلِّي جُمل: اسم امرأة - بضم الجيم - وتعتلى: من الاعتلاال وهو التمارض والتمسك بحجة، ونُسَلّ: من التسلية، وهي تطييب النفس، وهو جواب الشرط، والمغتل - بالغين المعجمة -: الذي قد اغتل جوفه من الشوق والحب والحزن، كغُلة العطش، و " ببازل " متعلق بنُسل، والبازل: الداخل في السنة التاسعة من الإبل ذكراً كان أم أنثى، والوجناء: الناقة الشديدة، والعيهلِّ: الناقة الطويلة، ومَهْواها: مصدر ميمي بمعنى السقوط، والكلكل: الصدر، قال أبو علي: " استعمال العيهل والكلكل بتخفيف اللام، قدر الوقف عليه فضاعف إرادة للبيان، وهذا ينبغي أن يكون في الوقف دون الوصل، لأن ما يتصل به في الوصل يبين الحرف وحركته، ويضطر الشاعر فيجري الوصل بهذه الإطلاقات في القوافي مجرى الوقف، وقد جاء ذلك في النصب أيضاً، قال: (من الرجز) * مثل الحريق وَافَقَ الْقَصَبَّا * وَهَذَا لاَ يَنْبَغي أن يكون في السعة " انتهى والثفنة - بفتح المثلثة وكسر الفاء بعدها نون - وهو ما يقع على الأرض من أعضاء الإبل إذا استناخ وغلظ كالركبتين، وزُلُّ - بضم الزاي -: جمع
أزَلّ، وهو الخفيف، شبّه الأعضاء الخشنة من الناقة بكثرة الاستناخة بكفي راهب قد خشنتا من كثرة اعتماده عليهما في السجود، والغَبَش - بفتحتين -: بقية الليل، وأراد بالتجلي النهار، قال السخاوي في سفر السعادة: " وهذا الشعر لمنظور بن مرثد الأسَدِي، وقد روي لغيره، ويزاد فيه:

(4/250)


إن صَحَّ عَنْ دَاعِي الْهَوَى الْمُضِلِّ * ضَحْوة نَاسِي الشَّوْقِ مُسْتَبلِّ أوْ تَعْدُنِي عَنْ حَاجِهَا حاجٌ لِي * نُسَلِّ وَجْدَ الْهَائِمِ الْمُغْتَلِّ " انتهى.
ومستَبِل: من أبلّ من مرضه، إذا صح وتوجه إلى العافية، وتَعْدُنِي: تتجاوزني، وحاج: جمع حاجة وقد تكلمنا على هذه الأبيات في شواهد شرح الكافية بأبسط من هذا.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائة: (من الوافر) 128 - * وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا * على أن (حق) (1) نون الأندرين في الكلام السكون عند الوقف وهذا عجز وصدره: * ألاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا * وهو مطلع معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي و " ألا " حرف يفتتح به الكلام ومعناه التنبيه، وهِبِّي: فعل أمر مسند إلى ضمير المخاطبة، ومعناه قومي من نومك يقال: هب من نومه يُهب - بالضم - هبا، إذا انتبه وقام من موضعه، والصَّحْن: الكبير الواسع، واصْبِحِينَا: اسقينا الصَّبُوح، وهو الشرب بالغداة، وهو خلاف الغَبُوق، يقال: صَبَحَه صَبْحاً - من باب نفع - واصطبح: أي شرب الصبوح، والعرب
تسمي شرب الغداة صَبُوحاً - بفتح الصاد - وشُرب نصف النهار قَيْلاً - بفتح القاف - وشرب العشاء غَبُوقاً - بفتح الغين - وشرب الليل فحمة -
__________
(1) كان الاصل " على أن نون الاندرين في الكلام على السكون ... الخ " وهو غير ظاهر المعنى فأثبتنا ما ترى ليستقيم الكلام (*)

(4/251)


بفتح الفاء وسكون المهملة - وشرب السحر جَاشِرِيَّةً - بالجيم والشين المعجمة - وقد نظمها محمد التَّوجيّ (1) فقال: (من الطويل) صَبُوحٌ وَقَيْل وَالْغَبُوقُ وَفَحْمَةٌ * لَدَى الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ يَا صَاحِ تُعْتَبَرْ لِشُرْبِ غَدَاةٍ والظَّهِيْرَةِ وَالْعَشَا * وَلَيْلٍ، وَشُرْبُ الْجَاشِرِيَّةِ بِالسَّحَرْ وقوله " ولا تبقى إلخ " أبقيت الشئ وبقَّيته بمعنى: أي لا تبقيها لغيرنا وتسقيها سوانا، والمعنى ولا تدخري خمر هذه القرية.
والأندرينُ: قرية بالشام، وهي معدن الخمر، وقيل: إنما هي أندر، وجمعها بما حولها، وقيل: إنها أندرون، وفيها لغتان: منهم من يرفعه بالواو ويجره وينصبه بالياء، وَيفتح النون في كل ذلك، ولهذا قال " خمور الأندرينا " ومنهم من يجعل الإعراب على النون ويجعل ما قبلها ياء في كل حال، وإنما فتح (2) هنا في موضع الجر لأنه لا ينصرف للعلمية والتأنيث، أو للعلمية والعجمة وقال أبو إسحق: " ويجوز أن تأتي بالواو، ويحتمل الإعراب على النون، ويكون مثل زيتون، وخبرنا بهذا أبو العباس المبرد، ولا أعلم أحداً سبقه إليه " وقال أبو عبيد في معجم ما استعجم: " الأنْدَرِينُ: قرية بالشام، وقال الطوسي: قرية من قرى الجزيرة، وأنشد هذا البيت " وقال ياقوت في معجم البلدان: " الأندرين: اسم قرية في جنوبي حلب، بينهما مسيرة يوم للراكب، في طرف البرية ليس بعدها عمارة، وهي الآن خراب ليس إلا بقية جُدُر، وإياها عنى عمرو بن كلثوم بقوله:
* وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا * وهذا ما لا شك فيه، سألت عنه ذوى المعرفة من أهل حلب فكل وافق
__________
(1) نسبة إلى توج، وهى مدينة بفارس قريبة من كازرون، فتحت في أيام عمر ابن الخطاب، وأمير المسلمين في الموقعة مجاشع بن مسعود (2) غير مستقيم لوجود ال، بل هو على اللغة الاولى لا غير.
(*)

(4/252)


عليه، وقد تكلف جماعة اللغويين لَمَّا لم يعرفوا حقيقة اسم هذه القرية، وألجأتهم الحيرة إلى أن شرحوا هذه اللفظة من هذا بضروب الشروح، فقال صاحب الصحاح: الأندر: اسم قرية بالشام، إذا نسبت إليها تقول: هؤلاء الأندريون، وذكر البيت، ثم قال: لما نسب الخمر إلى هذه القرية اجتمعت ثلاث ياءات فخففها للضرورة كما قال الآخر: (من الوافر) * وَمَا عِلْمِي بِسِحْرِ الْبَابِلِينَا * وقال صاحب كتاب العين: الأندريّ، ويجمع الأندرين (يقال: هم الفتيان يجتمعون من مواضع شتى، وأنشد البيت وقال الأزهري: الأنْدَر قرية بالشأم فيها كروم، وجمعها الأندرين) (1) فكأنه على هذا المعنى أراد الأندريين فخفف ياء النسبة، كما قال الأشعرين في الأشعريين، وهذا حسن منهم، صحيحُ القياس، ما لم يعرف حقيقة اسم هذا الموضع، فأما إذا عرفت فلا افتقار بنا إلى هذا التكلف " انتهى باختصار وتقدم ذكر هذه المعلقة مع ترجمة ناظمها في الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائة: (من الكامل) 129 - لَعِبَ الرِّيَاحُ بِهَا وغَيَّرَهَا * بَعْدِي سَوَافِي الْمُورِ وَالْقَطْرِ
على أن تحريك الراء بالكَسْر لأجل حرف الإطلاق وهو الياء (2) ، وليس بشاذ اتفاقاً، مع أن حقه السكون في غير الشعر
__________
(1) الزيادة من ياقوت (2) هذا الذى أثبتناه هو الموافق لروى القصيدة التى منها هذا البيت، ووقع في الاصول " على أن تحريك الراء بالضم لاجل حرف الاطلاق وهو الواو " وهو خطأ ظاهر (*)

(4/253)


والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى، وقبله وهو مطلع القصيدة لِمَنِ الدِّيَارُ بِقُنَّةِ الْحَجْرِ * أقْوَيْنَ مِنْ حِجَجٍ وَمِنْ شَهْرِ وهذا الاستفهام تعجب من شدة خرابها حتى كأنها لا تعرف ولا يعرف سكانها، وقنة الشئ - بضم القاف وتشديد النون -: أعلاه، وحَجْر - بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم -: قصبة اليمامة، وأل فيه زائدة لضرورة الشعر، وقيل: العَلَم إنما هو الْحَجْرِ بأل، وأقوين: أقفرن، يقال: أقوت الدار إذا خلت من سكانها، والحِجَجُ - بكسر الحاء المهملة وَفتح الجيم الأولى -: جمع حِجَّة - بالكسر أيضاً - وهي السنة، وأراد بالشهر الشهور فوضع الواحد موضع الجمع اكتفاء به، والسوافي: جمع سافية اسم فاعل من سفت الريح التراب سفياً، إذا ذرته والمورُ - بضم الميم -: الغبار بالريح، والقطر: المطر قال أبو عبيد: " ليس للقطر سواف، ولكنه أشركه في الجر " أقول: ليس هذا من الجر على الجوار، لأنه لا يكون في النسق، ووجهه أن الرياح السوافي تذري التراب من الأرض وتنزل المطر من السحاب وقد شرحنا هذين البيتين شرحاً وافياً في الشاهد الرابع والسبعين بعد السبعمائة من شواهد شرح الكافية
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثلاثون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الرجز) 130 - لَقَدْ خشيت أن أرى جدبا * في عامنا ذا بَعْدَ مَا أخْصَبَّا إنَّ الدَّبَا فَوْقَ الْمُتُونِ دبا * وهبت الريح بمور هبا تترك ما أبْقَى الدَّبَا سَبْسَبَّا * كَأَنَّهُ السَّيْلُ إذَا اسْلَحَبَّا أو الْحَرِيقُ وَافَقَ الْقَصَبَّا * وَالتِّبْنَ وَالْحَلْفَاءَ فَالْتَهَبَّا

(4/254)


على أن تحريك المضعف للوقف كثير، وليس ضرورة عند سيبويه تقدم قبله أن هذا النقل خلاف نصه، وهو في هذا تابع لقول المفصل: " وقد يُجْرَى الوصل مجرى الوقف، منه قوله: * مثل الحريف وَافَقَ الْقَصَبَّا * ولا يختص بحال الضرورة، يقولون: ثَلَثَهَرْبعة، وفي التنزيل (لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي) " انتهى وقد رد عليه الأندلسي في شرحه قال: " جمع في هذا الفصل بين ما لا يجوز إلا في الضرورة وبين ما يجوز في غيرها، فقوله " ولا يختص هذا بحال الضرورة " ينبغي أن يكون في آخر الفصل حتى يرجع إلى ثلثهر بعة، و (لَكِنَا هُوَ الله رَبِّي) أو يعني به أن التشديد في الوقف لا يختص بالضرورة، فأما أن يعني به أن تحريك المشدد لأجل الوقف يجوز في غير الضرورة فمما لا يعرف، فإنه من المشهور أن من جملة المعدود في الضرورات تشديد المخفف، وأصله الوقف، ثم للشاعر أن يجري الوصل محرى الوقف، بل غير سيبويه لا يجيز التشديد في المنصوب إلا في الشعر، فكيف لا يختص هذا بالضرورة " انتهى.
ونقله ابن المستوفي وسلمه، قال: " إنما أراد الزمخشري بقوله " ولا يختص
بالضرورة " ما ذكره من قوله " وقد يجري الوصل مجرى الوقف " ولم يرد أن تحريك المشدد لأجل الوقف جائز، ولهذا علله بثَلَثهَرْبَعَة، و (لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي) ، فلا شبهة في أن هذين الموضعين أُجري فيهما الوصل مُجْرَى الوقف، وهما من كلام فصحاء العرب والوارد في الكتاب العزيز، وأما إسناده البيت لِيُرِيكَ صورة إجراء الوصل مجرى الوقف لا أنه ممن يخفى عليك ذلك " انتهى.
وبالغ ابن يعيش في شرحه فعمم، قال: " قد يُجْرى الوصل مجرى الوقف، وبابه الشعر، ولا يكون في حال الاختيار، من ذلك قولهم: السَبْسَبَّا والْكَلْكَلَّ،

(4/255)


وربما جاء ذلك في غير الشعر تشبيهاً بالشعر، ومن ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم في العدد: ثلثهر بعة، ومنه (لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي) في قراءة ابن عامر بإثبات الألف " هذا كلامه وهو غير جيد، والأولى التفصيل، وحرره ابن عصفور بقوله في كتاب الضرائر: " ومنها تضعيف الآخر في الوصل إجراء له مجرى الوقف، نحو قول ربيعة بن صُبيح (من الرجز) : * تَتْرُكُ ما أبْقَى الدَّبَا سَبْسَبَّا * الأبيات فشدد آخر سَبْسَبَّا والْقَصَبَّا وَالْتَهَبَّا في الوصل ضرورة، وكأنه شدّد وهو ينوي الوقف على الباء نفسها، ثم وصل القافية بالألف فاجتمع له ساكنان فحرك الباء وأبقى التضعيف، لأنه لم يَعْتَدّ بالحركة لكونها عارضة، بل أجرى الوصل مجرى الوقف، ومثل ذلك قول الآخر: بَبَازِلٍ وَجْنَاءَ أوْ عَيْهِلِّ * كَأَنَّ مَهْوَاهَا عَلَى الْكَلْكَلْ يريد أو عيهلِ وعلى الكلكلِ، فشدد " انتهى.
وقال شارح شواهد أبي علي الفارسي: " جلبه شاهداً على أن الشاعر لم
يحدث فيه أكثر من القطع لألف الوصل " (1) وهذه الأبيات الثمانية نسبها الشارح المحقق تبعاً لابن السيرافي وغيره إلى رؤبة، وقد فتشت ديوانه فلم أجدها فيه (2) وقال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب: " توهم ابن السيرافى أن الاراجيز
__________
(1) في الاصول " على أن الشاعر إذا لم يحدث فيه الخ " وكلمة (إذا) لم يظهر لنا وجه إثباتها فحذفناها، والظاهر أن مراد شارح شواهد أبى على بقطع همزة الوصل كلمة أخصبا، وكأنه جعلها من باب احمر ونحوه (2) قد فتشنا ديوان أراجيز رؤبة فوجدنا هذه الاحد عشر بيتا مسطورة في زيادات ديوانه (169) التى عثر عليها ناشره في كتب غير الديوان منسوبة إليه (*)

(4/256)


كلها لرؤبة، لأجل أن رؤبة كان راجزاً، وهذه عامية، وليست الأبيات لرؤبة، بل هي من شوارد الرجز لا يعرف قائلها، والأبيات التي جاء بها مختل أكثرها، والصواب: إنِّي لَأَرْجُو (1) أنْ أَرَى جَدَبَّا * فِي عَامِكُمْ ذَا بَعْدَ مَا أخْصَبَّا إذَا الدَّبَا فَوْقَ الْمُتُونِ دبا * وهبت الريح بمور هبا تترك ما أَبْقَى الدَّبَا سَبْسَبَّا * أوْ كَالْحَرِيقِ وَافَقَ الْقَصَبَّا والتَّبْنَ وَالْحَلْفَاءَ فَالْتَهَبَّا * كَأَنَّهُ السَّيْلُ إذَا اسْلَحَبَّا وتمام الأبيات ولا يتم معنى البيت إلا بها: حَتى تَرَى الْبُوَيْزِلَ الأَزَبَّا * والسَّدَسَ الضُّواضِيَ الْمُحِبَّا مِنْ عَدَمِ الْمَرْعَى قَدِ اجْلَعَبَّا " انتهى.
قلت: بقي بيت آخر لم يورده، وهو:
* تبًّا لأَصْحَابِ الشَّوِيِّ تَبَّا * ونسبها ابن عصفور وابن يَسْعَونَ نقلاً عن الْجَرْمي والسخاوي إلى ربيعة بن صُبيح، وكذا قال شارح أبي علي الفارسي والله أعلم.
وأورد الابيات ابن هشام اللخمس في شرح أبيات الجمل كرواية الشارح، وقال: أخبر أنه إنما خاف الْجَدْب لأجل الجراد الذي هبَّ في متون الأرض، فأكل ما مر عليه، ثم هبت الريح فاقتلعت ما أبقى الدبّا ولم تترك شيئاً من المرعى
__________
(1) المحفوظ - وهو الموافق لما رواه الشارح المحقق ولما في زيادات الديوان - * لقد خشيت أن أرى جدبا * وفيه " في عامنا " وفى " إن الدبا " وفيه " كأنه الحريق " وفيه " الارزبا " وفيه " قد اقرعبا " (*)

(4/257)


ولا غيره، فشبهها بالسيل في حمله ما يمر عليه، أو بالنار إذا وافقت القصب والتبن وَالحلفاء، فإنها تحطم جميعها وقوله بعد " ما أخصبا " ما: مُهَيِّئة عند المبرد، ومَصْدَرِيَّة عند سيبويه " انتهى.
ورواية أبي محمد الأعرابي دعاء على المخاطبين بخلاف الرواية الأولى فإنها إخبار عما وقع، وأرى بصرية، والجَدْب - بفتح الجيم وسكون الدال -: نقيض الخِصْب والرخاء، ومكان جذب أيضاً وجَدِيب: بين الجدوبة، وأرض جَدبة، وأجدب القوم: أصابهم الجدب، وَأجْدَبْتُ أرض كذا: وجَدْتُهَا جدبة، قال السخاوي في سفر السعادة: " وَجَدَبَّا أصله جدْبَا بإسكان الدال، وإنما حركها لالتقاء الساكنين حين شدد الباء، وإنما حركها بالفتح لأنها أقرب الحركات إليه " وقال في موضع آخر: " وشدد الباء في الشعر في الوصل تشبيهاً
بحال الوقف " وقال أبو الفتح: " لا يقال في هذا إنه وقف ولا وصل " وقوله " أخصبا " هو من الخِصب - بالكسر - نقيض الجدب، وأخصبت، ومكان مُخْصب وخَصِيب وأخْصَبَ القوم إذا صاروا إلى الخصب.
قال السخاوي و " أما قوله: أخبا (فإنه) يروى بفتح الهمزة وكسرها، فالفتح على أنه أخْصَبَ يُخْصب إخصاباً، وشدَّد الباء، كما قال: القصَبَّا، ومن رواه بالكسر كان مثل احْمَرّ، إلا أنه قطع همزة الوصل " انتهى.
وكل منهما ضرورة إلا أن تشديد الباء أخف من قطع همزة الوصل، فإنه لحن في غير الشعر، وقول العيني: " جدبا بتشد الباء هو نقيض الْخِصْب، وقوله: أخصبا بتشديد الباء ماض من الخصب " لا يعرف منه هل الدال مفتوحة أم لا ولا يعرف هل حركة الهمزة من أخصبا مفتوحة أم مكسورة.
وقوله " إن الدبا إلخ " يروى بكسر همزة إن وبفتحها، وعلى رواية " إذ الدبا " إذا شرطية وجوابها

(4/258)


تترك، والدّبا - بفتح الدال بعدها موحدة - قال صاحب الصحاح: " هو الجراد قبل أن يطير، الواحدة دَبَاة " والمُتُون: جمع مَتْن، وهو المكان الذي فيه صلابة وارتفاع، ودبّ: تَحَرَّك، من دب على الأرض يدب دبيباً، وكل ماش على الأرض دابة ودبيب، والألف للإطلاق، وتشديد الباء أصلي لا للوقف، وفاعل دب ضمير الدبا، وفيه جناسُ شِبه الاشتقاق، وقوله " بمور " الباء متعلقة بهبَّت، والمور - بضم الميم -: الغبار، والسَّبْسَبُ - كجعفر -: القفر، والمفازة، وتشديد الباء للضرورة، وهو المفعول الثاني لتترك، و " ما " هو المفعول الأول إن كان ترك بمعنى جعل وصير، وإن كان بمعنى خلَّى المتعدي إلى مفعول واحد وهو " ما " الواقعة على النبات، فسبسبٌ حال من " ما " وفاعل تترك ضمير الريح، والمرادُ كَسَبْسَبٍ، على التشبيه، وأراد تترك الريح المكان
الذي أبقى فيه الدبا شيئاً من النبات أجرد لا شئ فيه، لأنها جَفَّفَتْ النبت وحملته من مكان إلى مكان، ورواه بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: * تَتْرُكُ مَا انْتَحَى الدِّبَا سَبْسَبَّا * وقال: المراد انتحاه: أي قصده، فحذف الراجع إلى الموصول، وقوله " كأنه " أي كأن الدبا، واسْلَحَبَّ اسلحباباً بالسين والحاء المهملتين: أي امتد امتداداً، هذا على الرواية المشهورة، وأما على رواية أبي محمد الأعرابي فهو متأخر عن البيتين بعده، ويكون ضمير " كأنه " للحريق: أي كأن صوت التهاب النار في القصب والحلفاء والتبن صوت السيل وجريه، ويكون على روايته قوله " أو كالحريق " معطوفاً على قوله " سَبْسَبَّا "، فيكون الجار والمجرور في محل نصب، وروى السخاوي الأبيات بالرواية المشهورة، وقال: " وأنشده أبو علي " مِثْل الحريق " بدل قوله " أو كالحريق " فيكون منصوباً على الحال من الضمير في اسلحبا: أي اسلحب مثل الحريق، أو على أنه نعت لمصدر محذوف:

(4/259)


أي اسلحبابا مثل اسلحباب الحريق: أي امتد الدبا وانتشر امتداد النار في القصب والتبن والحلفاء " وقال العيني: قوله " مثل الحريق " هكذا هو في رواية سيبويه، وفي رواية أبي على " أو كالحريق ".
أقول: ليس هذا البيت من شواهد سيبويه البتة، وإنما أورد سيبويه البيتين الأولين فقط، والنقل عن أبي علي معكوس، وتشديد الباء من القصبّا والتهبّا ضرورة، والتبن بكسر المثناة وتسكين الموحدة، والحلفاء: نبت في الماء، قال أبو زيد: واحدتها حَلَفة، مثل قصبة وطرفة، وقال الأصمعي حَلِفَة بكسر اللام، وقوله " حتى ترى البويزل إلخ " هو مصغر البازل من بزل البعير بزولاً من باب قعد، إذا فطرَ نابه بدخوله في السنة التاسعة، فهو بازل، يستوي
فيه المذكر والمؤنث، والأزَبّ - بالزاي المعجمة -: وصف من الزبب، وهو طول الشعر وكثرته، وبعير أزَبّ، ولا يكاد يكون الأزب إلاَّ نفوراً، لأنه ينبت على حاجبيه شعيرات، فإذا ضربته الريح نفر، وقال السخاوي: الإرْزَبُّ - بكسر الهمزة وسكون الراء المهملة بعدها زاى - قال الارزب الضخم الشديد، وقوله " والسَّدَسَ الضُّوَاضِيّ إلخ " السَّدسَ - بفتحتين -: السن التي قبل البازل يستوي فيه المذكر والمؤنث، لأن الإناث في الأسنان كلها بالهاء إلا السَّدَس والسديس والبازل، قال صاحب الصحاح، والضُوَاضِي: بضادين معجمتين الأولى مضمومة، وهو الجمل الضخم، كذا في القاموس، والمحب - بفتح الحاء -: المحبوب، واجلعب: بالجيم، في الصحاح: " واجلعب الرجل اجْلِعْبَاباً، إذا اضطجع وامتد وانتصب، واجلعبَّ في السير إذا مضى وجدَّ " انتهى، ورواه السخاوي قد اقْرَعَبَّا: بالقاف والراء والعين المهملتين، وقال: " اقرعب: اجتمع وتقبَّض من الضر، أي الهزل " انتهى: وليست هذه المادة في الصحاح، والجملة حال من البُوَيْزِل والسدُس، والألف للتثنية، وَترى بصرية، الشّوِيّ بفتح الشين

(4/260)


المعجمة وكسر الواو، قال السخاوي: هو الشاء (1) وقال العيني: " تَبًّا: أيْ خسراناً وهلاكاً لأصحاب الشاء، لانها أقل احتمالا للشدة " انتهى.
وفي الصحاح: والشاة من الغنم: تذكر وتؤنث، وأصلها شاهة، وجمعها في القلة شِيَاه بالهاء، وفي الكثرة شاء، وجمع الشاء شَويّ.
وأنشد بعده وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه (من الرجز) 131 - عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ * من عنزي سبني لم أضربه
على أن ضمة الباء منقولة من الهاء إليها للوقف قال سيبويه: " هذا باب الساكن الذي تحركه في الوقف إذا كان بعده هاء المذكر الذي هو علامة الإضمار ليكون أبين لها كما أردت ذلك في الهمزة، وذلك قولك ضَرَبْتُهْ واضْرِبْهْ، وقَدُهْ وَمِنُهْ وَعَنُهْ، سمعنا ذلك من العرب، ألقوا عليه حركة الهاء حيث حركوا لتبيانها، قال زياد الأعجم: عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ * من عنزي سبني لَمْ أضْرِبُهْ وقال أبو النجم: (من الرجز) * فقربن هذا وهذا أزحله " اه * قال الأعلم: " الشاهد فيه نقل حركة الهاء إلى الباء في الأول، وإلى اللام في الثاني ليكون أبين في الوقف، لأن مجيئها ساكنة بعد ساكن أخفى لها، وعَنَزَةُ: قبيلة من ربيعة بن نزار، وهم عَنَزَة بن أسد بن ربيعة، وزياد الأعجم من عبد القيس، وسمي الأعجم للكنة كانت فيه، ومعنى أزْحِلُه أبعده " انتهى
__________
(1) في نسخة الشياه (*)

(4/261)


وهو بالزاي المعجمة والحاء المهملة، يقال: زَحَلَ عن مكانه زحولاً: أي تنحى وتباعد وزحَّلْتُهُ تَزْحيلاً: بَعَّدْتُهُ، و " من عَنَزِيّ " متعلق بعجبت، وما بينهما اعتراض.
وأنشد بعده، وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الرجز) 132 - بالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شَرًّافَا * وَلاَ أُرِيدُ الشر إلا أن تا على أنه يوقف على حرف واحد فيوصل بألف كما هنا، والتقدير وإن شرا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
ولم يورد سيبويه هذا البيت في باب من أبواب الوقف، وإنما أورده في باب إرادة اللفظ بالحرف الواحد من أبواب التسمية، وهذا نصه: (1) " قال الخليل يوماً وسأل أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفضوا بالكاف التي في لكَ، والكاف التي في مَالِكَ، والباء التي في ضَرَبَ؟ فقيل له: تقول: باء، كاف، فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: كَهْ، وبَه، فقلنا: لِمَ ألحقت الهاء؟ فقال: رأيتهم قالوا عِهْ فألحقوا هاء (حتى صيروها يستطاع الكلام بها) ، لأنه لا يلفظ بحرف، فإن وصلت قلت " ك وب فاعلم يا فتى "، كما تقول " ع يا فتى " فهذه طريقة كل حرف كان متحركاً، وقد يجوز أن تكون الألف هنا بمنزلة الهاء، لقربها منها وشَبَهِها بها، فتقول: " با " و " كا " كما تقول: " أنا " وسمعت من العرب من يقول: " ألا تاء، بلى فا " فإنما أرادوا ألاَ تفعل وبَلَى فافعل، ولكنه قطع كما كان قاطعاً بالألف في " أنا "،
__________
(1) انظر (ج 2 ص 61 من كتاب سيبويه) (*)

(4/262)


وشركت الألف الهاء كشركتها في قوله " أنا "، بينوها بالألف كبيانهم بالهاء في هِية وهُنَّة وبَغْلَتيَة، قال الراجز: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شَرّاً فا * وَلاَ أُرِيدُ الشَّرَّ إلاَّ أنْ تَأ يريد إن شرا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء " انتهى كلامه.
قال الأعلم: " الشاهد في لفظه بالفاء " من قوله " فشرٌّ " والتاء من قوله " تشاء " ولما لفظ بهما وفصلهما مما بعدهما ألحقهما الألف للسكت عوضا من الهاء التى يوقف عليها، كما قالوا " أنا " و " حيِّهلا " في الوقف، والمعنى أجزيك بالخير خيراتٍ، وإن كان منك شر كان مني مثله، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فحذف لعلم السامع " انتهى.
وكذا أورده المبرد في الكامل قال: " حدثني أصحابنا عن الأصمعي، وذكره سيبويه في كتابه، ولم يذكر قائله، ولكن الأصمعي قال: كان أخوان متجاوران لا يكلم واحد منهما صاحبه سائر سنته حتى يأتي وقت الرَّعي فيقول أحدهما للاخر " ألا تا " فيقول الاخر " بلى فا " يريد ألا تنهض فيقول الآخر: بلى فانهض، وحكس سيبويه في كتابه * بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شَرّاً فَا * إلخ يريد إن شرا فشر ولا أريد الشر إلا أن تريد " انتهى.
وهذا على رواية الألف الواحدة، وأما الرواية بألف بعد همزة في البيت فقد قال ابن جني في سر الصناعة: " أنشدنا أبو علي: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شرا فأا * ولا أريد الشر إلاَّ أنْ تأا والقول في ذلك أنه يريد " فا " و " تا " ثم زاد على الألف ألفاً أخرى توكيداً كما تشبع الفتحة، فتصير ألفاً كما تقدم، فلما التقت ألفان حَرَّكَ الأولى فانقلبت همزة، وقد أنشدنا أيضاً " فا " و " تا " بألف واحدة " انتهى.

(4/263)


وفيه أمور: أحدها: ظاهر كلام هؤلاء جوازه، وبه صرح الشارح المحقق تبعاً لجماعة منهم الفراء، قال في تفسير سورة (ق) : " ويقال: إن (ق) جبل محيط بالأرض، فإن يكن كذلك فكأنه في موضع رفع: أي هو قاف، والله أعلم، وكان لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء، فلعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كما قال الشاعر: (من السريع) * قُلْنَا لَهَا قِفِي فقالت فاف * ذكرت القاف وأرادت القاف من الوقف: أي إني واقفة " انتهى.
ومنهم أبو إسحق الزجاج رحمه الله، قال في أول سورة البقرة: " وأختار من
هذه الأقوال التي حكينا في (ألم) بعضَ ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل على الكلمة التي هو منها، قال الشاعر: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ * لاَ تَحْسَبِي أنَا نَسِيناً الإيْجَافْ فنطق بقاف فقط يريد قالت: أقف، وقال الشاعر أيضا: (من السريع) نا دوهم أنْ ألْجِمُوا ألاَ تَا * قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ ألافا تفسيره نادوهم أن ألجموا، ألا تركبون؟ قالوا جميعاً ألا فاركبوا، فإنما نطق بتا وفا كما نطق الاول بقاف، وأنشد بعض أهل اللغة للُقَيْمِ بن أوس: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شَرًّافَا * وَلاَ أُرِيدُ الشَّرَّ إلاَّ أنْ تَا أنشده جميع البصريين هكذا " انتهى.
وتبعه الإمام البيضاوي فقال: " ويجوز أن تكون إشارة إلى كلمات هي منها، اقتَصَرَتْ عليها اقتصار الشاعر في قوله: * قُلْتُ لَهَا قِفِي، فَقَالَتْ: قَافْ * كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه، وعنه أنه " ألر " و " حم " و " ن " مجموعها

(4/264)


الرحمن، وعنه أن " ألم " معناه أنا الله أعلم، ونحو ذلك في سائر الفواتح، وعنه أن الألف من الله، واللام من جبريل والميم من محمد: أي القرآن منزل من الله عزّ وجلّ بلسان جبريل على محمد صلى الله تعالى عليهما وسلم " انتهى.
ومنهم ابن جني قاله في باب (شجاعة العربية) (1) من الخصائص، وقال أيضاً في المحتَسب عند توجيه قراءة (يَا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبَاد) من سورة يس: " قرأ جماعة (يَا حَسْرَهْ) بالهاء ساكنة، وفيه نظر، لأن قوله (عَلَى الْعِبَاد) متعلقة بها أو صفة لها، وكلاهما لا يحسن الوقوف عليها دونه، ووجهه عندي أن العرب إذا
أخبرت عن الشئ غير معتمد ولا معتزمةٍ عليه أسرعت فيه، ولم تتأن على اللفظ المعبر به عنه، وذلك كقوله: * قُلْنَا لها قفى، فقالت: قاف * معناه وقفت، فاقتصر من جملة الكلمة على حرف منها تهاونا بالحال وتثاقلا عن الاجابة واعتماد المقال ... إلى آخر ما ذكره ".
وذهب جماعة إلى أن هذا ضرورة لا يجوز في فصيح الكلام، قال المبرد بعد ما نقلناه عنه: " وهذا ما تستعمله الحكماء، فانه يقال: إن اللسان إذا كثرت حركته رقت عذبته (2) ... إلى آخر ما ذكره " ومنهم أبو الحسن الاخفش، قال فيما كتبه على نوادر أبي زيد: " وهذا الحذف كالايماء والاشارة، يقع من بعض العرب لفهم بعض عن بعض ما يريد، وليس هذا هو البيان، لان البيان ما لم يكن محذوفا وكان مستوفى شائعا، حدثنا أبو العباس المبرد قال: حدثنا أصحابنا عن الاصمعي قال: كان أخوان من العرب يجتمعان في موضع لا يكلم أحدهما الاخر إلا في وقت النجعة (3) ، فإنه يقول
__________
(1) كذا، وانظر الخصائص (1: 299) (2) عذبة اللسان طرفه الدقيق، يريد درب على الكلام ومرن عليه (3) النجعة - بالضم -: طلب الكلا من مواضعه، ويتجوز به في غير ذلك (*)

(4/265)


لاخيه " ألا تا " فيقول الاخر " بلى فا " يريد ألا ترحل وألا تنتجع؟ فيقول الاخر: بلى فارحل، بلى فانتجع، وأما ما رواه أبو زيد * إلا أن تأا * فإن هذا من أقبح الضرورات، وذلك أنه لما اضطر حرك ألف الاطلاق، فخرجت عن حروف المد واللين فصارت همزة " انتهى.
ومنهم المرزبانى، قال في كتاب الموشح: " زعم أبو عبيدة أن حكيم بن
معية التميمي قال: (من الرجز) قد وعدتني أم عمرو أن تا * تدهن رأسي (1) وتفليني وا * وَتَمْسَحَ الْقَنْفَاءَ حتى تَنْتا (2) * وقال آخر: * بالخير خيرات وإن شرافا * إلخ يريد فشر، أو يريد إلا أن تريد، قال: فسألت عن ذلك الأصمعي، فقال: هذا لى بصحيح في كلامهم، وإنما يتكلمون به أحياناً، قال: وكان رجلان من العرب أخوان ربما مكثا عامة يومهما لا يتكلمان، قال: ثم يقول أحدهما " ألاتا " يريد ألا تفعل، فيقول صاحبه " بلى فا " يريد فافعل، وليس هذا بكلام مستعمل في كلامهم " انتهى.
ومنهم ابن عصفور، قال في كتاب الضرائر: " ومنه قول الآخر: نَادُوهُمْ أنْ ألْجِمُوا ألاَتَا * قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ ألاَفا يريد قالوا: ألا تركبون، ألاَ فاركبوا، فحذف الجملة التى هي اركبوا،
__________
(1) في اللسان " تمسح رأسي " (2) القنفاء: فيشلة الذكر، وقوله " تنتا " ليس بعض كلمة كسابقه ولكن (تنتأ) فخفف الهمزة بقلبها ألفا، وقد ضبطت في موشح المرزبانى بكسر التاء الاولى، وهو خطا، ومعنى " تنتأ " ترتفع وتنتفخ (*)

(4/266)


واكتفى بحرف العطف وهو الفاء، ولولا الضرورة لم يجز ذلك، وكذلك أيضاً اكتفاؤه بالتاء من " تركبون "، وحذف سائر الجملة إنما ساغ للضرورة، ومثل ذلك قول الآخر: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شَرّاً فأا * ولا أريد الشر دلا أنْ تَأا
أراد فأصابك الشر، فاكتفى بالفاء والهمزة وحذف ما بعدهما وأطلق الهمزة بالألف، وأراد بقوله " إلا أنْ تأا " إلا أن تأبى الخير، فاكتفى بالتاء والهمزة وحذف ما بعدهما وحرك الهمزة بالفتح وأطلقها بالالف، ونحو من ذلك قول الآخر: * قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ * يريد قد وقفتُ، فاكتفت بالقاف، ومثل ذلك أيضاً - إلا أن الدليل على المحذوف متأخر عنه - قوله: قَدْ وَعَدَتْنِي أُمُّ عمرو أن تا * تدهن رأسي وتلفيني وَا * وَتَمْسَحَ الْقَنْفَاءَ حَتَّى تَنْتَا * ألا ترى أنه حذف ما بعد التاء والواو من غير أن يتقدم له دليل على ذلك المحذوف، ثم أعادها مع ما كان قد حذفه ليبين المعنى الذي أراده قبل " انتهى.
والرجز الذي أنشده ابن عصفور مختصر، رواه بتمامه أبو علي بن المستنير المعروف بقطرب في كتاب الرد على أهل الإلحاد في آي القرآن، قال: " قال غيلان: نَادَوْهُمُ أنْ ألْجِمُوا ألاتَا * ثُمَّ تَنَادُوا بَعْدَ تِلْكَ الضَّوْضَا * مِنْهُمْ بِهَابٍ وَهَلٍ وَبَابَا * وأنشد قطرب قبله: (من الرجز) مَا للظليم عال (1) كيف لا يا * يَنْقَدُّ عَنْهُ جِلْدَه إذَا يَا
__________
(1) في الاصول " عال " - بالعين المهملة - والمعنى يحتمل أن يكون من قولهم: عال عولا، بمعنى زاد، والمراد أنه زاد في جريه، فكأنه متعجبا: أي شئ ثبت (*)

(4/267)


* أهْبَى (1) الترابُ فَوْقَهُ إهْبَايَا * قال يا ثم ابتدأ كلامه " انتهى.
الأمر الثاني (2) أن الرجز الذي أنشده الشارح وسيبويه إنما هو " فأا "
و" تأا " بهمزة بعدها ألف، كما أنشده أبو زيد في نوادره، قال فيها: " قال لُقَيْم ابن أوس من بني أبي ربيعة بن مالك: إنْ شِئْتِ أشْرَفْنَا كِلاَنَا فَدَعَا * الله جَهْداً (3) رَبَّهُ فَأَسْمَعَا بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شرا فأا * ولا أريد الشرَّ إلاَّ أنْ تَأا أجاب بها امرأته إذ تقول له: قَطَّعَكَ الله الكَرِيمُ (4) قِطَعاً * فَوْقَ الثُّمَامِ قِصَداً مُرَصَّعا (5) تَاللهِ مَا عَدَّيْتَ إلاَّ رُبَعاً * جَمَّعْتُ فيهِ مَهْرَ بِنْتِي أجْمَعَا وقوله " إن شرا فأا " أراد فالشر، فأقام الألف مقام القافية، وقوله " إلا أن تأا " إلا أن تشائي ذلك، وقولها: " ما عديتَ إلا رُبعاً " ما سقت وصرفت إلينا إلا ربعاً من مهر ابنتي " انتهى كلام أبي زيد، وكذا أسنده ابن عصفور في
__________
(1) للظليم، وقد جرى حتى لا ينشق عنه جلده إذا يجرى جريا يثير التراب فوقه إثارة؟ و " يجرى " في كلامنا هو الذى اقتطع منه " يا " في قوله " إذا يا " (1) تقول: أهبى الفرس التراب، إذا أثاره بحوافره (2) هذا هو الامر الثاني من الامور التى ذكر الاول منها قبل ذلك بمرحلة طويلة، فانظر (ص 263) (3) في نسخة " جهرا " بالراء، ولها وجه وما أثبتناه عن نوادر أبى زيد (ص 126) وعن نسخة أخرى في النوادر " المليك " (5) كذا في نسخة من الاصول، وهى التى سيشرح عليها المؤلف، وفى أخرى " موضعا " وهى التى توافق ما في كتاب النوادر (ص 126) (*)

(4/268)


كتاب الضرائر، وأبو حيان في الارتشاف، قال فيه: " وقد يوقف على حرف
واحد كحرف المضارعة يليه ألف نحو قوله: جَارِيَةٌ قَدْ وعَدَتْنِي أنْ تَا * تَدْهَنَ رَأْسِي وَتُفَلِّينِي وَا * وَتَمْسَحَ القَنْفَاءَ حَتَّى تَنْتَا * أو يؤتى بهمزة بعد لحرف بعدها ألف، نحو قوله: بِالْخَيْرِ خَيْرَاتٍ وَإنْ شرا فأا * ولا أريد الشر إلا أن تَأا يريد فشرّاً وإلا أن تشاء " انتهى.
فلا يستقيم على هذا إلا أن يهمز فأا وتأا لتكون الهمزة بإزاء العين في " دَعَا " و " أسْمَعَا " قال السيرافي: " وكذا أنشد هذا الشعر، وأراد فأفعل، فحذف وأطلق الهمزة بالألف لأنها مفتوحة، وقال أبو زيد أراد فالشرَّ إن أردْتَ إلخ، والذي ذكرته (1) آثر في نفسي، لأن فيه همزة مفتوحة، والذي ذكره أبو زيد ليس فيه همزة إلا أن تقطع ألف الوصل من الشر، وفيه قبح، وقول أبي زيد في " إلاَّ أنْ تأا " إنه أراد تشائي: يعني أنه حذف الشين والألف واكتفى بالتاء والهمزة وأطلقها للقافية، والهمزة مكسورة من تشَائِي لأن الخطاب لمؤنث، والهمزة من تأا مفتوحة، وأحب إليّ من قول (1) ما قاله إلا أن تأبَى الخير " انتهى.
وتقدير ابن عصفور فأصابك الشر مثل تقدير فأفعل، وعلى هذا التدقيق يضمحل قولهم: قد يوقف على حرف فيوصل بهمزة تليها ألف، وأصل الهمزة ألف قلبت همزة، لأنه يكون إنما وقعت على حرفين من الكلمة مع ألف الإطلاق، وفي جعل الهمزة كالعين في " دَعَا " و " أسْمَعَا " عيب من عيوب القافية، وهو الإكفاء، (2) وسهله قرب مخرج العين والهمزة، وتقدير المبرد في الكامل وتبعه بعضهم
__________
(1) في الاصول " والذى ذكره أثر " وفيها " وأحب إلى من قوله ما قاله " وهو عندنا تحريف صوابه ما ذكرناه (2) الاكفاء: اختلاف الروى بحروف متقاربة المخارج (*)

(4/269)


خطأ، لأن الأصل في هذا الباب إذا لفظ بالحرف أن يترك على حركته ويزاد عليه في الوقف هاء السكت أو ألف الوصل، كما أجاز سيبويه أن يوقف بالألف في المفتوحة عوضاً من الهاء، والتاء من " تريد " مضمومة فكان يلزم إبقاء ضمتها، ولا يصح ذلك في الشعر، إلا أن تقول: إنه فتحها من أجل ألف الإطلاق بعدها، فيحتاج إلى تعليل آخر.
الأمر الثالث أن هذا الشعر خطاب لامرأة، فيجب أن يكون المقدَّر مؤنثاً كما قدره أبو زيد، وتقديره مذكراً غفلة عن سياق الشعر وأصله.
وقوله " إن شِئْتِ أشرفنا إلخ " بكسر التاء من شئت خطاب لامرأته، وأشرفنا: أي عَلَوْنا شَرَفاً - بفتحتين - وهو المكان العالي، وكلانا: تأكيد ل " نَا " وكلا: مفرد اللفظ مثنى المعنى، ويجوز مراعاة كل منهما، ولهذا أعاد الضمير من دَعَا إليها مفرداً: أي دعا كل منا، ولو أعاد الضمير باعتبار معناه لقال دَعَوَا وقطع همزة الوصل لضرورة الشعر، ورَبَّهُ: بدل منه، وجَهْداً: منصوب مفعول مطلق بتقدير مضاف: أي دعاء جهد، أو حال بتقدير جاهداً، والجهد - بالفتح -: الوُسْع والطاقة، و " أسْمَعَا " من أسْمَعت زيداً: أي أبلغته، فهو سميع، والدعاء يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه، وإلى ثان بحرف جر، يقال: دعوت الله أن يفعل كذا: أي يفعل كذا، ودعوت الله: أي ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده، والتقدير هنا أن يجْزِي أحدَنا بمقابلة الخير خيراتٍ، وإن كان فعله شرّاً فأصابه بشر، ولا أريد لكِ الشر إلا أن تأبى الخير ومن هنا تعرف أن تقدير ابن عصفور هو الجيد، لا تقدير السيرافي، وأن شرح الأعلم من قبيل الرجم بالظنون وقوله " قطَّعك الله الكريم قِطَعاً ".
هو دعاء عليه، والقِطَع: جمع قِطْعَة،
والثمام - بالثاء المثلثة -: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص، والْقِصَد: جمع قصدة، وهى القطعة من الشئ إذا انكسر، كَكِسَر جمع كِسْرَة،

(4/270)


وَالْمُرَصعُ - بفتح الصاد المهملة المشددة -: الْمُلْقَى وَالْمُطَّرح، والرُّبَع - بضم وفتح الموحدة - هو الفصيل يُنتج في الربيع في أول النتاج والأنثى رُبَعَة ولقيم بن أوس: شاعر إسلامي وأما الشعر الآخر * قُلْتُ لَهَا قِفِي: فقالت قَافْ * فهو أول رجز لِلْوَلِيد بن عقبة بن أبي معيط، أورد بقيته أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني في ترجمته، قال: " لما شُهد على الوليد بن عقبة عند عثمان ابن عفان - رضي الله عنه ربه الملك المنَّان - بِشُرْبِ الخمر وكتب إليه يأمره بالشخوص فخرج وخرج معه قوم فيهم عدي بن حاتم رضي الله عنه، فنزل الوليد يوماً يَسُوق بهم، فقال يرتجز: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ * لاَ تَحْسَبِينَا قَدْ نَسِينَا الإيجَافْ وَالنَّشَوَاتِ مِنْ مُعْتَّقٍ صَافْ (1) * وَعَزْفَ قَيْنَاتٍ عَلَيْنَا عُزَافْ فقال له عدي: إلى أين تذهب بنا؟ أقم وقد تخيل في العصام كعادته في حاشيته القاضي شيئاً حتى أخرجه عن موضع الاستشهاد، قال: " ويمكن أن يكون أمْراً من قَافَاهُ بمعنى قَفَاه: أي تبعه فإن فَاعَلَ يجئ بمعنى فَعَلَ، نحو سافر، ويناسب كل المناسبة بما قبله وبما بعده، فيقول: قلت لها قِفِي حتى تستريحي من نَصَب السفر والسير، فقالت قاف: أي قافِني واتبعني ولا تصاحبني في السير، فإنكم قد فَتَرْتَ وحصل لك الكَلاَل، فقلت: لا تحسبينا ... الخ، بل كان المقصود استراحتك " هذا كلامه.
وفيه أن فَاعَلَ بمعنى فَعَلَ سماعي، كما نصوا عليه في علم الصرف،
__________
(1) في الاغانى (5: 131 طبع دار) * والنشوات من عتيق أوصاف * (*)

(4/271)


والإيجاف: متعدي وَجَف الفرسُ والبعير وَجيفاً، إذا عدا، وأوجفته، إذا أعْدَيته، وهو العنف في السير، وقولهم " ما حصل بإيجاف " أي: بإعمال الخيل والرِّكاب في تحصيله بالسير، ورجل نَشْوَان مثل سَكْرَان، و " من مُعَتَّق " أي: من خمر مُعَتَّق، والْعَزْف - بالعين المهملة والزاي المعجمة -: مصدر من عَزَف عَزْفاً من باب ضرب، وإذا لعب بالمَعَازف، وهي آلات يضرب بها، الواحد عَزْف كفَلْس على غير قياس، والمعزف - بكسر الميم -: نوع من الطنابير (1) يتخذه أهل اليمن، وقيل: إنه العود، وقال الجوهري: المعازف الملاهي، والْقَيْنَة - بفتح القاف -: الأمَة البيضاء، مغنيةً كانت أو غيرها وقيل: تختص بالمغنية، وعُزَّاف - بالضم -: جمع عازفة، وروي أيضاً: * وَعَزْفَ قَيْنَاتٍ لَنَا بِمِعْزَافْ * وأصله مِعْزَفٌ، فتولدت الألف من إشباع الفتحة.
والوليد بن عقبة: هو أخو عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمِّه، وكان فاسقاً، وولي لعثمان رضي الله عنه الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فشرب الخمر، وشُهد عليه بذلك، فَحَدَّه وعزله.
وأما الشعر الثالث، وهو: * قَد وعدتني أم عمرو وأن تَا * إلخ فقد رواه ابن الأعرابي في نوادره كذا: * جَارِيَةٌ قَد وَعَدَتْنِي أنْ تَا * إلخ
والْقَنْفَاء: بفتح القاف وسكون النون بعدها فاء، قال الليث: الأذن القنفاء أذن المعزى إذا كانت غليضة كأنها نعل مخصوفة، ومن الإنسان إذا كانت لا أُطرَ لها، والكمرة القنفاء: أي رأس الذكر.
__________
(1) وقع في الاصول محرفا " نوع من الضنابير " (*)

(4/272)


وكان لهمام بن مرة ثلاث بنات آلى أن لا يزوجهن أبداً، فلما طالت بهن العزوبة قالت إحداهن بيتاً وأسمعته كأنها لا تعلم أنه يسمع ذلك، فقالت: أهَمَّامُ بْنَ مُرَّةَ إنَّ هَمِّي * لَفِي اللاَّئِي يَكُونُ مَعَ الرِّجَالِ فأعطاها سَيْفاً، وقال: السيف يكون مع الرجال، فقالت لها التي تليها: ما صنعت شيئا! ولكني أقول: أهمام بن مُرَّةَ إنَّ هَمِّي * لَفِي قَنْفَاءَ مُشْرِفَةِ الْقَذَالِ فقال: وما قَنْفاء؟ تريدين مِعْزًى؟ فقالت الصغرى: ما صنعت شيئا! ولكني أقول: أهمام بْنَ مُرَّةَ إنَّ هَمِّي * لَفِي عود أسَد بِهِ مَبَالِي فقال: أخزاكن الله! ! وزوجهن.
وأنشد غير الليث: وَأُمَّ مَثوَايَ تُدَرِّي لِمَّتِي * وَتَغْمِزُ الَقْنفَاءَ ذَاتَ الْفَرْوَةِ و " تَنْتَا " مضارع نتا نُتُوًّا، وفي المثل " تُحًقِّرُهُ ويَنْتا " أي: يرتفع، وكل شئ يرتفع فهو ناتٍ، وهو مهموز، وقد سَهَّل الشاعر همزة هنا ألفا، يريد ثمن ذكره فينعط.
وهذا الشعر لحُكَيم بن مُعَيَّة التميمي، كما قال المرزُباني، وحكيم بالتصغير، ومُعَية: تصغير معاوية، وهو راجز إسلامي قد ترجمناه في الشاهد الرابع والأربعين
بعد الثلاثمائة، من شواهد شرح الكافية.
وأما الشعر الرابع، وهو * نَادَوْهُمُ ألاَ ألْجِمُوا ألاَتَا * إلخ فقد رواه أبو علي القالي في كتاب المقصور والممدود، كذا: " قال الراجز: ثُمَّ تَنَادَوْا بَعْدَ تِلْكَ الضَّوْضَا * منهم بهاب وبهل ويايا نَادَاهُمْ ألاَ ألْجِمُوا ألاَتَا * قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُم ألاَفَا

(4/273)


والضوضا يمد ويقصر، قال الفراء: الضوضاء ممدود جمع ضوضاة " انتهى وفي الصحاح الضَّوْضَاة أصوات الناس.
وجلبتهم، يقال: ضَوْضَوَ بلا همز وضَوْضَيْت " انتهى، ولم يذكر لا ممدوداً ولا مقصوراً وهاب: زجر للإبل، وَهَل: بمعنى هَلاً، وهي كلمة استعجال وحث، ويايا هي يا حرف الندا كررت للتأكيد وهذا الرجز لم أقف على قائله، والله أعلم وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائة: (من الرجز) 133 - لمَّا رَأَى أن لا دعه ولا شبع * مال إلى أرطاة حقف فالطجع على أن تاء التأنيث في دعه هاء في الوصل، لأنه أجراه مجرى الوقف لضرورة الشعر، وظاهر كلام الفراء أنه غير ضرورة، قال في تفسير قوله تعالى (أرجه وأخاه) " جاء في التفسير احبسهما عندك ولا تقتلهما، والإرجاء: تأخير الامر، وقد جزم الهاء حمزة والأعمش، وهي لغة للعرب، يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها، أنشدني بعضهم: (من الرجز) أنْحَى عَلَيَّ الدَّهْرُ رِجْلاً وَيَدَا (1) * يُقْسِمُ لاَ يُصْلِحُ إلا أفْسَدَا فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهْ غدا
__________
(1) هذه الابيات لدويد بن زيد بن نهد أحد المعمرين، وهى في " الشعراء " لابن قتيبة (ص 36) وأمالى المرتضى (ح 1 ص 172) .
ووقع فيهما ألقى على الدهر رجلا ويدا * والدهر ما أصلح يوما فسدا والبيت الثالث في الشعراء: * يصلحه اليوم ويفسده غدا * وفى أمالى المرتضى: يصلح ما أفسده اليوم غدا (*)

(4/274)


وكذلكك يفعلون بهاء التأنيث، فيقولون: هذه طَلْحَهْ قد أقبلت بالجزم، أنشدني بعضهم: * لَمَّا رَأَى أنْ لاَدَعَهْ وَلاَ شَبِعْ * انتهى وقد أورده الزمخشري في المفصل على أن اللام أبدلت من الضاد في " فالطجع " وأصله فاضطجع، وكذلك أورده المراديّ وابن هشام في شرح الألفية، قال ابن جني في سر الصناعة: " وأما قول الراجز: فالطجع فأبدل الضاد لاماً وهو شاذ، وقد روي فاضْطَجَعَ، وروي أيضاً فاطجَّع، وَيروى أيضاً فاضَّجَع " انتهى.
وهذا البيت قبله يَا رُبَّ أبَّازٍ مِنَ الْعَفرِ صَدَعْ * تَقَّبَّضَ الذِّئْبُ إلَيْهِ وَاجْتَمَعْ وقد أنشدهما ابن السكيت في باب فَعَل وفعَّل من إصلاح المنطق، و " يا " حرف التنبيه، ورب لإنشاء التكثير، وأباز - بتشديد الموحدة وآخره زاي معجمة - قال صاحب الصحاح: أبز الظبى يأبز (من باب ضرب) : (1) أي قفز في عدوه فهو أباز، وأنشد هذا البيت، وصحفه بعض أفاضل العجم بالإبَّان، فقال في شرح أبيات المفصل: " يا رُبَّ المنادى محذوف يريد يا قوم، والإبَّان: الوقت،
والعُفر: جمع أعفر، وهو الأبيض الذي ليس بشديد البياض، وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة، والصَّدَع: الوَعِل، تقبض إليه: تزوى إليه وانضم، " صَدَعٌ " مبتدأ ومن العفر بيان له، وبهذا صح وقوعه مبتدأ، وتقبض خبره، والجملة صفة إبان والعائد محذوف: أي تقبض فيه " هذا كلامه وهو خبط عشواء، فإن قوله من العُفْرِ صفة لمجرور رُب، وصَدَعٌ صفة ثانية، وتقبض جواب رُب، قال صاحب الصحاح تبعاً لابن السكيت: " ورجل
__________
(1) ولا شاهد فيه فوق أن معناه غير مستقيم مع ما قبله ووقع في الاصول " انحوا على " وهو تحريف (1) هذه الجملة ثابتة في الاصول التى بأيدينا، وبالرجوع الى الصحاح لم نجدها فيه (*)

(4/275)


صَدعٌ بالتسكين، وقد يحرك، وهو الخفيف اللحم، وأما الوعِلُ فلا يقال فيه إلا بالتحريك، وهو الوسط منها، ليس بالعظيم ولا بالصغير، ولكنه وعِل بين وَعِلين، وكذلك هو من الظباء والْحُمُرِ، قال الراجز * يَا رُبَّ أبَّازٍ مِنَ الْوَعْلِ صَدَعْ * " انتهى وتقبض: جمع قوائمه ليثب على الظبي، وقوله " لما رأى إلخ " رأى هنا عِلْمية: وفاعله ضمير الذئب وأن مخففة من الثقيلة: واسمها ضمير الشأن، ولا نافية للجنس، وخبرها محذوف: أي له، والجملة خبر أن المخففة، وَالدّعَة: الراحة والسكون، قال الجوهري: " والدعة: الخفض، والهاء عوض من الواو، تقول منه: وَدُع الرجل - بالضم - فهو وديع: أي ساكن، وَوَادِع أيضاً " وَالشَّبع - بكسر الشين وفتح الموحدة - نقى الجوع، وأما الشِّبع - مع تسكين الموحدة - فهو ما أشبعك من شئ ".
قال صاحب الصحاح: " الأرطي: شجر من شجر الرمل والواحدة أرطأة، قال الراجز:
مَالَ إلَى أرْطَأَةِ حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ " انتهى والحقف - بكسر الحاء وسكون القاف -: التل المعوج من الرمل، واضطجع: وضع جنبه بالأرض، يقول: لما رأى الذئب أنه لا يشبع من الظبي ولا يدركه وقد تعب في طلبه إلى الأرطأة فاضطجع عندها، ونسب ياقوت هذه الأبيات الأربعة فيما كتبه على هامش الصحاح إلى منظور بن حبة الأسدي، وكذلك نسبها العيني، ولم يتعرض لها ابن بري ولا الصفدي في المواضع الثلاثة من الصحاح.
المقصور أنشد فيه وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائة: (من البسيط)

(4/276)


134 - في ليلة من جمادى ذات أندية * لا يبصر الكلب في ظَلْمَائِهَا الطُّنُبَا على أنه شذ (جمع) (1) ندًى على أندية كما في البيت، قال ابن جني في إعراب الحماسة: " اختلف في أندية هذه، فقال أبو الحسن: كسرندى على نِداء كجبل وجبال، ثم كسِر نِدَاء على أندية كرداء وأردية، وقال محمد بن يزيد هو جمع نَدِيّ كقول سَلاَمَة بن جندل: (من البسيط) يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ * وَيَوْمُ سَيرٍ إلى الاعداء تأويب وذهب غيرهما إلى أنه كسر فَعَلاً على أفْعُلَ كزمن وأزمن، وجَبَلٍ وأجْبُلٍ فصار أنْدٍ كأيْدٍ، ثم أنِّثَ أفْعُلَ هذه بالتاء، فصارت أندية كما أنث فِحَالَةٌ، وذكورةٌ، وبُعُولَةٌ، وأندية على هذا أفْعُلة - بالضم - لا أفعِلة - بالكسر - وذهب آخرون إلى أنه كسر فَعَلا على أفْعِلة: وركب به مذهب الشذوذ، وهذا وإن كان شاذاً فإن له عندي وجهاً من القياس صالحاً، ونظيراً من السماع مؤنساً: أما السماع
فقولهم في تكسير قفا ورحى: أقفية وأرحية، حكاهما الفراء وابن السكيت فيما علمت الآن، وأما وجه قياس الجمع فهو أن العرب قد تُجري الفتحة مجرى الألف، ألا تراهم لم يقولوا الإضافة إلى جَمَزَى وبَشَكَى (إلاَّ جَمَزِيّ، وَبَشَكِيّ) (2) كما لا يقولون في حُبَارى، إلا حباريّ، ومشابهة الحركة للحرف أكثر ما يذهب إليه، فكأن فَعَلاً على هذا فَعَالٌ، وفَعَالٌ مما يكسر على أفعلة نحو غزال وأغزلة وشراب وأشربة، وكذلك كسَّر نَدًى ورحىً وقفاً على أندية وأرحية وأقفية، وكما شبهت الحركة بالحرف فكذلك شبه الحرف بالحركة، فقالوا حياء وأحياء، وعزاء وأعزاء، وعراء وأعراء ومن الصحيح جواد وأجواد، فكأن كل واحد من هذه الاحاد فعل (3)
__________
(1) هذه زيادة يقتضيها المقام (2) سقطت هذه من نسخ الاصل وكأن الناسخ حسبهما تكرارا.
(3) في الاصل فعال، وليس له وجه.
(*)

(4/277)


عندهم، وأجود تكسير ندَىً أنداءٌ، كما قال الشماخ: (من الطويل) إذا سقط الانداء صيغت وَأُشْعِرَتْ * حَبِيراً وَلَمْ تُدْرَجْ عَلَيْهَا الْمَعَاوِزُ (1) وقد تقصَّيْتُ هذا الموضع في كتاب سر الصناعة " انتهى كلامه.
أقول: ذكره في فصل الواو من ذلك الكتاب.
وقال السهيلي في الروض الأنف: " أندية، جَمَعَ نَدىً على نِدَاء مثل جمَلَ وجِمَال، ثم جمع الجمع على أفْعِلَةٍ، وهذا بعيد في القياس، لأن الجمع الكثير لا يجمع وفِعَال من أبنية الجمع الكثير، وقد قيل: إنه جمع نديّ، وَالندِيّ: المجلس، وهذا لا يشبه معنى البيت، ولكنه جاء على مثال أفْعِلَة، لأنه في معنى الأهوية والأشتية ونحو ذلك، وأقرب من ذلك أنه في معنى الرذاذ والرشاش، وهما يجمعان على أفعله " انتهى.
وقريب منه قول الخُوَارِزمي: " ندًى وإن كان في نفسه فَعَلاً لكنه بالنظر إلى ما يقابله - وهو الجفاف - فَعَالٌ، فمن ثم كسروه على أفعلة " وقول السهيلي " لا يشبه معنى البيت " قد يمنع، ويكون معناه في ليلة من ليالي الشتاء ذات مجالس يجلس فيها الأشراف والأغنياء لإطعام الفقراء، فإنهم كانوا إذا اشتد الزمان وَفشا القحط، وذلك يكون عند العرب في الشتاء، يجلسون في مجالسهم ويلعبون بالميسر، وينحرون الجزر، ويُفرقونها على الفقراء.
والبيت من قصيدة لِمُرَّة بن مِحْكَان، أوردها أبو تمام في باب الأضياف والمديح من الحماسة، وقبله: أقُولُ وَالضَّيْفُ مَخْشِيٌّ ذَمَامَتُهُ * عَلَى الْكَرِيمِ وَحَقُّ الضَّيْفِ قَد وَجَبَا يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُوْمِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ * ضُمِّي إلَيْكِ رحَالَ الْقَوْمِ وَالقُرُبَا فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذات أندية * لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا
__________
(1) انظر ديوان الشماخ (ص 50) (*)

(4/278)


لاَ يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ واحِدَةٍ * حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خَيْشُومِهِ الذَّنَبَا وَخَيِّرِيهِمْ أنُدْنِيهِمْ إلَى سَعَةٍ * مِنْ سَاحَةِ الدَّارِ أمْ نَبْنِي لَهُمْ قُبَبَا؟ مخشي: اسم مفعول من الخشية، وهي الخوف، وذَمَامَة: نائب الفاعل، وهى بمعنى الذم، وقوله " ياربة البيت " هو مقول القول، وربة البيت: صاحبته، يريد امرأته، و " غير " منصوب على الحال، وصاغرة: من الصغار - بالفتح - وهو الذلة، وضمي: اجمعي، والرحال - بالحاء المهملة -: جمع رحل، وهو كل شئ يعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحِلْس وَرَسَن، والقرُبُ - بضمتين -: جمع قِراب، وقِرَاب السيف - بالكسر -: جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده وحمالته، وقوله " في ليلة " هو متعلق بقومي، وقيل ب " ضُمِّي " لقربه، وقوله
" من جمادى " متعلق بمحذوف صفة لليلة، ومن للتبعيض، وإن كانت للبيان كانت متعلقة بمحذوف حال من ليلة، كقوله تعالى (مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذهب) والشاهد في " مِنْ " الثانية فإن الأولى ابتدائية، واخطأ العينى في قوله: من جمادى صفة لليلة، ومن للبيان.
قال السهيلي: " أراد بجمادى الشهر، وكان هذا الاسم قد وقع على هذا الشهر في زمن جمود الماء، ثم انتقل بالأهلة، وبقي الاسم عليه وإن كان في الصيف والقيظ، وكذلك أكثر (1) هذه الشهور العربية سميت بأسماء مأخوذة من أحوال السنة الشمسية، ثم لزمتها وإن خرجت تلك الأوقات " انتهى.
وينبغي أن يعتبر أصل الوضع، وإلا فلا فائدة في ذكر اسم شهر لا يدل على شدة البر وجمود الماء، والشاعر إسلامى وليس ممن أدرك زمن وضع الشهور، ويجوز أن يلاحَظ في الأعلام أصل وضعها.
قال ابن الأنباري: " أسماء الشهور كلها مذكرة إلا جمادى، فهما مؤنثان
__________
(1) كذا في السهيلي (ج 2 ص 155) ووقع في الاصول " أشهر هذه الشهور " (*)

(4/279)


تقول: مضت جمادى بما، فإن جاء تذكير جمادى في شع فهو ذهاب إلى معنى الشهر، وهي غير مصروفة للتأنيث والعلمية، والأولى والآخرة صفة لها، فإن الآخرة بمعنى المتأخرة، ولا يقال: جمادى الأخرى، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة فيخصل اللبس، ويحكى أن العرب حين وضعت الشهور وافق وضع الأزمنة فاشتق للشهر معان من تلك الأزمنة، ثم كثر حتى استعملوها في الأهلة وإن لم توافق ذلك الزمان، فقالوا: رمضان، لما أرمض الارض من شدة الحر، وشوال، لما شالت الإبل بأذنابها للطروق، وذو القَعدة لما ذللوا القِعدان للركوب، وذو الحِجة لما حجوا، والمحرم، لما حرموا القتال والتجارة،
وصفر لما غزوا فتركوا ديار القوم صِفراً، وشهر ربيع، لما أربعت الأرض وأمرعت، وجمادى، لما جمد الماء، ورجب لما رجبوا الشجر، وشعبان لما أشعبوا العود " وقوله " ذات أندية " بجر ذات بمعنى صاحب صفة لليلة، وأندية جمع نَدًى، وهو أصل المطر، والندى البلل، وبعضهم يقلو ما سقط آخر الليل فهو ندى، وأما الذي يسقط أوله فهو السَّدَى: - بفتح السين المهملة - على وزنه من باب تعب، فهي ندية مثل تقية، ويعدى بالهمزة والتضعيف، وجملة " لا يبصر الحيوانات الكلب إلخ " صفة أخرى لليلة، وخَصَّ الكلب المدجج الذي لا يبين إلاَّ عيناه، والطنب - بضمتين، وسكون النون - لغة، وهو الحبل الذي تشد به الخيمة ونحوها، والجمع أطناب كعُنُق وأعناق، وقول العوام طَنَب - بفتحتين - لا أصل له، و " في " متعلقة يبصر، وروي بدلها " من " وهي بمعْناها وقال العيني: للتعليل، والظلماء هنا بمعنى الظلمة، ويأتي وصفاً أيضاً يقال: ليلة ظلماء والليلة الظلماء، وقوله لا ينبح الكلب إلخ من باب ضرب، وفي لغة من باب نفع، والنُّباح - بالضم -: صوته، والخيشوم الأنف، وإنما يلف ذنبه

(4/280)


على أنفه لشدة البرد فلا يقدر أن ينبح وقوله " وخَيِّرِيهِمْ أنُدْنِيهِمْ " الهمزة للاستفهام، والإدناء التقريب، وروي أيضاً: مَاذَا ترَيْنَ أنُدْنِيهِمْ لأرْحُلِنَا * مِنَ الْبَيْتِ جَانِب أمْ نَبْنِي لَهُمْ قُبَبَا يقال: بنى الخيمة إذا ضربها وأقامها، والقبب: جمع قبة، وهي الخيمة المدورة.
ومرة بن محكان شاعر إسلامي من معاصري الفرزدق وجرير، وهو بضم الميم وتشديد الراء، ومحكان - بفتح الميم وسكون الحاء المهملة - على وزن غضبان: مصدر مَحَكَ يَمْحَك محكاً من باب نفع إذا لج في الأمر فهو محك وماحك، ورجل محكان إذا كان لجوجاً عسر الخلق، ويقال أيضاً: أمحك وامتحك في الغضب:
أي لج، والمماحكة: الملاجة، وضبطه العسكري في كتاب التصحيف بكسر الميم لا غير وهو خلاف ما قالوا والله أعلم.
قال ابن قتيبة في كتاب " الشعراء " مُرَّة بن محكان السعدي هو من سعد بن زيد مناة بن تميم، من بطن يقال لهم: رُبَيْع بالتصغير، وكان مرة سيد بني ربيع، وكان يقال له: أبو الأضياف، وقتله صاحب شرطة مُصْعَب بن الزبير، ولا عقب له، وهو القائل في الأضياف من تلك القصيدة: (من البسيط) وَقُلْتُ لَمَّا غَدَوْا أُوصي قَعِيدَتَنَا * غَذِّي بَنِيكِ فَلَنْ تَلْقَيْهِمُ حِقَبَا أدعى أباهم ولم أقرب بِأٌمِّهِمِ * وَقَدْ عَمِرَتْ وَلَمْ أعْرِفْ لََهُمْ نَسَبَا أنَا ابْنُ مَحْكَان أخوا لى بنو مطر * أنمى إليهم وكانو مَعْشَراً نُجُبَا انتهى.
تتمة: قد وقع المصراع الأول من البيت الشاهد في شعر آخر، قال ابن هشام صاحب السيرة النبوية عند ذكر ما قيل من الشعر يوم أحد: قال بن اسحق

(4/281)


" وكان " مما قيل من الشعر يوم أحد قول هُبَيْرَة بن أبي وهب (من البسيط) مَا بَالُ هَمٍ عَمِيدٍ بَاتَ يَطْرُقُنِي * بِالْوُدِّ هِنْدَ إذْ تَعْدُوا عَوَادِيهَا بَاتَتْ تُعَاتِبُنِي هِنْدٌ وتغذلنى * وَالْحَرْبُ قَدْ شَغَلَتْ عَنِّي مَوَالِيهَا إلى أن قال بعد خمسة عشر بيتاً: وَلَيْلةٍ يَصْطَلِي بِالْفَرْثِ جازِرُهَا * يَخْتَصُّ بالنَّقَرَى الْمُثْرِينَ دَاعِيهَا فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أنْدِيةٍ * جَرْبَاً جُمَادِيَّةٍ قدبت أَسْرِيهَا لاَ يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ * مِنَ الْقَرِيسِ وَلاَ تَسْرِي أفَاعِيهَا ثم بعد أن أتمها وأنشد جوابها لحسان بن ثابت رضي الله عنه قال: وبيت هبيرة الذي يقول فيه * وليلة يصلى بالفرث جازرها * الخ يروى الجنوب أخت
عمرو ذي الْكَلْب الهذلي في أبيات لها في غير يوم أحد " انتهى.
وقال السهيلي في الروض: " قد شرطنا الإضراب عن شرح شعر الكفرة والمفاخرين لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من آمن منهم، لكنه ذكر في شعر هبيرة الذى بدأ به بيتين ليسا من شعره، فلذلك ذكرتهما، وهما: * وليلة يصطلي بالفرث * البيت و * في ليلة من جمادى ... * البيت قوله يصطلي بالفرث: أي يستدفئ به من شدة البرد، و " يختص بالنَّقَرَى المثرين ": يختص الأغنياء طلباً لمكافأتهم وليأكل عندهم، يصف شدة الزمان، قال يعقوب في الألفاظ: ونسبها لهذلي، وكذلك قال ابن هشام في هذين البيتين: إنهما ليسا لهبيرة، ونسبهما لجنوبَ أخت عمرو ذي الكلب الهذلي " انتهى.
وجنوب هذه أمرأة من هذيل، جاهلية، قد ترجمناه في الشاهد التاسع والستين بعد السبعمائة من شواهد شرح الكافية، فيكون مرة بن محكان قد أخذ المصراع الأول من شعرها، وكذلك يكون " لا ينبح الكلب فيها غير واحدة "

(4/282)


هذا المصراع ليس له، وقولها " جرباً جُمَادية " أي: لا نجوم تظهر فيها، وجُمَادِيَّةٍ منسوبة إلى جُمَادى.
أي لشدة البرد، ويروى " حَيْرَى جماديّة " يحار السالك فيها من شدة الظلام، والفرث: السرجين الذي يخرج من الكرش، والنَّقَرى - بفتح النون والقاف وبالقصر -: الضيافة الخاصة لافراد، والجفى على وزنها - بالجيم والفاء -: الضيافة العامة، والمثرين: مفعول مقدم، وداعيها فاعل مؤخر، والقريس - بفتح القاف وآخره سين مهملة -: البرد الشديد.
ذو الزيادة أنشد فيه، وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائة: (من الرجز)
135 - * تُجاوِبُ القوس بترنموتها * على أن " ترْنَمُوتاً " بمعنى الترنم، فالواو والتاءان زوائد، وصوابه.
* تْجَاوِبُ الصَّوْتَ بتَرْنَمُوتِهَا * قال ابن جني في سر الصناعة: " وزيدت التاء أيضاً خامسةً في نحو مَلَكوت وجبروت ورغبوت ورهبوت ورحموت وطاغوت، وسادسة في نحو عَنْكَبُوت وتَرْنَمُوت، وهو صوت ترنم القوس عند الإنباض، قال الراجز: * تْجَاوِبُ الْقَوْسَ بِتَرْنَمُوتِهَا * أي: بترنمها " انتهى.
وقال أيضاً في شرح تصريف المازني: " وأمّا ترنموت فيدل على زيادة تائه أيضاً أنه بمعنى الترنم، قال الراجز: * تجاوب القوس بترنموتها * أي: بترنمها، ومثال عَنْكَبُوت فَعْلَلُوت، ومثال تَرْنَموت تَفْعَلُوت " انتهى.
وقال صاحب الصحاح: " والترنموت: الترنم، زاد فيه الواو والتاء، كما زادوا

(4/283)


في مَلَكُوت، قال أبو تراب: أنشدني الغَنَوِي: في القوس تُجَاوِبُ الصَّوْتَ بِتَرْنَمُوتِهَا * تَسْتَخْرِجُ الْحَبَّةَ مِنْ تابوتها يعنى حبة القلب من الجوف " انتهى.
فعرف أن الشارح المحقق تبع ابن جني في ذكر القوس موضع الصوت، والصواب ما أنشده الجوهري.
قال ابن بري في أمالية عليه: " قبل البيتين: * شِرْيَانَةٌ تُرْزِمُ مِنْ عُنُوتِهَا * والشريانة - بكسر الشين المعجمة وفتحها -: شرج تتخذ منه القِسِيّ،
قال الدِّينَوَرِيُّ في كتاب النبات: " هو من جيد العيدان، وهو من نبات الجبال، قال أبو زياد: وتصنع القياس من الشريان، قال: وقوس الشريان جيدة إلا أنها سوداء مشربة حمرة، وهي أخف في اليدين من قوس النبع والشَّوْحَط، وزعموا أن عود الشِّرْيان لا يكاد يَعْوَجّ، وقال الفراء: هي الشريان بالفتح والكسر ".
اه وتُرْزم - بتقديم المهملة على المعجمة - بمعنى أنّت وصوَّتت (1) من أرزمت الناقة إرزاماً، والاسم الرَّزَمَة - بالتحريك - وهو صوت تخرجه من حلقها لا تفتح به فاها، وذلك على ولدها حين تَرْأَمه، والحنين أشد من الرَّزَمَة، والْعُنُوت (2) : جمع عَنَتْ - بفتح العين المهملة والنون - وهو الوقوع في أمر شاق، وقوله " تجاوب الصوت " أي: صوت الصيد، يعني إذا أحَسَّت بصوت حَيَوَان أجابته بترنم وترها، والتابوت هنا: القلب، ووزنه فاعول
__________
(1) كذا، والاولى أن يقول " بمعنى تئن وتصوت " (2) هكذا وقع في الاصول كلها، والذى في اللسان " عنتوتها " والعنتوت: الحز في القوس، ولا معنى لما ذكره المؤلف (*)

(4/284)


وزعم الجوهري أنه فَعَلُوت من التوب، ورد عليه، قال الراغب: التابوت: وعاء يمر قَدْرُهْ، ويسمى القلب تابوت الحكمة، وسَفْط العلم، وبَيْتَه وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائة: (من الرجز) 136 - * رَبَّيْتُهُ حَتَّى إذَا تَمَعْدَدَا * على أن وزنه عند عند سيبويه تَفَعْلَلَ، ومعناه غَلُظ واشْتَدَّ، قال ابن دريد في الجمهرة: " تمعدد الغلام، إذا صلب واشتد، وبعده: * كَانَ جَزَائِي بالعصا أنْ أجْلَدَا *
وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثاني والأربعين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الرجز) 137 - * بِشِيَةٍ كَشِيَةِ الْمُمَرْجَلِ * على أن الْمُمَرْجَل وزنه عند سيبويه مُفَعْلَل قال سيبويه: " جعلت المراجل ميمها من نفس الحرف حيث قال العجاج * بشبة كَشِيَةِ الْمُمَرْجَلِ * الممرجل: ضرب من ثياب الوشي " قال الأعلم: " استشهد به على أن ميم الممرجل أصلية، وهي ضرب من ثياب الوشي تصنع بدرات كالمِرْجَل، وهو القدر، لثباتها في الممرجل، وهو عنده مُفَعْلَلْ، فالميم الثانية فاء الفعل، لأن مفعلالا لا يوجد في الكلام، وغيره يزعم أن ممرجلاً ممفعلٍ، وأن ميميه زائدتان، ويحتج لمجيئها زائدتين في مثل

(4/285)


هذا بقولهم: تَمَدْرَعَت الجارية، إذا لبست المدرع، وهو ضرب من الثياب كالدرع، وبقولهم: تمسكن الرجل، إذا صار مسكيناً، والمسكين من السكون، وميمه زائدة، وهذا قريب، إلا أن سيبويه حمل الممرجل على الأكثر في الكلام، لقلة مُمَفْعل (وكثرة مُفَعْلَل) والشيه: هي اللون يخالطه لون آخر، ومنه سمي الْوَشْي لاختلاف ألوانه، كأنه شُبِّه في البيت اختلاف لون الثور الوحشي لما فيه من البياض والسواد بِوَشْي المراجل واختلافه " انتهى وفي العباب للصاغاني: " والمِرْجَل - بالكسر -: قدر من نحاس، وقال الليث: والْمَرَاجِل: ضرب من برود اليمن، واحدها مرجل - بفتحها -
وثوب مُرَجَّل: أي معلم " انتهى ولم يذكر مُمَرْجلاً وأنشد بعده، وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائة: (من الطويل) 138 - * عَلَى إثْرِنَا أذْيَالَ مِرْطٍ مُرَجَّلِ * وهو عجز، وصدره: * فَقُمْتُ بِهَا أمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا * على أن المرجل معناه الذي فيه صورة الرجال أقول: لم يروه شراح المعلقات بالجيم، وإنما رووه بالحاء المهملة، قال أبو جعفر النحوي والخطيب التبريزي: " الْمُرَحَّل الذي فيه صورة الرِّحَال بالوشي، وقال الزوزني: " الْمُرَحَّل: الْمُنَقَّش بنقوش تشبه رحال (1) الإبل، يقال: ثوب مُرَحَّل، وفي هذا الثوب ترحيل " وما رواه بالجيم إلا الصاغاني
__________
(1) كان في الاصول " رجال الادب " وهو تحريف واضح، والتصويب عن شرح الزوزنى للمعلقات (*)

(4/286)


في العباب، قال: " روي مُرَّجَّل بالجيم: أي معلم، بالحاء أي موشى شبيهاً بالرحال " هذا كلامه وعلى تقدير ثبوت المرجل - بالجيم - يعني الذي فيه صورة الرجال كيف يكون دليلاً لكون الممرجل يعني الذي فيه نقوش على صورة المراجل، فإن تشبيه كل منهما خلاف تشبيه الآخر، ولعل في نسختنا من الشرح كلاماً ساقطاً، فإن الذي فيها إنما هو " والممرجل: الثوب الذي يكون فيه نقوش على صورة المراجل، كما قال امرؤ القيس * على إثرنا - إلخ " ولعل الساقط بعد قوله على صورة المراجل " كما أن المرجل الثوب الذي فيه صورة الرجال كما قال امرؤ القيس - إلخ " (1)
والله سبحانه وتعالى أعلم والمرط - بكسر الميم -: كساء من خز، أومر عِزّي، أو من صوف، وقد تسمى المُلاَءة مِرْطاً، يقول: أخرجتها من خدرها وهي تمشي تجر مرطها على أثرنا لتعفَّى به آثار أقدامنا وقد تقدم شرحة بأبسط من هذا مع أبيات أخر من هذه المعلقة في الشاهد الواحد والتسعين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده، وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الطويل) 139 - فلست لا نسى ولكن لملأك * تنزل من جو السَّمَاءِ يَصُوبُ على أن مَلَكاً مَلأَك، كما في البيت قال سيبويه: " اجتمع أكثرهم على ترك الهمزة في مَلَك، وأصله الهمز - وأنشد البيت، قال: وقالوا مألكة وملاكة، وإنما يريدون رسالة " انتهى
__________
(1) هذا الكلام ثابت في نسخ الشرح التى بأيدينا

(4/287)


وقال ابن السراج في الأصول: " ومما ألزم حذف الهمزة لكثرة استعمالهم مَلَكٌ إنما هو مَلْأَك، (فلما) (2) جمعوه ردوه إلى أصله قالوا ملائكة وملائك، وقد قال الشاعر - فرد الواحد إلى أصله حين احتاج - * فَلَسْت لإنسي ... البيت " انتهى.
وقد أخذ هذه من تصريف المازني، قال ابن جني في شرحه: " اعلم أنه يريد بالحذف هنا التخفيف، ألا ترى أنهم يحركون اللام من مَلَك لفتحة الهمزة من ملاك كما تقول في تخفيف مَسْأَلة: مَسَلَة، وهذا هو التخفيف، إلا أنهم ألزموه التخفيف في الأمر الشائع في الواحد، وصارت ميم مَفْعَل كأنها بدل من إلزامهم إياه
التخفيف، كما أن حرف المضارعة في نَرَى وتَرَى ويرى وأرى كأنه بدل من إلزامهم إياه التخفيف في الأمر الشائع، حتى إن التحقيق وإن كان هو الأصل قد صار مستَقْبَحاً لقلة استعماله، وينبغي أن تعلم أن أصل تركيب مَلَك على أن الفاء لام والعين همزة واللام كاف، لأن هذا هو الأكثر وعليه يُصرَف الفعل، قال الشاعر: (من الطويل) ألِكْنِي إلى قَوْمي السَّلاَمَ رِسَالَةً * بِآيَةِ مَا كانُوا ضِعَافاً وَلاَ عُزْلاَ فأصل ألكني ألئكنى فخفف الهمزة بأن طرح كسرتها على اللام، وقال الآخر: (من المتقارب) ألِكْنِي إلَيْهَا وَخَيْرُ الرسول * أعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ وعلى هذه اللغة جاء ملك، وأصله مَلْأَك، وعلى هذا جمعوه، فقالوا: ملائك وملائكة، لأن جمع مَفْعَل مَفَاعِل، ودخلت الهاء في ملائكة لتأنيث الجمع، وقد قدموا الهمزة على اللام فقالوا: مَأْلُك ومَأَلُكة للرسالة، قال عدي بن زيد: (من الرمل) أبْلِغْ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً * أنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وانتظار
__________
(1) زيادة يقتضيها المقام (*)

(4/288)


وقال لبيد رضي الله عنه: (من الرمل) وغلاَمٍ أرْسَلَتْهُ أُمُّهُ * بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ ولم نرهم استعملوا الفعل بتقديم الهمزة، فهذا يدل على أن الفاء لام والعين همزة " انتهى.
قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل: " البيت لعلقمة بن عَبَدَة أحد بنى ربيعة مالك بن زيد مناة بن تميم، وهو علقمة الْفَحْل (1) ، من قصيدته التي يقول فيها: (من الطويل)
وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خبطت بِنِعْمَةٍ * فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذنوب وهو آخر القصيدة " اه.
وقد بحثت (عنه) فلم أجده فيها من رواية المفضل في المفضليات، وكذلك لم أره في ديوانه قال السهيلي: " هذا البيت مجهول، وقد نسبه ابن سيده إلى علقمة، وأُنْكِرَ ذلك عليه، ثم قال اللخمي: وحكى أبو عبيد أنه لرجل من عبد القيس من كلمة يمدح بها النعمان، وحكى السيرافى: أنه لابي وجرة (2) السُّلَمِي المعروف بالسعدي من قصيدة يمدح بها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقوله " تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء " (يحتمل وجهين: الأول (3)) أنه ليس بقديم في الأرض فتلحقه طباع الآدميين، والثاني أن كل ملك قرب عهده بالنزول من السماء فليس بمنزلة من لم يكن قريب العهد، ويصوب: ينحدر إلى أسفل، وقوله " لملاك " في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر، والتقدير أنت لملاك.
" ولانسى " في موضع خبر ليس والتقدير فلست منسوباً بالانسى، والجواب
__________
(1) انظر (ح 2 ص 346) من القسم الاول من هذا الكتاب.
(2) في القاموس: أبو وجزة يزيد بن عبيد أو أبى عبيد شاعر سعدى (3) زيادة لابد منها ليصح الكلام (*)

(4/289)


بين السماء والأرض، و " يصوب " في موضع نصب على الحال من ضمير تنزل، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لملاك " انتهى.
وفى الصحاح، صاب الماء يصوب نزل، وأنشد البيت لرجل من عبد القيس جاهلي يمدح بعض الملوك وقال الطيبي: يصوب: بمعنى يميل وهو استئناف على سبيل البيان والتعليل، وفي معناه قول صواحب يوسف (مَا هَذَا بَشَراً إنْ هَذَا إلاَّ مَلَك) وأنشده الزمخشري عند قوله تعالى: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بأمر ربك) على أن التنزل بمعنى
النزول مطلقاً، لأنه مطاوع نزل، ولا أثر للتدريج في غرض الشاعر وقبله: تَعَالَيْتَ أنْ تُعْزَى إلَى الإنْسِ خَلَّةً * وَلِلأِنْسِ مَنْ يَعزُوكَ فَهْوَ كَذُوبُ وتَعَالَيْتَ تعاظمت، وتعزى: تنسب، وخلة: تمييز وهو بفتح الخاء المعجمة، وهو بمعنى الخصلة.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الأربعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 140 - * دار لسعدى إذه من هو اكا * على أن هوى من " هواكا " مصدر بمعنى اسم المفعول: أي من مهوياتك وأنشده سيبويه في باب ضرائر الشعر من أول كتابه على أن الياء حذفت للضرورة، والأصل إذ هي من هواكا، وقبله: * هَلْ تَعْرِفِ الدَّارَ عَلَى تِبْرَاكَا * بكسر المثناة الفوقية الموحدة: موضع في ديار بني فقعس، وصف داراً خلت من سعدى هذه المرأة، وبَعُدَ عهدها بها فتغيرت بعدها، وذكرَ أنها كانت لها داراً ومستقراً، إذ كانت مقيمة بها، فكان يهواها بإقامتها فيها، وقد تكلمنا

(4/290)


عليه بأكثر من هذا في الشاهد الثالث والثمانين من أوائل شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائة -: (من الطويل) 141 - فَإِنْ تَكُنْ الْمُوسَى جَرَتْ فوق بظرها * فما ختنت إلا ومصان قاعد على أن الموسى مؤنثة بدليل جرت، فإن المؤنث إذا أسند إلى فعله وجب إلحاق علامة التأنيث لفعله، وأما إذا أسند الفعل إلى ظاهر فيجوز إلحاق العلامة
ويجوز تركها، كما في تكن، وأما تذكيره فلم أر له شاهداً إلا في كلام المولدين، وما أحسن ما كتب بعضهم بمصر إلى الأمير موسى بن يغمور وقد أهدَى إليه موسى: وأهديت موسى نحو مُوسَى وَإنْ يَكُنْ * قَدْ اشْتَرَكا في الإسْمِ مَا أخْطَأَ الْعَبْدُ فَهَذَا لَهُ حَدٌّ وَلاَ فَضْلَ عِنْدَهُ * وَهَذَا لَهُ فَضْلٌ وَلَيْسَ لَهُ حَدُّ وهذا البيت قبله: لَعَمرِكَ مَا أدْرِي وإني لسائل * أبْظْرَاءُ أمْ مَخْتُونَةٌ أُمُّ خَالِدِ وروي أيضاً: * لَعَمْرِكَ مَا أدْرِي وإن كُنْتَ دَارِيا * والبظراء: المرأة التي لها بظر، والبَظْر: لحمة بين شفري المرأة، وهي القلفة التي تقطع في الختان، وبَظِرَت المرأة - بالكسر - فهي بظراء، إذا لم تختن، وأم خالد: مبتدأ، وبظراء: خبر مقدم، وروي مخفوضة بدل مختونة، وخُفِضَتْ بدل ختنت، والختان مشترك بين الذكر والأنثى، يقال: ختن الخاتن الصبي ختناً من باب ضرب، والاسم الختان والختانة، بكسرهما، ويطلق الختان على موضع القطع من الفرج، وفي الحديث (إذا التقى الختانان) وهو كناية لطيفة عن تغييب

(4/291)


الحشفة، فالمراد من التقائهما تقابل موضع قطعهما، فالغلام مختون والجارية مختونة وغلام وجارية ختين أيضاً، والخفض خاص بالانثى، يقال: خَفَضت الخافضة الجارية خِفاضاً: ختنتها، فالجارية مخفوضة، ولا يقال: الخفض إلا على الجارية دون الغلام، وهو بالخاء والضاد المعجمتين بينهما فاء، قال الجواليقي: وروي أيضاً وضعت وبضعت، والكل بمعنى واحد، قال ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق وتبعه الجواليقي: " يقول أنا في شك أمختونة هي أم لا، ثم قال: وإن كنت
أعلم أنها كذلك، فإن كانت مختونة فما ختنت إلا بعد ما كبر ابنها فختنت بحضرته وعنى بحصان ابنها " انتهى.
وقال ابن السَّيِّد في شرح أبيات أدب الكاتب: " وفي معنى البيت قولان: قيل: إنه أراد بالمصَّان الحجَّام لأنه يمص المحاجم، يقول: إن كانت ختنت فإنما ختنها لتبذلها وقلة حيائها، لأن العادة جرت أن يختن النساء النساء، وقيل: أراد بالمصان ابنها خالداً، لأن العرب تقول لمن تسبه: يا مصان: أي يا من مص بظر أمه، يقول إن كانت ختنت فإنما خُتِنَتْ بعد أن بلغ ابنها المصان القعود، فقد مص بظرها على كل حال، وأجرى مصان مجرى الأسماء الأعلام، فلذلك لم يصرفه " انتهى.
ولا يحتاج إلى هذا، فإن مَصَّان وصف له كَسلْمَان فمنع صرفه للوصفية والزيادة (1) وقد اختلف في قائلها والمهجو بهما، قال يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق
__________
(1) هذا كلام غير مستقيم، لانه ليس كل وصف على فعلان يمتنع صرفه، بل ذلك خاص بما كان مؤنثه على فعلى، أو بما لا يكون مؤنثه على فعلانة، وقد قيل: للانثى مصانة، فمطان مصروف، فامتناع صرف مصان في البيت لضرورة الشعر وهو جائز عند الكوفيين (*)

(4/292)


وتبعه الجواليقي في شرح أبيات أدب الكاتب، وابنُ بري في حاشيته الصحاح وغيرُهما: " وأنشد الفراء في تأنيث الموسى لزياد الأعجم يهجو خالد بن العتاب بن ورقاء لما أعطى إليه خالد بَدْرةً من الدراهم وقال له مازحاً: أدخلها في حرأمك، وكذا قال أبو عمرو الشيباني، وقيل: قائلها أعشى همدان، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله ويكنى أبا الْمُصَبِّح، قالهما في خالد بن عبد الله القسري، وهذا قول
أبي الفرج الأصبهاني في الاغانى: قال: حدثنا الخراز عن المدائني عن عيسى بن زيد ابن جعدبة قالا: كانت أم خالد القسري رومية نصرانية: فبنى لها كنيسة في قبلة مسجد الجامع في الكوفة فكان إذا أراد المؤذن بالمسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس، وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم فقال أعشى همدان يهجوه وَيعيره بأمه، وكان الناس إذا ذكروه قالوا: ابن البظراء فأنف من ذلك، فيقال: إنه ختن أمه كارهة فعيره الأعشى بذلك حين يقول: (من الطويل) لَعَمْرِكَ مَا أدْرِي وَإنِّي لَسَائِلٌ * أبْظْرَاءُ أمْ مَخْتُونَةٌ أُمُّ خَالِدِ فَإِنْ كَانَتْ الْمُوسَى جَرَتْ فَوْقَ بَظْرِهَا * فَمَا خُتِنَتْ إلاَّ وَمَصَّانُ قاعِدِ يَرَى سَوْأةً مِنْ حَيْثُ أطْلَعَ رَأْسَهُ * تَمُرُّ عَلَيْهَا مُرْهَفَاتُ الْحَدَائِدِ وقال أيضاً يرميه باللواط: ألْمَ تَرَ خَالِداً يَخْتَارُ مِيماً * وَيَتْرُكُ فِي النِّكَاحِ مَشَقَّ صَادِ وَيُبْغِضُ كُلَّ آنِسَةٍ لَعُوبٍ * وَيَنْكِحُ كُلَّ عَبْدٍ مُسْتَقَادِ وقال أبو عبيدة: حدثني أبو الهذيل العلاف، قال: صَعِدَ خالد القسري المنبر فقال: إلى كم يغلب باطِلُنَا حقَّكم، أما آن لربكم أن يغضب لكم، وكان زنديقاً وأمه نصرانية، فكان يولي النصارى والمجوس على المسلمين ويأمرهم بضربهم وامتهانهم، وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطئونهن، فيطلق ذلك

(4/293)


لهم ولا يغيره عليهم، وله يقول الفرزدق من أبيات: (من الطويل) وَأَنْتَ ابْنُ نَصْرَانِيَّةٍ طَالَ بظرها * غدتك بِأَوْلاَدِ الْخَنَازِيرِ وَالْخَمرْ وقال فيه أيضاً: (من الطويل) ألاَ لَعَنَ الرَّحْمَنُ ظَهْرَ مِطِيَّةٍ * أتَتْنَا تَخَطَّى مِنْ بَعِيدٍ بِخَالِدِ
وَكَيْفَ يَؤُمُّ الْمُسْلِمِينَ وَأُمُّهُ * تَدِينُ بِأَنَّ الله ليس بواحد وأورد له صاحب الأغاني حكايات كفريات كثيرةً صريحةً في كفره وزندقته، وروى بسنده عن خالد بن صفوان بن الأهتم أنه قال: " ولم تزل أفعال خالد به حتى عزله هشام وعذبه وقتل ابنه يزيد بن خالد، فرأيت في رجله شريطاً قد شد به وَالصبيان يجرونه، فدخلت إلى هشام فحدثته فأطلت، فتنفس ثم قال: يا خالد، رُبَّ خالدٍ كان أحبَّ إلَيَّ قُرْباً وألَذَّ عندي حديثاً منك، قال: يعني خالداً القسري، فانتهزتها ورجوت أن أشفع فيكون لي عند أمير المؤمنين يد، قلت: يا أمير المؤمنين فما يمنعك من استئناف الصَّنيعة عنده فقد أدبته بما فرط منه، فقال: هيهات، إن خالداً أوجف فأعجف، وأدَلَّ فَأَذَلَّ، وأفرط في الإساءة فأفرطنا في المكافأة، فحَلِم الأدِيم (1) ونَغِل (2) الجرحُ، وبلغ السيل الزُّبَى و (جاوز) الحِزَامُ الطُّبْيَيَن (3) ، فلم يبق فيه مستصلَح، ولا للصنيعة عنده موضع "
__________
(1) يقال: حلم الاديم - بالكسر - أصابته الحلمة، وهى دودة تخرقه فلا ينفع فيه الدباغ (2) في الاصول " بتل الجرح " ولا معنى له والصواب ما أثبتناه، والنغل - بفتحتين -: الفساد، وفى الحديث: ربما نظر الرجل نظرة فنغل قلبه كما ينغل الاديم في الدباغ فيتثقب (3) الزبى: جمع زبية - بالضم - وهى حفرة تحفر للاسد إذا أرادوا صيده والطبيان: مثنى طبى - بالضم أو الكسر - وهو لذى الحافر والسباع كالضرع لغيرها، وهذان مثلان يضربان إذا تجاوز الامر قدره، وفى معناه " بلغ الدم الثنن " (*)

(4/294)


وأعشى همدان شاعر فصيح كوفي من شعراء الدولة الأموية، وكان زوج أخت الشعبي الفقيه، والشعبي زوج أخته، وكان أحد القراء الفقهاء، ثم ترك
ذلك وقال الشعر، وخرج مع ابن الأشعث فأُتِيَ به الحجاج فقتله صبراً، وكان الأعشى ممن أغزاه الحجاج الديلم فأُسرَ، فلم يزل أسيراً في أيدي الديلم مدة، ثم إن بنتاً لِلعِلْج الذي كان أسره هويته، وسارت إليه ليلاً ومكنته من نفسها، فواقعها ثماني مرات، فقالت له: أهكذا تفعلون بنسائكم، فقال لها: نعم، فقالت: بهذا الفعل نُصِرتم، أفرأيت إن خلصتك أتصطفيني لنفسك؟ فقال: نعم، وعاهدها، فحلت قيوده وأَخَذَتْ به طريقاً تعرفها حتى خلصته، فقال شاعر من أُسراء المسلمين: (من الطويل) وَمَنْ كَانَ يَفْدِيهِ مِنَ الأَسْرِ مَالَُهُ * فَهَمْدَانُ تَفْدِيهَا الْغَدَاةَ أيُورُهَا وكان الأعشى مع خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي بالرِّيّ، وأملق الأعشى يوماً فأتاه فقال: (من الطويل) رَأَيْتُ ثَنَاءَ النَّاسِ بِالْغَيْبِ (1) طَيِّباً * عَلَيْكَ وَقَالُوا: مَاجِدٌ وَابْنُ مَاجِدِ بَنِي الْحَارِثِ السَّامِينَ لِلْمَجْدِ إنَّكُمْ * بَنَيْتُمْ بِنَاءً ذِكْرُهُ غَيْرُ بَائِدِ فَإِنْ يَكُ عَتَّابٌ مَضَى لِسَبْيلِهِ * فَمَا مَاتَ مَنْ يَبْقَى لَهُ مثل خالد وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الوافر) 142 - أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ: مَنُونَ أنْتُمْ؟ * فَقَالُوا: الجِنَّ، قُلْتُ: عِمُوا ظَلاَماَ فَقُلْتُ: إلَى الطَّعَامِ، فَقَالَ مِنْهُمْ فَرِيقٌ: نَحْسُدُ الانس الطعاما
__________
(1) في الاغانى (ج 6 ص 57) " بالقول " وفى ديوان الاعشى مثل ما هنا (*)

(4/295)


على أن قوله " الإنْسَ " يدل على أن همزة إنسان أصل، وأنه مأخوذ من الأُنْس لامن النسيان، وأنشد سيبويه البيت الأول على أن يونس يجوِّز فيه الحكاية
بمن وصلا، كما في البيت، و " عِمُوا " معناه: أنْعِمُوا، وهي كلمة تحية عند العرب، يقال: عِمُوا صباحاً، وإنما قال لهم: عِمُوا ظلاماً، لأنهم جِنٌّ وانتشارهم بالليل، كما يقال لبني آدم إذا أصبحوا: عِمُوا صباحاً وقد شرحناه شرحاً وافياً في الشاهد الواحد والخمسين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده أيضاً، وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد الماية: (من الخفيف) 143 - إنَّما أنْفَسُ الأَنْيس سِبَاعٌ * يَتَفَارَسْنَ جَهْرَةً وَاغْتِيَالاً على أن قوله " الإنِيس " وهو بمعنى الأنس يدل أيضاً على أن إنسان أصله كما تقدم قبله والبيت من قصيدة للمتنبي مدح بها سيف الدولة، مطلعها: (من الخفيف) ذِي الْمَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تَعَالَى * هَكَذَا هكذا وإلا فلالا وبعده وهو آخر القصيدة: مَنْ أطَاقَ الْتِمَاسَ شئ غِلاَباً * واغْتِصَاباً لَمْ يَلْتَمِسْهُ سُؤَالاَ كُلُّ غَادٍ لِحَاجَةٍ يَتَمَنَّى * أنْ يَكُونَ الْغَضنْفَرَ الرِّئْبَالاَ وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائة -: (من الكامل) 144 - إن الْمَنَايَا يَطَّلِعْنَ عَلَى الأُنَاسِ الآمنينا

(4/296)


وقد شرحناه مفصلاً في الشاهد السابع والعشرين بعد المائة من شواهد شرح الكافية وأنشد أيضاً - وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائة -: (من الكامل) 145 - لا تنسين تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا * سُمِّيْتَ إنْسَاناً لأَنَّكَ نَاسِي
على أن قوله " سميت إنساناً لأنك ناسي " يدل على أن همزة إنسان زائدة من النسيان، فلامه محذوفة، ورد بأنه لم يذهب به مذهب الاشتقاق، وإنما هو تخيل شعر، على أن شعر أبي تمام لا يحتج به، لأنه من المولدين والبيت من قصيدة مدح بها أحمد بن المأمون بن هرون الرشيد وقبله - وهو في الغزل -: قَالَتْ وَقَدْ حُمَّ الْفِرَاقُ وَكَأْسُهُ * قَدْ خُوْلِطَ السَّاقِي بِهَا وَالْحَاسِي لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ * ... البيت ومنها: هَدَأَتْ عَلَى تَأْمِيلِ أحْمَدَ هِمَّتِي * وَأَطَافَ تَقْلِيدِي بِهِ وَقِيَاسِي ومنها في المديح - وهو المشهور -: إقْدَامُ عَمْرٍو في سَمَاحَةِ حَاتِمٍ * في حِلْمِ أحْنَفَ فِي ذَكَاءِ إيَاسِ لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ من دونه * مثلا شردوا فِي النَّدَى وَالْبَاسِ فَالله قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ * مَثَلاً مِنَ المشكاة والنبراس وزعم بعضهم أن هذه القصيدة في مدح الخليفة، وقال: " لما أنشد * إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِمٍ *

(4/297)


قال الفيلسوف الكندي: ما قدر هؤلاء حتى تشبه بهم مولانا ومولاهم (1) ، فنظر إليه أبو تمام وزاد ارتجالا في القصيدة - وإن لم يقطع إنشاده -: * لا تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلاً * إلى آخر البيتين وكان من الحاضرين في مجلس الخليفة جبريل بن بَخْتَيْشُوع الطبيب، فقال: والله لقد شَمِمْتُ رائحة كبده لفرط اتقاده، فمات أبو تمام بعد أيام " انتهى، والله أعلم وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائة -: (من البسيط)
146 - أُدْعَى بِأَسْمَاءَ نَبْزاً فِي قَبَائِلِهَا * كَأنَّ أَسْمَاءَ أضْحَتْ بَعْضَ أسْمَائِي على أن الشاعر لقب بأسماء، لمنا بينه وبين أسماء من الملابسة والشهرة في محبتها و " أُدْعَى " بالبناء للمفعول، بمعنى أسمَّى، يتعدى إلى المفعول الثاني تارة بنفسه وتارة بالباء، يقال: دعوت الولد زيداً، وبزيد إذا سميته بهذا الاسم، و " أسماء " من أعلام النساء، وأصله وَسْمَاء، من الوسامة بمعنى الجمال، " ونبزا " تمييز، والنبز: اللقب تسمية بالمصدر، يقال: نبزه بكذا نبزاً - من باب ضرب - إذا لقبه به والبيت من قصيدة لأبي محمد خازن كتب الصاحب بن عَبَّاد مدحه بها، مطلعها: هَذَا فُؤَادُكَ نُهْبَى بَيْنَ أهْوَاءِ * وَذَاكَ رَأْيُكَ شُوْرَى بَيْنَ آرَاءِ لاَ تَسْتَقِرُّ بِأَرْضٍ أوْ تَسِيرَ إلَى * أُخْرَى بِشَخْصٍ قَرِيبٍ عَزْمُهُ نَاءِ يَوْماً بحذوى ويوما بالعقيق وبالعذيب * يَوْماً وَيَوْماً بالْخُلَيْصَاءِ كَذَا تَهِيمُ بِسُعُدْى بُرْهَةً وَإذَا * هَوَيْتَ عزَّةَ تبغى وصل عفراء
__________
(1) في الاصول " حتى تشبه به " وهو تحريف (*)

(4/298)


ومن المديح: هُوَ الْوَزِيرُ أدَامَ الله نِعْمَتَهُ * وَعُمْرَهُ وَوَقَاهُ كُلَّ أسْوَاءِ لَوْ أنَّ سَحْبَانَ بَارَاهُ لأَسْحَبَهُ * عَلَى فَصَاحَتِهِ أذْيَالَ فَأْفَاءِ وَلَوْ رَآهُ زُهَيْرٌ لَمْ يَزُرْ هَرِماً * وَلَمْ يَعْرُجْ عَلَى التَّنْوُّمِ والْآءِ أرَى الأَقَالِيمَ أعْطَتْهُ مَقَالِدَهَا * إِلَيْهِ مُسْتَلْقِيَاتٍ أيَّ إلْقَاءِ تُسَاسُ سَبْعَتُهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةٍ * أمْرٍ وَنَهْيٍ وَتَثْبِيتٍ وَإمْضَاءِ
كَذَاكَ تَوْحِيْدُهُ أوْدَى بِأَرْبَعَةٍ * كُفْرٍ وَجَبْرٍ وَتَشْبِيهٍ وَإرْجَاءِ وقَدْ تَجَنَّبَ " لاَ " يَوْمَ الْعَطَاءِ كَمَا * تَجَنَّبَ ابْنُ عَطَاءٍ لَثْغَةَ الراء ياليت أعْضَاء جِسْمِي كُنَّ ألْسِنَةً * فَصَارَ يثنى على كُلُّ أعْضَائي روي أنه لما أنشدها بين يدي الصاحب (كان) مقبلاً عليه حسن الإصغاء إليه حتى عجب الحاضرون، فلما بلغ البيت الشاهد مال الصاحب عن دَسْته طرباً، فلما ختمها قال له: " أحسنت، ولله أنت " وتناول النسخة منه تم أمر له بخلعة من ملابسه، وفرس من مراكبه، وصلة وافرة.
وأبو محمد هذا هو عبد الله بن أحمد الخازن، كان خازناً لكتب الصاحب إسماعيل بن عباد، وزير مؤيد الدولة بن بُوَيْه، وكان أو محمد حسنة من حسنات أصبهان وأفرادها في الشعر، ومن خَوَاصِّ الصاحب، وترجمة الثعالبي في اليتيمة، وأوْرَدَ له أشعاراً جيدة وحكايات مفردة.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة -: (من الطويل) 147 - لقد تركتني منجنيق بن بجدل * أحيد من العصفور حتى يطير على أن المنجنيق مؤنث، ولهذا قال " تركتني " كذا في الصحاح والعباب وغيرهما.

(4/299)


وأحيد: مضارع حَادَ عن كذا حيد وحُيُوداً، إذا تنحى وبعد عنه، ويتعدى بالحرف والهمزة، فيقال: حدت به، وأحدته، وابن بَحْدَل - بالموحدة والحاء المهملة -: هو حُمَيْد بن حُرَيْث بن بَحْدَل، من بني كلب بن وَبْرَة، وينتهي نسبه إلى قُضَاعَة، وكانت عمته مَيسُون بنت بَحْدَل أم يزيد بن معاوية، ولما مات يزيد وثب زُفَر بن الحارث على قِنَّسْرين فتملكها، وبايع لابن الزبير رضي الله عنه،
وخرج عُمَيْر بن الْحُباب السُّلَمي مُغِيراً على بني كلب بالقتل والنهب، فلما رأت كلب ما وقع لهم واجتمعت إلى حميد بن حَرَيث بن بحدل، فقتل حميد بن فزارة قتلاً ذريعاً وحاصر زفر بن الحارث، وفى ذلك زفر: * لَقَدْ تَرَكَتْنِي مَنْجَنِيقُ بْن بَحْدَل * البيت وزفر بن الحارث الكلابي كان سيد قيس في زمانه، في الطبقة الأولى من التابعين من أهل الجزيرة، من أمراء العرب، سمع عائشة وميمونة وشهد وقعة صِفَّين مع معاوية أميراً على أهل قِنَّسْرِين، وهرب من قنسرين فلحق بِقَرقِيسِياء (1) ، ولم يزل متحصِّناً بها حتى مات في مدة عبد الملك بن مروان، في بضع وسبعين من الهجرة وأنشد أيضاً - وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائة -: (من الرجز) 148 - * وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُرُدٌ * على أن عُرُداً - بضمتين فتشديد - يدل على زيادة النون في عُرُنْد - بضمتين فسكون، لأنه بمعناه قال الصاغاني في العباب: " ووتر عُرُدْ كَعُتُلْ وعُرُنْد كتُرُنْج: شديد غليظ
__________
(1) قرقيساء - بفتح فسكون فكسر فياء، وبعد السين المهملة ياء، ومنهم من يرويه بدونها، وآخره همزة -: بلد عند مصب نهر الخابور في الفرات (*)

(4/300)


وكذلك رشاء عرد وعرند، وكذلك من كل شئ، قال حنظلة بن ثعلبة بن يسار يومَ ذي قارٍ: مَا علتى وأنا شئ إدُّ * وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُرُدُّ مِثْلُ ذِرَاعِ الْبَكْرِ أوْ أشَدُّ ويروى " مثل ذراع الفيل " (1) وفي نوادر ابن الأعرابيّ
قَد جَدَّ أشيَاعُكُمُ فَجِدُّوا * وَالْقَوْسُ فِيهَا وَتَرٌ عُرُدُّ والإد - بكسر الهمزة -: الداهية، والأشياع: جمع مشايع (2) ، وهو الصاحب وَالْبَكُر - بفتح الموحدة -: الفتى من الإبل، ويوم ذي قار: يوم للعرب غلبوا فيه جنود كسرى، وكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد بعده - وهو الشاهد التساع والأربعون بعد المائة - (من الرجز) 149 - * أمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أبِي * على أن الهاء في " أمَّهتي " زائدة قال ابن جني في سر الصناعة: " كان أبو العباس يخرج الهاء من حروف الزيادة، ويذهب إلى أنها إنما تلحق في الوقف في نحو " أخْشَه " " وارْمُهْ " و " هُنَهْ " (ولكنَّهْ، وتأتي بعد تمام الكلمة) (3) وهذه مخالفة منه للجماعة، وغير مرضى (منه) عندنا، وذلك أن الدلالة قد قامت على زيادة الهاء في غير
__________
(1) في اللسان (ع ر د) روايته: * مثل جران الفيل أو أشد * (2) كذا في الاصول، وهو غير مستقيم، والاشياع: جمع شيع - بكسر ففتح - وهوجمع شيعة، وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، واختص في العرف بشيعة على كرم الله وجهه (1) الزيادة من سر الصناعة لابن جني في باب الهاء والكلام على زيادتها (*)

(4/301)


ما ذكره، فمما زيدت فيه الهاء قولهم " أمَّهَات " ووزنه فُعْلَهَات، والها زائدة، لأنه بمعنى الأم، والواحدة أمهة، قال: * أمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أبِي * (أي أمي) .
قولهم: أم بَيِّنة الأمومة، قد صح لنا منه أن الهمزة فيه فاء
الفعل، والميم الأولى عين الفعل، والميم الآخرة لام الفعل، فأم بمنزلة دُرّ وحرّ وحُبّ وجُلّ مما جرى على وزن فُعْلٍ وعينه ولامه من موضع واحد وأجاز أبو بكر في قول من قال أمَّهة في الواحد أن تكون الهاء أصلية وتكون فعَّلة، وهى في قول أبي بكر بمنزلة تُرَّهة وأُبَّهة وَقُبَّرة، ويُقوِّي هذا الأصل قول صاحب العين: تأمهت أمَّا، (فتأمهت) بين أن تَفَعَّلَت بمنزلة تَفَوَّهَتْ وَتَنَبَّهَتْ، إلا أن قولهم في المصدر الذي هو الأصل أمُومة يُقَوِّي زيادة الهاء في أمَّهة وأن وزنها فُعْلَهة، ويزيد في قوة ذلك قولهم: إذا الأَمَّهَاتُ قَبْحْنَ الْوُجُوهَ * ... البيت وقرأتها على أبي سهل أحمد بن القطان * قَوَّالِ مَعْرُوفٍ وفَعَّالِهِ * البيت وهذا فيمن أثبت الهاء في غير الآدميين، وقال الآخر: لَقَدْ وَلَدَ الأَخَيْطِلَ أمُّ سُوءٍ (عَلَى بَابِ اسْتِهَا صُلْبٌ وَشَامُ) فجاء بلا هاء فيمن يعقل، وقال الراعي: (كَانَتْ نَجَائِبُ مُنْذِرٍ وَمُحْرِّقٍ) * أمَّاتِهِنَّ وَطِرْقُهُنَّ فَحِيلاَ فجاء بغير هاء، إلا أنه في غالب الأمر فيمن يعقل بالهاء، وفيمن لا يعقل بغير هاء زادوا الهاء فرقاً بين من يعقل وبين ما لا يعقل، فإن قال قائل: ما الفرق بينك وبين من عكس الامر عليك فقال: ما تنكر أن تكون الهاء إنما حذفت في غالب الامر مما لا يعقل وأثبتت فيمن يعقل، وهي أصل فيه للفرق؟ فالجواب

(4/302)


أن الهاء أحد (الحروف العشرة التي تسمى) حروف الزيادة لا حروف النقص، وإنما سميت حروف الزيادة لأن زيادتها في الكلام هو الباب المعروف وأما الحذف فإنما جاء في بعضها، وقليل ذلك، ألا ترى إلى كثرة زيادة الواو والياء
في الكلام وأن ذلك أضعاف أضعاف حذفهما إذا كانتا أصليَّتَيْن نحو يَدٍ وَدَمٍ (وغَدٍ) وأب وأخ وهَنٍ، فهذه ونحوها أسماء يسيرة محدودة محتقرة في جنب الأسماء المزيد فيها الياء والواو (1) ، وكذلك الهاء أيضاً إنما حذفت في نحو شفة: واست وعِضَةٍ فيمن قال: عَاضِه، وسَنة فيمن قال: سَانَهْتُ، وما يقلُّ جداً، وقد تراها تزاد للتأنيث فيما لا يحاط به، نحو جَوْزَة ولَوْزَة، ولبيان الحركة في نحو (مَالِيْهِ) و (كِتَابِيهِ) ولبيان حرف المد نحو " وَازَيْدَاه "، ألا ترى أن من حروف الزيادة ما يزاد ولا يحذف في شئ من الكلام البتة؟ وذلك اللام والسين والميم، فقد علمت أن الزيادة في هذه الحروف أفشى من الحذف، فعلى هذا القياس ينبغي أن تكون الهاء في أمَّهَة زيادة على أم، فأما قول من قال: تَأَمَّهَتْ أُمّاً وإثباته، الهاء فنظيره مما يعارضه قولهم: أم بينة الأمومة، بحذف الهاء، فرواية برواية، وبقي الذي قدمناه حاكماً بين القولين، وقاضياً بأن زيادة الهاء أولى من اعتقاد حذفها، على أن الأمومة قد حكاها ثعلب، وحسبك به ثقة، وأما " تأمَّهَتْ أما " فإنما حكاها صاحب العين، وفي كتاب العين من الخطل والاضطراب مالا يدفعه نَظَّار جَلْد " إلى آخر ما ذكر من الْقَدْح في هذا الكتاب.
وكذا حكم الزمخشري في المفصل بزيادة الهاء في لفظ المفرد والجمع، وقال: تأمهت مسترذل، وأنشد البيت في الكشاف عند قوله تعالى (فِي بُطُونِ أمهاتكم) على أن زيادة الهاء في المفرد شاذة.
والبيت لقُصَيِّ بن كلاب جَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وقبله:
__________
(1) هنا في سر الصناعة أمثلة والواو الزائدتين (*)

(4/303)


إن لَدَى الْحَرْبِ رَخيُّ اللَّبَبِ * عِنْدَ تَنَادِيهِمْ بِهَالٍ وَهَبِ مَعْتَزِمُ الصَّوْلَةِ عَالِي النَّسَبِ * أمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أبِي
كذا في شرح أمالي القالي لأبي عبيد البكري، والروض الأنف للسهيلي، وزعم العيني أن بعده: * وحاتم الطائي * وهو خطأ قافيةً ونسباً، وإنما هذا البيت من أبيات لامرأة من اليمن تقدم شرحه في هذا الكتاب وقوله " إني لدى الحرب - إلخ " الرخي: المرتخي، واللبب: ما يشد على ظهر الدابة ليمنع السرج والرحل عن الاستئخار، والارتخاء إنما يكون عن كثرة جرْي الدابة، وهو كناية عن كثرة مبارزته للأقران، ويقال أيضاً: فلان في لَبَب رخيٍ، إذا كان في حالة واسعة، وليس هذا بمراد هنا، والعجب من شارح شواهد التفسيرين في شرحه بهذا، وقوله " عند تناديهم " ظرف متعلق برخي، وهالٍ: اسم فعل زجر للخيل، كذا في العباب، وتنوينه للتنكير، وهب وكذا هبى: اسم فعل دعاء للخيل: أي أقدمي وأقبلي، كذا في القاموس، وقوله " معتزم الصَّوْلة " من الْعَزْم، وهو عَقْد القلب على فعل، والصَّوْلَة: من صَال الْفَحْل صولة، إذا وثبت على الإبل يقاتلها، وقوله " أمهتي خندف " يريد أم جده مدركة بن إلياس بن مضر، وكذا يريد بقوله " وإلياس أبي " جَدَّه إلياس بن مضر، وخندف: بكسر الخاء المعجمة وكسر الدال، والنونُ بينهما ساكنةٌ.
وفي سيرة ابن هشام: " ولد إلياس بن مُضر ثلاثةَ نفرٍ: مدركه بن إلياس، وطابخة ابن إلياس، وقَمَعَة بن إلياس، وأمهم خندف امرأة من اليمن، وهي خندف بنت عمران بن الحارث بن قضاعة، وكان اسم مدركة عامراً واسم طابخة عمرا، وزعموا أنهما كان في إبل لهما يرعيانها، فاقتنصا صيداً، فقعدا عليه يطبخانه، وعدت عادية على إبلهما، فقال عامر لعمرو: أتدرك الإبل أو تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ، فلحق عامر بالإبل فجاء بها، فلما ردَّاها على أبيهما حدثاه

(4/304)


شأنهما، فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة " انتهى
قال السهيلي: " وفي هذا الخبر زيادة، وهو إن إلياس قال لأمهم - واسمها ليلى، وأمها ضَرِيَّة بنت ربيعة بن نزار التي ينسب إليها حِمَى ضَرِيَّة وقد أقبلت تخندف في مشيها -: مالك تخندفين، فسميت خندف، والْخَنْدَفَة في اللغة: سرعة في مشي، وقال لمدركة: وأنت قد أدركت ما طلبت، وقال لطابخة: وأنت قد أنضجت ما طبخت، وقال لِقَمَعَة وهو عمير: وأنت قد قعدت وانقمعت، وخندف التي عرف بها بنو إلياس هي التي ضربت الأمثال بحزنها على إلياس، وذلك أنها تركت بنيها وساحت في الأرض تبكيه حتى ماتت كمداً، وكان مات يوم خميس، فكانت إذا جاء الخميس بكت من أول النهار إلى آخره، فمما قيل من الشعر في ذلك: إذَا مُؤْنِسٌ لاَحَتْ خَرَاطِيمُ شَمْسِهِ بَكَتْهُ بِهِ حَتَّى تَرَى الشَّمْسَ تَغْرُبُ فمَا ردَّ بَأْساً حُزْنُهَا وَعَوِيلُهَا * وَلَمْ يُغْنِهَا حُزْنٌُ وَنَفْسٌ تعذب وكان يسمون يوم الخميس مؤنساً، قال الزبير: وإنما نُسِبَ بنو إلياس إلى أمهم لأنها حين تركتهم شغلا بحزنها على أبيهم رحمهم الناس، فقالوا: هؤلاء أولاد خندف الذين تركتهم وهم صغار أيتام حتى عرفوا ببنى خندف " انتهى ونقل ابن المستوفي في تسميتها خندف وجهاً آخر، قال: " فقد هم إلياس يوماً، فقال لها: اخرجي في طلب أولادك، فخرجت وعادت بهم، فقالت: ما زلت أُخَنْدِف في طلبهم حتى ظفرت بهم، فقال لها إلياس: أنت خِنْدِف " انتهى وأما إلياس - بنقطتين من تحت - فهو أخو الناس - بالنون - الملقب بعيلان على قول وقول الشارح " يريد بن إلياس - بقطع الهمزة - فوصلها للضرورة " هذا قول ابن الأنباري، وجعَله غريباً مأخوذاً مما يأتي.
ويردُّ على قوله أن فيه ضرورة أخرى وهو حذف التنوين، ولو جعله أعجمياً لم يرد هذا، قال السهيلي في الروض: " قال ابن الأنباري: إلياس بكسر الهمزة، وجعله موافقاً

(4/305)


لاسم إلياس النبي عليه السلام، وقال في اشتقاقه أقوالاً: منها أن يكون فِعْيَالاً من الألْسِ، وهي الخديعة والخيانة ومنها، أن الألْس اختلاط العقل، وأنشدوا: (من البسيط) : * إنِّي إذاً لَضَعِيفُ الْعَقْلِ مَأْلُوسُ * ومنها أنه إفْعَال من قولهم: رجل أَلْيَس، وهو الشجاع الذي لا يفر، والذى قاله غير ابن الأنباري أصح، وهو أنه اليأس، سمي بضد الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة همزة وصل، وقاله قاسم بن ثابت في الدلائل، وأنشد أبياتاً شواهد، منها قول قصي هذا.
ويقال: إنما سمي السُّلُّ " داء ياس " و " داء اليأس " لأن إلياس مات منه، قال ابن هرمة: (من الوافر) يَقُولُ الْعَاذِلُونَ إذَا رَأَوْنِي * أُصِيبَ بِدَاءِ يَأْسٍ فَهْوَ مُودِي وقال ابن أبي عاصية: (من الطويل) فَلَوْ كَانَ دَاءُ اليْأسِ بِيَ وَأَغَاثَنِي * طَبِيبٌ بِأْرْوَاحِ الْعَقِيقِ شَفَانِيا وقول عُرْوة بن حزام: (من الطويل) بِيَ الْيَأَسُ أوْ دَاءُ الْهُيَامِ أصَابَنِي * فَإِيَّاكِ عَنِّي لا يكن بك ما بيا ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تَسُبُّوا إلْيَاسَ فَإِنَّهُ كَانَ مُؤْمِناً ".
وذكر أنه كان يسمع في صلبة تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، وإلياس أوَّل من أَهْدَى الْبُدْن إلى البيت، قال الزبير: وأم إلياس الرباب (1) بنت حَيْدَة بن مُعَدَّ بن عدنان، قاله الطبري، وهو خلاف ما قاله ابن هشام في هذا الكتاب " انتهى والذي قاله ابن هشام أن أم إلياس وعَيْلاَن جُرْهُمِية وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: " هذا الرجز حجة من قال إن
__________
(1) في شرح المفضليات لابن الانباري " الرئاب " بالهمز (*)

(4/306)


إلياس بن مضر اللام فيه للتعريف، وألفه ألف وصل، قال المفضل بن سلمة وقد ذكره إلياس النبي عليه السلام: وأما إلياس بن مضر فألفه ألف وصل، واشتقاقه من اليأس، وهو السّل، وقال الزبير بن بكار: إلياس بن مضر أول من مات من السل، فسمي السل يأساً، ومن قال إن إلياس بن مضر بقطع الألف على لفظ اسم النبي عليه السلام ينشد: * أمهتى خنف إلياس أبى * يعنى لا واو، ثم قال: واشتقاقه من قولهم: رجل ألْيَس: أي شجاع، والألْيَس: الذي لا يفرُّ ولا يبرح من مكانه، وقد تليس أشد التليس، وأسُود لِيسٌ وَلَبُؤَةٌ لَيْسَاء " انتهى كلامه.
وهذا يقتضي أنه عربي، فيكون حذف التنوين منه للضرورة، وأما حذف التنوين من خِنْدِف فللعلمية والتأنيث وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: " إلياس اسم أعجمى، وقد سمت العرب به، وهو إلياس بن مضر، وكان يجب قطع همزته، ألا ترى إلى قوله تعالى (وإن إلياس لمن المرسلين) ؟ لكنه وصلها للضرورة " هذا كلامه وقصيّ ناظم هذا الرجز هو أحد اجداد النبي صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي (1) : " اسمه زيد، وهو تصغير قَصِي: أي بعيد، لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قُضَاعَة حين احتملته أمه فاطمة مع بعلها ربيعة بن حَرَام، فنشأ ولا يعلم لنفسه (أبا) إلا ربيعة، ولا يدعى إلا له، فلما كان غلاماً سابّه رجل من قضاعة فعيره بالدِّعوة، وقال: لست منا، وإنما أنت فينا مُلْصَق، فدخل على أمه وقد وَجَمَ لذلك، فقالت له: يا بني، صدق، إنك لست منهم، ولكن رهطك
خير من رهطه، وآباؤك أشرف من آبائه، وإنما أنت قرشي، وأخوك وبنو عمك بمكة، وهم جيران بيت الله الحرام، فدخل في سيارة حتى أتى مكة، ثم
__________
(1) أنظر الروض الانف (ح 1 ص 6، 84) (*)

(4/307)


تزوج فيها، وأخرج منها خزاعة، وقام بأمرها وأنشد بعده - وهو الشاهد الخمسون بعد المائة -: (من المتقارب) 150 - إذَا الأُمَّهَاتً قَبَحْنَ الوُجُوهَ * فَرَجْتَ الظَّلاَمَ بِأُمَّاتِكَا على أن الأغلب استعمال الأمات في البهائم، والأمهات في الإنسان، وقد جاء العكس كما في البيت، وقَبَحَهُ يقبَحُه - بفتح العين فيهما - بمعنى أخزاه وَشوهه.
والخزي: انكسار يعتري وجه الإنسان بذُل.
والوجوه: مفعول قبح، وأما قبحُ يقبُح - بضم العين فيهما - فهو خلاف حسنُ، وفَرَجَه فَرْجاً من باب ضرب لغة في فرجه تفريجا بمعنى كشفه.
وصف أمهات المخاطب بنقاء الأعراض، وقال: إذا قبَحت الأمهات بفجورهن وجوهَ أولادهن عند الناس كشفتَ الظلام بضياء أفعالهن، والمراد طهارتهن عما يتندس به العرض والبيت لمروان بن الحكم، كذا قاله ابن المستوفي وغيره.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد والخمسون بعد المائة -: (من السريع) 151 - قَوَّالِ مَعْرُوفٍ وَفَعَّالِهِ * عَقَّارِ مَثْنَى أُمَّهَاتِ الرِّبَاعْ لما تقدم قبله، والبيت من قصيدة للسفاح بن بُكَيْرِ اليربوعي رثى بها يحيى بن مَيْسَرَة صاحب مصعب بن الزبير مذكورةٍ في المفضليات، وقبله: يَا سيِّداً مَا أَنْتَ مِنْ سَيِّدٍ * موطأ البنت رَحِيبِ الذِّرَاعْ وقد شرحناهما مع أبيات أخر منها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية
وقوله " قَوَّالِ مَعْرُوف وفعالة * عقارا " الثلاثة بالجر صفات لسيبد مبالغة قائل، وفاعل، وعاقر من العقر، وهو ضرب قوائم الإبل بالسيف، لا يطلق العقر

(4/308)


في غير القوائم، وربما قيل: عقره، إذا نحره فهو عقير، وفِعْله من باب ضرب، وفي رواية * وهّاب مثنى إلخ * والرباع - بالكسر -: جمع رُبَع - بضم ففتح - قال ابن الأنباري: " المعنى أنه لا يقول إلا فَعَل، ولا يعد إلا وفى، ولا يخلف وعداً، والربع واحد الرِّباع، وهو ما نتج في أول النِّتاج، وهو أحمد النتاج، وخص أم الرباع لأنها أطيب الإبل، وقوله " مثنى " أي: واحدة بعد أخرى " انتهى وأنشد بعده: * مَا بَالُ عَيْنِي كالشعيب العين * وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والعشرين من هذا الكتاب وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد المائة -: (من الرجز) 152 - أطْعَمْتُ رَاعِيَّ مِنْ الْيَهْيَرِّ على أن صاحب الصحاح قال: " يَهْيَرُّ يَفْعَلُّ، بمعنى صَمْغِ الطلح، وأنشد متصلاً به فَظَلَّ يَعْوِي (1) حَبِطاً بِشَرِّ * خَلْفَ اسْتِهِ مِثْلَ نَقِيقِ الْهِرِّ ثم قال بعده: وقال الأحمر: الحجر اليَهْيَرُّ: الصُّلْب، ومنه سمى صبغ الطلع يهيرا، وقال أبو بكر بن سراح: ربما زادوا فيه الألف فقالوا يهيرى (2)
__________
(1) كذا في الاصول كلها، وهو موافق لما في اللسان عن أبى عمرو، وفى الصحاح و " يغرى " مضارع أغراه بالشئ إغراء (2) في اللسان: " يقال للرجل إذا سألته عن شئ فأخطأ: ذهبت في اليهيرى، وأين تذهب تذهب في اليهيرى، وأنشد: لما رأت شيخا لها دودرى * في مثل خيط العهن المعرى
ظلت كأن وجهها يحمرا * تربد في الباطل واليهيرى والدودرى: من قولك: فرس درير: أي جواد " اه (*)

(4/309)


قال: وهو من أسماء الباطل، وقولهم: أكذب من اليهيرهو السراب " انتهى.
وقال الصاغاني في العباب بعد ما ذُكِر: " وقال الليث: اليهير حجارة أمثالُ الكف، ويقال: دويبة تكون في الصحاري أعظم من الجرز، الواحدة يهيرة، قال: واختلفوا في تقديرها، فقالوا: يفعلة، وقالوا فعللة، وقالوا فَعْيَلَّة " انتهى.
فحكى ثلاثة أقوال: أصاله الياءين، أصالة الأولى، أصالة الثانية: والطَّلْح الموز، وشجر من شجر العَضَاة، و " يعوي " من عوى الكلب والذئب وابن آوى يعوي عُوَاءً: أي صاح، وحبط - بفتح المهملة وكسر الموحدة - وصف من الْحَبَطِ - بفتحتين -: وهو أن تأكل الماشية فتُكْثِر حتى ينتفخ لذلك بطنها ولا يخرج عنها ما فيها.
والنقيق: صوت الضفدع والدجاجة، وفي العُباب " يقال: نقت الضفدع تنِق - بالكسر - نقيقاً: أي صاحت، ويقال أيضاً: نقت الدجاجة، وربما قيل للهر أيضاً " وأنشد هذا الرجز ومراده الصراط، ولم يكتب ابن بري في أماليه على الصحاح هنا شيئاً، ولم أقف على قائله، والله تعالى أعلم الامالة أنشد فيها - وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد المائة -: (من المنسرح) 153 - * أنَّى وَمِنْ أيْنَ آبَكَ الطَّرَبُ * وهو صدر، وعجزه: * مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلاَ رِيَبُ * على أن " أنَّى " فيه للاستفهام، بمعنى كيف، أو بمعنى مِن أيْنَ، والجملة
المستفهم عنها محذوفة، لدلالة ما بعده عليها، والتقدير أنى آبك، ومن أين آبك فحذف للعلم به، واكتفى بالثاني.
وأنشده الزمخشري في المفصل في غير باب الإمالة على أن فيه " أنَّى " بمعنى

(4/310)


كيف، كقوله تعالى (فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ) قال ابن يعيش: " الشاهد فيه أنى بمعنى كيف، ألا ترى أنه لا يحسن أن تكون بمعنى من أين؟ لأن بعدها من أين، فيكون تكريراً، ويجوز أن تكون بمعنى من أين، وكررت على سبيل التوكيد، وحَسُنَ التكرار لاختلاف اللفظين، فاعرفه " انتهى.
وأورده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى: (أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ) على أن أنَّى فيهما بمعنى كيف.
وآبك: جاءك وغشيك، وهو فعل ماضى من الأوْب، والطرب: خفة من فرح أو حزن، والمراد الأول.
والصبوة: الصِّبى، والشوق.
والرِّيَب: جمع ريبة وهي الشبهة.
يقول: كيف طربت مع كبر سِنِّك من حيث لا يوجد الطرب ومواضعه؟ الصبوة للفرح، والرِّيَب للحزن، وعدَّد ما يقع معه الطرب، فقال: لاَ مِنْ طِلاَبِ الْمُحَجَّبَاتِ إذَا * أُلْقِيَ دُونَ الْمَعَاصِرِ الْحُجُبُ إلى أن انتهى إلى قوله: * فَاعْتَتَبَ الشوق * والعامل في " أنى " آبك المحذوفة والبيت مطلع قصيدة للكميت بن زيد الأسدي، رضي الله عنه، مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَدَّد بعده ما يقع منه الطرب وأطال، وذكر غيره، فقال: فَاعْتَتَبَ الشَّوْقُ من فؤادي * والشعر إلَى مَنْ إِلَيْهِ مُعْتَتَبُ إلى السَّرَاجِ الْمُنِيرِ أحْمَدَ لاَ * تَعْدِلُنِي رَغْبَةٌ وَلاَ رَهَبُ
عَنْهُ إلَى غيره ولو رفع * الناس إلَيَّ الْعُيُون وَارْتَقَبُوا وَقِيلَ: أَفْرَطْتَ، بَلْ قَصَدْتَ وَلَوْ * عَنَّفَنِي الْقَائِلُونَ أوْ ثَلَبُوا إلَيْكَ يَا خَيْرَ من تضمنت * الارض وَلَوْ عَابَ قَوْلِي الْعُيَبُ لَجَّ بِتَفْضِيلِكَ اللِّسَانُ واو * أُكْثِرَ فِيكَ الضِّجَاجُ وَالصَّخَبُ

(4/311)


في الصحاح: " الاعتتاب: الانصراف عن الشئ " وأنشد هذا البيت وثلبه ثلباً، إذا صَرَّح بالعيب وتنقّصه، وفيه أيضا: " الصخب: الصياخ والجلبة، تقول منه: صَخِب - بالكسر - فهو صاخب ".
قال السيد المرتضى في أماليه وابن رشيق في العمدة: " وقد عيب عليه هذا المدح، قالوا: من هذا الذى يقول في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرطت، أو يعنفه ويثلبه ويعيبه، حتى يكثر الضِّجَاج والصخب، هذا كله خطأ منه وجهل بمواقع المدح " وقال من احتج له: " لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليّاً كرَّم الله وجهه، فَوَرَّى عنه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من بني أمية " وقال السيد: " فوجّه القول إليه صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، إذ مراده وإن أكثر في مدح أهل بيته وذريته عليه السلام الضِّجاج والتقريع والتعنيف " والقصيدة طويلة تزيد على مائة وثلاثين بيتاً وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد الرابع والخمسون بعد المائة - (من الرجز) 154 - * بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ * على أن يجوز تثنية الجمع، لتأويله بالجماعتين واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى: (اثنتى عشرة أسباطا) على جمع الأسباط، مع أن مميز ما عدا العشرة لا يكون مفرداً، لأن المراد بالأسباط القبيلة، ولو قيل سِبْطاً لأوهم أن المجموع قبيلة واحدة، فوضع
(أسباطاً) موضع قبيلة، كما وضع الرماح وهو جمع رمح موضع جماعتين من الرماح، وثنى على تأويل رماح هذه القبيلة ورماح هذه القبيلة، فالمراد لكل فرد من أفراد هذه التثنية جماعة، كما أن لكل فرد من أفراد هذا الجمع - وهو أسباط - قبيلة

(4/312)


والبيت من أرجوزة طويلة لأبي النجم العِجْلي أولها: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الأَجْلَلِ * الْوَاسِعِ الْفَضْلِ الْوَهُوبِ الْمُجْزِلِ أعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ * كرم الذُّرَى مِنْ خَوَلِ الْمُخْوِّلِ تَبَقَّلَتْ مِنْ أوَّلِ التَّبَقُّلِ * بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ وَنَهْشَلِ والْبُخْل: منع السائل مما يفضل، والمبخَّل: مِنْ بَخّله - بالتشديد - إذا نسبه إلى البخل، وأما أبْخَلَه بالهمزة فمعناه وجده بخيلاً، و " كوم الذرى " مفعول أعطى، وهو جمع كَوْمَاء - بالفتح والمد - وهي الناقة العظيمة السنام، والذّرى بالضم: جمع ذُرْوَة - بالكسر والضم -: أعلى السِّنَام، والْخَوَلُ - بفتح المعجمة والواو -: العطية، والمخوِّل: اسم فاعل من خَوَّله تخويلاً، إذا أعطاه وملكه، وتبقلت: رعت الْبَقْل، وهو كل نبات يأكله الإنسان والحيوان، وفاعل " تبقلت " ضمير كوم الذرى، ومالك: قبيلة من هوازن، ونهشل: قبيلة من ربيعة، قال الأصبهاني في الأغاني: " إنما ذكر هاتين القبيلتين لأنه كانت دماء وحروب بينهما، فتحامى جميعهم الرعى فيما بين فَلْج والصَّمَّان - وهما موضعان في طريق الحج من البصرة - مخافة الشر، حتى كثر النبت وطال، فجاءت بنو عجل لعزها وقوتها إلى ذَيْنكَ الموضعين فرعته ولم تخف رماح هذين الحيَّيْن، ففخر به أبو النجم ".
وبين: ظرف متعلق بقوله " تبقلت " وقد تكلمنا على هذه الأبيات وأبيات أخر من هذه الأرجوزة بأبسط
مما هنا مع ترجمة أبي النجم في الشاهد الثامن والأربعين بعد المائة من شواهد شرح الكافية تخفيف الهمزة أنشد فيه - وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد المائة -: (من الكامل)

(4/313)


155 - ما شد أنفسهم وأعلمهم بما * يحمي الذمار بِهِ الْكَرِيمُ الْمُسْلِم على أن أصله " ما أشد أنفسهم " فحذفت الألف لضرورة الشعر، وأنشده ابن عصفور في كتاب الضرائر لذلك، وقال المرادي في شرح التسهيل: حذف الألف في هذا البيت نادر، وهو تعجب من شدة أنفسهم، من شَدَّ الشئ يَشدُّ - من باب ضربَ - شِدَّةً، إذا قوي، وكذا تعجب من كثرة علمهم بما ذكر، وحَمَيْتُ الشئ من كذا - من باب رمى - إذا منعته عنه وصنته، والذمار مفعوله، والكريم فاعله، والذمار - بكسر الذال المعجمة - قال صاحب الصحاح: وقولهم فلان حامي الذمار: إي إذا ذُمِّرَ غضبَ وَحَمَى، وفلان أمنع ذماراً من فلان، ويقال: الذمار ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه، وسمي ذماراً لأنه يجب على أهله التذمر له وهو من قولهم: ظَلَّ يتذمر على فلان، إذا تنكر له وأوعده.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السادس والخمسون بعد المائة -: (من المتقارب) 156 - أرَيْتَ امْرَأً كُنْتُ لَمْ أَبْلُهُ * أتَانِي فَقَالَ اتَّخِذْنِي خَلِيلاَ على أن أصله " أرأيت " فحذفت الهمزة، وهي عين الفعل، والهمزة الاولى للاستفهام، ورأيت: بمعنى أخبرني، وفيه تجوز إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار،
لأن الرؤية سبب الإخبار، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب، والرؤية هنا منقولة من رؤية البصر، ولهذا تعدت إلى مفعول واحد، ولم أبْلُهُ - بضم اللام والهاء - من بَلاَه يَبْلُوه بَلْواً، إذا جربه واختبره، والخليل: الصديق الخالص المودة، وأراد به هنا امرأته

(4/314)


البيت من أبيات لأبي الأسود الدؤلي، روى الأصبهاني في الأغاني، قال: كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة، فيتحدث إليها، وكانت جميلة، فقالت: يا أبا الأسود، هل لك أن أتزوجك فإني صناع الكف حسنة التدبير قانعة بالميسور؟ قال: نعم، فجمع أهلها وتزوجته، فوجدها بخلاف ما قالت، وأسرعت في ماله، ومدت يدها إلى جبايته، وأفشت سره، فغدا على من كان حضر تزويجها، فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا، فقال لهم: أرَيْتَ امرأ كنت لم أبله * أتَانِي فَقَالَ: اتَّخِذْنِي خَلِيلاَ فَخَالَلْتُهُ ثُمَّ أَكْرَمْتُهُ * فَلَمْ أسْتَفِدْ مِنْ لديه فتيلا وألفيته حبن جَرَّبْتُهُ * كَذُوبَ الْحَدِيثِ سَرُوقاً بَخِيلاَ فَذَكَّرْتُهُ ثُمَّ عَاتَبْتُهُ * عِتَاباً رَفِيقاً وَقَوْلاً جَمِيلاَ فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ * وَلاَ ذَاكِرِ الله إلاَّ قَلِيلاَ ألَسْتُ حَقِيقاً بِتَوْدِيعِهِ * وَإتْبَاعِ ذَلِكَ صُرْماً طَوِيلاَ فقالوا: بلى والله يا أبا الأسود، فقال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها، وأنا أحب أن أستر ما أنكرته من أمرها، فانصرفت معهم " انتهى وخاللته: اتخذته خليلا، والفتيل: الشئ الحقير، والرفيق: من الرِّفق، وهو ضد العُنْف، وألفيته: وجدته، يتعدى إلى مفعولين، ومستعتب: اسم فاعل، وهو الراجع بالعتاب، وحذف التنوين للضرورة من " ذاكِرِ الله "، ولفظ الجلالة
منصوب، وروي بالإضافة، والتوديع: هنا الترك والفراق، والصوم - بالضم -: الهجر.
وقد تكلمنا على هذه الأبيات بأبسط مما هنا في الشاهد الثاني والأربعين بعد التسعمائة من شواهد شرح الكافية

(4/315)


وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والخمسون بعد المائة -: (من الخفيف) 157 - صَاحِ هَل رَيْتَ أوْ سَمِعْتَ براع رد في الضرع ما قَرَى فِي الْعِلاَبِ على أن أصله " هل رأيت " فحذفت الهمزة واستشهد به صاحب الكشاف على قراءة الكسائي (أرَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين) وروي: * صَاحِ أبْصَرْتَ أوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ * وعلى هذا لا شاهد فيه، ومعناه كقول المتنبي: (من الوافر) وَمَا مَاضِي الشَّبَابِ بِمُسْتَرَدٍ * وَمَا يَوْمٌ يَمُرُّ بِمُسْتَعَادِ وصاح: منادى مرخم صاحب، وهل ريت: استفهام إنكاري، ويجوز أن يكون تقريريا، وقوله " براع " متعلق بمسعت، وسمع له استعمالات أربعة ذكرناها في شواهد شرح الكافية: منها أن يتعدى بالباء، ومعناه الإخبار، ويدخل على غير المسموع، ولا يحتاج إلى مصحح من صفة ونحوه، تقول: ما سمعت بأفضل منه، وفي المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، قابله بالرؤية لأنه بمعنى الإخبار عنه المتضمن للغيبة، وقال الشاعر (من البسيط) وَقَد سَمِعْتُ بِقَوْمٍ يُحْمَدُونَ فَلَمْ * أسْمَعْ بِمِثْلِكَ لاَ حِلْماً وَلاَ جُودَا والراعي: الذي يرعى الماشية، ومن شأنه أن يحلبها، ورده: رجعه، والضَّرع
لذوات الظلف كالثدي للمرأة، والظِّلْف - بالكسر - من الشاء والبقر ونحوهما كالظفر من الإنسان، وما: مفعول رد، وهو اسم موصول: أي اللبن الذي قراه: أي جمعه، والعلاب - بكسر العين المهملة - جمع عُلْبة - بضمها وهي محلب من جلد، وقال ابن دريد في الجمهرة: " الْعُلْبَة: إناء من جلد جِنْبِ بعير، وربما كان من أديم، والجمع علاب، يتخذ كالعُسِّ، يحتلب فيه " وأنشد هذا البيت (1) ،
__________
(1) قبل أن ينشد البيت قال: " أحسب هذا البيت للربيع بن ضبع الفزارى " (*)

(4/316)


وروى " في الحِلاَب " بكسر الحاء المهملة، قال صاحب العباب: الإناء الذي يحلب فيه، وأنشد هذا البيت لاسماعيل بن يسار النِّسائي، ونقل خَضِر الموصلي من الصحاح أنه لا سماعيل المذكور، وهذا لا أصل له، فإنه لم ينشده إلا في مادة الرؤية، ولم ينشده إلا غفلاً غير معزو، ولهذا قال ابن بري في أمالية عليه: هذا البيت مجهول لا يعرف قائله، وقد أورده صاحب الأغاني في قصيدة لإسماعيل أولها: مَا عَلَى رَسْمِ مَنْزِلٍ بِالْجَنَابِ * لَوْ أبَانَ الْغَدَاةَ رَجْعَ الْجَوَابِ غَيَّرْتْهُ الصَّبا وَكُلُّ مُلِثٍّ * دَائمِ الْوَدْقِ مُكْفَهِرِّ السَّحَابِ دَارَ هِنْدٍ وَهُلْ زَمَانِي بِهِنْدٍ * عَائِدٌ بِالْهَوَى وَصَفْوِ الْجنَابِ كَالَّذِي كَانَ وَالصِّفَاءُ مَصُونٌ * لَمْ تَشِنْهُ (1) بِهِجْرَةٍ واجْتِنَابِ ذَاكَ مِنْهَا إذْ أنْتَ كَالْغُصْنِ غَضًّا (2) وَهْيَ رُودٌ كَدُمْيَةِ الْمِحْرَابِ غَادَةٌ تَسْتَبِي الْعُقُولَ بِثَغْرٍ (3) * طَيِّبِ الطَّعْمِ بَارِدِ الأَنْيَابِ وَأثيثٍ مِنْ فَوْقِ لَوْنٍ نَقِيٍّ * كَبَياضِ اللُّجَيْنِ في الزِّرْيَابِ فأَقِلَّ الْمَلاَمَ فِيهَا وأقْصِرْ *
لَجَّ قَلْبي منْ لَوْعَتِي وَاكْتِئَابيِ (4)
__________
(1) في الاغانى (ح 4 ص 411) : " لم تشبه " (2) في الاغانى " غض " (3) في الاغانى " بعذب " (4) في الاغانى: " من لوعة واكتئاب " وفى نسخة أخرى من الاغانى: " من عولتى وَاكْتِئَابيِ " (*)

(4/317)


صَاحِ أَبْصَرْتَ أَوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ * رَدَّ في الضرع ما قرى في الحلاب (1) وقال فيما يفخر عَلَى العرب بالعجم: رُبَّ خَالٍ مُتَوَّجٍ لِي وَعَمٍّ * مَاجِدِ الّمُجْتَدَى (2) كَرِيمِ النِّصَابِ إنَّمَا سُمِّيَ الفوارس بالفرس * مضاهاة رفعة الانساب فاتزكى الْفَخْرَ يَا أُمَامُ عَلَيْنَا * وَاتْرُكِي الْجَوْرَ وَانْطِقِي (3) بِالصَّوَابِ إذْ نُرَبِّي بناتنا وتدسون * سفاها ببالكم فِي التُّرَابِ قال صاحب الأغاني: " كان إسماعيل بن يسار النِّسَائي مولى بني تيم بن مرة تيم قريش، وكان منقطعاً إلى ابن الزبير، فلما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وفد إليه مع عُرْوَة بن الزبير، ومدحه، ومدح الخلفاء من ولده، وعاش عمراً طويلاً إلى أن أدرك آخر سلطان بني أمية، ولم يدرك الدولة العباسية وإنما سمي إسماعيل بن يسار النِّسَائيَّ لأن أباه كان يصنع طعام العرس ويبيعه، فيشتره منه من أراد التعريس (من المتجملين و) (4) ممن لا تبلغ حاله اصطناع ذلك، وقيل: إنما سمي به لأنه كان يبيع النَّجْد والفُرْشَ التي تتخذ
للعرائس، وقيل: إنما لقب به لأن أباه كان يكون عنده طعام العرسات مصلحاً أبداً، فمن طرقه وجده عنده معدا
__________
(1) في الاغانى: " في العلاب " (2) في الاغانى: " ماجد مجتدى " (3) في الاصول: " وانصفى " والصواب ما أثبتناه (4) الزيادة عن الاغانى (ح 4 ص 408) (*)

(4/318)


وروى المدائني قال: استأذن إسماعيل على الغَمْر بن يزيد بن عبد الملك يوماً فحجبه ساعة، ثم أذن له، فدخل يبكي، فقال له: مالك تبكي؟ قال: كيف لا أبكي وأنا على مَروَانِيتي ومروانية أبي أحجب عنك؟ فجعل الغَمْر يعتذر إليه، وهو يبكي، فما سكت حتى وصله الغَمْر بحلة لها قدر، وخرج من عنده، فلحقه رجل، فقال له: أخبرني - ويلك يا إسماعيل - أيُّ مروانية كانت لك ولأبيك؟ قال: بُغْضُنَا إياهم، امرأته طالق إن لم يكن يلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: لعن الله مروان، تقرباً بذلك إلى الله، وإقامة له مقام التوحيد وكان إسماعيل يكنى أبا فائد، وكان أخواه محمد وإبراهيم شاعرين أيضاً، وهم من سبي فارس، وكان إسماعيل شُعُوبيّاً (1) شديد التعصب للعجم، له شعر كثير يفخر بالأعاجم، أنشد يوماً في مجلس فيه أشعيب: إذ نربى بناتنا وتدسون * سَفَاهاً بَنَاتِكُمْ فِي التُّرَابِ فقال أشعب: صدقت والله يا أبا فائد، أراد القوم بناتهم لغير ما أردتموهن له، قال: وما ذاك؟ قال: دفن القوم بناتهم خوفاً من العار عليهن، وربيتموهن لتنكحوهن، فضحك القوم حتى استغربوا، وخجل إسماعيل، حتى
لو قدر أن يسيخ في الأرض لفعل ومدح إسماعيل رجلاً من أهل المدينة يقال له عبد الله بن أنس، وكان قد لحق ببنى مروان، وأصاب منهم خيراً، وكان إسماعيل صديقاً له فرحل إليه إلى دمشق، فأنشده مدائح له، ومَتَّ إليه بالجوار والصداقة فلم يعطه شيئاً، فقال يهجوه (من الوافر)
__________
(1) الشعوبى - بضم الشين -: الرجل الذى يحتقر أمر العرب ويصغر من شأنهم، وهو منسوب إلى شعوب، وهو جمع شعب، والنسب إلى الجمع مما أجازه الكوفيون.
(*)

(4/319)


لَعَمْرُكَ مَا إلَى حَسَن رَحَلْنَا * ولا زرنا حُسَيْناً يَا ابْنَ أنْسِ وَلاَ عَبْداً لِعَبدِهِمَا فَنَحْظَى * بِحُسْنِ الْحَظِّ مِنْهُمْ غَيْرَ بَخْسِ وَلَكِنْ ضَبَّ جَنْدَلَةٍ أتَيْنَا * مُضِبّاً فِي مَكَامِنِهِ يُفَسِّي فَلَمَّا أنْ أتَيْنَاهُ وَقُلْنَا * بَحَاجَتِنا تَلَوَّنَ لَوْنَ وَرْسِ فَقُلْتُ لِأَهْلِهِ: أبِهِ كُزَازٌ؟ * وَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أتْرَاهُ يُمْسي؟ فَكَانَ الْغُنْمُ أنْ قُمْنَا جَمِيعاً * مَخَافَةَ أنُ نُزَنَّ بِقَتْلِ نَفْسِ وترجمته في الأغاني طويلة، واكتفينا منها بهذا القدر وقال خضر الموصلي في شرح أبيات التفسيرين: البيت الشاهد لمُضَاضِ ابن عَمْرو الجرهمي، من أبيات أولها: قَدْ قَطَعْتُ الْبِلاَدَ فِي طلب الثروة وَالمَجْدِ قَالِصَ الأَثْوَابِ وَسَرَيْتُ الْبِلاَدَ قَفْراً لِقَفْرٍ * بِقَنَاتِي وَقُوَّتِي وَاكْتِسَابِي فَأَصَابَ الرَّدَى بَنَاتِ فُؤَادِي * بِسِهَامٍ مِنَ الْمَنَايَا صُيَابِي فَانْقَضَتْ شرَّتِي وَأقْصرَ جَهْلِي * وَاسْتَرَاحَتْ عَوَاذِلِي مِنْ عِتَابِي
وَدَفَعْتُ السَّفَاهَ بِالْحِلْمِ لَمَّا * نَزَلَ الشَّيْبُ فِي مَحَلِّ الشَّبَابِ صَاحَ هَلْ رَيْتَ أوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ * ... البيت وقال السهيلي في الأرض الأنف (1) : " كان عبد الله بن جدعان في ابتداء أمرء صُعْلًُوكاً وكان مع ذلك شِرِّيراً فاتكاً لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته ونفاه أبوه، فخرج في شعاب مكة حائراً يتمنى الموت، فرأى شقاً في جبل فظن حية فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله، فدخل فيه فإذا به ثعبان عظيم له عينان كالسِّرَاجَين، فحمل عليه الثعبان فأفرج له فانساب عنه، فوقع في قلبه أنه مصنوع، فأمسكه بيده فإذا هو مصنوع من
__________
(1) أنظر الروض الانف (ح 1 ص 92) (*)

(4/320)


ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره وأخذ عينيه، ودخل البيت فإذا جُثَث على سُرُر طِوال (1) لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رؤسهم لوح من فضة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جُرْهُم، وآخرهم موتاً الحارث بن مُضَاض، وعليهم ثياب لا يُمَس منها شئ إلا انتثر كالهباء من طول الزمن، وشعرٌ مكتوب (في اللوح) فيه عظات، آخر بيت منه: صَاحَ هَلْ رَيْتَ أوْ سَمِعْتَ بِرَاعٍ ... البيت وقال ابن هشام: " كان اللوح من رخام، وفيه: أنا نُفَيْلة بن عبد الْمَدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جُرْهم بن قحطان بن هود نبي الله عليه صلوات الله، عشت خمسمائة عام وقطعت الأرض في طلب الثروة والمجد والملك، فلم يكن ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب الأبيات السابقة: * قَدْ قَطَعْتُ الْبِلاَدَ ... إلى آخرها * وفي ذلك (البيت) كَوْمٌ عظيم من اليواقيت والزَبَرْجَد والذهب والفضة،
فأخذ منه ما أخذ، ثم علَّم على الشَّق بعلامة وَأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به ليسترضيه، ووصل عشيرته كلهم فَسَادَهُمْ، وجعل ينفق من الكنز ويطعم الناس ويفعل المعروف، حتى ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستظل في الهاجرة بظل جَفْنَته، وكانت بحيث يأكل منها الراكب على بعيره، وسقط فيها مرة غلام فغرق فيها فمات ومُضَاض بن عمرو الجُرْهمي جاهلي، من شعره المشهور من قصيدة: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلى الصَّفَا * أنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ " انتهى ما أورده الموصلي باختصار
__________
(1) في الاصول " على سرير طويل " والتصحيح عن الروض الانف (*)

(4/321)


ورأيت هذه الأبيات لأبي نُفَيْلة وكان من الْمُعْمَّرِين وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والخمسون بعد المائة -: (من الطويل) 158 - إذَا قَامَ قَوْمٌ يأسلون مليكهم * عطاء فدهماء الَّذِي أنَا سَائِلَه على أنه قدم فيه الهمزة التي هي عين الفعل على السين التي هي فاء الفعل، للاستكراه من تخفيفها بالحذف لو أبقيت على حالها و " الذي " مبتدأ، وجملة " أنا سائله " من المبتدأ والخبر صلة الموصول، ودهماء - وهي اسم امرأة - خبر الذى، والجمل جواب إذا، و " دَهْمَاء " يحتمل أن يكون اسم امرأة، ويحتمل أن يكون اسم فرس (1) وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والخمسون بعد المائة -: (من الوافر) 159 - أُرِي عَيْنَي ما لم تَرْأياهُ * كِلاَنَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ على أنه جاء لضرورة الشعر إثبات الهمزة في " تَرْأياه " والقياس نقل
حركتها إلى الراء وحذفها، قال ابن جني في سر الصناعة: " وقد رواه أبو الحسن " ما لَمْ تَرَيَاه " على التخفيف الشائع عنهم في هذا الحرف " انتهى وقال في المحتسَب من سورة البقرة: " قرأ أبو عبد الرحمن السلمي (أَلَمْ ترأ إلى الملا) ساكنة الراء، وهذا لعمري أصل هذا الحرف، رأى يرأى كرعى يرعى، إلا أن أكثر لغات العرب فيه تخفيف بحذفها وإلقاء حركتها على الراء قبلها، وصار حرف المضارعة كأنه بدل من الهمزة، وكذلك أفْعَلُ مِنْهُ كقوله تعالى (لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بما أراك الله " أصله أرآك الله، وحكاها صاحب الكتاب عن أبي الخطاب، ثم إنه قد جاء مع هذا تحقيق هذه الهمزة وإخراجها على أصلها كقوله:
__________
(1) قد اضطرب كلام المؤلف هنا، فتأمله.
(*)

(4/322)


* أُرِي عَيْنَي مَا لَمْ تَرْأيَاهُ * فخفف أُري وحقق ترأياه، ورواه أبو الحسن " تَرَيَاه " على زحاف الوافر، وأصله " ترأياه " على أن مُفَاعَلَتُنْ لحقها العصب بسكون لامها، فنقلت إلى مفاعيلن، ورواية أبى الحسن " يمالت " مفاعيلُ، فصار الجُزء بعد العصب إلى النقص " انتهى.
وقال الزجاجي في أمالية الكبرى (1) : " أما قوله ترأياه فإنه إلى أصله، والعرب لم تستعمل يرى وترى ونرى وأرى إلا بإسقاط الهمزة تخفيفاً، فأما في الماضي فإنها مثبتة، وكان المازني يقول: الاختيار عند أن أرْوِيه " لَمْ تَرَيَاه " بغير همز، لأن الزحاف أيسر من رَدِّ هذا إلى أصله، وكذلك كان ينشد قول الآخر: (من الطول) ألم تر ما لا قيت وَالدَهْرُ أعْصُرٌ * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْأ ويَسْمَعُ
بتخفيف الهمزة (2) " انتهى.
__________
(1) انظر أمالى أبى القاسم الزجاجي (ص 57) طبع مصر سنة 1324 (2) قوله " بتخفيف الهمزة " كذا في جميع الاصول، والمراد الهمزة التى في " ألم تر " وأصله " ألم ترأ " ووقع في أمالى الزجاجي " بتحقيق الهمزة " وهى صواب أيضا، والمراد الهمزة التى في قوله " يرأ ويسمع "، ويدل لصحة ما ذكرنا - من أن الرواية في عجز البيت بالتحقيق وفى صدره به أو بالتخفيف - قول شيخ هذه الصناعة أبى الفتح بن جنى في سر الصناعة: وقرأت على أبي على في نوادر أبي زيد * ألَمْ ترَ مَا لاقيت ... البيت * كذا قرأته عليه مخففا، ورواه غيره ألم ترأ ما لاقيت ... * (*)

(4/323)


وقال قبل هذا (1) " أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حَمْدان البصري وأبو غانم الغنوي قالا: أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الْحُباب (الْجُمَحِي) عن محمد بن سلام، قال: كان سراقة البارقي شاعرا ظريفا زوارا للملوك حلو الحديث، فخرج في جملة من خرج لقتال المختار فوقع أسيراً فأتى به المختار، فلما وقف بين يديه قال: يا أمين آل محمد (2) إنه لم يأسرني أحد ممن بين يديك، قال: ويحك! فمن أسرك؟ قال: رأيت رجالاً على خيل بُلْق يقاتلوننا ما أراهم الساعة: هم الذين أسروني، فقال المختار لأصحابه: إن عدوكم يرى من هذا الامر ما لاترون، ثم أمر بقتله، فقال: يا آمين آل محمد (2) : إنك لتعلم أنه ما هذا أوان تقتلني فيه، قال: فمتى أقتلك؟ قال: إذا فَتَحْتَ دِمَشْق ونقضتها حجراً ثم جلست على كرسي في أحد أبوابها، فهناك تدعوني فتقتُلني وتَصْلِبُنِي، فقال المختار: صدقت، ثم
التفت إلى صاحب شُرْطته، فقال: ويحك! من يخرج سري إلى الناس، ثم أمر بتخليه سراقة، فلما أفلت أنشأ يقول - وكان المختار يكنى أبا إسحق -: ألاَ أبلِغْ أبا إسحق أنِّي * رَأَيْتُ الْبُلْقَ دُهْماً مُصْمَتَاتِ أُرِي عَيْنَيَّ ما لم ترأياه * كلانا عالم بالترهات
__________
(1) وقرأت عليه أيضا: ثم استمر بها شيخان بمتجح * بالبين منك بما يرآك شنئانا بوزن يرعاك، ووزن " يرأ " يرع، كما أن وزن " ترأياه " ترعياه، هذا كله على التحقيق المرفوض في هذه الكلمة في غالب الأمر وشائِع الاستعمال " اه (1) انظر أمالى الزجاجي (ص 56) (2) في أمالى الزجاجي " يا أمير آل محمد " وما هنا أوضح (*)

(4/324)


كَفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْراً (1) عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى الْمَمَاتِ " انتهى كلام الزجاجي وحديث القتل وفتح دمشق نسبه الجاحظ لغير سراقة، قال في كتاب المحاسن والأضداد في فضل محاسن الدهاء والحيل: " الهيثم بن الحسن بن عمارن، قال: قدم شيخ من خزاعة أيام المختار، فنزل على عبد الرحمن بن أبان الخزاعي، فلما رأى ما يصنع سوقة المختار بالمختار من الإعظام جعل يقول: يا عباد الله، أبا لمختار يصنع هذا؟ والله لقد رأيته يتبع الإماء بالحجاز (2) فبلغ ذلك المختار، فدعا به وقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: الباطل، فأمر بضرب عنقه، فقال: لا والله لا تقدر على ذلك، قال: ولم؟ قال: أمّا دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجراً حجراً وقتلت المقاتلة وسبيت الذرية ثم تصلبني على شجرة على
نهر (فلا) (3) والله إني لأعرف الشجرة الساعة، وأعرف شاطئ ذلك النهر، فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم: أمَا إن الرجل قد عرف الشجرة، فحبس، حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال: يا أخا خُزاعة، أو مُزاح عند القتل؟ قال: أنشدك الله أن أقتل ضياعاً، قال: وما تطلب ها هنا؟ قال: أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني، قال: ادفعوا له بذلك، وإياك أن تصبح بالكوفة، فقبضها وخرج، وعنه قال: كان سراقة البارقيّ من ظرفاء أهل الكوفة، فأسره رجل من أصحاب المختار فأتى به المختار فقال له: أسرك هذا؟ قال سراقة: كذب، والله ما أسرني إلا رجل على ثياب بيض على فرس أبلق، فقال المختار: أما إن الرجل قد عاين الملائكة، خلوا سبيله، فلما أفلت أنشأ يقول:
__________
(1) في أمالى الزجاجي " ورأيت نذرا " (2) في نسخة " رأيته بالحجاز يتبع الاماء " (3) زيادة لابد منها (*)

(4/325)


* ألا أبلغ أبا إسحق ... * إلى آخر الأبيات الثلاثة.
وكذا روى هذه الحكاية الأصبهاني في الأغاني من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي.
وفي هذه الروايات اختصار، فإن هذه الأبيات قالها بعد ما أسر ثَالثاً، قال ابن عبد ربه وفى العقد الفريد (1) : أبو حاتم قال: حدثنا أبو عبيدة، قال: أُخِذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جَبَّانة السَّبيع (2) فَقُدِّم في الأسرى إلى المختار، فقال: (من الرجز) امننن عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ معَدْ * يَا خَيْرَ مَنْ لَبَّى وصًلَّى وَسَجَدْ فعفى عنه المختار وخلى سبيله، ثم خرج مع (إسحق) ابن الأشعث، فأُتى به
المختار أسيراً، فقال له: ألم أعف عنك وأمنُنْ عليك؟ أما والله لأقتلنك، قال: لا، والله لا تفعل إن شاء الله، قال: ولم؟ قال: لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معكم، ثم أنشده: (من الوافر) ألا أبلغ أبا إسحق أنَّا * حَمَلْنَا حَمْلَةً كَانَتْ عَلَيْنَا (3) خَرَجْنَا لاَ نَرَى الضُّعَفَاءَ شَيْئاً (4) * وَكَانَ خُرُوجُنَا بَطَراً وَحَيْنَا (5) نَرَاهُمْ فِي مَصَفِّهُمُ قَلِيلاً * وَهُمْ مِثْلُ الدَّبَا لَمَّا الْتَقَيْنَا فَأسْجحْ إذْ قَدَرْتَ فَلَوْ قَدَرْنَا * لَجُرْنَا في الْحُكُومَةِ واعْتَدَيْنَا تَقَبَّل تَوْبَةً مِنِّي، فإنى * سأشكر إن جعلت النقد دينا
__________
(1) انظر العقد (ج 1 ص 183) طبع بولاق (2) جبانة السبيع: محلة بالكوفة، وكانت فيها وقعة المختار بن عبيد الخارجي (3) في عيون الاخبار (ح 1 ص 203) : " نزونا نزوة " (4) كذا في الاصل وهو الموافق لما في عيون الاخبار، وفى العقد " منا " وهو تحريف (5) في الاصول " بطرا علينا " وهو خطأ (*)

(4/326)


قال: فخلى سبيله، ثم خرج (إسحق) ابن الأشعث ومعه سراقة فأخذ أسيراً وأتى به المختار، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك، يا عدو الله، هذه ثالثة، فقال سراقة: أما والله ما هؤلاء الذين أخذوني، فأين هم؟ لا أراهم! إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب بيض وتحتهم خيل بُلْق تطير بين السماء والأرض، فقال المختار: خلوا سبيله ليخبر الناس، ثم عاد (1) لقتاله، فقال: ألاَ من مُبَلِّغُ الْمُخْتَارِ عَنِّي * بِأَنَّ الْبُلْقَ دُهْمٌ مُضْمَرَاتِ أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرَأيَاهُ * إلخ الشعر " انتهى
وقوله " رأيت الْبُلْقَ دُهْماً إلخ " هو جمع أبْلَق وَبلقاء، وأراد الخيل الْبُلْق، وهي ما فيها بياض وسواد، ودهم: جمع أدهم ودَهْماء، من الدُّهْمَة - بالضم - وهي السواد، وأراد أن الخيل الْبُلْق التي ذكرت أنها تطير إنما هي خيل دهم نحاربك عليها، والمُصْمَت - بضم الميم الأولى وفتح الثانية - قال الجوهري: هو من الخيل البهيم: أي لون كان لا يخالط لونَه لونٌ آخر، وروي بدله " مضمرات " بوزنه، يقال: أضمرت الفرس، إذا أعددته للسباق، وهو أن تعلقه قُوتاً بعد السمن (2) ، وقوله " أُرِي عَيْنَيَّ إلخ " بضم الهمزة، مضارع من الإراءة خفف بحذف الهمزة من آخره، و " ما " نكرة بمعنى شئ مفعول ثان لأرى، والأول هو عَيْنيَّ، وكلانا: أي أنا وأنت والبيت كذا أورده أبو زيد بمفرده في نوادره (3) ورواه أبو حاتم عن أبي عبيدة " ما لَمْ تُبْصِرَاهُ إلخ " وحينئذٍ لا شاهد فيه، والترهة: بضم المثناة وتشديد الراء المفتوحة
__________
(1) كذا في عيون الاخبار، وفى العقد " ثم دعا لقتاله " (2) في الصحاح: وتضمير الفرس أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت، وذلك في أربعين يوما وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذى تضمر فيه الخيل أيضا مضمار (3) انظر (ص 185) من النوادر (*)

(4/327)


قال الأخفش فيما كتبه على النوادر: التَّرَّهات الاباطليل، وفي الصحاح قال الأصمعي: التُّرَّهات: الطرق الصغار غير الجادَّة، تتشعب عنها، الواحدة تُرَّهة فارسيّ معرب، ثم استعير في الباطل وسُراقة بن مِرْداس البارقي بضم السين وآخره قاف، ومِرداس بكسر الميم، قال الآمدي في المؤتلف والمختلف: بارق اسم جبل نزل به سعد بن علي بن حارثة
بن عمرو بن عامر، فنُسبوا إلى ذلك الجبل، وبارق: أخو خزاعة، وهذا هو سُراقة بن مرداس الأصغر، وهو شاعر مشهور خبيث قال يهجو جريراً من قصيدة: (من الكامل) أبْلِغْ تَمِيماً غثَّها وَسَمِينَهَا * وَالْحُكْمُ يَقْصِدُ مَرَّة وَيَجُورُ أنَّ الفَرْزْدَقُ بَرَّزَتْ حَلَبَاتُهُ * عَفْواً وَغُودِرَ فِي التُّرَابِ جَرِيرُ هَذَا قَضَاءُ الْبَارقِيِّ وَإنَّنِي * بِالْمَيْلِ فِي مِيزَانِهِمْ لَبَصِيرُ فهجاه جرير في القصيدة التي خاطب فيها بشر بن مروان (من الكامل) : يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ (1) ... قَدْ كَانَ بَالُكَ أنْ تَقُولَ لِبَارِقٍ * يَا آل بَارِقَ فِيمَ سُبَّ جرير وذكر الآمدي شاعرين آخرين متقدمين عليه في الزمان، يقال لكل منهما: سُرَاقة بن مِرداس البارقي: أحدهما سراقة بن مدارس الأكبر، والآخر هو شاعر فارس له شعر في يوم أوطاس، (2) ثم قال الآمدي: " وفي شعراء العرب
__________
(1) هذا صدر بيت ليس أول القصيدة، وتمامه: * هلا غضبت لنا وأنت أمير * (2) قال ياقوت في معجم البلدان: " وأوطاس واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين للنبى صلى الله عليه وسلم ببنى هوازن، ويومئذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: حمى الوطيس، وذلك حين استعرب الحرب، وهو صلى الله عليه وسلم أول من قاله " اه.
(*)

(4/328)


من يقال له سُراقة جماعة لم نقصد إلى ذكرهم وإنما ذكرت سراقة بن مرداس لاتفاق الاسم واسم الأب " انتهى، ولم يَرْفع نسب واحد من الثلاثة إلى قبيلة وأنشد الجاحظ لسراقة صاحب البيت الشاهد (من البسيط) :
قَالُوا سُرَاقَةُ عِنِّينٌ فَقُلْتُ لَهُمْ * الله يَعْلَمُ أنِّي غَيْرُ عِنِّينِ فإنْ طلبتم بى الشئ الَّذِي زَعَمُوا * فَقَرِّبُونِي مِنْ بِنْتِ ابْنِ يَامِينِ وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الستون بعد الماية -: (من الطويل) 160 - ألم تر ما لاقيت والدهر أعْصُرٌ * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْءَ وَيَسْمَعُ على أنه جاء على الأصل لضرورة الشعر، كما تقدم قبله وقال ابن جني في سر الصناعة: " قرأت على أبي على في نوادر أبي زيد: * ألَمْ ترَ مَا لاقيت والدهر أعْصُرٌ * كذا قرأته عليه " تَرَ " مخففاً، ورواه غيره، " تَرْء ما لاقيت " على وزن تَرْعَ، وهذا على التحقيق المرفوض في هذه الكلمة في غالب الأمر وشائِع الاستعمال " انتهى.
ولم يتعرض لما في الصمراع الثاني، لأنه لم يتزن إلا بذكر الهمزة، فيكون على غير رواية أبي علي في كل من المصراعين ضرورة وهذا البيت والذي قبل كذا في الصحاح، وقد أنشدهما أبو زيد في النوادر وفي كتاب الهمز، قال في كتاب الهمز: " وعامة كلام العرب في يَرَى ونَرَى وتَرَى وأرى ونحوه على التخفيف، وبعضهم يحققه وهو قليل في كلام العرب، كقولك زيد يرأى رَأْياً حسناً، نحو يَرْعَى رَعْياً حسناً، قال سراقة البارقي: أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأيَاهُ * ... البيت.
وقال الأعلم بن جَرَادة السعدي - وأدرك الاسلام -: ألم ترما لاَقَيْتُ وَالدَّهْرُ أعْصُرٌ * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْءَ وَيَسْمَعُ

(4/329)


بِأَنَّ عَزِيزاً ظَلَّ يَرْمِي بِجَوْزِهِ * إليَّ ورَاءَ الحاجزين ويفرع وأنشدني أعرابي من بني تميم لنفسه (من البسيط) : هَلْ تَرْجِعَنَّ لَيَالٍ قَدْ مَضَيْنَ لَنَا * وَالعَيْشُ مُنْقَلِبٌ إذْ ذَاكَ أفْنَانَا
إذْ نَحْنُُ فِي غَرَّةِ الدُّنْيَا وَبَهجَتِهَا * والدَّارُ جَامِعَةٌ أزْمَانَ أزمانا لما استمر بها شَيْحَانُ مُبْتَجِحٌ * بِالْبَيْنِ عَنْكَ بِمَا يَرْآكَ شَنْآنَا فكل هؤلاء حقق الهمزة من يرى، وهو قليل في الكلام، والتحقيق الأصل " انتهى كلامه.
وقوله " ألم تر " استفهام والرؤيا بصرية، و " ما " مفعولها، ولاقيت بضم التاء، والدهر مبتدأ وأعصر خبره، وهو جمع عَصْر يريد أن الدهر مختلف أزمانه لا يبقى على حال سرور وصفاء، بل غالبه كدر، وقوله " ومن يتمل العيش إلخ " مَنْ شرطية، ويتمل: شرط مجزوم بحذف الألف، ويرء: جواب الشرط، ويسمع: معطوف عليه، وكسر للقافية، وقافية البيت الثاني مرفوع فيكون في الأول إقواء، وكذا رواهما أبو زيد في الكتابين، قال ابن بري في أمالية على الصحاح: " ويروى ويسمعُ بالرفع على الاستئناف، لأن القصيدة مرفوعة " وذكر البيت الثاني.
أقول: ليس المعنى على الاستئناف، ولعله أراد بالاستئناف ابتناءه على مبتدأ محذوف، والتقدير وهو يسمع، وإطلاق الاستئناف على هذا شائع، فيكون موضع الجملة جزماً بالعطف على يرء، وجَازَفَ ياقوت فيما كتبه على الصحاح قال: بخط أبي سهل يَرْءَ ويَسْمِعِ بجزمهما، وهو سهو منه والقصيدة مرفوعة، وصوابه: * وَمَنْ يَتَمَلَّ الْعَيْشَ يَرْأَى وَيَسْمَعُ * بالرفع يريد أن " مَنْ " فيه موصولة مبتدأ ويتملى: صلته، ويرأى وَيسمع: خبره، وتحقيق الهمزة ضرورة أيضاً، وهذا صحيح معنى وإعراباً، إلا أنه طعن فيه رواية أبي زيد:

(4/330)


وتملى عيشه: استمتع به ملاوة، والملاوة - مثلثة الميم -: الزمان الواسع، يريد من يعش كثيراً يَرَوَ يسمع ما لم يكن رآه وسمعه، والعيش: مصدر عاش،
إذا صار ذا حياة، فهو مصدر عائش، والأنثى عائشة، وقوله " بأنّ عزيزاً " خبر أن غير مذكور في هذا البيت، وإنما هو في بيت بعده، وظل: استمر، والجوز: بفتح الجيم وآخره زاي معجمة، ورمْيُ الجوز عبارة عن الإسراع في الذهاب، " وإليَّ " متعلق بيرمي، وكذلك ورَاء، والحاجزين: جمع حاجز من حجزه، إذا منعه، يريد أن الأعداء قدامه تمنعه من الوصول إليه، " ويفرع " معطوف على يرمي، وهو مضارع أفْرَعَ، قال أبو زيد بعد إنشاده: أي يصير الفَرْع، ويقال: أفرع إذا أخذ في بطن الوادي خلافُ المصعد، قال: (من البسيط) * لاَ يُدْرِكَنَّكَ إفْرَاعِي وَتَصْعِيدِي * وفرع رأسه بالعصا إذا علاه " انتهى وفي الصحاح: فَرَعْت الجبل صَعِدْته، وأفرعت في الجبل انحدرت وقد أورد أبو تمام البيت الشاهد من أبيات للأعلم في كتاب مختار أشعار القبائل، وليس فيها البيت الثاني الذي أورده أبو زيد، وأبو تمام كذا أوردها (من الطويل) : وَإنِّي لأَقْتَادُ الْقَرِينَ إلَى الْهَوَى * وَيَقْتادُنِي يَوْماً قَرِينِي فَأتْبَعُ وأطمع بما لَمْ يَحْتَضِرْنِي يَأْسُهُ * وَأْيْأَسُ مِمَّا لاَ يُرَى فِيهِ مَطْمَعُ وأُبْغِضُ أصْحَابَ الْمَلاَذَةِ وَالقِلَى * وَيُطْلَبُ بِالْمَعْرُوفِ خَيْرِي فَأُخْدَعُ وَتَزْعُمُ هِنْدٌ أنَّنِي قَاتِلِي الْهَوَى * إلَيْهَا وَقَدْ أهْوَى فَلاَ أتَوَجَّعُ ألِكنِي إلَيْهَا بالسَّلاَمِ فلا يسؤ * بَنَا ظَنُّهَا، إنَّ النَّوَى سَوْفَ تَجْمَعُ وَلاَ تَرْعَ لِلَوَاشِي الظُّنُونَ فَإِنَّهُ * بِتَفْرِيقِ مَا بَيْنَ الأَحِبَّةِ مولع أل تر مالا قيت ... البيت نَصَحْتُ لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَ فَضَيَّعُوا * لِنُصْحِي فَلاَ يَحْزُنْكَ نُصْحٌ مُضَيَّعُ

(4/331)


هذا ما أورده أبو تمام، وقال: الملاذة: كذب المودة "
وقوله " هَلْ تَرْجِعَنَّ لَيَال ... البيت " أورده ابن هشام في بحث إذ من المغني، قال: " وقد يحذف أحد شطري الجملة فيظن من لاخبرة له أنها أضيفت إلى المفرد، كهذا البيت، والتقدير إذ ذاك كذلك ".
واسم الإشارة الأول أشير به إلى العيش باعتبار حاله، والثاني المحذوف إلى حال الأفنان، وهي الأغصان والأحوال، ونصبه حال من ليال، و " إذ " متعلقة بمنقلب، والمعنى هل ترجع ليالينا حال كونها مثل الأغصان الملتفة في نضارتها وحسنها؟ أو حال كونها ذات فنون من الحسن وقال أبو زيد بعد إنشاد الأبيات في النوادر: الشَّيْحَانُ: الغيور، والمبتجح: المفتخر والذي يُعْرف (1) " انتهى وأنشد بعده - وهو الشاهد الحادي والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 161 - أانْ رَأَتْ رِجُلاً أَعْشَى أَضَرَّبِهِ * رَيْبُ الْمَنُونِ وَدَهْرٌ مُتْبِلٌ خَبِلُ ونص سيبويه: " والمخففة فيما ذكرنا بمنزلتها محققة في الزنة، يدلك على ذلك قول الأعشى أان رأتْ رَجُلاً ... البيت
__________
(1) هذه العبارة غير واضحة المراد، والذى وجدناه في النوادر لابي زيد وشرحها لابي حسن الاخفش بعد الابيات هو " أبو حاتم: متبجحا أو مبتجح، وجعل الكاف مخاطبة المذكر.
الرياشى: الذى نعرف شيحان (بكسر الشين) والشيحان: الغيور، والمبتجح: المفتخر، قال أبو الحسن: لا اختلاف بين الرواة أنه يقال: رجل شيحان (كعطشان) والانثى شيحى كعطشي) فسروه تفسيرين: أحدهما أنه الجاد في أمره، والاخر الغيور السيئ الخلق، ولان أنثاه فعلى لم يصرفوه، ولو كان كما حكى عن الرياشى لكان قد ترك صرف ما ينصرف، وهذا لا يجوز عند القياسيين المفسرين، وهذا سهو من الرياشى " اه (*)

(4/332)


فلو لم تكن بزنتها محققة لانكسر البيت " انتهى وقال الأعلم: " استشهد به على تخفيف الهمزة الثانية من قوله: أان، وجعلها بَيْن بَيْن، والاستدلال بها على أن همزة بين بين في حكم المتحركة، ولولا ذلك لانكسر البيت، لأن بَعْد الهمزة نوناً ساكنة، فلو كانت الهمزة المخففة في الحكم ساكنة لالتقى ساكنان، وذلك لا يكون في الشعر إلا في القوافي " انتهى والبيت من قصيدة الأعشى المشهورة التي أولها: وَدِّعْ هُرَيْرَةَ، إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ * وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّها الرَّجُلُ وهي ملحقة بالقصائد المعلقات، وقد شرحنا غالبها في مواضع متعددة من شواهد شرح الكافية، وقبله: صَدَّتْ هُرَيْرَةُ عَنَّا مَا تُكَلِّمُنَا * جَهْلاً بِأُمِّ خُلَيْدٍ، حَبْلَ مَنْ تَصِلُ؟ وبعده: قَالَتْ هُرَيْرَةُ لَمَّا جِئْتُ زَائِرَهَا * وَيْلِي عَلَيْكَ وَوَيْلِي مِنْكَ يَا رَجُلُ وقوله " صدَّت هريرة إلخ " روى أبو عبيدة: صدت خُلَيْدة، وقال: هي هريرة، وهي أم خُلَيد، وخُلَيْد: مصغر خالد تصغير الترخيم، وصدت: أعرضت وقوله " جهلا بأم خليد " علة للنفي، والباء للملابسة، وأعاد اسمها للتلذذ به، وحسنه ذكره بغير لفظه الأول و " حَبْل " مفعول تصل، وقدم وجوباً لإضافته إلى ماله الصدارة، وهو مَنْ، فإنها للاستفهام التعجبي، يريد: حبل أيِّ رجل تصل إذا لم تصلنا؟ كذا قال الخطيب التبريزي وغيره، وعليه تبقى الجملة غير مرتبطة بما قبلها، والجيد أن تكون مَنْ موصولة " وحبل " مفعول لقوله " جَهْلاً " والحبل هنا مستعار للعُلْقة.
والوصل: ضد القطع، وقوله " أن رأت رجلاً إلخ " الهمزة الأولى للاستفهام.
و" أن " بالفتح هي أن المصدرية.
وهي مع مدخولها مجرورة بلام
العلة، أو من التعليلية، والتقدير أصدّت لأجل أن رأت رجلاً هذه صفته.
و" رأت " أبصرت، و " رجلاً " مفعوله، و " أعشى " صفته.
والأعشى الذي

(4/333)


لا يبصر بالليل، والأجهر - بالجيم -: الذي لا يبصر نهاراً، والمؤنث عشواء وجهراء، وجملة " أضربه " حال من أعشى، ويجوز أن تكون صفة ثانية لرجلاً.
قال صاحب المصباح: " ضره يضره - من باب قتل - إذا فعل به مكروهاً، وأضربه يتعدى بنفسه ثلاثيا بالباء باعيا ".
قال الأزهري: " كل ما كان سوء حال وفقر وَشدة في بدن فهو ضُرٌّ - بالضم - وما ضد النفع فهو بفتحها، ورجل ضرير: به ضرر من ذهاب عين أو ضنىً " والريب: التردد بين موقعي تهمة، بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل منهما، وأصله قلق النفس واضطرابها، ومنه ريب الزمان لنوائب الزوجة ومصائبه المقلقة، كذا في مُهِمَّات التعاريف للمناوي.
و" المنون " المنية، قال الاصمعي: هو واحد لاجمع له، وذهب إلى أنه مذكر، وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له، ومُتْبِل: اسم فاعل، قال صاحب العباب: " وأتبله الدهر مثل تبله، وأنشد هذا البيت، وقال: أي يذهب بالأهل والولد، وتَبَله الحب: أي أسقمه، وتبلهم الدهر: أي أفناهم، والتبل، كفَلْسٍ: التِّرةُ والذحل (1) يقال: أصيب بتبل وهو متبول، وروي بدله " مفسد " من الإفساد، وروي " مفند " أيضاً بمعناه، قال التبريزي: والمفند من الفَنَد وهو الفساد، ويقال: فَنَّده، إذا سَفَّهه، قال تعالى (لَوْلاَ أن تفندون) وخَبل - بفتح المعجمة وكسر الموحدة - قال صاحب العباب: ودهر خَبِل: أي ملتو على أهله، وأنشد البيت، وقوله " قالت هريرة إلخ " قال بعضهم: هذا أخنث بيت قالته العرب، و " زائرَها " حال من التاء: أي زائر لها وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائة، وهو من شواهد
سيبويه -: (من الكامل)
__________
(1) الذحل: الثأر، أو طلب مكافأة بجناية حنيت عليك (*)

(4/334)


162 - راحت بمسلمة البغال عشية * فارعي فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ على أن أصله هنأك - بالهمز - فأبدلت ألفاً، قال سيبويه: " واعلم أن الهمزة التي يحقق أمثالها أهل التحقيق من بني تميم وأهل الحجاز وتجعل في لغة أهل التخفيف بَيْنَ بَيْن تبدل مكانها الألف إذا كان ما قبلها مفتوحاً، والياء إذا كان ما قبلها مكسوراً، والواو إذا كان ما قبلها مضموماً، وليس ذا بقياس متلئب، (1) وإنما يحفظ عن العرب كما يحفظ الشئ الذي تبدل التاءُ من واوه، نحو أتْلَجْت، فلا يجعل قياساً في كل شئ من هذا الباب، وإنما هي بدل من واو أوْلجت، فمن ذلك قولهم: منساة، وإنما أصلها منسأة (2) ، وقد يجوز في ذاكله البدل حتى يكون قياساً متلئباً إذا اضطر الشاعر، قال الفرزدق: * رَاحَتْ بِمَسْلَمَة البِغَالُ *..البيت فأبدل الألف مكانها، ولو جعلها بين بين لانكسر البيت، وقال حسان ابن ثابت رضي الله عنه: سَالَتْ هُذَيْلُ رَسُولَ الله ... البيت الآتي وقال القرشي زيد بن عمرو: سَالَتَانِي الطَّلاَق ... البيت الآتي فهؤلاء ليس من لغتهم سِلْتُ ولا يَسَالُ، وبَلَغَنَا أن سَلْت تَسالُ لغة، وقال عبد الرحمن بن حسان: وَكُنْتُ أذَلَّ مِنْ وَتِدٍ ... البيت الآتي: يريد الواجئ، وقالوا: نبيّ وبريّة، فألزمها أهل التحقيق البدل، وليس
كل شئ نحوهما يفعل به ذا، إنما يؤخذ بالسمع، وقد بلغنا أن قوماً من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون نبيئا وبريئة، وذلك قليل ردئ، فالبدل ههنا
__________
(1) بهامش الاصل: قوله متلئب " في الصحاح اتلاب الامر اتلئبابا استقام انتهى من خط المؤلف (2) المنسأة: العصا (*)

(4/335)


كالبدل في مِنْسأة، وليس بدل التخفيف، وإن كان اللفظ واحداً " انتهى كلام سيبويه قال الأعلم: " الشاهد في إبداله الألف من الهمزة في قوله: هَنَاك، ضرورة وإن كان حقها أن تجعل بَيْن بَيْن لأنها متحركة، يقول هذا حين عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق ووليها عمر بن هُبَيْرَة الفَزَارِي فهجاهم الفرزق ودعا على قومه أن لا يهنئوا النعمة بولايته، وأراد بغال البريد التي قدمت بمسلمة عند عزله " انتهى.
وكذا قال المبرد في الكامل عند ما أنشد قول العُديل بن الفَرْخ العِجْلِيّ (من الطويل) : فَلَوْ كانت في سلمى أجا وشعاثها * لَكَانَ لِحَجَّاجٍ عَلَيَّ دَلِيلُ قال: أجا وسلمى: جبلا طيّئ، وأجأُ مهموز، والشاعر إذا احتاج إلى قلب الهمز قلبه على حركة ما قبله، وأنشد هذه الأبيات، وقال: أما الفرزدق فإنه يقول لما عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق بعد قتله يزيد بن المهلب لحاجة الخليفة إلى قربه ووُلي عمر بن هُبَيْرَة الفزاري فقال: رَاحَتْ بِمَسْلَمَةَ الْبِغَالُ عشية * فارعي فزارة لاهناك الْمَرْتَعُ وَلَقَدْ عَلِمْتُ إذَا فزَارَةُ أُمِّرَتْ * أنْ سَوْفَ تَطْمَعُ فِي الإِمَارَةِ أشْجَعُ
فَأَرَى الأُمُورَ تَنَكَّرَتْ أعْلاَمُهَا * حَتَّى أُمَيَّةُ عَنْ فَزَارَةَ تَنْزَعُ ولخلق ربك ماهم وَلَمِثْلُهُمْ * فِي مِثْلِ مَا نَالَتْ فَزَارَةُ يَطْمَعُ عُزِلَ ابْنُ بِشْرٍ وابن عمر وقبله * وأخُو هَرَاةَ لِمِثْلِهَا يَتَوَقَّعُ فلما ولي خالد بن عبد الله القسري على عمر بن هُبَيْرَة قال رجل من بني أسد يجيب الفرزدق (من الكامل) :

(4/336)


عجب الفرزدق من فزارة إذْ رَأَى * عَنْهَا أُمَيَّةَ فِي الْمَشَارِقِ تَنْزَعُ فَلَقَدْ رَأَى عَجَباً وَأُحْدِثَ بَعْدَهُ * أمْرٌ تَضِجُّ لَهُ الْقُلُوبُ وَتَفْزَعُ بَكَتْ الْمَنَابِرُ مِنْ فَزَارَة شَجْوَهَا * فَاليَوْمَ مِنْ قَسْرٍ تّذُوبُ وَتَجْزَعُ وَمُلُوكُ خِنْدِفَ أسْلَمُونَا لِلْعِدَى * لِلهِ دَرُّ مُلُوكِنَا مَا تَصْنَعُ! كانُوا كَتَارِكَةٍ بَنِيهَا جَانِباً * سَفَها وَغَيْرَهُمُ تَصُونُ وَتُرْضِعُ انتهى.
وفي الأغاني: " كان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد قتل يزيد بن المهلب، فلبث بها غير كثير، ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن هُبَيْرَة على العراق فأساء وعزل قبيحاً، فقال الفرزدق: * وَلَّتْ بِمَسْلَمَةَ الْبِغَالُ عَشَيَّةً * إلى آخر الأبيات الخمسة ابن بشر: عبد الملك بن بشر بن مروان، كان على البصرة، أمَّرَه عليها مسلمة، وابن عمرو: سعيد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأخو هراة: سعيد بن عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاص " انتهى.
وقال ابن السيرافي: " ابن عمرو هو سعيد بن عمرو بن الحارث بن الحكم ابن أبي العاص، عزل عن الكوفة، وأخو هراة سعيد بن الحارث بن الحكم " انتهى.
وقوله " راحت بمسلمة إلخ " قال صاحب المصباح: راح يروح رواحا - وتروح
مثله - يكون بمعنى الغُدُو، وبمعنى الرجوع، وقد يتوهم بعض الناس أن الروح لا يكون إلا في آخر النهار، وليس كذلك، بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أيّ وقت كان: من ليل أو نهار، قاله الأزهري وغيره، وعليه قوله عليه الصلاة والسلام " مَنْ رَاحَ إلَى الْجُمْعَةِ في أوَّلِ النَّهَارِ فَلَهُ كَذَا " أي: من ذهب، والعشية: واحدة العَشِيِّ، قال صاحب المصباح: العشي: قيل: ما بين الزوال إلى الغروب ومنه يقال للظهر وَالعصر: صلاتا العشي، وقيل: هو آخر

(4/337)


النهار، وقيل: من الزوال إلى الصباح، وقوله " فارعى فزارة " هو أمر من الرعي، من رَعَتِ الماشية تَرْعَى إذا سرحت بنفسها إلى المرعى، وهو ما ترعاه الدواب، وفزارة: أبو قبيلة من غطفان، وهو هنا مبني على الضم، لأنه منادى وحرف النداء مقدر، وباعتبار القبيلة (قال) فارعَيْ بالخطاب إلى المؤنث وجعلهم بهائم ترعى، وقوله " لا هناك المرتع " لا: هُنا دعائية، دعا عليهم بأن لا يكون مرتعهم هنيئاً لهم، وهَنأنِي الطعام يَهنؤني - بفتح العين فيهما - ومهموز الآخر: أي ساغَ وَلذَّ بلا مشقة، والكاف مكسورة، والمرتع: مصدر ميمي، يقال: رتعت الماشية رَتْعاً، من باب نفع، ورتوعاً: رعت كيف شاءت، والمرتع: موضع الرتوع أيضاً، وقد صار هذا المصراع مثلاً، قال الميداني في أمثاله: " ارْعَيْ فزارة لا هَنَاكِ الْمَرْتَع " يضرب لمن يصيب شيئاً ينفس به عليه، وقد استشهد بالبيت في التفسيرين في سورة طه على أن طه في قراءة الحسن رحمه الله أمر للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يطأ الأرض بقدميه معاً، فإنه كان عليه السلام يقوم في تهجده على إحدى رجليه.
والأصل " طَأْ " قلبت الهمزة ألفاً كما في لا هَنَاكِ، ثم بني الأمر عليه، كالأمر من يرى " رَ " ثم ألحق هاء السكت فصار طَهْ وقد خبط خَضِر الموصلي خبط عشواء في شرح أبياتهما قال: " الرواح نقيض
الغدو، ومسلمة هذا هو عبد الملك بن بشر، وهو الممدوح، وكان على العراق فعزل عنها، وولي موضعه عمر بن هُبَيْرَة، ولا هَنَاك المرتع: دعاء على الناقة أي لاهناك رعي هذا المرتع، والمعنى أن ممدوحك مسلمة قد عزل وراح على البغال عشية فاقصدي بني فزارة وارعي مرعاها، وفي بعض الحواشي ارعْيْ يا فزارة فإن الخطاب لهم، قال: وكان مسلمة هذا يمنعهم المرعى، فلما عزل خاطبهم بذلك وأمرهم بالمرعى " هذا كلامه.
وخطؤه من وجوه ظاهرة، وقبيح بمثله أن يكتب على العمياء من غير مراجعة

(4/338)


وتنقير، مع أن البيت من أبيات سيبويه والمفصل وغيرهما، والله الموفق للصواب.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه - (من الخفيف) 163 - سَالَتَانِي الطَّلاَقَ أنْ رَأَتَامَا * لى قليلا قد جئتانى بِنُكْر لما تقدم قبله، ونقلنا كلام سيبويه فيه، وقبله.
تِلْكَ عِرْسَايَ تَنْطِقَانِ بِهُجْرٍ * وَتَقُولاَنِ قَوْلَ زُورٍ وَهَتْر وقوله " تلك عِرْساي " مبتدأ وخبر، و " عرساي " مثنى عرس، مضاف إلى الياء، والعِرْس - بالكسر - الزوجة: أي هما عرساي، ويجوز أن يخالف اسم الإشارة المشار إليه كقوله تعالى: (عَوَانٌ بين ذلك) والهُجْر - بالضم - الفُحْش من الكلام، والهتر: مصدر هتره، من باب نصر، إذا مزق عرضه، وقوله " سالتاني الطلاق " قال الأعلم: هذه لغة معروفة، وعليه قراءة من قرأ (سالَ سَائِلٌ بَعَذَابٍ وَاقِعٍ) وروي " تَسْألاني الطلاق " فلا شاهد فيه، وقوله " قد جئتماني بنكر " التفات من الغيبة إلى الخطاب، والنُّكر - بالضم - الأمر القبيح، وروى أيضاً:
سَالَتَانِي الطَّلاَقَ أنْ رَأَتَانِي * قَلَّ مَالِي قَدْ جِئْتُمَانِي بِنُكْر وهما من أبيات قد شرحناها مفصلة مع ترجمة قائلها، والاختلاف فيه، في الشهر الشاهد الثامن والسبعين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكفاية وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 164 - سَاْلتْ هذيل رسول الله فاحشة * ضلت هُذَيْلٌ بِمَا قَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ

(4/339)


لما تقدم قبله، وتقدم نقل كلام سيبويه فيه قال المبرد في الكامل: " وأما قول حسان: سالت هذيل، فليس من لغته سِلْتُ أسَالُ مثل خِفْتُ أخاف، وهما يتساولان، هذا من لغة غيره، وكانت هذيل سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل لها الزنا، ويروى أن أسَدِيّاً وهُذَلِيّاً تفاخراً فرضيا برجل، فقال: إني ما أقضي بينكما إلا على أن تجعلا لي عَقْداً وثيقاً أن لا تضرباني ولا تشتماني، فإني لست في بلاد قومي، ففعلا، فقال: يا أخا بني أسد، كيف تفاخر العرب وأنت تعلم أنه ليس حى أحب إلى الجيش ولا أبغض إلى الضيف ولا أقل تحت الرايات منكم؟ وأما أنت يا أخا هذيل فكيف تظلم الناس وفيكم خلال ثلاث: كان منكم دليل الحبشة على الكعبة، ومنكم خَوْلَة ذات النَّحْيَيْن، وسألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل لكم الزنا، ولكن إذا أردتم بيتي مضر فعليكم بهذين الحيين من تميم وقيس، قوما في غير حفظ الله " انتهى.
وفي الروض الأنف للسُّهَيْلي: " قوله: سالت هذيل، ليس على تسهيل الهمزة، ولكنها لغة، بدليل قولهم: تسايل القوم، ولو كان تسهيلاً لكانت الهمزة بين بين، ولم يستقم وزن الشعر بها، لأنها كالمتحركة، وقد تقلب ألفاً ساكنة كما
قالوا: المِنْساة، لكنه شئ لا يقاس عليه، وإذا كانت سال لغة في سأل فيلزم أن يكون المضارع يسيل، ولكن حكى يونس سِلْتَ تَسَألُ مثل خِفْتَ تخاف، وهو عنده من ذوات وقال الزجاج: الرجلان يتسايلان، وقال النحاس والمبرد: يتساولان، وهو مثل ما حكى يونس وقال صاحب مختصر أسد الغابة: إن أبا كبير الهذلي الشاعر أسلم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أحِلَّ لي الزنا، فقال: أتحب أن يؤتى إليك مثل ذلك؟ قال: لا، قال: فارض للناس ما ترضى لنفسك، قال: فادع الله أن يذهب ذلك عني، وقال حسان يذكر ذلك:

(4/340)


سالت هذيل رسول الله فاحشة * ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ سَالُوا رَسُولَهُمُ مَا لَيْسَ مُعْطِيَهُمْ * حَتَّى الْمَمَاتِ وَكَانُوا سُبَّةَ الْعَرَبِ انتهى.
وزاد ابن هشام في السيرة بعدهما بيتين آخرين، وهما: وَلَنْ تَرَى لِهُذَيْلٍ دَاعِياً أبَداً * يَدْعُو لِمَكْرُمَةٍ عَنْ مَنْزِلِ الْحَرْبِ لَقَدْ أرداوا الْفُحْشِ وَيْحَهُمُ * وَأنْ يُحَلُّوا حَرَاماً ما كَانَ فِي الْكُتُبِ وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الوافر) 165 - وَكُنْتَ أذَلَّ مِنْ وَتِدٍ بِقَاعٍ * يُشَجِّجُ رَأْسَهُ بِالْفِهْرِ وَاجِي على أن أصله واجِئ - بالهمز - فقلبت الهمزة ياء لضرورة الشعر عند سيبويه كما تقدم نصه واعترض عليه الشارح المحقق تبعاً لابن الحاجب بأن هذا القلب جائز في الوقف قياساً، والقلب في مثله إنما يكون ضرورة لو كان في غير الوقف
واعتراض ابن الحاجب في شرح المفصل، قال: " وأصله واجئ، فقلبت الهمزة ياء، وقد أنشده سيبويه أيضاً على ذلك، وهو عندي وَهَمٌ، فإن هذه الهمزة موقوف عليها، فالوجه أن تسكن لأجل الوقف، وإذا سكنت جرها حركة ما قبلها، فيجب أن تقلب ياء، فليس لإيرادهم لها فيما خرج عن القياس من إبدال الهمزة حرف لين وجه مستقيم، وقد اعْتُذِرَ لهم عن ذلك بأن القصيدة مطلقة بالياء، وياء الإطلاق لا تكون مبدلة عن همزة، لأن المبدل عن الهمزة في حكم الهمزة، فجلعها ياء الإطلاق ضرورة، فصح إيرادهم لها فيما خرج عن القياس في قلب الهمزة حرف لين، والجواب أن ذلك لا يدفع كون التخفيف ياء جائزاً على القياس،

(4/341)


لأن الضرورة في جعل الياء مبدلة عن الهمزة ياء للإطلاق، لا أن إبدالها على خلاف القياس، لأنهما أمران متقاطعان، فتخفيفها إلى الياء أمر، وجعلها ياء للإطلاق أمر آخر، والكلام إنما هو إبدالها ياء، ولا ينفع العدول إلى الكلام في جعلها ياء الإطلاق، فثبت أن قلبها في مثل هذا مثل قياس تخفيف الهمزة، وأن كونها إطلاقاً لا يضر في كونها جارية على القياس في التخفيف، نعم يضر في كونه جعل ما لا يصح أن يكون إطلاقاً، وتلك قضية ثانية، هذا بعد تسليم أن الياءات والواوات والألفات المنقلبات عن الهمزة لا يصح أن تكون إطلاقاً، وهو في التحقيق غير مسلم، إذ لا فرق في حرف الإطلاق بين أن يكون عن همزة وبين أن يكون غير ذلك، كما في حرف الردف وألف التأسيس " هذا آخر كلامه وكأنه لم يقف على ما كتبه الزمخشري هنا من مناهيه على المفصل، وهو قوله: " لا يقال: وقف على الهمزة واجئ ثم قَلَبها ياء لكسرة ما قبلها، لأنه لو وقف لوقف على الجيم الذي هو حرف الروى " انتهى.
وهذا تحقيق منه وشرح لمراد سيبويه، لأنه إنما منع الوقوف على الهمزة في
واجئ، لأنه كان يصير حرف الروى همزة، فيختلف الرويان اختلافاً شديداً، بخلاف الإكفاء في نحو قوله: (من الرجز) بنى إلى البر شئ هَيِّنٌ * الْمَنْطِقُ اللَّيِّنُ وَالطُّعَيِّمْ فلا يجوز أن يقال: وقف على الهمزة، وأنه فعل به بعد الوقف على الجيم ما فعل من إسكان الهمزة وقلبها ياء للضرورة، وإنما يقال: أبْدل منها إبدالاً محضاً ولا يخففها التخفيف القياسي، فإن التخفيف القياسي هو إبدالها إذا سكنت بالحرف الذي منه حركة ما قبلها، نحو رأس في رأس، وإذا خففت تخفيفاً قياسياً كانت في حكم المحققة، وإذا كانت في حكم المحققة اختلف الرويان، ولذلك أبدلوا في الشعر وَلم يحققوا، خوفاً من انكساره، ومن اختلاف رويه، وهذا البدل

(4/342)


هو الذي ذكره سيبويه في قوله: " وقد يجوز في ذا كله البدل حتى يكون قياساً إذا اضطر الشاعر " وذكر أن البدل في المفتوحة بالألف وفي المكسورة بالياء وفي المضمومة بالواو ليس بقياس (1) ، يريد أن القياس أن تجعل بَيْن بَيْن، وقلبها على وجه البدل شاذ وهو من ضرورة الشعر، وقول الزمخشري: " لأنه لو وقف لوقف على الجيم إلخ " يريد أنه إذا أدى الأمر إلى أن تقلب الهمزة ياء صار واجي كقاضي، وحكمن الوقف على المنقوص المنون في الرفع والجر في الاختيار حذف الياء والوقف على الحرف الذي قبلها، نحو هذا قاض ومرت بقاضْ، وإن جاز إثبات الياء فيهما، لكن المختار حذفها هذا، والبيت من قصيدة لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت رضي الله عنه هجا بها عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص وكان يهاجيه، وقبله: وَأمَّا قَوْلُكَ الْخُلَفَاءُ مِنَّا * فَهُمْ منعوا وريدك من وداجى ولولاهم لَكُنْتَ كَحُوتِ بَحْرٍ * هَوَى فِي مُظْلِمِ الْغَمَرَاتِ دَاجِي
وَكُنْتَ أذَلَّ مِنْ وَتِدٍ بِقَاعٍ * ... البيت افتخر ابن الحكم على ابن حَسَّان بأن الخلفاء منا لا منكم، أن الخلافة في قريش، وبنو أمية منهم، وابن حسان من الأنصار، والأنصار هم الأوس والخزرج، وهم من أزد غَسَّان من عرب اليمن قحطان.
والوريد: عرق غليظ في العنق، وهما وريدان في صفحتي مُقَدَّم العنق، ويقال: له: الوَدَج - بفتحتين - والوداج أيضاً بكسر الواو، والوَدَجَانِ: عرقان غليظان يكتنفان نقرة النحر يميناً وشمالاً، وقيل: هما عرقان في العنق يتفرعان من الوريدين، ويقال للودج الأخْدَع أيضاً، والأخْدَعَان: الودجان، وقوله " وداجي " كذا جاء بالإضافة إلى الياء، والوداج: مصدر وادج، فاعل،
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (ح 2 ص 159) (*)

(4/343)


وليس بمراد، وإنما المراد مصدر وَادَجَ كسافر بمعنى سَفَرَ، يقال: ودَجْتُ الدابة وَدْجاً - من باب وعَد - إذا قطعت وَدَجَها، وهُوَ لها كالفصد للإنسان، ولو رُوِي وِدَاج، بدون ياء، لحمل على أنه جمع ودج، كجمال جمع جَمَلٍ، وقدر مضاف: أي صَفْع وِدَاج، ونحوه، ويكون الجمع باعتبار ما حوله، يقول: لولا أن الخلفاء من قومك وقد احتميت بهم لذبحتك أو لصفعتك على أخْدَعَيْكَ، والغَمرات: جمع غَمرة: - بالفتح - وهي قطع الماء التي بعضها فوق بعض، وَداجي: أسود، من دَجَا الليل يَدْجو دَجْواً إذا أظلم، يريد لولاهم لكنت خاملاً لعدم نباهتك مختفياً لا يراك أحد كالحوت في البحر لا يرى لعمقه وتكاثف المياه عليه، ورواه شراح أبيات المفصل * ولولاهم لكنت كعَظْم حُوتٍ * وقالوا: لكنت كعظم سمكة وقع في البحر لا يُشْعر به.
وقوله " وكنت أذَلّ إلخ " الوتد: بفتح الواو وكسر التاء، والقاع
المستوي من الأرض، ويشجج: مبالغة يُشجُّ رأسه، إذا جرحه وشق لحمه، والفهر - بكسر الفاء -: الحجر ملء الكف، ويؤنث، والواجي: الذي يدق، اسمُ فاعل من وجأت عنقه - بالهمز - إذا ضربته، وفي أمثال العرب " أذَلُّ مِنْ وَتَِدٍ بِقَاع " لأنه يدق ومن أمثالهم " أيضاً أذَلُّ مِنْ حِمَارٍ مُقَيَّدٍ " وقد جمعهما الشاعر فقال: (من البسيط) وَلاَ يُقِيمُ بِدَارِ الذُّلِّ يَأْلَفُهَا * إلاَّ الأذلاَّنِ عَيْرِ الدَّارِ والْوَتَدُ هَذَا عَلَى الْخَسْفِ مَرْبُوطٌ بِرُمَّتِهِ * وَذَا يُشَجُّ فَلاَ يَرْثِي لَهُ أحَدُ وقال المبرد في الكامل: " كانا يتهاجيان، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم أن يؤدبها، وكانا تقاذفا، فضرب ابن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين، فقيل لابن حسان: قد أمكنك في مروان ما تريد، فأشِِد بذكره وارفعه إلى

(4/344)


معاوية، فقال: والله إذن لا أفعل وقد حدَّني حد الرجال الأحرار وجعل أخاه كنصف عبد، فأوجعه بهذا القول: وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد السادس والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 166 - * وَأُمِّ أوْعَالٍ كها أو أقرابا * على أن دخول الكاف على الضمير شاذ في الاستعمال، لا في القياس، إذ القياس أن يدخل الكاف على الاسم، ظاهراً كان أو مضمراً، كسائر حروف الجر، والبيت من أرجوزة للعجاج، وقبله: * خَلَّى الذِّنَابَاتِ شَمالاً كَثَباً * وهذا في وصف حمار الوحش أراد أن يرد الماء مع أُتُنِه فرأى الصياد، وفاعل " خلَّى " ضميرٌ، وهو مضمن معنى جعل، والذِّنابات: مفعوله الاول،
وشمالا: ضرف في موضع المفعول الثاني، والذنابات: جمع ذِنابة - بالكسر - وهو آخر الوادي ينتهي إليه السيل، والكثب - بفتح الكافي والمثلثة -: القرب، وأراد القريب، وأ أوعال: قيل بالنصب معطوف على الذِّنابات، وقيل مرفوع بالابتداء، و " كها " الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ، و " أقرب " معطوف على مدخول الكاف، وأم أوعال: هضبة في ديار بني تميم، والهضبة: الجَبل المنبسط على وجه الأرض، وضمير " كها " للذِّنابات وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا في الشاهد السادس والثلاثين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية.

(4/345)


وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة - (من الطويل) : 167 - وَيُسْتَخْرَجَ الْيَرْبُوعُ مِنْ نافِقَائِهِ * وَمِنْ جُحْرِهِ بالشَّيْحَةِ اليُتَقَصَّعُ على أن دخول " أل " على الفعل شاذ مخالف للقياس والاستعمال، إذ هي خاصة بالاسم، وصوابه فيستخرج بالفاء السبيبة، ونصبه بأن مضمرة بعدها، وبالبناء للمفعول، و " اليربوع " نائب الفاعل، وهو دُوَيْبَة تحفر الأرض وله جُحْران: أحدهما القاصعاء، وهو الذي يدخل فيه، وثانيهما النافقاء، وهو الجحر الذي يكتمه وَيظهر غيره، وهو موضع يرققه، فإذا أُتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه، فانتفق: أي خرج، والجحر، - بضم الجيم - يطلق على مأوى اليربوع والضب والحية، وقوله " بالشيحة " رواه أبو عمرو الزاهد وغيره تبعاً لابن الأعرابي " ذِي الشيحة " وقال: لكل يربوع شيحة عند جحره، ورد عليه أبو محمد الأعرابي في " ضالَّة الأديب ": صوابه بالشيخة - بالخاء المعجمة - وهي رملة بيضاء في بلاد بنى أسد وحنظلة، وقوله " اليتقطع " رواه الرياشي بالبناء
للمفعول، يقال: تقطع اليربوع دخل في قاصعائه، فيكون صفة للجحر، وصلته محذوفة: أي من جحره الذي يتقطع فيه، وروي بالبناء للفاعل، فيكون صفة اليربوع: ورواه أبو زيد في نوادره " المتقصِّعُ " باسم المفعول " فيكون من صفة اليربوع أيضاً، لكن فيه حذف الصلة.
والبيت من أبيات شرحناها وافياً في أول شاهد من شواهد شرح الكفاية وأنشدب بعده - وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل)

(4/346)


168 - أيا ضبية الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ * وَبَيْنَ النَّقَا آأنت أمْ أُمُّ سَالِم على أنه فصل بين الهمزتين بألف قال سيبويه: " ومن العرب ناس يدخلون بين ألف الاستفهام وبين الهمزة ألفاً إذا التقتا، وذلك أنهم كرهوا التقاء همزتين ففصلوا، كما قالوا: أخْشَيْنَانِّ، ففصلوا بالألف كراهية التقاء هذه الحروف المضاعفة، قال ذو الرمة: أيا ضبية الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... البيت " اه (1) وبزيادة الألف يكون قوله " نقا آأن " مفاعيلين، جزءاً سالماً، ويجوز أن تحقق الهمزتان بلا زيادة ألف فيكون قوله " نقا أأن " مفاعلن، جزءاً مقبوضاً، وأورده الشارح والزمخشري في المفصل تبعاً لسيبويه بزيادة الألف، لأنه معها يمتد الصوت ويكون جزءاً سالماً، وهو أحسن، وحملا على الأصل، لأن الزحاف فرع ومراعاة الأصل أولى، وأما البيت بعده فلا يستقيم إلا بإقحام الألف بين الهمزتين، قال أبو علي في كتاب الشعر: فيه حذف خبر المبتدأ، التقدير أأنْتِ هي أمْ أمُّ سالم، فإن قلت: فما وجه هذه المعادلة؟ وهل يجوز أن يشكل هذا عليه حتى يستفهم عنه،
وهو بندائه، لها قد أثبت أنها ظبية الْوَعْساء؟ ألا ترى أنه لو نادى رجلاً بما يوجب القذف لكان في ندائه بذلك كالخبر عنه؟ فكذلك إذا قال: يا ظبية الوعساء قد أثبتها ظبية الوعساء، وإذا كان كذلك فلا وجه لمعادلته إياها بأم سالم حتى يصير كأنه قال: أيكما أمُّ سالم؟ فالقول في ذلك أن المعنى على شدة المشابهة من هذه الظبية لأم سالم، فكأنه أراد التبستمَا عليّ واشتبهتما، حتى لا أفصل بينكما، فالمعنى على هذا الذي ذكرناه شدة المشابهة، لأنه ليس ظبية الوعساء من أم سالم ... إلى آخر ما ذكره " والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة، وقبله:
__________
(1) انظر كتاب سيبويه (ح 2 ص 168) (*)

(4/347)


أقُولُ لِدَهْنَاوِيَّةٍ عَوْهَجٍ جَرَتْ * لَنَا بَيْنَ أعْلَى عُرْفَةٍ فالصَّرائِمِ وبعده: هِيَ الشِّبْهُ إلاَّ مِدْرَيَيْهَا وَأُذْنَهَا * سَوَاءً وَإلاَّ مَشْقَةً فِي الْقَوَائِمِ وقوله " أقول لدَهْنَاوِية " أي: لظبية منسوبة إلى الدهناء - بالمد وبالقصر وهو موضع في بلاد تميم، والعوهج - بفتح العين المهملة وآخره جيم -: الطويلة العنق، وَجَرَتْ: سنحت، والعرفة - بضم العين المهملة وبالفاء -: القطعة المشرفة من الرمل، والصرائم: قطع من الرمل، جمع صَرِيمة، وقوله " أيَا ظَبْيَة إلخ " هو مقول القول، ويروى " فيا ظبية " - بالفاء - وليس بالوجيه، وَالْوَعْسَاء، الرابية اللينة من الرمل، ويقال: الوَعْسَاء: الأرض اللينة ذات الرمل، والمكان أوْعَسُ، و " جلاجل " بجيمين أولاهما مضمومة، وروى بفتحها أيضاً، وروي " حُلاحِل " - بمهملتين أولاهما مضمومة - وهو اسم مكان، والنقا: التل من الرمل، وأم سالم: هي محبوبته، وقوله " هي الشِّبه إلخ "
المْدْرَى - بكسر الميم وسكون الدال المهملة -: القرن، والمَشْقَةُ: الدِّقة، يقال: فلان ممشوق الجسم: أي دقيق خفيف، يقول: هي أشبه شئ بأم سالم إلا قرنيها وأذنيها، وإلا حُموشة (1) في قوائمها، فأما العنق والعين والملاحة فهي شبيهة بها، قال الأصمعي في شرح ديوانه هنا: " يقال: إن مسعوداً أخاه وهشاماً عابا عليه كثرة تشبيهه المرأة بالظبية، وقِيلِهِ: إنها دقيقة القوائم، وغير ذلك، فقال هذه القصيدة، واستثنى هذا الكلام فيها " وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائة -: (من الطويل)
__________
(1) الحموشة: الدقة، قال الشاعر يصف براغيث: وحمش القوائم حدب الظهور * طرقن بليل فأرقننى

(4/348)


169 - حزق إذا ما الناس أبدوا فكاهة * تفكر آإيَّاهُ يَعْنُونَ أم قِرْدَا لما تقدم قبله والبيت أورده أبو زيد في كتاب الهمز، وقال: وبعض العرب يقول: يا زيد، آأعطيت فلاناً؟ فيفرق بين الهمزتين بالألف الساكنة، ويحققهما، قال الشاعر: حُزُقٍ إذَا مَا الْقَوْمُ أبْدَوْا فُكَاهَةً ... البيت وأورده ابن جني في سر الصناعة، والزمخشري في المفصل و " الحُزق " بضمتي الحاء المهملة والزاي المعجمة وتشديد القاف، فسره أبو زيد بالقصير، وكذا في العباب.
قال: والحُزُقُّ وَالْحُزُقَّةُ القصير، قال جامع بن عمرو بن مرخية الكلابي: وليس بجواز لأحلاس رحله * ومزوده كيسا من الرأي أو زهدا حزق إذا ما القوم ... البيت وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُرَقِّصُ الحسن أو الحسين رضي
الله عنهما، ويقول: حُزُقَّة حُزُقَّهْ تَرَقَّ عَيْنَ بَقَّهْ، فترقى الغلام حتى وضع قدميه على صدره عليه الصلاة والسلام، قال ابن الأنباري: حُزُقَّةٌ حُزُقَّةْ: معناها المداعبة والترقيص له، وهي في اللغة الضعيف الى يقارب خَطْوَه من ضعف بدنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لضعف كان فيه ذلك الوقت، قال: وَالحُزُقَّة في غير هذا الضِّيق (1) ، قالها الأصمعي، وقال أبو عبيدة: الحزقة القصير العظيم البطن الذي إذا مشى أدار أليته، ومعنى تَرَقْ: أي اصْعَد، عَيْنَ بَقَّهْ: أي
__________
(1) قد أطلق الضيق في عبارة الاصمعي هنا، ولكن قيده صاحب اللسان فقال: " قال الاصمعي: رجل حزقة، وهو الضيق الرأى من الرجال والنساء وأنشد بيت امرئ القيس: وأعجبني مشى الحزقة خالد * كمشى أتان حلئت بالمناهل (*)

(4/349)


يا ضمير العين، لأن عين البقة نهاية في الصغر " انتهى وهذان البيتان من قصيدة لجامع المذكور أورد منها أبو محمد الأعرابيّ في ضالة الأديب ثلاثة عشر بيتاً وهي هذه: تَعَالَى بِأَيْدٍ ذَارِعَاتٍ وَأرْجُلٍ * مُنْكَبَّةٍ روحٍ يَخِدْنَ بِنَا وَخْدَا سَعَالِيَ لَيْلٍ مَا تَنَامُ وَكُلِّفَتْ * عشِيَّةَ خْمِس الْقَوْمِ هَاجِرَةً صَخْدَا فَجِئْنَ بِأَغْبَاشٍ وَمَا نَزَلَ الْقَطَا * قَرَامِيصَ مَأْوَاهُ وَكَانَ لَهَا وِرْدَا وَجِئْنَ يُنَازِعْنَ الأَزِمَّةَ مُقْدِماً * مَحَاوِيقَ قَدْ لاَقَتْ مَلاَوِيحُهَا جَهْدَا إلى طَامِيَاتٍ فَوْقَهَا الدِّمْنُ لَمْ نَجِدْ * لَهُنَّ بَأَوْرَاد وَلاَ حَاضِرٍ عَهْدَا فَشَنَّ عَلَيْهَا فِي الإزَاءِ بِسُفْرَةٍ * فَتىً مَاجِدٌ تثْنِي صَحَابَاتُهُ حَمْدَا كَأَنَّهُمْ أرْبَابُهُ وَهْوَ خَيْرُهُمْ * إذَا فِزِعُوا يَوْماً وَأَوْرَاهُمُ زَنْدَا وَأجْدَرُهُمْ أنْ يُعْمِلَ العيس تَشْتَكِي * مَنَاسِمُهَا في الْحَجِّ أوْ قَائِداً وَفْدَا
خَفيفٌ لَهُمْ فِي حَاجِهِمْ وَكَأَنَّمَا * يُعِدُّونَ لِلأَبْطَالِ ذَا لبدة وردا إذا ما دعو لِلْخَيْرِ أوْ لِحَقِيقَةٍ * دَعَوْا رَعْشَنِيّاً لَمْ يَكُنْ خَالُهُ عَبْدَا وَلَيْسَ بحَوَّازٍ لأَحْلاَسِ رَحْلِهِ * وَمِزْوَدِهِ كيسا من الرأي أو زهدا حزق إذا ما القوم أبدوا فكاهة * تذكر آإياه يعنوم أمْ قِرْدَا وَلاَ هَجْرَعٍ سَمْجٍ إذَا مَاتَ لَمْ يَجِدْ * بِهِ قَوْمُهُ فِي النَّائِبَاتِ لَهُ فَقْدَا وقوله " تعالى بأيد " أي: تتعالى وترتفع الابل بأيد، ذارعات: أي مسرعات، والذرع والتذريع: تحريك الذراعين في المشي، وَ " مُنَكَّبَةٍ " اسم فاعل من نكب تنكبيا، إذا عدل عن الطريق، ويقال: نَكَبَ عن الطريق يَنْكُبُ نكوباً، بالتخفيف أيضاً، ورُوح: جمع أرْوَح، وروحاء، من الرَّوَح - بفتحتين ومهملتين - وهو سعة في الرجلين، وهو أن تتباعد صدور القدمين وتتدانى الْعَقِبَانِ، وَالْوَخْدُ - بالخاء المعجمة -: ضرب من سير الإبل، وهو رمي القوائم

(4/350)


كمشي النعام، وقوله " سَعَالِيَ لَيْلٍ " أي: كسعالي ليل، شبه الإبل بالسِّعْلاَة، وهي أنثى الغول وأخبثها، وأضافها إلى الليل لكمال قوتها فيه، و " كُلِّفَتْ " بالبناء للمفعول، وَالْخِمْس - بالكسر - هو أن ترد الإبل الماء يوماً ولا ترد بعده إلا في اليوم الخامس، فيكون صبرها عن الماء ثلاثة أيام، والهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر، وأراد سَيْرَ هاجرة، والصَّخْد - بالصاد المهملة والخاء المعجمة -: مصدر بمعنى اسم الفاعل، يقال: صَخَدته الشمس، من باب منع: أي أصابته وأحرقته، وقوله " فجئن بأغباش ": أي جاءت الإبل بأغباش جَمعِ غَبَش - بفتحتين - وهو البقية من الليل، ويقال: ظلمة آخر الليل، والقطا أسبق الطير إلى الماء، والقَرَامِيص: حُفَر صِغَار يستكنُّ فيها الإنسان من البرد، الواحد قُرْموص، والوِرْدُ - بالكسر -: ورود الماء، يريد أن الإبل سبقت
القطا إلى الورد، وقوله " وجئن ينازعن إلخ " أي يُجَاذِبْنَ، وَالأَزِمَّة: جمع زِمام، والمُقْدِم: اسم فاعل من أقدم إذا جدّ، وهو المنازعُ منه، و " محاويق " حال من فاعل ينازعن، وهو جمع مَحْوقة - بالفتح - وهي التي دعكها السفر وأتعبها، اسم مفعول من حاقة يَحُوقه حَوْقاً، وهو الدلك والتمليس، و " ملاويحها " فاعل لافت، جمع مِلْوَاح - بالكسر - وهي الشديدة العطش، من لاَحَ لَوْحاً من باب نصر، إذا عطش، ولاحة السفر: أي غيره، والجهد: المشقة، وقوله " إلى طاميات " أي: جاءت الابل إلى مياه طاسيات: أي مرتفعات في الأحواض، من طما الماء يَطْمُو طُمُوًّا - بالطاء المهملة - إذا ارتفع وملأ النهر، والدِّمْن - بكسر الدال -: البَعر، وماء متدمن، إذا سقط فيه أبعار الإبل والغنم، وَأوْرَادٌ: جمع وِرْدٍ - بالكسر - والورد هنا.
القوم الذين يردون الماء، والحاضر: المقيم، يقال: على الماء حاضر، وقوم حُضَّار، إذا حضروا المياه، وقوله " فَشَنَّ عَلَيْهَا " أي: على الإبل، وَشَنَّ الماء على الشراب: أي فَرَّقه عليه، والإزاء - بكسر

(4/351)


الهمزة بعدها زاي معجمة والمد -: مصب الماء في الحوض، قال أبو زيد: هو صخرة، وما جَعَلْتَ وقاية على مصب الماء حين يفرغ الماء، وَالسُّفْرة - بالضم - الجلدة التي يؤكل عليها الطعام، و " فتى " فاعل شَن، و " تُثْنِي " من الثناء وهو الذكر الجميل، و " أرْبَابه " ساداته، والمناسم: جمع مَنْسِم - كَمَجْلِس -: طرف خف البعير، وحاجٌ: جمع حَاجَة، و " يُعِدّون " من أعدّه لكذا: أي هيأه، و " ذالبدة " مفعولهُ، أراد به الأسد، واللبدة - بكسر اللام - وهو الشعر المتلبد بين كتفي الأسد، قال صاحب الصحاح: الوَردُ: الذي يُشَمُّ، وبلونه قيل للأسد وَرْد، وللفرس وَرْد، وقوله " إذا ما دَعَوْا إلخ " أراد إذا دعا القوم لبذل الخير أو لحماية حقيقة، وأراد به من يحق عليه حمايته من عشيرة وغيرها، والرعشنى: المسرع،
وقوله " وليس بجواز إلخ " هو مبالغة حائز، من حاز الشئ، إذا جمعه، والإحْلاس: جمع حِلْس - بالكسر -: أثاث البيت، والرَّحْلُ: المنزل والمأوى، ومِزْوَدِهِ معطوف على أحلاس، وَالْمِزْوَد - بالكسر -: ما يجعل فيه الزاد، وهو طعام السفر، وكَيْساً: مفعوله لاجله: أي لا يحوز: إمَّا لكيسه وإما لزهده، والْكَيْسُ: الكياسة، وهي خلاف الْحُمْقِ، وقوله " حزق " بالجر صفة لِحِوَّاز، والفُكاهة - بالضم - المزاح وانبساط النفس، يقول: هو ليس ممن إذا تمازح القوم تفكر أيَعْنُونه ويريدونه أم يعنون القِرْد لشبهه به، فيشتبه عليه الأمر، وقوله " ولا هِجْرَعٍ " بالجر معطوف على حُزُقّ، والهِجْرَعِ بكسر الهاء والراء (1) وسكون الجيم بينهما، وهو الطويل، و " سَمْج " صفته من السماجة، أي: ليس بطويل قبيح، وقوله " إذا مات إلخ " يقول: هو ليس ممن لا يبكي عليه قومه في الشدائد بعد موته، بل يبكون عليه، لأنه يدفع عنهم نوائب الدهر.
__________
(1) هجرع: فيها لغتان حكاهما صاحب القاموس: إحداهما كدرهم، والثانية كجعفر، وليس فيها كسر الراء كما يتوهم من عبارة المؤلف (*)

(4/352)


الاعلال أنشد فيه - وهو الشاهد السبعون بعد المائة -: (من الوافر) 170 - * أعَارَتْ عَيْنُهُ أمْ لَمْ تَعَارَا * على أنه قد يُعل باب فَعِلَ من العيوب، فإن عارت أصله عَوِرت - بكسر الواو - فقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو قليل، والكثير عَوِرَ يَعْوَرُ، لأنه في معنى اعْوَرَّ يعوَرُّ، فلما كان اعور لابد له من الصحة لسكون ما قبل الواو صحت العين في عَوِرَ وَحَوِلَ ونحوهما، لأنها قد صحت فيما هو بمعناها، فجعلت
صحة العين في فَعِلَ أمارة لأنه في معنى افْعَلَّ قال سيبويه: لم يَذْهب به مذهبَ افْعَلَّ، فكأنه قال: عارت تَعْوَرُ، ومن قال هكذا فالقياس أن يقول: أعار الله عينه، وقد رواه صاحب الصحاح - وتبعه صاحب العباب - بالعين المهملة والغين المعجمة، ومعنى عارت عينه صارت عوراء، وقالا في المعجمة: وغارت عينه تغُور غَوْراً وغُؤوراً: دخلت في الرأس، وغارت تغار لغة فيه، وصدره عنده: * وَسَائِلَةٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ عَنِّي * أي: رب سائلة وأنشده ابن قتيبة في أدب الكاتب: * تُسَائِلُ بابْنِ أحْمَرَ مَنْ رَآهُ * على أن الباء بمعنى عن قال الجواليقي في شرحه: " عمرو بن أحمر من باهلة، وهو أحد عُوران قيس، وهم خمسة شعراء: تَمِيم بنُ أبيّ بن مقبل، والراعي، والشماخ، وحميد بن ثور، وابن أحمر، يقول: تسائل هذه المرأة عن ابن أحمر أصارت عينه عوراء أم لم تَعْوَرّ؟ يقال: عارت العين وعُرتُها أنا وعوَّرتها، ويروى تِعَارَا - بفتح التاء

(4/353)


وكسرها - وهي لغة فيما كان مثله، وأراد تَعَارَنْ بالنون الخفيفة - التي للتأكيد فأبدل منها ألفاً لينه للوقف " انتهى.
وروى ابن دريد صدره في الجمهرة * ورُبَّتَ سَائِلٍ عَنِّي حفى * قال: وربما قالوا: في معنى رُبَّ، وأنشد البيت و " الحفي " بالحاء المهملة والفاء: المستقصى في السؤال
وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب: " هذا البيت لعمرو بن أحمر، وهذا من الشعر الذي يدل على قائله، ويغنى عن ذكره، ووقع في شعره: ورُبَّتَ سَائِلٍ عَنِّي حَفّي، وهو الصحيح، لأنه ليس قبل هذا البيت مذكور يعود إليه الضمير من قوله: تُسَائِل، ولعل الذي ذكر ابن قتيبة رواية ثانية مخالفة للرواية التي وقعت إلينا من هذا الشعر، وبعد هذا البيت: فَإنْ تَفْرَحْ بِمَا لاَقَيْتُ قَوْمِي * لِئَامُهُمُ فَلَمْ أكثرْ حِوَارَا والحوار - بالحاء المهملة -: مصدر حاورته في الأمر إذا راجعته فيه، يقول: لم أكثر مراجعة من سُرَّ بذلك من قومي، ولا أعنفه في سروره لما أصابني، وكان رماه رجل يقال له مَخْشِيٌّ بسهم ففقأ عينه، وفي ذلك بقول: (من البسيط) شَلَّتْ أنَامِلُ مَخْشِي فَلاَ جَبَرَتْ * وَلاَ اسْتَعَانَ بِضَاحِي كَفِّهِ أبَدَا أهْوَى لَهَا مِشْقَصاً حَشْراً فَشَبْرَقَهَا * وَكُنْتُ أدْعُو قَذَاهَا الإثْمدَ الْقَرِدَا أعْشُو بِعَيْنٍ وأُخْرَى قَدْ أضَرَّبِهَا * رَيبُ الزَّمَانِ فَأمْسى ضَوْءُهَا خَمِدَا وقوله " أم لم تعارا " قياسه أن يقول: أم لم تَعَرْ كَلَمْ تخف، ولكنه أراد النون الخفيفة " انتهى كلامه وأورده ابن عصفور في الضرائر قال: " ومنها ردّ حرفِ العلة المحذوف لا لتقاء

(4/354)


الساكنين اعتداداً بتحريك الساكن الذي حذف من أجله وإن كان تحريكه عارضاً، كقوله: * أعَارَتْ عَيْنُهُ أمْ لَمْ تَعَارَا * كان الوجه لم تَعَرْ، إلا أنه اضطر فرد حرف العلة المحذوف واعتد بتحريك الآخر وإن كان عارضاً، ألا ترى أن الراء من تَعارا إنما حركت لأجل النون الخفيفة المبدل منها الألف؟ والأصل لم تَعَرَنْ، ولحقت النون الخفيفة الفعل المنفي بلم كما
لحقته في قول الآخر: * يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا * " انتهى ولم يتصل خبرُ عَوَرِ عينه بسهم إلى بعض فضلاء العجم فقال في شرح أبيات المفصل: " وأراد بغُؤور العين ما هو سببه، وهو الهزل والنحافة، فسألت عنه أنَحْفَ جسمه وضعف بعدي أم هو على حاله؟ " هذا كلامه، وظن أن هذا الكلام من التغزل، وأجْحف ابن المستوفي وظن أن عينيه عَوِرتا فحمل عارت عينه على الواحدة وتَعارا على العينين، واعتذر للافراد أولا بأن كل شئ لا يخلو عن قرين يجوز أن يُعَبَّر (فيه) بالواحد عن الاثنين، فالألف في " تعارا " على قوله ضمير تثنية، والجزم بحذف النون، وتندفع الضرورتان عنه برد الألف والتوكيد مع لم، لكنه خلاف الواقع وعمرو بن أحمر شاعر مخضرم إسلامي قد ترجمناه في الشاهد الستين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد الجار بردى هنا - وهو الشاهد الواحد والسبعون بعد المائة -: (من الرجز) 171 - أيَّ قَلُوصٍ رَاكِبٍ تَرَاهَا * طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَا

(4/355)


على أن القياس عليهِنَّ وعَلَيْها، لكن لغة أهل اليمن قلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها ألفاً، وهذا الشعر من كلامهم كذا أوردهما الجوهري في الصحاح، وهما من رجز أورده أبو زيد في نوادره نقلنا وشرحناه في الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة من شواهد شرح الكافية وقوله " أي قَلُوصٍ راكبٍ " باضافة قلوص إلى راكب، و " أي " استفهامية تعجبية، وقد اكتبست التأنيث من قلوص، ولهذا أعاد الضمير إليها مؤنثاً،
و" أي " منصوب، من باب الاشتغال، ويجوز رفعه على الابتداء، والقلوص - بفتح القاف -: الناقة الشابة، وطاروا: أسرعوا وأنشد بعده: (من المنسرح) نستوقد النبل بالحضيض ونصطاد نفوسا عَلَى الْكَرَمِ وتقدم شرحه في الشاهد التاسع عشر من هذا الكتاب وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من مجزوء الكامل) 172 - عَيُّوا بِأَمْرِهِمُ كَمَا * عَيَّتْ ببيضتها الحمامه جعلت لها عودين من * نشم وآخر من ثُمَامَهْ على أنه أدغم المثلان جوازاً في عَيُّوا قال سيبويه: " وقد قال بعضهم: حيوا وعَيُّوا لَمَّا رأوها في الواحد والاثنين والمؤنث، إذ قالوا: حيت المرأة، بمنزلة المضاعف من غير الياء، أجروا الجمع على ذلك، قال الشاعر: * غيرا بأمرهم ... البيت (1) * "
__________
(1) انظر الكتاب (ح 2 ص 387) (*)

(4/356)


قال الأعلم: " الشاهد فيه إدغام عَيُّوا وجَعْلُه كالمضاعف الصحيح السالم من الإعلال والحذف، لادغامه " والبيتان من قصيدة لعَبِيد بن الأبرص الأسَديَّ خاطب بها حُجْراً أبا امرئ القيس، واستعطفه لبني أسد، وذلك أن حجراً كان يأخذ منهم إتاوة فمنعوه إياها فأمر بقتلهم بالعصى، فلذلك سموا عَبِيد الْعَصَى، ونفى من نفى منهم إلى تهامة، وأمسك منهم عمرو بن مسعود وعَبِيد بن الأبرص وحلف أن لا يساكنوه،
فلما خاطبه بها رق لهم حجر، وأمر برجوعهم إلى منازلهم، فاضطغنوا عليه ما فعل بهم فقتلوه، وأولها: يَا عَيْنُ مَا فَابْكِي بَنِي أسَدٍ * هُمُ أهْلُ النِّدَامَهْ (1) أهْلُ الْقِبَابَ الْحُمْرِ وَالنِّعَم الْمُؤْبَّلِ وَالْمُدَامَهْ وَذَوُو الْجِيَادِ الْجُرْدِ والأسل * الْمُثَقَّفَةِ الْمُقَامَهْ (2) حِلاًّ أبَيْتَ اللَّعْنَ حِلْلاً * إنَّ فيما قُلْتَ آمَهْ فِي كُلِّ وَادٍ بَيْنَ يثرب * فَالْقُصُورِ إلَى الْيَمَامَهْ تَطْرِيب عَانٍ أوْ صِيَا * حُ مُحرَّق وَزُقَاء هَامَهْ (3) وَمَنَعْتَهُمْ نَجْداً فَقَدْ * حَلُّوا عَلَى وَجَلٍ تَهَامَهْ عَيُّوا بِأَمْرِهِمُ كَمَا * عيت بيضتها الحمامه (4) جعلت لها عودين من * نشم وآخر من ثمامه
__________
(1) رواية الاغانى " يا عين فابكى ما بنى " (2) رواية الاغانى " وذوى الجياد " (3) رواية الاغانى " أو صوت هامه " (4) رواية الاغانى " برمت بنو أسد كما * برمت ببيضتها الحمامه " (*)

(4/357)


فَنَمَتْ بِهَا في رَأْسِ شَا * هِقَةٍ عَلَى فَرْعِ الْبَشَامَهْ إمَّا ترت تَرَكْتَ عَفْواً * أوْ قَتَلْتَ فَلاَ مَلاَمَهْ أنْتَ الْمَلِيكُ عَلَيْهِمِ * وَهُمُ الْعَبِيدُ إلَى الِقِيَامَهْ ذُلُّوا وَأعْطُوكَ القيا * د كذل أدْبَرَ ذِي حَزَامَهْ (1) قوله " يا عين ما فابكي " ما: زائدة، والنعم: المال الراعي، وهو جمع لا واحد
له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد: النعم: الجمال فقط، وقيل: الإبل خاصة (2) ، يؤنث ويذكر، وهو هنا مذكر لوصفه بالمؤبَّل، باسم المفعول، ومعناه الْمُقْتَنَى، يقال: أبَّلَ الرجل تأبيلاً: أي اتخذ إبلاً واقتناها، والأسل: القنا، والتثقيف: التعديل، والمقامة: اسم المفعول من أقام الشئ بمعنى عدَّله وسواه، وفي العُباب: يقال: حِلاَّ: أي استَثْنِ، ويا حالف اذكر حِلاًّ، قال عَبِيد بن الأبرص لأبي امرئ القيس - وحلف أن لا يساكنوه -: حِلاًّ أبَيْتَ اللَّعْنَ ... البيت و " آمه " وفيه أيضاً في مادة (أوم) : الآمة العيب، وأنشد البيت أيضاً، وطرَّب تطريباً: أي مَدَّ صوته، والعاني: الاسير، والزُّقاءُ - بضم الزاي المعجمة بعدها قاف -: صياح الديك ونحوه، و " الهامة " تزعم العرب أن روح القتيل الذى لم يُدْرك بثأره تصير هامة - وهو من طيور الليل - فتزقو تقول: اسقوني اسقوني (3) ، فإذا أدرك بثأره طارت، وقوله " عَيّوا بأمرهم " الضمير لبنى أسد،
__________
(1) فسر المؤلف الحزامة على أنها بالحاء المهملة مفتوحة، والذى في الاغانى: ذلوا بسوطك مثلما * ذل الاشيقر ذى الخزامه والخزامة - بكسر الخاء المعجمة -: برة تجعل في أنف البعير ليذل ويقاد (2) هذا مقابل لقول لم يذكر، وهو: النعم يطلق على الابل والبقر والغنم (3) قال ذو الاصبع العدواني: يا عمرو إلا تدع شتمى ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة اسقوني

(4/358)


وفي الصحاح: يقال: عَيَّ بأمره وعييى إذا لم يهتد لوجهه، والإدغام أكثر، وأنشد البيت، والنشم - بفتح النون والشين المعجمة -: شجر يتخذ منه القِسِّيُّ، والثمام - بضم المثلثة -: نبت ضعيف لو خوص أو شبيه بالخصوص، وربما حُشِي به وسد به خَصاص البيوت، الواحدة ثمامة
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: " أصحاب المعاني يقولون: إنه أراد جعلت لها عودين: عوداً من نشم، وآخر من ثمامة، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه، فقوله: وآخر، على هذا التأويل ليس معطوفاً على عودين، لأنك إن عطفته عليهما كانت ثلاثة، وإنما هو معطوف على الموصوف الذي حذف وقامت صفته مَقَامه، فهو مردود على موضع المجرور، وهذا قبيح في العربية، لأن إقامة الصفة مُقام الموصوف إنما يحسن في الصفات المحضة، فإذا لم تكن محضة وكانت شيئا ينوب مناب الصفة من مجرور أو جملة أو فعل لم يجز إقامتها مقام الموصوف، لا يجوز جاءني من بني تميم وأنت تريد رجل من بني تميم، وقد جاء شئ قليل من ذلك في الشعر، وأما تشبيه أمر بني أسد بأمر الحمامة فتلخيصه أنه ضرب النشم مثلاً لذوي الحزم وصحة التدبير، وضرب الثُّمام مثلاً لذوي العجز والتقصير، فأراد أن ذوي العجز منهم شاركوا ذوي الحزم في آرائهم فأفسدوا عليهم تدبيرهم، فلم يقدر الحكماء على إصلاح ما جناه السفهاء، كما أن الثمام لما خالط النشم في بنيان العُش فسد العُش وسقط، لو هن الثمام وَضعفه، ولم يقدر النشم على إمساكه بشدته وقوته " هذا كلامه وفيه نظر من وجهين: أما أولاً: فلأنه لا ضرورة في تخريجه على الضرورة، ولا مانع في المعنى من عطف " آخَرَ " على عودين، إذ المراد جعلت عشها من هذين الجنسين: النشم، والثمامة: سواء كان أحدهما أكثر من الآخر أم لا، وليس المراد أنها لم تجعله سوى عودين لعدم، إمكانه بديهة، والمراد من العدد القلة لا ظاهره،

(4/359)


وأما ثانياً: فلأنه ليس معنى التشبيه على ما ذكره، وإنما المراد من تشبيههم بها عدم الاهتداء لصلاح الحال قال الأعلم: " وصف خُرْق قومه وعجزهم عن أمرهم، وضرب لهم مثلاً
بِخُرْق الحمامة وتفريطها في التمهيد لعشها، لأنها لا تتخذ عشها إلا من كُسَار العيدان، فربما طارت عنها فتفرق عشها وسقطت البيضة فانكسرت، وذلك قالوا في المثل: أَخْرَقُ مِنْ حَمَامة، وقد بين خرقها في بيت بعده، وهو: جَعَلَتْ لَهَا عُوْدَيْن ... البيت: أي: جعلت لها مهاداً من هذين الصنفين من الشجر، ولم يرد عودين فقط ولا ثلاثة كما يتأول بعضهم، لأن ذلك غير ممكن " انتهى.
واستدل ابن يَسْعَوْن والصَّقَلِيْ وجماعة ممن شرح أبيات الإيضاح الفارسى على أنه لا بيد من حذف الموصوف بأن العرب فيما زعموا لا تقول: ما رأيت رجلين وآخر، لأن آخَرَ إنما يقابل به ما قبله من جنسه: من إفراد أو تثنية أو جمع، فلزم لذلك أن يكون التقدير عُوداً من نشم وآخر من ثُمامة، حتى يكون قد قابل مفرداً بمفرد، وهو الذي ذكروا من أنه إنما يكون على وفق ما قبله من إفراد أو تثنية أو جمع، هذا ما قالوه، وهو ليس بصحيح، بدليل قول ربيعة بن مُكَدَّم: (من الكامل) * وَلَقَدْ شَفَعْتُهُمَا بآخَرَ ثَالِثٍ (1) * ألا ترى أنه قابل بآخر اثنين؟ وقولُ أبي حية: (من البسيط) وَكُنْتُ أمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً * فَصِرْتُ أمْشِي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ
__________
(1) هذا صدر بيت لربيعة بن مكدم، وعجزه قوله: * وأبى الفرار لى الغداة تكرمي * (*)

(4/360)


وقول امرئ القيس: (من الطويل) فَوَالَى ثَلاثَاً وَاثْنَتَيْنِ وَأَرْبعاً * وَغَادَرْتُ أُخْرَى فِي قَنَاةِ رَفِيض وقول أبي ذؤيب: (من الطويل)
فَأبْلِغْ لَدَيْكَ مَعْقِلَ بْنَ خُوَيْلِدٍ * مَآلِكَ تُهْدِيهَا إلَيْهِ هَدَاتُهَا عَلَى إثْرِ أُخْرَى قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أتَتْ * إلَيْنَا فَجَاءَتْ مُقْشَعِرّاً شواتُها المالِك: الرسائل، والشَّواة: جلدة الرأس، وهي أول ما يقشعر من الإنسان إذا فزع، وهذا مثل، ألا ترى أن أخرى في البيت مفردة مع أن ما قبلها ليس كذلك؟ وأما ما ذكروه من أن آخَرَ إنما يقابل به ما قبله من جنسه فأنهم يعنون به أن يكون الاسم الموصوف بآخر في اللفظ والتقدير يصح وقوعه على التقدير الذي قوبل بآخر على جهة التواطئ، نحو جاءني زيد ورجل آخرُ، وكذلك جاءني زيد وآخَرُ، لأن التقدير ورجل آخَرُ، وكذلك جاءني زيد وآخرى، تريد ونسمةٌ أخرى، فكذلك اشتريت فرساً ومركوباً آخَرَ وأنت تريد بالمركوب جملاً، لأن المركوب يصح وقوعه على الفرس والجمل على جهة التواطئ، وامتنع رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب وبالاخر عاقِدَ البيع، وإذا قوبل بآخر ما هو من جنسه فهل يشترط مع صحة وقوعه عليهما اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف: ذهب المبرد إلى أنه غير شرط، والصحيح أنه شرط، تقول: أتتني جاريتك وامرأة أخرى، فإن قلت أتتني جاريتك ورجل آخَرُ لم يجز، وكذلك لو قلت أتاني أخوك وامرأة أخرى، وإن قلت أتاني أخوك وإنسان آخَرُ جاز إن قصدت بالإنسان المرأة، وكذا جاءني أخوك وإنسان آخَرُ إن أريد بالإنسان الرجل، وهذا الذي ذكروه من أن آخر يقابل به ما قبله من جنسه هو المختار، وقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شئ من جنسه، وزعم أبو الحسن في الكبير له: أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فقال: لو قلت جاءني

(4/361)


آخر من غير أن يُتكلم قبله بشئ لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفاً وهذا قميص آخر لم يحسن، ثم قال: وهذا جائز في الشعر كقول، أم الضحاك: (من الطويل)
فَقَالُوا شِفَاءُ الْحُبِّ حُبٌّ يُزِيلُهُ * مِنَ آخَرَ أوْ نَأْيٌ طَويلٌ عَلَى هَجْرِ أي من محبوب آخر، ولم يتقدم ذكر المحبوب، وإنما ذكر الحب الدال عليه، وأحسن من ذلك قوله: (من الوافر) إذَا نَادَى مُنَادٍ باسْم أُخْرَى * عَلَى اسْمِكِ سَرَّنِي ذَاكَ النِّدَاءُ لأن أخرى، وإن لم يتقدم قبلها في اللفظ شئ من جنسها فقد تقدم في النية، لأنه أراد إذا نادى مناد على اسمك باسم أخرى وروى جماعة: جَعَلَتْ لَهَا عُوْدَيْنِ مِنْ * ضَعَةٍ وَآخَرَ مِنْ ثُمَامَهْ والضَّعة - بفتح الضاد المعجمة بعدها عين مهملة -: شجر من الْحَمْض، يقال: ناقة واضعة للتي ترعاها، ونوق واضعات، قال ابن حبيب في أمثاله التي على أفْعَلْ مِنْ كَذَا: " يقال: هُوَ أخْرَقُ مِنْ حمامة، وذلك أنها تجئ إلى الغصن في الشجرة فتبنى عليها عشاً وتستودعه بيضها، قال عَبيد بين الأبرص: جَعَلَتْ لَهَا عُوْدَيْنِ مِنْ * ضَعَةٍ ... إلخ والضعة: شبيه بالأسَل، والثمام: فوق الذراع شبيه بالأسل وليس به، وروى الْخُوَارِزْمي: عُوْدَيْن مِنْ نَشَمٍ " هذا كلامه قال ابن المستوفي: رواية ضعة أجود، لضعف شجره وإن جاز النشم، وقالوا: أحمق من حمامة، لأنها تُعِشُّ بثلاثة أعواد في مهب الريح وبيضها أضيع شئ، وقال ابن السيرافي: " وَضَعَتْ لَهَا عُوْدَيْنِ مِنْ ضَعَةٍ ... الخ يريد أنهم لم يتوجهوا للخلاص مما وقعو فيه، وإنما جعلهم كالحمامة لأن فيها خرقاً، وهي قليلة الحيلة، ويقال في الأمثال: هُوَ أخْرَقُ مِنْ حَمَامَة، وذلك

(4/362)


لأنها تبيض في شر المواضع وأخوفها على البيض، فإن اشتدت الريح وتحركت الشجرة سقط بيضها، والضعة: ضرب من الشجر " انتهى.
وقوله " فَنَمت بها " أي: بالبيضة، والنُّمُوّ معروف، وأراد في رأس شجرة شاهقة: أي عالية، والفرع: الغصن، والبشامه: شجرة طيبة الريح يستاك بعيدانها، وقوله " كذُلِّ أدْبَرَ ذي حَزَامَة " الأدْبر: وصف بمعنى المدبر من الإدبار ضد الإقبال، والْحَزَامَة - بالفتح -: مصدر حُزُمَ الرجل - بالضم - حزامة فهو حازم، والحزم: ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة وعَبِيد بن الأبرص - بفتح العين وكسر الموحدة - شاعر جاهلي ترجمناه في الشاهد السادس عشر بعد المائة من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 173 - وَكُنَّا حَسِبْنَاهُمْ فَوَارِسَ كَهَمْس * حَيُوا بَعْدَ ما ما توا مِنَ الدَّهْرِ أعْصُرَا على أنه مَنْ أظهر في حَيي ولم يدغِم قال في الجمع حَيُوا كخَشُوا مخففاً كما في البيت، وأصلهما حييوا وخشيوا، نقلت ضمة الياء الثانية إلى الياء الأولى بعد حذف كسرتها، فاجتمع ساكنان: الياء الثانية والواو فحذفت الياء، فصار حَيُوا وخَشُوا قال سيبويه: " فإذا قلت: فَعَلُوا وَأُفْعِلُوا قلت: حَيُوا وأُحْيُوا، لأنك قد تحذفها في خَشُوا وأخْشُوا، قال الشاعر: * وَكُنَّا حَسِبْنَاهُمْ ... البيت * " وقال ابن السراج في الأصول: " فإذا قلت: فَعَلُوا وَأُفْعِلُوا قلت: حَيُوا كما تقول: خَشُوا، فتذهب الياء، لأن حركتها قد زالت كما زالت في ضربوا، فتحذف لالتقاء الساكنين ولا تحرك بالضم، لثقل الضمة في الياء، وأحْيَوْا مثل

(4/363)


اخْشُوا " وأنشد البيت أيضاً.
وقد اشتهر رواية البيت بكُنَّا حَسِبْنَاهُمْ، واستشهد به جماعة كذا، وصوابه: وَحَتَّى حِسبْنَاهُمْ، وفيه شاهد آخر وهو جمع فاعل الوصفي على فَوَاعِل وهو آخر أبيات أربعة لأبي حُزابة أوردها الأصبهاني في الأغاني، قال: " أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثني محمد بن الهيثم الشامي قال: حدثني عمي أبو فراس عن العُذْري قال: دخل أبو حُزابة على عُمَارة بن تميم ومحمد بن الحجاج وقد قدما سجستان لحرب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان عبد الرحمن لما قدماها هَرَب ولم يبق بسجستان من أصحابه إلا نحو سبعمائة رجل من بني تميم كانوا مقيمين بها، فقال لهما أبو حُزَابة: إن الرجل قد هرب منكما ولم يبق من أصحابه أحد، وإنما بسجستان من كان بها من بني تميم قبل قدومه، فقالا له: ما لهم عندنا أمان، لأنهم قد كانوا مع ابن الأشعث وخلعوا الطاعة، فقال ما خلعوها ولكنه ورد عليهم في جمع عظيم لم يكن لهم بدفعه طاقة، فلم يجيباه إلى ما أراد، وعاد إلى قومه وحاصرهم أهل الشام فاستقتلت بنو تميم، فكانوا يخرجون إليهم في كل يوم فيدافعونهم ويكبسونهم بالليل، وينهبون أطرافهم حتى ضَجِرُوا بذلك، فلما رأى عُمَارَة فعلهم صالحم وخرجوا إليه، فلما رأى قلتهم قال: أما كنتم إلا ما أرى؟ قالوا: لا، فإن شئت أن نقيلك الصلح أقلناك وعدنا للحرب، فقال: أنا غنيّ عن ذلك، فأمَّنهم، فقال أبو حزابة في ذلك: فلِلَّه عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ فَوَارِسٍ * أكَرَّ عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْهُمْ وَأَصْبَرَا وَأَكْرَمَ لَوْ لاَقَوْا سَدَاداً مُقَارِباً * وَلَكِنْ لقواطما مِنَ الْبَحْرِ أخْضَرَا فَمَا بَرِحُوا حَتَّى أعَضُّوا سُيُوفَهُمْ * ذُرَى الْهَامِ مِنْهُمْ وَالْحَدِيدَ الْمُسْمَّرَا وَحَتَّى حَسِبْنَاهُمْ فوارس كهمس * حيوا بعد ما مَاتُوا مِنَ الدَّهْرِ أعْصُرَا " انتهى ما أورده الأصبهاني

(4/364)


و " كهمس " على وزن جعفر، قال صاحب الصحاح: الكَهْمَسُ: القصير، وكهمس: أبو حي من العرب، وأنشد هذا البيت بلفظ " وكنا حسبناهم "، وكذا قال صاحب العباب، قال ابن بري في أمالية على الصحاح: " البيت لموْدود العنبري، وقيل لأبي حُزابة الوليد بن حنيفة، وكَهْمَسٌ هذا هو كهمس ابن طَلْق الصرِيميّ، وكان من جملة الخوارج مع بلال بن مِرْداس، وكانت الخوارج وقعت بأسلم بن زُرْعة الكلابي، وهم في أربعين رجلاً وهو في ألفي رجل، فقتلت قطعة من أصحابه وانهزم إلى البصرة، فقال مودود هذا الشعر في قوم من بني تميم فيهم شدة، وكانت لهم وقعة بسجستان، فشبههم في شدتهم بالخوارج الذين كان فيهم كهمس ابن طلق، وقوله " حيوا " يعني الخوارج أصحاب كهمس: أي كأن هؤلاء القوم أصحاب كهمس في شدتهم وقوتهم ونصرتهم، وأنشد الأبيات قبله وعلم من هذا أن كهمساً في البيت ليس أبا حي من العرب وإنما هو أحد الخوارج من أصحاب بلال بن مرداس الخارجي قال المبرد في الكامل: " وكان مرداس أبو بلال بن حُدَيْر - وهو أحد بني ربيعة ابن حنظلة - يعظمه الخوارج وكان مجتهداً كثير الصواب في لفظه، وكان مِرْدَاس قد شهد صفِّين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأنكر التحكيم، وشهد النَّهْرَوَان، ونجا فيمن نجا، وكان حبسه ابن زياد بن أبيه فلما خرج من حبس ابن زياد ورأى جِدّاً ابن زياد في طلب الشُّرَاة عزم على الخروج، فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً، منهم حُرَيث ابن حَجَل، وكَهْمَسُ بن طلق الصَّرِيمِيُّ، فأرادوا أن يولوا أمرهم حُرَيثاً فأبى، فولوا أمرهم مِرْداساً، فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رَباح الأنصاري - وكان له صديقاً - فقال له: يا أخي أين تريد؟ فقال: أريد أن أهرب بدينى وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة، فقال له: أعَلِمَ بكم أحد؟ قال: لا،
قال: فارجع، قال: أو تخاف عَلَيَّ مكروهاً؟ قال: نعم، وأن يؤتى بك، قال: فلا

(4/365)


تخف، فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً ولا أقاتل إلا من قاتلني، ثم مضى حتى نزل آسَكَ، وهو ما بين رامَهُرْمُزَ وأرَّجان، فمر به مال يُحمل لابن زياد - وقد قارب أصحابه الأربعين - فحط ذلك المال فأخذ منه عطاءه وَأعْطِيَة أصحابه ورد الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما أخذنا أعطيتنا، فجهز عبيد الله بن زياد أسلم بن زُرْعة في أسْرع وقت، فلما صار إليهم أسلمُ صاح بهم أبو بلال: اتق الله يا أسلم، فإنا لا نريد قتالاً، فما الذي تريده؟ قال: أريد أن أردكم إلى ابن زياد، قال مِرداس: إذاً يقتلنا، قال وإن قتلكم؟ قال تَشْرِكُهُ في دمائنا، قال: إني أدين بأنه محق وأنكم مبطلون، فصاح به حُرَيْثُ ابْنُ حَجَل: أهو محق وهو يطيع الفجرة - وهو أحدهم - ويقتل بالظنة ويخص بالفئ ويجور في الحكم؟ ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه من غير قتال، فلما ورد على ابن زياد غضب عليه، وقال: ويلك، أتمضي في ألفين فتنهزم لحملة أربعين؟ ثم ندب ابنُ زياد لهم الناسَ فاختار عَبَّادَ بن أخضر فوجهه في أربعة آلاف والتقوا في يوم جمعة، فلم يزالوا يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، فناداهم أبو بلال: يا قوم هذا وقت الصلاة، فوادعونا حتى نصلي وتصلوا، قالوا: لك ذلك، فرمى القوْم أجمعون بأسلحتهم وعمدوا للصلاة، فأسرع عَبَّاد ومن معه - والحرورية مبطئون، فهم من بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد - حتى مال عليهم عباد ومن معه فقتلوهم جميعاً، وكان فيهم كَهْمَسٌ، روي أنه كان من أبر الناس بأمه فقال لها يوماً: يا أُمَّهْ لولا مكانك لخرجت، فقالت: يا بُنَيَّ قد وهبتك لله، فخرج مع مرداس فقتل وصُلب " هذا ما لخصته من الكامل باختصار
وأبو حُزَابة: بضم الحاء المهملة بعدها زاي معجمة وبعد الألف موحدة، قال صاحب الأغاني: " أبو حزابة اسمه الوليد بن حنيفة، أحد بني ربيعة بن حنظلة

(4/366)


ابن مالك بن زياد مَنَاة بن تميم، شاعر من شعراء الدولة الأموية القدماء، بدَوِيّ حضرى سكن البصرة، واكتتب في الديوان، وضرب عليه البعث إلى سجستان، فكان بها مدة وعاد إلى البصرة، وخرج مع ابن الأشعث لما خرج على عبد الملك، وأظنه قتل معه، وكان شاعراً راجزاً خبيث اللسان هَجَّاء ".
وروى بسنده إلى العذري قال: " دخل أبو حُزَأبة على طلحة الطلحات الخزاعي وقد استعمله يزيد بن معاوية على سِجِستان، وكان أبو حُزَابة قد مدحه فأبطأت عليه الجائزة من جهته، ورأى ما يعطى غيره، فأنشده: (من الطويل) وَأدْلَيْتُ دَلْوِي فِي دِلاءٍ كَثِيرَةٍ * فَجِئْنَ مِلاَءً غَيْرَ دلوى كما هيا وأهلكنى أنْ لاَ تَزَالُ رَغِيبَةٌ * تُقَصِّر دُونِي أوْ تَحُلُّ وَرَائِيَا أرَانِي إذا اسْتَمطَرْتُ مِنْكَ سَحَابَةً * لِتُمْطِرَنِي عَادَتْ عَجَاجاً وَسَافِيَا قال: فرماه طلحة بحُقّ فيه دُرَّة، فأصاب صدره، ووقعت في حجره، ويقال: بل أعطاه أربعة أحجارٍ، وقال: لا تُخْدَعْ عنها، فباعها بأربعين ألفاً، وكان هوى طلحة الطلحات أمَويّاً، وكان بنوا أمية يكرمونه، وأنشدَه أبو حزابة يوماً: (من الرجز) يَا طَلْحَ يَأْبَى مَجْدُكَ الإِخْلاَفَا * وَالْبُخْلُ لاَ يَعْتَرِفُ اعْتِرَافَا إنَّ لَنَا أحْمِرَةً عِجَافَا * يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا فأمر له طلحة بإبل ودراهم، وقال له: هذه مكان أحمرتك " وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز)
174 - * لاَثٍ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * على أن فيه قلباً مكانياً، وأصله لائث

(4/367)


وأورده سيبويه في موضعين من كتابه: الأول في باب تحقير ما كان فيه قلب، قال: " اعلم أن كل ما كان فيه قلب لا يرد إلى الأصل، وذلك لأنه اسم بني على ذلك كما بني قائل على أن يبدل من الواو الهمزَة، ولكن الاسم يثبت على القلب في التحقير كما تثبت الهمزة في أدْؤُرٍ إذا حقرت، وفي قائل، وإنما قلبوا كراهية الواو والياء، كما همزوا كراهية الواو وَالياء، فمن ذلك قول العجاج: * لاَثٍ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * إنما أراد لائِثٌ، ولكنه أخر الواو وقدم الثاء، وقال طريف بن تميم: (من الكامل) فَتَعَرَّفُونِي إنَّنِي أنا ذاكم * شاك سلاحي فِي الْحَوَادِثِ مُعْلِمُ فإنما أراد الشائك فقلب " (1) انتهى.
والموضع الثاني في باب ما الهمزة فيه في موضع اللام من ذوات الياء والواو، قال فيه: " وأما الخليل فكان يزعم أن قوله جاء وشاء ونحوهما اللامُ فيهنَّ مقلوبة، وقال: ألزموا ذلك هذا، واطرد فيه، إذ كانوا يقلبون كراهية الهمزة الواحدة، وذلك نحو قولهم للعجاج: * لاثب بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * وقال: * فَتَعَرُّفُونِي إنَّنِي ... البيت * وأكثر العرب تقول: لاثٌ وشاكٌ سلاحُهُ، فهؤلاء حذفوا الهمزة " انتهى (2) .
قال ابن جني في شرح تصريف المازنى: " ولا ث من لاَثَ يَلُوث إذا جمع
__________
(1) هذا تلخيص لكلام سيبويه، انظر الكتاب (ح 2 ص 129) (2) انظر الكتاب (ح 2 ص 378) (*)

(4/368)


ولفّ، وأصله لائث، فقلبوا العين إلى موضع اللام، فزالت الهمزة التي إنما وجبت لمصاحبة العين ألفَ فاعِل، وحكي أنهم يقولون: شاكٌ ولاثٌ، بحذف العين أصلاً، وأنشد: * لاَثٌ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * ووجه هذا أنهم لما قالوا في الماضي: شَاكَ، ولاَثَ، وسكنت العين بانقلابها ألفاً وجاءت ألف فاعِل التقت ألفان، فحذفت الثانية حذفاً، ولم يحركها حتى تنقلب همزة كما فَعَل من يقول: قَائِم، وبِائعْ " انتهى.
وفي العُباب: " ونبات لائثٌ ولاثٍ، على القلب، إذا التف والتبس بعضه على بعض، قال العجاج: في أيْكِةٍ فَلاَ هُوَ الضْحيُّ * وَلاَ يَلُوحُ نَبْتُهُ الشَّتِيُّ لاثٍ بِهِ الأَشَاءُ والْعُبْرِيُّ * فَتَمَّ مِنْ قَوَامِهَا قُومِيُّ " انتهى والأيكة: غَيْضَة تنبت السِّدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر، وقال أيضاً في مادة (ع ب ر) بالعين المهملة والباء الموحدة: والعبري - بالضم -: ما نبت من السِّدْر على شطوط الأنهار وعَظُم، وقال عُمارة: العبري من السِّدْر ضخم الورق قليل الشوك، وهو أطول من الضِّال.
وقال أبو زياد: الْعُبْرِيُّ ما لا شوك فيه من السِّدر، وإنما الشوك في الضال من السدر، ولم يقل أبو زياد إن الْعُبْرِيّ من السدر ما نبت على الماء، والرواة على أن العبري منه ما نبت على الماء، قال العجاج يصف البَرْدِيَّ:
لاَثٌ بِهِ الأَشَاءُ وَالْعُبْرِيُّ " انتهى والغيضة: الشجر الملتف، وقوله " في أيكة " أي: ذلك الْبَرْدِيّ في أيكة، والبردى: نبات ضعيف يعمل من الحصر على لفظ المنسوب إلى الْبَرْد، و " هو "

(4/369)


ضمير البردي، والضَّحِيُّ: البارز للشمس، وهو فَعِيل من ضَحِيَ للشمس - بكسر الحاء وفتحها - ضَحَاءً بالمد وفي المستقبل بفتحها لا غير: أي برز إليها، والشَّتِي: فعيل المنسوب إلى الشتاء وفي الصحاح " الأشاء بالفتح والمد صغار النخل الواحدة أشَاءَ، والهمزة فيه منقلبة من الياء لأن تصغيرها أُشَيٌّ، ولو كانت الهمزة أصلية لقيل أشيئ، و " تم " فعل ماضى من التمام، والقوام - بالفتح -: الاعتدال، والقومي - بالضم -: القامة وحسن الطول " وقال الأعلم: " وصف مكاناً مُخْصِباً كثير الشجر، والأشاء: صغار النخل واحدتها أشاءة، والْعُبْرِيّ: ما نبت من الضال على شطوط الأنهار، وهو منسوب إلى الْعُبْر، وهو شاطئ النهر، واللائث: الكثير الملتف " وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الكامل) 175 - فتعرفوني إنني أنا ذاكم * شاك سلاحي في الحوادى مُعْلِمُ على أن أصله شائك، فقلبت العين إلى موضع اللام، وتقدم نقل كلام سيبويه والبيت ثاني أبيات لطريف بن تميم العنبري وقبله: أو كلما وَرَدَتْ عُكَاظَ قَبِيْلَةٌ * بَعَثُوا إليَّ عَرِيفَهُمْ يَتَوَسَّمُ وبعده:
تَحْتِي الأَغَرُّ وَفَوْقَ جِلْدِي نَثْرَةٌ * زَغْفٌ تَرُدُّ السَّيْفَ وَهْوَ مُثَلَّمُ وَلِكُلِّ بَكْرِيٍّ لَدَيَّ عَدَاوَةٌ * وَأَبُو رَبِيْعَةَ شَانِئٌ وَمُحَرَّمُ حَوْلِي أُسَيْدٌ وَالْهَجِيمُ وَمَازِنٌ * وَإذَا حَلَلْتُ فَحَوْلَ بَيْتِي خَضَّمُ

(4/370)


وقوله " أو كلما وردت عكاظ " هو شاهد من شواهد سيبويه، قال: " وقد جاء شئ من هذه الأشياء المتعدية التي هي على فاعِل على فَعِيل حين لم يريدوا به الفعل شبهوه بظريف ونحوه، وقالوا: ضَرِيبُ قِدَاح، وصَرِيمٌ للصارم، والضريب: الذي يضرب بالقداح بينهم، وأنشد البيت، وقال: يريد عارفهم " انتهى.
وقوله " أو كلما " استفهام، وعكاظ: أعظم أسواق العرب قريبة من عرفات، كانت تقوم في النصف من ذي القَعْدة إلى هلال ذي الحِجَّة، قال صاحب العباب: " العارف والعريف بمعنى، كالعالم والعليم، وأنشد البيت، ثم قال: والعريف هو النقيب، وهو دون الرئيس، وعَرُف فلان - بالضم - عرافة - بالفتح - أي: صار عريفاً، وإذا أردت أنه عمل ذلك قلت عَرَف فلان علينا سنين يَعرُفُ عرافة مثل كتب يكتب كتابة " انتهى ورواه ابن دريد في الجمهرة " بَعَثوا إليَّ قبيلهم " قال: قبيل القوم: عريفهم، يقال: نحن في قِبالة فلان: أي في عرافته، وأنشد البيت.
وقال: قالوا: معناه عريفهم، ويتوسم: يتفرس ويتطلب الوسم، وهي العلامة، وهو مشروح بأبسط من هذا في الطويل وقوله " فتعرفوني إلخ " أي: فقلت لهم: تعرفوني، وتَعَرَّفَه: تطلب معرفته بالعلامات، وقوله " إنني " بالكسر استئناف: أي أنا ذاكم الذي حُدِّثْتُم حديثه، ورى أيضاً " فتوسموني ": أي تطلبوا سمتي وعلامتي
وقوله " شاكٍ سلاحي " الشاكي: التام السلاح، وقيل: معناه الحاد السلاح، شبه بالشوك، روي بكسر الكاف وضمها، فمن كسر جعله منقوصاً مثل (قاضٍ) وفيه قولان: قيل: أصله شائك فقلب، كما قالوا: جرف هَار، واشتقاقه على هذا من الشوكة، وقيل: أصله شاكك من الشِّكَّة وهي

(4/371)


السلاح، كرهوا اجتماع المثلين فأبدلوا الآخر منهما ياء وأعلوه إعلال قاضٍ، ومن ضم الكاف ففيه قولان أيضاً: أحدهما أن أصله شَوِك - بكسر الواو - قلبت ألفاً، وقيل: أصله شائك، فحذفت الهمزة كما قالوا: جُرُفٌ هارٌ - بضم الراء - وفيه لغة ثالثة لا تجوز في هذا البيت، وهي شاكُّ - بتشديد الكاف - وهذا مشتق من الشِّكَّة لا غير و " معلم " اسم فاعل من أعلم نفسه في الحرب بعلامة: أي شهر نفسه بها ليعرف، والأغر: اسم فرسه، ومعناه الفرس الذي له غرة، والنَّثرة - بفتح النون -: الدرع السابغة، وكذلك الزغف - بفتح الزاي وسكون الغين المعجمتين - ومنه يقال: زغف في الحديث، إذا زاد فيه، وقيل: هي اللينة الْمَجَسَّة، وأُسيْد والْهُجَيْم - بتصغيرهما - ومازن: قبائل من تميم، وخضم - بفتح الخاء وتشديد الضاد المعجمتين -: لقب لبني العنبر بن عمرو بن تميم وسبب هذا الشعر على ما رواه المفضل بن سلمة في الفاخر ومحمد بن حبيب في كتاب المقتولين، وابن عبد ربه في العقد الفريد.
قالوا: كانت سوق عكاظ يتوافَوْن بها من كل جهة، ولا يأتيها أحد إلا ببرقُع، ويعتم على برقُعه خشية أن يؤسر فيكثر فداؤه، فكان أول عربي استقبح ذلك وكشف القناع طريف ابن تميم العنبريِّ لَمَّا رآهم يتطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح الله من وطن نفسه على الاسر، وأنشد يقول:
أو كلما وردت ... الابيات وقال أبو عبيدة مَعْمَرُ بن المثنى: كانت الفرسان إذا وردت عكاظ في الأشهر الحرم أمن بعضهم بعضاً فتلثموا أو تقنعوا، لئلا تعرف فيقصد إليها في الحرب، وكان طريف بن تميم لا يتقنع مكا يتقنعون، فوافى عكاظ - وقد حشدت بكر بن وائل، وكان طريف قبل ذلك قتل شُراحيل أحد بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان

(4/372)


ابن ثعلبة، فقال حَمَصِيصَة أحد بني شيبان: أرُوني طريفاً، فأروه إياه، فجعل كلما مر به طريف تأمله ونظر إليه حتى فطن له طريف فقال: مالك تنظر، قال: أتوسمك لأعرفك فإن لقيتك في حرب فلله عليَّ أن أقتلك إلا أن تقتلني، فقال طريف في ذلك: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... الابيات فمضت مدة، ثم إن عائذة - وهم يقولون: إنهم من قريش يقال لها: عائذة بن لؤي بن غالب، وهم حلفاء لبني أبي ربيعة - خرج منهم رجلان يتصيدان فعرض لهما رجل من بني شيبان فذَعَرَ صيداً لهما فقتلاه، فتنادتْ بنو مُرِّ بن ذُهْل فأرادوا قتلهما بصاحبهم، فمنعهم بنو أبي ربيعة، فقال هانئ بن مسعود: يا بني أبي ربيعة إن إخوتكم قد أرادوا ظلمكم فامتازوا عنهم، فاعتزلتهم بنو أبي ربيعة وساروا حتى نزلوا ماء لهم يقال له: مبائض، فلما نزلوه هَرَب عبد منهم فأتى بلاد تميم فأخبرهم أن حيّاً جريداً من بني بكر بن وائل قد نزلوا على مبائض وهم بنو أبي ربيعة، فقال: طريف هؤلاء من كنت أبغي، إنما هم أكلة رأس، وهو أول من قال هذا المثل، يراد بذلك القلة، أي: عدتهم عدة يسيرة رأس يشبعها، فأقبل طريف في بني عمرو بن تميم واستغزى قبائل من بني تميم فأقبلوا متساندين وتقاتلوا وتشاغلت تميم بالغنائم، وأقبل حَمصِيصَة بن جندل وليس له هَمٌّ غير
طريف، فلما رآه طعنه فقلته فانهزمت بنو تميم، وقال حمصيصة يرد على طريف: (من الكامل) وَلَقَدْ دَعَوْتَ، طَرِيفُ، دَعْوَةَ جَاهِلٍ * سَفَهَاً وَأنْتِ بِمَنْظَرٍ قَدْ تَعْلَمُ فَأَتَيْتَ حَيّاً فِي الْحُرُوبِ مَحِلُّهُمْ * وَالْجَيْش باسْمِ أَبِيهِمُ يُسْتَهْزَمُ فَوَجَدْتَ قَوْماً يَمْنَعُونَ ذِمَارَهُمْ * بُسُلاَ إذَا هَابَ الْفَوَارِسُ أُقْدَمُوا

(4/373)


وَإذَا دَعَوْتُ بَنِي رَبِيعَةَ أقْبَلُوا * بِكَتَائِبٍ دُونَ النِّسَاءِ تَلَمْلَمُ سَلَبُوكَ درعا والاغر كليهما * وبنو أُسَيْدٍ أسْلَمُوكَ وَخَضَّمُ وطريف بن تميم شاعر فارس جاهلي، وقيل: هو ابن عمرو، والعنبر: قبيلة من بني تميم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السادس والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 176 - وَكَحَّلَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَوَاوِرِ عَلَى أن أصله العواوير فحذفت الياء ضرورة وبقيت كسرتها دليلاً عليها.
قال الأعلم: " الشاهد فيه تصحيح واو العواور الثانية، لأنه ينوي الياء المحذوفة والواو إذا وقعت في هذا الموضع لم تهمز لبعدها من الطريف الذي هو أحق بالتغيير والاعتلال، ولو لم تكن فيه ياء منوية للزم همزها، كما قالوا في جمع أوَّل: أوائل، والأصل أواول، والعواوير، جمع عُوَّار، وهو وجع العين، وهو أيضاً ما يسقط في العين، وجَعَلَ ذلك كُحْلاً للعين على الاستعارة " انتهى.
والبيت من رجز لجندل بن المثنى الطُّهَوِيّ وقبله: غَرَّكِ أنْ تَقَارَبَتْ أبَاعِرِي * وَأنْ رَأَيْتِ الدَّهْرَ ذَا الدوائر
حنى عِظَامِي وَأُرَاهُ ثَاغِرِي * وَكَحَّلَ الْعَيْنَيْنِ بِالْعَوَاوِرِ قال ابن السيرافي: " خاطب امرأته وأراد أنه ترك السفر لكبره، وقوله: تقاربت أبا عرى، يريد أنه ترك السفر والرحلة إلى الملوك فإبله مجتمعة لا يفارق بعضها بعضاً " ورد عليه أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب بأنه غلط، وإنما معناه قلّت: يعني من قلتها قَرُبَ بعضها من بعض، وقال العيني: " معناه قربت من

(4/374)


الدناءة، من قولك: شئ مُقَارِبٌ، إذا كان دوناً، وكذلك رجل مقارب " انتهى.
وقوله " غركِ " بكسر الكاف، وهو من قولهم: ما غرك بفلان غرّاً، من باب قتل: أي اجترأت عليه؟ فيكون التقدير هنا غرك بي، و " أن تقاربت " و " أن رأيت " فاعله، ويمكن أن يكون من قولهم غَرَّته الدنيا، من باب قَعَد: أي خدعته بزينتها.
فهي غَرُور، مثل رَسول، ولا يجوز أن يكون من قولهم: غر الشخصُ يغِر من باب ضرب غَرارة - بالفتح - فهو غار، وغِر - بالكسر -: أي جاهل بالأمور غافل عنها، لأنه فعل لازم، و " أباعر " جمع بعير، قال الأزهري: " البعير مثل الإنسان يقع على الذكر والأنثى، يقال: حَلَبْتُ بعيري، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والبكر والبَكْرَة، مثل الفتى والفتاة، والقَلُوص كالجارية، هكذا حكاه جماعة منهم ابن السِّكَّيت، وهذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة " وكذا قال ابن جني والدوائر: جمع دائرة وهي المصيبة والنائبة، و " ذا " صفة الدهر، والرؤية بصرية، وجملة " حتى عظامي " حال من الدهر، وحنيت الشئ: عطفته وأملته، و " عظامي " مفعول حنى، وقوله " وأراه ثاغري " أرى بالبناء للمفعول من أراني الله زيداً فاضلاً، يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فلما بني للمفعول ناب
المفعول الأول - وهو هنا ضمير المتكلم - مناب الفاعل، والهاء من أراه ضمير الدهر هو المفعول الثاني، و " ثاغري " المفعول الثالث، هذا هو الأصل، ولكن غلب على استعمال المبني للمفعول بمعنى الظن، وثاغري - بالثاء المثلثة والغين المعجمة - مضاف إلى الياء، قال الجوهري: ثغَرْتُه: أي كسرت ثغره، وفي المصباح: الثَّغْر: الْمَبْسَم، ثم أطلق على الثنايا، وإذا كسر ثغر الصبي قيل: ثُغِرَ ثغوراً، بالبناء للمفعول، وثَغَرْتُه أثْغَرُهُ - من باب نفع - كسرته، وإذا نبتت

(4/375)


بعد السقوط قيل: أثْغَر إثغاراً مثل أكرم إكراماً، وإذا ألقى أسنانه قيل: اثَّغَرَ - على افتعل - قاله ابن فارس، وبعضهم يقول إذا نبتت أسنانه: قيل اثَّغَر - بالتشديد - وقال أبو زيد: ثُغِر الصبي بالبناء للمفعول يُثْغَرُ ثَغْراً، وهو مثغور، إذا سقط ثغره، وكَحَلْتُ عينه كَحْلاً - من باب قتل -: أي جعلت فيها الكحل، وأما كَحِلتْ عينُه كَحَلاً - من باب تَعِب - فهو سواد يعلو جفونها خِلقة، والرجل أكْحَل والمرأة كَحْلاء، وجملة " كحَّل " معطوفة على جملة " حَنَى عظامي " ورواه أبو محمد الأعرابي: " وكَاحِلَ " فيكون معطوفاً على ثاغري، والأول أولى، لأنه يصف عجزه وضعف بصره، والعُوَّار - بضم العين المهملة وتشديد الواو - قال الجوهري: هو القَذى في العين، وفان ابن جني: هو الرمد، وقيل: الرمد الشديد، وقيل: هو وخز يجده الإنسان في عينه، يريد أن الدهر جعل في عينيه القذى والرمد بدل الكحل وجَنْدَل الطُّهَوِي: قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: هو شاعر راجز إسلامي مُهاجٍ للراعي، وجندلٌ من بني تميم، وطُهَيَّة هي بنت عبد شمس بن سعد بن زيد بن تميم غلب نسبة أولادها إليها.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائة، وهو من شواهد
سيبويه -: (من الرجز) 177 - فِيهَا عَيَأئِيلُ أسُودٍ وَنُمُرْ على أن أصله عيائل بهمزة مكسورة، والياء حصلت من إشباع كسرتها لضرورة الشعر كياء الصياريف (1) ، فَلَمْ يُعْتَدّ بها فصارت الياء بعد الالف
__________
(1) وذلك كقول الفرزدق تنفى يداها الحصا في كل هاجرة * نفى الدارهيم تنقاد الصياريف (*)

(4/376)


في الحكم مجاورة للطرف فهمزت لذلك، كذا في المفصل وشروحه وقال السخاوي في سفر السعادة: " والياء الثانية في عيائيل مثل ياء الصياريف للإشباع، لأنه جمع عَيِّل، وإنما يجمع عَيِّل على عيائل، فلهذا يهمز ولا يعتد بياء الإشباع، وتكون الياء فيه كأنها قد وَلِيت الطرف، ومن جعل عياييل جمع عَيَّالٍ من عال يَعِيل، إذا تمايل في مشيه، كما قال في وصف الأسد: (من البسيط) * كَالْمَرْزُبَانِيِّ عَيَّالٍ بِآصَالِ * فالياء على هذا التقدير بعيدة من الطرف، لأن الياء الثانية ليست للإشباع فلا تهمز.
فإن قيل: فكيف جمع عَيَّالاً على عياييل؟ قيل: لأن فعّالاً مُؤَاخٍ لفَعُّول وفِعِّيل، وهما يجمعان على فعاعيل، والمؤاخاة من أجل وقوع حرف اللين في الثلاثة بين العين واللام " انتهى.
وبهذا فسره ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه، قال: " العيال المتبختر وجمعه عياييل " وكذا في شرحها للأعلم، قال: " العياييل جمع عَيّال، وهو الذي يتمايل في مشيه لعباً أو تبختراً، يقال: عال في مشيه يعيل، إذا تبختر ".
وتبعهما
ابن بري في حواشي الصحاح.
وحمل الصاغاني في العباب ما في البيت على الأول قال: " وعِيال الرجل: من يعوله، وواحد العيال عَيِّل، والجمع عيائل، مثل جيد وجياد وجيائد، وقد جاء عيائيل كما في البيت " وقال ابن السيرافي: " كأنه قال فيها متبخترات أسود، ولم يجعلها جمع عَيِّل، لكن جعلها جمع عيال - بالفتح والتشديد - " انتهى.
وخبط الأندلسيُّ في شرح المفصل خبط عشواء قال: " روى أبو عثمان قال:

(4/377)


سمعت الأصمعي يقول في جمع عَيِّل - بكسر العين - وهو المتبختر: عيائيل، وهو من عال يعيل، إذا افتقر " انتهى وكتب عليه: " عَيْلٌ: بكسر العين الملفوظ بها عيناً المكتوبة صورتها خطاً، ولعله أراد بها عين اللفظ التي هي ياء " هذا كلامه.
وقد نسب إليه شيئاً ولم يقله، وإنما قال أبو عثمان المازني في تصريفه ما نصه: " وكذلك إذا جمعت سيِّداً وعَيِّلاً (على هذا المثال (1)) قلت: عيائل وسيائد، شبهوا هذا بأوائل، وسألت الأصمعي عن عيِّل كيف تُكَسِّره العرب؟ فقال: عيائل، يهمزون كما يهمزون في الواوين " انتهى كلامه.
وأنت ترى انه لم يقيد عَيِّلاً بكسر أوله، ولم يقل: إنه بمعنى المتبختر، وكذا أورده ابن جني في شرحه عَيِّل وعيائل، والكسر في عَيِّل إنما هو في الياء المشددة، والذى هو بمعنى المتبختر إنما هو العيَّال، وكذا لم يصب صدر الأفاضل على ما نقل عنه بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل في قوله: عيائيل، تكسير، والمراد به المتبختر، وقول الأندلسي: إنه من عال يعيل إذا افتقر لا يصح، لأن المتبختر بعيد من المفتقر، وكان الواجب أن يقول: من عال يَعِيل إذا
تبختر، أو من عال الفرس يَعِيل إذا تكفَّأ في مشيه وتمايل، فهو فرس عَيَّال، وذلك لكرمه، وكذلك الرجل إذا تبختر في مشيه وتمايل، وقد زاد في الطُّنْبُور نَغْمَةً أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب: " صحف ابن السيرافي في قوله: عيائيل إنه بالعين غير المعجمة، فكذب، والصواب غياييل - بالغين المعجمة - جَمْعُ غِيْل على غير قياس " انتهى.
وهذه مجازفة منه، فإن الأئمة الثقاتِ نقلوا كما قال ابن السيرافي، وهو تابع
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من تصريف المازنى، ويريد بهذا المثال " فواعل " ولم ينقل المؤلف عبارة المازنى هنا بنصها، وإنما لخصها (*)

(4/378)


لهم فيه، ولم يختلفوا فيه، وإنما اختلفوا في مفرده هل هو عَيِّل أم عَيَّال؟ وحمله على أنه جمع غِيل - بكسر المعجمة - وهي الأجمة لم يرد، ولم يقل به أحد هذا، وقد أورد سيبويه في باب جمع التكسير فيما كان على ثلاثة أحرف وتحركت جميع حروفه، أنشده وقال: " فعل به ما فعل بالأسد حين قالوا: أُسْد " قال الأعلم: " الشاهد فيه جمع نَمِر على نمر كما جمع أَسَدٌ على أُسْدٍ، لأنهما متساويان في عدد الحروف وتحرك جميعها، وحَرَّكَ الميم بالضم إتباعاً للنون في الوقف " انتهى.
وحمله الجوهري على أنه مخفف من نمور، وصحف عيائيل بتماثيل، قال: " النَّمر سبع، والجمع نمور، وقد جاء في الشعر نُمَر وهو شاذ، ولعله مقصور منه، قال: * فِيهَا تَمَاثِيلُ أسُودٍ وَنُمُرْ * " وقد نبّه على تصحيفه ابن بري في أماليه، والمشهور أن أُسوداً وما بعده بالرفع، قال الأعلم: والاسود بدل من عيائيل وتبين لها، قال ابن السيرافي:
والذي في شعره أسودٍ مجرورةً بإضافة عيائيل إليه، وقال صدر الأفاضل: " أسودٌ بالرفع عطف بيان لعيائيل، ويروى بالجر بإضافة عيائيل إليه إضافة بيان، وقال العيني: هو من إضافة الصفة إلى موصوفها على قول ابن السيرافي وأقول: هذا جميعه على تقدير عياييل جمع عَيَّال بمعنى المتبختر، ويلزم منه أن يكون عياييل بياءين دون همز، كما تقدم عن سفر السعادة، وأما على قول من جعله جمع عَيِّل واحد العِيَال فالمراد به أولاد الأسُود والنمور إن روي بجر ما بعد عيائيل.
وإن روي بالرفع فالمراد بعيائيل نفس الأسُود والنمور، وفيه ركاكة لا تخفى، والجر هي الرواية الجيدة، والأجمة إذا كان فيها أولادها تكون أحمى من غيرها، وضمير " فيها عيائيل " راجع إلى " أشِب الغيطان " في بيت

(4/379)


قبله، وروي أيضاً " فيه عيائيل " بتذكير الضمير على أنه راجع إلى أشِب والبيت من رجز لحكيم بن معية من بني تميم، وهو: أحْمِي قَنَاةً صُلْبَةً مَا تَنْكَسِرْ * صَمَّاءَ تَمَّتْ في نِيَافٍ مُشْمَخِرْ حُفَّتْ بِأَطْوَادٍ عِظَامٍ وَسَمُرْ * في أشِبِ الغيطان مُلْتَفّ الْحَظِرْ فِيهَا عَيَائِيلُ أسُودٌ وَنُمُرْ * خَطَّارَةٌ تُدْمِي خَيَاشِيمَ النَّعِرْ إذَا الثِّقَافُ عَضَّهَا لَمْ تَنْأطِرْ وكأن هذه الأبيات لم تبلغ الأعلم، زعم أن ضمير " فيها " لفلاة، قال: " وصف فلاة كثرت السباع فيها " هذا كلامه، وقال ابن السيرافي: وصف قناة نبتت في موضع محفوف بالجبال والشجر، وقد أطال لسانه عليه أبو محمد الأعرابي، فقال: قوله " وصف قناة " يُهَوَّس الإنسان فيتوهم أنه أراد بالقناة رُمْحاً طعن به، وإنما المراد بالقناة هنا العزة القساء والشرف العَرْد وأقول: هذا بعيد من معنى الشعر، غير دال عليه، وجميع ألفاظه أولى
بالدلالة على ما ذكره ابن السيرافي وغيره من العلماء و " أحْمِي " من حَمَيْت المكان من الناس حَمْياً من باب رمي، وحِمْيَة - بالكسر - إذا منعته عنهم، والحماية: اسم منه، وأما على قول أبي محمد فهو من حَمَيْت القوم حماية، إذا نصرتهم، والقناة: الرمح، والصلبة - بالضم -: وصف من صلب الشئ - بالضم - صلابة إذا اشتد وقوي، فهو صُلْب وهي صُلْبة، والصَّماء: التي جوفها غير فارغ، وتمت: كملت واستوت في منبته، وقوله " في نياف " أي: في جبل نياف، والنياف - بكسر النون -: العالي المرتفع، قال صاحب العباب: وجمل نِيَاف وناقة نياف: أي طويل وطويلة في ارتفاع، والأصل نِوَاف، وكذلك جبل نياف، ومشمخر: اسم فاعل من اشْمَخَرَّ اشْمِخْرَاراً: أي ارتفع وعلا،

(4/380)


وقوله " حُفَّت - إلخ " قال ابن السيرافي: " يريد حُفَّ موضع هذه القناة التي نبتت فيه بأطواد الجبال، الواحد طَوْدٌ، والسَّمُر - بفتح فضم -: جمع سَمُرة، وهي شجرة عظيمة، والأشِب - بفتح الهمزة وكسر الشين -: الموضع الملتف الذي يتداخل حتى لا يمكن أن يُدْخل فيه إلا بشدة، والغيطان: جمع غائط، وهو المنخفض من الأرض، والْحَظِر - بفتح المهملة وكسر المعجمة -: الموضع الذي حوله الشجر مثل الحظيرة، وقوله " فيه " أي: في هذا الموضع أسود تقيل تذهب وتجئ فيه وتتبختر " انتهى كلام ابن السيرافي وقال العيني: الْحُظُر - بضمتين -: جمع حَظِيرَة، وقوله " خَطَّارَة " أي: تلك الأسُود والنمر خَطَّارة من خَطَر يخطُر - من باب نصر - خَطَرَاناً، إذا اهتز في المشي وتبختر، وتدمى: مضارع أدماه، أي: أخرج دَمَه بالجرح، والنَّعِر - بفتح النون وكسر العين المهملة -: المتكبر، والثَّقاف - بكسر المثلثة -: ما تُسَوَّى به الرماح، وثَقَّفْتُ الرماح تثقيفاً، إذا سويتها، وتنأطر: مطاوع
أطَرْتُه: أي حنيته وثنيته وحُكَيْم بن مُعَيَّة راجز إسلامي معاصر للعجاج وحُمَيدٍ الأرقط، ومُعَيَّة: مصغر معاوية وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائة -: (من الطويل) 178 - * فَمَا أرَّقَ النُّيَّامَ إلاَّ سَلاَمُهَا * على أن النُّيَّام أشذُّ من صُيَّم، لأن ألف فُعَّال لما حجزت بين العين واللام قَوِيت العين، فلم يجز قلبها، وصُوَّم لما كان مع قرب واوه من الطرف الْوَجْهُ فيه التصحيح كان التصحيح إذا تباعدت الواو من الطرف لا يجوز غيره قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " وقد جاء حرف شاذ، وهو قولهم:

(4/381)


فلان في صُيَّابة قومه، يريدون صُوَّابة: أي في صميمهم وخالصهم، وهو من صَابَ يَصُوب، إذا نزل، كأن عِرْقه فيهم قد ساخ وتمكن، وقياسه التصحيح، ولكن هذا مِمَّا هُرب فيه من الواو إلى الياء لثقل الواو، وليس ذلك بعلة، وأنشد ابن الأعرابي: ألاَ طَرَقَتْنَا مَيَّةُ ابْنَةُ مُنْذِرٍ * فَمَا أرَّق النُّيَّامَ إلاَّ سَلاَمُهَا وقال: أنشدنيه أبو الغمر هكذا بالياء، وهو شاذ " انتهى وقوله " أنشدنيه أبو الغَمْر " هو أبو الغَمْر الكلابي، وفي مثله يحتمل أن يكون أنشده لنفسه وأن يكون أنشده لغيره، وجزم العينى بأنه لو، وهو خلاف الصواب، فإن البيت من قصيدة لذي الرمة، والرواية في ديوانه كذا: ألاَ خَيَّلَتْ مَيُّ وَقَدْ نَامَ صُحْبَتِي * فمَا أرَّقَ النُّيَّامَ إلاَّ سَلاَمُهَا وروي أيضاً: * فَمَا نَفَّرَ التَّهْوِيمَ إلا سلامها *
وهذا لا شاهد فيه، وبعده: طُرُوقاً وَجِلْبُ الرَّحْلِ مَشْدُودَةٌ بِهِ * سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ * قَلِيلٍ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُهَا وقوله " ألا خيلت ميّ " أي بَعَثَت خيالها، ومية: معشوقة ذي الرمة، وأرَّقهُ تأريقاً: أسهره، والنُّيَّام: جمع نائم، ونَفَّرَه تنفيراً: شَرَّدَهُ تشريداً، والتهويم: هَزُّ الرأس من النعاس، والسلام: التحية، والطروق، المجئ في الليل، وجِلْبُ الرحل - بكسر الجيم وسكون اللام -: خشبة، وأراد بسفينة البر الناقة، وقوله " أنيخت فألقت إلخ " هذا البيت شرحناه في باب الاستثناء من أبيات شرح الكافية قال بعض فضلاء العجم: " قوله: ألا طرقتنا - إلخ، يجوز أن يريد بطروقها

(4/382)


طروق خيالها، فإنهم يقيمون الخيال مقام صاحبته، واستيقاظُهُمْ بسلام الخيال لاستعظامهم إياه، والحمل على ظاهره من إتيانها نفسها ظاهر " انتهى كلامه وقد ظهر لك من الرواية الأخرى أن الطارق خيالها، لا هي، وروى العيني " كلامها " بدل سلامها، وهذا بعيد ساقط.
وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد التاسع والسبعون بعد المائة -: (من الطويل) 179 - وَكُنْتُ إذَا جَاري دَعَا لِمَضُوفَةٍ * أشمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي على أن مَضُوفَة شاذ قال المازني في التصريف الملوكي (1) : أصلها مَضْيُفَة، فنقلت الضمة إلى الضاد فانقلبت الياء واواً لسكونها وانضمام ما قبلها، وهو حرف شاذ، لا يعلم له نظير،
فينبغي أن لا يقاس عليه وقال الزمخشري في المفصل: وَالْمَضُوفة كالْقَوَد والْقُصْوَى عند سيبويه، وعند الأخفش قياس قال ابن يعيش: " في مضوفة تَقْوية لمذهب أبي الحسن الأخفش، لأنه جاء على قياسه، وعند سيبويه شاذ في القياس والاستعمال، كالشذوذ في القَوَد والْقُصْوى، والقياس مَضِيفَة، والْقَادُ كباب، والْقُصْيا كالدنيا، ومَضُوفة هنا من ضِفْتُ إذا نزلت عنده ضيفاً، والمراد بالْمَضُوفة ما ينزل من حوادث الدهر
__________
(1) كذا، والتصريف الملوكى لابن جنى لا للمازني، وللمازني كتاب التصريف، غير موصوف (*)

(4/383)


ونوائب الزمان: أي إذا جاري دعاني لهذا الأمر شَمَّرْت عن ساقي وقمت في نصرته " انتهى.
وقال الزمخشري في مناهيه على المفصل: هي من ضَافَ يَضيف، إذا مال والتجأ، وأضافه ألجاه، وفلان يحمي الْمُضَاف: أي الْمُلْجأ والْمُحْرَج، وقال الأصمعي: أضَفْتُ من الأمر: أي أشفقت وَحذِرْت، ومنه المضوفة، وهو الأمر يشفق منه، كقوله: * وكنت إذا جاري ... البين * وفلان يُضِيف من كذا أي يشفق، والإضافة: الشفقة قال أبو سعيد: والبيت يروى عن ثلاثة أوجه: الْمَضُوفة، وَالْمَضِيفة، والْمُضَافَة، وكل من تكلم على هذه الكلمة جعلها يائية، إلا الصاغاني، فإنه نظر إلى ظاهر فجعلها واوية، قال في مادة (ض وف) : المضوفة الهم، ويقال بي إليك مضوفة: أي حاجة، وأنشد البيت، ولم يذكر هذه المادة غيرها، فإن ثبت
أنها واوية فهي على القياس كَمَقُولَة، من القول والبيت من أبيات لأبي جندَب بن مُرَّة الهذلي الجاهلي أخي أبي خِراش الهذلي الصحابي، وهي: ألاَ أبْلِغَا سَعْدُ بْنَ لَيْثٍ وَجُنْدَبا * وَكَلْباً أُثِيبُوا الْمَنَّ غَيْر المُكَدَّرِ وَنَهْنَهْتُ أُولَى الْقَوْمِ عَنْكُمْ بِضَرْبَةٍ * تَنَفَّسَ منها كل حشيان مجحر وَكُنْتُ إذَا جَارٌ دَعَا لِمَضُوفَةٍ * أُشَمِّرُ حَتَّى يَنْصُفَ السَّاقَ مِئْزَرِي فَلا تَحْسَبَنْ جَارِي لَدَى ظِلِّ مَرْخَةٍ * وَلاَ تَحْسَبَنْهُ فقعْ قَاعٍ بِقْرْقَرِ وَلَكِنَّنِي جَمْرُ الْغَضَا مِنْ وَرَائِهِ * يُخَفِّرُنِي سَيْفِي إذَا لَمْ أخَفّرِ أبَى النَّاسُ إلاَّ الشَّرَّ منى فذرهم * وإياى ما جاءوا إليَّ بِمُنْكَرِ

(4/384)


قوله " أُثيبوا " من الإثابة، وهي إعطاء الثواب، يقال: أثابه، أي جازاه وكافأه، والمن: الإنعام، ونَهْنَهْتُ: كففت، وأُولي الناس: أي الجماعة المتقدمة، والْحَشْيَان - بفتح المهملة -: الذي قد حُشِيَ جوفه من خوف العدو، والمحجر: المنهزم، وهو اسم مفعول من أجحرته - بتقديم الجيم على الحاء المهملة - أي: ألجأته إلى أن دخل جحره: أي تنفس من ضربتي الذي كان لا يقدر أن يتنفس وقوله " وكنت إذا جارٌ " كذا في شعره بالتنكير، وهو أفخر، ونصف الشئ ينصفُه - من باب نصر - إذا بلغ نِصْفَه، والساقَ: مفعول مقدم، ومئزري: فاعل مؤخر، يقول: إذا دعاني جار للأمر الشاق الذي نزل به شَمَّرت حتى يصل مئزري إلى نصف ساقي، جعله مثلاً لاجتهاده في كف ما دعاه جاره إليه، قوله " فلا تَحْسَبَنْ " بنون التوكيد الخفيفة، والْمَرْخة - بالخاء المعجمة -: شجرة صغيرة لا تمنع من لاذ بها، والْفَقْع - بفتح الفاء وسكون القاف -: ضَرْب ردئ من الكماة، أي لا يمتنع على من أراده، والقَرْقَر: الصلب، أي: لا تحسبه كالكمأة
التي توطأ وتؤخذ ليس عليها ستر فلا شئ أذل منها، وفي شرح إصلاح المنطق: " يقولون: هَذَا فَقْعُ قَرْقَرة، الفَقْعُ - بفتح الفاء وكسرها -: الكَمْأة الابيض، روا أبو زيد والأحمر، والقَرْقَرَة: الأرض الملساء المستوية، وقيل: القاع من الأرض ويقال للذليل: فقع قرقرة، أي أنه بمنزلة الكمء النابت في السهل، فكلما وطئته الْقَدَم شَدَخَتْه، وإذا نبت في دكادك الرمل لم تكد القدم تأخذه " انتهى وقوله " إلا الشر مني " ويروى " منهم " وما: مصدرية ظرفية وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الثمانون بعد المائة -: (من الطويل) 180 - تَبَيَّنَ لي أنَ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ * وَأنَّ أعِزَّاءَ الرِّجَالِ طِيالُهَا على أن " طيالها " شاذ قياساً واستعمالاً، والقياس طِوَالَها، وهو الكثير

(4/385)


المستعمل، وقوله " لصحتها في المفرد " ليس كذلك، بل لتحركها فيه، ولو كانت ساكنة لأُعِلَّت، ولو كانت صحة العين في المفرد سبباً لصحتها في الجمع لما أعل نحو حِيَاض وثياب وسياط.
والقماءة - بفتح القاف والمد -: مصدر قَمُؤ الرجل - بضم الميم مهموز اللام - أي: صار قميئاً، على وزن فعيل، وهو الصغير الذليل، ويقال: قَمَاء أيضاً، بدون الهاء على وزن فَعَال وفَعَالة، كذا في الصحاح في نسخة صحيحة، ولم يورد ابن ولاَّد في المقصور والممدود إلا فَعَالَة، قال: " والقماءة: الذل والمهانة، يقال: قَمُؤ فهو قمئ بين القماءة " انتهى.
وذكر أبو بكر بن الأنباري في كتاب المقصور والممدود همزة على فَعَل - بفتحتين -، وأورده مع سبأٍ ونبأٍ، ومده على فعالة، قال: والْقَمَأ من القماءة، قال الشاعر: * تَبَيَّنَ لِي أنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... البيت * ونقله عنه القالي في كتاب المقصور والممدود، قال: باب ما جاء من المقصور
المهموز على مثال فَعَل من الأسماء والصفات، وعدّد أمثلة إلى أن قال: والْقَمَأ من القماءة، وهو الصغير، كذا قال أبو بكر بن الانباري على فعل، قال الشاعر: * تَبَيَّنَ لِي أنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ ... البيت * وقال أبو زيد: " قَمُؤَ الرجل قماءة، إذا صغر، وقمأت الماشية قموا وقمئا وقموءة وقمؤت قَمَاءة، إذا سمنت " انتهى.
فمصدر قمؤ الرجل على كلام أبي زيد فَعَالة، ومصدر قَمَأَت الماشية - بفتح الميم - فعول وفعولة - بضم وفعل - بفتح الفاء وسكون العين - ومصدر قمؤت - بضم الميم - فعالة.
والعجب من العين أنه قال بعد أن نقل كلام القالي: " الحاصل أن مصدر قَمُؤَ على قَمَأٍ، على وزن فَعَلٍ - بالتحريك - وقَمَأةٍ - بالتاء - وإنما مُدَّ في الشعر

(4/386)


المذكور للضرورة " هذا كلامه.
وهو ناشئ من قراءته قَمَاءة على وزن فعالة بسكون الميم والهمز على وزن فَعْلَة، ولم يقل به أحد.
قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل: البيت من قصيدة لأُنَيْفِ بن زَبَّانَ النهابى من طيّ، وهو إسلامي، ومطلعها: تَذَكَّرْتَ حُبِّي وَاعْتَرَاكَ خَيَالُهَا * وَهَيْهَاتَ حُبِّي لَيْسَ يُرْجَى وِصَالُهَا وقد أورد أبو تمام منها بيتين (1) في أوائل الحماسة، وهما: فَلَمَّا أتَيْنَا السَّفْحَ مِنْ بَطْنِ حَائِلٍ * بحيث تلاقى صلحها وسيالها دعوا لنزار وانتمينا لطئ * كأسْدِ الشِّرَى إقْدَامُهَا وَنِزَالُهَا وأُنيف - بضم الهمزة وفتح النون -: مصغر أنف، وزَبَّان بالزاي المعجمة
وتشديد الموحدة، ونَبْهَان بفتح النون وسكون الموحدة.
وأنشد الشارح المحقق من (الكامل) : عَنْ مُبْرِقَاتٍ بِالْبُرِينَ وَتَبْدُو * بالأَكُفِّ اللاَّمِعَاتٍ سُوُرْ وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والستين من هذا الكتاب.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد المائة -: (من الكامل) 181 - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسُبُونَكَ سَيِّداً * وَإخَالُ أنك سيد مغيون
__________
(1) ذكر أبو تمام عشرة أبيات من هذه الكلمة، انظر شرح التبريزي (1: 166) (*)

(4/387)


على أن قوله " مَغْيُون " جاء على لغة تميم، ولغة غيرهم مغين والبيت من أبيات للعباس بن مرداس السُّلّمي، روى صاحب الاغانى بسنده عن أبي عبيدة وأبي عمرو الشيباني: " أن حَرْب بن أمية لما انصرف من حرب عُكَاظٍ هو وإخوته مرّ بالقُرَيَّة، وهي غَيْضَة شجر ملتفّ لا يُرام، فقال له مرداس بن أبي عامر: أما ترى هذا الْغَرْسَ؟ قال: بلى، فماله؟ قال: نعم المُزْدَرَع هو، فهل لك أن تكون شريكين فيه، ونحرق هذه الغَيْضة ثم نزدرعه بعد ذلك؟ فقال: نعم، فأضْرَمَا النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهيبها سمع من الغيضة أنين وصجيج كثير، ثم ظهرت من حيات بيض تطير حيت قطعتها وخرجت منها، وقال مرداس بن أبي عامر: (من البسيط) إنِّي انْتَخَبْتُ لَهَا حَرْباً وإخْوَتَهُ * إنِّي بِحَبْلٍ وَثِيقِ الْعَهْدِ دَسَّاسُ أنِّي أُقَوِّمُ قَبْلَ الأَمْرِ حَجَّتَهُ * كَيْمَا يُقَالُ: وَلِيّ الأَمْرِ مِرْدَاسُ قال: فسمعوا هاتفا يقول لما احترقت الغيضة: (من الرجز) وَيْلٌ لِحَرْبٍ فَارِسَا * مُطَاعِناً مُخَالِسَا
وَيْلٌ لِعَمْرٍو فَارِسَا * إذْ لَبِسُوا الْقَوَانِسَا لَنَقْتُلَنْ بِقَتْلِهِ * جَحَاجِحاَ عَنَابِسَا ولم يلبث حرب بن أمية ومرداس بن أبي عامر أن ماتا، فأما مرداس فدفن بالقُرَيَّة، ويقال: إن الجن قتلتهما لإحراقهما شجر القُرَيَّة وازدراعهما إياها، وهذا شئ قد ذكرته العرب في أشعارهم وتواترت الروايات بذكره فذكرته، ثم إن القُرَيَّة ادَّعَاها بعد ذلك كليب بن عُيَيْمَة السلمي ثم الظَّفَرِي، فقال في ذلك عَبَّاس بن مرداس: أكُلَيْبُ مَالَكَ كُلَّ يَوْمٍ ظَالِماً * وَالظُّلْمُ أنْكَدُ غِبُّهُ مَلْعُونُ

(4/388)


قد كان قومك يحسبونك سيدا * وَإخَالُ أنَّكَ سَيِّدٌ مَغْيُونُ أتُرِيدُ قَوْمَك مَا أرَادَ بِوَائِلٍ * يَوْمَ الْقَلِيبِ سَمِيُّكَ الْمَطْعُونُ وَأظُنُّ أنَّكَ سَوْفَ يُنْفِذُ مِثْلُهَا * فِي صَفْحَتَيْكَ سِنَانِيَ الْمَسْنُونُ إنَّ الْقُرَيَّةَ قَدْ تَبَيَّنَ أمْرُهَا * إنْ كَانَ يَنْفَعُ عِنْدَكَ التَّبْيِينُ حِينَ انْطَلَقْتَ بِحَظِّهَا لي ظَالِماً * وأبُو يَزِيدَ بِجَوِّهَا مدفون وأبو يزيد: هو مِرْدَاس بن أبي عامر " انتهى.
قال ابن الشجري في أماليه: عُيَيْمَة منقول من محقر الْعَيْمة، وهي شهوة اللبن، أو محقر العِيَمة - بكسر العين - وهي خيار المال، ومنه قولهم: اعتام الرجل: أي أخذ العيمة، وقوله " أكليب " الهمزة للنداء، وقوله " مالك " ما: استفهامية مبتدأ، ولك: الخبر، وكل: ظرف، والنَّكَد: الْعُسْر، وخروج الشئ إلى طالبه بشدة، وغِبُّه: عاقبته، واللعن: الطرد والإبعاد، وأخال - بفتح الهمزة - وهو الأصل، وإخال بالكسر فيه لغة الذين كسروا حرف المضارعة مما جاء على مثال تِفْعل نحو تِعْجَب وتِعْلَم وتِرْكَب، لتدل كسرته على كسرة العين
من عَجِب وعَلِمَ ورَكِب ونحو ذلك، يقولون: أنا إعْجَب وأنت تِعْلَم ونحن نِرْكب، واستثقلوا الكسرة على الياء فألزموها الفتح، ومغيون - بالغين المعجمة -: اسم مفعول من قولهم: غين على قلبه، أي: غُطِّي عليه، وفي الحديث " إنَّهُ لَيَغَانُ عَلَى قَلبِي " ولكن الناس ينشدونه بالباء، وهو تصحيف، وقد روي بالعين غير المعجمة: أي مصاب بالعين، والأول هو الوجه، وكلاهما مما جاء فيه التصحيح وإن كان الاعتلال فيه أكثر، كقولهم: طعام مَزْيُوت، وبُرٌّ مَكْيُول، وثوب مخيوط والقياس مغين ومزين ومَكِيل ومَخِيط، حَمْلاً على غِينَ وزِيتَ وكِيلَ وخِيطَ.
قال أبو علي: " ولو جاء التصحيح فيما كان من الواو لم ينكر،

(4/389)


ألا تراهم قد قالوا: الْغُؤور، فهو مثل مفعول من الواو لو صح " انتهى.
وقد صححوا أحرفاً من ذوات الواو، قالوا: مسك مَدْوُوف، وثوب مَصْوُون، وفرس مَقْوُود، والغؤور: مصدر غارت عينه تغور غؤوراً، وإنما صح اسم المفعول من هذا التركيب فخالف بذلك اسم الفاعل، لأن اسم المفعول غير جار على فعله في حركاته وسكونه كما تجري أسماء الفاعلين على أفعالها، فلما خالف اسم المفعول فعله فيما ذكرناه خالفه في إعلاله.
وقوله " أتريد قومك - إلخ " الهمزة للاستفهام، وأراد بقومك، بدليل ما بعده، ولما حذف الباء ظهر النصب، وفاعل " أراد " سَمِيُّك، ويوم القَلِيب ويروى يوم الغدير، وهو اليوم الذي قتل فيه كُلَيب وائل، والقَلِيب: البئر وأراد بوائل بكرا وتغلب ابني وائل بن قاسط بن هِنْب بن أفْصى بن دعمى ابن جَدِيلة بن اسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وأارد بِسَميَّة المطعون كُلَيْب بن ربيعة بن مُرَّة بن الحارث بن زهير بن خُثَيْم بن حُبَيْب بن تغلب ابن وائل، طعنه جَسَّاس بن مُرَّة بن ذهل بن شيبان بن ثَعْلَبَة، فقتله، وكانت
العرب تضرب المثل بكُلَيْب في العز، فيقولون: أعَزُّ من كُلَيْب وَائل، وكان سيد ربيعة بن نزار في دَهْرِهِ، هو الذي كان يُنْزِلهم في منازلهم، لم يكونوا يظعنون من منزل ولا ينزلون إلا بأمره، فبلغ من عزه وبَغْيه أنه اتخذَ جِرْو كلب، وكان إذا نزل منزلا ملكئا قَذَف بذلك الجِرْوِ فيه فَيَعْوِي، فلا يَقْرب أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، أو أن يُؤْذِن بحرب، وكذلك كان يفعل في الماء، وفي أرض الصيد، وكان إذا ورد الماء قذف بالجرو، وعند الحوض فلا يقرب أحد ذلك الماء حتى تصدر إبله، وكان يحمي الصيد: فيقول: صيد أرض كذا في جواري، فلا يُهَاج ذلك الصيد، وكان لا يَخُوض معه احد في حديث ولا يَمُرُّ أحد بين يديه وهو جالس، ولا يحتبى في مجلسه غيره، فصار في العز والبَغْي مثلاً.

(4/390)


وكان سَبَب قتله أن البسوس - وهي امرأة من غَنِيّ، وضربت العرب بها المثل في الشؤم، فقالوا: أشْأَمُ مِنَ الْبَسُوسِ - كانت في جوار جَسَّاس بن مُرَّة، فمرت إبلٌ لكليب تريد الماء، فاختلطت بها ناقة للبسوس، فوردت معها الماء، فرآها كليب، فأنكرها، فقال: لمن هذه الناقة؟ فقال الرِّعَاء: للبسوس جَارَة جَسَّاس، فرماها بسهم، فانتظم ضَرْعَها، فأقبلت الناقة تعجّ وضَرْعُهَا يسيل دماً ولبناً، فلما رأتها البسوس قذفت خِمَارها، ثم صاحت: واذُلاَّهُ! وجَارَاهُ! فأغضبت جسَّاساً، فركب فرسه، وأخذ رمحه، وتبعه عمرو بن الحارث ابن ذُهْل بن شيبان على فرسه، ومعه رمح، فركضا نحو الْحِمَى والخباء، فَلَقِيَا رجلاً فسألاه: من رمى الناقة؟ فقال: من حلا كما عن بَرْد الماء وسامكما الخسف، فأقررتما به، فزادهما ذلك حَمِيَّةً وغَضَباً يقال: حلأه عن الماء: إذا طرده عنه، وسام فلان فلاناً الخسف: إذا
أولاه الدَّنِيَّة.
فأقبلا حتى وقفا على كليب، فقال له جساس: يا أبا الماجد، أما علمت أنها (ناقة) جارتي؟ فقال كليب: وإن كانت ناقة جارتك! فَمَهْ؟ أتراك ما نعى أن أذُبَّ عن حِمَاي؟ فأغضبه ذلك، فحمل عليه، فطعنه وطعنه عمرو، فقتلاه، وفيه هاجت حرب بكر وتغلب ابن وائل أربعين عاماً، وقالت الشعراء في بغي كليب، وضَربوه مثلاً.
وقوله " ينفذ مثلها " أي: مثل الطعنة التي طعنها جَسَّاس بن مرة كليبَ ابن ربيعة، وحَسُن إضمار الطعنة وإن لم يجر لها ذكر، لأن ذكر المطعون دَلَّ عليها وتقدمت ترجمة العباس بن مرداس في الشاهد السابع عشر من شواهد شرح الكافية.

(4/391)


وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والثمانون بعد المائة -: (من الرجز) 182 - ياليت أنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ * حَتَّى يَعُودَ الْوَصْلُ كَيَّنُونَهْ على أن " كَيْنُونة " أصلها بياء مشددة، فحذفت الياء الزائدة، وبقيت عين الكلمة، وهي الياء الثانية المنقلبة عن الواو، والأصل كَيْوَنُونَة، فانقلبت الواو ياء لاجتماعها مع الياء الساكنة وأدغمت فيها، ثم حذفت الياء الأولى تخفيفاً وجوباً، ولا يجوز ذكرها إلا في الشعر، كما في البيت قال أبو العباس المبرد: أنشدني النهشلي: قَد فَارَقَتْ قَرِينَهَا القرينه * وشحطت عَنْ دَارِهِا الظعِينَهْ قوله " يا ليت أنا - إلخ " وقرينها: مفعول مقدم، والقرين: زوج المرأة، والقرينة: فاعل، وهى زوجة الرجل، وشحط الرجل - من باب (1)
فرح - إذا بعد، والظعينة: المرأة ما دامت في الْهَوْدَج، وقوله " يا ليت أنا " بفتح الهمزة - أنا مع اسمها وخبرها في تأويل مصدر ساد مسد معمولي ليت، وضمنا: جمعنا، وسفينة: فاعل، وكينونة: مصدر كان، والمراد به اسم المفعول: أي حتى يعود الوصل موجوداً.
والبيتان كذا أنشدهما ابن جني في شرح تصريف المازني وابن بري في أماليه على الصحاح.
وأنشد بعده: (من الرجز) * مَا بَالُ عَيْنِي كالشعيب العين * وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والعشرين من هذا الكتاب.
__________
(1) واللغة المشهورة من باب منع (*)

(4/392)


وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد المائة -: (من الخفيف) 183 - كُلُّ أنْثَى وَإنْ بدالك مِنْهَا * آيَةُ الْحُبِّ حُبُّها خَيْتَعُورُ على أن فَيْعَلُولاً موجود كخَيْتَعُور، وما فسّره به هو كلام صاحب الصحاح، وفسّره بعضهم بالْغُرور الذي لا يصح منه شئ.
وقال صاحب العباب: وربما سموا الذئب خَيْتَعُوراً، لأنه لا عهد له، ولا وفاء، والخيتعور: الغول والداهية والدنيا والأسد.
والبيت من أبيات لِجَدِّ جَدِّ امرئ القيس واسمه حُجْراً آكل الْمُرَار، وقبله (1) : إن من غره النساء بشئ * بَعْدَ هِنْدٍ لَجَاهِلٌ مَغْرُورُ حُلْوَةُ الْقَوْلِ وَاللِّسَانِ ومر * كل شئ أجَنَّ مِنْهَا الضَّمِيرُ
كُلُّ أنْثَى وإنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا * ... البيت وحُجر: بضم الحاء المهملة وسكون الجيم، والمُرار - كغراب -: اسم شجر مرّ، وحُجْر: هو ابن عمرو بن معاوية بن الحارث، وينتهي نسبه إلى كندة، ومن كندة إلى يعرب بن قحطانَ، قال الأصبهاني في الأغاني: " أخبرني ابن دريد إجازة عن عمه عن ابن الكلبي عن أبيه عن الشَّرَقي بن القُطَامِيَّ قال: أقبل تُبّع حين سار إلى العراق فنزل بأرض معدٍ فاستعمل عليهم حُجْر بن عمرو، وهو آكل المُرار، فلم يزل ملكاً حتى خُرف، ثم إن زياد بن الهَبُولة بن عمرو بن عوف
__________
(1) روى صاحب الاغانى قبل هذه الابيات بيتين، وهما: لمن النار أوقدت بحفير * لم ينم عند مصطل مقرور أو قدتها إحدى الهنود وقالت * أنت ذا موثق وثاق الاسير

(4/393)


ابن ضُجعُم، وهو حَمَاطة بن سعد بن سَلِيح القُضَاعِي أغار على حجر آكل المرار وهو غائب فأخذ مالاً كثيراً وسبا امرأة حجر، وهي هند بنت ظالم بن وهب ابن الحارث بن معاوية، وأخذ نسوة من نساء بكر بن وائل، فلما بلغ حُجْراً وبكر ابن وائل مُغارُه وما أخذ أقبلوا عليه، ومعه أشراف بكر بن وائل منهم عوف ابن مُحَلَّم بن ذُهْل بن شَيبان، فأقبل حجر في أصحابه حتى إذا كان بمكان يقرب من عين أُباغ (1) بعث سد وسا وصليعا (2) يتجسسان له الخبر، فخرجا حتى هجما على عسكرهِ وقد أوقد ناراً ونادى منادٍ (له) من جاء بُحزمة من حطب فله فِدْرة (3) من تمر، وكان ابن الهَبُولَة قد أصاب في عسكر حجر تمراً كثيراً فضرب قِبابه وأجَّج ناره ونثر التمر بين يديه، فاحتطب سدوس وصلِيع ثم أتيا به ابن الهَبُولَة فطرحاه بين يديه فناولهما من التمر وَجلسا قريباً من القُبَّة، فأما صَلِيعٌ فقال: هذه آية، فانصرف إلى حجر فأعلمه بعسكره وأراه التمر، وأما سدوس
فقال: لا أبرح حتى آتيه بخبر جلِيّ، فلما ذهب هَزِيع من الليل أقبل ناس من أصحابه يحرسونه وقد تفرق أهل العسكر، فقرُب سدوس إلى جليس له فقال له: من أنت؟ مخافة أن يُسْتَنكر، فقال: أنا فلان بن فلان، قال: نعم ودنا سدوس من القبة فكان بحيث يسمع الكلام، فدنا ابن الهبولة من هند امرأة حُجْر فقبلها وداعبها، ثم قال لها: ما ظنك بحُجْر لو علم بمكاني منك؟ قالت: ظني والله أنه لن يدع طلبك حتى يطالع القُصور الحمر، وكأني أنظر إليه في فوارس من بني شيبان وهو شديد الكلب سريع الطلب يُزْبد شدقاه كأنه بعير آكل مرار، فسمى المُرار يومئذٍ، قال: فرفع يده فلطمها ثم قال: ما قلت هذا إلا
__________
(1) بضم الهمزة وفتحها وكسرها، وهى موضع بين الرقة والكوفة (2) في الاصول " ضبيعا " وهو تحريف والتصحيح عن الاغانى (3) الفدرة: القطعة (*)

(4/394)


من عُجْبِكِ به وحبك له، فقالت: والله ما أبغضت ذا نسمة قط بغضي له، ولا رأيت رجلاً قط أحزم منه نائماً ومستيقظاً، إن كان لتنام عيناه وبعض أعضائه حيّ لا ينام، وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عُسّاً (1) مملوءاً لبناً، فبينما هو ذات ليلة نائم وأنا قريبة منه أنظر إليه إذ أقبل أسود سالخ (2) فمال إلى العس فشربه ثم مجه، فقلت: يستيقظ فيشرب فأستريح منه، فانتبه من نومه فقال: عليَّ بالإناء، فناولته فشمه فاضطربت يداه حتى سقط الإناء فأريق، وكل هذا يسمعه سدوس، فلما نامت الأحراس خرج يسري ليلته حتى صبح حُجْراً، فقال: (من الوافر) أتَاكَ الْمُرْجِفُونَ بِرَجْمِ غَيْبٍ * عَلَى دَهَشٍ وَجِئْتُكَ بِالْيَقِينِ فَمِنْ يَكُ قَدْ أتَاكَ بِأمْرِ لَبْسٍ * فَقَد آتِي بِأمْرٍ مُسْتَبِينِ
ثم قص عليه ما سمع، فأسف ونادى في الناس بالرحيل، فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهَبُولة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم ابن الهَبُولة وعرفه سدوس فحمل عليه فاعتنقه وصرعه فقتله، وبصر به عمرو بن أبي ربيعة (3) فشد عليه فأخذ رأسه منه وأخذ سدوس سلبه وأخذ حُجْر هنداً فربطها بين فرسين ثم ركضا بها حتى قطعاها قطعاً، هذه رواية ابن الكلبي وأما أبو عبيدة فإنه ذكر أن ابن الهبولة لما غَنِمَ عسكر حُجْر غَنِمَ مع ذلك زوجته هند بنت ظالم وأُم أُناس بنت عوف بن محلم الشيباني - وهي أم الحارث بن حُجْر - وهند بنتَ حُجْر، قال: وكان ابن الهبولة بعد أن غَنِمَ يسوق ما معه من السبايا والنعم ويتصيد في المسير لا يمر بوادٍ إلا أقام به يوماً أو يومين حتى أتى
__________
(1) العس - بالضم -: القدح العظيم، وجمعه عساس (2) الاسود السالخ: الحية العظيمة تخرج عن قشرها (3) في الاغانى عمرو بن معاوية (*)

(4/395)


على ضَريَّة (1) فوجدها معشبة فأعجبته فأقام بها أياماً، وقالت له أم أُناس: إني لأرى كأني قد نظرت إلى رجل أسود أدْلَمَ (2) كأن مشافره مشافر بعير آكلِ مُرار قد أخذ برقبتك، فسمي حجر آكل المُرار بذلك، وذكر باقي القصة نحو ما مضى، وروي أيضاً أنه إنما سمي آكل الْمُرَار لأن سدوساً لما أتاه بخبر ابن الهَبُولة ومداعبته لهند وأن رأسه كان في حجرها وحدثه بقولها له، جعل يسمع ذلك وهو يعبث بالمُرار - وهو نبت شديد المرارة - وكان جالساً في موضع فيه منه شئ كثير، فجعل يأكل من ذلك المرار غَضَباً وهو يسمع من سدوس وهو لا يعلم أنه يأكله من شدة الغضب، حتى انتهى سدوس إلى آخر الحديث فعلم حينئذٍ بذلك، ووجد طعمه، فسمي يومئذٍ آكل الْمُرار، قال ابن الكلبى:
وقال جحر في هند: * إنَّ مَنْ غَرَّهُ النساء بشئ ... الابيات " انتهى ما ساقه صاحب الأغاني باختصار قليل.
ولا يخفى أن المشهور أن أُم أُناس زوجة عمرو المقصور بن حُجْر بن الحارث ابن عمرو (3) ، وإنما سميت أم أُناس لأن أباها عوف بن مُحَلِّم أمر أمَّها لما ولدتها أن تئدها، فقالت: قد فعلت، فربتها حتى أدركت فنظر إليها عوف يوماً مقبلة فأعجبه شبابها فقال: من هذه يا أمامة؟ قالت: وصيفة لنا، ثم قالت: أيسرك أنها ابنتك؟ فقال: كيف لي بذلك؟ قالت: فإنها التي أمرتني أن أئدها، فقال: دعيها فلعلها أن تلد لنا أُناساً، فسميت أم أُناس، وهي أم الحارث بن عمرو المقصور بن حُجْر.
__________
(1) ضرية: بلدة بين البصرة ومكة.
(2) الادلم: الشديد السواد.
(3) يدل على ذلك قول عبيد بن الابرص بعد مقتل حجر: هلا على حجر بن أمم * أناس تبكى لا علينا (*)

(4/396)


وابن الهَبُولة - بفتح الهاء وضم الموحدة -: هو عمرو بن عوف بن ضُجْعُم، وهو بطن، وهم الضجاعمة، وكانوا الملوكَ بالشام قبل غسَّان، وضجعم هو حَمَاطَةُ كما تقدم وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد الرابع والثمانون بعد المائة -: (من الكامل) 184 - درس المنا بتمالع فَأَبَانِ * فَتَقَادَمَتْ بالحُبْسِ فَالسُّوبَانِ على أن أبان فيه قيل: وزنه أفْعَلُ، وقيل: وزنه فَعَال والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي، وأراد المنازل جمع منزل، وهو حذف قبيح، ودرس يكون فعلا لازما ومتعديا، والمراد هنا الأوّل، يقال:
درس المنزلُ يدرُس درُوساً: أي عفى وانمحى أثره، ودرسته الريح، ومُتالع - بضم الميم بعدها مثناة فوقية واللام مكسورة والعين مهملة - قال أبو عبيد في معجم ما استعجم: هو جبل لغني بالحِمي قاله الخليل، وأبانُ قال ياقوت في معجم البلدان: " أبانُ الأبيضُ وأبان الأسودُ: فأبان الأبيضُ شرقي الحاجر فيه نخل وماء يقال له: أكْرَةُ - وهو العلم - لبني فزارة (وعبس، وأبانُ الأسودُ: جبل لبني فزارة) (1) خاصة وبينه وبين الارض ميلان، وقال أبو بكر بن موسى: أبانُ جبل بين فَيْدَ والنبهانية أبيض، وأبان جبل أسود: وهما أبانان وكلاهما محدد الرأس كالسنان، وهما لبني مناف بن دارم بن تميم بن مُرّ، وقال الأصمعي: وادي الرّمة يمر بين أبانين، وهما جبلان يقال لأحدهما: أبان الأبيض، وهو لبني فزارة ثم لبني جُرَيْد منهم، وأبان الأسود لبني أسد، ثم لبني والبة بن الحارث بن ثَعْلَبَة بن دودان بن أسد، وبينهما ثلاثة أميال، وقال آخرون: أبانان تثنية أبانٍ ومتالع، غلب أحدهما
__________
(1) سقطت العبارة التى بين القوسين من أصول الكتاب ولا يتم الكلام إلا بها، وهى في ياقوت.
(*)

(4/397)


كما قالوا: القمران، في الشمس والقمر، وهما بِنَوَاحِي البحرين، واستدلوا على ذلك بقول لبيد: * دَرَسَ الْمَنَا بِمُتَالِعٍ فَأَبَانِ * أراد درس المنازل، فحذف بعض الاسم ضرورة، وهو من أقبح الضرورات وقال أبو سعيد السكري في قوله (1) : (من الوافر) تَؤَمُّ بِهَا الْحُدَاةُ مِيَاهَ نَخْلٍ * وَفِيهَا عَنْ أبَانَيْنِ ازْوِرَارِ " أبان جبل معروف، وقيل: أبانين، لأنه يليه جبل نحو منه يقال له: شَرَوْرَى، فغلبوا أبانا عليه فقالوا: أبانان " انتهى.
و" الحبس " قال أبو عبيد في معجم ما استعجم: " بكسر الحاء المهملة، وقد نضم، وسكون الباء الموحدة، وبالسين المهملة: موضع في ديار غطفان، قال لبيد: * دَرَسَ الْمَنَا ... البيت * وقال لحارث بن حلزة: (من الكامل) لِمَنِ الدِّيَارُ عَفَوْنَ بالْحُبْسِ * آياتُهَا كَمَهَارِقِ الْفُرْسِ والأعرف في بيت الحارث ضم الحاء، كما أن الأعرف في بيت لبيد كسرها، ولعلهما موضعان " انتهى، والسُّوبان - بضم السين المهملة وبعد الواو باء موحدة - اسم واد، كذا في الصحاح، وفي بعض نسخه وسوبان اسم واد، وصوبه ياقوت في هامشه باللام كما في البيت.
__________
(1) هو من كلام بشر بن أبى خازم وقبله: ألا بان الخليط ولم يزاروا * وقلبك في الظعائن مستعار أسائل صاحبي ولقد أرانى * بصيرا بالظعائن حيث صاروا (*)

(4/398)


وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الخامس والثمانون بعد المائة -: (من الرجز) 185 - يَا عَجَباً لِهَذِهِ الْفَلِيقَهْ * هَلْ تَغْلِبَنَّ الْقُوَبَاءَ الرّيقَهْ على أن القوباء داء يعالج بالريق قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل: " هذا الشعر لأعرابي أصابته القوباء فقيل له: اجعل عليها شيئاً من ريقك وتعهدها فإنها تذهب، فتعجب من ذلك واستغربه، وروي " هل تُذْهِبَنَّ الْقُوْبَاء " قال ابن السيرافي: " عجب هذا الشاعر من تفل الناس على القوباء ورقيتها لتذهب، قال: كيف تغلب الريقة القوباء؟ ومن روي القوباء بالرفع فقد أفسد المعنى " وقال التبريزي: ورواية الرفع على القلب، وقال التُّدْميريِّ: هو على جهة المفاعلة
كأن القوباء والريقة يتغالبان، وكل من غالب شيئاً فقد غالبه ذلك الشئ، فكل واحد منهما في المعنى فاعل ومفعول، وقال الشمني: أو على معنى أن الأعرابي كان يعتقد أن الريقة تبرئ من القوباء فسمع قائلاً يقول: إن الريقة لا تبرئها، فأنكر ذلك، وفيه نظر، لاقتضائه أن يكون المنكر المتعجب منه أن لا تبرئ، وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل: هذا البيتان مجهولا لا يعلم قائلهما والفليقة: الداهية، والريقة: القطعة من الريق، يقول: إن من العجب أن تُذْهِب هذه القوباء الريقة، لأنهم يزعمون أن ريقة الصائم إذا نفث بها على القوباء أزالتها وقال الصاغاني في العباب: " الفليق والفليقة: الداهية، والعرب تقول: يا للفليقة: وتقول في مثل هذا: " يا عَجَبِي لهذه الفليقة إلخ " ويروى " يا عَجَباً وهذه الفليقة " قال أبو عمرو: معناه أنه يعجب من تغير العادات، لأن الريقة تُذْهِب القوباء على العادة فتفل على قوبائه فما برئب، فتعجب مما تعهده، وجعل القوباء على الفاعلة والريقة على المفعولة " انتهى.
وقال اللخمي: " يروي يا عجباً بالتنوين ويا عَجَباً بغير تنوين "

(4/399)


أقول: التنوين على وجهين: أحدهما أن يكون عجباً منادى منكراً أو مطولاً لطوله بما اتصل به، والثاني أن يكون مفعولاً مطلقاً والمنادى محذوف، كأنه قال: يا قومَ اعجبوا عجبا، وروايته بلا تنوين له أيضاً وجهان: أحدهما أن يكون منادى مضافاً على لغة من يَقُول: يا غلاماً أقبل، بإبدال ياء المتكلم ألفاً، وثانيهما أن يريد يا عجباه، وأكثر ما يستعمل مثل هذا في الندبة، وقد جاء في غير الندبة، كقول الآخر: (من الرجز) يَا مَرْحَبَاهُ بحِمَار نَاجِيَهْ * إذَا أتَى قرَّبْتُه لِلسَّانِيَهْ
وقال ابن هشام في المغنى: " ألف يا عجبا لمدّ الصوت بالمنادى المتعجب منه، ولا يخفى أن المتعجب منه إنما هو قوله: * هَلْ تَغْلِبَنَّ الْقُوَبَاءَ الرِّيقَهْ * " وأنشد الشارح - وهو الشاهد السادس والثمانون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 186 - أنا اللّيْث مَعْدِيًّا عَلَيْهِ وعَادِيا على أن أصله معدُوًّا عليه، وهو القياس، وقلب الواو ياء في مثله نادر، لأنه غير جمع، قال الأعلم: " الشاهد فيه قلب معدو إلى معدي استثقالاً للضمة والواو تشبيهاً له بالجمع، وبعض النحويين يجعل معدياً جارياً على عُدِيَ في القلب والتغيير، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه من شذوذه تشبيهاً بالجمع، لأن مفعولاً يجري على فَعَلْتُه كما يجري على فُعِل، تقول: عَدَوْت عليه فهو معدو عليه كما يقال: عُدِي عليه فهو معدو عليه، وقد استويا في التغيير مع اختلاف فعليهما فيه " انتهى.
وكذا في شرح تصريف المازني لابن جني قال: " وينبغي أن تكون الألف

(4/400)


في آخر أرطىً فيمن قال: مَرِطِيٌّ منقلبة عن ياء، لأنه لو كان من الواو لقالوا: مرطو، وإنما مرطى كمرمى، ولانحمله على قوله: * أنَا اللَّيْثُ مَعْدِيّاً عليه وعاديا * وهو يريد معدوا عليه، ولا على مَسْنِيَّةٍ، وهم يريدون مَسْنُوَّة، لأن هذا شاذ لا يقاس عليه " انتهى.
وكذا قال في سر الصناعة وجعل الزمخشري في المفصل المفرد والمصدر شيئاً واحداً مقابلاً للجمع، قال ابن يعيش: " ويجوز القلب في الواحد فيقال: مَغزِيّ ومَدْعِيٌّ قال:
* أنَا اللَّيْثُ مَعْدِيًّا عَلَيْهِ وَعَادِيَا * أنشده أبو عثمان مَعْدُوّاً بالواو على الاصل، ورواه غير مَعْدِياً " انتهى.
وفيه أن أبا عثمان إنما أنشده في تصريفه بالياء لا غير والمصراع عجزه، وصدره: * وَقَدْ عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي * والعرس - بالكسر -: زوجة الرجل، ومُلَيْكة بالتصغير والبيت من قصيدة لعبد يغوث الحارثي الجاهلي، قالها لما أسرته تَيْم الرِّباب، وقد أوردناها برمتها مع سببها في شواهد المنادى من شواهد شرح الكافية.
وقد وقع هذا المصراع عجزاً في شعرٍ لحنظلة بن فاتك، وصدره: * تُسَائِلُنِي مَاذَا تَكُونُ بَدَاهَتِي * والْبُداهة - بضم الموحدة -: الفجاءة والمباغتة، والأول هو المشهور، وقد أنشده سيبويه وغيره.

(4/401)


وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والثمانون بعد المائة -: (من البسيط) 187 - مَوَالِيٌ كَكِبَاشِ الْعُوس سُحَّاحُ على أن تحريك الياء بالرفع شاذ، كذا في المفصل، وفي فرحة الأديب: وروي مواليٌّ بالهمز، وفيهما ضرورة أخرى وهي صرف ما لا ينصرف.
قال ابن المستوفي: أنشده أبو بكر السراج في كتابه لجرير رضي الله عنه: قد كاد يَذْهَبُ بالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا * مَوَالِئٌ كَكِبَاشِ الْعُوسِ سُحَّاحُ مَا مِنْهُمُ وَاحِدٌ إلاَّ بحُجْزَتِهِ * لِبَابِهِ مِنْ عِلاَجِ الْقَيْنِ مِفْتَاحُ وقال: أبدل الهمزة في موالئ من الياء في الشعر ضرورة، لأنهم يبدلون الحرف من الحرف في الشعر في الموضع الذي لا يبدل مثله في الكلام لمعنى يحاولونه: من
تحريك ساكن، أو تسكين متحرك، ليصح وزن الشعر، أورد شئ إلى أصله أو تشبيه بنظير، لأنه لو فُعل بها ما فُعل بالياء في المنقوص لانكسر البيت.
أقول: يريد لو قال في البيت: موالي، بتسكين الياء، لا نكسر، ولو حركت بالضمة لاستثقلت، قال ابن السيرافي: همزة الياء من موالئ لاستقامة البيت وكذا في الضرائر لان عصفور، قال: " ومنه إبدال الهمزة من الياء حيث لا يجوز ذلك في الكلام نحو قوله: قَدْ كَادَ يَذْهَبُ بِالدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا * مَوَالئٌ كَكِبَاشِ الْعُوسِ سُحَّاحُ وقوله: (من الطويل) كمُشْتَرئٍ بالْخَيْلِ أحْمِرَةً بُتْرا وإنما أبدلت الياء من موالى ومشتر للاضطرار إلى التحريك واستثقال الضمة والكسرة في الياء، وكان المبدل همزة إجراء لها في ذلك مُجرى الألف لمشابهتها لها في الاعتلال واللين " انتهى.

(4/402)


قوله " قد يذهب إلخ " قال بعض فضلاء العجم: مواليٌ فاعل يذهب وفي كاد ضمير الشأن، و " موالي " جمع مولى، وله معان: المولى السيد والمولى ابن العم، والمولى العصبة، والمولى الناصر، والمولى الحليف وهو الذى يقال له: مولى الموالاة، والمولى المعتِقُ، وهو مولى النعمة، والمولى العتيقُ، وهم موالي بني هاشم: أي عتقاؤهم، وكأنه يريد المعنى الأول، يذم رؤساء زمانه، و " كباش " جمع كبش، وهو الفحل من الضأن، و " العوس " بضم العين المهملة، قال الزمخشري في مناهي المفصل: العوس مكان أو قبيلة، يقال: كبش عوسيٌّ، وقال أبو سهل الهروي في شرح فصيح ثعلب: يقال كبس عوسيٌّ، إذا كان قوياً يحمل عليه، وقيل: بل هو منسوب إلى موضع يقال له العُوس بناحية الجزيرة، وقيل: بل هو
السمين، وما في البيت لا يوافق المعنى الأخير، وفي الصحاح: العوس بالضم ضرب من الغنم و " سحاح " بالضم جم ساح، يقال: سحت الشاة تِسحّ - بالكسر - سُحوحاً وسُحوحة: أي سمنت، وغنم سُحَّاحٌ: أي سِمان، وهو - بالرفع - نعت لموالي، شبههم بهذه الكباش لطول رعيهم في مراتع اللذات، و " بحجزته " جار ومجرور خبر مقدم، ومفتاح مبتدأ مؤخر، والحُجْزة - بضم الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها زاي معجمة -: هي مَعْقِدِ الإزار، وحجزة السراويل التي فيها التِّكّة، يريد أنهم يحملون مفاتيح أبوابهم، فهي مقفلة لا يدخلها أحد من الضيوف، والقَيْن - بفتح القاف: الحداد، وأراد بعلاج القَيْن صنيعه، يقال: عالجت الشئ معالجة وعلاجاً، إذا زاولته فإذا كان المفتاح مما يزاوله القين بعمله فقفله محكم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المائة -: (من الكامل) 188 - كَجَوَارِيٍ يَلْعَبْنَ بِالصَّحْرَاءِ

(4/403)


على أن قوماً من العرب يجرون الياء مجرى الحرف الصحيح في الاختيار فيحركها بالجر والرفع، وقال في شرح الكافية: إن هذا ضرورة، وهو المشهور، قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: " فيه ضرورتان: إحداهما إثبات الياء وتحريكها وكان حقه أن يحذفها فيقول: كجوار، والثانية أنه صرف ما لا ينصرف، وكان الوجه لما أثبت الياء إجراء لها مجرى الصحيح أن يمنع الصرف، فيقول: كجواري " انتهى.
وهذا المصراع عجز، وصدره: * مَا إنْ رَأَيْتُ وَلاَ أرَى فِي مُدَّتي * و " إن " زائدة، وجملة " ولا أرى في مدتي " أي في مدة عمري معترضة
بين أرى البصرية وبين مفعولها، وهو الكاف من قوله كجواري، فإنها اسم، ولا يجوز أن تكون هنا حرفاً، والجواري: جمع جارية وهي الشابة، والصحراء: هي البرية والخلاء وقد تكلمنا عليه بأكثر من هذا في الشاهد الواحد والثلاثين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والثمانون بعد المائة -: (من الطويل) 189 - أبى الله أنْ أسْمُو بِأُمٍّ وَلاَ أبِ على أن تسكين الواو من أسمو مع الناصب شاذ.
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: حذَفَ الفتحة من آخر أسمو إجراء للنصب مجرى الرفع.
والمصراع عجز وصدره:

(4/404)


وَمَا سَوَّدَتْنِي عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ والبيت من قصيدة لعدو الله ورسوله عامر بن الطُّفْيل العامريّ، وقوله: " وما سودتني عامر " أي: ما جعلتني سيد قبيلة بني عامر بالإرث عن آبائهم، بل سدت بأفعالي، وقوله " أبى الله " أبى له معنيان: أحدهما كره، وهو المراد هنا، والثانى امتنع، و " أن أسمو " في موضع المفعول لأبَى، والسموُّ: العلو والشرف وقد شرحناه شرحاً وافياً في الشاهد الثاني والثلاثين بعد الستمائة هناك.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التسعون بعد المائة -: (من الطويل) 190 - وَلَوْ أنَّ وَاشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ * وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمُوتَ اهْتَدَى لِيَا على أن تسكين الياء من واشٍ مع الناصب شاذ، وحذفت لالتقائها ساكنة
مع نون التنوين، وروي " فلو كان واش " فلا شاهد فيه ولا ضرورة، والواشي: النَّمَّام الذي يُزَوِّق الكلام ليفسد بين شخصين، وأصله من وشى الثوب يَشِيه وشياً، إذا نقشه وحسنه، واليمامة: بلد في نجد، وحضرموت: مدينة في اليمن، والبيت من قصيدة طويلة لمجنون بني عامر أوردنا مع هذا البيت بعضا منها في الشاهد الخامس والثمانين بعد الثمانمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد بعد المائة -: (من الرجز) 191 - كَأَنَّ أيْدِيهِنَّ بِالْقَاعِ القرق * أيدي جوار (1) يتعاطين الورق
__________
(1) في نسخة " عذارى " بدل جوار، وهى جمع عذراء (*)

(4/405)


على أن تسكين الياء مع الناصب شاذ، كما تقدم.
قال ابن الشجري: " قال المبرد: هذا من أحسن الضروروات، لأنهم ألحقوا حالة بحالتين، يعني أنهم جعلوا المنصوب كالمجرور والمرفوع، مع أن السكون أخف من الحركات، ولذلك اعتزموا على إسكان الياء في ذوات الياء من المركبات، نحو معدي كرب وقَالِي قَلا " انتهى والبيتان من الرجز نسبهما ابن رشيق في العمدة إلى رؤبة بن العجاج، ولم أرهما في ديوانه (1) وضمير " أيديهن " للإبل، والقاع: المكان المستوي، والْقَرِق - بفتح القاف وكسر الراء -: الأملس، وقال الشريف المُرْتَضَى: هو الخشن الذي فيه الحصا، وجَوَار - بفتح الجيم -: جمع جارية، ويتعاطين: يناول بعضهن بعضاً، والورق - بكسر الراء -: الدراهم، شبه حَذْف مناسم الإبل للحصى بحذف جَوارٍ يلعبن بدراهم، وخص الجواري لأنهن أخف يداً من النساء
وقد شرحناه بأكثر مما هنا في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الستماية من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والتسعون بعد المائة -: (من البسيط) 192 - هَجَوْتَ زَبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ معتذرا * من هجو زبان لَمْ تَهْجُو ولَمْ تَدَعِ على أنه سكنت الواو من تهجو شذوذاً مع وجود المقتضى لحذفها وهو الجازم، قال ابن جني في سر الصناعة: " يجوز أيضاً أن يكون ممن يقول في الرفع: هو
__________
(1) رجعنا إلى ديوان رؤبة فلم نجد هما، ولكننا وجدناهما في زيادات الديوان

(4/406)


يَهْجُو، فيضم الواو ويجريها مجرى الصحيح، فإذا جزم سكنها، فيكون علامة الجزم على هذا القول سكون الواو من يهجو، كما أسكن الآخر ياء يأتي في موضع الجزم، فقال: * ألَمْ يَأْتِيْكَ وَالاَنْبَاءُ تَنْمِي * وكأنه ممن يقول: هو يأتِيُكَ، بضم الياء، وقد يتوجه عندي أن يكون على إشباع لاضمة، وكأنه أراد لم تهجُ فحذف الواو للجزم، ثم أشبع ضمة الجيم فنشأت بعدها واو " انتهى.
و" هجوت " بالخطاب من الهجو، وهو الذم، و " زَبَّان " - بالزاي المعجمة والباء الموحدة -: اسم رجل، واشتقاقه من الزَّبَبِ وهو كثرة الشعر وطوله، وثم للترتيب وتراخي الزمان، أشار إلى أن اعتذاره من هجوه إنما حصل بعد مدة، و " من " متعلقة بالحال وهو معتذر، وقوله " لم تهجو ولم تدع " مفعلولهما محذوف: أي لم تهجوه ولم تدعه، وتدع مجزوم، وكسرت العين للقافية، والمعنى أنك هجوت واعتذرت فكأنك لم تهج، على أنك لم تدع الهجو، وقال العيني: والجملتان
كاشفتان لما قبلهما، فلذا ترك العاطف بينهما وأراد بهذا الكلام الإنكار عليه في هجوه ثم اعتذاره عنه، حيث لم يستمر على حالة واحدة.
والبيت مع شهرته لم يعرف قائله (1) والله أعلم:
__________
(1) ينسبه بعضهم إلى عمرو بن العلاء، واسمه زبان، يقوله للفرزدق الشاعر المعروف، وكان قد هجاه ثم اعتذر إليه، وروى المرتضى في شرح القاموس: * لم أهجو ولم أدع * وهذا يستدعى أن يكون هجوت وما بعده بتاء المتكلم، فيكون القائل هو من هجا أبا عمر.
(*)

(4/407)


وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والتسعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه: (من الوافر) 193 - ألَمْ يأتيك والأنباء تنمي * بما لاقت لَبُونُ بَنِي زِيَادِ لما تقدم قبله قال ابن جني في شرح تصريف المازني: قدَّر الشاعر ضمة الواو في " لم تهجو " فأسكنها للجزم كما أسكن الياء في ألم يأتيك للجزم، وهذا في الياء أسهل منه في الواو، لأن الواو وفيها الضمة أثقل من الياء وفيها الضمة، و " ما " فاعل يأتي، والباء زيدت فيه ضرورة، والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر، وتنمى: تشيع من نمى الشئ ينمي إذا ارتفع وزاد، والجملة معترضة بين الفعل وفاعله، واللبون: الإبل ذوات اللبن، وهو اسم مفرد أراد به الجنس، وبنو زياد: هم الربيع، وعمارة، وقيس، وأنس، بنو زياد بن سفيان الْعَبْسِي، والمراد لَبُون الرَّبيع ابن زياد، وكان سيد عَبْس.
والبيت مطلع قصيدة لقيس بن زهير العبسي، وكان سيد قومه، وحصل بينه
وبين الربيع عداوة في شأن دِرْع ساومه فيها، فلما نظر إليها الربيع وهو على ظهر فرسه وضعها على الْقَرَبُوس (1) ثم ركض بها فلم يردها عليه، فنهب قيس بن زهير إبله وإبل إخوته، فقدم بها مكة، فباعها من عبد الله بن جُدْعَان التيمي القرشي معاوضة بأدراع وسيوف، فافتخر بهذا وبما بعده، وهو: ومَحْبِسُهَا عَلَى الْقُرَشِيِّ تشرى * بأدراع وأسياف حداد ومحبسها: معطوف على فاعل يأتيك، وهو - بكسر الباء - مصدر ميمى، والقرشي: هو ابن جدعان
__________
(1) القربوس - بفتح القاف والراء - حنو السرج (*)

(4/408)


وقد شرحناهما مع القصيدة شرحاً لا مزيد عليه في الشاهد السادس والثلاثين بعد الستمائة من شواهد شرح الكافية وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والتسعون، بعد المائة -: (من الرجز) 194 - * وَلاَ تَرَضَّاهَا وَلاَ تَمَلَّقِ * لما تقدم، وقبله: * إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّق * قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " شبهت الألف بالياء في أن ثبتت في موضع الجزم، فإنه قدر الحركة هنا وحذفها للجزم، وهذا بعيد، لأن الألف لا يمكن تحريكها أبداً " انتهى.
ويجوز تخريجه على أن " لا " فيه نافيه لا ناهية، والتقدير فطلِّقها غير مترضٍ لها، ويكون قوله " ولا تملق " معطوفاً على قوله فطلق، قاله ابن عصفور في كتاب الضرائر.
وقد شرحناه بأكثر من هذا في الشاهد الخامس والثلاثين بعد الستمائة من
شواهد شرح الكافية.
وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الخامس والتسعون بعد المائة -: (من الطويل) 195 - * كَمُشْتَرِيٍ بِالْخَيْلِ أحْمِرَةً بُتْرَا * لما تقدم في قوله: * مَوَاليٌ كَكِبَاشِ الْعُوسِ سُحَّاحُ *

(4/409)


والقياس فيهما كمشترٍ ومَوَالٍ، بحذف الياء والتنوين، ورواهما ابن عصفور في كتاب الضرائر كمشترئ وموالئ، بالهمز والتنوين، كما تقدم، والمعنى كمن أعطى الخيلَ وأخذ الحمير بدلها، وهو جمع حمار، والبتر: جمع أبتر، وهو المقطوع الذنب وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السادس والتسعون بعد المائة، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 196 - يادار هِنْدٍ عَفَتْ إلاَّ أثَافِيهَا هو صدر، وعجزه: * بَيْنَ الطَّوِيِّ فَصَارَاتٍ فَوَادِيهَا * على أنه كان حق " أثافيها " النصب على الاستنثاء، وسكنت الياء شذوذاً قال سيبويه: " وسألت الخليل رحمه الله عن الياءات لَمْ تنصب في موضع النصب، إذا كان الأول مضافاً، وذلك قولك: رأيت معدي كرب، واحتملوا أيَادِيَ سَبَا، فقال: شبهوا هذه الياءات بألف مثنى حيث عَرَّوْها من الجر والرفع، فكما عَرَّوُا الألف منه عَرَّوْها من النصب أيضاً، فقالت الشعراء حيث اضطروا، قال بعض السعديين:
- * يَا دَارَ هِنْد عَفَتْ إلاَّ أثَافِيهَا * ونحو ذلك، وإنما اختصت هذه الياءات في هذا الموضع بذا لانهم يجعلون الشيئين ههنا اسماً واحداً، فتكون الياء غير حرف الإعراب، فيسكنونها بياء زائدة ساكنة، نحو ياء دردبيس " إلى آخر ما ذكره قال الأعلم: " الشاهد فيه تسكين الياء من الأثافي في حال النصب، حملاً

(4/410)


لها عند الضرورة على الألف، لأنها أختها، والألف لا تتحرك " انتهى.
وقال صدر الأفاضل: " يحتمل أن يكون قوله: إلا أثافيها، من باب الحمل على المعنى، كأنه قال: لم يبق إلا أثافيها، وحينئذٍ لا يكون البيت شاهدا لا سكان الياء، وهذا تحسر على اندراس الدار معنى، وإن كان لفظه خبراً " انتهى.
وكذا قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل، وقال: " ولو نصب أثافيها على أن يكون البيت غير مُصَرَّع لجاز، وهذا على لغة من يقول: أثافِيَ، بتخفيف الياء، وفيها لغتان: تخفيف الياء، وتشديدها، قال الجوهري: الأثْفِيَّة لِلْقِدْر، تقديره أُفْعُولَة، والجمع الأثَافيُّ، وإن شئت خففت، وثَفَّيْتُ القدر تَثَفِية: أي وضعتها على الأثافي، وأثفيت القدر: جعلت لها أثافي، وقال الأخفش: قولهم أثافٍ، لم يسمع من العرب بالتثقيل، وقال الكسائي: سمع، وأنشد: (من الطويل) أُثَافِيَّ سُفْعاً فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلِ والطوِيّ: البئر المطوية بالحجارة، والصارة - بالصاد والراء المهملتين -: رأى الجبل والوادي، معروف، و " بين الطوِيِّ " نصب على الحال، والعامل فيها ما في النداء من معنى الفعل، مثل قول النابغة: (من البسيط) يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السابع والتسعون بعد المائة -: (من البسيط)
197 - يَا بَارِيَ الْقَوْسِ بَرْياً لَيْسَ يُحْكِمُهُ * لاَ تُفْسِدِ الْقَوْسَ أعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا على أنه سكن ياء " باريها " شذوذاً، والقياس فتحها، لأن باريها المفعول الثاني لأعْطِ.

(4/411)


قال الزمخشري في أمثاله: " أعْطِ الْقَوْسَ بِارِيها، قيل: إن الرواية عن العرب بَارِيها بسكون الياء لا غير، يضرب في وجوب تفويض الامر من يحسنه وَيَتَمَهَّر فيه " انتهى.
وكذا أورده في المفصل بعد البيت السابق.
وقال الميداني في أمثاله: أي اسْتعِنْ على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه، وينشد: يَا بَارِيَ الْقَوْسِ بريا ليست تُحْسِنُهَا * لا تُفْسِدَنْهَا وَأعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا قال ابن السيرافى: " قرأت هذا البيت على شيخنا أبي الحرم مكي بن زيان في الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني: أعْطِ الْقَوْسَ بِارِيَهَا، بفتح الياء، وكان في الأصل " ليس يحسنه " وجعله " برياً ليست تحسنها "، وهو كذلك في نسخ كتاب الميداني، ولعل الزمخشري إنما أراد بالمثل آخر هذا البيت المذكور فأورده على ما قاله الشاعر، لا على ما ورد من المثل في النثر فإنه ليس بمحل ضرورة، ويروى: يَا بَارِيَ الْقَوْسِ بَرْياً لَيْسَ يُصْلِحُهُ * لاَ تَظْلِمِ الْقَوْسَ أعْطِ الْقَوْسَ بَارِيهَا والأول أصح، ويجوز أن يُسَكَّنَ ياء باريها - وإن كان مثلاً - برأيه " هذا كلامه.
ولو رأى ما في أمثال الزمخشري لاستغنى عما أورده
وقال المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر: يقال: إن أول من قال ذلك المثل هو الحطيئة، وساق حكايته مع سعيد بن العاص أمير المدينة في آخر الفاخر.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد المائة -: (من الكامل)

(4/412)


198 - مَا أَنْسَ لاَ أنْسَاهُ آخِرَ عيشتى * مالاح بِالْمَعْزَاءِ رَيْعُ سَرَابِ على أنه أثبت الياء (1) في أنساه شذوذاً، كما ثبت الواو في لم تهجو ولم تدع، والقياس لا أنسه ولم تَهْجُ، بحذفهما.
و" ما " اسم شرط يجزم فعلين، وهو هنا منصوب بشرطه، والمعنى مهما أنس من شئ من الأشياء لا أنس هذا الميت، وهو كثير في الأشعار وغيرها، قال ابن ميَّادة: (من الطويل) مَا أنْسَ مِ الأَشْيَاءِ لاَ أنْسَ قَوْلَهَا * وَأَدْمُعُهَا يُذْرِينَ حَشْوَ الْمَكَاحِلِ تَمَتَّعْ بِذَا اليَوْمِ الْقصِيرِ فَإِنَّهُ رَهِينٌ بِأَيَّامِ الشُّهُورِ الأَطَاوِلِ ومعناه مهما أنس من شئ لا أنس قولها، والمكاحل: مواضع الكحل، وآخر عيشتي: منصوب على الظرف، والعيشة: الحياة، والمعنى إلى آخر عيشتي، وما: مصدرية دوامية، والتقدير: مدة دوام لوح الْمَعزَاء، وهو ظرف لقوله: لا أنساه، والمراد التأبيد، وهو أعم من قوله آخر عيشتي، وجوز ابن المستوفي أن يكون بدلاً من آخر، والْمَعْزاء - بفتح الميم وسكون العين المهملة بعدها زاي معجمة - الأرض الصُّلْبة الكثيرة الحصا، ومكان أمعزبين المعز، بفتح العين، والريع - بمهملتين -: مصدر رَاعَ السَّرَابُ يَريع: أي جاء وذهب، وكذلك تَرَيَّع السَّرَابُ تَرَيُّعاً.
وقال ابن السيرافى: " وأنشده ابن الأعرابي ريع
- بكسر الراء - والريعُ: الطريق، وكأنه أراد بريع سراب بياضه، وقال ابن دريد: الريع: العلو في الأرض حتى يمتنع أن يسلك، وكذلك هو في التنزيل "
__________
(1) كذا، وصوابه الالف (*)

(4/413)


هذا ما سطره..وأورده ابن الأعرابي في نوادره مع بيت قبله، وهو بَكَرَ النَّعِيُّ بِخَيْرِ خِنْدَفَ كُلِّهَا * بُعُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شهاب وقال: هما لحصين بن قَعْقَاع بن معبد بن زرارة، وبَكَر هنا: بمعنى بادر وسارع، والنَّعِيُّ فعيل بمعنى الناعي، وهو الذي يأتي بخبر الميت، ويكون النعيُّ بالتشديد أيضاً مصدراً كالنَّعْي بسكون العين وهو إشاعة مت الميت، قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيهم ميت له قدر ركب راكب فرساً وجعل يسير في الناس، ويقول: نَعَاءِ فُلاَناً، أي انْعَهُ وأظهر خبر وفاته، وهي مبنية مثل نَزَالِ، بمعنى انزل، وعُتَيْبَة بالتصغير: فارس من فرسان الجاهلية، وهو ابن الحارث بن شهاب بن عبد قيس بن الْكُبَاس بن جعفر بن يربوع، اليربوعي وكان قد رأس بيت بني يربوع، وقتله ذؤاب بن ربيعة لما قاتل بني نصر بن قُعَيْن، وكانت تحت عتيبة يومئذٍ فرس فيها مَرَاح واعتراض، فأصاب زُجُّ غلام من بني أسد يقال له: ذؤاب بن ربيعة، أرْنَبَةَ عتيبة، فنزف حتى مات، فحمل ربيع بن عتيبة على ذؤاب فأخذه من سرجه، وقتلوا ثمانية من بني نصر وبنى غاضرة، واستنقدوا النعم، وساروا إلى منزلهم فقتلوه، فقال ربيعة أبو ذؤاب: (من الكامل) إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَللْتَ عُرُوشَهُمْ * بعُتَيْبَةَ بِنْ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ بأشدهم ضرار عَلَى أعْدَائِهِمْ * وَأعَزِّهِمْ فَقْداً عَلَى الأَصْحَابِ والحصين بن القعقاع صاحب الشعر من بني حنظلة بن دارم التميمي.
الإبدال أنشد فيه الجاربردي في أوله - وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد المائة -: (من الكامل)

(4/414)


199 - تَرَّاكَ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَهَا * أوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا على أن أبا عبيدة قال: " بعض " في البيت بمعنى كل، واستدل به لقوله تعالى: (وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يعدكم) ولم يرتضه الزمخشري، قال القاضي: هو مردود، لأنه أراد بالبعض نفسه، وقال في الآية: فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، وفيه مبالغة في التحذير وإظهار الانتصاف (1) وعدم التعصب، ولذلك قدم كونه كاذباً، أو يصيبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا، وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالاً عندهم، وقال الزمخشري في سورة المائدة عند قوله تعالى (فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم ببعض ذنوبهم) : " يعني بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك، وأراد أن لهم ذنوباً جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمة بعظها واحد منها، وهذا الابهام لتظيم التولي، ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد: * أوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا * أراد نفسه، وإنما قصد تفخييم شأنها بهذا الامام، كأنه قال: نفسا كبيرة ونفسا أيَّ نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو في معنى البعضية فكذلك إذا صرح بالبعض " انتهى.
وكذا قال القاضي والبيت من معلقة لبيد بن ربيعة العامري الصحابي رضي الله عنه، قال الزوزني في شرحه: " أراد ببعض النفوس هنا نفسه، ومن جعل بعض النفوس
بمعنى كل النفوس فقد أخطأ، لأن بعضاً لا يفيد العموم والاستيعاب " انتهى.
و" ترَّاك " مبالغة تارك، وأمكنة: جمع مكان، و " إذا " ظرف لتراك لا شرطية - وَالحِمام - بكسر الحاء المهملة - الموت وهو فاعل يرتبط، و " بعضَ " مفعوله
__________
(1) في نسخة الانصاف (*)

(4/415)


ويرتبط بمعنى يعلق، وأو بمعنى إلا، والفعل بعدها ينتصب بأن، وسكن يرتبط هنا لضرورة الشعر، والمعنى أني أترك الأمكنة إذا رأيت فيها ما أكره، إلا أن يدركني الموت فيحبسني.
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: " ومنه حذفهم الفتحة التي هي علامة الإعراب من آخر الفعل المضارع كقول لبيد: أو يرتبط، ألا ترى أنه أسكن يرتبط وهو في الأصل منصوب لأنه بعد أو التي بمعنى " إلا أن " وإذا كانت بمعنى " إلا أن " لم يكن الفعل الواقع بعدها إلا منصوباً بإضمار أن وحذفها من آخر الفعل المعتل أحسن، كقوله: أبى الله أنْ أسْمُو بِأمّ وَلاَ أبِ انتهى وهذا مرضيّ الزوزني، قال: " معناه إني تراك أمكنة إذا لم أرضها إلا أن يرتبط نفسه حمامها، فلا يمكنها الْبَراح، هذا أوجه الأقوال وأحسنها، وتحرير المعنى: إني لاترك الاماكن التى أجتويها وأقليها إلا أن أموت ".
وقال أبو جعفر النحوي في شرحه: " جزم يرتبط عطفاً على قوله إذا لم أرضها، وهذا أجود الاقوال، والمعنى على هذا إذا لم أرضها، وإذا لم يرتبط بعض النفوس حِمامها، وقيل: إنّ يرتبط في موضع رفع إلا أنه أسكنه لأنه رد الفعل إلى أصله، لأن أصل الأفعال أن لا تعرب وإنما أعربت للمضارعة، وقيل: يرتبط في موضع
نصب، ومعنى " أو " معنى " إلا أن " أي: إلا أن يرتبط بعض النفوس حمامها، إلا أنه أسكن، لأنه رد الفعل أيضاً إلى أصله، وإنما اخترنا القول الأول، وهو أن يكون مجزوماً، لأن أبا العباس قال: لا يجوز للشاعر أن يسكن الفعل المستقبل لأنه قد وجب له الإعراب لمضارعته الأسماء وصار الإعراب فيه يفرق بين المعاني " هذا كلامه وعلى مختاره لا ضرورة فيه، إلا أن علة اختياره واهية، لأن تسكين المرفوع

(4/416)


والمنصوب ثابت في أفصح الكلام نثراً ونظماً، ومحصل الجزم بالعطف أنِّي إذا لم يكن أحد الأمرين: الرضا والموت، فالترك حاصل، أما إذا رضيت بها بأن رأيت فيها ما أحب فلا، وأما إذا مت فلعدم الإمكان، وهذا يدل على شهامة نفسه في أنه لا يقيم في موضع ذل.
وتراك: خبر بعد خبر " لأنّ " في البيت قبله، وهو: أو لم تَكُنْ تَدْرِي نَوَارُ بِأَنَّنِي * وَصَّالُ عَقْدِ حَبَائِلٍ جذامها الالف للاستفهام، ونوار - بفتح النون - اسم امرأة، و " وصّال " خبر أنَّني، و " جذّامها " خبر ثان و " ترّاك " خبر ثالث، و " وصّال " مبالغة واصل، و " وجذامها " بالجيم والذال المعجمة مبالغة جاذم وهو القطع، والحبائل: جمع حِبَالَة، وحِبَالة: جمع حَبْل، وهو هنا مستعار للعهد والمودة، يقول: أليست تدرى نوار أني واصل عقد العهود والمودات وقطَّاعها؟ يريد أنه يصل من استحق الوصل ويقطع من استحق القطع.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد الموفى المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 200 - يَسْتَنُّ في عَلْقَى وَفِي مُكُورِ على أن من رواه علقى - بلا تنوين - جعل ألفه للتأنيث ولم يقل في واحده:
علقاة، ومن نونه جعل ألفه للالحاق وجعل واحده علقاة، وهذا جواب ما استشكله أبو عبيدة.
قال الصاغاني في العباب: " قال سيبويه العلقى نبت يكون واحدا وجمعا وألفه للتأنيث، قال العجاج يصف ثورا:

(4/417)


فحط في عَلْقَى وَفِي مُكُورِ * بَيْنَ تَوَارِي الشَّمْسِ والذروو وقال غيره: ألفه للإلحاق وينون، الواحدة علقاة، وقال أبو نصر: العَلقي شجرة تدوم خضرتها في القيظ، ومنابت العلقى الرَّمْل والسهول، وقال أبو حنيفة الدَيْنَوَرِيّ: أراني بعض الأعراب نبتاً زعم أنه العْلْقَى له أفنان طوال دقاق وورق لِطاف يسمى بالفارسية " خلواه " يتخذ منه الْمُجْتَلُّون مكانس الْجِلَّة (1) ، وعن الأعراب الأوائل: العلقاة.
شجرة تكون في الرمل خضراء ذات ورق، قالوا: ولا خير فيها " انتهى.
والمكور: جمع مَكْر - بفتح الميم وسكون الكاف - قال الجوهري والصاغاني: هو ضرب من الشجر، وأورده سيبويه في باب ما لحقته الألف فمنعته من الانصراف، قال الأعلم: " الشاهد فيه ترك صرف عَلْقَى، لأنها آخره ألف التأنيث، ويجوز صرفه على أن تكون للالحق، ويؤنث واحده بالهاء، فيقال: علقاة وصف ثوراً يرتعِي في ضروب الشجر، ومعنى يَسْتَنُّ يرتعِي، وسَنُّ الماشية: رعيها، وأصله أن يقام عليها حتى يسمن وتَمْلاَسّ جلودها، فتكون كأنها قد سنت وصُقلت كما يسن الحديد " انتهى وهذا خلاف ما فسره الجاربردي (2) ، والعجاج وصف ثوراً وحْشيّاً شبه جمله به وقوله " حط في عَلقَى وفي مكور "، أي: اعتمدهما في رعيه، قال شارح شواهد أبي علي الفارسي: " وسمع عَلْقَى في هذا البيت من رؤبة غير منون، وكذا
رَوَى عن أبيه، فدل على أن ألفه للتأنيث، ولو كان للإلحاق لنون " انتهى.
وفي رواية الصحاح والعباب " فَحَطَّ " والفاعل في الروايتين ضمير الثور،
__________
(1) الجلة - بكسر الجيم - البعر، والمجتلون: الذين يلقطونها (2) حيث فسر الاستنان بالقماص فقال: " واستن الفرس وغيره: أي قمص، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجن برجليه ".
(*)

(4/418)


وتواري الشمس: غيبوبتها، وذرورها: طلوعها وإشراقها، يريد أنه يستن من طلوع الشمس إلى غروبها وأول الارجوزة: * جارى لا تسنكرى عَذِيرِي * يريد يا جارية، والعجاج تقدمت ترجمته في الشاهد الأول.
وأنشد الشارح - وهو الشاهد الواحد بعد المائتين -: (من الرجز) 201 - تَضْحَكُ مِنِّي أنْ رَأَتْنِي أحْتَرِشْ * وَلَوْ حَرَشْتِ لَكَشَفْتِ عَنْ حِرِشْ على أن الشين في حِرِش شين الكشكشة، وهي بدل من كاف المؤنث، وأصله حِرِكِ، وهي لغة بني عمرو بن تميم، وقوله " أن رأتني إلخ " بدل اشتمال من الياء " في منّي " والاحتراش: صيد الضب خاصة، والعرب تأكله، يقال: حَرَشَ الضب يَحْرِشه حَرْشاً، من باب ضرب، وكذلك احترشه، وهو أن يحرك الحارش يده على جحره فيظنه حية فيخرج ذنبه ليضربها فيأخذه، وإنما ضحكت منه استخفافاً به، لان الصب صيد العجزة والضعفاء، وقوله " ولو حرشت " التفات من الغيبة إلى الخطاب، يعني لو كنت تصيدين الضب لأدخلته في فرجك دون فمك إعجاباً به وإعظاماً للذته.
وقد تكلمنا عليه بأبسط من هذا في الشاهد السادس والخمسين بعد التسعمائة من آخر شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني بعد المائتين -: (من الرجز)

(4/419)


202 - ينفحن منه لهبا منفوحا * لمعا يُرَى لا ذَاكياً مَقْدُوحا على أنه قد جاء في الشعر شذوذاً إبدال الخاء المعجمة حاء مهملة.
قال ابن جني في سر الصناعة: " الحاء حرف مهموس يكون أصلاً لا غير، ولا يكون بدلاً ولا زائداً، إلا فيما شد عنهم، أنشد ابن الأعرابي: * يَنْفُحْنَ مِنْهُ لَهَباً مَنْفُوحَا * إلخ قال: أراد منفوخاً، فأبدل المعجمة حاء، قال: ومثله قول رؤبة: (من الرجز) غَمْرُ الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السِّنْحِ * أبْلَجُ لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ قال: يريد السِّنْخ، وأما حثث تحثيثاً وحَثْحَثَ حَثْحَثَةً فأصْلاَن، قال أبو علي: فأما الحاء فبعيدة من الثاء وبينهما تفاوت يمنع من قلب إحداهما إلى أختها.
وإنما حثحثت أصل رباعى، وحثث أصل ثلاثي، وليس واحد منهما من لفظ صاحبه، إلا أن حثحث من مضاعف الأربعة، وحثث من مضاعف الثلاثة، فلما تضارعا بالتضعيف الذي فيهما اشتبه على بعض الناس أمرهما، وهذا هو حقيقة مذهب البصريين.
ألا ترى أن أبا العباس قال: ليس ثَرَّة عند النحويين من لفظ ثرثارة، وإن كانت من معناها، هذا هو الصواب، وهو قول كافة أصحابنا، على أن أبا بكر محمد بن السَّرِيِّ قد كان تابع الكوفيين، وقال في هذا بقولهم، وإنما هذه أصول تقاربت ألفاظها فتوافقت معانيها، وهي مع ذلك مضعفة، ونظيرها من غير التضعيف قولهم: دَمْثٌ ودِمَثْرٌ، وسَبْط وسِبَطْرُ،
ولُؤْلُؤٌ ولئَّال، وحيّة وحواء، ودِلاص ودُلامِص، وله نظائر كثيرة، وإذا قامت الدلالة على أن أصل حَثْحَثَ ليس من لفظ حَثَّثَ، فالقول في هذا وفي جميع ما جاء منه واحد، نحو تَمَلْمَلَ وتَمَلَّلَ ورَقْرَقَ ورَقَّقَ وصَرْصَرَ وصَرَّ " انتهى كلام ابن جني.

(4/420)


وينفُحْن أيضاً أصله بالخاء المعجمة، ولهب النار معروف، و " لَمْعاً " بفتح اللام وسكون الميم، و " يُرى " بالبناء للمفعول.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث بعد المائتين -: (من الرجز) 203 - غَمْرُ الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السِّنْحِ * أبْلَجُ لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ لِمَا تقدم قبله، فإن المعروف السِّنخ - بكسر السين وسكون النون، وآخره خاء معجمة - ومعناه الأصل، والحاء المهملة بدل من المعجمة.
وجعل الصاغانى في العباب السنخ - بالمهملة - لغةً أصلية كالسنخ بالمعجمة من غير إبدال، قال في مادة سنح بالمهملة: " والسنح الأصل، قال رؤبة: * عمر الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السِّنْحِ * وبعضهم يروي السنخ - بالخاء المعجمة - ويجعله إكفاء، والصحيح أنه ليس بإكفاء " انتهى.
وقد أنشده ابن قتيبة في أدب الكاتب في أبيات الإكفاء، قال شارح بياته ابن السيد: " السنخ والسنج - بالخاء والجيم - الأصل، وقد روي السنح بالحاء غير المعجمة " انتهى، ولم أر في الصحاح والعباب السنج - بالجيم - بهذا المعنى وممن أورده في الإكفاء قدامة في فصل عيوب القافية من نقد الشعر، قا شارحه عبد اللطيف البغدادي: " وما كان من هذا التغيير في موضع التصريع فقد يمكن
أن لا يكون عيباً وأن يكون الشاعر لم يقصد التصريع، لكن أتى بما يشبه التصريع " هذا كلامه.
ولا يخفى أن التصريع إنما يكون في أول بيت من القصيدة أو عند الخروج

(4/421)


في القصيدة من معنى إلى معنى غيره، وبيتا رؤبة من آخر القصيدة لم يخرج بهما من معنى إلى غيره هذا، وقد أورد يعقوب بن السكيت اثني عشر كلمة من هذا النمط في كتاب القلب والإبدال، قال (1) : " باب الخاء والحاء، قال: الخَشِيُّ والحَشِيُّ اليابس، ويقال: خَبَجَ وحَبَجَ إذا ضرط، وقد فاحت منه رائحة طيبة وفاخت، أبو زيد، قال: ويقال: خَمَصَ الْجُرْح يَخْمُص خُموصاً وَحَمَصَ يَحْمُص حُموصاً وانْحَمَصَ انحماصاً إذا ذهب ورمه، أبو عبيدة: المخسول والمحسول المرذول، وقد خَسَلْتُهُ وحسلته، أبو عمرو الشيباني: الْجُحَادِيُّ والجُخَادِيُّ الضخم، قال: ويقال: طحرور وطخرور للسحابة، قال الأصمعي: الطّخارير من السحاب قطع مستدقة رقاق والواحدة طُخْرورة، والرجل طخرور إذا لم يكن جلدا ولا كثيفا، ولم يعرف بالحاء، وسمعت الكلابي يقول: ليس على السماء طُحْرور وليس على الرجل طحْرُور، ولا يتكلم به إلا مع الجحد، والطخارير (من السحاب) شئ قليل في نواحي السماء واحدها طُخْرور يتكلم به بجحد وبغير جحد، اللحياني، يقال: شرب حتى اطْمَحَرَّ وحتى اطْمَخَرَّ: أي امتلأ، وقد دَرْبح ودَرْبخ إذا حنى ظهره، ويقال: هو يتحوف مالي ويتخوفه: أي يتنقصه ويأخذ من أطرافه، قال تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ) أي: تنقص، ويقال: قرئ (إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً) وَ (سَبْخاً) قرأها يحيى بن يَعْمَرَ قال الفراء: معناهما واحد، وقال غيره: سَبْحاً: فراغاً، وَسَبْخاً: نوماً، ويقال: قد سبخ
الحر إذا حاد وانكسر، ويقال: اللهم سَبَّحْ عنه الحمى: أي خَفِّفْها، ويقال لِمَا يسقطُ من ريش الطائر: السبيخ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها حين دعت على سارق سرقها (لا تُسَبِّخي عنه) لا تخففى
__________
(1) انظر (ص 30) من كتاب القلب والابدال طبع بيروت سنة 903 (*)

(4/422)


عنه إثمه، ويقال: زاخ عن كذا وزاح " هذا ما أورده ابن السكيت ببعض اختصار وأورد الزجاجي في أَمالية الكبرى في باب المعاقبة والإبدال كلماتٍ أُخر لم يذكرها ابن السكيت، قال: " باب الحاء والخاء: يقال: رحمته ورخمته ومرحوم ومرخوم، ومنه نضحته ونضخته، قال تعالى (فِيهِمَا عَيْنَانِ نضاختان) وقال الأعشى: (من الكامل) * وَوِصَالِ ذى رحم نضحت بلالَها * ويروى نضخت، ويقال: صَمَحَتْهُ الشمس وَصَمَخَتْهُ: أي غيّرت لونه، وأحرقته، يقال: مُخٌّ (1) وَمُحٌّ، ولَحْم ولخْم، وَشَحْم وشَخْم، ومَطَرٌ سَحٌّ وسخ كثير الماء، قال الراجز: (من الرجز) يَا هِنْدُ أُسْقِيتِ السَّحَابَ السُّخَّخَا * لا تجْعَلِنِّي كَهِجَانٍ أبْزَخَا ويقال: رجل رحُوثٌ وَرَخُوثٌ: أي كبير البطن، وأورد كلمتين مما أورده ابن السكيت، وهما فاح ريح المسك يفوح وفاخ يفوخ فيحانا وفيخانا، وفوحانا وفوخانا، وتخوفت الشئ وَتَحَوَّفْتُه: أي تنقصته " هذا جميع ما أورده الزجاجي.
والبيتان وقعا في أدب الكاتب كذا: أزْهَرُ لَمْ يُولَدْ بِنَجْمِ الشُّحِّ * مُيَمَّمُ الْبَيْتِ كَرِيمُ السِّنْحِ وقال شارحه ابن السيد: " هذا الرجز يروى لرؤبة بن العجاج، ولم أجده
في ديوان شعره، وَالميَمَّمُ: المقصود لكرمه " هذا كلامه وهذا من قصيدة ثابتة في ديوانه من رواية الأصمعي (2) مدح بها أبان بن
__________
(1) مخ كل شئ: خالصه، وكذا محه، بالخاء والحاء جميعا.
(2) أكثر هذه الابيات غير موجود في ديوان رؤبة بن العجاج المطبوع في لبزج، ولا في زيادات هذا الديوان، ولا في الاصمعيات، ولكن الشاهد موجود (*)

(4/423)


الوليد البَجَليّ، وهي طويلة، إلى أن قال: مِنْهُ فُرَاتٌ فَاضَ غَيْرُ مِلْحِ * غَمْرُ الأَجَارِيِّ كَرِيمُ السنح إذا فتام الْبَاخِلِينَ الْبُلْحِ * أغْبَرَ فِي هَيْجٍ كَذُوبِ اللَّمْحِ أمْطَرَ عَصْرَاً مُدْجِنٍ مِسَحِّ * أبْلَجَ لَمْ يُوْلَدْ بِنَجْمِ الشح وهذا آخر القصيدة، وقوله " غمر الأجَارِيِّ " الْغَمْر - بفتح الغين المعجمة - الماء الكثير الساتر، وَالأَجَارِيُّ جمع إجْرِيّاً - بكسر الهمزة والراء - بمعنى الجري وَالقَتام - بفتح القاف والمثناة الفوقية -: الغبار، والبلج: جمع أبْلح من بَلَح الرجل بُلوحاً: أي أعيا، قال الأصمعي: الْبُلْحُ الْمُعْيُونَ (2) ، وأراد البُخْل و " أغبر " بالغين المعجمة والموحدة، قال الأصمعي: هو من قولك: أغْبَرَ في أمرك فهو مُغْبِر إذا جد، و " الهَيْجُ " قال الأصمعي: هو سحاب لا ماء فيه، والكذوب: مبالغة الكاذب، واللَّمح: مصدر لَمَحَ البرق والنجم لَمْحاً: أي لَمَعَ، وأمطر: فعل ماض جواب إذا، وَ " عَصْراً " فاعله وهو مثنى عُصْرٍ حذفت نونه للإضافة قال الأصمعي: العصران الغدوة والعشية، و " أبلج " مفعول أمطر، في الصحاح: مَطَرَتِ السماء وأمطرها الله، والْمُدْجِنُ - بالجيم -: اسم فاعل من أدجنت السماء دام مطرها، وسحابة داجنة ومدجنة، والدجن المطر الكثير، كذا في الصحاح، وَالمِسَحُّ - بكسر الميم -: الكثير السَّح، مِفْعَل من سَحَّ المطر سَحَّا: أي سال، والأبلج
بالجيم: المشرق المضئ، والشح بالضم البخل مع حرض، والنجم الوقت المعين وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع بعد المائتين: (من الرجز)
__________
(1) في زيادات الديوان مع أبيات سابقة عليه قد ذكرناها في كتابتنا على شرح الرضى (ح 3 ص 200 وما بعدها) (*)

(4/424)


204 - يا ابن الزبير طالما عصيكا * وطالما عنيتنا إلَيْكَا * لنَضْرِبَنْ بِسَيْفِنَا قَفَيْكَا * على أنه قد جاء الكاف بدلاً من التاء كما في عصيكا، والأصل عَصَيْتَ قال ابن جني في سر الصناعة: " أبدل الكاف من التاء، لأنها أختها في الهمس وكان سحيم إذا أُنْشِد شعراً قال: أحسَنْكَ والله، يريد أحسنت " انتهى وسحيم هذا عبد حبشي كانت (1) في لسانه لُكْنة، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تعرف له صحبة وقد أورد الزجاجي هذا الشعر في أماليه الكبرى في بحث إبدال الحروف بعضها من بعض، قال في باب التاء والكاف في المكنى: " يقال: ما فَعَلْتَ وما فَعَلْكَ قال الراجز: يا بن الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا * وَطَالَمَا عَنَّيْكَنَا إلَيْكَا * لِنَضْرِبَنْ بِسَيْفِنَا قفيكا * يريد عصيتا وعنيتنا " انتهى.
ولم يذكر ابن السكيت هذا الإبدال في كتاب القلب والإبدال.
قال الشارح: " ويجوز أن يكون من وضع الضمير المنصوب مقام المرفوع " وكذا جوز الوجهين أبو علي في المسائل العسكرية عن الأخفش، قال: إن شئت قلت: أبدل من التاء الكاف لاجتماعهما في الهمس، وإن شئت قلت:
أوقع الكاف - وإن كان في أكثر الاستعمال للمفعول لا للفاعل - (موقع التاء) لإقامة القافية، ألا تراهم يقولون: رأيتك أنت، ومررت به هو، فيَجْعلون علامات الضمير المختص بها بعض الأنواع في أكثر الأمر موقع الآخر، ومن ثم
__________
(1) في نسخة " كان " (*)

(4/425)


جاء لولاك، وإنما ذلك لأن الاسم لا يصاغ معرباً، وإنما يستحق الإعراب بالعامل " انتهى.
ورد ابن هشام في بحث " عَسَى " من المغني الوجه الثاني، قال: " إنابة ضمير عن ضمير إنما ثبت في المنفصل (نحو) : ما أنا كانت ولا أنت كأنا، وأما قوله: * يَا بْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا * فالكاف بدل من التاء بدلا تصريفيا، لامن إنابة ضمير عن ضمير كما ظن ابن مالك " ولم يكتب الدماميني هنا شيئاً، وقال ابن المُنْلاَ: " قيل: كيف يكون هذا البدل تصريفياً ولم يُذكر في كتب الصرف؟ وأجيب بأن التصريفي ما شأنه أن يذكر في كتب التصريف ذكر أو لم يذكر " هذا ما كتبه، وقد نقلنا لك عن الفارسي وابن جني وغيرهما أنه بدل تصريفي، وكذا قال الشارح وقول ابْنِ المُنْلا - بعد قول ابن هشام: لا من إنابة ضمير عن ضمير، ما نصه: إذ لو كان من باب الإنابة لم يسكن آخر الفعل، إذ لا تسكين لاتصال الضمير المنصوب " انتهى - ساقط، لأن الكاف قامت مقام التاء فأعطيت حكمها.
وقوله: " وطالما عنَّيْتَنا إليكا " أي: أتعبتنا بالمسير إليكا، وقوله: " لنَضْرِبَنْ " بنون التوكيد الخفيفة، واللام في جواب قسم مقدّر، وقوله: " قفيكا " أصله قفاكا، فأبدلت الألف ياء عند الإضافة إلى الكاف، وخصه الشارح في شرح
الكافية في باب الإضافة بالشعر، وإنما كان سبيله الشعر لانه ليس مع ياء المتكلم، فإنها تقلب معه ياء نثراً ونظماً في لغة هذيل، يقولون: هَوَيّ وقَفَيَّ في إضافة الْهَوَى والْقَفَا إلى الياء، وإنما قيد بالكاف لأن السماع جاء معه.
وقد بسطنا الكلام على هذا في الشاهد الحادي والعشرين بعد الثلثماية من شواهد شرح الكافية.

(4/426)


وهذا الرجز أورده أبو زيد في نوادره ونسبه لراجز من حمير، والله تعالى أعلم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس بعد المائتين -: (من البسيط) 205 - أعَنْ تَرَسَّمْتَ مِنْ خَرْقَاءَ مَنْزِلَةً * مَاءُ الصَّبَابَةِ مِنْ عَيْنَيْكَ مَسْجُومُ على أن الأصل أَأَن ترسمت، فأُبدلت الهمزة المفتوحة عيناً في لغة تميم، قال الشارح: " هذه الأبْدال في الأبيات وغيرها جميعها شاذ، ولهذا لم يذكرها ابن الحاجب ".
وأقول: سيأتي إن شاء الله تعالى في شرح قوله: * أُبَابُ بَحْرٍ ضَاحِكٍ هَزُوقِ * أن هذا كثير والبيت من قصيدة لذي الرمة، والهمزة للاستفهام التقريري، و " عن " حرف مصدري، واللام مقدر قبله علة للمصراع الثاني، وترسمت الدار: تأملت رسمها - بالراء المهملة، والتاء للخطاب - و " خرقاء " اسم معشوقته، وَ " مَنْزِلةً " مفعول ترسمتء والصبابة: رقة الشوق، و " مسجوم " من سجمت العين الدمع: أي أسالته، والتقدير أَلأَجْل ترسمك ونظرك دارها التي نزلت فيها بكت عينك وقد تكلمنا عليه في فصل حروف المصدر من أواخر شرح الكافية
وأنشد بعده: * صَبْراً فَقَدْ هَيَّجْتِ شَوْقَ الْمُشْتَئِقِ * وتقدم شرحه في الشاهد التسعين من هذا الكتاب

(4/427)


وأنشد بعده، وهو الشاهد السادس بعد المائتين: (من الرجز) 206 - يَا دار سلمى يا اسلمى ثم اسلمي * فخِنْدِفٌ هَامَةُ هذَا الْعَأْلَمِ على أن العجاج همز العألم، ليكون موافقاً لقوافي القصيدة، نحو " اسلمي " في عدم التأسيس، فلو لم يهمز للزم السناد وهو من عيون القافية قال ابن جني في سر الصناعة: " قد روي عن العجاج أنه كان يهمز الخأتم والعألم، وقد روي عنه في هذا الهمز، وعده ابن عصفور من ضرائر الشعر، وقال: أَبْدل (1) الاف همزة لتكون القافية غير مؤسسة كأخواتها، وكانت الهمزة المبدلة منها ساكنة، لأن التحريك يبطل الوزن، ولأنها بدل من ألف زائدة ساكنة في اللفظ والتقدير " انتهى والسناد على خمسة أقسام: أحدها سناد التأسيس، وهو أن يجئ بيت مؤسس مع بيت غير مؤسس.
والتأسيس: ألف قبل حرف الروي (2) بحرف يسمى الدخيل، كاللام في العالم بين الألف والميم.
وقوله " يا درا سَلْمَى يَا اسْلَمِي ثم اسْلَمِي " هذا مطلع الأرجوزة، دعا لدار سلمى بالسلامة، و " يا " الثانية للتنبيه، واسلمي أمر بمعنى دومي على السلامة، وبعده: * بِسَمْسَمٍ وَعَنْ يَمِينِ سَمْسَمِ * و " سَمْسَمْ " بفتح السينين المهملتين: مكان (3) ، ثم قال بعد أبيات كثيرة: * فخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العألم *
__________
(1) في نسخة أخرى " إبدال " (2) في الاصول " قبل حرف التأسيس " وهو خطأ (3) قال ابن السكيت: هي رملة معروفة، وقال الحفصى: سمسم نقى بين القصيبة وبين البحر بالبحرين، وأنشد بيت رؤبة (*)

(4/428)


وإنما جمع الشارح بينهما ليبين القافية غير المؤسسة مع المؤسسة على تقدير عدم الهمز، و " خندف " هي امرأة إلياس بن مضر، وهي أم مُدْركة وطابخة وقَمَعة (1) وأبو الثلاثة إلياس، وأراد نسل خندف، وقد ترجمناها بالتفصيل في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة من هذا الكتاب وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع بعد المائتين: (من الوافر) 207 - * أحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ إلَيّ مُؤْسَى * تمامه: * وَجَعْدَةُ إذْ أضَاءَهُمَا الْوَقُودُ * على أنه روي بهمز المؤقدين ومؤسى، حكاه ابن جني في سر الصناعة عن أبي علي، قال: " وروى قنبل عن ابن كثير (بالسؤْقِ) فهمز الواو، ووجه ذلك أن الواو وإن كانت ساكنة فإنها قد جاورت ضمة الميم فصارت الضمة كأنها فيها، فمن حيث همزت الواو في نحو (أُقِّتَتْ) وأجوه وأُعِد لانضمامها، كذلك كان همز الواو في المؤقِدين ومُؤْسى على ما قدمناه " وقال في المحتسب: " همز الواو في الموضعين جميعاً من البيت لأنهما جاورتا الميم قبلهما فصارت الضمة كأنها فيهما، والواو إذا انضمت ضماً لازماً فهمزها جائز، نحو (أُقِّتَتْ) في وُقِّتَتْ، وأجوه في وجوه، ونظائر ذلك كثيرة، وكذلك الفتحة قبل الألف في بازٍ لما جاورتها صارت على ما ذكرنا كائها فيها، والألف إذا حركت همزت على ما ذكرنا في الضِّأَلِّين، وجَأَنٍّ، فهذا وجهه " وكذا قال في الخصائص، وقال
__________
(1) اسمها ليلى بنت حلوان بن عمران، وكلما إلياس خرج في نجعة فنفرت إبله من أرنب فخرج إليها ابنه عمرو فأدركها، وخرج عامر فتصيد الارنب وطبخها، وانقمع عمير في الخباء، وخرجت أمهم تسرع، فقال لها إلياس: أنت تخندفين، فقالت: ما زلت أُخَنْدِف في إثركم، فلقبوا مدركة وطابخة وقمعة وخندف (*)

(4/429)


في شرح تصريف المازني بعد إنشاد البيت: " همز الواو الساكنة لأنه توهم الضمة قبلها فيها، وإنما يجوز مثل هذا الغلط منهم لما يستهويهم من الشُّبَه، لأنهم ليست لهم قياسات يعتصمون بها، وإنما يميلون إلى طبائعهم، فمن أجل ذلك قرأ الحسن البصري (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطُون) لأنه توهمه جمع التصحيح نحو الزيدون، وليس منه، وكذلك قراءته (وَلاَ أدْرَأْتُكُمْ بِهِ) جاء به كأنه من درأته: أي دفعته، وليس منه، إنما هو من دريت الشئ: أي علمت به، وكذلك قراءة من قرأ (عَاداً لُؤْلَى) فهمز فهو خطأ منه بمنزلة قول الشاعر: * لحب المؤقدان إلى موسى * فهمز الواو الساكنة لأنه توهم الضمة قبلها فيها، ولهذا الغلط في كلامهم نظائر، فإذا جاء فاعرفه لتستعمله كما سمعته ولا تقس عليه " انتهى.
وأورد ابن عصفور هذا الإبدال في الضرائر، وخصه بالشعر، وقال العصام في حاشية القاضي: " روى سيبويه البيت بهمز مؤقدان ومؤسى " وهذا لا أصل له، فإن سيبويه لم يرو هذا البيت في كتابه، وروى ابن جني صدره في سر الصناعة، وفي إعراب الحماسة * أحَبُّ الْمُؤْقِدِينَ * بصيغة أفعل التفضيل فيكون أحب مبتدأ مضافاً إلى المؤقدين بالجمع، و " مؤسى " خبره - ورواه في الخصائص وفي شرح تصريف المازنى وفي المحتسب * لَحَبَّ الْمُؤْقِدَانِ * فيكون اللام في جواب قسم محذوف و " حب " للمدح والتعجب وأصلها حَبَبَ - بفتح
العين - فعل متعد كقوله: * فو الله لولا تمره ما حببته (1) *
__________
(1) هذا صدر بيت لغيلان بن شجاع النهشلي وعجزه: * ولا كان أدنى من عبيد ومشرق * (*)

(4/430)


ثم نقل إلى باب فُعل بالضم للمدح للإلحاق بنِعْم، ولنا نقل ضمة العين إلى الفاء، ولنا حذفها لأجل الإدغام في الصورتين، وقد روي بالوجهين فصارت كنِعْم فعلاً جامداً، ولهذا لم تدخل قد مع اللام عليها كما لم تدخل قد على نعم، و " المؤقدان " فاعل حب، و " مؤسى وجعدة " هو المخصوص بالمدح، و " إليّ " بمعنى عندي، و " إذ " ظرف متعلق بحب، و " أضَاءُهما " بمعنى أنارهما وأظهرهما، ويأتي أضاء لازماً، يقال: أضاء الشئ بمعنى أشرق، والاسم الضياء، و " الوُقود " بالضم مصدر وقدت النار: أي اشتعلت، والوَقود - بالفتح - الحطب الذي يوقد، وقد روي هنا بالوجهين، وأريد به هنا وَقُود نار الْقِرَى كما هو عادة العرب، يوقد الكريم منهم نارا على موع عال ليهتدي بها إليه الغريب والمسافر فيأتي إلى قِرَاه، قال خَضِرٌ الموصلي: " مدح ابنية بالكرم والاشتهار به فكنى عن الأول بإيقاد نار القِرى، وعن الثاني بإضاءة الوقود إياهما، والمعنى ما أحبهما إليّ وقت إضاءة وقودهما، واسْتعمال الإضاءة شديد الطباق في هذا المقام لترددها بين الحقيقة والمجاز " انتهى.
وقال العصام: " عنى بالإضاءة بالوقود الاشتهار، وصف ابنيه ونفسه بالكرم، حيث جعل محبته لهما من حين اشتهارهما بالكرم، وفي ذلك كمال وصفه بالكرم حتى غَلَبَتْ محبّته الطبيعية لهما المحبةُ للاشتهار بالكرم، والتحقت في مقابلة المحبة للاشتهار بالعدم إلى أن جعل محبته لهما من وقت الاشتهار "
هذا كلامه وقال السيوطي في شرح أبيات المغني: " مُؤْسَى وجَعْدة عطفاً بيان للمؤقدان، كانا يوقدان نار القِرى، وإذ أضاءهما: بدل اشتمال منهما " انتهى.
وتبعه ابن المُنْلا في شرح المغني، وخَضِرٌ الموصلي في شرح أبيات التفسيرين، وهذا غير جيد، فإن حَبَّ هنا بمنزلة نعم تطلب فاعلاً ومخصوصاً بالمدح، وهو إما

(4/431)


مبتدأ أو خبر لمبتدأ، وإذا كان كذلك لا يجوز أن يكون إذ بدلاً منهما، لأنه ظرف غير متصرف.
والبيت من أول قصيدة لجرير مَدَح بها هشام بن عبد الملك المرْواني، وموسى وجعدة: ولدا جرير، وروي حَزْرَة بدل جعدة، وهو ابنه أيضاً، وقال السيوطي رحمه الله: جعدة بنته، وفيه بعدٌ، والبيت مستقل في معناه لا حاجة لنا إلى إيراد شئ من القصيدة.
وأنشد بعده - وهو الشاهد بعد المائتين -: (من الرجز) 208 - أُبَابُ بَحْرٍ ضاحِكٍ هَزُوقِ على أن أصله " عُبَاب بحر " فأبدلت العين همزة، وهذا أشذ مما قبله، لأنه لم يثبت قلب العين همزة في موضع، وما نقله عن ابن جني قاله في سر الصناعة، وهذه عبارته: " فأما ما أنشده الأصمعي من قول الراجز: أُبَابُ بَحْرٍ ضَاحِكٍ هَزُوقِ فليست الهمزة فيه بدلاً من عين عُبَاب، وإن كان بمعناه، وإنما هو فُعَالٌ من أبَّ إذا تهيأ، قال الأعشى: (من الطويل) * وكَانَ طَوَى كَشْحاً وأب ليذهبا (1) *
__________
(1) رواه في اللسان:
صَرَمْتُ وَلَمْ أصْرِمْكُمْ وَكَصَارِمٍ * أخٌ قَدْ طَوى كَشْحاً وأبَّ لِيَذْهَبَا وكذلك هو في الديوان (ص 89) وسيأتى للمؤلف الاعتراض بهذه الرواية على ما رواه الرضى تبعا لابن جنى (*)

(4/432)


وذلك أن البحر يتهيأ لما يزخر به، فلهذا كانت الهمزة أصلاً غير بدل من عين، ولو قلت: إنها بدل منها فهو وجه، وليس بالقوي " انتهى.
ومفهومه أن إبدال العين همزة ضعيف لقلته، وإليه ذهب ابن مالك قال في التسهيل: " وتبدل الهمزة قليلاً من الهاء والعين " ومثل شراحة بالبيت، ولم يقيد الزمخشري في المفصل بقلة، بل قال: " الهمزة أبدلت من حروف اللين ومن الهاء والعين " ثم مثل، إلى أن قال: " فأبدالها من الهاء في ماء وأمواء، ومن العين في قوله: " أُبَابُ بَحْرٍ ... البيت " نعم تفهم القلة من ذكره أخيراً بالنسبة إلى ما قبله، ولم يقيد بشئ شارحه ابن يعيش، وإنما قال: " أبدل الهمزة لقرب مخرجيهما كما أبدلت العين من الهمزة في نحو * أعَنْ تَرَسَّمْتَ ... البيت * " وليس في هذا شذوذ فضلاً عن الأشَذِّيَّة، وتوجيه الشارح الأشَذِّيَّة بما قاله تبعاً للمصنف ممنوع، فإنه جاءت كلمات كثيرة، وقد ذكر له ابن السكيت في كتاب القلب والإبدال باباً، وكذا عقدا له فصلاً أبو القاسم الزجاجي في أماليه الكبرى، أما ابن السكيت فقد قال: " باب العين والهمزة: قال الأصمعي: يقال: آديته على كذا وكذا وأعديته: أي قويته وأعنته، ويقال: استأديت الأمير على فلان في معنى استعديت، ويقال: قد كَثَأَ اللبنُ وكَثَعَ وهي الكَثْأَةُ والكَثْعَةُ، وهو أن يعلو دسمه وخُثُورته على رأسه في الإناء، قال: (من
الطويل) وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَد كَثَّأَتْ لَكَ لِحْيَةٌ * كَأَنَّكَ مِنْهَا بَيْنَ تَيْسَيْنِ قَاعِدْ والعرب تقول: موت زعاف وزؤاف وذعاف وذُؤاف، وهو الذي يعجل

(4/433)


القتل، ويقال: عُباب الموج وأبابه، ويقال: لأطِه بعين وَلأَطَه بسهم ولَعَطَه إذا أصابه به، أبو زيد: يقال: صَبَأْتُ على القوم أصْبَأ صَبْأ وصَبَعْت عليهم أصْبَعُ صَبْعاً، وهما واحد، وهو أن تدخل عليهم غيرهم، الفراء: يقال: يوم عَكٌّ، ويوم أَكَّ من شدة الحر، ويقال: ذهب القوم عباديد وأباديد، وعباييد وأبَابِيدَ، ويقال: انْجَأَفَتْ النخلة وانْجَعَفَتْ، إذا انْقَلَعَتْ من أصلها، وقال الاصمعي: سمعت أبا الصقر ينشد: (من الطويل) أريني جَوَاداً مَاتَ هَزْلاً لأَلَّنِي * أرَى مَا تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلَّدا يريد لعلّني، وقال أبو عمرو: سمعت أبا الحصين العبسي يقول: الأُسُنُ قديم الشَحم، وبعضهم يقول العُسُنُ، الأصمعي: يقال: التُمئ لونه والتُمع لونه، وهو السَّأَف والسَّعَف، وقال الفراء: سمعت بعض بني نَبْهَانَ من طيّئ يقول: دَأْنِي، يريد دعين، وقال: ثُؤاله، يريد ثُعاله، فيجعلون مكان العين همزة، كما جعلوا مكان الهمزة عيناً في قوله: لعنك قائم، وأشهد عنكم رسول الله، وهي لغةٌ في تميمٍ وقيسٍ كثيرةٌ، ويقال: ذَأَته وَذَعَتَهُ إذا خنقه " هذا ما أورده ابن السكيت.
ولا شك أن هذه الكلمات المشهور فيها بالعين والهمزةُ بدل منها، وقد أسقطنا من كلامه ما المشهور فيه الهمزة والعين بدل منها، ومنها قال الأصمعي: سمعت أبا ثعلب ينشد بيت طُفَيْل: (من الطويل)
فَنَحْنُ مَنَعْنَا يَوْمَ حَرْسٍ (1) نِسَاءَكُمْ * غَدَاةَ دَعَانَا عَامِرٌ غَيْرَ مُعْتَلِي
__________
(1) حرس - بالحاء المهملة مفتوحة -: ماء من مياة بنى عقيل بنجد، وهما ماءان اثنان يسميان حرسين، قال مزاحم العقيلى:

(4/434)


يريد مُؤْتلي، يعني غير مُقَصِّر، ومنها يقال: ردت أن تفعل كذا، وبعض العرب يقول: أردت عَنْ تفعل، ومنها إن بَيْنَهُمْ لَعِهْنَةً: أي إحْنَةً وأما ما أورده الزجاجي فهو عَبَدَ عليه وأبد: أي غضب عليه، وهو عِيصك وإيصك، أي أصلك، وهو يوم وأَكٌّ، وعَكيك وأكِيك: أي حَارٌّ، وذكر محمد ابن يحيى العنبري أن رجلاً من فصحاء ربيعة أخبره أنه سمع كثِيراً من أهل مكة: يا أبد الله، يريدون يا عبد الله، ويقال: الْخَنْأَبَة وَالْخَنْعَبَة، لِخَنْأبة الأنف، وهي صفحته، تهمز ولا تهمز، وهي دون المحْجِر مما يلي الفم، وتكَعْكَعَ وَتَكَأْكَأَ عن الشئ، قال الأعشى: (من المتقارب) تكَأْكَأَ مَلاَّحُهَا فَوْقَهَا * مِنَ الْخَوْفِ كَوْثَلَهَا يَلْتَزِمْ وهذا ما أورده الزجاجي، وقد أسقطنا منه أيضاً ما توافق فيه مع ابن السكيت، وما المشهور فيه الهمزة وأبدلت عيناً، وقلب العين همزة أقيس من العكس، لأن الهمزة أخف من العين.
ولو استحصر ابن جني عدة الكلمات لم يقل ما قال، ولاذهب ابن الحاجب إلى ما ذهب، ولله در الزمخشري في صنعه، والله الموفق تبارك وتعالى.
و" الهزوق " فسره الشرح بالمستغرق في الضحك، وهو كذا في سر الصناعة وغيره، وفي العُباب للصاغاني: " وأهْزَقَ الرجل في الضحك إذا أكثر منه " انتهى.
ولم أر فيه أكثر من هذا، وعليه يكون الهَزْوق فَعُولاً من أهزق،
والقياس أن يكون من الثلاثي.
__________
نظرت بمفضى سيل حرسين والضحى * يلوح بأطراف المخارم آلها وحرس أيضا واد بنجد، وقيل: جبل، وقالوا في تفسير بيت طفيل الذى أنشده المؤلف: إن حرسا ماء لغنى.
(*)

(4/435)


ووقع في المفصل زَهُوق - بتقديم الزاي على الهاء - قال بعض أفاضل العجم في شرح أبياته: " الا باب العُباب، وهو معظم الماء وكثرته وارتفاعه، أبدل الهمزة من العين، وضحك البحر كناية عن امتلائه، وقال بعض الشارحين: الظاهر أنه كناية عن أمواجه، وقال الجوهري: البئر البعيدة القعر، وعن المصنف زَهُوق: مرتفع، يصف بحراً ممتلئاً أو ذا أمواج بعيد القعر أو مرتفع الماء " انتهى كلامه.
وقال ابن السيرافى: " عُباب البحر: معظم مائه وكثرته وارتفاعه، والضاحك من السحاب كالعارض إلا أنه إذا برق ضحك، وقال الخُوَارِزْمي: الزهوق: البئر البعيدة القعر، وقال في الحواشي: ضاحك: أي يضحك بالموج، وزهوق: مرتفع، والزهوق المرتفع أولى بالوصف من البئر البعيدة القعر، لأن العباب إذا كان الكثير المرتفع فإنما يكون ذلك لارتفاع ماء البحر " انتهى ولم أقف عليه بأكثر من هذا والله سبحانه وتعالى أعلم وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع بعد المائتين -: (من الطويل) 209 - وَكَانَ طَوَى كَشْحاً وأبَّ لِيَذْهَبَا هكذا وقع في سر الصناعة، وصوابه كذا: فأبْلِغْ بَنِي سَعْدِ بنى قَيْسٍ بِأَنَّنِي *
عَتَبْتُ فَلَمَّا لَمْ أجِدْ ليَ مَعْتَبَا صَرَمْتُ وَلَمْ أصْرِمْكُمْ وَكَصَارِمٍ * أخٌ قَدْ طَوى كَشْحاً وأبَّ لِيَذْهَبَا وهو من قصيدة للأعشى ميمون الجاهلي، قال أبو عبيد القاسم بن سلام

(4/436)


في الغريب المصنف: أببت أَؤُبُّ أبّاً، من باب نصر، إذا عزمت على المسير وتهيأت، وأنشد البيت وفي العُباب: أبو زيد: أب يَؤُبُّ أبّاً وأبَاباً وأبَابَةً تهيأ للذهاب وتجهز، يقال: هو في أَبابه إذا كان في جِهَازه، وأنشد البيت أيضاً، وقال ابن دريد في الجمهرة: طويتُ كشحي على كذا إذا أضمرته في قلبك وسترته، وأنشد البيت أيضاً، وفي الصحاح: طوى كشحه إذا أعرض بوده، يقول لبني سعد: لما عتبت عليكم لترجعوا عن مساءتي وما أكرهه لم أجد عندكم موضع عَتْب، يريد أنه لم يجد فيهم من يسمع عَتْبه ويسعى في إزالة ما يكره، يقول: لما يئست من عودكم إلى ما أحب تركتكم غير صارم (1) لكم بقلبي ولا مفارق فراق بغضةٍ، إنما فارقتكم لاجل ما علتمونى به، ومن طوى كشحه عنكم يُرِي (2) أنه انصرف، فهو كالذي صرم: أي هجر عن قِلىً وبغضةٍ، ويجوز أن يكون " مُعْتب " اسم فاعل من أعتبه: أي أزال عتبة، والعتب مصدر عتب عليه: أي وَجِد عليه وغضب وأنشد بعده - وهو الشاهد العاشر بعد المائتين -: (من الرجز) 210 - وَبَلْدَةٍ قَالِصَةٍ أمْوَاؤُهَا * يَسْتَنُّ في رَأْدِ الضُّحَى أفْيَاؤُهَا على أن الأصل أمواهها فأبدلت الهاء همزة، وهو شاذ قال ابن جني في سر الصناعة: " وأما إبدال الهمزة عن الهاء فقولهم: ماء،
وأصله مَوَهٌ، لقولهم أمواه، فقلبت الواو ألفاً، وقلبت الهاء همزة، وقد قالوا في الجمع
__________
(1) في الاصول " ترك الصارم " وهو غير مستقيم المعنى (2) في الاصول " يريد " ولم يظهر لنا وجهه، والظاهر أنه محرف عما أثبتناه ومن اسم موصول مبتدأ خبره جملة " فهو كالذى صرم " (*)

(4/437)


أيضا: أمواء، فهذه الهمزة أيضاً بدل من هاء أمواه، أنشدني أبو علي: * وَبَلْدَةٍ قالِصَةٍ أَمْوَاؤُهَا * " وقال في شرح تصريف المازني بعد البيت: " فهذه الهمزة في الجمع إما أن تكون الهمزة التي كانت في الواحد، وإما أن تكون بدلاً من الهاء التي تظهر في أمواه، فكأنه لفظ بالهاء في الجمع، ثم أبدل منها الهمزة، كما فعل في الواحد " انتهى وأورد ابن السكيت في كتاب القلب والإبدال (1) كلمات أبدلت هاؤها همزة وبالعكس، فالأول قال الأصمعي: يقال للصَّبَا: هِيرٌ وهَيْر وإير وأَيْر، وأنشد: (من الطويل) وإنا لا يسار إذا هبت الصبا * وإنا لا يسار إذَا الأَيْرُ هَبَّتِ ويقال للقشور التي في أصول الشعر: إبْرِيَة وَهِبْرِية، الأصمعي: يقال: اتْمَأَلَّ السَّنَام واتمهل وَاتْمَهَلَّ، إذا انتصب، ويقال للرجل الحسن القامة، إنه لَمُتْمَهِلٌّ ومُتْمَئِلٌّ، أبو عبيدة عن يونس: (يقال) : دعِ المتاع كَأَيْأَته، يريدون كهيئته، الفراء: ازمأرت عينه وازْمَهَرَّت، إذا احمرت، وهَيْهَات وأيْهَات، ويقال: قد أبَزْتُ له وهَبَزْت له، وهو الْوَثْب ومما أورده الزجاجي في أماليه: رأيت منه هَشَاشاً وَأَشَاشاً، وقد هَشَّ إليَّ وأشَّ إليّ، والْهَزْل والأَزْل، وقد أَهْزَلْته وَأَزَلْتُه، وهو مَهْزُول ومَأْزُول، وما زال ذلك إجْرِيَّاهُ وهِجْرِيَّاه: أي دأْبَهُ، وصَهَل الفرس وصأل، وصَهَّال وَصَئَّال
ومما أورده ابن السكيت من الثاني: يقال: أيَا فلان وهَيَا فلان، ويقال: أرَقْتُ الْمَاءَ وهَرَقْتُهُ فهو مَاءٌ مُرَاق ومُهْرَاق، وحكى الفراء: أهْرَقْتُ الماء فهو مُهراق، ويقال: إياك أن تفعل وهياك أن تفعل، وإنما يقولون: هياك في موضع زجر،
__________
(1) انظره (ص 25) (*)

(4/438)


ولا يقولون: هياك أكرمت، الكسائي يقال: أرَحْتُ دابتي وَهَرَحْتها، وقد أنَرْتُ له وهَنَرْت له، يونس: وتقول العرب: أما والله لأفعلن وهَمَا والله لأفْعَلَنَّ وأيْم الله وهَيْم الله، الأصمعي: ينشَدُ هذا البيت (1) : (من المتقارب) وَقَد كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَاٍ * فَلَمْ أُعْطَ شَيْئاً وَلَمْ أُمْنَع وبعض العرب يقول: ذاتُدْرَه ومما أورده الزجاجي: هرَّشْتُ وأرَّشْتُ، وهم أهْلُ عبد الله وآل عبد الله، وهم آلى وهَالِي، وهؤلاء وآؤلاء، انتهى قلت: وفي هَلْ فعلت، يقال: ألْ فَعَلْت، نقله المرادي في الْجَنَى الداني عن قُطْرُب، وكذلك ابن هشام في المغني عنه وبما سقناه يعلم أن قلب الهاء همزة ليس من ضرائر الشعر كما زعمه ابن عصفور وأنشد له هذا الشعر قال ابن جني في شرح تصريف المازني: وأما قولهم الْبَاءة والباهة في النكاح، فقد يمكن أن يكونا أصلين، وقد يجوز أن تكون الهاء بدلاً من الهمزة، لأنه من لأنه من الباءة والبواء، وهو الرجوع والتكافؤ، لأن الإنسان كأنه يرجع إلى أبيه ويقوم مقامه، فيكون على هذا معتل العين واللام، وإن كانت الهاء فيه أصلاً فهو من لفظ بُوهَة، فالألف فيه منقلبة عن الواو، والبوهة: الاحمق
__________
(1) البيت للعباس بن مرداس السلمى، يقوله لسيدنا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، من كلمة أولها: أتجعل نهبى ونهب العبيد * بين عيينة والاقرع وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع (*)

(4/439)


العاجز (1) فيكون من هذا، لان النكاح مؤدّ إلى العجز والهرم، أو لأن البوهة لم يكمل ولم يتوفر عقله فكأنه نئ لم ينضج، فهو كالْمَوَات على حاله الأولى وقت حصوله في الرحم وقال في سر الصناعة: وأما قولهم: رجل تُدْرَأٌّ وتُدْرَه للدافع عن قومه فليس أحد الحرفين فيهما بدلاً من صاحبه، بل هما أصلان، يقال: دَرَأَ ودره وقوله " وبلدةٍ " بجر واوِ رُبّ، و " قالصة " صفة بلدة، وأمواؤها: فاعل قالصة، والبلدة في اللغة: مطلق الأرض والبقعة، وقالصة: من قَلَصَ الماء في البئر إذا ارتفع، فهو ماء قالص، وقليص، ويقال للماء الذي يُجِمُّ في البئر: أي يكثر ويرتفع: قَلَصَةٌ بفتحات، ويَسْتَنُّ: يجري في السَّنَن - بفتحات - وهو وجه الطريق والأرض، وأفياؤها: فاعله، والجملة صفة ثانية لبلدة.
وجواب رُبَّ في بيت آخر وهو " قطعتها " أو " جبتها " ورأد الضحى - بالهمز والتسهيل - بمعنى ارتفاعه، والرواية في سر الصناعة والمفصل: مَا صِحَةٍ رَأْدَ الضُّحَى، من مَصَح الظلُّ بمهملتين: أي ذهب، ورَأَدَ: منصوب على الظرف، والمعنى أن هذه البلدة كثيرة الفئ لكثرة ظلال أشجارها حتى يذهبه ارتفاع الضحى بارتفاع الشمس، وأفياء: جمع فئ - بالهمز - والمشهور أنه ما نسخته الشمس، والظل: ما نسخ الشمس، من فاء فَيْئاً: أي رجع، لأنه كان ظلاً فنسخته الشمس فرجع، وقال ابن كيسان: المعروف أن الفئ والظل واحد، كذا قاله اللِّبَلِيُّ في شرح أدب الكاتب، وقال
صاحب المقتبس: المعنى أن تلك البلدة قليلة الأشجار لا تدوم ظلالها، بل إذا
__________
(1) ومنه قول امرئ القيس أيا هند لا تنكحي بوهة * عليه عقيقته أحسبا مرسعة بين أرساغه * به عسم يبتغى أرنبا (*)

(4/440)


ارتفع الضحى ذهبت ظلالها، ولم تبق، فتأمل.
وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الحادي عشر بعد المائتين -: (من الطويل) 211 - فَآلَيْتُ لاَ أَمْلاَهُ حَتَّى يُفَارِقَا على أن أصله لا أمّله، من مللت الشئ بالكسر ومَلِلْتُ منه أيضاً مَلَلاً وملالة ومَلَّة، إذا سئمته وأنشد الشارح - وهو الشاهد الثاني عشر بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز) 212 - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ * وَلِضَفَادِي جَمِّهِ نُقَانِقُ على أن أصله ولضفادع، فأبدلت العين ياء ضرورة وأورده سيبويه في باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطراراً، قال: " وأما قوله وهو رجل من بني يشكر: (من البسيط) لها أشارير من لحم تتمره * من الثَّعَالِي وَوَخْزٌ مِنْ أَرانِيهَا فزعم أن الشاعر لما اضطر إلى الياء أبدلها مكان الباء، كما يبدلها مكان الهمزة، وقال أيضاً: وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ * وَلِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ وإنما أراد ضفادع، فلما اضطر إلى أن يقف آخر الاسم كره أن يقف حرفاً لا يدخله الوقف في هذا الموضع، فأبدل مكانه حرفاً يوقف في الجر والرفع " انتهى
قال الأعلم: " ووجه الإبدال أنه لما اضطر إلى إسكان الحرفين لإقامة الوزن، وهما مما لا يسكن في الوصل، أبدل مكان الباء والعين الياء، لأنها تسكن في حالة الرفع والخفض، وإنما ذكر سيبويه هذا لئلا يتوهم أنه من باب الترخيم،

(4/441)


وأن الياء زيدت كالعوض، لأن المطرد في الترخيم أن لا يعوض من الحرف المحذوف شئ، لأن التمام منوي فيه، ولأن الترخيم تخفيف، فلو عوض منه لرجع فيه إلى التثقيل، والمنهل: المورد، والحوازق: الجماعات، واحدتها حَزِيقة، فجمعها جمع فاعله كأن واحدتها حازقة، لأن الجمع قد يبنى على غير واحده: أي هو منهل قفرلا وارد له، والْجَمُّ: جمع جَمَّة، وهِي مُعْظَم الماء ومَجْتَمَعه، والنقانق: أصوات الضفادع واحدتها نَقْنَقة " انتهى.
فيكون وصف المنهل بالبعد والمخافة، يعني أن هذا المنهل لا يقدر أحد أن يرده لبعده وهو له، ولكن لإقدامي وجُرْأتي أرد مثله من المياه، وأراد أنه ليس به إلا الضفادع النقاقة.
ومنهل: مجرور برُبَّ المقدرة بعد الواو، وجوابها في بيت آخر، وحوازق - بالحاء المهملة والزاى المعجمة، وهو اسم ليس، وله: خبرها، الجملة صفة لمنهل، ولضفادى جِمِّه: خبر مقدم، وضفادي: مضاف إلى حمه، وجم مضاف إلى ضمير المنهل، ونقانق: مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية لمنهل، والجم - بالجيم -: وصف بمعنى الكثير، وأصله المصدر، قال صاحب المصباح: " جم الشئ جما من باب ضرب: كثر، فهو جَمٌّ تسمية بالمصدر، ومال جم: أي كثير " انتهى، والجم أيضاً: ما اجتمع من ماء البئر، وقد ذكر الجوهري الحازقة بمعنى الجماعة، فيكون جمعه على القياس، والنَّقْنَقَة - بفتح النونين، وسكون القاف الأولى -: صوت الضفدع إذا ضُوعف والدّجاجة تُنَقْنِق للبيض، ويقال: نَقَّت الضفدعة تَنِق، بالكسر نقيقاً: أي
صاحت قال الشاعر: (من الرجز) تُسَامِرُ الضِّفْدَعَ فِي نَقِيقِهَا وكذلك النقيق للعقرب والدجاجة، قال: (1) (من الطويل)
__________
(1) البيت لجرير (*)

(4/442)


كَأَنَّ نَقِيقَ الْحَبِّ فِي حَاوِيَائِهِ * فَحيحُ الأَفَاعِي أوْ نَقِيقُ الْعَقَارِبِ وربما قيل للمهر، قال (1) : (من الرجز) * خَلْفَ اسْتِهِ مِثْلَ نقيقِ الْهِرِّ * كذا في العباب وقال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: " قال صدر الأفاضل الحَزْق: الشَّدُّ والحبس، والمراد بالحوازق الجوانب، لأنها تمنع الماء أن ينبسط، وقيل: إنه لا يمنع الواردة لسهولة جوانبه، لأنها منبسطة، يصف منهلاً واسعاً فيقول: رب مهل ليس له جوانب تمنع الماء من انبساطه فانبسط ماؤه حوله، إذ ليس (له) موانع وحوابس تمنع الواردين، لأنه سهل الورود " هذا كلامه، وتبعه الجاربردي، قال الأعلم: هذا الرجز يقال صنعه خلف الأحمر وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث عشر بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 213 - لَهَا أشِارِيرُ من لحم تتمره * من الثعالي وَوَخْزٌ مِنْ أرَانِيهَا على أن الاصل من الثعالب وأرانبها، فأبدلت الموحدة فيهما ياء لضرورة الشعر، كما تقدم وقال ابن عصفور في كتاب الضرائر: " وقد يمكن أن يكون جمع ثُعَالة،
فيكون الأصل فيه إذ ذاك الثَّعَائِل إلا أنه قلب " انتهى.
__________
(1) قد أنشد أبو عمرو قبله: أطعمت راعى من اليهير * فظل يبكى حبجا بشر (*)

(4/443)


والبيت من قصيدة لأبي كاهل اليشكري، وقبله كَأنَّ رَحْلِي عَلَى شُغْوَاءَ حَادِرَةٍ * ظَمْيَاءَ قَدْ بُلَّ مِنْ طَلٍّ خَوَافِيهَا لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لحم تتمره * من الثعالي وَوَخْزٌ مِنْ أرَانِيهَا فأَبْصَرَتْ ثَعْلَباً من دُونِهِ قَطَنٌ * فَكَفَّتَتْ مِنْ ذُنَابَاهَا تَوَالِيهَا ضَغَا وَمِخْلَبُهَا فِي دَفِّهِ عَلِقٌ * يَا وَيْحَه إذْ تُفَرِّيهِ أشَافِيهَا وأبو كاهل: هو والد سُوَيْد بن أبي كاهل، وسويد: شاعر مخضرم، قد ترجمناه في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية.
وأبو كاهل شبه ناقته في سرعتها بالْعُقَاب، الموصوفة بما ذكره، والرحل للإبل أصغر من الْقَتَب، وهو من مراكب الرجال دون النساء، والشغواء - بالشين والغين المعجمتين - الْعقاب، وروي " كَأَنَّ رَحْلِي عَلَى صَقْعَاءَ " وهي العقاب التي في وسط رأسها بَياض، والأصقع من الخيل والطير: ما كان كذلك، والاسم الصُّقْعة - بالضم - وموضعها: الصُّوقعة، وحادرة - بمهملات - من الْحُدُور، وهو النزول من عال إلى أسفل كالصَّبَب وقال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: " حاذره - بالذال المعجمة - المتيقظة، وإنما وصف الْعُقَاب بأنها حاذرة ليشير إلى حذر فؤاد ناقته، لأنه مَدْحٌ لها قال أبو العلاء: (من البسيط) * فُؤَادَ وَجْنَاءَ مِثْلِ الطَّائِرِ الْحَذَرِ * ورواه بعض الشارحين بالدال المهملة، وقال: الحادرة المكتنزة الصُّلبة "
هذا ما سطره قال ابن بري في أمالية على الصحاح: والظمياء العطشى إلى دم الصيد، وقيل: التي تضرب إلى السواد، وبُلَّ: فعل مبني للمجهول من الْبَلَل، فإذا بلها المطر

(4/444)


أسرعت إلى وَكرها، وكذلك جميع الطير، والطَّلُّ: المطر الضعيف، والخوافي: جمع خافية، وهى ريشة الجناح القصيرة تلى الابط، والخوافي: أربع ريشات، وسميت خوافي لأن الطائر جناحه خفيت، والأشارير: جمع إشرارة - بكسر الهمزة - وهي اللحم القديد، وتُتَمِّرُهُ: فعل مضارع، والجملة صفة أشارير أو حال منها، وروي مُتَمَّرة - على وزن اسم المفعول - وبالجر على الصفة، وبالنصب على الحال، والتَّتْمِير - بالمثناة الفوقية لا بالمثلثة -: هو تجفيف اللحم والتمر، قال النحاس في شرح أبيات سيبويه: ويقال: إن المبرد صحفه بالثاء المثلثة، وتعجب منه ثعلب، وكان معاصرة، فقال: إنما كان يُتَمَّر اللحم بالبصرة فكيف غلط في هذا؟ والوخز - بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة بعدها زاى -: الشئ القليل، كذا في الصحاح، وقيل: الوخز قَطعَ اللحم واحدتها وخزة، والمتمرة المقددة، يريد أنه يبقى في وكرها حتى يجَفُّ لكثرته.
وقال الأعلم: الوخز: قَطْع اللحم، وأصله الطعن الخفيف وأراد ما تقطعه بسرعة، يريد أنها قطعته وجففته، وأضاف الأرانب إلى ضميرها لكونها صادته، ثم وصف صيدها فقال: فأبصرت ثعلباً - إلخ، وقَطَن بفتحتين - جبل لبني أسد، وكفَّتَتْ - بتشديد الفاء للمبالغة، والتاء الثانية للتأنيث، يقال: كَفَتَ الشئ كَفْتاً - من باب ضرب - إذا ضمه إلى نفسه، والذُّنابي: بضم الذال المعجمة بعدها نون وبعد الألف موحدة فألف مقصورة، قال صاحب الصحاح: " وفي جناح الطائر أربع ذُنَابى بعد الخوافي " ولم يذكرها ابن قتيبة في أدب الكاتب، قال: " قالوا جناح الطائر عشرون ريشة: أربع قوادم، وأربع
مناكب، وأربع أباهر، وأربع خوافي، وأربع كُلىً " انتهى.
ولم ينبه عليها شرحه، وإنما قال شارحه اللِّبَلِيِّ: وقُدَاماه أوله، وذناباه آخره، انتهى.
وتواليها: الضمير للذنابي، والتوالي: جمع تالية، وهي الريشات التي تلي الذنابي، يريد أنها لما انحدرت على الثعلب ضمت جناحها إليها كما تفعل الطيور المنقَضّة على الصيد، وتواليها: مفعول

(4/445)


كفتت ووجب تأخيره لأن الضمير فيها راجع للذُّنابى، وقوله " ضَغَا " بالضاد والغين المعجمتين، قال صاحب الصحاح: ضغا الثعلب والسَّنَّور يَضغُو ضَغْواً: أي صاح، وكذلك صوت كل ذليل مقهور، والمخلب - بالكسر - للطائر والسباع بمنزلة الظفر للإنسان، والدف - بفتح الدال المهملة وتشديد الفاء -: الجنب، وَعَلِقٌ - بفتح العين وكسر اللام - أي: ناشب به، وقوله " يا ويحه " المنادى محذوف وويح: كلمة ترحُّم وتوجع، والضمير للثعلب، وتُفَرِّيه: تشققه وتقطعه، مبالغة فَرَتْه - بتخفيف الراء - والأشافي: جمع إشْفَى - بكسر الهمزة وبعد الفاء ألف مقصورة - وهي آلة للإسكاف، قال ابن السكيت: الإشْفى: ما كان للأسقية والمزاود وأشباهها، والمِخْصَف للنعال، وأراد هنا المخالب، شبهها بالأشافي وبما شرحنا ظهر أنه شبه راحلته بعقاب ذاهبة إلى وكرها وقد بلها المطر، وهو أشَدُّ لسرعتها، ثم وصف صيدها وسرعة انقضاضها عليه من جو السماء وزعم الجوهري أنه وصف فرخة عقاب تسمى غُبَّة - بضم الغين المعجمة وتشديد الموحدة - وهو اسم فرخ بعينه، لا اسم جنس، وليس في الشعر شئ منه، وتبعه على هذا عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة، فقال: يصف فرخة عقاب تسمى عبة كانت لبني يشكر، ولها حديث، وكذا قال العيني، وأنشده صاحب الصحاح في ثلاثة مواضع: في مادة تمر، ومادة شر، ومادة وخز، وفي هامشة قيل: هو لأبي كاهل، وقيل للنمر بن تَوْلب اليشكري، وجمع بينهما العيني فقال:
قائله هو أبو كاهل النمر بن تولب اليشكري، وهذا غير جيد منه وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع عشر بعد المائتين -: (من الوافر) 214 - إذَا مَا عُدَّ أَرْبَعَةٌ فِسَالٌ * فَزَوْجُكِ خَامِسٌ وَأَبُوكِ سَادِي على أن أصله سادس، فأبدلت السين ياء، وهذا لضرورة الشعر.
(*)

(4/446)


ومثله ما في كتاب القلب والإبدال، قال: " كان رجل له امرأة تقارعه ويقارعها أيهما يموت قَبْلُ، وكان تزوج نساء قبلها فمتن وتزوجت هي أزواجاً قبله فماتوا، فقال: (من الطويل) وَمِنْ قَبْلِهَا أَهْلَكْتُ بِالشُّؤْمِ أرْبَعاً * وَخَامِسَةً أَعْتَدُّهَا مِنْ نِسَائِيَا بُوَيْزِلَ أعْوَامٍ أذَاعَتْ بِخَمْسَةٍ * وَتَعْتَدُّنِي إنْ لَمْ يَقِ الله سَادِيَا وقوله " بو يزل أعوام " أي مسنّة، حال من خامسة، مصغر بازل، وهو مستعار من البازل في الإبل، وهو الداخل في السنة التاسعة، وهو آخر أسنانه، ويقال في العاشرة: بازل عام، وبازل عامين، وبازل أعوام، ومثله قول الآخر: (من البسيط) خَلاَ ثَلاَثُ سِنِينَ مُنْذُ حَلَّ بَهَا * وعَامُ حَلَّتْ وهَذَا التَّابِعُ الْخَامِي وأصلهما سادساً، والخامس، فأبدلت الياء من السين فيهما.
وأما قول الآخر: (من الطويل) ثَلاَثَةُ أيَّامٍ كِرَامٍ وَرَابِعٌ * وَمَا الْخَامِ فِيهِمْ بالبْخِيلِ الْمُلَوَّمِ فإن لما أبدل السين من الخامس ياء اكتفى بالكسرة منها، كذا قال ابن عصفور في كتاب الضرائر.
وأما البيت الأول فقد أورده الجوهري في مادة فَسَل، قال: الفَسْل من الرجال
الرَّذْل، والمفسول مثله، وقد فَسُل - بالضم - فسَالَةً وَفُسُولَةً فهو فَسْل من قوم فُسلاَء وأفسال وفسال وَفُسُول، قال الشاعر: إذَا مَا عُدَّ أرْبَعَةٌ إلخ وروى ابن السكيت حَمُوك بدل أبُوك، ولم يكتب ابن بري ولا الصفدي

(4/447)


على المادة شيئاً، وقال ياقوت فيما كتبه على هامش الصحاح: البيت يروى للنابغة الجعدي، يهجو به ليلى الأخيلية.
وأما قوله " خلا ثلاث سنين - البيت " فقال ابن السكيت: أنشدنيه القاسم بن معن، ونقل عنه ان المستوفي: أنه للحادرة، ولم أره في ديوانه.
وصريح كلام ابن عصفور أن هذا كله ضرورة، ويرد عليه ما نقله ابن السكيت عن الفراء عن الكسائي أنه قال: العرب تقول: جاء ساتا، وجاء ساتيا، تريد سادسا، فلما ثقل المشدد بدل بالياء، وكانت خلفاً من التاء، وأخرجت الدال لأنها من الأصل، ومن قال ساتا فعلى لفظ ستة وستين، ومن قال سادساً فعل الأصل، قالوا: جاء سادسَهم، وساتَّهم، وسادِيهم، وسادَيَتُهُنّ، للمرأة، قال: وزعم الكسائي أنه سمع أعراييا يقول: وكانت آخر ناقة نحرها والدي أو جدي سادية وستين، وأنشد بعض العرب: (من البسيط) يا لهف نفسي لهفا غير ما كَذِبٍ * عَلَى فَوَارِسَ بِالْبَيْدَاءِ أنْجَادِ كَعْبٌ وعَمْرُو وَعبْدُ الله بَيْنَهُمَا * وابْنَاهُمَا خَمْسَةٌ وَالحَارِثُ السَّادِي أي السادس وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس عشر بعد المائتين -: (من الرجز) 215 - يَفْدِيكَ يَا زُرْعَ أبِي وخالي * قد مر يومان وهذا الثالي
وأنت بِالْهِجْرَانِ لاَ تُبَالِي على أن الأصل " وهذا الثالث " فأبدل الياء من الثاء.
وخصه ابن عصفور بالضرورة أيضاً، ولم يذكره ابن السكيت في كتاب الإبدال،

(4/448)


ولا الزجاجي في أماليه، ولا رأيته إلا في كتب التصريف، وقائله مجهول، والله أعلم به، وزُرْعَ: مرخم زُرْعَة.
وأنشد بعده: (من الطويل) هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِمَا * عَلَى النّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ على أن " فما " عند الأخفش أصلة فَوْه، بدليل رجوعها في التثنية وقد تقدم في الشاهد السابع والخمسين من هذا الكتاب.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السادس عشر بعد المائتين -: (من الرجز) 216 - لا تَقْلُوَاها وادلواها دلوا * إن مع اليوم أخَاهُ غَدَوْا على أن " غداً " أصله غَدْو، بدليل هذا البيت.
وجاء في بيت لبيد الصحابي رضى الله تعالى عنه كذلك، قال من قصيدة: (من الطويل) وَمَا النَّاسُ إلاَّ كَالدِّيَارِ وَأَهْلُهَا * بِها يَوْمَ حَلُّوهَا وَغَدْواً بَلاَقِعِ واستدل سيبويه بهذا البيت على أن أصله غَدْو، بإسكان الدال، وإذا نسب إلى الأصل فقيل " غَدْوِيّ " لم تسلب الدال الحركة، لأن النسبة جرت على التحرك بعد الحذف، خلافاً للأخفش، فإنه زعم أن الحركة تحذف عند النسبة إلى الأصل، فيقول: غَدْوِيٌّ وَيَدْيِيٌّ، بإسكان دالهما.
قال ابن جني في شرح تصريف المازني: " والقول قول سيبويه، ألا ترى

(4/449)


أن الشاعر لمّا رَدَّ الحرف المحذوف بَقَّى الحركةَ التي أحدثها الحذف بحالها قبل الرد في قوله: يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلِّمٍ فتحريك الدال بعد رد الياء دلالة على صحة ما ذهب إليه سيبويه، قال أبو علي: فإن قيل: فما تصنع بغَدْوا في البيتين، فإنه يشهد لصحة قول الأخفش؟ فالجواب أن الذي قال: غَدْوا ليس من لغته أن يقول: غَدٌ، فيحذف، بل الذي يقول: غَدٌ غير الذى يقول: غدوا " انتهى كلامه.
وأنشده صاحب الكشاف عند قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء) على أن التقدير كمَثَل ذوي صَيِّب، لأن التشبيه ليس بين ذات المنافقين والصَّيبِ نفسه، بل بين ذواتهم وذوات ذوي الصيِّبِ، كما فعل لبيد بإدخاله حرف التشبيه على الديار، مع أنه لم يرد تشبيه الناس بالديار، إذ لا يستقيم ذلك، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وتركهم منازلهم خالية، بحلول أهل الديار فيها ونهوضهم عنها وتركها خالية، فهي بالحلول مأهولة، وبالرحيل خالية، والتقدير: وما الناس إلا كالديار حال كون أهلها بها يوم حلولهم فيها وهي في غد خالية، وأهلها: مبتدأ، وخبره: بها، ويوم: ظرف متعلق بمتعلق الخبر، وغَدْوا: ظرف لبلاقع، وبلاقع: خبر مبتدأ محذوف: أي وهي خالية غَدْواً.
والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه لأمه في الجاهلية، وهو أرْبَدُ، ومطلعا: بَلِينَا وَمَا تَبْلَى النُّجُومُ الطَّوَالِعُ * وَتَبْقَى الْجِبَالُ بَعْدَنَا وَالْمَصَانِعُ وَلاَ جَزعٌ أنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا * وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْماً لَهُ الدَّهْرُ فَاجِعُ وَمَا النَّاسُ إلاَّ كَالدِّيَارِ وَأَهْلُهَا * بِها يَوْمَ حَلُّوهَا وَغَدْواً بَلاَقِعُ

(4/450)


وَمَا الْمَرْءُ إلاَّ كالشِّهَابِ وَضَوْءُهُ * يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ وأما البيت الأول فقوله " لا تقلواها " نهي: أي لا تسوقا الناقة سَوْقاً عنيفاً، من قَلاَ الحمارُ أتانه يَقْلُوها قَلْواً، إذا طردها وساقها، وقوله " وادلواها دَلْوا " هو أمر، والجملة معطوفة على جملة النهي، قال صاحب الصحاح: دَلَوْتُ النَّاقةَ دَلْواً سَيَّرتها سيراً رويداً، وأنشد هذا الشعر.
وقول الآخر: * لاَ تَعْجَلاَ بِالسَّيْرِ وَادْلُوَاهَا * ولم يذكر قائله، ولا كتب عليه شيئاً ابن بري، ولا الصفدي، وقوله " إن مع اليوم - إلخ " قال الزمخشري في مستقصى الأمثال: إن مع اليوم غداً، مَثَلٌ يضربه الراجي للظفر بمراده في عاقبة الأمر، وهو في بدئه غير ظافر، وأنشد هذا الشعر.
وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد السابع عشر بعد المائتين -: (من المنسرح) 217 - ذَاكَ خَلِيلِي وَذَو يُعاتِبُنِي * يَرْمِي وَرَائِي بِامْسَهْم وَامْسَلِمَهْ على أن إبدال لام " أل " المعرفة ميماً ضعيف.
وقال ابن جني في سر: الصناعة هذا الإبدال شاذ لا يسوغ القياس عليه، وفيه نظر، فإنه لغة قوم بأعيانهم، قال صاحب الصحاح: هي لغة لحمير، وقال الرضي رضي الله عنه في شرح الكافية: هي لغة حمير ونفر من طئ، وقال الزمخشري في المفصل: وأهل اليمن يجعلون مكانها الميم، ومنه ليس من امْبرِّ امْصِيَامُ في امْسَفَر، وقال: * يَرْمِي وَرَائي ... البيت * وحينئذٍ لا يجوز الحكم على لغة قوم بالضعف، ولا بالشذوذ، نعم لا يجوز القياس بإبدال كل لام ميماً، ولكن يُتْبَع إن سمع،

(4/451)


وقد حكى الزجاجي أربع كلمات وقع التبادل (فيها) بينهما، قال: " غُرْلَة وغُرْمَة، وهي القُلْفَة، وامرأة غَرْلاء وغرْماء ولا يقال قلفاء، وأصابته أزْلَةَ وأزمة: أي سنة، وانجبرت يَدُه على عَثَم وعَثَل، وشمِمْت ما عنده وشمِلْت ما عنده: أي خبرته " انتهى، ولم يروا ابن السكيت فيهما شيئاً.
والبيت من أبيات لبجير بن عنمة الطائي الجاهلي، قال الآمدي في المؤتلف والمختلف: " بحير بن عَنَمة الطائي: أحد بني بَوْلاَن بن عمرو بن الْغَوْث بن طئ، وأراه أخا خالد بن غنمة الطائي الشاعر الجاهلي، وبجير القائل في أبيات: وَإنَّ مَوْلاَيَ ذُو يُعَاتِبُنِي * لاَ إحْنَةٌ عِنْدَهُ وَلاَ جَرْمَهْ ينصرني مِنْكَ غَيْرَ معْتَذِرٍ * يَرْمِي وَرَائِي بامْسَهْمِ وَامْسَلِمَهْ " انتهى والمولى: ابن العم، والناصر، والحليف، والمعتِق، والعتيق، والظاهر أن المراد هنا إما الاول وإما الثاني، وذو: كلمة طائية بمعنى الذي محلُّها الرفع خبر إنَّ، ويعاتبني: صلتها، والمعاتبة: مخاطبة الا دلال، والاسم العتاب، قال الشاعر: * وَيَبْقَى الْوُدُّ مَا بَقِيَ الْعِتَابُ * وروي بدله " يعيريى " وهو غير مناسب، وقوله " لا إحنة " مبتدأ، وعنده الخبر، والجملة حال من فاعل يعاتبني، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً لإن، وجَرِمَة: معطوف على إحنة - بكسر الهمزة - وهي الضغينة والحقد، والجرمة - بفتح الجيم وكسر الراء - هو الجرم والذنب، كذا في القاموس، وقوله " يرمى ورائي " قال بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: " وراء: من الاضداد، بمعنى قدام وخلف، ويحتمل المعنيين هنا، والرمي وراءه عبارة عن الذبّ والمدافعة عنه " اه، والمعنى هذا الرجل يعاتبني ويسلك طريق بقاء الود، يدافع عني مرة بالسهام ومرة

(4/452)


بالسِّلام، وقيل: يشكو إعراضه، يقول: إذا غبت رماني بهما، وهذا ليس بصحيح كما هو ظاهر، وورائي بالمد وفتح الياء (1) وقوله " بامسهم " بكسر الميم دون تنوين، لأنه معرف باللام لكن الكسرة مشبعة للوزن (2) وقوله " وبامسلمة " بياء الجر بعد الواو، وبها يتزن (3) الشعر، والسلمة - بفتح السين وكسر اللام -: واحدة السلام، رهى الحجارة، كذا روى البيتين الآمدي وابن بري في أماليه على الصحاح، ورواه الجوهري في مادة سلم كذا.
ذَاكَ خَلِيلِي وَذُو يُعَاتِبُنِي * يرمى ورائي بالسهم وامسلمه وقال: يريد والسلمة، وكذا رواه صدر الأفاضل، وقال: " الرواية بالسهم - بتشديد السين - على اللغة المشهورة، وامْسَلِمَة - بالميم الساكنة بعد الواو - على اللغة اليمانية " انتهى.
ولا يخفى أن هذا غير متزن، إلا إن حركت الهمزة بعد الواو، وتحريكها لحن، قال ابن برى: وصواب الرواية ما ذكرنا، قال ابن هشام في المغني: " قيل إن هذه اللغة مختصة بالاسماء التى لا تدغم لام التعريف في أولها، نحو: غلام، وكتاب، بخلاف رجل وناس، وحكى لنا بعض طلبة اليمن أنه سمع في بلادهم من يقول: خذ الرمح، واركب امفرس، ولعل ذلك لغة بعضهم، لا لجميعهم، ألا ترى إلى البيت السابق وأنها في الحديث على النوعين؟ " انتهى.
وقد تابع الناس الجوهري في ذكر المصراع الأول من هذا البيت، قال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم: " روى الجوهري (يعاتبني) بدل يواصلني، وزعم
__________
(1) لا، بل بسكون الياء، والبيتان من المنسرح: يرمى ورا مستفعلن، ئى بامسهم مفعولات، وامسلمه مفتعلن (2) لا، بل بكسرة غير مشبعة، لان الوزن لا يستقيم مع الاشباع (3) لا، بل بدون باء الجر (*)

(4/453)


أن الواو زائدة، وكأن ذلك لأنه رأى أن قوله: يرمي، محط الفائدة، فقدره خبراً وقدر خليلي تابعاً للإشارة، وذو: صفة لخليلي، فلا يعطف عليه، وتبعية خليلي للإشارة بأنه بدل منها، لانعت، بل ولا بيان، لأن البيان بالجامد كالنعت بالمشتق، ونعت الإشارة بما ليست فيه أل ممتنع، وبهذا أبطل أبو الفتح كون بعلي فيمن رفع شيخاً بياناً، ولك أن تعرب خليلي خبراً، وذو عطفاً عليه، ويرمي حالاً منه وإن توقف المعنى عليه، مثل (وهذا بعلى شيخا) " انتهى كلامه أقول: ليس في كلام الجوهري ما يدل على زيادة الواو، ولعل القائل غيره، وأما الحديث الذي أورده الزمخشري - وهو مشهور في كتب النحو والصرف - فقد قال السخاوي في شرح المفصل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك لمن كانت هذه لغته، أو تكون هذه لغة الراوي التي لا ينطق بغيرها، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبدل اللام ميماً، قال الأزهري: الوجه أن لا تثبت الألف في الكتابة، لأنها ميم جعلت كالألف واللام، ووجد في خط السيوطي في كتاب الزبرجد رسمه كذا " ليس من ام برام صيام في ام سفر " وقد اشتهر أنها رواية النمر بن تَوْلب، وليس كذلك قال ابن جني في سر الصناعة: " وأما إبدال الميم من اللام فيروى أن النمر بن توْلَب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس من امبر امصيام في امسفر، فأبدل اللام المعرفة ميماً، ويقال: إن النمر لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، إلا أنه شاذ لا يسوغ القياس عليه " انتهى.
وتبعه الزمخشري في المفصل، وابن يعيش في شرحه، وابن هشام في المغني، قال: " تكون أم للتعريف، ونقلت عن طيئ، وعن حمير، وأورد البيت والحديث، وقال: كذا رواه النمر بن تولب " انتهى.
قال السيوطي في حاشيته على المغني: " هذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده،

(4/454)


والطبراني في معجمه الكبير من حديث كعب بن عاصم، ومسنده صحيح، وقوله " كذا رواه النِّمْرِ بنِ تَوْلَب " وكذا ذكره ابن يعيش والسخاوي: كلاهما في شرح المفصل، وصاحب البسيط، زاد ابن يعيش: ويقال: إن النمر لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث، وكلهم تواردوا على مالا أصل له، أما أولاً فلأن النمر بن تولبٍ مختلف في إسلامه وصحبته، وأما ثانياً فإن هذا الحديث، قال أبو نعيم في " معرفة الصحابة ": النمر بن تولب الشاعر، كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً، وروي من طريق مُطَرِّف عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من سره أن يذهب كثير من وَحَرِ صدره، فليصم شهر الصبر رمضان وثلاثة أيام من كل شهر " انتهى كلام السيوطي رحمه الله قلت: وكذا قال ابن عبد البر في الاستيعاب، وابن حجر في الإصابة، إن النمر بن تولب لم يرو إلاَّ حديثاً واحدا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَغَرَ الصدر و " بُجَيْر " بضم الموحدة وفتح الجيم بعدها ياء ساكنة فراء مهملة، و " عنمة " بفتح العين المهملة والنون بعدها ميم و " بولان " بفتح الموحدة وسكون الواو وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن عشر بعد المائتين -: (من الرجز) 218 - يَا هال ذات المنطق التمتام * وَكَفِّكِ الْمُخَضَّبِ الْبَنَامِ على أن الأصل البنان، فأبدلت النون المتحركة ميماً بضعف كما أبدلت في طَامَهُ الله على الخير، والأصل طانه، قال ابن جني في سر الصناعة: " فأما قول رؤبة: * وَكَفِّكِ الْمُخَضّبِ الْبَنَامِ *

(4/455)


فإنه أراد البنان، وإنما جاز ذلك لما فيها من الغنة والهُوِيِّ، وعلى هذا جمعوا بينهما في القوافي فقالوا: (من السريع) يَا رُبَّ جَعْدٍ فِيهِمُ لَوْ تدرين * يضرب ضربب السُّبُطِ الْمَقَادِيمْ وقال الآخر: يَطْعَنُهَا بِخِنْجَرٍ مِنْ لَحْمٍ * دُونَ الذُّنَابَى فِي مَكَانٍ سُخْنِ وهو كثير " انتهى ولم يذكروا إبدال النون من الميم وقد أورد ابن السكيت في كتاب الإبدال كلمات كثيرة للقسمين فمن القسم الأول: ماء آجن وآجم للمتغير، ويقال لريح الشَّمال: نِسْع ومِسْع، وَالحُلاَّنُ والحُلاَّمُ، وهو الجدى الصغير، قال أبو عبيدة (1) في قول مُهَلْهَل: (من السريع) كُلُّ قتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ حُلاَّمْ * حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ هَمَّامْ ويقال: نَجِرَ من المَاء يَنْجَرُ نَجْراً ومَجَرَ يَمْجَرُ مَجراً، إذا أكثر من شربه ولم يكد يَرْوَى، وقال اللحياني: يقال رُطَب مُحَلْقِنٌ ومُحَلْقِمٌ، وقال الأصمعي: إذا بلغ الترطيب ثلثي البُسْرة فهي حُلْقَانَة، وحُلقان للجميع، وهي ملحقنة، والْمُحَلْقِن للجميع، والحَزْن والْحَزْمُ: ما غلظ من الأرض، وهي الحُزُون والحُزُوم، وقال غير الاصمعي من الأعراب: الْحَزْمُ أرفع، وَالحَزْنُ أغلظ، يقال: قد أَحْزَنَّا: أي صرنا إلى الحزونة، ولا يقال أحْزَمْنَا، أبو عُبَيْدَة يقال: انْتَطَلَ فلان من الزق
__________
(1) لم يذكر ما قال أبو عبيدة في شرح بين المهلهل، وقوله هو: " أي فرغ، ويقال: الفرغ، للباطل الذى لا يؤدى، يقال: ذهب دمه فرغا: أي باطلا " اه نقلا عن كتاب القلب والابدال لابن السكيت (ص 19) .
والفرغ بكسر الفاء
وسكون الراء (*)

(4/456)


نَطْلة: أي امتص منه شيئاً يسيراً، وتقول: امتطل من الزِّق مطلة، والمعنى واحد ويقال: قد نَشْنَشَها الرجل والفحل: أي قد نكحها، وقال بعضهم: مَشْمَشَهَا، في ذلك المعنى، ويقال: إن فلاناً لشراب بأَنْقُعٍ، جمعٌ، وقال بعضهم: بأمقع، قال الأصمعي: معناه المعاود لما يكره مرة بعد مرة ومن القسم الثاني: الأصمعي، يقال: للحية أيْمٌ وأَيْنٌ، والأصل أيِّم، فخفف ويقال: الغيم والغَيْن، وقال بعضهم: الغين إلباس الغيم السماء، ومنه: إنه ليغان على قلبي: أي يغطي عليه ويلبس، وسمعت أبا عمرو يقول: الغِيم العطش، يقال: غيم وغين، وقد غامت وغانت: أي عطِشت، وهي تغِيم وتغِين، الأصمعي: يقال: امْتُقِعَ لونه وانْتُقِعَ لونه، إذا تغير لفزع، وهو ممتقع اللون ومنتقع اللون، الفراء: يقال: مَخَجْتُ بالدَّلْوِ ونَخَجْتُهَا، إذا جذبتها لتمتلئ، الأصمعي: الْمَدَى والنَّدَى للغاية، يقال: بلغ فلان الْمَدَى والنَّدَى، الكسائي: تَمَدَّلت بالمنديل وتَنَدَّلت، الأصمعي: يقال: أمْغَرَتِ الناقة والشاة وأنْغَرَتْ، إذا خالطت لبنها حمرةٌ من دم، الأصمعي: يقال للبعير إذا قارب الخطو وأسرع: بعير دُهَامِجٌ وبعير دُهَانِجٌ، وقد دهْمَجَ يُدَهْمِجُ دَهْمَجَةً ودَهْنج يُدَهْنِجُ دَهنجة، ويقال: أسود قاتم وقاتن، أبو عمرو والفراء: يقال: كَرْزَم، " للفأس الثقيلة كرزن، الكسائي يقال: عُرَاهِمَة وعُرَاهِنَةٌ، وسمع الفراء حَنْظَل وحَمْظَل، وقال أبو عمرو: الدِّمْدِم الصِّلِّيان المحيل في لغة بني أسد، وهو في لغة تميم الدِّنْدِن، الكِلابي: يقال: أطَمَّ يده وأطَنَّها " هذا ما ذكره ابن السكيت بحذف الشواهد وزاد الزجاجي من الأول: نَثَّ جسدُه من السمن، ينت نثاً، ومثّ يمثّ مثاً، ومَن الثاني: تَكَهَّمَ به وتكهن: أي تهزأ به
وأما الشعر فقد نسبه ابن جني والزمخشري والشارح إلى رؤبة، وليس موجوداً في ديوانه، و " هَال " مرخم هالة، و " ذاتَ " بالنصب صفة لهالة

(4/457)


تبعه على المحل، والمنطق: هو النطق، و " التَّمتام " صفة لمنطق، وأصل التمتام الإنسان الذي يتردد في التاء عند نطقه، قال ابن المستوفي: عطف " كَفِّكَ " على المنطق، وكان الواجب أن يقول: والكفِّ المخضب، لأن ذا وذات يتوصل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس، غير أن المعطوف يجوز فيه ما لا يجوز في المعطوف عليه، وقال بعض فضلاء العجم: " التمتام الذي فيه تمتمة: أي تردد في كلامه، ووصفُ المنطق بالتَّمتام مجاز، وتمتمتها في المنطق عبارة عن حيائها، قال صاحب المقتبس: ورأيت في نسخة الطباخي بخطه أن الواو في: وكفِّك: واو القسم، هذا كلامه، وقيل: يجوز أن يكون جواب القسم محذوفاً دل عليه قوله: ذات المنطق، يريد أقسم بكفك أن منطقك تمتام وأنك مستحية، وقال بعض الشارحين: أقسم بكفها، والمقسم عليه في بيت بعده، ولم يذكر ذلك البيت، ويجوز أن يكون (وكفِّك) معطوفاً على المنطق، وإنما قال: المخضب ولم يقل المخضبة، لأن المؤنث بغير علامة يجوز تذكيره حملاً على اللفظ، أو لأنه ذهب بالكف إلى العضو " هذا ما ذكره ذلك الفاضل وقوله " لأن المؤنث بغير علامة إلخ " هذا يقتضي جواز (الشمس طلع) مع أنه يحب إلحاق العلامة عند الإسناد إلى ضمير المؤنث المجازي، وفي المصباح المنير: " الكف من الإنسان وغيره أنثى، قال ابن الأنباري: وزعم من لا يوثق به أن الكف مذكر، ولا يعرف تذكيرها من يوثق بعلمه، وأما قولهم: كف مخضب، فعلى معنى ساعد مخضب، قال الأزهري: الكف الراحة مع الأصابع سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن " انتهى.
وفيه أن الخضاب لا يوصف به الساعد، وقال العيني: ذات المنطق، يجوز رفعه حملاً على اللفظ ونصبه حملاً على المحل.
أقول: لا يجوز هنا إلا النصب، فإن المنادى إذا كان موصوفاً بمضاف يجب

(4/458)


نصب وصفه، نحو: يا زيد أخا عمرو، وقال أيضاً: يجوز أن يكون: كفك، مرفوعاً على الابتداء وخبره في البيت الآتي، أو محذوف، أقول: هذا عدول عن واضح إلى خفي مجهول.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائتين -: (من الطويل) 219 - ألاَ كُلُّ نفسٌ طِينَ مِنْهَا حَيَاؤُها (1) قال ابن السكيت في كتاب الإبدال: " قال الأحمر: يقال طانه الله على الخير وطامه: يعني جبله، وهو يَطيمه ويَطِينه، وأنشد: ألاَ تِلْكَ نَفْسٍ طِينَ فِيهَا حَيَاؤُها وسمعت الكلابي يقول: طانه الله على الخير وعلى الشر " انتهى.
وكذا نقله الجوهري عنه، قال ابن بري في أماليه على الصحاح: " صواب الشعر: إلى تلك، بإلى الجارّة، والشعر يدل على ذلك، أنشد الأحمر: لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا لَهُ قَدْ تَزَيَّنَتْ * عَلَى الأَرْضِ حَتَّى ضَاقَ عَنْهَا فَضَاؤُهَا لَقَدْ كَانَ حُرّاً يَسْتَحِي أنْ تَضُمَّهُ * إلى تِلْكَ نَفْسٌ طِينَ فِيهَا حَيَاؤُهَا يريد أن الحياء من جبلتها وسجيتها " انتهى.
ففي ما في الشرح ثلاث تحريفات، وفي الصحاح تحريف واحد تبعاً لابن السكيت، والأحمر: هو خلف بن حيَّان بن محرز، ويكنى أبا محرز البصري، وهو مولى بلال بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه من أبناء
الصغد الذين سباهم قتيبة بن مسلم لبلال، وهو أحد رواة الغريب واللغة والشعر
__________
(1) انظر (ص 20) من كتاب القلب والابدال لابن السكيت (*)

(4/459)


ونقاده والعلماء به، قال الأصمعي: أول من نعى أبا جعفر المنصور بالبصرة خلفٌ الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس فمر بنا خلف فسلم، ثم قال: فقد طَرَّقَتْ بِبَكْرِهَا بِنْتُ طَبَقْ فقال له يونس: هِيْه، فقال: فَنَتَجُوهَا خَبَراً ضَخْمَ العُنُق فقال: وما ذاك، قال: مَوْتُ الإِمَامِ فِلْقَةٌ مِنَ الْفِلَقْ كذا في طبقات النحويين لمحمد بن الحسين اليمني، وساق له نوادر وأشعاراً وحكاياتٍ كثيرةً.
وأنشد بعده - وهو الشاهد العشرون بعد المائتين -: (من الرجز) 220 - هَلْ يَنْفَعَنْكَ الْيَوْمَ إنْ همت بهم * كثرة ما توصي وتعقاد الرَّتَمْ على أن ميم الرتم أصلية من الرتيمة غير مبدلة من الياء، وهذا الفصل جميعه من سر الصناعة لابن جني، قال صاحب الصحاح: الرتيمة: خيط يشد في الإصبع لتستذكر به الحاجة، وكذلك الرتمة، تقول فيه: أرتمت الرجل إرتاماً، قال الشاعر: (من الطويل) إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَاتُنَا فِي نُفُوسِكُمْ * فَلَيْسَ بِمُغْنٍ عَنْكَ عَقْدُ الرَّتَائِمِ والرتمة بالتحريك: ضرب من الشجر، والجمع رَتَمٌ، قال الشاعر: نَظرْتُ وَالْعَيْنُ مُبِينَةُ التُّهَمْ * إلَى سَنَا نَارٍ وَقُودُهَا الرَّتَمْ
وكان الرجل إذا أراد سفراً عمد إلى شجرة فشد غصنين منها فإن رجع

(4/460)


ووجدهما على حالهما قال: إن أهله لم تخنه، وإلا فقد خانته، وقال: هل ينفعك الْيَوْمَ إنْ هِمْتَ بِهِمْ * ... البيت وقال ابن بري في أماليه: " قوله: وكذلك الرتمة، قال ابن حمزة: الرتمة - بفتح التاء -: هي الرتيمة، والرتم في قوله: وتعقاد الرتم: جمع رتمة، وهى الرتمية، وليس هو النبات المعروف، لأن الأغصان التي كانت تعقد لا تخص شجراً دون شجر " انتهى.
ويؤيده ما نقله الزيلعي في شرح الكنز، فإنه ذكر مثل كلام الجوهري، وقال: " هكذا المروي عن الثقات، إلا أن الليث ذكر الرتم بمعنى الرتيمة كذا في المغرب " انتهى.
وقال ياقوت فيما كتبه على هامش الصحاح: صواب البيت الأول: إذا لَمْ تَكُنْ حَاجَاتُنَا في نُفُوسِنَا * لإخْوَانِنَا لَمْ يُغْنِ عَقْدُ الرَّتَائِمِ وقائل الشعر الثاني هو شيطان بن مُدْلِج، وفي كلام ابن جني بعض مخالفة لصاحب الصحاح، فإنه قال: عمدَ إلى شجرة فشد غصنين منها، وقال ابن جني: عمد إلى غصنين من شجرتين تقرب إحداهما من الأخرى.
وحاصل ما ذكره الشارح والمصنف تبعاً لابن جني أن الميم تكون بدلاً من الياء في ثلاث كلمات.
وقد ذكر ابن السكيت في كتاب الإبدال كلمات كثيرة في تبادلهما قال: " يقال: للظليم أرْبد وأرمد، وهو لون إلى الغبزة، وأربد: أغبر، ومنه تَرَبَّد وجهه وارْبَدَّ، ويقال: سمعت ظَأْبَ تيس بني فلان، وظأْم تيسهم، وهو صياحه، والظأب والظأم أيضاً سَلِف الرجل، يقال: قد تظاءنا وتظاءما، إذا تزوجا أختين، ويقال للرجل إذا
كبر ويبس من الهزال: ما هو إلا عَشَمة وعَشَبَة، ويقال: قد عشِم الخبز وعشِب،

(4/461)


إذا يبس، وقد عَشِم الشجر، ويقال: سابَّ فلان فلاناً فأرْبى عليه وأرمى عليه، إذا زاد عليه في سِبابه، ويقال: قد أرمى على الخمسين: أي زاد عليها، قال الفراء: يقال منه: قد أرميت ورَمَيْت، وكذا يقال: أرميت على السبعين ورَمَيْت، وأرْبيت ورَبيت، بألف فيهما وبلا ألف: أي زدت، وقال أبو عبيدة: الرُّجْبَة والرُّجْمَة أن تطول النخلة، فإذا خافوا عليها أن تقع أو تميل رجَّبُوها: أي عَمَدُوها ببناء حجارة، أبو عبيدة عن يونس قال: ينشد هذا البيت: (من المتقارب) وَأَهْدَى لَنَا أكْبَشاً * تَبَحْبَحُ فِي المربد وَإنْ شئت تمحح: أي تلزم المكان وتتوسطه، ويقال: قد سَمَّد شعره وسَبَّده، والتسبيد: أن يستأصل شعره حتى يُلْصقه بالجلد، ويكون التسبيد أن يحلق الرأس ثم ينبت منه الشئ اليسير، قال الأصمعي: يقال للرجل حين ينبت شعره ويسود ويستوي: قد سَبَّد، وإذا اسود الفرخ من الريش فغطى جلده ولم يطل فقد سَبَّد، أبو عمرو: يقال: صَبَأْت الجيش عليهم وَصَمَأْته عليهم، إذا هجمته عليهم، أبو عبيدة السأسم والسأسب شجر، ويقال: هو الشِّيزُ، الفراء: يقال: أومأت إليه وأوْبَأْتُ إليه، اللحياني: يقال للعجوز: قَحْمَة وقَحْبَة، أبو عبيدة: إذا شربت بطَرَف فم السقاء ثَنَيْتَه أو لم تثنه أو شربت من وسطه قيل: قد اقتبعت السقاء واقتمعت، اللحياني: يقال: أتانا وما عليه طِحْربَةٌ وطِحْرِمة: أي خرقة، وكذلك يقال: ما في السماء طِحْرِبة: أي لَطْخٌ من غيم، ويقال: ما في نحى فلان عبَقة ولا عَمَقَةٌ: أي لَطَخ، ولا وضَرٌ، وقئمت في الشراب وقئبت وصِئمت وصَئِبْت وصَئِمَ من الماء وصئب، إذا
امتلأ، والقَرْهَمُ والقَرْهَبُ السيِّد، وهو أيضاً الثور المسن، يونس: يقال: رَجَمَتْهُ بقول سيّئ ورَجَبْتُه: يعنون صككته، الفراء: اطمأننت إليه، ولغة بني أسد

(4/462)


اطبأننت، الكسائي: النُّغْمَةُ والنُّغْبَةُ من الشراب، إذا تناولت منه شيئاً قليلاً، وقد نَغَبَ وَنَغَمَ، ويقال: هو يَتَمَجَّحُ وَيَتَبَجَّحُ بمعنى واحد، وهو من الفخر، الفراء: ذهب القوم شَذَرَ مَذَر، وشذر بَذَر - بفتح أولهما وكسرهما - أبو زيد: الرَّمِيز من الرجال العاقل الثخين، وقال بعضهم الرَّبيز، وقد رَمُز رَمَازَة ورَبُز ربازة، أبو عبيدة: العِقْمَة والعِقْبَة ضرب من الوشي، الفراء: يقال: تعرف فيه عِقْبة الكرم وعقمته أيضاً، والعقمة والعقبة أيضا ضربو ثياب الهودج، اللحياني: أسود غيهب وغيهم، وإنه لميمون النقيبة والنقيمة، وعَجْب الذنب وعَجْمه: أي أصله، والعمرى والعبرى للسدر الذى ينبت على الأنهار والمياه، اللحياني: ضربة لازب ولازم، ويقال: ثوب شَبَارِق وشَمَارِق، وَمُشَبْرق ومُشَمْرَق، إذا كان ممزقاً، ويقال: وقع في بنات طَمَارِ، وطَبَارِ: أي داهية، ويقال: رجل دِنَّبَة ودنَّمة للقصير، ويقال: أدْهقْت الكأس إلى أصْبَارها وأصْمَارها: أي ملأتها إلى رأسها، الواحد صُبْر وَصُمْر، الأصمعي: يقال: أخذ الأمر بأصباره وأصماره: أي بكلِّه، وأخذها بأصبارها وأصمارها: أي تامة بجميعها، اللحياني: أصابتهم أزْمَة وأزْبَة، وآزِمة وآزبة، وهو الضيق والشدة، الكسائي: اضْمَأَكَّتْ الأرض واضْبَأَكَّتْ، إذا اخضرت من النبات، ويقال: كمَحْتُه باللجام وكَبَحْتُه وَأكْمَحْتَهُ وأكْبَحْتُهُ، أبو عمرو: الذام والذاب والذان العيب، اللحياني: ذأبْته وذأمْته، إذا طردته وحقرته، ورأبْت القِدْح ورأمته، إذا شَعَبته، ويقال: زَكَم بنُطْفته وزَكَب، إذا حذف بها، ويقال: هو ألأم زَكْمَةٍ في الأرض وزَكْبَةٍ معناه ألام شئ لقطه شئ، ويقال أبِدَ عليه وأمِدَ: أي غضب، ويقال:
وقعنا في بَعْكُوكاء ومَعْكُوكاء: أي في غبار وجلبة وشر، الفراء: جرد بت في الطعام وجَردَمْت، وهو أن يستر بيده ما بين يديه من الطعام لئلا يتناوله أحد، وتكبكب الرجل في ثيابه وتكَمَكم: أي تزمل، وكَبَن اللصوص في الجبل

(4/463)


وكمنوا، وقال أبو صاعد: العطاميل هي البكرات التَّوَامُّ الخلق، والعطابيل " هذا ما أورده ابن السكيت وقد حذفنا منه الشواهد.
وزاد الزجاجي مَكَّةَ وَبَكَّةَ، ورجل سَهْلَبٌ وَسَلْهُمٌ: أي الطويل، والموماة والبوباة: أي الصحراء الخالية: ورجل شيظم وشيظب: أي طويل أنشد الجاربردي - وهو الشاهد الواحد والعشرون بعد المائتين -: (من الوافر) 221 - هَلْ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا * نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَام على أن الأصل لعلنا، فأبدلت اللام نوناً بضعف.
وقد أورد ابن السكيت في كتاب الإبدال كلمات كثيرة وقع التبادل فيها بين اللام والنون، وهي: " قال الأصمعي: هَتَنَتْ السماء تَهْتِن تَهْتَاناً وهَتَلَت تهْتِل تَهتالاً، وهن سحائب هُتن وَهُتَّل، وهو فوق الهطل، والسدول والسدون: ما جلل به الهودج من الثياب وأرخى عليه، والكَتَلُ والكَتَنُ التلزج ولزوق الوسخ بالشئ، ويقال: رأيت في بني فلان لَعَاعَة حسنة ونعاعة حسنة، وهو بقل ناعم في أول ما يبدو رقيق ولم يغلظ، وتلعيت اللعاعة إذا اجتنيتَها، ويقال: بعير رِفَنٌّ ورِفَلٌّ، إذا كان سابغ الذنب، ويقال: للحَرَّة لُوبة ونُوبة، ومنه قيل: للاسود لُوبيّ ونوبي، الأصمعي: يقال: طَبَرْزَنٌ وطَبَرْزَل للسكَّر، ويقال: رَهْدَنَة ورَهْدَلَة ورَهَادِين ورَهاديل، وهي الرهادن والرهادل، وهو طُوَيْر شبيه
القبِّرة، إلا أنه ليست له قُنْزَعة (1) والرهدن والرهدل: الضعيف أيضا، ويقال:
__________
(1) يريد أنها ليس ريشات في رأسها (*)

(4/464)


لقيته أصيلالا وأُصَيْلاناً: أي عشياً، وأُصَيْلالٌ تصغير أَصيل على غير قياس، والدَّحِن والدَّحِل، قال أبو زيد: الدَّحِن من الرجال العظيم البطن، وقد دَحِنَ دَحَناً، وقال الأصمعي: هو الدَّحِل باللام، أبو عبيدة: صَلَّ اللحم صُلُولاً وأصَلَّ اللحم، وقوم يجعلون اللام نوناً فيقولون: قد أصَنَّ اللحمُ، أبو عمرو الشيباني: الْغِرْيَنُ والْغِرْيَلُ: ما يبقى من الماء في الحوض، والغديرُ، أبو عمرو: الدمال السرجين (1) ويقال: الدَّمان، الفراء: هو شَئْنُ الاصابع وشثلها، وقد شثنت كفه شثونة وشثانة، وشثلت، وهو الغليظ الخشن، وأتَن الرجل يَأْتِنُ وأتَل يَأْتِلُ، وهو الأتَلان والأتَنان، وهو أن يقارب خطوه في غضب، الكسائي: أتاني هذا الأمر وما مأَنْتُ مَأْنَهُ وما مَأْلْتُ مَأْلَهُ: أي ما تهيأت له، وهو حَنَك الغراب وحَلَكه لسواده، وهو العبد زلَمة وزُلْمة وزَنَمَة وزُنْمَة: أي قَدُّه قَدّ العبد، معناه إذا رأيته رأيت أثر العبد فيه، وأبَّنْتُهُ وأبَّلْتُهُ إذا أثنيت عليه بعد موته، وتأسَّنَ أباه وتأسَّله، إذا نزع إليه في الشبه، وعُنْوان الكتاب وعُلْوانه، اللحياني: يقال: عَتَلْتُه إلى السجن وعَتنْتُه، وأنا أعتُله - بالضم والكسر - وأعْتُنه كذلك، وارمَعَلَّ الدَّمعُ وارمعنَّ، إذا تتابع، ويقال: لاَبَنَ ولاَبَلَ، وإسماعيل وإسماعين، وميكائيل وميكائين، وإسرافيل وإسرافين، وإسرائيل وإسرائين، وشراحيل وشراحين وجبرئيل وحبرئين.
وسمعت الكلابي يقول: آلصت الشئ أليصه إلاصة وآنصته أُنيصه إناصة، إذا أدَرْته، ويقال ذلاذل القميض وذناذنه لأسافله، الواحدة ذَلْذَلٌ وَذَنْذَنٌ: ويقال: هو خامل الذكر وخامِنُ الذكر، الفراء: ما أدري أيُّ الطَّبْن هو وأيُّ الطَّبْل (2) هو، وحُكي: بَنْ أنا فَعَلْتُ، يريد
بَل، أبو زيد: نَمَّق ينمقه ولمقه يلمقه، وقنة الجبل وقلته لاعلاه "
__________
(1) السرجين: الزبل، وهو معرب فارسيته سركين - بالفتح وبالكاف - (2) أي: أي الناس هو (*)

(4/465)


هذا ما ذكره ابن السكيت باختصار الشواهد.
وزاد الزَّجاجي: السَّلِيطُ والسَّنِيطُ (2) ، وَنَفَحْتُه بالسيف ولَفَحْتُه، ولَفَحَتْه النار ونَفَحَتْه، وكَلِعَت يَدَُه وكَنِعَت: أي دَرِنَتْ وَوَسِخَت، ولَجلَجَ في كلامه ونَجْنَج، ونَقَس الْقَوْمَ يَنْقُسُهُمْ نَقْساً، ولَقَسَ لَقْساً: أي لقيهم والبيت الشاهد مطلع قصيدة للفرزدق مدح بها هشام بن عبد الملك وهجاً جريراً، ورُوِي أيضاً: * ألستم عائجبين بِنَا لَعَنَّا * و " عائج " اسم فاعل من عُجْت البعير أعوجه إذا عطفت رأسه بالزمان، والباء بمعنى مع، وعرصة الدرا: ساحتها، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء، وسميت عَرْصَة لان الصبيان يعترصون فيها: أي يلعبون ويمرحون، وقد شرحنا بعض أبياتها في الشاهد الحادي والثلاثين بعد السبعمائة من شواهد شرح الكافية.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين: (من المديد) 222 - رُبَّ رَامٍ مِنْ بَنِي ثُعَلٍ * مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قتتره على أن أصله مُولج فأُبدلت الواو تاء، وأورد ابن جني في سر الصناعة شيئاً كثيراً من هذا، ثم قال: " وهذه الألفاظ وإن كانت كثيرة فإنه لا يجوز القياس عليها، لقلتها بالإضافة إلى ما لم تقلب فاؤه تاء، فأما ما تقيس عليه لكثرته فهو افْتَعل وما تصرف منه إذا كانت فاؤه واواً، نحو اتَّزَن واتَّلَجَ واتَّصَفَ، والاصل
او تزن، واوْتَلَجَ واوتَصَفَ وجميع ما ذكره ابن جني أخذه من كتاب الإبدال لابن السكيت، ولم يورد الزجاجي شيئا من هذا
__________
(1) السليط: الزيت (*)

(4/466)


والبيت مطلع قصيدة لامرئ القيس، وجواب رُبَّ في بيت بعده، وهو: قَدْ أتَتْهُ الْوَحْشُ وَارِدَةً * فَتَنَحَّى النَّزْعُ فِي يَسَرِهِ فَرَمَاهَا فِي فَرَائِصِهَا * بَإزَاءِ الْحَوْضِ أوْ عُقُرِهْ بَرَهِيشٍ مِنْ كِنَانَتِهِ * كَتَلَظِّي الْجَمْرِ فِي شَرَرِهْ رَاشَهُ مِنْ ريشه نَاهِضَةٍ * ثُمَّ أمْهَاهُ عَلَى حَجَرِهْ فَهْوَ لا تَنْمِي رمِيَّتُهُ * مَالَهُ لاَ عُدَّ مِنْ نَفَرِهْ مَطْعَمٌ لِلصَّيْدِ لَيْسَ لَهُ * غَيْرَهَا كَسْبٌ عَلَى كِبَرِهْ قوله " رب رَامِ إلخ " ثُعل - بضم المثلثة وفتح المهملة -: هو أبو قبيلة من طي هم أرمى العرب، ويضرب المثل بهم في جودة الرمي، وهو ثُعل بن عمرو بن الغوث بن طي، وهو غيرُ مُنْصرف للعلمية والعدل، وجره هنا للضرورة، و " مُتْلِجٍ " بالجر صفة ثانية لرام، وقتر - بضم القاف وفتح المثناة الفوقية -: جمع قُتْرَة - بضم فسكون - وهي حُفَيرة يكَمُن فيها الصياد لئلا يراه الصيد فينفر، وإنما أدخل كفيه في قُتَره لئلا يعلم به الوحش فيهرُب، وصفه بحِذْق الرمي، وروي في سُتَره: جمع سُترة، وهو الموضع الذي يستتر فيه، وقيل هو الكُمّ، وهو سترة اليد والذراع، وأراد بقوله " رُبَّ رام " عمرو بن المُسَبِّح بن كعب بن طَرِيف بن عبد بن عَصَر بن غَنْم بن حارثة بن ثَوْب بن مَعْن بن عَتُود بن عنين بن سلامان ابن ثُعَل، والْمُسَبِّح بوزن اسم الفاعل من التسبيح، وابنه عمرو صحابي، قال صاحب الاستيعاب: " قال الطبري عاش عمرو بن المسبح مائه وخمسين، ثم أدرك
النبي صلى الله عليه وسلم، ووفد إليه وأسلم، قال: وكان أرمى العرب، وله يقول امرؤ القيس * رُبَّ رَامٍ مِنْ بَنِي ثعل *

(4/467)


وقال فيه أيضاً: * يَحَاذِرْنَ عَمْراً صاحِبَ الْقُتَرَات * " انتهى وكذا قال أبو حاتم في كتاب الْمُعَمِّرين، وقال: " إنه مات في زمن عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وهو القائل: لَقَدْ عُمِّرْتُ حَتَّى شَفَّ عُمْرِي * عَلَى عُمْرِ ابْنِ عُكْوَةَ وَابْنِ وَهْبِ وَعُمْرِ الْحَنْظَلِيِّ وَعُمْرِ سَيْفٍ * وَعُمْرِ ابْنِ الوداة قريع كعب " انتهى.
وقال ابن المُسْتَوفي في شرح أبيات المفصل: " قدم على النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يومئذٍ ابن مائة وخمسين سنة - فسأله عن الصيد، فقال: كُلْ مَا أصْمَيْتَ ودَعْ ما أنْمَيْت، وله يقول الشاعر: (من الكامل) نَعَبَ الْغُرَابُ ولَيْتَهُ لَمْ يَنْعَبِ * بِالبَيْنِ مِنْ سَلْمَى وَأُمِّ الْحَوْشَبِ لَيْتَ الْغُرَابَ رَمَى حَمَاطَةَ قَلْبِهِ * عمرو بأسهمه التى لم تغلب " انتهى.
وقوله " قد أتَتْه إلخ " هذا جواب رب، وتنحى: اعترض، وروي " فَتَمَتَّى " أي مدَّ ونزع القوس، وقيل: التمتي في نزع القوس مَدُّ الصلب، واليسر: حيالَ الوجه والشَّزْرُ يمنة ويسرة، وقالوا: إنما هو اليَسْر فحركة بالفتح، يقال: حَرَّف لها السهم حيال وجهه، وقال بعضهم من يَسِرَه: أراد يسره يديه، وقوله " فرماها إلخ " الفريصة: لحمة في الإبط، وإزاء الحوض - بكسر الهمزة -: مصب الماء فيه، والعُقْر - بضمتين -: مقام الشاربة من الحوض، والرهيش: السهم
الخفيف، والكِنانة: الجَعْبة، وشبه السهم بالجر في التهابه، والناهضة: العقاب وأمَهَاه: سَنَّه وحدده وأراد بالحجر المِسَنّ، وقوله " فهو لا تنمي " في المصباح نَمَى الصيدُ يَنْمِي من باب وَفَى: غاب عنك، ومات بحيث لا تراه، ويتعدى

(4/468)


بالألف، فيقال: أنْمَيْتُه، وفي الحديث: كُلْ ما أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أنْمَيْتَ: أي لا تأكل ما مات بحيث لم تره، لأنك لا تدري هل مات بسهمك وكلبك أو بغير ذلك، وصَمَى الصيدُ - من باب رمى -: مات وأنت تراه، ويتعدى بالالف فيقال: أصميته، إذا قتلته بين يديك وأنت تراه، والبيت يروى بالوجهين لا تُنْمَى - بالبناء للمفعول - من أنماه: ولا تُنْمِي - من نمى الصيدُ، بإسناد الفعل إلى الرَّمْيَة، وقوله " ماله " استفهام تعجبي، وجملة " لا عد من نفره " دعاء عليه، والمراد مدحه كقولهم في المدح: قاتله الله ما أشعره، وأراد بالنفر قومه، والضمير للرامي: أي لا كان معدوداً في قومه، بأن عدموه وفقدوه، وهذا تأكيد لمعنى التعجب في " ماله " وقوله " مُطْعَم " هو اسم مفعول من أطعم، يريد أن وجه كسبه من الصيد فهو يُرْزق منه.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين -: (من الرجز) 223 - يَا قَاتَلَ الله بَنِي السِّعْلاَتِ * عَمْرِو بْنِ يَرْبُوعٍ شرار النات * غير أعفاء ولا أكْيَاتِ * على أن الأصل شرار الناس، ولا أكياس، فأبدلت السين فيهما تاء كما فعل بسِتّ، وأصلها سِدْس بدليل قولهم التسديس وسُدَيْسَة، فقلبوا السين تاء فصارت سِدْتٌ، فتقارب مع الدال في المخرج، فأبدلت الدال تاء فأدغمت فيها، وقالوا أيضاً في طَسٍ طَسْتٌ، وفي حَسِيس (1) حِتيتٌ، هذا ما ذكره ابن جني في سر الصناعة ولم يزد على هذه الاربعة، وزاد عليها ابن السكيت في كتاب
الإبدال عن الأصمعي: " يقال: هو على سُوسِه وتوسه: أي خليقته، ويقال:
__________
(1) الحسيس: الصوت الخفى قال تعالى: (لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) (*)

(4/469)


رجل خَفَيْسَأُ وخَفَيْتَأُ، إذا كان ضخم البطن إلى القِصَر ".
وزاد الزجاجي: الاماليس والاماليت، لما استوي من الأرض، ونصيب خَسِيسٌ وخَتِيتٌ، ومنه أخَسّ حقه وأخَتَّه: أي قَلَّلَه، وهو شديد الحساسة والختاتة.
وهذه الأبيات الثلاثة أوردها أبو زيد في موضعين من نوادره ونسبها في الموضع الأول إلى قائلها، وهو عَلْياء بن أرقم اليَشْكُري، وهو شاعر جاهلي، وكذا نسبها إليه الأسود أبو محمد الأعرابي، وقال في ضالة الأديب وهي أمالي أملاها على نوادر ابن الأعرابي: هي ثلاثة أبيات لا غير، وأنشدها الجوهري في مادة (س ي ن) من الصحاح، ونسبها ابن بري في أمالية عليه لعَلْياء أيضاً، وقال أبو زيد في الموضع الثاني: " قال المفصل: بلغني أن عمر بن يَرْبُوع بن حنظلة تزوج السِّعلاة فقال لها أهلها: إنك تجدُ بها خير امرأة ما لم تر برقاً، فسَتِّر بيتك إذا خفت ذلك، فمكثت عنده حتى ولدت له بنين، فأبصرت ذات يوم برقاً فقالت: (من الرجز) الْزَمْ بَنِيكَ عَمْرُو إنِّي آبِقٌ * بَرْقٌ عَلَى أرْضِ السَّعَالِي آلِقُ فقال عمرو: (من الوافر) ألاَ لِلَّهِ ضَيْفُكِ يَا أُمَامَا * رَأَى بَرْقاً فَأَوْضَعَ فَوْقَ بَكْر * فَلاَ بِكِ مَا أَسَالَ وَمَا أغَاَمَا * وقال الشاعر في عمرو هذا: * يَا قَاتَلَ الله بَنِي السِّعْلاَةِ * إلى آخر الأبيات الثلاثة " انتهى.
وقوله " يا قاتل الله إلخ " المنادى محذوف تقديره يا قوم، أو أنها للتنبيه، ولا حذف، وجملة " قاتل الله إلخ " دعاء عليهم بالهلاك لعدم عفتهم، وعدم كياستهم، وروي " يا قَبَّح الله " يقال: قبحه الله يقبَحُه - بفتح العين فيهما - قبْحاً: أي نحاه عن الخير، وفي التنزيل: (هُمْ مِّنَ المقبوحين) أي: المبعدين عن الفوز،

(4/470)


والسِّعلاة بالكسر، وهي أنثى الغول، وقيل: ساحرة الجن اشتهر في العرب أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم تزوج سِعْلاَة فأقامت دهراً في بني تميم وأولدها عمرو أولاداً، وكان عمروٌ إذا رأى برقاً أسبل عليها الستور فغفل عنها يوماً وقد لاح برق من ناحية بلاد السَّعَالِي فحنت إلى أهلها فقعدت على بكر من الإبل وذهبت فكانَ ذاك آخرَ عهده بها، واشتهر أولادها من عمرو ببني السِّعلاة قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: عِسْل بن عمرو بن يربوعٍ وضَمْضَم أبناء عمرو بن يربوع من السعلاة، وجاء الإسلام وهم: يمانية فاختطوا خُطَّة بالبصرة، ومنهم ربيعة بن عِسْل، ولاه معاوية رضي الله عنه هَرَاة وقوله " عمرو بن يربوع " بالجر بدل من السِّعلاة، ولم يصب بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل في قوله: " عمرو بدل من بني السِّعلاة، أو نصب على الذم، وشرار النات: صفة عمرو، لأنه قبيلة هنا، جعل أمهم سِعْلاة لقبحها، وقيل: تزوج عمرو بن يربوع سِعْلاة وولدت له أولاداً، ثم تناسل الأولاد فصار عمرو بن يربوع اسم القبيلة " هذا كلامه مع عُجْزِه وبجره (1) وروي في بعض نسخ الشرح وغيره عمرو بن مسعود، وهو غير صحيح، و " شرارِ " بالجر صفة لبني، وهو جمع شَرِير ككرام جمع كريم، و " غير " بالجر أيضاً صفة أخرى لبني، وأعفاء: جمع عفيف من العفة وهي هيئة للقوة الشهوية متوسطة بين
الفجور الذي هو إفراط هذه القوة والجمود الذي هو تفريطها، وأكياس: جمع كَيِّس بالتشديد كأجياد جمع جَيْد، مأخوذ من الكَيْس - كَفَلْس - وهو الظَّرْف والفطنة، وقال ابن الأعرابي: هو العقل، وقولها " الزم بنيك عمرو " هو منادى وآبق: هارب، وآلِق: لامع، وقوله " ألا لله ضَيْفُكِ يَا أُمَامَا " قال أبو زيد: " لم نسمع بقافيته، ويروى:
__________
(1) العجر والبجر: العيوبه (*)

(4/471)


* ألاَ لِلَّهِ ضِيفُكِ * والضِّيفُ: الناحية والمحلة، وكذلك ضِيفُ الوادي ناحيته ومحلته، وقوله " فَلاَ بِكِ مَا أسَالَ " أي: فلابك ما وافقت سيلانه وإغامته، وأراد الغيم الذي رأت فيه البرق " انتهى كلامه.
يريد أن " ضيفك " روي بفتح الضاد وكسرها، وقوله " فلا بك " أورده ابن جني في موضعين من سر الصناعة على أن الباء فيه للقسم، وقال السخاوي في سفر السعادة: ذَكَّر " رأى، وأوضع " وهو يريد السعلاة، لأنه ذهب إلى معنى الحبيب والخليل، فيكون في قوله " فلابك " التفات من الغيبة إلى خطابها، وأوضع متعدي وَضَع البعير وغيره: أي أسرع في سيره، وأوضعه راكبه: أي جعله واضعا: أي مسرعاً، والبَكْر - بفتح الموحدة - الفَتِيُّ من الإبل، وجملة " ما أسَالَ إلخ " جواب القسم.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائتين -: (من الرجز) 224 - صَفْقَةَ ذِي ذَعَالِتٍ سُمُولِ * بَيْعَ امْرِئٍ لَيْسَ بِمُسْتَقِيلِ على أن الذعالِت أصله الذعالب، فأُبدلت الموحدة مثناة فوقية.
قال ابن جني في سر الصناعة: " قال أعرابي من بني عوف بن سعد: صَفْقَةَ
ذِي ذَعَالِتٍ سُمُول إلخ، وهو يريد ذَعَالب، فينبغي أن يكونا لغتين، وغير بعيد أن تبدل التاء من الباء، وقد أبدلت من الواو وهي شريكة الباء في الشفة، والوجه أن تكون التاء بدلاً من الباء، لأن الباء أكثر استعمالاً، ولما ذكرناه أيضاً من إبدالهم التاء من الواو " انتهى كلامه.
ولم يذكر ابن السكيت شيئاً من هذا في كتاب الإبدال " ولا الزجاجي.
و" صفقة " منصوبة بخط ابن جني على أنه مفعول مطلق، يقال: صفقت له

(4/472)


بالبيعة صفقاً: أي ضربت بيدي على يده، وكانت العرب إذا وجب البيع ضرب أحدهما على يد صاحبه، ثم استعملت الصفقة في العقد، فقيل بارك الله لك في صفقة يمينك، قال الأزهري: وتكون الصفقة للبائع والمشتري، و " الذعالب " بالذال المعجمة قَطع الخِرَق، وقد فسرها الشارح، و " سُمُول " بضم السين المهملة والميم، جمع سَمَل - بفتحتين -: الثوب الْخَلَق المقطع، و " بَيْع " مفعول مطلق، و " مستقيل " من استقاله البيع: أي طلب فسخه وأنشد الجاربردي هنا - وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائتين - (من الرجز) 225 - * مُنْسَرِحاً عَنْهُ ذَعَالِيبُ الْحَرَق * على أن صاحب الصحاح أنشده وقال: الذعاليب: قطع الخِرَق، واحدها ذُعْلُوب.
والبيت من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج تزيد على مائتي بيت، شبه ناقته في الجلادة وقطع الفيافي بسرعة بحمار الوحش وأُتُنِهِ، وقبله: أحْقبُ كَالْمحْلَجِ مِنْ طُولِ الْقَلَقْ * كَأنَّهُ إذْ رَاحَ مَسْلُوسُ الشَّمَقْ نُشِّرَ عَنْهُ أوْ أسِيرٌ قَدْ عَتَقْ * مُنْسَرِحاً عَنْهُ ذَعَالِيبُ الْحَرَقْ
والأحقب: حمار الوحش، والأنثى حقباء، والمِحْلَج: آلة الحلج، وهو تخليص الحبّ من القطن، وقال الاصمعي في شرحه: شبههه بالمِحْلج لصلابته، وينبغي أن يقال: لكثرة حركته واضطرابه، ومن طول القلق: وجه الشبه، وهو كناية عن عدم سكونه، والقلق: الاضطراب، وراح: نقيض غَدَا، يقال: سَرَحَتْ الماشية بالغداة، وراحت بالعشي: أي رجعت، والعامل في " إذ " ما في كأنَّ من معنى التشبيه، يصف رجوعه إلى مأواه " ومَسْلُوسُ " خبر كأنه، وهو من السُّلاس - بالضم - وهو ذهاب العقل، والشَّمَق: النشاط، وقيل:

(4/473)


مَرَح الجنون، ونُشِّر - بالبناء للمجهول بالتخفيف والتشديد -: أي رُقِيَ وَعُوِّذ، كما نشر عن المسحور فبرأ، والنشرة - بالضم -: الرقية والعُوذَة، وعَتَق: خلص من الأسر، يقول: كأن هذا الحمار الذي شبه ناقته به كالامن كثرة حركته فحين أراد الرجوع إلى مأواه نَشِطَ شوقاً إليه فكأنه مجنون نشاط، أو أسير صادف غِرَّة فتفلت من أسره، فهرب أشد الهرب، والمنسرح: الخارج من ثيابه، وهو حال من ضمير راح سببية، وذعاليب: فاعلها، وضمير عنه للأحقب، وهذا تمثيل، يريد أن هذا الحمار تساقط عنه وبره وشعره وهذا مما ينشِّطه، والرواية في ديوانه: * مُنْسَرِحاً إلاَّ ذَعَالِيبَ الْحَرَق * يعني أنه انسرح من وَبَره إلا بقايا بقيت عليه، والحرق - بالحاء والراء المهملتين المفتوحتين -: تحات الوبر، من قولهم: حَرِق شعره - من باب فرح -: أي تقطع ونسل، وضبطه بعضهم بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء، وليس له وجه هنا وإنما جعله كذلك اتباعاً لما شرحوا به الذعاليب.
وقد شرحنا منها أبياتاً كثيرة في الشاهد الخامس، وفي الشاهد الواحد والثلاثين
بعد الثمانمائة، من شرح شواهد شرح الكافية.
وأنشد أيضاً بعده - وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائتين -: (من البسيط) 226 - وَقَدْ أكُونُ عَلَى الحاجات ذالبث * وَأحْوَذِيّاً إذَا انْضَمَّ الذَّعَالِيبُ وقد شرحه وأغنانا عن شرحه (1)
__________
(1) البيت لجرير، واللبث: المكث، والاحوذي: الخفيف في العمل لحذقه (*)

(4/474)


وأنشد الشارح - وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائتين -: (من الكامل) 227 - فَتَرَكْنَ نَهْداً عُيّلاً أبْنَاؤُهَا * وَبَنِي كِنَانَة كَاللُّصُوتِ الْمُرَّدِ على أن أصله كاللصوص، فأبدلت الصاد تاء قال ابن السكيت في كتاب الإبدال: " قال الفراء: وطيّئ يسمون اللُّصُوصَ اللصوت، ويسمون اللص لِصْتاًَ، وهم الذين يقولون للطَّسِّ طَسْت، وأنشد لرجل من طي: * فَتَرَكْنَ نَهْداً * البيت " وقال أيضاً في كتاب المذكر والمؤنث: " وبعض أهل اليمن يقول: الطِّسْتُ، كما قالوا في اللص: لِصْتُ " ونسب الصاغاني في العباب هذا البيت إلى عبد الأسود بن عامر بن جُوَيْن الطائي قال ابن الحاجب في أماليه على المفصل: " معناه أن هؤلاء تركوا هذه القبيلة أبناؤها فُقَرَاء، لأنهم قتلوا آباءهم، وبنى كنانة كذلك، وانضم إلى ذلك أنهم بَقُوا من شدة الفقر لصوصا مردة " انتهى.
ونَهْدٌ: أبو قبيلة: من اليمن، وهو نهد بن زيد بن لَيْث بن سود بن قضاعة، ووقع في موضعين من جمهرة بن دريد " فتركن جَرْماً " بفتح الجيم، وَجَرْمٌ
بطنان في العرب: أحدهما في قضاعة، وهو جَرْمُ بن زَبَّان، والآخر في طي، وعُيَّل: جمع عائل، كرُكَّع جمع راكع، من عَالَ يَعِيلُ عِيْلَةً، إذا افتقر فهو عائل، وأبناؤها: فاعل عُيَّل، ومُرَّد: جمع مارد، من مَرَدَ يَمْرُد - من باب قتل - إذا عتا وخبث، ورواه ابن جني في سر الصناعة " فتركْتُ " بضمير المتكلم وعامر بن جُوَيْن: شاعر فارس جاهلي، وابنه مثله جاهلي
__________
(1) والذعاليب: أطراف الثياب، واحدها ذعلوب، وإذا انضمت أطراف الثياب كان ذلك أعون على النشاط (*)

(4/475)


وأنشد بعده - وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين -: (من الطويل) 228 - فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذِي إنْ تَوَسَّعَتْ * مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ الْمَصَادِر على أن أصله " إياك " فأبدلت الهمزة هاء وهذا الفصل كله من سر صناعة الإعراب لابن جني، وأطال الكلام في أمثلته إن شئت راجع باب الهاء منه والبيت أنشده أبو تمام في باب الأدب من الحماسة بحذف الفاء على أنه مخروم مع بيت ثان، وهو: فَمَا حَسَنٌ أنْ يَعْذِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ * وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ عَاذِرُ ونسبهما إلى مُضَرِّس بن رَبْعِي الفَقْعَسي، وإياك: منصوب على التحذير، والأمرَ: معطوف عليه، وعاملهما محذوف، تقديره: إياك باعد من الأمر، والامرَ منك، والمَوْرِد: المدخل، والْمَصْدَر: المصرف، وعَذَرْتُه فيما صنع عذراً - من باب ضرب -: رفعت عنه اللوم، والاسم الْعُذْر - بالضم - وجملة " وليس له " حال من المرء
ومُضَرِّس: شاعر جاهليّ قد ترجمناه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الثلاثمائة من شواهد شرح الكافية وأورده أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل لطُفَيْل الْغَنَوِيّ الجاهلي من جملة أبيات كذا: " فما لى كِرَامَ الْقَوْمِ وَانْمِ إلَى الْعُلَى * وَدَعْ مَنْ غَوَى لاَ يُجْدِيَنْ لَكَ طَائِرُهْ وَلاَ تَكُ مِنْ أخْدَانِ كُلِّ يَرَاعَةٍ * خَرِيعٍ كَسَقْبِ الباز جُوفٍ مَكَاسِرُهْ

(4/476)


وَإيَّاكَ وَالأَمْرُ الَّذِي إنْ تَرَاحَبَتْ * مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ مَصَادِرُهْ وَلاَ تَمْنَعَنَّ الدَّهْرَ مَاءً عَمَرْتَهُ * وَإنْ كَانَ أوْلَى النَّاسِ بِالْمَاءِ عَامِرُهْ وَإنْ قِيلَ قَوْلٌ سَيِّئٌ فِي مَقَامَةٍ * فَلاَ تَكُ مَوْلَى قَوْلِ سُوءٍ تُبَادِرُهْ " انتهى.
وأنشد بعده - وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائتين -: (من الكامل) 229 - وَأَتَتْ صَوَاحِبُهَا فَقُلْنَ هَذَا الَّذِي * مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا على أن أصله أذَا الذي، فأبدلت همزة الاستفهام هاء قال ابن جني في المحتسَب: " لا يريد هذا الذي، بل يريد أذا الذى، تم أبدل همزة الاستفهام هاء، وقد يجوز مع هذا أن يكون أراد هذا الذي مخبراً، ثم حذف الالف " انتهى.
فيكون حذفت الألف من هاء التنبيه المركبة مع ذا الإشارية، ويكون الكلام خبراً لا إنشاء والبيت مشهور: أنشده الجوهري في آخر الصحاح، وأنشده ابن جني في سر
الصناعة عن الأخفش، والزمخشري في المفصل، وغيرهم، وقائله مجهول، ويشبه أن يكن من شعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي، فإن في غالب شعره أن النساء يتعشقنه، وروي " وأتى صواحبها " فاعل جمع صاحبة، وزعم الجاربردي أنه مفعول، والفاعل ضمير، ويرده رواية " وأتت صَوَاحِبُهَا " وروي الأزهري في التهذيب عجزه كذا: * رامَ القَطِيعَةَ بَعْدَنَا وجفانا * والقطيعة: الهجر، ومنح: بمعنى أعطى، والله سبحانه أعلم بقائله:

(4/477)


وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الثلاثون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 230 - بحَيَّهَلاَ يُزْجُونَ كُلَّ مَطِيَّةٍ * أمَامَ الْمَطَايَا سَيْرُهَا المُتَقَاذِفُ على أن حَيَّهَلاَ جاء بالألف كما في البيت، وهو مركب من حَيَّ ومن هَلا، كتركيب خمسة عشرَ، وهو محكيّ أريد لفظه بدون تنوين قال الأعلم في شرح أبيات سيبويه: " الشاهد في قوله " بحَيَّهَلاَ " فتركه على لفظه محكيّاً، يقول: لعجلتهم يسوقون المطايا بقولهم: حَيَّهَلاَ، ومعناه الأمر بالعجلة، على أنها متقدمة في السير متقاذفة عليه: أي مترامية، وجعل التقاذف للسير اتساعاً ومجازاً " انتهى.
والإزجاء - بالزاي والجيم -: السوق، والمطية: الدابة، وأمامَ - بالفتح - قال ابن الحاجب في أماليه: " يريد أنهم مسرعون في السير يسوقون بهذا الصوت لتسرع في سيرها، وقال: أمام المطايا، لأنه إذا سبقت الأولى تبعها ما بعدها، بخلاف سَوْق الأواخر، وقال: سيرها المتقاذف، يعني أنهم يسوقونها مع كون سيرها متقاذفاً، والتقاذف: الترامي في السير، وإذا سيق المتقاذف كان سيره
أبلغ مما كان عليه، وأمام المطايا: في موضع وصف لمطية، وسيرها المتقاذف: جملة ابتدائية صفة لمطية، والجار والمجرور متعلق بِيُزْجُونَ " انتهى.
والأجود أن يكون سَيْرُهَا فاعل الظرف، لاعتماده على الموصوف، والمتقاذف صفة لسيرها، ويجوز ما قاله الجاربردي (1) وقد شرحناه بأكثر من هذا في الشاهد الثالث والستين بعد الأربعمائة من شواهد شرح الكافية وأما " حيهلا " في الحديث فقد قال ابن الأثير في النهاية: " من حديث ابن
__________
(1) ذكر الجاربردى أن " سيرها " مبتدأ، و " المتقاذف " صفته و " أمام المطايا " متعلق بمحذوف خبر، والجملة صفة لمطية (*)

(4/478)


مسعود (إذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلاَ بِعُمَرَ) أي: أقبل به وأسرع، وهي كلمتان جعلتا كلمة واحدة، فَحَيّ: بمعنى أقبل، وهَلاَ: بمعنى أسرع، وقيل: بمعنى اسكن عند ذكره حتى تنقضي فضائله " انتهى.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد والثلاثون بعد المائتين -: (من مشطور الرجز) 231 - قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمْكِنَهْ * من ها هنا وَمِنْ هُنَهْ * إنْ لَمْ أُرَوِّهَا فَمَهْ * على أن الأولى أن تكون الهاء في مَهْ بدلاً من الألف، وأن تكون دِعَامَةً لما الاستفهامية بعد حذف ألفها بدون جارّ على قلة، وهذا الوجه الثاني لم أره لأحد غيره، ولم يقل أحد إن " ما " الاستفهامية تحذف ألفها بلا جار، نعم قالوا: إن ألفها تثبت مع الجار، وخرّجوا على هذا آيات، وأما الوجه الأول فهو المعروف، وذكره ابن جني في شرح تصريف المازني وفي المحتسَب، وفي سر الصناعة، قال في المحتسب بعد إنشاد الأبيات: " يريد إن لم أرَوِّهَا فما أصنع؟ أو فما مغناي؟ أو فما مقداري؟ فحذف الألف وألحق الهاء لبيان الحركة " انتهى.
وقال في سر الصناعة: " أخبرنا بهذه الابيات بعض أصحبانا يرفعه بإسناده إلى قُطْرُب، ويريد بقوله: من هنه، من هنا، فأبدل الالف في الوقف هاء، فأما قوله: فمه، فالهاء فيه يحتمل تأولين: أحدهما أنه أراد فما: أي إن لم أرَوِّ هذه الإبل الواردة من هنا ومن هنا، فما أصنع؟ منكراً على نفسه أن لا يرويها، فحذف الفعل الناصب لما التي في معنى الاستفهام، والوجه الآخر أن يكون أراد إن لم أُرَوِّها فمه: أي فاكفف عنى فلست بشئ ينتفع به، وكأن التفسير الأول أقوى في نفسي " انتهى.
وقوله " قد وردت " أي: الابل، والورد: الوصول إلى الماء من غير دخول

(4/479)


فيه، وقد يكون دخولاً، وأمْكِنَه: جمع مكان، ومن ها هنا - إلى إلى آخره: بدل من امكنه، وروي " إن لم تُرَوِّها بالخطاب " وأنشد بعده: (من الرجز) لَمَّا رأى أن لا دعه ولا شبع * مال إلى أرطاة حقف فالْطَجَعْ على أن أصله اضطجع، فأبدلت الضاد لاما، قال ابن جني في المحتسب: " إن قيل: قد أحطنا علماً بأن أصل هذا الحرف اضتجع، افتعل من الضَّجْعَة، فلما جاءت الضاد قبل تاء افتعل أبدلت لها التاء طاء فهلا لما زالت الضاد فصارت بإبدالها إلى اللام رُدَّت التاء فقيل: التجع كما تقول: التجم والتجأ، قلنا: هذا إبدال عرض للضاد في بعض اللغات، فلما كان أمراً عارضاً أقَرُّوا الطاء بحالها إيذاناً بقلة الْحَفْل بما عرض من البدل، ودلالةً على الأصل المعتمد، وله غير نظير، ألا ترى إلى قوله * وكَحَّل الْعَيْنَيْنِ بالعواور * وكيف صحح الواو الثانية وإن كان قبلها الواو الأولى وبينهما ألف، وقد جاورت الثانية الطرف، ولم يقلبها كما قلبها في أوائل، وأصلها أواول، لما ذكرنا؟ إذ كان الأصل العواوير، وإنما حذفت الياء
تخفيفاً وهي مرادة، فجعل تصحيح الواو دليلاً على إرادة الياء، وقد حكي إدغام الضاد في الطاء في قولهم في اضطجع: اطَّجَعَ، ومنه قراءة ابن مُحَيْصن (ثُمَّ أطَّرُّه) هذه لغة مَرْذُولة، لما فيها من الامتداد والفُشُو، وأنها من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي: الشين، والضاد، والراء، والفاء، والميم، ويجمعها قولهم: ضُمَّ شَفْر، ويروى " فاضْطَجَعَ " وهو الأكثر والأقيس وقد تقدم شرح هذا الرجز في الشاهد الثالث والثلاثين بعد المائة من هذا الكتاب وأنشد الجاربردى - وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين -: (من البسيط)

(4/480)


232 - وقفت فيها أصيلا لا أُسَائِلُهَا * أعْيَتْ جَوَاباً وَمَا بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ على أن أصله أصيلان، فأبدلت النون لاماً، وأصيلان: مصغرُ جمعِ أصيل والبيت من قصيدة للنابغة الذبيانى، وقبله وهو مطلع القصيدة: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ * أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَبَدِ والمطلع شرحناه في الشاهد التاسع والثمانين بعد الثمانمائة، وشرحنا الثاني في الشاهد الثاني والسبعين بعد المائتين، وقد ذكرنا سبب القصيدة مع شرح أبيات من أولها في الشاهد السابع والأربعين بعد المائتين من شواهد شرح الكافية، وقد شرحت هذه القصيدة جميعها في مواضع متعددة هناك وأنشد بعده - وهو الشاهد الثالث بعد المائتين -: (من الوافر) 233 - فَقُلْتُ لِصَاحِبي لا تَحْبِسَانَا * بِنَزْعِ أصُولِهِ وَاجْدَزَّ شِيحَا على أن أصله اجْتَزَّ، فقلبت تاء الافتعال دالاً والبيت من أبيات للمُضرِّس بن رِبْعِيّ الفقعسيّ الأسديّ، وهي
وَضَيْفٍ جَاءَنَا وَاللَّيْلُ دَاج * وَرِيحُ القُرِّ تَحْفِزُ مِنْهُ رُوحَا فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي فِي يَعْمَلاَتٍ * خِفَافِ الْوَطْءِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا فَعَضَّ بِسَاقِ دَوْسَرَة عَلَيْهَا * عتِيقُ النَّيِّ لَمْ تَحْفِزُ لَقُوحَا وَقُلْتُ لِصَاحِبِي لاَ تَحْبِسَنِّي * بِنَزْعِ أصْولِهِ وَاجْدَزَّ شِيحَا فَلَمَّا أنْ تَعَجَّلْنَا شَوَاءً * قَلِيلَ النُّضْجِ لَكِنْ قَدْ أُلِيحَا خَلَطْتُ لَهُمْ مُدَامَةَ أذْرِعَاتٍ * بِمَاءِ سَحَابَةٍ خَضِلاً نَضُوحَا

(4/481)


وفتيان شويت لهم شواء * سريع الشَّيِّ كُنْتُ بِهِ نَجِيحَا قوله " وضيف - الخ " الواو واورب، وجملة " جاءنا " صفةُ مجرورِها، وجملة " والليل داج " أي: مظلم، حال، وكذلك جملة " وريح القر - إلخ " والقر - بالضم -: الْبَرْد، وتحفز - بالحاء المهملة والفاء والزاي -: تدفع، كأنه لضعفه تدفع رُوحَه ريحُ الْقُر وتنازعها، وجواب رُبَّ محذوف: أي تَلَقَّيْته بإكرام، وجملة " فَطِرْت " أي أسرعت، معطوفة على الجواب المحذوف، والْمنْصُل - بضم الميم والصاد المهملة -: السيف، وَالْيَعْمَلَة: الناقة القوية على العمل، وخِفَاف: جمع خفيفة، وأنشد سيبويه هذا البيت في موضعين من كتابه كذا: * دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا * على أن الشاعر حذف الياء من الأيْدِي لضرورة الشعر، والسريح: سيور نعال الإبل، ويخبطن السريح: يطأن بأخفافهن الأرض، وفي الأخفاف السريح، والدوامي: التي قد دميت من شدة السير ووطئها على الحجارة، وقيل: السريح خِرَقٌ تُلَفُّ بها أيدي الجمال إذا دَمِيت وأصابها وجع، وقوله " بمُنْصُلي " في موضع الحال من التاء: أي أسرعت ومعي سيفي، وأقبلت على اليَعْمَلات فعرقبت ناقة منها وأطعمت لحمها لضيفي، يريد أنها نحر لضيفه راحلةً من رواحله وهو مسافر،
وقوله " فَعَضَّ " فاعله ضمير المنصل، والد وسرة: الناقة الضخمة، والجمل دَوْسر، وجملة " عليها عتيق النَّيِّ " صفة لدَوْسَرة، والنى - بفتح النون -: الشحم، والعتيق: القديم، يريد أنها سمينة، وفاعل تحفز ضمير الدَّوْسَرة، ولَقُوحاً: حال، واللَّقُوح: الْحَلُوب: أي لم تكن الدوسرة قريبة العهد بالنِّتَاج فتكون ضعيفة، وقوله " وقلت لصاحبي " أراد بالصاحب من يَحْتَطِب له، بدليل رواية " وقلت لحاطبي " وقوله " لا تحبسانا " يأتي توجيهه، وروي " لا تحبسني " هذا ظاهر، وقوله " بنزع أصوله " الباء سببية، وروي بدل الباء باللام التعليلية، والضمير في

(4/482)


" أصوله " راجع إلى الحطب المفهوم من حاطبي، والجز: القطع، وأصله في الصوف، يقول: لا تقلع أصول الحطب وعروقه واكْتَفِ بقطع الشيخ فهو أسل وأسرع، وأليج: من قولهم: ألحت الشئ بالنار - ولوحته: أي أحميته بها، والمدامة: الخمر، وأجودها عندهم خمر أذْرِعَات، وهي قرية بالشام، والخضل: الشئ الرَّطْب، وأراد مَزْجَها بالماء، والنَّضْح: الشرب دون الري، والنضوح من قولهم: نَضَحَ عَطَشَه ينضَحه: أي أزاله، وضمير " كنت به " للشئ: أي كنت بشيئ لهم، ويجوز أن يريد كنت بعملي، لأن الذي ذكره عمل، والنجيح: الْمٌنْجح.
وما ذكرناه من الشعر وقائله روايةُ الخالدَّيْين، ونسب الجوهري البيت الشاهد ليزيد بن الطثرية، ورواه كذا عن الكسائي في مادة (ج ز ز) : فقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تَحْبِسَانَا * بِنَزْعِ أصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا قال: ويروى " وأجد شيحاً " وقوله " لا تحبسانا " فإن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين، كما قال الراجز: (من الطويل) فإن تزجراني يا ابن عَفَّانَ أنْزَجِرْ * وَإنْ تَدَعَانِي أحْم عِرْصاً مُمَنَّعَا " انتهى.
قال ياقوت فيما كتبه على الصحاح: " هذا البيت الذي عزاه إلى يزيد ابن الطثرية وجدته لمُضَرِّس بن رِبْعِيّ الفقعسي، وعِوَض صاحبي " فقلت لحاطبي " قرأت بخط الخلال أبي الغنائم، وذكر أنه نقله من خط اليزيدي " انتهى.
قلت: ولا ينبغي أن يقول: قال الراجز: بل يقول: قال الشاعر، لأن البيت الثاني ليس من الرجز.
وقال ابن بري في أمالية على الصحاح: البيت إنما هو لمضرس ابن رِبْعي الأسدي، وليس هو ليزيد كما ذكره عن الكسائي، وقبله: وفتيان شويت لهم شواءا * سَرِيعَ الشَّيِّ كُنْتُ بِهِ نَجِيحَا

(4/483)


فَطِرْتُ بِمُنْصَلِي في يَعْمَلاَتٍ * دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا وَقُلْتُ لِصَاحِبِي لا تحسبنا كذا في شعره، يقول: لا تحبسنا عن شى اللحم بأن تقلع أصول الشجر، بل خذ ما تيسر من قضبانه وعيدانه وأسرع لنا في الشئ، وقوله " وإن تزجراني ... البيت " هو لسُوَيْد بن كُرَاع الْعُكْلي، وكان سُوَيْد قد هجا به عبد الله بن دارم فاسْتَعْدَوا عليه سعيد بن عثمان فأراد ضربه، فقال سويد قصيدة أولها: تَقُولُ ابْنَةُ الْعُوفِيِّ في لَيْلَى ألاَ تَرَى * إلى ابْنِ كُراعٍ لاَ يزال مقزعا مَخَافَةَ هَذَيْنِ الأَمِيرَيْنِ سَهَّدَتْ * رُقَادِي وغشتني بيضا مُفَرَّعَا وهذا يدل على أنه خاطب اثنين سعيد بن عثمان ومن ينوب عنه أو من يحضر معه، ثم قال بعد أبيات: فإن أنتما أحكمتنمانى فَازْجُرَا * أرَاهِطَ تُؤْذِينِي مِنَ النَّاسِ رُضِّعَا وَإنْ تزجراني يا ابن عَفَّانَ أنْزَجِرْ * ... البيت فقوله " فإن أنتما أحكمتانى " دليل على أنه يخاطب اثنين، وقوله
" أحكمتماني " أي منعتماني من هجائه، وأصله من أحْكَمْتُ الدابة، إذا جعلت في فيها حَكَمَةَ اللجام، وقوله " وإن تَدَعَانِي " أي: إن تركتماني حميت عرضي ممن يؤذيني، وإن زجرتماني انزجرت وصبرت، وَالرُّضْع: جمع راضع، وهو اللئيم، هذا آخر كلام ابن بري: وأنشد بعده: (من الرجز) * لاَ هُمَّ إنْ كُنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتجْ * وتقدم شرحه في الشاهد السادس بعد المائة

(4/484)


وأنشد بعده - وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائتين -: (من الرجز) 234 - كَأنَّ في أذْنَابِهِنَّ الشُّوَّلِ * مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرُونَ الأَجَّلِ على أن أصله الأيَّل فأبدلت الياء المشددة جيماً للوقف، كما في المفصل قال ابن السكيت في كتاب الإبدال: " بعض العرب إذا شَدَّد الياء جعلها جيما، وأنشد عن ابن الأعرابي * كَأَنَّ فِي أذْنَابِهِنَّ * إلخ " انتهى.
ونقله ابن جني في سر الصناعة، ولم يقيداه بالوقف والبيتان من أرجوزة طويلة لأبي النجم العِجْلي وصف فيها الابل لهشام ابن عبد الملك، أولها: * الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَهُوبِ الْمُجْزِلِ * والضمير في " أذنابهن " للإبل، والشُّوّل: جمع شائل بلا هاء، وهي الناقة التي تشول بذنبها للقاح، ولا لبن بها أصلاً، وأما الشائلة فجمعها شَوْلٌ - بفتح فسكون - وهي النوق التي جَفَّتْ ألبانها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، والْعَبَس - بفتحتين -: ما يتعلق في أذناب الإبل من أبعارها وأبوالها
فيجف عليها، يقال منه: أعْبَسَت وعَبِسَ الوسخ في يد فلان: أي يَبِسَ، وخص العبس بالصيف لانه يكون أقوى وأصلب، فشبهه بقرون الإيَّل لأنها أصلب من قرون غيرها، والأُيَّل - بضم الهمزة وكسرها -: الذكر من الاوعال، وأنشد أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي قبلهما: * حَتَّى إذَا مَا بُلْنَ مِثْلَ الْخَرْدَلِ * وأنشد بعدهما: * ظَلَّتْ بِنِيْرَانِ الْحُرُوبِ تَصْطَلِي * وقال: إذا كلت اليبس خثرت أبو الهن فتراها تتلزق بأسوقهن كالخْطَمِي

(4/485)


والخردل، فإذا ضرَبْنَ بأذنابها على أعجازها وهي رطبة من أموالها ثم بركت اجتمع الشَّعَر وتلصَّق وقام قياماً كأنه قرون الأُيَّل.
قال ابن المستوفي: إنما اختص إبدال الجيم من الياء المشددة في الوقف، لأن الياء تزداد خَفَاء في الوقف لسكونها، فأبدلوا منها حرفاً أظهر منها، وهو الجيم، لقربهما في المخرَج، واجتماعهما في الجهر، ومتى خرج هذا الإبدال عن هذين الشرطين، وهما الياء المشددة والوقف، عدوه شاذاً.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين -: (من الرجز) 235 - * حتى إذا ما أمسجت وأمسحا * على أن أصله أمْسَيَتْ وأمْسَى، فأبدلت الياء فيهما جيماً.
قال ابن جني في سر الصناعة: " هذا من أحد ما يدل على ما ندعيه من أن أصل رَمَتْ رَمَيَت، ألا ترى انه لما أبدل الياء من أمْسَيَتْ جيماً، والجيم حرف صحيح يحتمل الحركات ولا يلحقه الانقلاب الذي يلحق الياء والواو، صحَّحَها كما يجب في الجيم، فبهذا ونحوه استدل أهل التصريف على أصول
الأشياء المغيَّرة، كما استدلوا بقوله عزّ اسمه: (استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان) أن أصل اسْتَقَامَ اسْتَقْوَمَ، ولولا ما ظهر من هذا ونحوه لما أقدموا على القضاء بأصول هذه الأشياء، أو لما جاز ادعاؤهم إياها " انتهى.
وقال ابن المستوفي: " وأورد الزمخشري الأُجَّل، لأن الإبدال فيه وقع حَشْواً في كلمة وهو أشد شذوذاً من الأول، وأشد منه بعدا إبدال الجيم من الياء في أمْسَجَتْ وأمْسَجَا: أبدلها حَشْواً وأجرى الوصل مجرى الوقف متوهِّماً أنها ملفوظ بها ياء، لأن أصل الألف فيها الياء " انتهى.
وقال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي: قيل: " إن هذا الشطر للعجاج،

(4/486)


يريد أمْسَتْ الأُتُن وأمْسَى الْعَيْرُ، وقيل: أراد أمْسَتِ النعامة وأمْسَى الظلِيم، ولم أعرف له صلة فأتبين الصحيح من ذلك " انتهى.
ولم أقف أنا أيضاً على تتمة هذا الرجز وقائله بشئ، والله تعالى أعلم: باب الإدغام أنشد الجاربردي في أوله - وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائتين -: (من الرجز) 236 - وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرِ * وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ على أن هذا البيت لثقله بقرب مخارج حروفه لا يكاد يقوله أحد ثلاثَ مرات.
قال الزمخشري في ربيع الأبرار: " يزعمون أن علقمة بن صفوان وحرب بن أمية من فتلى الجن، قالوا: وقالت الجن: * وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرِ * إلخ قالوا: ومن الدليل على أن هذا من شعر الجن أن أحداً لا يقدر أن ينشد ثلاث مرات متصلة من غير تَتَعْتُع ويقدر على تكرار أشق بيت من أبيات
الأنس عشر مرات من غير تتعتع، والله أعلم " انتهى.
وكذا قال الجاحظ في كتاب البيان، وفي شرح تلخيص المفتاح للقُونَويّ: " وفي البيت الأقواء، وهو من عيوب الشعر، وإنما قلنا فيه الإقواء، لأن البيت مصرع، وكل واحد من المصراعيين فيه كبيت كامل " هذا كلامه.
وقال بعضهم: قَفْر: مرفوع على تقدير: هو قفر، ويكون من القطع في النكرة بقلة، والقفر: المفازة وأرض لا نبات فيها ولا ماء، وحرب: هو جد معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه.
وأنشد بعده أيضا - وهو الشاهد السابع والثلاثون بعد المائتين -: (من الطويل)

(4/487)


237 - يُذَكِّرُنِيكَ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ والَّذِي * أخَافُ وأرْجُو والَّذي أتَوَقَّعْ على أن هذا البيت خفيفٌ على اللسان لبعد مخارج حروفه.
والبيت أورده أبو تمام في الحماسة مع بيت قبله في باب النسيب، وهو: رَعَاكِ ضَمَانُ الله يَا أمَّ مَالِكٍ * وَلِلَّهُ أنْ يُشْفِيكِ أغْنَى وأوْسَعُ ووقع مثله في شعر مسلم بن الوليد، قال: وإنِّي وإسْمَاعِيلَ يَوْمَ وَدَاعِهِ * لَكَالْغِمْدِ يَوْمَ الرَّوْعِ فَارَقَهُ النَّصْلُ أمَا وَالْخَيَالاَتِ المُمِرَّاتِ بَيْنَنَا * وَسَائِلَ أدَّتْهَا الْمَوَدَّةُ وَالْوَصْلُ لَمَا خُنْتُ عَهْداً مِنْ إخَاءٍ ولا نَأَى * بذِكْرِكِ نَأْيٌ عَنْ ضَمِيرِي ولا شُغْلُ وإنِّيَ فِي مَالِي وأهْلِي كَأَنَّنِي * لِنَأْيِكِ لاَ مَالٌ لَدَيَّ ولاَ أهْلُ يُذَكرُنِيكَ الدِّينُ والْفَضْلُ والْحِجَى * وقِيلُ الْخَنَى والْعِلْمُ والْحِلْمُ والْجَهْلُ فَأَلْقَاكَ فِي مَذْمُومِهَا مُتَنَزِّهاً * وأَلْقَاكَ فِي مَحْمُودِهَا وَلَكَ الْفَضْلُ وأحْمَدُ مِنْ أخْلاَقِكَ الْبُخْلَ إنَّهُ * بِعِرْضِكَ لاَ بِالْمَالِ حَاشَا لَكَ الْبُخْلُ
ثَنَاءٌ كَعَرْف الطَّيبِ يُهْدَى لأَهْلِهِ * ولَيْسَ لَهُ إلاَّ بَنِي خَالدٍ أهْلُ فَإنْ أغْشَ قَوْماً بَعْدَهُمْ أوْ أزُورَهُمْ * فَكَالْوَحْشِ يَسْتَدْنِيهِ لِلْقَنْصِ الْمَحْلُ وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائتين، وهو من شوهد سيبويه -: (من البسيط) 238 - لاَ دَرَّ دَرِّي إن أطعمت نازلهم * قرف الحثى وعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ

(4/488)


لَوْ أَنَّهُ جَاءَنِي جَوْعَانُ مُهْتَلِكٍ * مِنْ بُؤْسِ النَّاسِ عَنْهُ الْخَيْرُ مَحْجُوزُ على أن بُؤساً فيه الإدغام للهمزتين، وهو جمع بائس، وهو الفقير، والرواية إنما هي " من جُوَّعِ الناس عنه الخير محجوز ".
والبيتان أول قصيدة لأبي ذؤيب الهذلى، والاولى من شواهد سيبويه، قال الأعلم: الشاهد رفع مكنوز خبراً عن البُر، على إلغاء الظرف، ولو نصب على الحال لكان حسناً، قال السُّكَّرِيّ في أشعاره: قال أبو نصر: ويقال إنها للمتنخل الهذلي، وجواب لو بعد أبيات أربعة، وهو: لَبَاتَ أسْوة حَجَّاج وإخوَتِهِ * فِي جَهْدِنَا أوْلَه شِفٌّ وتَمْزِيزٌ قال شارح أشعار الهذليين: كان نزل بقوم فجُفِي، وكان قراه عندهم الْحَتِيُّ وهو سويق الْمُقْل، والحتي - بالحاء المهملة بعدها المثناة الفوقية على وزن فعيل - والمقل - بالضم -: ثمر الدَّوْم، والْقِرف - بكسر القاف وسكون الراء بعدها فاء -: القشر، يقول: إن أطعمت نازلهم مثل ما أطعموني فلا درَّ دَرِّي، وقوله " لو أنه جاءني جوعان - إلخ " ضمير أنه للشأن وجَوْعان - بفتح الجيم - بمعنى الجائع فاعل جاءني، وروي " جَوْعَانَ مهتلكاً " بنصبهما على الحالية،
فتكون الهاء في " أنه " ضمير نازلهم، والمحجوز: المحروم والممنوع، ومن: بيانية، وعن: متعلقة بمحجوز، وحجاج: ابن الشاعر، والجهد - بفتح الجيم وضمها -: القوت، وأصل معناه الطاقة، وقيل: الضر الذي قد أصابه، وأصل معناه المشقة، والشفِّ - بالكسر -: الفضل، وتمزيز: تفضيل من المِز - بالكسر - أي: يكون له مزَّ على أولادي، يقال: هذا أمَزُّ من هذا: أي أفضل، وكذلك أشَفَّ، يقول: لو نزل بي مثل هذا ما قَصَّرت به ولا أطعمته قشر المُقْل، بل بات عندنا أسوة أولادي، بل كان متميزاً عنهم بزيادة الإكرام.

(4/489)


وأنشد الشارح - وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 239 - مَهْلاً أعاذل قد جربت من خلقي * أني أجُودُ لأَقْوَامٍ وإنْ ضَنِنُوا على أن " ضننوا " شاذ للضرورة، والقياس ضَنُّوا بالإدغام، وأنشده سيبويه في موضعين من كتابه: الأول في باب ما يحتمل الشعر من أول كتابه، والثاني في باب اختلاف العرب في تحريك الآخر من أواخر كتابه، قال فيه: " واعلم أن الشعراء إذا اضطروا إلى ما يجتمع أهل الحجاز وغيرهم على إدغامه أجْرَوْه على الأصل، قال قَعْنَب ابن أم صاحب: * مَهْلاَ أعَاذِلُ ... البيت " وقال آخر: * يَشْكُو الْوَجَا مِنْ أظْلَلٍ وَأظْلَلِ * " انتهى.
قال ابن خلف: مَهْلاً منصوب بإضمار فعل، كأنه قال أمهلي يا عاذلتي ولا تبادري باللوم، ومهلاً: في موضع إمهالاً، وعاذل: منادى مرخم عاذلة، أراد يا عاذلة قد جربت من خلقي أني أجود على من بخل عليّ وأعطي من لا ألتمس
منه المكافأة، وإن ضنوا شرط محذوف الجواب، كأنه قال: وإن ضنوا لم أضن، وصف أنه جَوَاد لا يصرفه الْعَذْل عن الجود.
وقَعْنَب بفتح القاف وسكون العين المهملة وفتح النون، ومعناه في اللغة الشديد الصلب من كل شئ، وهو غطفاني.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الأربعون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الرجز)

(4/490)


240 - * تَشْكُو الْوَجَى مِنْ أظْلل وأظْلَلِ * على أنه شاذ ضرورة، والقياس أظلّ بالإدغام قال الأعلم: " الشاهد فيه إظهار التضعيف في الأظلّ ضرورة، وهو باطن خف البعير، والوجى: الْحَفَى، يعني أنه حمل عليه في السير حتى اشتكى خفيه " انتهى وبعده: * مِنْ طُولِ إمْلاَلٍ وظَهْرِ ملل * وتشكو بالمثناة الفوقية، وفاعله ضمير الإبل، والوجى بالجيم، قال الزجاج: مَلَّ عليه السفر وأمَلَّ، إذا طال عليه، والمراد بالإملال السفر، أو أنه من أمَلَّه وأملَّ عليه: أي أسامه، ومُمَلَل: شاذ أيضاً، والقياس مُمَلٌّ، بالإدغام والبيتان من رجز طويل لأبي النجم العِجْليّ وصف فيه الإبل لهشام بن عبد الملك وأوله: * الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الأَجْلَلِ * وهذا أيضاً ضرورة، والقياس الأجل.
وأنشد بعده - وهو الشاهد الواحد والأربعون بعد المائتين -: (من الطويل)
241 - لَهَا بَشَرٌ مِثْلُ الْحَرِيرِ وَمَنْطِقٌ * رخيم الحواشي لا هراء ولا نَزْرُ على أن الرَّخيم الصوتُ اللَّيِّن، والترخيم: تَلْيِينُ الصَّوْت والبيت من قصيدة لذي الرُّمَّة نَسَب فيها بِمَيَّة محبوبته وَبَشَرَةُ الإنسان - بالتحريك -: ظَاهِرُ بدنه، والجمع بَشَر، ويقال: فلان رقيق البشرة والبشر، بمعنى واحد، والمنطق: اسم مصدر بمعنى النطق، والرخيم:

(4/491)


الناعم اللين، والهراء - بالضم والمد - قال أبو عبيد في الغريب المصنف: هو المنطق الفاسد، ويقال: الكثير، وأنشد البيت، والنَّزْر: القليل، قال ابن جني في المحتسب: " وما أظرف قوله: رخيم الحواشي: أي لا ينتشر حواشيه فَتَهْرَأُ فيه، ولا يضيق عما يحتاج من مثلها إليه للسماع والْفُكاهة، لكنه على اعتدال " انتهى.
ومثله للسيد المرتضى في أماليه قال: الهراء الكثير، فكأنه قال إن حديثها لا يقلّ عن الحاجة ولا يزيد عليها " انتهى.
وقال ابن السيرافي " وصفها باعتدال الخِلْقَة والأخلاق " وأنشد بعده - وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين -: (من البسيط) 242 - واذْكُرْ غُدَانَةَ عِدَّاناً مُزَنَّمَةً * مِنَ الْحَبَلَّقِ تُبْنَى حَوْلَهَا الصِّيَرُ على أن عدانا عِتْدَان، فأبدلت التاء دَالاً فأدغم وهو جمع عَتُود، وهو الْجَذَعُ من الْمِعْزَى، وهو ما رعيَ وقوِي وأتى عليه حَوْل، وَالْحَبَلَّق - بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة واللام المشددة -: أولاد المعز الصغار الأجسام القصار، وغُدَانة - بضم الغين المعجمة -: أبو قبيلة من تميم، وهو غُدانة بن يربوع، يريد واذكر لغدانة: أي لهذه القبيلة أولادَ المعز، فإنها رعاة ليس
لها ذِكْر ولا شرف، والْمُزَنَّمة: التي لها زَنَمَة، والزَّنَمَة - بالتحريك -: شئ يقطع من أذن البعير والمعز فيترك مُعَلَّقاً، والضأن لا زنمة لها، وضمير " حولها " للعِدّان، وتبنى - بالبناء للمفعول -: من البناء: والصير - بكسر ففتح -: جمع صيرة، قال الجوهرى: الصيرة حضيرة الغنم، وجمعها صير مثل سيرة، وأنشد هذا البيت وهو من قصيدة طويلة للأخطل النصراني مدح بها عبد الملك بن مروان وذكر فيها قتل عُمَيْر بن الْحُبَاب، وكان قد خرج على عبد الملك، ويغريه بقتل زُفُر بن الحارث الكلابي ثم تدرج لهجو قبائل قيس عَيْلاَن لكونهم كانوا مع

(4/492)


ابن الْحُبَاب وزُفَرَ بن الحارث، وهذه أبيات منها: أَمَّا كُلَيْبُ بْن يَرْبُوعٍ فَلَيْسَ لَهُمْ * عِنْدَ الْمَكَارِمِ لا وِرْدٌ وَلاَ صَدَرُ مُخَلَّفُون وَيَقْضِي النَّاسُ أمْرَهُمُ * وهُمْ بِغَيْبٍ وفِي عَمْيَاءَ مَا شَعَرُوا مُلَطَّمُونَ بِأَعْقَارِ الْحِيَاضِ فَمَا * يَنْفَكُّ مِنْ دَارِمَيٍّ فِيهِمُ أثَرُ الآكِلُونَ خَبيثَ الزَّادِ وَحْدَهُمُ * وَالسَّائِلُونَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مَا الْخَبَرُ واذْكُرْ غُدَانَةَ عدانا مزنمة * من الحبلق تبنى حولها الصير وما غدانة في شئ مَكَانَهُمْ * الْحَابِسُو الشَّاءِ حَتَّى تَفْضُلَ السُّؤَرُ جمع سُؤْر، وهو الْفَضْلة قَدْ أقْسَمَ الْمَجْدُ حَقّاً لاَ يحالفهم * حَتَّى يُحَالِفَ بَطْنَ الرَّاحَةِ الشَّعَرُ وأنشد بعده، وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من البسيط) 243 - هُوَ الْجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيكَ نَائِلَهُ * عَفْواً وَيُظْلَمُ أحْيَاناً فَيَظْطَلِمُ على أنه جاء بالأوجه الثلاثة، وهو ترك الإدغام والإدغام على الوجهين بالظاء
والطاء.
وقال ابن جني في سر الصناعة: " روي على أربعة أوجه هذه الثلاثة، والرابعة فينظلم، وهذه ينفعل " وأورد سيبويه على الإدغام بالوجهين، قال الأعلم: " الشاهد فيه قلب الطاء من يظطلم ظاء معجمة، لما أرادوا إدغام الطاء فيها، والظاء أصلية، والطاء مبدلة من تاء الافتعال الزائدة، فلما أرادوا الإدغام قلبوا الأصلي ليدغم فيه

(4/493)


الزائد، والأقيس الأكثر فيَطَّلِمُ - بطاء غير معجمة - لأن حكم الإدغام أن يدغم الأول في الثاني، ولا يراعى فيه أصل ولا زيادة، والبيت يقوله لهَرِم بن سنان المري، ومعنى يُظْلم يُسْأل في حال عسرته ويكلف ما ليس في وسعه أي: فيَظَّلِم: أي يتحمل ذلك ويتكلفه "، انتهى.
والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى، مدح بها هر ما المذكور، وأولها: قِفْ بِالدِّيَارِ الَّتِي لَمْ يَعْفُها الْقِدَمُ * بَلَى وَغَيَّرَهَا الأَرْوَاحُ وَالدِّيَمُ والنائل: الإحسان، والعفو: ما كان سهلاً من غير مَطْلٍ، ومعنى " ويُظْلَم أحياناً - إلخ " أنه يُطلب منه في غير وقت الطلب ولا موضعه فَيُعْطى، جعل السؤال منه في وقت السؤال ظلماً، وجعل إعطاءَهُ ما سئل على تلك الحال وتكلًُّفَه لذلك أظَّلاماً وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائتين، وهو من شواهد سيبويه -: (من الطويل) 244 - وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطَّ بِنِعْمَةٍ * فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ على أن أصله خَبَطْتٍّ، فَقَلب وأدغم
قال سيبويه: " وسمعناهم ينشدون هذا البيت لعلمقة بن عَبَدَة * وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطَّ - إلخ * وأعْرَفُ اللغتين وأجودهما أن لا تقلبها طاء، لأن هذه التاء علامة الإضمار، وإنما تجئ لمعنى، وليست تلزم هذه التاء الفعل، ألا ترى أنك إذا أضمرت غائبا قلت فعلت؟ فلم تكن فيه تاء ... إلى آخر ما ذكره "

(4/494)


قال الأعلم: " الشاهد فيه إبدال التاء من خبطت طاء لمجاورتها الطاء ومناسبتها في الجهر والإطباق، فأراد أن يكون العمل من وجه واحد، وأن يكون الحرفان في الطبع وجهارة الصوت كحرف واحد، وهَذا البدل يطرد في تاء مُفْتَعِل إذا وقعت بعد الطاء، كقولك مُطَّلب في مفتعل من الطَّلَب، ولا يطرد في مثل خَبَطْتَ، لأن الفعل يكون لغير المخاطب والمتكلم، فلا تقع من التاء في آخره، فلم تلزمه لزوم التاء الطاء في مُفْتَعِل، يقول: هذا للحارث بن أبي شِمْر الغسّاني، وكان قد أوقع ببني تميم وأسر منهم تسعين رجلاً فيهم شأس بن عَبَدَة أخو عَلقَمَة بن عَبَدَةَ فوفد عليه علقمةُ مادحاً له وراغباً في أخيه فلما أنشده القصيدة وانتهى منها إلى هذا البيت قال له الحارث: نعم، وإذْنِبَةٌ، والذَّنوب: الدَّلْو مَلأَى، فضربت مثلا في القسمة والحظ ومعنى خَبَطْت أسْدَيْت وأنعمت، وأصل الخبط ضرب الشجر بالعصا ليتحات ورقها فتعلفه الابل، فجعل ذلك مثل في العطاء، وجعل كل طالبٍ معروفاً مختبطاً، وكل مُعْطٍ خابطاً.
وبعد البيت: فَلاَ تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ * فَإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ الْقِبَابِ غَرِيبُ والجبابة: الغُربة، فحيره الحارث بين الحباء الجزل وإطلاق أسْرَى بني تميم، فقال له علقمة: عرضتني لالسن بني تميم، دعني يومي هذا حتى أنظر في أمري،
فأتاهم في السجن، فعرفهم تخيير الحارث له، فقالوا له: وَيْلَكَ! أتدعنا وتنصرف؟ قال: فإن الملك سيكسوكم ويحملكم ويزودكم، فإذا بلغتم الحي فلي الكسوة والحملان وبقية الزاد إن اخترت إطلاقكم؟ قالوا: نعم، فدخل من غده على الحارث وعرفه أنه قد اختار إطلاقهم على الحباء، فأطلقهم وكساهم وحملهم، فلما انتهوا إلى الحي وَفَوْا لعلقمة بما جعلوا له، وهذا البيت آخر أبيات كتاب سيبويه "، انتهى كلام الأعلم.

(4/495)


أقول: القصيدة التي منها البيت الشاهد مذكورة في المفضليات، وذكر ابن الأنباري في شرحها ما ذكره الأعلم، والبيت الذي أورده الأعلم ليس بعده، وإنما هو قبله بأبيات كثيرة، ومطلع القصيدة: طحابك قلب فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ * بُعَيْدَ الشَّبَابِ عصر خان مَشِيبُ ويعجبني منها قوله: فإنْ تَسْأَلُوني بِالنِّسَاءِ فَإنِّنِي * بَصيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ إذا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أوْ قَلَّ مَالُهُ * فَلَيْسَ لَهْ مِنْ وَدِّهِنَّ نَصِيبُ يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ * وَشَرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ وعلقمة بن عَبَدَة - بفتح العين والموحدة -: شاعر جاهلي من الفحول، وكان صديقاً لامرئ القيس، وقد ترجمناه في الشاهد الثاني عشر بعد المائتين من شرح أبيات شرح الكافية.
الحذف أنشد المصنف في المتن - وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائتين -: (من الطويل) 245 - تَقِ الله فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
على أن " تق أمر من يتقى بفتح المخففة، وماضيه تَقَى، وأصلهما اتَّقَى يَتَّقِي بالتشديد على افتعل يفتعل من الوقاية، والأصل اوتقى يوتقي، فقلبت الواو في الأولى ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت تاء وأدغمت وأبدلت في الثانية تاء، وأدغمت، ولم تحذف لعدم انكسار ما بعدها، فلما كثر الاستعمال

(4/496)


كذا حذفوا التاء الساكنة منهما، وهي فاء الفعل، فصارا: تَقَى يَتَقِي بتخفيف التاء المفتوحة، وحذفت الهمزة من الماضي لعدم الحاجة إليها فصار تَقَى، ووزنه تَعَلَ محذوفَ الفاء، فأخذ الأمر وهو تَقِ من يَتَقِ، بدون همزة وصل، لأن ما بعد حرف المضارعة مُحَرَّك.
وقول الجاربردي: قالوا تَقَى يَتَقِي كَرَمَى يَرْمِي يلزمه أن يقال في أمره: اتقِ، وفي اسم فاعله تَاقٍ، وغير ذلك، ولم يسمع شئ منها.
وقد بينا فيما كتبناه على البيت الأول من شرح بانت سعاد لابن هشام منشأ قوله هذا، وبسطنا الكلام عليه.
وهذا المصراع عجز وصدره: * زِيَادَتَنَا نُعْمَانُ لاَ تَنْسَيَنَّهَا * وهو من قصيدة لعبد الله بن همام السلولى خاطب بها النعمان بن بَشير الأنصاري، وكان أميراً على الكوفة في مدة معاوية رضي الله عنه، وكان معاوية قد زاد ناساً في عَطَائهم عَشَرَةً، فأنفذها النعمان، وترك بعضهم، لانهم جاءوا بكتب بعد ما فرغ من الجملة، وكان ابن همام ممن تخلف، فكلمه، فأبى عليه، فقال ابن همام هذه القصيدة يُرَقَّقه عليه، ويتشفع بالأنصار، ويمدح معاوية رضي الله عنه، وقد أوردنا أبياتاً منها هناك وشرحناها.
وقوله " زيادتنا " منصوب بفعل محذوف يفسره الفعل المؤكد بالنون، قال
الرضى: إن الفعل المؤكد بالنون لا يعمل فيما قبله، وروي " لا تحرمَنَّنا " بدل لا تنسينها، ونُعْمان: منادى، وهو النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي، ولد قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثماني سنين، وحدث حديثين أو ثلاثة، وكان أميراً على الكوفة لمعاوية تسعة أشهر تم صار أميراً على حِمْص له، ثم ليزيد، فلما مات يزيد صار النعمان زُبَيْريا، فخالفه أهل حمص، فأخرحوه وقتلوه، كذا في الاستيعاب

(4/497)


وأنشد الجاربردي - وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائتين - (من الطويل) 246 - غَدَاةَ طَفَتْ عَلْماءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ * وَعَاجَتْ صُدُورُ الْخَيْلِ شَطْرَ تمِيمِ على أن أصله " على الماء " كما بَيَّنه.
قال المبرد في الكامل: يريد على الماء، والعرب إذا التقت في مثل هذا اللامان استجازوا حذف إحداهما استثقالاً للتضعيف، لأن ما بقي دليل على ما حذف، يقولون: عَلْمَاءِ بنو فلان، وكذلك كل اسم من أسماء القبائل تظهر منه اللام المعرفة، فإنهم يجيزون معه حذف النون التي في قولك: بنو، لقرب النون من اللام، وذلك قولك: فلان من بَلْحَارِث، وبَلْعَنْبَر، وبَلْهُجَيْم والبيت من قصيدة عدتها اثنا عشر بيتاً لأحد الخوارج قالها في وقعة دُولاب (1) وهزموا أهل البصرة حتى غرق أكثرهم وعطفوا على بني تميم فأصابوا وقوله " غَدَاةَ " بدل من يوم في قوله " وَلَوْ شَهِدْتَنِي يَوْمَ دُولاب " في البيت قبله، وقوله " طَفَتْ عَلْمَاء " أي: علت على الماء جثث الذين غرقوا في الماء من بكر لما فَرُّوا من الخوارج، وعاجت: عطفت ومالت، وصدور: فاعل، واللام في " الخيل " عوض من ضمير المتكلم: أي صدور خيلنا، وشطر: ظرف بمعنى
__________
(1) دولاب - قرية بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ، كانت بها وقعة بين أهل البصرة وأميرهم مسلم بن عُبَيْس بن كُرَيْز بن حبيب بن حبيب بن عبد شمس وبين الخوارج، قتل فيها نافع بن الأزرق رئيس الخوارج وخلق منهم، وقتل مسلم بن عبيس فولوا عليهم ربيعة بن الاجذم وولى الخوارج عبد الله بن الماخور، فقتلا أيضا، وولى أهل البصرة الحجاج بن ثابت وولى الخوارج عثمان بن الماخور، ثم التقوا فقتل الاميران، فاستعمل أهل البصرة حارثة بن بدر الغدانى، واستعمل الخوارج عبيد الله ابن الماخور، فلما لم يقدم بهم حارثة قال لاصحابه: كرنبوا ودولبوا وحيث شئتم فاذهبوا، وكرنبى.
موضع بالاهواز أيضا، وكان ذلك سنة 65 هـ، انظر يا قوت (*)

(4/498)


جهة متعلق بعاجت، ويأتي عاج متعدياً أيضاً، وهو الأكثر، يقال: عُجْتُ البعير أعوجه عَوْجاً وَمَعَاجاً، إذا عطفت رأسه بالزمام، وبه روي أيضا، " وعجنا صُدُورَ الْخَيْلِ شَطْرَ تَمِيم " وكأنَّ الجار بردى لم يقف على منشأ الشعر حتى قال: " يعني قُتِل هؤلاء وقُصد هؤلاء، وقيل: طَفْت علماء يذكر في موضع المدح، والمعنى أنهم عَلُوا في المنزلة والعزِّ بحيث لا يعلوهم أحد، كما أن الميتة تطفو على الماء، وتعلو عليه " هذا كلامه، وكذا لم يفهم معناه خَضِر الموصلي في شرح أبيات التفسيرين، قال: " المعنى أن هذه القبيلة زمان علوا في المنزلة والغلبة على العدو حتى كأنهم طَفَوا وعَدُوُّهم رسب، وأقبلت صدور خيلهم وعطفتها نحو القبيلة المسماة بتميم، والبيت لم أطلع على قائله " انتهى كلامه أقول: البيت من قصيدة أوردها المبرد في قصص الخوارج من الكامل، ونسبها لِقَطريّ بن الفجاءة المازني، وهي: لَعَمْرُكَ إنِّي فِي الْحَيَاةِ لَزَاهِدٌ * وَفِي الْعَيْشِ مَا لَمْ ألْقَ أمَّ حكيم من الحفرات الْبِيضِ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا * شِفَاءً لِذِي بَثٍّ وَلاَ لِسَقِيمِ
لَعَمْرُكَ إنِّي يَوْمَ ألْطِمُ وَجْهها * عَلَى نَائِبَاتِ الدَّهْرِ جِدُّ لَئِيمِ وَلَوْ شَهِدْتَنِي يَوْمَ دَولاَبَ أبْصَرَتْ * طِعَانَ فَتىً فِي الْحَرْبِ غَيْرِ ذَمِيمِ غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ * وَعُجْنَا صُدُورَ الْخَيْلِ نَحْوَ تَمِيمِ وَكَان لِعَبْدِ الْقَيْسِ أوَّلُ جَدِّهَا * وَأحْلاَفِهَا مِنْ يَحْصَبٍ وَسَلِيمِ وَظَلَّتْ شُيُوخُ الأَزْدِ فِي حوْمَةِ الْوَغَا * تَعُومٌ وَظَلْنَا في الْجِلاَدِ نَعُومُ فَلَمْ أرَ يَوْماً كَانَ أكْثَرَ مُقْعَصاً * يَمُجُّ دَماً مِنْ فَائِظٍ وَكَلِيمِ

(4/499)


وَضَارِبَةً خَدّاً كَرِيماً عَلَى فَتًى * أغرَّ نَجِيبِ الأمَُّهاتِ كَرِيمِ أُصِيبَ بدُولاَبٍ وَلَمْ تَكُ مَوْطِناً * لَهُ أرْضُ دُوْلاب وَدَيْرُ حَمِيمِ فَلَوْ شَهِدَتْنَا يَوْمَ ذَاكَ وَخَيْلُنَا * تُبِيحُ مِنَ الكُفَّارِ كلَّ حَرِيمِ رَأَتْ فِتْيَةٌ بَاعُوا الإلهَ نُفُوسَهُمْ * بِجَنَّاتِ عَدْنِ عِنْدَهُ ونَعِيمِ وقال الأصبهاني في الأغاني: " ذكر المبرد أن الشعر بن الْفُجَاءة، وذكر الهيثم بن عدى وخالد بن خِداش أنه لعمرو الْقَنَا، وذكر وَهْب بن جرير أنه لحبيب ابن سهم التميمي، وذكر أبو مخنف أنه لعبيد بن هلال اليشكري، وقال المديني: هو لصالح بن عبد الله الْعَبْشَمِي " والله تعالى أعلم وقوله " ما لم ألق أم حكيم " بفتح الحاء وكسر الكاف، قال صاحب الأغاني: " أخبرني أحمد بن جعفر جَحَظَة، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: حُدِّثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قَطَرِيّ بن الْفُجَاءَة يقال لها أم حكيم، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجْهاً وأحسنهم بدينهم تَمَسُّكاً، وخطبها جماعة منهم فردتهم، ولم تجب إلى ذلك، فأخبر من شهدها أنها كانت تحمل على الناس،
وترتجز: (من الرجز) أَحْمِلُ رَأْساً قَدْ سَئِمْتُ حَمْلَهُ * وَقَدْ مَلِلْتُ دَهْنَهُ وَغسْلَهُ * ألاَ فَتَىً يَحْمِلُ عَنِّي ثِقْلَهُ * قال: وهم يُفَدُّونها بالآباء والأمهات، فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها " وقوله " جِدُّ لئيم " بكسر الجيم، خَبَرُ إني، يريد أني لئيم جداً، ودُولاب - بالضم -: قرية من عمل الأهواز بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ، وكانت بها الحرب بين الأزارقة من الخوارج وبين مسلم بن عبيس (1) بن كريز خليفة عبد الله
__________
(1) كذا في الكامل، والذى في ياقوت في مادة (دولاب) " ابن عنبس " وفى نسختين من أصول هذا الكتاب (عنبسة) (*)

(4/500)


ابن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكان ذلك في أيام ابن الزبير سنة خمس وستين.
وقوله " غداة طفت علماء - البيت " هكذا رأيته في نسختين قديمتين صحيحتين جداً من نسخ الكامل، وكذلك هو المشهور أيضاً، ورأيت صاحب الأغاني أدرج بينهما بيتاً، ورواه هكذا غداةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ * وَأُلاَّفُها من حمير وسليم ومال الححازيون دون بلادهم * وَعُجْنَا صُدُورَ الْخَيْلِ نَحْوَ تَمِيمِ وقوله " وكان لعبد القيس - إلخ " هو قبيلة، وأحلافِها - بالجر - معطوف عليه، جمع حِلْف - بالكسر - وهو المحالف والمعاهد، ويَحْصِبُ وسليم: قبيلتان، بيان لأحلافها، وأولُ جدها - بالرفع -: اسم كان، وخبرها المجرور قبله، والجد - بفتح الجيم -: الاجتهاد، والمعنى كقول الشاعر: إذَا لمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ الله لِلْفَتَى * فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وقوله " وظلت شيوخ الأزد - إلخ " أي: شجعانها تعوم في دمائها، والجلاد
- بكسر الجيم -: المجالدة والمضاربة بالسيف، والمقعص: اسم مفعول: الذي قتل في مكانه فلم يبرح، والفائظ: الذي فاظت نفسه: أي خرجت روحه، والكليم: المجروح، وقوله " رأت فتية باعوا الإله نفوسهم " بزعمهم هذا سَمَّوْا أنفسهم شُرَاة، وهو جمع، شار، قال الجوهرى: والشراء الخوارج، الواحد شارٍ، سموا بذلك لقولهم: إنا شَرَيْنَا أنفسنا في طاعة الله تعالى: أي بعناها بالجنة حين فارقنا الائمة الجائزة، يقال منه: تشرى الرجل وهذا خبر وقعة دولاب، روى صاحب الأغاني (1) بسنده إلى خالد بن خِداش قال: " إن نافع بن الأزرق لما تفرقت آراء الخوارج ومذاهبهم في أصول مقالتهم أقام بسوق الأهواز وأعمالها لا يعترض الناس وقد كان متشككاً في ذلك، فقالت له امرأته
__________
(1) انظر (ح 6 ص 142) دار الكتب و (6 ص 3) بولاق (*)

(4/501)


إن كنت قد كفرت بعد إيمانكم وشككت فدع نحْلتك ودَعوتك، وإن كنت قد خرجت من الكفر إلى الإسلام فاقتل الكفار حيث لقيتهم وأنخن في النساء والصبيان، كما قال نوح عليه السلام (لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً) فقبل قولها بسط سيفه فقتل الرجال والنساء والولدان، وجعل يقول: إن هؤلاء إذا كبروا كانوا مثل آبائهم، فإذا وطئ بلداً فَعَلَ هذا به إلى أن يجيبه أهله، ويدخلوا في ملته فيرفع السيف ويضع الجبابة، فعظم أمره واشتدت شوكته وفشا عماله في السواد، فارتاع لذلك أهل البصرة ومشوا إلى الأحنف بن قيس وشكوا إليه أمرهم، قالوا: ليس ببننا وبين القوم إلا ليلتان وسيرتهم ما عَلِمْتَ، فقال لهم الأحنف: إن سيرتهم في مصركم إذا ظفروا به مثل سيرتهم في سوادكم، فخذوا في جهاد عدوكم، وحرضهم فاجتمع إليه عشرة آلاف رجل بالسلاح فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل وسأله أن يؤمر عليهم أميراً، فاختار لهم مسلم بن عُبَيْس بن كُرَيْز بن ربيعة
وكان فارساً شجاعاً ديِّناً، فأمَّره عليهم فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس وقال: إني ما خرجت لامتيار ذهب ولا فضة، وإنى لا حارب قوما إذا ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم، فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع، فرجع نفر يسير، فلما صاروا بدُوْلاب خرج إليهم نافع واقتتلوا قتالاً شديداً حتى تكسرت الرماح، وعُقِرت الخيل، وكثرت الجراح والقتْلى، وتضاربوا بالسيوف والعَمَد فقتل في المعركة ابن عُبَيس وذلك في جمادى الآخرة سنة خمسة وستين، وقتل نافع بن الأزرق، والشُّراة يومئذٍ ستمائة رجل، وكانت الحدَّة وبأس الشُّراة واقعاً ببني تميم وبنى سدوس، واسخلف ابن عُبَيْس وهو يجود بنفسه الربيعَ بن عمرو الغُدَانِيَّ وكان يقال له: الأجذم، وكانت يده أصيبت بكابل مع عبد الرحمن بن سَمُرة، واستخلف نافعُ بن الأزرق عُبَيْد الله بن بشير أحد بنى سليط ابن يربوع، ولم يزل الربيع يقاتل الشُّراة نيفاً وعشرين يوماً، ثم أصبح ذات يوم فقال لأصحابه: إني مقتول لا محالة، إني رأيت البارحة كان يدي التي أصيبت بكابل

(4/502)


انحطت من السماء فجذبتني، فلما كان من الغد قاتل إلى الليل ثم غاداهم فقتل يومئذٍ، فلما قتل الربيع تدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس، ثم أجمعوا على الحَجَّاج بن باب الحِمْيَرِيِّ، وقد اقتتل الناس يومئذٍ وقبله يومين قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله: تطاعنوا بالرماح حتى تقصَّفتْ، ثم تضاربوا بالسيف والعَمَد حتى لم يبق لأحد منهم قوة، حتى كان الرجل يضرب الرجل فلا يغني شيئاً من الإعياء، وحتى كانوا يترامون بالحجارة ويتكادمون بالافواه، فلما تدافع القوم الراية اتفقوا على الحجاج وامتنع من أخذها، فقال له كُرَيب بن عبد الرحمن: خذها ولا تخف، فإنها مَكْرُمة، فقال إنها لراية مشئومة ما أخذها أحد إلا قتل، فقال له كريب: يا أعور تقارعت العرب (على أمرها) ثم صيروها إليك
فتأبى خوف القتل؟ خذ اللواء، فإن حضر أجلك قتلت: كانت معك أو لم تكن، فأخذ اللواء وناهضهم واقتتلوا حتى انتقضت الصفوف وصاروا كراديس (1) ، والخوارج أقوى عُدَّة بالدروع والجواشِن (2) ، فجعل الحجاج يغمض عينيه ويحمل حتى يغيب في الشُّراة ويَطْعُن فيهم، ويقتل حتى يظن أنه قد قتل، ثم يرفع رأسه وسيفه يقطر دماً، ويفتح عينيه فيرى الناس كراديس يُقاتل كلُّ قوم في ناحية، ثم التقى الحجاج وعِمْرَان بن الحارث الراسبيُّ فاختلفا ضربتين: كل منهما قتل صاحبه، ثم تحاجزوا فأصبح أهل البصرة وقد هرب عامتهم وولوا حارثة بن بدر الغُدَانِيَّ أمرهم، فلما تسلم الراية نادى فيهم أن يثبتوا فإذا فتح الله عليهم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة، وندب الناس فالتقوا وليس بأحد منهم قوة وقد فشت فيهم الجراحات، وما تطأ الخيل إلا على القتلى، فبينا هم كذلك إذا أقبل من اليمامة جمع من الشُّرَاة يقول المُكَثِّر إنهم مائتان، والمقلل: إنهم أربعون، فاجتمعوا وهم مريحون مع أصحابهم فصاروا كوكبة واحدة، فحملوا على الناس فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم وقال:
__________
(1) الكراديس جمع كردوسة - كعصفورة - وهو كتيبة الخيل.
(2) الجواشن: جمع جوشن، وهو الزرد يلبس على الصدر (*)

(4/503)


كرنبوا ودلبوا * وحَيْثُ شِئْتُمْ فاذْهَبُوا وقال: أيْرُ الْحِمَارِ فَرْيَضَة لِعَبِيدَكُمْ * والْخُصْيَتَانِ فَرِيضَةُ الأَعْرَابِ فتتابع الناس على أثره منهزمين، وتبعهم الخوارج فألقوا أنفسهم في دجيل (1) فغرق منهم خلق كثير، وسلمت بقيتهم، وكان ممن غرق دَغْفَل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان، ولحقت قطعة من الشُّراة خيل عبد القيس فأكبوا عليهم
فعطفت عليهم خيل بني تميم فعاونوهم وقاتلوا الشُّراة حتى كشفوهم، فانصرفوا إلى أصحابهم وعبرت بقية الناس، فصار حارثة ومن معه بنهرِ تِيْرى والشُّراة بالأهواز، فأقاموا ثلاثة أيام، وكان على الأزد يومئذٍ قَبِيصة بن أبي صُفْرة أخو الْمُهَلَّب، وغرق من الأزد يومئذٍ عدد كثير، فقال شاعر الأزارقة: (من الوافر) يَرَى مَنْ جَاءَ يَنْظُرُ في دُجَيْلٍ * شُيُوخَ الأَزْدِ طَافِيَةً لِحَاهَا " وأنشد أيضاً: (من الرجز) يَا قاتل الله بني السعلاة * عمرو بْنِ يَرْبُوعٍ شِرَارِ النَّاتِ وتقدم شرحه مفصلا في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائتين.
مسائل التمرين أنشد فيها: (من الرجز) لا تَقْلُوَاهَا وادْلُوَاهَا دلوا * إن مع اليوم أخاه غدوا وتقدم شرحه في الشاهد السادس عشر بعد المائتين.
وأنشد بعده - وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائتين -: (من الوافر)
__________
(1) دجيل: نهر صغير بالاهواز حفره أزدشير بن بابك.
(*)

(4/504)


مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ * رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا على أن قوله " وتسطارا " من استطاره: أي طيره.
" ومتى " اسم شرط، و " تلقني " شرطه و " ترجف " جزاؤه، وروي بدله " تُرْعَدْ " بالبناء للمفعول، و " روانف " فاعل ترجف، و " فردين " حال من الفاعل والمفعول.
قال أبو على: " تستطارا، جزم عطف على تُرْعد، حملته على الأليتين أو على معنى الروانف، لأنهما اثنان في الحقيقة، وهذا أحسن من أن تحمله على أن
في (تستطارا) ضمير الروانف، وتجعل الألف بدلاً من النون الخفيفة، لأن الجزاء واجب " انتهى.
والروانف: جمع رانفة، بالراء المهملة والنون والفاء، وهي طرف الألية الذي يلي الأرض إذا كان الإنسان قائماً، و " تستطارا " بمعنى تطلب منك أن تطير خوفاً وجبناً، والعرب تقول: لمن اشتد به الخوف: طارت نفسه خوفاً.
وقد شرحنا هذا البيت على وجوه شتى من الإعراب، ونقلنا ما للناس فيه في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من شواهد شرح الكافية.
وهو من أبيات ثلاثة عَشَر لعنترة العبسى الجاهلي خاطب بها عُمارة بن زياد العبسي، وقد شرحناها هناك على وجه لا مزيد عليه بعون الله وفضله.
وأنشد بعده: (من الرجز) * مَا بال عيني كالشعيب الْعَيَّنِ * وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والعشرين من أوائل هذا الكتاب مقدمة علم الخط أنشد فيها: (من الطويل) * قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ *

(4/505)


وتقدم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة من هذا الكتاب.
وأنشد بعده: (من الرجز) * بل جوز تيهاء كظهر الْحَجَفَتْ * وهذا أيضاً قد تقدم شرحه في الشاهد الواحد بعد المائة من هذا الكتاب.
وأنشد الْجَارَبَرَدِيُّ فيها - وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائتين -: (من الرجز)
248 - بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا * حُرَّاسُ أبْوَابٍ عَلَى قُصُورِهَا على أن عمرا إذا دخله اللام لضرورة الشعر لا تلحقه الواو المميزة بينه وبين عمر وحُرَّاس: جمع حارس، فاعل باعد: أي جعلوه بعيداً لا يقدر على القرب من بابها، وأم العمر: مفعول باعد، والْقُصُور: جمع قصر وهو بيت على بيت، و " على " بمعنى اللام وهذا البيت أنشده ابن جني في سر الصناعة عن الأصمعي لزيادة اللام في العلم ضرورة، وتبعه ابن هشام في بحث " أل " من المغني، وهو لأبي النجم العِجْلِيِّ، وبعده: وغَيْرَةٌ شَنْعَاءَ مِنْ غَيُورِهَا * فَالسِّحْرُ لاَ يُفْضِي إلَى مَسْحُورِهَا وغيره: معطوف على حُرَّاس، وأراد بالغَيُور زوجها، وأراد بالسِّحْر كلامها اللذيذ الذي يستميل القلوب كما تستمال بالسحر، والإفضاء: الوصول، وأراد بالمسحور نفْسَه.
وأبو النجم من بني " عِجْل "، واسمه الفضل بن قدام، وهو أحد رجاز الإسلام المتقدمين في الطبقة الأولى، قال أبو عمرو بن العلاء: هو أبلغ من العجاج في النعت، وله مع هشام بن عبد الملك نوادر وحكايات مضحكات أوردها

(4/506)


الأصبهاني في كتاب الأغاني: وأنشد بعده أيضاً - وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائتين -: (من الرجز) 249 - هُمُ الأُلَى إنْ فَاخَرُوا قَالَ الْعُلَى * بفى امرئ فاخر كم عَفْرُ الْبَرَى على أن الألى المقصور لا يكتب بعد ألفه واو، لأن الألف واللام قبله
اشتباهه بإلى الجارة.
والبيت من مقصورة ابن دريد اللُّغَوِيِّ، وقبله: بَلْ قَسَماً بِالشُّمِّ مِنْ يَعْرُبَ هَلْ * لِمُقْسمٍ مِنْ دُونِ هَذَا مُنْتَهَى كان أقسم أولاً بابل الْحَجَّاج على طريقة العرب، ثم أضرب فأقسم بالشُّمِّ من يَعْرُبَ، والشم: السادات والأشراف، جمع أشم، وهو المرتفع الأنف، وهو من صفات الشريف، و " من يعرب " في موضع الحال للشُّم، أو صفة له، لأن لامه للجنس، ويعرب: أبو قبيلة من عرب اليمن، وهو يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام، وإنما أقسم به لأنه أبو الأزد، وابن دريد أزدي، فيكون أقسم بآبائه وأجداده العظماء، و " هل " للاستفهام التقريري، وهو حمل المخاطب على الإقرار و " مُقْسِم " اسم فَاعل من أقسم، و " دون " بمعنى غير، اسم الإشارة ليعرب، و " منتهى " غاية ينتهي إليها، وهو فاعل الظرف، والجملة اعتراض بين القسم وبين جوابه الآتي بعد أربعة أبيات.
وقوله " هم الألى إلخ " استئناف بياني في جواب لِمَ لا يكون دون يعرب مُنْتَهَى لِلْمُقْسِم، و " الالى " بمعنى الذين، واحده الذي من غير لفظه و " فاخروا " عارضوا بالفخر، والفخر: التمدح بالخصال المحمودة، والعلى: الرفعة.
وقوله " بفِي امْرِئٍ " خبر مقدم، وجملة " فاخركم " صفة امرئٍ و " عَفْرُ الْبَرَى " مبتدأ مؤخر

(4/507)


والجملة دعائية مقول القول، والعفو - بفتح العين المهملة وسكون الفاء -: التراب المنبث في الهواء، والبَرَى - بفتح الموحدة -: التراب، و " هم " مبتدأ و " الأُلى " خبره، والجملة الشرطية مع جوابها صلة الالى، وجواب القسم بعد أبيات ثلاثة على هذا النمط، وهو: أزَالُ حَشْوَ نَثْرَةٍ مَوْضُونَةٍ * حَتَّى أُوَارَى بَيْنَ أثْنَاءِ الْجُثَى
أي: لا أزال، فحذفت لا النافية، كقوله تعالى: (تفتؤ تذكر يوسف) وحَشْو: بمعنى لابس، لأن حشو الشئ يلبس الشئ، والنثرة: الدرع السابغة، والموضونة: المحكمة، وَأُوَارَى: بالبناء للمفعول بمعنى أغَطَّى، والأثناء: جمع ثِنْي - بكسر فسكون - وهو تراكب الشئ بعضه على بعض، والْجُثَى - بضم الجيم -: جمع جَثْوَة بفتحها، وهو التراب المجموع ويعني به تراب القبر.
وابن دريد هو أبو بكر محمد بن الحسن الأزْدِي، ولد بالبصرة ونشأ بها، أخذ العلم عن جم غفير من المشاهير، كأبي حاتم، والرياشى، والأُشْنَانَدَانِيِّ، وابنْ أخي الأصمعي، ثم خرج إلى نواحى فارس، وصحب جماعة من ملوكها وصحب ابْنَ مِيَكَال الشاه، وأخاه، وكانا يومئذٍ على عمالة فارس، فعمل لهما كتاب الجمهرة في اللغة، وقلداه ديوان فارس، ثم مدحهما بهذه القصيدة المقصورة وهي تشتمل على نحو الثلث من المقصور، وفيها كل مثل سائر، وخبر نادر، والمواعظُ الحسنة، والحكمُ البالغةُ، وقد شرحتها قديماً شرحاً مختصراً فيه حَلُّ ألفاظها وبيان معانيها وعاش رحمه الله ثلاثاً وتسعين سنة، ومات في سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وقد استوفينا الكلام على ترجمته وسرد مؤلفاته وأحواله في شرح المقصورة ولنختم الكلام بحمد الله ذي الإنعام، والصلاة والسلام على أفضل رسله الكرام محمد وعلى آله وصبحه العظام

(4/508)


(بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه الطاهرين، وبعد فهذا فهرس تراجم الشعراء الذين ترجمتهم في شرح شواهد شرحي الشافية لنجم الائمة الرضى، والفاضل الجاربردى، ولم تذكر في شرح شواهد الكافية
حرف الالف أبو الاخزر الحمانى: في الشاهد الثلاثين والازرق العنبري: في الخامس والستين وأعشى همدان: في الواحد والاربعين بعد المائة وإسماعيل بن يسار النساء: في السابع والخمسين بعد المائة والاعلم بن جرادة: في الستين بعد المائة وأنيف بن زبان: في الثمانين بعد المائة حرف الجيم جامع بن عمرو الكلابي: في الشاهد التاسع والستين بعد المائة وجندل بن المثنى الطهوى: في السادس والسبعين بعد المائة حرف الحاء حيى بن وائل: في الشاهد التاسع والاربعين وأبو حزابة التميمي: في الثالث والسبعين بعد المائة وحجر والد امرئ القيس: في الثالث والثمانين بعد المائة وحصين بن قعقاع: في الثامن والتسعين بعد المائة حرف الخاء خلف الاحمر: في الشاهد الثاني بعد المائتين.

(4/509)


حرف الدال دكين الراجز: في الشاهد الخامس والاربعين.
حرف الراء المهملة رهيم بن حزن: في الشاهد الواحد والخمسين.
حرف السين سؤر الذئب: في الشاهد الواحد بعد المائة وسكين بن نضرة: في الثاني عشر بعد المائة.
حرف الشين الشاطبي المقرئ: في الشاهد المائة حرف الصاد الصمة الجشمى: في الشاهد الثالث والاربعين حرف الطاء طريف بن تميم: في الشاهد الخامس والسبعين بعد المائة حرف العين أبو عمرو بن العلاء: في الشاهد السادس عشر وعياض بن درة: في الثاني والاربعين وعذافر الكندى: في الثاني عشر بعد المائة.
وعمرو بن المسبح الطائى: في الثاني والعشرين بعد المائتين.
وعبد الله خازن كتب الصاحب بن عَبَّاد: في السادس والاربعين بعد المائة.
حرف الفاء الفضل بن العباس: في الشاهد السادس والعشرين

(4/510)


حرف القاف قصى بن كلاب: في التاسع والاربعين بعد المائة.
وقعنب ابن أم صاحب: في الثامن والثلاثين بعد المائتين.
حرف الكاف
الفضل بن العباس: في الشاهد السادس والعشرين

(4/511)


حرف القاف قصى بن كلاب: في التاسع والاربعين بعد المائة.
وقعنب ابن أم صاحب: في الثامن والثلاثين بعد المائتين.
حرف الكاف أبو كاهل اليشكرى: في الشاهد الثالث عشر بعد المائتين.
حرف اللام لقيم بن أوس: في الشاهد الثاني والثلاثين بعد المائة.
حرف الميم مرة بن محكان: في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة.
ومضاض بن عمرو الجرهمى: في السابع والخمسين بعد المائة.
حرف النون أبو النجم العجلى: في الشاهد الثامن والأربعين بعد المائتين.
حرف الواو الوليد بن عقبة بن أبي معيط: في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة وعدة الجميع أربعة وثلاثون

(4/511)


وكان الفراغ من تسويد هذه الاوراق بعد المغرب من ليلة الجمعة الثالثة عشر من صفر الخير عام ثمانين وألف بعد الهجرة النبوية قال ذلك وكتبه مؤلفه الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه عبد القادر بن عمر البغدادي، لطف الله به وبآبائه وبجميع المسلمين آمين.
انتهى من خط المؤلف

(4/512)