شرح ألفية ابن مالك للحازمي

عناصر الدرس
* النوع الثاني ,أحكامه (الخبر المفرد) ـ
* النوع الثالث وانوعه وشروطة (الخبرالشبيه بالجملة) ـ
* حكم الإبتداء بالنكرة
* ضابط الإبتداء بالنكرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى:
والمُفْرَدُ الجَامِدُ فَارِغٌ وَإِنْ ... يُشْتَقَّ فَهْوَ ذُو ضَمِيرٍ مُسْتكِنْ

عرَّف الخبر؛ بـ: أنه الْجُزْءُ الْمُتِمُّ الْفَائِدَهْ، ثم قسَّمه إلى ثلاثة أقسام من حيث اللفظ -من حيث النطق- يرجع إلى ثلاثة أقسام: مفرد وجملة، وشبه الجملة وهو: الظرف والجار والمجرور.
قال:
وَمُفْرَداً يَأْتِيْ وَيَأْتِيْ جُمْلَة ... حَاْوِيَةً مَعْنَى الَّذِيْ صِيْغَتْ لَهْ
وَإِنْ تكُنْ إِيَّاهُ مَعْنىً اكْتَفَى ... بِهَا كَنُطْقي اللهُ حَسْبِي وَكَفَى

إذاً: وَمُفْرَداً يَأْتِيْ هذا القسم الأول، ثم قال: وَيَأْتِيْ جُمْلَة، هذا القسم الثاني، وسيأتي قسم ثالث: وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرْ، والأصل أن يرتب على حسب التقسيم، يذكر المفرد ثم ما يتعلق به من حكم إذا كان جامداً أو مشتقاً ونحو ذلك، لكنه بدأ في الجملة ثم عاد إلى المفرد، ولذلك ابن هشام في التوضيح نكَّت عليه بأن ذكر المفرد وما يتعلق به قدَّمه ثم بعد ذلك ذكر الجملة، هذا هو الأصل، ولكن الناظم أحياناً لا يمشي على ترتيب معين.
وَمُفْرَداً يَأْتِيْ وَيَأْتِيْ جُمْلَة، بيَّن شرطها وتممنا بقية الشروط على ما ذكرناه سابقاً.
ثم عاد إلى المفرد ليبين مسألة مهمة تتعلق به، وعرفنا أن المفرد هنا في باب المبتدأ والخبر أنهما ليسا جملةً ولا شبيهاً بالجملة، حينئذٍ يدخل فيه المفرد في باب الإعراب كزيدٍ وأخيك، وهذا من الأسماء الستة، ويدخل فيه المثنى، المذكر والمؤنث، ويدخل فيه كذلك الجمع بأنواعه كلها، جمع المؤنث السالم، وجمع المذكر السالم، وجمع التكسير، هذه كلها يطلق عليها أنها مفرد في باب المبتدأ والخبر، حينئذٍ قوله والمفرد يشمل كل الذي ذكرناه من أنواع.
والسيوطي رحمه الله تعالى في جمع الجوامع عرَّفه بتعريف أيضاً جيد قال: هو ما للعوامل تسلط على لفظه مضافاً كان أو غيره، ما للعوامل تسلُّط على لفظه، هذا خرج به الجملة بنوعيها: الاسمية والفعلية؛ لأنها لا تتسلط العوامل على اللفظ وإنما على المحل فيرفعه المبتدأ محلاً ولا يتسلط على لفظه، وكذلك الجار والمجرور والظرف؛ لأنهما إنما يكونان معمولين لمحذوف لابد أن يتعلق بمحذوف.
وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أَوْ بِحَرْفِ جَرّ ... نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتَقَرّ

إذاً بهذا الحد خرج الجملة بنوعيها، وخرج كذلك الظرف والجار والمجرور؛ لأنه لا يتسلط العامل الذي هو المبتدأ على لفظ ما ذكرناه، وإنما يختص بالمفرد سواء كان مضافاً أو غير مضاف، زيد أخوك، هذا مضاف ومضاف إليه، المفرد هنا مضاف ومضاف إليه، هذا غلام زيد، هذا مبتدأ، وغلام زيد: هذا مفرد وهو مضاف ومضاف إليه، إذاً يكون عاماً يشمل المثنى وما ذكرناه ويدخل فيه كذلك المضاف والمضاف إليه.


والمُفْرَدُ الجَامِدُ فَارِغٌ، المفرد ينقسم إلى قسمين -هنا في هذا المحل-: إما أن يكون مشتقاً وإما أن يكون جامداً، والمراد بالمشتق ما دل على متصف مصوغاً من مصدر كضارب ومضروب، وحسن وأحسن منه، وهو الذي دائماً نذكره ما دل على ذات وصفة، ولكن المشتق نوعان: مشتق يجري مجرى الفعل، ومشتق لا يجري مجرى الفعل، فحينئذٍ التعريف المذكور السابق -ما دل على ذات وصفة- هذا خاص، وأما ما دل على متصف مصوغاً بمصدر هذا فيه نوع عموم ولذلك المشتق يختلف عند الصرفيين عنهم عند النحاة ففرق بين بين فريقين.
إذاً المشتق ما دل على متصف مصوغاً للمصدر كضارب ومضروب، وحسن وأحسن منه، والجامد بخلافه ما لا يدل على ذلك حينئذٍ يكون إما أن يدل على ذات فقط كزيد، وإما أن يدل على معنى فقط كعِلْم مثلاً، أو ضرب أو قتل، فالمصادر مدلولها الحدث فحسب، وهذا معنى من المعاني، حينئذٍ نقول: الجامد إما أن يكون ذاتاً وإما أن يكون معنًى، والمشتق إما أن يكون جارياً مجرى الفعل كاسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبه -التي تعمل ترفع وتنصب- هذه نقول مشتقات جرت مجرى الفعل، وثَمَّ مشتقات لم تجرِ مجرى الفعل، مثل: مفتاح هذا مشتق من اسم آلة مشتق من الفتح للآلة نفسها، وكذلك مرمى اسم مكان أو اسم زمان، نقول: هذه مشتقات ولا شك ولكنها لا تعمل حينئذٍ لم تجرِ مجرى الفعل، ففرق بين النوعين.
والمُفْرَدُ الجَامِدُ، والجامد كذلك نوعان: جامد يؤول بمشتق، يعني: يكون في قوة المشتق، يعني: من حيث المعنى يفسر بمشتق، زيد أسد، يعني: شجاع، ففسر أسد هنا في تأويل مشتق وهو شجاع فُعال، وكذلك عمرو تميمي، أي: منسوب إلى تميم، وبكر ذو مال، هذا جامد لكنه في قوة المشتق، يعني: يؤول بالمشتق، أي: صاحب مال، وقد لا يؤول بالمشتق بأن يكون جامداً محضاً خالصاً، زيد أخوك، تقول: زيد أخوك مبتدأ وخبر، أخوك هذا خبر لكنه ليس في قوة المشتق.


هنا قال: والمُفْرَدُ الجَامِدُ، عرفنا حد المُفْرَدُ الجَامِدُ فَارِغٌ، حكم عليه بأنه فارغ، المُفْرَدُ مبتدأ والجَامِدُ صفته وفَارِغٌ هذا خبر المبتدئ، حينئذٍ حكم الناظم هنا بأن المفرد فارغ، المُفْرَدُ الجَامِدُ فَارِغٌ .. من ماذا؟ من الضمير، فلا يتحمل ضميراً، زيد أخوك، أخوك هذا قلنا جامد، هل فيه ضمير يعود إلى المبتدئ؟ ليس فيه ضمير؛ لأنه جامد، ليس الشأن في المفرد كالشأن في الجملة الاسمية أو الفعلية، الجملة الفعلية والاسمية لابد أن تكون مشتملة على رابط يربطها بالمبتدأ، وأما المفرد فلا لكن قد يكون متحملاً للضمير وقد لا يكون، فلا يشترط في المفرد الذي لا يتحمل أن يكون متحملاً لضمير من أجل أن يعود على المبتدأ إذ ذاك الشرط في الجملة فقط، وأما في المفرد فلا يشترط، ولو قيل: بأنه في المشتق أو الجامد الذي يؤول بالمشتق أنه يتحمل للضمير، وأما الجامد المحض الخالص فهذا الصحيح من مذهب البصريين خلافاً للكوفيين أنه فارغ من الضمير فليس فيه ضمير، حينئذٍ لا يصح أن يقال على مذهب البصريين لغة: زيد أخوك هو؛ لأننا إذا قلنا يتحمل للضمير حينئذٍ جاز إبرازه فيقال: زيد أخوك هو، نقول: هذا فاسد، لماذا؟ لأن (هو) هذا إبراز للضمير المستتر في أخوك على القول به، ونحن نقول: لا يتحمل الضمير بل هو فارغ جامد خالص ليس فيه ضمير يعود على المبتدأ، حينئذٍ قوله: زيد أخوك هو، نقول: هذا ليس بسديد.
والمُفْرَدُ الجَامِدُ فَارِغٌ، أي: لا يتحمل ضميراً، هذا المراد بكونه فارغاً -لا يتحمل ضميراً- نحو: زيد أخوك، فلا يقال: زيد أخوك هو، هذا باطل.
وزعم الكسائي أنه يتحمله، أنه يتحمل الضمير الجامد الخالص، زيد أخوك هو فصار هو هذا تأكيد للضمير في أخوك، ونسب إلى الكوفيين، يعني: كون الجامد الخالص متحملاً للضمير منسوب لمذهب الكوفيين.
قال ابن مالك: وهي دعوى لا دليل عليها، القول بأن الجامد الخالص يتحمل ضميراً دعوى لا دليل عليها وإنما هو مجرد اجتهاد نظري.
قال أبو حيان: وقد رد بأنه لو تحمل ضميراً لجاز العطف عليه مؤكداً، فيقال: هذا أخوك هو وزيد، لو كان متحملاً لضمير فأبرز قيل: زيد أخوك هو، أو: هذا أخوك هو وزيد، صح العطف عليه وتأكيده كذلك، فيقال: هذا أخوك هو وزيد، كما تقول: زيد هو قائم هو وعمرو، زيد قائم، قائم هذا مشتق ويتحمل للضمير، حينئذٍ يجوز أن يقال: زيد قائم هو وعمرو، عَطَفْتَ عليه، وأما زيد أخوك هو هذا لا يصح أن يعطف عليه، لماذا؟ لأن الضمير في أصله ليس بثابت لغة، حينئذٍ لا يصح العطف عليه ولا تأكيده، بخلاف المشتق فإنه يتحمله إن لم يرفع ظاهراً نحو: زيد قائم، ولذلك قال الناظم:
وَإِنْ يُشْتَقَّ فَهْوَ ذُو ضَمِيرٍ مُسْتَكِنْ.
وَإِنْ يُشْتَقَّ، أي: المفرد، إن كان المفرد مشتقاً وهذا يشمل نوعين: مشتقاً أصالةً، ومشتقاً عَرَضَاً وطُرُوَّاً.
المشتق أصالة: هو ما دل على متصف مصوغاً من مصدر، بأن يجري مجرى الفعل فيرفع وينصب.


والنوع الثاني: أن يكون جامداً لكنه مؤولاً بالمشتق، فحينئذٍ في هاتين الحالتين يكون فيه ضمير مستكن يعني مستتر، يكون فيه ضمير مستتر، زيد قائم، زيد: مبتدأ، وقائم خبر، وهو مفرد مشتق؛ لأنه مشتق من القيام –المصدر- مصوغ من القيام، حينئذٍ نقول: قائم هذا متحمل للضمير، فيجوز أن يقال: زيد قائم هو، فحينئذٍ في الضمير هو بعد إبرازه وجهان عند سيبويه: إما أن يكون فاعلاً، وإما أن يكون تأكيداً للفاعل، فيجوز فيه هذا وذاك، ولو جعل تأكيداً لكان أجود.
زيد قائم هو، هذا يكون من باب التأكيد، إذاً قائم هذا مشتق، وقد استكن فيه ضمير مستتر أبرزه بقوله: هو، وإعرابه إما أن يكون فاعلاً وإما أن يكون تأكيداً للفاعل المستتر، والثاني أجمل وأحسن، حينئذٍ ما كان مشتقاً بلفظه استكن فيه الضمير، وهذا محل وفاق بين البصريين والكوفيين لا خلاف بين البصريين والكوفيين أن المشتق متحمل للضمير زيد قائم هو، وهو -الضمير هذا الذي في قائم- لكونه لا يبرز في التثنية لا يكون فاعلاً ولا في الجمع عُومِل اللفظ معاملة المفرد، ولذلك قائم إذا قيل: أن فيه ضميراً مستكناً حينئذٍ هل هو جملة أم مفرد؟ يرد السؤال: هل هو مفرد أو جملة؟ زيد مبتدأ، وقائم؟ إذا قيل: رفع فاعل والفاعل هذا ضمير مستكن، حينئذٍ هل هو مفرد أو جملة؟ نقول: هو مفرد، وهذا الضمير لم يلتفت إليه، ليس الشأن فيه كالشأن في زيد قام، قام هو، هو فيه ضمير لا شك؛ لأنه فعل، وقائم فيه ضمير، هل هما في قوة واحدة؟ الجواب: لا، ليسا في قوة واحدة، لماذا؟ لأنك تقول: زيد قام من باب الإخبار بالجملة، وزيد قائم من باب الإخبار بالمفرد مع كون قام فيه ضمير مستكن وقائم فيه ضمير مستكن، إذاً ما الفرق بينهما؟


قالوا: لما كان الضمير لا يبرز تثنية وجمعا ألغي في المفرد، يعني: لا تجعل له أحكام، تقول: الزيدان قائمان، هناك زيد قام ضمير مستتر ولا شك، إذا قلت: الزيدان قاما برز الضمير، قاما الألف هذه ألف تثنية وهي فاعل، إذاً الضمير له وجود أم لا؟ له وجود، بدليل أنه برز في التثنية، إذاً له قوة حين كان مفرداً، الزيدون قاموا برز صار جمعاً، إذاً له قوة، لكن إذا قلت: زيد قائم، هذا كزيد قام، لكن إذا ثنيت وقلت: الزيدان قائمان الألف هذه ألف تثنية، لم يبرز، الزيدون قائمون الواو هذه ليست فاعلة بل هي علامة جمع، وقائما علامة تثنية، إذاً لما لم يبرز تثنية وجمعاً حينئذٍ لم يجعل له وجود من حيث التركيب حيث كان مفرداً، ولذلك يعترض والاعتراض الصحيح، يعترض على من مثَّل في باب الكلام بأن الكلام يتركب من اسمين كزيد قائم، فيقال: هذا خطأ بل هو مركب من ثلاث، هذا غلط، بل الصواب أنه مركب من كلمتين؛ لأن هذا الضمير وإن كان موجوداً إلا أنه ملغي من حيث الاعتبار، هو من حيث المعنى لابد من تقديره وأما من حيث الاعتبار –الإعراب- فهو ملغي بدليل التثنية والجمع، فليس الشأن فيه كالشأن في الفعل الماضي الذي أسند إلى مبتدأ زيد قام هو، الزيدان قاما برز الضمير، الزيدون قاموا برز الضمير، إذاً فرق بين هذا وذاك، إذاً زيد قائم، لو قال قائم هذا من الإخبار بالجملة وليس من الإخبار بالمفرد؛ لأنه رفع فاعلاً، فالضمير فاعل، نقول: لا، بل هو من قبيل المفرد، وهذا الضمير غير معتبر من حيث التركيب بدليل ماذا؟ الزيدان قاما، الزيدون قاموا، فالألف في التثنية والواو في الجمع علامتا تثنية وجمع وليست بفاعل لا في التثنية ولا في الجمع، بخلاف زيد قام والزيدان قاما والزيدون قاموا، ففرق بينهما.
بخلاف ما إذا رفعه لفظاً أو محلاً، الزيدان قائم أبوهما، حينئذٍ نقول: زيد قائم فيه ضمير مستتر، لكن يشترط فيه أن لا يرفع ظاهراً، فإن رفع ظاهراً حينئذٍ صار المرفوع هو الفاعل؛ لأن اللفظ الواحد لا يكون له فاعلان، فإذا قيل: زيد قائم أبوه، أبوه هذا فاعل والضمير الذي في أبوه هو الذي كان مستكناً، حينئذٍ زيد قائم أبوه، لا نقول: قائم هذا فيه ضمير مستكن، لماذا؟ لأن الذي ظهر هو الفاعل، فلو قلنا بأن الظاهر هو الفاعل وفيه ضمير مستكن حينئذٍ صار لاسم الفاعل فاعلان وهذا باطل، بل هو فاعل واحد لا يتعدد -الفاعل لا يتعدد ليس كالخبر- هذا في الأصل -في الاصطلاح عندهم- حينئذٍ زيد قائم أبوه، نقول: أبوه هذا فاعل، وقائم ليس فيه ضمير مستكن.
أو محلاً، زيد ممرور به، ممرور هذا اسم مفعول، والأصل فيه أنه يرفع نائب فاعل، وبه الضمير البارز هو الذي كان مستكناً، حينئذٍ جر محلاً لا لفظاً، إن خلا عن كونه يرفع ظاهراً لفظاً أو محلاً حينئذٍ نقول: هو رافع لضمير مستتر، إذاً المشتق هو ما دل على متصف مصوغاً من مصدر، هذا يستكن فيه ضمير بشرط أن لا يرفع ظاهراً لفظاً أو محلاً، فإن رفع ظاهراً فحينئذٍ ليس فيه ضميراً مستكناً، لماذا؟ لأننا لو أثبتنا الضمير المستكن مع تسلطه على الظاهر لأثبتنا له فاعِلَين وهذا فاسد، فلزم أن نقول: أن الظاهر هو الفاعل، وقد خلا عن الضمير المستكن.


وَإِنْ يُشْتَقَّ، عرفنا أن الأصل فيه اسم الفاعل واسم المفعول وما جرى مجرى الفعل، كذلك الجامد الذي يؤول بالمشتق فهو متحملً لضمير، زيد أسد أي هو؛ لأن أسد الاعتبار هنا بالمعنى، فأسد هنا في قوة قولك شجاع، وشجاع هذا فُعَال صفة مُشَبَّهَ، حينئذٍ نقول: شجاع، لو جاء لفظ شجاع لتحمل الضمير؛ لأنه مشتق يجري مجرى الفعل، فحينئذٍ ما جاء في مكانه في موضعه من الجامد ولوحظ فيه المعنى –المعنى المشتق- حينئذٍ صار مثله؛ لأن القاعدة كما ذكرنا: أن ما وضع في محل شيء فالأصل فيه -في الجملة- أنه يأخذ أحكامه، أقائم الزيدان؟ قائم هذا وضع موضع الفعل فأخذ أحكامه لا يخبر عنه ولا يُصَغَّر ولا يُثَنَّى إلى آخره، حينئذٍ شجاع هذا الأصل زيد شجاع، لكن عبر بالأسد من باب الكناية فصار متحملاً للضمير، إذاً أسد في اللفظ هو جامد، هل هو متحمل للضمير؟ نقول: نعم متحمل للضمير باتفاق البصريين والكوفيين، إذاً ثلاثة أنواع للمفرد: مفرد جامد محض خالص، مفرد جامد مؤول بالمشتق، مشتق خالص.
الأول: هو محل النزاع بين البصريين والكوفيين، وهو المفرد المحض كزيد أخوك، فنقول: أخوك هذا ليس متحملاً للضمير على الصحيح.
وأما الجامد المؤول بالمشتق والمشتق، فمذهب الكوفيين والبصريين اتفاقاً أنهما متحملان للضمير، لكن يشترط في المشتق أن لا يرفع ظاهراً لفظاً ولا محلاً، فإن رفع ظاهراً حينئذٍ لم يكن فيه ضمير مستكن، بل الاسم الظاهر والضمير المرفوع محلاً يكون هو الفاعل في المعنى وأما الضمير المستكن فلا وجود له أصلاً لئلا يكون ثَم فاعلان للفظ الواحد وهذا ممتنع.
والمُفْرَدُ الجَامِدُ فَارِغٌ، أي: لا يتحمل ضمير وَإِنْ يُشْتَقَّ فَهْوَ ذُو ضَمِيرٍ مُسْتَكِنْ، أي: مستتر لا يظهر، ولكن لابد من تقييده بماذا؟ إن لم يرفع ظاهراً، وإلا العبارة مدخولة، إذاً المفرد إما أن يكون جامداً أو مشتقاً كاسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة والصفة المشبهة وأفعل التفضيل.
فإن كان جامداً ذكر المصنف أنه يكون فارغاً من الضمير، زيد أخوك، وذهب الكسائي والرماني وجماعة إلى أنه يتحمل الضمير والتقدير عندهم: زيد أخوك هو.
وأما البصريون فقالوا: إما أن يكون الجامد متضمناً معنى المشتق مؤولاً به أو لا، فإن تضمن معناه زيد أسد وزيد تميمي، وعمرو تميمي أي منتسب إلى تميم، وبكر ذو مال أي: صاحب مال، حينئذٍ تحمل الضمير، وإن لم يتضمن ذلك المعنى لم يتحمل الضمير، وإن كان مشتقاً فذكر المصنف أنه يتحمل الضمير نحو زيد قائم أي هو، هذا إذا لم يرفع ظاهراً، إذاً لو قيل: الخبر المفرد هل يتحمل ضميراً أم لا؟ ما الجواب؟
نقول: فيه تفصيل: إن كان جامداً محضاً لا، وإن كان مشتقاً أو جامداً مؤولاً بالمشتق فنعم، حينئذٍ محل النزاع بين الطرفين البصريين والكوفيين هو الجامد الخالص، والصواب أنه لا يتحمل ضميراً.
قال ابن عقيل: وهذا الحكم إنما هو للمشتق الجاري مجرى الفعل، كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة، واسم التفضيل، فأما ما ليس جارياً مجرى الفعل من المشتقات فلا يتحمل ضميراً؛ لأن كلمة مشتق هذه أوسع من كونه يعمل أو لا يعمل.


أسماء الآلة مثلاً نقول: هذه مشتقات، مفتاح مشتق من الفتح، ولا يعمل عمل الفعل أبداً، ولا يكون في قوة الفعل، لا يفسر بالفعل، وكذلك اسم الزمان اسم المكان كـ: مفعل مرمى مشتق من الرمي هذا لا يتحمل ضميراً، وإنما يتحمل المشتق الجاري مجرى الفعل الضمير إذا لم يرفع ظاهراً، فإن رفعه لم يتحمل ضميراً وذلك نحو زيد قائم غلاماه، غلاماه مرفوع بقائم فلا يتحمل ضميراً.
إذاً عرفنا أن الضمير مستكن في المشتق وما هو في قوة المشتق، هذا الضمير، يعبر عند النحاة بجملة "إن رجع إلى ما هو عليه"، أو "إن لم يرجع إلى ما هو عليه"، "إن جرى على ما هو عليه"، "إن لم يجرِ على ما هو عليهط، وهذا الذي عناه بقوله:
وَأَبْرِزَنْهُ مُطْلَقَاً حَيْثُ تَلاَ ... مَا لَيْسَ مَعْنَاهُ لَهُ مُحَصَّلاَ

إذا قلت زيد عمرو ضاربه، زيد: مبتدأ أول، وعمرو: مبتدأ ثاني، وضاربه: خبر المبتدأ الثاني، المبتدأ الأول خبره جملة، إذاً الحديث ليس فيها، أليس كذلك؟! عمرو ضاربه: جملة صغرى وقعت خبراً على المبتدأ الأول، خبر المبتدأ الثاني ما نوعه؟ مشتق، فيه ضمير مستكن على ما قررناه، حينئذٍ نقول: هو فيه ضميران الآن في هذا التركيب، عمرو ضاربه فيه ضميران: ضمير مستتر الذي قررناه أولاً وهذا يعود إلى المبتدأ، وضمير ظاهر الذي برز "ضاربه"، الضمير هذا في محل نصب، وليس هو الضمير المستكن الذي هو فاعل، إذاً فيه ضميران، حينئذٍ إذا رجع الضمير المستكن -ليست الهاء البارزة- إن رجع الضمير المستكن إلى المبتدأ الذي أخبر عنه بضارب قلنا: جرى على من هو له، من هو أي الخبر، له للمبتدأ، زيد عمرو ضاربه، ضاربه قلنا: فيه ضمير مستكن إن رجع إلى عمرو حينئذٍ قلنا جرى على من هو له، على من هو، أي: الخبر، له للمبتدأ، وهذا لا إشكال فيه وهذا هو الأصل فيه أن يعود إلى المبتدأ الذي أخبر عنه بهذا اللفظ المفرد، إن عاد إلى زيد المبتدأ الأول عمرو ضاربه والضمير فيه يعود إلى زيد لا إلى عمرو، حينئذٍ نقول: جرى على غير من هو له؛ لأن ضارب ليس خبراً عن زيد، وإنما هو خبر عن عمرو، إن جرى الضمير المستكن على من هو له نقول: هذا هو الأصل، حينئذٍ لا يجب إبرازه بل يجوز فيه الوجهان، إذا كان الضرب واقع من عمرو حينئذٍ يجوز فيه الوجهان، فتقول: زيد عمرو ضاربه هو، وأما إذا كان مرجع الضمير ليس هو عمرو بل هو زيد تعين إبراز الضمير، وهذا تفصيل على مذهب الكوفيين وهو الصواب، أنه تفريق بين ما إذا أمن اللبس أو إذا لم يؤمن اللبس، سيأتي.
وَأَبْرِزَنْهُ مُطْلَقاً حَيْثُ تَلاَ ... مَا لَيْسَ مَعْنَاهُ لَهُ مُحَصَّلاَ

إذاً عرفنا، ضمير جرى على ما من هو له، أي: إن كان خبراً عن مبتدئٍ والمعنى الذي دل عليه الخبر ثابت لذلك المبتدئ فإنه يقال جرى على من هو له، وإن كان خبراً عن اسم ولكن معناه، أي: فاعله لاسم آخر يقال جرى على غير من هو له، بهذا التفصيل.


وَأَبْرِزَنْهُ، ما هو؟ الضمير، الذي قال: وَإِنْ يُشْتَقَّ فَهْوَ ذُو ضَمِيرٍ مُسْتَكِنْ، هذا الضمير يجب إبرازه مطلقاً عند البصريين سواء أمن اللبس أو لا، وأبرزنه الضمير يعود إلى الضمير المستكن، والأمر هنا للوجوب فيجب مطلقاً، وَأَبْرِزَنْهُ، أي: الضمير المشتق، مطلقاً: حال من المفعول الهاء، وَأَبْرِزَنْهُ، أي: الضمير المشتق، الضمير المستكن، مُطْلَقاً، يعني: أمن اللبس أم لا، حَيْثُ تَلا: حيث ظرف مكان، حَيْثُ تَلا الخبر المشتق مَا: مبتدأ لَيْسَ مَعْنَاهُ-معنى الخبر- لَهُ: لذلك المبتدأ، يعني: إذا جرى إلى غير من هو له، إذا جرى إلى من هو له لا إشكال فيه، وإنما إذا جرى على غير من هو له فحينئذٍ عند البصريين مطلقاً يجب إبرازه سواء أمن اللبس أو لم يؤمن اللبس، وهذا مذهب البصريين والصواب التفصيل كما سيأتي.
إذاً وَأَبْرِزَنْهُ أي: الضمير المشتق، مُطْلَقاً أُمن اللبس أم لا، حَيْثُ تَلا، تَلا: الضمير يعود إلى الخبر المشتق، تلا ماذا؟ تلا مبتدأً، مَا هذا مفعول به يصدق على المبتدأ، لَيْسَ مَعْنَاهُ، هذا اسم ليس، ليس معناه، أي: معنى الخبر لَهُ لذلك المبتدأ مُحَصَّلا، لم يؤتَ بهذا الخبر من أجل إفادة المبتدأ الذي له بل لغيره، ليس معنى ذلك الخبر محصلٌ لذلك المبتدئ، ومعنى البيت: وأبرز الضمير العائد من الخبر المشتق إلى المبتدأ مطلقاً، إذا تلا الخبر مبتدأً ليس معنى ذلك الخبر محصَلاً لذلك المبتدئ.
قال ابن عقيل: إذا جرى الخبر المشتق على من هو له استتر الضمير فيه، نحو زيد قائم، هذا هو الأصل؛ لأنه لا إشكال فيه، لو ألقيته على ما هو عليه لا إشكال فيه، وإذا أبرزته حينئذٍ جاز أن تبرزه فيعرب إما فاعل وإما توكيداً، زيد قائم، أي: هو، فلو أتيت بعد المشتق بهو ونحوه وأبرزته فقلت: زيد قائم هو، وقد جوز سيبويه فيه وجهين: أن يكون هو تأكيداً للضمير المستتر في قائم، والثاني: أن يكون فاعلاً بقائم، هذا إذا جرى على من هو له، وهذا واضح بين، هذا التركيب واضح لا إشكال، لكن لو وقعت هذه الجملة خبراً لمبتدأ فحينئذٍ قد يقع فيه نوع لبس.


فإن جرى على غير من هو له وهو المراد بهذا البيت وجب إبراز الضمير مطلقاً سواء أُمن اللبس أو لم يؤمن، يعني: إذا لم يشتبه الضمير هل هو عائد على الأول والثاني؟ هذا نقول: أُمن اللبس، وإذا اشتبه الضمير حينئذٍ نقول: لم يؤمن اللبس، يقع إشكال أيهما الضارب وأيهما المضروب، فإن جرى على غير من هو له قلنا: هذا وجب إبراز الضمير مطلقاً، فمثال ما أُمن فيه اللبس: زيد هند ضاربها هو، زيد: مبتدأ أول، هند: مبتدأ ثاني، ضاربها: خبر المبتدأ الثاني، ضاربها فيه ضميران انتبه لا يلتبس عليك أن الضمير البارز هو الذي فيه الكلام لا، ليس الكلام في الضمير البارز، ضاربها (ها) ليس الكلام فيه، الكلام في الضمير المستتر، وضاربها (ها) هذا نقول: في محل نصب مفعول به، والكلام في الفاعل، ضاربها فيه ضميران: الضمير البارز هذا واضح يعود على زيد، والضمير المستكن، يعود على من؟ من الضارب هل هو هند أم زيد؟ زيد. هنا وجدت قرينة، وهي ضاربها، لو قال: ضاربته لكانت هي الضاربة، ولما قال: ضاربها علمنا الضمير يعود إلى زيد فهو الضارب، حينئذٍ نقول: عاد الضمير هنا على غير من هو له، وأُمن اللبس، فحينئذٍ لم نحتج إلى إبراز الضمير، لكن مذهب البصريين أنه يجب حتى في مثل هذه الحالة، ولذلك يقول: زيد هند ضاربها هو، هو هذا واجب الإبراز عند البصريين، لماذا؟ لأن الضمير جرى على غير من هو له، هذه العلة فقط، بقطع النظر عن كونه أُمن اللبس أو لا ما دام أن الضمير هنا رجع إلى غير من هو له حينئذٍ نقول: هذا ..


وجب إبراز الضمير، ولو قيل: هند زيد ضاربته هي، هند: مبتدأ أول، زيد ضاربته: مبتدأ ثاني وخبره، ضاربته: تاء التأنيث، والفاعل ضمير مستتر، وضاربته: الهاء هذا في محل نصب مفعول به، هل فيه لبس؟ ليس فيه لبس؛ لوجود تاء التأنيث، فدل على أن الفاعل هند -المبتدأ الأول- هند زيد ضاربته، الأصل في ضاربته "الضمير" أن يعود إلى زيد لكنه عاد إلى الأول إلى غير من هو له لكن وجدت قرينة وهي التاء كما وجد هناك ضاربها الهاء مذكر، إذاً هذا أُمن اللبس وعند البصريين يجب الإبراز -إبراز الضمير-، والصحيح أنه لا يجب إذا أُمن اللبس، تفريق بين النوعين، ومثال ما لم يؤمن فيه اللبس لولا الضمير: زيد عمرو ضاربه، هنا يرد إشكال، زيد عمرو ضاربه، زيد: مبتدأ أول، وعمرو: مبتدأ ثاني، ضاربه، من الضارب ومن المضروب؟ هذا يحتمل أن يكون الضارب هو عمرو وزيد مضروب، ويحتمل أن يكون زيد هو الضارب وعمرو هو المضروب، لكن لو جرينا على الأصل أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأن الخبر إنما أُخبر به عن مبتدئه فالأصل أن نقول: لا إشكال في هذه، إذا كان الضارب هو عمرو فالأصل عدم إبراز الضمير، زيد عمرو ضاربه لا إشكال، لكن إذا أراد المتكلم أن الضارب هو المبتدأ الأول حينئذٍ لابد من إبراز الضمير؛ لأن المخاطب سيفهم عود الضمير إلى أقرب مذكور، زيد عمرو ضاربه فالضارب عمرو هذا هو الأصل، فلو لم يذكر "هو" فحينئذٍ نقول: المخاطب إذا أجرى الضمير إلى من هو له لا إشكال فيه، ولكن لو كان مراد المتكلم أن الضمير هنا أجري على غير من هو له وجب عليه إظهار الضمير فيقول: زيد عمرو ضاربه هو، أي: زيد، فزيد هو الضارب وعمرو هو المضروب، ولو أسقطنا "هو" لكان عمرو هو الضارب وزيد هو المضروب، ففرق بين الجملتين هذا إذا لم يؤمن اللبس وجب إبراز الضمير عند البصريين وكذلك عند الكوفيين، فإذا أُمن اللبس وقع النزاع بين الطائفتين أوجبه البصريون ولم يوجبه الكوفيون، ومذهب الكوفيين أقرب.
إذاً زيد عمرو ضاربه هو، فيجب إبراز الضمير في الموضعين عند البصريين، وهذا معنى قوله: وَأَبْرِزَنْهُ مُطْلَقاً، أي: سواء أُمن اللبس أو لم يؤمن، وأما الكوفيون فقالوا: إن أُمن اللبس جاز الأمران كالمثال الأول زيد هند ضاربها هو؛ لأن ثَم قرينة هنا ضاربها ولم يقل ضاربته دل على أن الهاء هنا يعود على زيد فهو الفاعل؛ لأن المبتدأ الثاني مؤنث، فلو كان راجعاً إليه لقال: ضاربته، لكن لما ذَكَّر علمنا أنه أراد الأول، فإن شئت أتيت بهو وإن شئت لم تأت به، وإن خيف اللبس وجب الإبراز كالمثال الثاني وهذا مذهب الكوفيين، واختار المصنف هنا مذاهب البصريين، واختار في غير هذا الكتاب مذهب الكوفيين.
إذن:
وَأَبْرِزَنْهُ مُطْلَقاً حَيْثُ تَلاَ ... مَا لَيْسَ مَعْنَاهُ لَهُ مُحَصَّلاَ

مراده: أن الضمير المستكن في المشتق المفرد إذا عاد إلى من هو له حينئذٍ لا كلام فيه، وإن عاد إلى غير من هو له فله حالان: إما أن يؤمن اللبس معه وإلا لا، في الحالتين يجب إبراز الضمير على مذهب البصريين.


وَأَبْرِزَنْهُ مُطْلَقاً، أُمن اللبس أو لا، حَيْثُ تَلا: الخبر المشتق مَا، أي: مبتدأً لَيْسَ مَعْنَاهُ: معنى الخبر لَهُ لذلك المبتدئ مُحَصَّلا، لم يؤتَ من أجله وإنما جيء من أجل الآخر، ولذلك استدل الكوفيون على أنه لا يجب الإبراز مع أمن اللبس بقول القائل:
قَوْمِي ذُرَى المَجْدِ بَانُوْهَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... بِكُنْهِ ذَلِكَ عَدْنَانٌ وقَحْطَانُ

قَوْمِي: هذا مبتدأ أول، ذُرَى المَجْدِ: مضاف ومضاف إليه وهو مبتدأ ثاني، قال: بَانُوْهَا: الضمير هنا يعود على من؟ لو على قومي لقال: بانوها هم، لكنه عاد مع أمن اللبس هنا على قومي، قَوْمِي ذُرَى المَجْدِ بَانُوْهَا، حيث جاء بخبر المبتدئ مشتقاً ولم يبرز الضمير مع أن المشتق ليس وصفاً لنفس مبتدئه في المعنى، ولو أبرز الضمير لقال: قَوْمِي ذُرَى المَجْدِ بَانُوْهَا هم، إذاً لم يبرز الضمير مع كونه رجع إلى قومي، وذُرَى المَجْدِ هذه مبنية وليست بانية وإنما الباني هم القوم، التقدير بانوها هم، فحذف الضمير؛ لأمن اللبس.
وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ اوْ بِحَرْفِ جَرّ ... نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتَقَرّ

هذا هو النوع الثالث من أنواع الخبر وهو ما كان شبه جملة وهو الظرف والجار والمجرور، وَأَخْبَرُوا، أي: العرب، أو حكم النحاة بجواز الإخبار بالظرف أو حرف جر، بِظَرْفٍ: كما هو في قوله تعالى: ((وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) [الأنفال:42]، َالرَّكْبُ: هذا مبتدأ، وأَسْفَلَ: هذا ظرف مكان وهو خبر، أوْ هذا للتنويع بِحَرْفِ جَر كقوله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ)) [الفاتحة:2]، الْحَمْدُ: مبتدأ، ولِلَّهِ: جار ومجرور، نقول: خبر أو متعلق بحذوف.
نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتَقَر، يشترط في الظرف وحرف الجر إذا وقعا خبرين أن يكونا تامين، فليس كل ظرف يصح أن يكون خبراً وليس كل جار ومجرور يصح أن يكون خبراً بل الشرط أن يكون فيهما معنى التمام، وسبق أن التمام المراد به أن يُفهم منه متعلقة المحذوف، إذا قال: زيد في الدار، عرفت أن في الدار هذا متعلق بمحذوف يتم الكلام به وهو كائن أو استقر، وكذلك زيد عندك، عندك نقول: هذا ظرف وهو تام؛ لأنه من إطلاق اللفظ عرفت المحذوف وهو المتعلق كائن أو استقر، إن لم يكن كذلك فحينئذٍ نقول: هذا ظرف ناقص أو جار ومجرور ناقص لا يصح الإخبار به، زيد بك، بك ليس بكلام هذا، لم يحصل به فائدة، زيد فيك، زيد لك، نقول: هذا جار ومجرور لم يحصل به الفائدة، نسميه ناقصاً؛ لأنه لم يفهم منه المتعلق، إذاً الناقص ما لا يفهم بمجرد ذكره وذكر معموله ما يتعلق به لم يُعرف بمجرد ذكره بك لم نعرف ما هو المتعلق، مع أنه يحتمل أنه زيد واثق بك، زيد فيك، زيد راغب فيك، زيد عنك، زيد معرض عنك، هذه كلها متعلقات هل تفهم من الكلام؟ ما يفهم، إذا قلت: زيد بك، ما تفهم أن المتعلق هو راغب أو واثق، أو معرض، نقول: كونه لا يدل على المتعلق هذا ناقص، وإذا دل عليه يكون تاماً وإنما يدل على المتعلق في حالين، إذا كان المتعلق المحذوف عاماً، وهو ما عبر عنه بـ: كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، يعني: لفظ يدل على الوجود والحصول والحدوث، كل لفظ يدل على هذه الألفاظ وهذه المعاني فهو كون عام، فهو متعلق عام.


النوع الثاني: أن يكون المتعلق خاصاً، والمتعلق الخاص مثل ما ذكرناه: زيد واثق بك، واثق: هذا حدث خاص ليس كالحدوث العام والكون العام والاستقرار العام، حينئذٍ نقول: هذا كما فصلناه سابقاً نقول: هل يجوز حذفه أو لا؟ فيه تفصيل: إن دل عليه دليل جاز وإلا فلا، حينئذٍ إذا قلت: زيد مسافر غداً، زيد: مبتدأ، ومسافر: خبر، وغداً: نقول: هذا ظرف زمان متعلق بمسافر، إذاً مسافر متعلَّق، وغداً متعلِّق وهو ظرف، متعلَّق بفتح اللام مسافر، خاص أم عام؟ خاص، نقول: في هذا التركيب لا يجوز أن يحذف، لماذا؟ لأنك لو قلت زيد غداً، ما تفهم، مثل زيد بك رجعنا إلى الأول فهو ناقص، فلا يفهم المتعلق المحذوف بذكر هذا الظرف، حينئذٍ نقول: هذا ناقص لا يجوز، فلا يجوز حذفه إلا إذا دل عليه دليل، لو قال: زيد مسافر غداً، وعمرو يوم الجمعة، عمرو: مبتدأ، ويوم الجمعة نقول: هذا متعلق بمحذوف خبر، عام أو خاص؟ خاص، جاز حذفه أو لا؟ جاز حذفه، لماذا؟ لقرينة؛ لأنه ذكره سابقاً حينئذٍ جاز حذفه، في هذين الموضعين نقول: الظرف والجار والمجرور تامين، هما تامان، إذا كان المحذوف متعلقاً عاماً، وإذا كان المحذوف متعلقاً خاصاً دل عليه دليل، وأما إذا لم يكن ذلك فهو ناقص، والناقص ما لا يفهم بمجرد ذكره وذكر معموله ما يتعلق به: زيد بك، زيد فيك، زيد عنك، أي: واثق بك، وراغب فيك، ومعرض عنك، فلا يقع خبراً إذ لا فائدة فيه، إذاً الناقص لا يقع خبراً؛ لأن من شرط الخبر أن يكون مفيداً ولذلك سبق: وَالْخَبَرُ الْجُزْءُ الْمُتِمُّ الْفَائِدَهْ، وأما زيد بك لم تحصل به الفائدة فلا يصح أن يكون خبراً.


الجار والمجرور عرفنا أنهما لابد أن يكونا تامين، ثم هل هو الجار نفسه خبر، والظرف يكون هو الخبر أم لا؟ زيد عندك، عرفنا أن الخبر معنى، ووصف، وحكم، أليس كذلك؟ لما قلنا: الخبر محكوم به، والمبتدأ محكوم عليه، حينئذٍ إذا قلت: زيد أخوك، زيد قام أبوه، زيد مسافر، زيد أسد، أسد، وقام أبوه، وزيد أبوه قائم، الأخبار هذه كلها دلت على معانٍ اتصف بها المحكوم عليه وهو المبتدأ، إذاً كل من هذه الألفاظ -الجملة بقسميها والمفرد بنوعيه- دل على معنى في الموصوف وهو المبتدأ، لكن هل هذا المعنى حاصل من ذات اللفظ -لفظ الظرف، ولفظ الجر والمجرور-؟ لو قيل: زيد عندك، أخبرنا عن زيد بلفظ عند، عند: ظرف مكان وملازماً للنصب، وإذا قلنا: كذلك زيد في الدار، الدار: الأصل أن يكون المخبر به هنا مدخول حرف الجر، هل يحصل الإخبار بذات الظرف وبذات المجرور عن المبتدأ؟ لو تأمل المتأمل لوجد أن ثَم فرقاً بين الإخبار بالجملة والمفرد بنوعيه عن الإخبار بالظرف والجار والمجرور ولذلك جماهير النحاة على أن الخبر لا يكون نفس الظرف ولا يكون نفس الجار والمجرور بل لابد أن يكون متعلقاً، واختلفوا في هذا المتعلق هل هو اسم فاعل أو فعل؟ لماذا؟ لا يخرج عن هذين النوعين؛ لأن كلاً من هذين النوعين متضمن لمعنى، هذا المراد، فروا من الجمود المحض في الظرف وفي المجرور وعلقوه بما فيه رائحة المعنى، رائحة الحدث كاسم الفاعل، أو هو حدث في الأصل كالفعل، فحينئذٍ أوجبوا أن يكون الظرف والجار والمجرور ليس هو عين الخبر وإنما هو متعلق بمحذوف، لماذا؟ لأنهم وجدوا أن الفائدة لا تتم بعين الظرف زيد عندك لو لم يستحضر في نفسه كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، زيد عندك هذا مثل: زيد بك، لكن لمَّا دل عندك وهو ظرف مكان على أن المراد الكينونة والحدوث والاستقرار وهذا هو المتعلق العام حينئذٍ صح الإخبار به، لكن لا بذات اللفظ، وإنما بتقدير المتعلق المحذوف، ولذلك جماهير النحاة على هذا، على أن الخبر ليس هو عين الظرف، وليس هو عين الجار والمجرور؛ لأنه في ذاته دون نظرٍ إلى المتعلق لا يدل على معنىً البتة، ليس فيه معنى، وليس فيه فائدة، ولكن إذا فهم الإنسان زيد عندك، أنت في ذهنك أن ثَم فائدة لا. الفائدة هذه حصلت بماذا؟ باستحضار الاستقرار الذي أنت فهمته من الجملة وهذا قدر زائد على اللفظ، وهو الذي أراده النحاة هنا، أن يكون هذا اللفظ لم يدل على الخبر أو معنى الخبر بذاته، وإنما تعلق بمحذوف، وهذا المحذوف واجب الحذف إن كان عاماً، وجائز الحذف إن خاصاً ودل عليه دليل لابد من هذا، فإن كان المحذوف عاماً مثل ما ذكرنا زيد في الدار، زيد: مبتدأ، وفي الدار نقول: هذا جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر، زيد عندك، عند نقول: هذا ظرف متعلق بمحذوف، أليس كذلك؟! والمحذوف على الصحيح كما سيأتي هو الخبر، وهذا قيد له ومتمم لمعناه، إذاً أوجب النحاة أن يكون الظرف والجار والمجرور متعلقين بمحذوفين نقدر هذا المحذوف عاماً أو خاصاً إن لفظ به لا إشكال فيه وإن حذف حينئذٍ لابد أن يكون ثَم دليل عليه ولذلك قال ابن عقيل: فكل منهما متعلق بمحذوف واجب الحذف، واجب الحذف هذا إذا كان عاماً يجب حذفه لا يجوز أن يذكر، وذكره شاذ


فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُون كَائِنُ، هذا شاذ يحفظ ولا يقاس عليه، ولا يكونان خبراً إلا إذا كان متعلقهما عاماً؛ لأنه واجب الحذف، حينئذٍ إذا أثبتنا وقررنا أن الظرف والجار والمجرور كل منهما متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف واجب الحذف، وهو كون عام، بماذا نقدره؟ الناظم قال: نَاوِينَ، أي: قاصدين في قلوبهم؛ لأن النية محلها القلب، نَاوِينَ-وأظن التصريح بها ليس ببدعة عندهم-: نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ، أي: قاصدين بالإخبار بالظرف أو الجار والمجرور مَعْنَى كَائِنٍ أو معنى اسْتََقَرْ، والفرق بين اللفظين: كائن اسم فاعل، واستقر فعل، وكلا القولين قرر أنه لابد أن يكون متعلق الجار والمجرور ما فيه وصف؛ ليصح الإخبار بالظرف والجار والمجرور، وهل الناظم يريد التخيير أو حكاية خلاف بين النحاة؟ الظاهر الأول: أنه يريد في هذا المتن التخيير؛ لأنه قال: نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، كائن هذا مشتق من الكون، واستقر هذا فعل صريح، مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، الظاهر أنه جوز الأمرين.
وقد يترجح يجوز هذا ويجوز ذاك، ولكن أيهما أرجح؟ هذه مسألة أخرى، وقد يتعين عند بعضهم أن يكون كائناً، وقد يتعين عند بعضهم أن يكون استقر، حينئذٍ تكون من حيث الإجمال الأقوال ثلاثة:
منهم من جوز الوجهين: كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ.
ومنهم من ألزم بتقدير اسم فاعل ومنع أن يقدر بالفعل.
ومنهم من عكس.
من رجح بأنه اسم فاعل استدلوا بأنه قد ورد في الشعر العربي ذكر الخبر ظرفاً، وذكر معه اسم الفاعل
لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ وَإِنْ يُهَنْ ... فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُون كَائِنُ

فَأَنْتَ: مبتدأ، كَائِنُ لدى: لَدَى هذا ظرف، كَائِنُ: هذا الخبر، صرح به، إذاً إذا صرح به شذوذاً حينئذٍ نقول: ما لم يصرح به فالأولى حمله على ما نطق به، فرجحوا أن يكون المتعلق اسم فاعل.
الثاني: أن هذا المتعلق خبر، والأصل في الخبر أن يكون مفرداً، وكائن هذا مفرد، واستقر هذا جملة، حينئذٍ إذا قدرنا استقر قدرناه على غير أصله، وإذا قدرنا كائن حينئذٍ قدرناه على أصله وهو المفرد.
ثالثاً: أن تقدير اسم الفاعل يغني عن تقدير شيء آخر معه، بخلاف ما إذا قدرناه فعلاً، إذا قيل: زيد كائن في الدار، زيد استقر في الدار، كائن ماذا قدرناه؟ قدرنا لفظاً واحداً، واستقر؟ قدرنا الفعل وفاعله؛ لأننا قلنا الفاعل هنا في استقر كالفاعل في قام معتبر، حينئذٍ صار جملة، ولذلك تقول: زيد قام، زيد: مبتدأ، قام: هنا من باب الإخبار بالمفرد أو بالجملة؟ بالجملة إذاً استقر جملة، حينئذٍ إذا قدرته كائن قدرت مفرداً واحداً لفظاً، وإذا قدرت استقر قدرت شيئين، إذاً هو مُحْوِجُكَ إلى تقدير شيء آخر.


كذلك أنَّ تقدير اسم الفاعل قد يتعين في بعض المواضع، المحذوف أن يكون المقدر اسم فاعل، وذلك فيما إذا وقع الجار والمجرور أو الظرف بعد أما، أما معك فزيد، هنا لا يصح أن يقدر متعلق معك فعلاً؛ لأن الفعل لا يلي أما، وكذلك: خرجتُ فإذا زيد عندك، حينئذٍ إذا الفجائية وأما لا يليهما فعل فيجب تقدير اسم الفاعل، إذاً تعين –الشاهد- تعين تقدير اسم الفاعل في بعض المواضع، فإذا تعين في بعض المواضع حينئذٍ ما جاء التردد فيه حمله على ما تعين من باب أولى وأحرى، فيقدر في الجميع -طرداً للباب- يقدر اسم الفاعل.
وذهب ابن الحاجب تبعاً للزمخشري والفارسي ورجحه الرضي: أن يكون المتعلق فعل، يعني: استقر، أو ثبت، أو كان، أو حصل؛ لوجوه منها:
أنه عاملٌ النصب في لفظ الظرف، وفي محل الجار والمجرور، زيد عند، عند: هذا منصوب، منصوب بماذا؟ بمحذوف، ما الأصل في العمل؟ للفعل، ما الأصل في العمل؟ نقول: أصل العمل للفعل، إذاً تقديره فعلاً من أجل أنه عامل أولى؛ لأن عند هذا منصوب لفظاً، وفي الدار هذا منصوب محلاً.
أنه قد يتعين تقدير الفعل كما في الصلة، عكس السابق، أما عندك فزيد، أما في الدار فزيد، هنا لا يصح أن يتعلق إلا باسم فاعل، في الصلة كما سبق معنا: جاء الذي في الدار، يعني: استقر في الدار، يتعين أن يكون هنا ماذا؟ أن يكون فعلاً؛ لأن جملة الصلة لا تكون إلا جملة لا تكون مفرداً، لو قيل: جاء الذي كائن في الدار صار مفرداً، ومرد الظرف والجار والمجرور إلى الجملة، إذن: أنه قد يتعين تقدير الفعل كما في الصلة، فإن صلة الموصول لا تكون إلا جملة، فتقديره في غيرها يكون من باب طرد الباب على وتيرة واحدة.
وأُجيب عن هذا الثاني -لأنه مشكل- أُجيب بأن ثَم فرق بين الموضعين، فإنه في الصلة واقع موقع الجملة وأما في الخبر فهو واقع موقع المفرد ففرق بينهما، إذا قيل: يتعين أن يقدر المتعلق في باب الصلة جملة استقر، نقول: لأن قوله: جاء الذي عندك، عندك هذا وقع موقع المفرد أو الجملة؟ الجملة إذاً نرده إلى الجملة، وأما زيد في الدار، في الدار وقع موقع المفرد إذاً نرده إلى المفرد، ففرق بينهما، لا يقاس هذا على ذاك.
إذاً ثَم أدلة لمن قال بأنه اسم فاعل كائن أو أنه فعل وهو استقر أو كان.
ابن مالك هنا لعله جوز الوجهين؛ لأن كل منهما له وجهه وله اعتبار، ولذلك قال: نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، ولهذا قال ابن هشام في المغني -لعله موافق لابن مالك-: والحق عندي أنه لا يترجح تقديره اسماً ولا فعلاً، لا نرجح نقول: نقول فعل مطلقاً ولا اسم مطلق، بل المعنى يتغير باعتباره كونه اسماً، ويتغير باعتبار كونه فعلاً، حينئذٍ بحسب المعنى تقدره، إن اقتضى المقام أن تكون الجملة جملة فعلية حينئذٍ ترده إلى جملة فعلية؛ لأنها تدل على الحدوث والاستمرار، وإن اقتضى المقام أنك تقدره بكائن وهو ليس بجملة حينئذٍ تقدره اسم فاعل، حينئذٍ بحسب المعنى.
قال رحمه الله: والحق عندي أنه لا يترجح تقديره اسماً ولا فعلاً بل بحسب المعنى، وإن جهلت المعنى فقدر الوصف؛ لأنه صالح للأزمنة كلها وإن كان حقيقة في الحال، إن تردد الإنسان حينئذٍ يرجع إلى اسم الفاعل.


وَأَخْبَرُوا بِظَرْفٍ أوْ بِحَرْفِ جَرّ ... نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتَقَرّ

إذاً الظرف نفسه ليس بخبر، وكذلك الجار والمجرور نفسه ليس بخبر وإنما المتعلَّق؛ لكن هل هو المتعلَّق مع الجار والمجرور أم المتعلَّق وحده؟ هذا محل نزاع بين النحاة، وهي: أن المتعلَّق مع المتعلِّق المجموع هل هو الخبر أم المتعلَّق وحده أم المتعلِّق وحده، إذا قلت: زيد في الدار، فقلنا: زيد كائن أو استقر، ما هو الخبر في حقيقته؟ هل هو كائن وفي الدار قيد له؟ أم أنه كائن مع قيده أم الظرف نفسه؟ ثلاثة أقوال للنحاة:
جمهور البصريين على أنه المجموع، الملفوظ به مع المتعلَّق، يعني: زيد كائن في الدار، كائن في الدار أو استقر في الدار هو الخبر، والصحيح أن المتعلَّق هو الخبر، لماذا؟ لأنهم اتفقوا بإجماع على أنهم إذا قالوا: زيد مسافر غداً، ما هو الخبر؟ مسافر، وغداً؟ هذا قيد متعلِّق ومسافر متعلَّق، مسافر متعلَّق وغداً نقول: هذا متعلِّق.
إذاً ما دام أنهم فيما إذا صرح بالمتعلَّق الخاص وجعلوه خبراً حينئذٍ طرداً للباب فليكن ذلك مثلهم، فنقول: الذي يكون خبراً في الحقيقة وإن أطلق لفظ الخبر على الظرف مجازاً إلا أن المتعلَّق هو الظرف وليس المتعلِّق.
ذهب ابن كيسان إلى أن الخبر في الحقيقة هو العامل المحذوف كائن أو استقر، وأن تسمية الظرف خبراً مجاز، وتابعه ابن مالك رحمه الله تعالى.
وذهب الفارسي وابن جني إلى أن الظرف هو الخبر حقيقة، وأن العامل صار نسياً منسيا، يعني: الظرف نفسه (عند) هو الخبر، وأما العامل قال: صار نسياً منسيا، كيف صار نسياً منسيا ونقول: (عند) منصوب بذلك العامل؟ لم يكن نسياً منسيا، إذا صار نسياً منسيا معناه: ذهب وأثره معه، ولكن لما بقي الأثر حينئذٍ لا يمكن نقول بأنه صار نسياً منسيا، هذا قول ضعيف، وابن جني نحوي كبير.
إلى أن الظرف هو الخبر حقيقة، وأن العامل صار نسياً منسيا.
وصحح ابن هشام في التوضيح أن الخبر في الحقيقة متعلقهما المحذوف، وأن تقديره كائن أو مستقر -رجح اسم الفاعل- لا كان أو استقر، فإن الضمير الذي كان فيه انتقل إلى الظرف والمجرور بدليل:
(فَإنَّ فُؤَادِي عِنْدَكِ الدَّهْرَ أَجْمَعُ ... ).
لأن استقر وكائن –إذا قيل استقر وكائن- فيهما الضمير فلما حذفا انتقل الضمير إلى الظرف، بدليل هذا: فَإنَّ فُؤَادِي عِنْدَكِ الدَّهْرَ أَجْمَعُ: أَجْمَعُ، بالرفع، ولا يمكن أن يكون تأكيداً لفؤادي؛ لأنه منصوب اسم إن، ولا عندك؛ لأنه منصوب، ولا الدهر؛ لأنه منصوب، هذه كلها الثلاثة منصوبات، وأجمعُ بالرفع حينئذٍ صار تأكيداً للضمير المستكن في قوله: (عندك) فيه ضمير مستكن، ولذلك عند المحققين -كما يقال-: عندك زيد، زيد عندك، ليس فيها إلا وجه واحد من حيث الإعراب، زيد: مبتدأ، وعند هذا متعلق بمحذوف خبر، وعندك زيد هذا يجوز في زيد وجهان:
أن يكون مبتدأً وخبره متقدم، وأن يكون فاعلاً بالاستقرار المحذوف الذي دل عليه عند؛ لأنك تقول: عندك زيد، عند متعلق بمحذوف استقر، واستقر يطلب فاعلاً، فحينئذٍ استقر عندك زيد، هذا التركيب، فالأصل فيه أن يكون زيد فاعل لذلك الاستقرار المحذوف هذا الأصل فيه، فيجوز فيه الوجهان.


قال: واختلف النحويون في هذا، فذهب الأخفش إلى أنه من قبيل الخبر بالمفرد، وأن كلاً منهما متعلق بمحذوف، وذلك المحذوف اسم فاعل، والتقدير زيد كائن عندك، أو مستقر عندك، أو في الدار، ونسب هذا لسيبويه، وعليه يكون رده إلى المفرد.
وقيل: إنهما من قبيل الجملة، وأن كلاً منهما متعلق بمحذوف هو فعل، والتقدير: زيد استقر، أو يستقر عندك أو في الدار -انظر التقدير لا يكون قبل المبتدأ، وإنما يكون بعده؛ لأنك لو قدرته قبل المبتدأ لرفعته على أنه فاعل- ونسب هذا إلى جمهور البصريين وإلى سيبويه أيضاً.
وقيل: يجوز أن يجعل من قبيل المفرد فيكون المقدر مستقراً ونحوه وأن يجعل من قبيل الجملة، فيكون التقدير استقر، وهذا ظاهر قول المصنف: نَاوِينَ مَعْنَى كَائِنٍ أوِ اسْتََقَرْ، هذا هو الظاهر والله أعلم، وأن رجح في غيرِه غيره.
وذهب أبو بكر ابن السراج إلى أن كلاً من الظرف والمجرور قسم برأسه ليس من قبيل المفرد ولا من قبيل الجملة، والحق خلاف هذا المذهب وأنه متعلق بمحذوف وذلك المحذوف واجب الحذف، وقد صُرح به شذوذاً
لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ وَإِنْ يُهَنْ ... فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُون كَائِنُ

فَأَنْتَ: مبتدأ، وكائن خبره، ولَدَى هذا متعلق به، إذاً يجب حذف المتعلق الجار والمجرور إذا وقعا خبراً، كذلك يجب حذفهما إذا وقعا صلة وصفة وحالاً فالحكم عام، والتعليق: إما أن يكون باستقر وإما أن يكون بمستقر، الخلاف نفسه، فأربعة مواضع يجب فيها حذف المتعلق الجار والمجرور فيما إذا وقعا، يعني: الظرف والجار والمجرور خبراً، وهذا بيناه، وكذلك إذا وقع صفة مررت برجل عندك، عند نقول: هذا متعلق بمحذوف واجب الحذف صفة لرجل، وكذلك إذا وقع حالاً مررت بزيد عندك، نقول: عندك هذا متعلق بمحذوف حال من زيد، وكذلك إذا وقع صلة كما سبق، هذه أربعة مواضع يجب فيها حذف المتعلق إلا أنه يتعين باتفاق أن يكون المتعلق في باب الصلة فعل وما عداها على الخلاف الجاري.
وَلاَ يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرَا ... عَنْ جُثَّةٍ وَإِنْ يُفِدْ فَأَخْبِرَا


وَلا يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرَا عَنْ جُثَّةٍ .. خَبَرَاً اسم الزمان، عَنْ جُثَّةٍ، يعني: عن جوهر، المبتدئ الذي يقع الإخبار عنه إما أن يكون جوهراً وإما أن يكون عرضاً، جوهر جثة كزيد مثلاً، والهلال، والشمس، والبيت، والمسجد، نقول: هذه جثة مدركة بحس، وإما أن يكون عرضا، يعني: معنى من المعاني، كالقتال، والعلم، والخير، والفضل، نقول: هذه كلها معاني، والخبر إما أن يكون اسم زمان وإما أن يكون اسم مكان، إذا كان ظرف - والكلام في الظرف - فحينئذٍ إذا كان المبتدأ جثة واسم معنى -عرض يعني- والخبر ظرف مكان أو ظرف زمان صح الإخبار بظرف المكان عن نوعي المبتدأ، فيقال: زيد أمامك، والخير أمامك، زيد هذا مبتدأ، ما نوعه؟ نقول: جثة، يعني: جسم، وأمامك هذا ظرف مكان، صح الإخبار بأمامك عن زيد وهو جثة، كذلك الخير هذا معنى من المعاني وهو مبتدأ، أمامك هذا نقول: كذلك ظرف مكان فصح الإخبار بظرف المكان عن اسم المعنى، وأما إذا كان الخبر ظرف زمان حينئذٍ يُفصَّل: إن كان المبتدأ اسم معنى جاز، الصوم اليوم، الصوم هذا معنى ليس بجثة وهو مبتدأ، واليوم هذا اسم زمان صح الإخبار أو لا؟ صح؛ لحصول الفائدة، وأما إذا كان جثة، -المبتدأ جثة- والخبر ظرف زمان قال الناظم:
وَلا يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرَاً عَنْ جُثَّةٍ، لا يقع؛ لعدم الفائدة، زيد اليوم ما يصح، زيد: هذا جثة، واليوم: هذا اسم زمان، هل هو مثل الصوم اليوم؟ لا، الصوم اليوم أفاد، والأصل في التركيب حصول الفائدة، فمتى ما حصلت الفائدة صح التركيب، وأما زيد اليوم نقول: لم يحصل فيه فائدة، حينئذٍ يمتنع أن يُخبر باسم الزمان عن الجثة، لماذا؟ لأن الغالب أنه لا يفيد.
إذاً وَلا يَكُونُ هذا نفي أراد به النهي؛ لئلا يستخدم هذا التركيب وَلا يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرَاً عَنْ جُثَّةٍ، اسْمُ زَمَانٍ اسْمُ: هذا اسم يكون، وخَبَرَاً هذا خبر يكون وعَنْ جُثَّةٍ متعلق به، أي: جسم لعدم الفائدة، إذاً لا يخبر بالزمان عن الذات فلا يقال: زيد اليوم؛ لعدم الفائدة، سواء جئت به منصوباً أو مجروراً بفي، وما ورد حينئذٍ يكون مؤولاً على حذف مضاف.
وَإِنْ يُفِدْ فَأخْبِرَا، وَإِنْ يُفِدْ إن حصلت الفائدة به في بعض التراكيب وهي مخصوصة ولها ضابط حينئذٍ فَأخْبِرَا، فَأخْبِرَا هل هو على التأويل أو أخبرا بذات اللفظ؟ مذهب البصريين أنه إذا سمع اسم الزمان خبراً عن الجثة وجب التأويل على حذف مضاف، وكلام الناظم يحتمل هذا، ويحتمل أنه لا نحتاج إلى التأويل بل على الأصل؛ لأن العبرة بماذا؟ بحصول الفائدة، إن حصلت الفائدة صح الإخبار دون تأويل، وإن لم تحصل الفائدة حينئذٍ يمنع من أصله، ظرف المكان يقع خبراً عن الجثة زيد عندك، وعن المعنى القتال عندك.
وأما ظرف الزمان فيقع خبراً عن المعنى منصوباً أو مجروراً بفي هذا ظرف الزمان، يقع خبراً عن المعنى، منصوباً، أو مجروراً بفي، القتال يوم الجمعة، حصلت الفائدة، أو في يوم الجمعة جُرَّ في يوم الجمعة الجار والمجرور متعلق بمحذوف، ولا يقع خبراً عن الجثة.


إذاً المبتدأ نوعان: اسم معنى، واسم جثة، والظرف إذا وقع خبراً نوعان: اسم زمان واسم مكان، اسم المكان في الغالب أنه إذا أخبر به عن المبتدأ مطلقاً بنوعيه أفاد، ولذلك جوزوا أن يخبر باسم المكان عن المبتدأ مطلقاً سواء كان جثة أو لا.
وأما اسم الزمان فلما كان الإخبار به عن اسم المعنى مبتدأ اسم معنى لما كان الغالب أنه يفيد لم يستثنوه، وأما لما كان الغالب في ظرف الزمان أو اسم الزمان أنه لا يفيد إذا أخبر به عن الجثة قالوا: هذا يمنع، والعلة في عدم الجواز أن الشأن في أسماء الذوات جثة -الأصل فيها- أن يكون وجودها مستمراً في جميع الأزمنة، إذا قيل: زيد وهو حي، إذاً في الماضي سنة سنتين ثلاث واليوم وغداً هذا الأصل فيه أنه موجود في جميع الأزمنة فيستغرق الماضي بحسبه، والحال والمستقبل بما كتب له، هذا الأصل فيه، إذاً الجثة هذه التي أخبر عنها سواء كان إنسان أو غيره الأصل فيه أنها مستمرة في جميع الأزمان، فالإخبار عنها باسم الزمان الدال على حصة معينة منه يكون تخصيصاً للذات؛ لأن اسم الزمان مهما كان لابد أنه يدل على شيء معين قدر معين حينئذٍ يحصل نوع تعارض بين وجود الذات والجثة في جميع الأزمنة وبين تخصيصه بزمن معين، زيد اليوم، زيد موجود في كل يوم كونك تخبر عنه بكونه في اليوم، هذا ما الفائدة منه؟ هذا فيه نوع تخصيص له بزمن معين والأصل فيه الاستمرار في جميع الأزمنة، فالإخبار عنها باسم الزمان الدال على حصة معينة منه يكون تخصيصاً للذات بالوجود في زمن خاص مع أن وجودها حاصل في غير هذا الزمان مثل حصولها فيه، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا يفيد السامع شيئاً لم يكن يعلمه، فزيد اليوم نقول: هذا فاسد لم يفد؛ لأن زيد موجود في اليوم وقبل اليوم وغداً، فكونك تخبر عنه بأنه اليوم، هل حصلت فائدة؟ لم تحصل فائدة البتة، إذاً منع هذا النوع لهذه العلة، وأما إذا كان اسم معنى فالأصل فيه الموافقة كذلك إذا كان الظرف اسم مكان حينئذٍ يجوز الإخبار به مطلقاً.
قال: ولا يقع خبراً عن الجثة إلا إذا أفاد، نحو: الليلة الهلال، الهلال جثة والليلة هذا اسم الزمان، حينئذٍ وقع الإخبار عن الجثة باسم الزمان، والرطب شهري ربيع، رطب جثة، شهري ربيع هذا زمان، رطب هذا مبتدأ، شهري هذا خبر، فإن لم يفد لم يقع خبراً عن الجثة نحو زيد اليوم، وإلى هذا ذهب قوم منهم المصنف، وذهب غير هؤلاء إلى المنع مطلقاً فإن جاء شيء من ذلك يؤول نحو قولهم: الليلة الهلال، يعني: الليلة طلوع الهلال، والطلوع هذا جثة أو معنى؟ معنى، إذاً أخبر باسم الزمان عن اسم معنى، فيرد إلى اسم المعنى، والرطب شهري ربيع، يعني: وجود الرطب، والوجود هذا شيء معنوي فأخبر عنه باسم الزمان، وهذا مذهب جمهور البصريين.


وذهب قوم منهم المصنف إلى جواز ذلك من غير شذوذ لكن بشرط أن يفيد كقولك: نحن في يوم طيب، ولذلك قال: وَإِنْ يُفِدْ فَأخْبِرَا، وإن لم يفد لا تخبر، حينئذٍ شرط الإفادة هنا هل هي مع التأويل أو بدون تأويل؟ الظاهر والله أعلم بدون تأويل؛ لأنه إذا كان بتأويل وافق غيره، لكن أراد المصنف أنه لا نحتاج إلى تأويل؛ لأننا نفينا في الأصل أنه يخبر به عن الجثة لعدم الفائدة، لكن إذا وجد في بعض التراكيب حصلت فائدة للسامع حينئذٍ لا مانع من ذلك دون تأويل، فالليلة الهلال لا نحتاج إلى تأويل، فنقول: الليلة هذا متعلق محذوف خبر، والهلال هذا مبتدأ، أخبر عن الجثة باسم الزمان، يصح أو لا يصح؟ نقول: يصح بدون تأويل، لا نحتاج أن نقول: طلوع الهلال الليلة، لا نحتاج إلى هذا، لماذا؟ لأن الأصل هو الإخبار، ونفي هذا الأصل لعدم الفائدة في الغالب، وإذا انتفت الفائدة في الغالب لا يلزم أن تلحق كل المفردات والآحاد، فإذا وجد في بعض الأفراد والمفردات والتراكيب مما أخبر باسم الزمان عن الجثة حينئذٍ نقول: إذا وجدت الفائدة فهي المعتبرة، إذاً قول المصنف: وَإِنْ يُفِدْ فَأخْبِرَاً، فَأخْبِرَاً هذا للإباحة؛ لأنه منع أولاً ثم أمر حينئذٍ يكون شيئاً مباحاً، الأمر بعد النهي للإباحة يعتبر قرينة، وَإِنْ يُفِدْ فَأخْبِرَاً.
لكن إذا أريد على مذهب البصريين والتأويل، نقول: ضابط الإفادة أن يشابه اسم العين اسم المعنى في حدوثه وقتاً دون وقت، هذا ضبطه البصريون من أجل التأويل، الليلة الهلال، الرطب شهري ربيع، قالوا: قد يشبه اسم الجثة اسم المعنى فيخبر به باسم العين باسم زمان ضبطه بعضهم بأن يشابه اسم العين اسم المعنى في حدوثه وقتاً دون وقت نحو الليلة الهلال، والرطب شهري ربيع، أو يضاف إليه اسم معنى عاماً أكل يوم ثوب تلبسه؟ ثوب هذا مبتدأ مؤخر، كل يوم: أضيف كل إلى يوم فأفاد العموم، أو يعم والزمان خاص، نحن في شهر كذا، نحن هذا عام، في شهر كذا هذا خاص، أو مسئول به عن خاص، في أي الفصول نحن؟
إذاً أورد البصريون هذه الضوابط من أجل ماذا؟ من أجل المنع مطلقاً، فإن سمع من كلام العرب أو استعملت بعض التراكيب لابد من التأويل، والصحيح أنه لا نحتاج إلى تأويل بل متى ما أفاد حينئذٍ صار التركيب تاماً.
وَلاَ يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرَا ... عَنْ جُثَّةٍ وَإِنْ يُفِدْ فَأَخْبِرَا

ثم قال رحمه الله:
وَلاَ يَجُوزُ الاِبْتِدَا بِالنَّكِرَهْ ... مَا لَمْ تُفِدْ كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ


النَّكِرَةُ وَالْمَعْرِفَة، سبق أن النكرة ما شاع في جنس موجود أو مقدر، إذاً هو غير معين -فرد مبهم- وأما المعرفة فهي شيء معين، ما وضع ليستعمل في معين، حينئذٍ نقول: لما كان المبتدأ محكوماً عليه والخبر محكوماً به تعين أن يكون المحكوم عليه معلوماً عند المتكلم وعند السامع، هذا الأصل فيه؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والتصور إنما يحصل بالتعيين، فلزم من ذلك تقرير أن يكون المبتدأ معلوماً –معرفة- ولزم من ذلك أن الأصل في الإتيان بالخبر هو إفادة السامع شيئاً لم يعلمه، ولما كانت هذه الإفادة حاصلة بالنكرة استغني عن تعريف الخبر، فلا نحتاج إلى أن يعرف الخبر بل الأصل فيه أن يكون نكرة، لماذا؟ لأن الحكم حاصل بأصل اللفظ وهو التنكير، والمعرفة قدر زائد على مجرد النكرة فحينئذٍ إذا عبرنا عن الخبر بالمعرفة والمعنى والحكم يحصل بالنكرة، قالوا: ما زاد على قدر النكرة صار حشواً، لماذا؟ لأنك زدته لفظاً لم يحتج إليه، زدته أحرفاً لم يحتج إليها، زدته معنى كالعلمية ونحوها لم يحتج إليها، فحينئذٍ نقول: الأصل في المبتدأ أن يكون معلوماً عند المخاطب، والأصل في الخبر أن يكون مجهولاً، لماذا الأصل في المبتدأ أن يكون معلوماً؟ لأنه محكوم عليه، والأصل أن أخبرك بشيء تجهله حينئذٍ لا يمكن أن يكون الطرفان مجهولين عندك، لابد أن يكون الأول معلوماً، أمهد لك بالأول من أجل أن أضع عليه الحكم الثاني وهو الخبر، فإذا كان مجهولاً فحينئذٍ لا يمكن التوصل للإخبار بالخبر.
قال: وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ، إذا عرفنا ما سبق، إذاً ما كان نكرة وهو: ما لم يدل على شيء معين أو فرد مبهم، حينئذٍ نقول: الأصل أن لا يجوز أن يبتدأ بالنكرة؛ لأن النكرة مجهولة وإذا كانت مجهولة حينئذٍ الحكم على المجهول ممتنع؛ لأنه صار حكماً بالمجهول على المجهول، صار حكماً بالمجهول الذي هو الخبر، قلنا: زيد عالم، أنت تعرف زيد لكن ما تعرف أنه عالم، أخبرتك بهذا من أجل أن يحصل عندك استقرار بمضمون الخبر، زيد طالب علم أنت ما تدري أنه طالب علم، تعرف زيد لكن ما تعرف أنه طالب علم، إذاً العلم حاصل بالمبتدأ، وأما علمك بالخبر هذا الأصل عدم حصوله فهو مجهول، فإذا كان المبتدأ مجهولاً والخبر مجهولاً إذاً حكم بالمجهول على المجهول وهذا ممتنع.
وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ، لما ذكرناه، لأن معناها غير معين، والإخبار عن غير المعين لا يفيد ما لم يقارنه ما يحصل به نوع فائدة كالمسوغات الآتية التي سيذكرها المصنف وغيره.
ولا يرد الفاعل نكرة مع أنه مخبر عنه في المعنى، قام زيد، قام رجل، أيهما أصل؟ قام جملة فعلية، الأصل في الفاعل أن يكون معرفة أو نكرة؟ الأصل فيه أن يكون نكرة ولا نحتاج إلى قدر زائد إلا لحاجة تناسب المقام، هذا الأصل، وإنما جاز أن يكون الفاعل نكرة، لسبق الحكم عليه، بخلاف المبتدأ، المبتدأ المحكوم عليه سابق في اللفظ، والمحكوم به الذي هو الخبر متأخر، وأما الفاعل فالحكم على الفاعل سابق في الذكر على الفاعل نفسه، فلما قال: قام، حصل تخصيص، رجل حينئذٍ لا بأس أن تأتي بهذه الجملة، ولا بأس أن يكون الفاعل مجهولاً، لسبق الحكم عليه، بخلاف المبتدأ.


ولا يرد الفاعل نكرة مع أنه مخبر عنه في المعنى؛ لتخصصه قبل ذكره بالحكم المتقدم عليه، فالأصل تعريف المبتدأ؛ لأنه المسند إليه، فحقه أن يكون معلوماً؛ لأن الإسناد إلى المجهول لا يفيد، وأما تنكير الخبر فهو الأصل؛ لأن نسبته من المبتدأ نسبة الفعل من الفاعل، والفعل يلزمه التنكير فرجح تنكير الخبر على تعريفه، حينئذٍ إذا اجتمع معرفة ونكرة أيهما أولى بالتقديم؟ فإذا اجتمع معرفة ونكرة فالمعرفة المبتدأ والنكرة الخبر، المعرفة مبتدأ والنكرة هي الخبر، وعند سيبويه: إلا في صورتين، -استثناء من الأصل- أحدهما: كم مالك؟ مالك: هذا معرفة، وكم: هذا نكرة، كم هذا مبتدأ، ومالك هذا خبر، عند سيبويه استثناء من الأصل، الأصل إذا اجتمع معرفة ونكرة حينئذٍ المعرفة هي المبتدأ، والنكرة هي الخبر، إلا في صورتين عند سيبويه: أولها: كم مالك؟ فإن كم مبتدأ وهي نكرة، وما بعدها معرفة؛ لأن أكثر ما يقع بعد أسماء الاستفهام النكرة والجمل والظروف، فتغليباً لهذا الأصل ولهذه الكثرة حينئذٍ ألحقت كم في هذا التركيب بالأكثر، الأكثر في أسماء الاستفهام أن يليها النكرات والجمل والظروف، والجملة في المعنى نكرة ليست معرفة حينئذٍ لما كان هذا هو الغالب فألحقت كم بالغالب حملاً للأقل على الأكثر، ويتعين إذ ذاك كون اسم الاستفهام مبتدأً نحو من قام؟ ومن عندك؟ فحكم على كم بالابتداء حملاً للأقل على الأكثر.
والثانية: أفعل التفضيل، خير منك زيد، والتوجيه كما سبق، خير هذا مبتدأ، وزيد هذا خبره عند سيبويه.


وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ تُفِدْ، وهذا هو الغالب فيها أن النكرة إذا وقعت مبتدأً لا تفيد، يعني: لا يصح أن يسند إليها خبر، وإذا أسند إليها حينئذٍ لا يفيد فائدة تامة، وإن أفاد فائدة ناقصة، مَا لَمْ تُفِدْ كما هو الغالب فإن أفادت جاز الابتداء بها، وتخصيص النكرة هنا بالذكر -قال: النكرة- تخصيص النكرة بالذكر مع الإفادة مع أن الإفادة شرط في الكلام مطلقاً؛ لأن الغالب عدم إفادة الابتداء بالنكرة، إذاً بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ تُفِدْ، خصص هنا عدم الإفادة بالنكرة مع كون الإفادة شرطاً في الكلام، أليس كذلك؟ وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ تُفِدْ، هنا قيد النكرة بالإفادة، مع كون نفي الإفادة عن مطلق الكلام شرط فيه، كَلاَمُنَا لَفْظٌ مُفِيدٌ، إذاً الإفادة شرط في صحة الكلام، لماذا خصص النكرة هنا بنفي الإفادة؟ قال: وتخصيص النكرة بالذكر مع أن الإفادة شرط في الكلام مطلقاً؛ لأن الغالب عدم إفادة الابتداء بالنكرة، والكلام هنا في النكرة، المخبر عنها التي لها مرفوع أغنى عن الخبر بصحة الابتداء بها وإن كانت نكرة محضة، أقائم الزيدان، نقول: لاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ، وقائم هنا مبتدأ، أقائم الزيدان قائم هذا مبتدأ، هل هو داخل في قوله: وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ تُفِدْ؟ هو نكرة وابتدأ بها، نقول: ليس المراد هنا بالوصف المعتمد على نفي أو استفهام، بل المراد به المبتدأ الذي له خبر هذا أولاً، وقاله الكثير من الشراح، ويجاب: بأن قائم هذا معتمد على نفي أو استفهام، والنكرة مطلقاً إذا اعتمدت على نفي أو استفهام جاز أن يبتدأَ بها، فَمَا خِلٌّ لَنَا وكذلك: وَهَلْ فَتًى فِيكُمْ، من باب المثالين.
وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ ... مَا لَمْ تُفِدْ .. إن أفادت حينئذٍ جاز الابتداء بها، وصور إفادة النكرة ابتداءً هذه في الغالب أنها ترجع إلى شيئين اثنين كما قال ابن هشام في قطر الندى: وهي أنها إن عمت أو خصت، بأي وسيلة صار فيها نوع عموم وبأي وسيلة صار فيها نوع خصوص حينئذٍ جاز الابتداء بها، وأكثر ما يذكر من تعداد صور إفادة النكرة فهو راجع إلى هذين السببين، قد يخرج بعضها لكن الغالب هو هذا، إن عمت أو خصت، إن عمت كأن سبقها نفي أو استفهام ((أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) [النمل:60]، إِِلَهٌ هذا مبتدأ، ما الذي جوز الابتداء به؟ كونه مسبوقاً باستفهام، ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ)) [فاطر:3]، خَالِقٍ هذا مبتدأ وهو نكرة، جوز الابتداء به كونه وقع في سياق الاستفهام.


مَا خِلٌّ لَنَا، -كما قال الناظم هنا- {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ} قَرْيَةٍ هذا مبتدأ، ما الذي جوز الابتداء به؟ كونه مسبوقاً بحرف نفي، إذاً إذا عمت كما إذا وقعت في سياق النفي أو الاستفهام؛ لأنها من صيغ العموم حينئذٍ صح الابتداء بها، أو خصت وهذا إما أن يكون بوصف أو إضافة ((وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ)) [البقرة:221]، خَيْرٌ هذا خبر، وَعَبْدٌ هذا مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه موصوفاً، (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللهُ)، خَمْسُ هذا مبتدأ، ما الذي سوغ الابتداء به؟ كونه مضافاً، خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ، حينئذٍ نقول هذا خبر، والمبتدأ هنا نكرة، وحصل تخصيص له، يعني: تقليل للأفراد، العموم هناك رفع للاشتراك، وهنا حصل تقليل للاشتراك؛ لأن النكرة ما شاع في جنس موجود أو مقدر، والأمثلة التي ذكرها الناظم لا تخرج عن هذين النوعين وإنما ينص النحاة على ذلك من باب تمرين الطالب بأنه إذا وقع في حَيِّزِ كذا وكذا إلى آخره لتكون الصورة أمامه مستحدثة، ولذلك أوصلها إلى أربع وعشرين صورة، نأتي عليها إن شاء الله.
وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ مَا لَمْ تُفِدْ، مفهومه إن أفادت فحينئذٍ جاز الابتداء بها، فكل ما حصل به الفائدة جاز الابتداء به هذا هو الضابط، بل لو قال قائل: رجل في الدار، والمخاطب يعلم الحقيقة صح الابتداء بها؛ لأن المراد -نص بعضهم على هذا- لأن المراد أن يكون الخبر وهو المحكوم به قد حصل على معلوم عند السامع عند المخاطب، فإذا حصل بأي شيء ولو بشيء خارج عن مجرد اللفظ كالعهد ونحوه حينئذٍ صح الابتداء بها، فلو قلت لرجل: رجل عندك، رجل مبتدأ وهو نكرة، لا يجوز الابتداء بالنكرة، لكن إذا حصلت فائدة عند المخاطب وهذا على وجه الخصوص حينئذٍ صح الابتداء بها، لماذا؟ لأنها أفادت والفائدة تختلف؛ لأنها نسبية، تختلف من شخص إلى شخص آخر، ثم مَّثل لما يحصل به الفائدة فقال: كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ، مَا لَمْ تُفِدْ، في بعض النسخ ما لم يفد بالياء، ما لم يفد ما لم تفد، إذا كان بالتاء وهو المشهور ما لم تفد أي النكرة، ما لم يفد أي الابتداء بالنكرة، من جهة المعنى بالياء أحسن؛ لأن الكلام في الابتداء بالنكرة، ليس في عين النكرة، مَا لَمْ تُفِدْ يعني الابتداء بالنكرة، بالياء والضمير عائد على الابتداء، وبالتاء فالضمير عائد على النكرة من حيث الابتداء بها لا من حيث ذاتها، يعني: لابد من التأويل، مَا لَمْ تُفِدْ أي النكرة باعتبار ذاتها أو الابتداء بها؟ الابتداء بها، مَا لَمْ تُفِدْ يعني الابتداء بالنكرة، ولذلك الياء أحسن لكن المشهور هو بالتاء.


المسوغ الأول مثَّل له الناظم بقوله: كقولك: عِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ، النمرة هذا اسم لبردة من صوف يلبسها الأعراب، كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ، نمرة هذا نكرة ولا يجوز الابتداء بها، وهنا المسوغ للابتداء بها تقدم الخبر وهو جار ومجرور أو ظرف، إذاً من المسوغات: أن يتقدم الخبر عليها، وهو ظرف أو جار ومجرور نحو عِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَه، عِنْدَ هذا مضاف وزيد مضاف إليه، وهو منصوب بمحذوف هو الخبر، ونمرة: هذا مبتدأ مؤخر، سوغ الابتداء به تقدم الجار والمجرور عليها، إذاً المسوغ الأول: أن يتقدم الخبر على النكرة، أن يكون الخبر مختصاً، ظرفاً أو مجروراً أو جملة ويتقدم عليه، ((وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) [ق:35]، مَزِيدٌ هذا مبتدأ مؤخر وهو نكرة، وَلَدَيْنَا هذا خبر مقدم وهو الذي سوغ الابتداء بالنكرة، ((وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)) [البقرة:7]، غِشَاوَةٌ هذا مبتدأ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، هنا واجب التقديم كما سيأتي والنكرة سوغ الابتداء بها تقدم الجار والمجرور عليها، وجه التخصيص هنا أن يكون المجرور والمضاف إليه في الظرف والمسند إليه في الجملة صالحاً للإخبار عنه.
الثاني: أشار إليه بقوله: وَهَلْ فَتَىً فِيكُم، هل حرف استفهام، وفتىً هذا مبتدأ نكرة، فيكم جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر، ما الذي سوغ الابتداء بالنكرة والأصل فيها المنع؟ كونها جاءت في سياق الاستفهام، وإذا كانت النكرة في سياق الاستفهام حينئذٍ عمت، وإذا عمت معناه أنه شمت كل الأفراد، وإذا شملت كل الأفراد صارت معرفة من حيث المعنى أما من حيث اللفظ فهي نكرة وأما في المعنى فهي معرفة.
فَمَا خِلٌّ لَنَا، هذا المسوغ الثالث، فما هذه الفاء واقعة في جواب الشرط، كأنه قال: إن لم تكن خليلنا فما خل لنا، خلٌ هذا مبتدأ، سبقه نفي وهو المسوغ له بالابتداء، والوجه فيه كالوجه في الاستفهام، فهو نكرة في سياق النفي فتعم، وإذا عمت -صارت عامة- يعني: تشمل كل الأفراد -أفراد مدخولها-، إذاً لم يفت فرد منها وصارت عامة، صارت معرفة، إذاً إذا تقدم النفي على النكرة جاز الابتداء بها.
وَرَجُلٌ مِنَ الكِرَامِ عِنْدَنَا، رجل هذا مبتدأ، ومِنَ الكِرَامِ جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لرجل، إذاً وُصِفَت، إذا وُصِفَت النكرة لفظاً أو تقديراً أو معنى حينئذٍ جاز الابتداء بها، لماذا؟ لأنه بالوصل حصل لها تخصيص، وإذا خصصت حينئذٍ قل الشيوع فيها، وإذا قل الشيوع فيها صارت أقرب إلى المعرفة، أن توصف لفظاً كما ذكره الناظم هنا: رَجُلٌ مِنَ الكِرَامِ يعني: كريم، عِنْدَنَا، عندنا هذا هو الخبر، أو تقديراً ((وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ)) [آل عمران:154]، طائفة يعني: من غيركم، طائفة هذا مبتدأ، والذي سوغ الابتداء بها كونها موصوفة بصفة محذوفة، يعني: ذكرت أولاً ثم حذفت، ومثله ما ذكرناه: السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ)، السَّمْنُ هذا مبتدأ، ومَنَوَانِ هذا مبتدأ ثاني، لا يجوز الابتداء به، لكن ما الذي سوغ الابتداء به؟ كونه موصوفاً والصفة محذوفة، منه جار ومجرور متعلق بمحذوف الذي هو الضمير العائد، متعلق بمحذوف صفة لمنوان.


أو معنى نحو: رُجَيْل عندك، رجيل هذا مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه موصوفاً لكنه معنىً لا تقديراً؛ لأن مأخوذاً من ذات الكلمة، رُجَيْل معناها رجل صغير، أو حقير، حينئذٍ وصفته وهذه الصفة مقدرة، يعني: ليست محذوفة وإنما مقدرة من جهة المعنى.
الخامس: أن تكون عاملة، وَرَغْبةٌ في الخيرِ خَيرٌ وَعَمَل ُ بِرٍّ يَزينُ، ذكر مثالين والمؤدى واحد، أن تكون النكرة عاملة فيما بعدها، إما الرفع وإنما النصب وإما الخفض، إما الرفع على قول من جوز قائم الزيدان، البصريون لا يرونها، الكوفيون يجوزونه قائم الزيدان، قائم هذا مبتدأ وهو نكرة، ما الذي سوَّغَ الابتداء به عند من جوزه؟ كونه عمل الرفع فيما بعده، كذلك ضربٌ الزيدان حسنٌ، ضربٌ بالتنوين، الزيدان هذا فاعل المصدر المنون، حسنٌ هذا هو الخبر، أو عاملة النصب كما مثل الناظم هنا: رَغْبةٌ في الخيرِ، رغبة هذا مصدر، في الخير هذا جار ومجرور متعلق برغبة على أنه مفعول به له في المعنى، "رَغْبةٌ في الخيرِ خَيرٌ" هذا هو الخبر، ماذا باقي؟ عاملة الجر كما ذكرناه خمس صلوات، وهو الذي أشار إليه الناظم بقوله:
وَرَغْبةٌ فِي الخَيرِ خَيرٌ وَعَمَل ... بِرٍّ يَزِينُ .......

عَمَل هذا نكرة وابتدئ به، ما الذي سوغ الابتداء به؟ كونه عاملاً فيما بعده، كذلك هو مُخَصَّص بالإضافة، وجعله ابن عقيل هنا سادسة، يعني: منفصلة وهي داخلة فيما قبل، أن تكون مضافة "عملُ بِررٍّ يَزينُ"، عمل هذا نكرة وجاز الابتداء به؛ لكونه عمل الجر في المضاف إليه، وَرَغْبةٌ في الخيرِ خَيرٌ، رغبة هذا نقول: نكرة وهو مبتدأ، وسوغ الابتداء به؛ لكونه عامل النصب في قوله: في الخير.
إذاً هذه ست مواضع ذكرها الناظم هنا مسوغات للابتداء:
.................................. ... ....... كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ
وَرَجُلٌ مِنَ الْكِرَامِ عِنْدَنَا
بِرٍّ يَزينُ وَلْيُقَسْ مَا لَمْ يُقَلْ
وَهَلْ فَتَى فِيكُمْ فَمَا خِلٌ لَنَا
وَرَغْبةٌ فِي الخَيرِ خَيرٌ وَعَمَل

وَلْيُقَسْ، يعني: قس ما لم يقل من الأمثلة والتراكيب التي تحصل بها الفائدة للمخاطب على ما ذكرناه لك من الأمثلة، وليقس على ما قيل ما لم يقل، والضابط هو حصول الفائدة، ومن تلك الأمثلة التي تقاس أن تكون شرطاً: من يقم أقم معه، من هذا اسم شرط، نكرة أو معرفة؟ أسماء الاستفهام وأسماء الشروط كلها نكرات في المعنى، حينئذٍ إذا ابتدئ بها، نقول: ما المسوغ لها؟ كونها شرطاً، ولها الصدارة، من هذا اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والجملة التي بعده كلها في محل رفع خبر.


أيضاً: أن تكون جواباً، -زيادة على ما ذكره الناظم (الثامن) -: أن تكون جواباً نحو: يقال لك: من عندك؟ تقول: رجل، رجل هذا مبتدأ، يعني: رجل عندي، صح الابتداء به لماذا؟ لحصول الفائدة، ما المسوغ لحصول الفائدة هنا؟ كونه جواباً لسؤال، قد يقال: لماذا لا نقد: عندي رجل، نقول: عندي رجل، لا يصح تقديره في مثل هذا التركيب، لماذا؟ لأن الجواب يطابق السؤال، والسؤال قد وقع فيه من مبتدأً حينئذٍ الجواب يكون مبتدأً، رجل عندي، ولا يصح عندي رجل، نص على ذلك السيوطي في جمع الجوامع، أن تكون جواباً نحو أن يقال: من عندك؟ فتقول: رجل، التقدير رجل عندي، فيقدر الخبر متأخراً، ولا يجوز تقديمه أبداً؛ لأن الجواب يسلك سبيل السؤال، والمقدم في السؤال هو المبتدأ.
التاسع: أن تكون عامة، كلٌ يموت، كلٌ هذا مبتدأ، وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ وإنما سوغ الابتداء به كونه لفظاً عاماً، وهذا يدخل فيه الشرطية أيضاً؛ لأنها من ألفاظ العموم، ولذلك هذه كلها ترجع إلى العموم والتخصيص، -أكثرها- إلا ما شذ قليل جداً، وبعضهم يقول: جعلها بضابط التخصيص والتعميم هذا ضعيف، وليس بصحيح بل الصواب ما ذكره ابن هشام: أنها لا تخرج عن التعميم والتخصيص، وكل هذه الأمثلة لو تأملتها تجد أنها إما تخصيص وإما تعميم إلا القليل النادر، القليل هذا لا حكم له، أن تكون عامة نحو: كلٌ يموت.
أن يقصد بها التنويع:
فَأَقْبَلْتُ زَحْفاً عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوبٌ لَبِسْتُ وَثُوْبٌ أَجُرّ

لما نوعت النكرة هنا ثوب وثوب نوعان، جاز الابتداء بها، وهذا قد يكون فيه نوع تخصيص، لماذا؟ لأنه كأنه قسَّم الثوبين إلى نوعين ولا ثالث لهما، وهذا نوع تخصيص.
فَثَوبٌ لَبِسْتُ وَثُوْبٌ أَجُرّ، ليس عنده إلا ثوبان: واحد يجره، وواحد يلبسه، إذاً حصل التخصيص.
الحادي عشر: أن تكون دعاءً، ((سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ)) [الصافات:130].
الثاني عشر: أن يكون فيها معنى التعجب نحو: ما أحسن زيداً، هذا وصف، أي: شيء عظيم حسَّن زيداً، هذا راجع إلى الوصفية، ما هذه ما إعرابها؟ مبتدأ، ما التعجبية تعرب مبتدأ، حسَّن زيداً، أحسن زيداً، هذه الجملة خبر، طيب النكرة نقول: وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ، وما التعجبية نكرة، ما المسوغ، الوصف المحذوف المقدر، وهو شيء عظيم حسن زيداً.
الثالث عشر: أن تكون خلفاً من موصوف، يعني: تخلفه، مؤمن خير من كافر، يعني: رجل مؤمن حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، صارت خلفاً عنه، وهذا راجع إلى الوصفية أيضاً.
أن تكون مصغرة، رُجَيل عندك؛ لأن التصغير فيه فائدة معنى الوصف، كما سبق وهو راجع إلى الوصفية.
الخامس عشر: أن تكون في معنى المحصور، شَرٌّ أهرَّ ذَا نَابٍ، وشيءٌ جَاءَ بِكَ، ما أهر ذا ناب إلا شر، تخصيص قصر، والقصر هذا يرده إلى التخصيص، وما جاء بك إلا شيء -على أحد القولين-، والثاني: شر عظيم أهر ذا ناب، شر أهر ذا ناب، شر هذا مبتدأ، والذي سوغ الابتداء به إما أن يقال: بأنه حصر، وإما أن يقال: بأن ثَم صفة له، شر عظيم، رجع إلى رجيل، رجل صغير، مثل ما سبق.


السادس عشر: أن يقع قبلها واو الحال، سَرَيْنَا ونجمٌ قَدْ أضاءَ، سرينا -بتفخيم الراء- ونجم قد أضاء، نجم هذا مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه مسبوقاً بالحال، هذا أيضاً مرده إلى الوصفية؛ لأن الحال وصف في المعنى، الحال وصف لعاملها، وصف لصاحبها، قيد لعاملها.
السابع عشر: أن تكون معطوفة على معرفة، أو على ما يسوغ الابتداء به، زيد ورجل قائمان، زيد ورجل قائمان، هذا يحتاج إلى تكلف لإدخاله في التعميم والتخصيص.
الثامن عشر: أن تكون معطوفة على وصف، تيمي ورجل في الدار، هذا يحتمل الوصفية أيضاً، ورجل مثله، أو ورجل تميمي آخر، أو ورجل آخر في الدار.
التاسع عشر: أن يعطف عليها الموصوف، رجل وامرأة طويلة في الدار، هذا أيضاً يمكن أن يكون موصوفاً.
العشرون: أن تكون مبهمة:
مُرَسَّعَةٌ بَيْنَ أرْساغِهِ ... بِهِ عَسَمٌ يَبْتَغي أرنَبَاً

مُرَسَّعَةٌ هذا مبتدأ، أي: شيء مرسع، حينئذٍ يمكن رده إلى الوصفية.
الحادي والعشرون: تقع بعد لولا:
لَولا اصطِبَارٌ لأَودَى كُلُّ ذي مِقَةٍ ... لمَّا استقَلَّت مَطَايَاهُنَّ للظَّعَنِ

وهنا وقعت النكرة وهي اصطباراً بعد لولا، وإنما كان وقوع النكرة بعد لولا مسوغاً للابتداء بها؛ لأن لولا تستدعي جواباً يكون معلقاً على جملة الشرط التي يقع المبتدأ فيها نكرة، فيكون ذلك سبباً في تقليل شيوع هذه النكرة، وهذا نوع تقليل شيوع النكرة كل ما أدى إلى تقليل شيوع النكرة فهو تخصيص، مباشرة، وكل ما وسع حتى صار إلى كونه يعم كل الأفراد فهو تعميم، هذا أو ذاك.
الثاني والعشرون: أن تقع بعد فاء الجزاء، كقولهم: إن ذهب عير فعير في الرباط.
الثالث والعشرون: أن تدخل على النكرة لام الابتداء، لرجل قائم، هذا فيه نوع تخصيص أيضاً؛ لأن اللام -لام الابتداء- من المخصصات عند البيانيين، ففيه نوع تخصيص، أي: هذا الرجل بعينه قائمٌ.
الرابع والعشرون: أن تكون بعد كم الخبرية،
كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يا جَرِيرُ وخَالَةٍ ... فَدْعَاءُ قَدْ حلَبَتْ عليَّ عِشَارِي

والخامس والعشرون: أن يكون فيها خرق للعادة، "شجرة سجدت"، شجرة هذا مبتدأ وهو نكرة، صح الابتداء بها لماذا؟ لأنها خارقة للعادة، لأنا أخبرنا عنها بالسجود سجدت، لكن ما المانع؟ بقرة تكلمت - هذا المشهور - بقرة تكلمت، بقرة هذا مبتدأ، وسوغ الابتداء بها خرق العادة؛ لأنه لا يريد إلا واحدة، صارت معينة، إذا ورد في مكة بقرة تكلمت، إذا قيل: البقرة تكلمت، أو بقرة تكلمت، ما يعرف إلا تلك، فصار الفرد معين؛ لخرق العادة، هكذا قيل.
السادس والعشرون: الحقيقة من حيث هي أن يراد بالنكرة الحقيقة من حيث هي، رجل خير من امرأة، وتمرة خير من جرادة.
السابع والعشرون: إذا وقعت بعد إذا الفجائية، خرجت فإذا رجل بالباب، هذه مسوغات وكلها عند التأمل ترجع إلى التعميم والتخصيص، وإنما يطلع الطالب على هذه من أجل أن يتمرن على ما هي أوجه التعميم، وما هي أوجه التخصيص، وَالأَصْلُ فِي الأَخْبَارِ أَنْ تُؤَخَّرَا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!