شرح ألفية ابن مالك للحازمي عناصر الدرس
* شرح الترجمة. التوكيد. وحده
* أنواع التوكيد. بيان التوكيد المعنوي وبعض أحكامه
* توكيد النكرة عند النحاة
* الفاظ توكيد المثنى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله
وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الناظم رحمه الله تعالى: التَّوْكِيدُ.
هذا هو ثاني التوابع، بعد أن أنهى ما يتعلق بالنعت ثنى بالتوكيد، وبعض
النحاة يعكس ويقدم التوكيد على النعت بناء على أن التوكيد هو عين
المتبوع، تقول: جاء زيد نفسه، نفسه هو عين زيد وزيد هو عين نفسه، فهما
شيء واحد، وهذا كله في التوكيد سواء كان اللفظي أو المعنوي، فحينئذٍ
إذا كان عين المتبوع فهو أولى بالتقديم، وابن مالك هنا قدم النعت على
التوكيد، وخالف في بعض كتبه .. عكس، قدم التوكيد على النعت.
قد يقال بأنهم يراعون الترتيب، إذا اجتمعت قلنا يقدم النعت، لكن هذا
ليس بظاهر، قد يقال بأنهم لا يراعون ترتيباً معيناً بين النعت
والتوكيد، على كل ثنَّى بالتوكيد.
التَّوْكِيدُ: تفعيل، مصدر وكَّد يُؤكِّد توكيداً، فهو في الأصل مصدر
ثم نقل سمي بالتابع المخصوص، يعني: نفسه وكلهم أجمعون، هذا تابع مخصوص،
سمي توكيداً، نقل من المصدرية إلى التابع المخصوص، سبق أن العلم قد
يكون منقولاً من المصدر كفضل، قلنا فضل هذا منقول من المصدر إلى
العلمية، ثم جرد عن المعنى، لكن هنا هل جرد عن معناه الأصلي؟ الجواب:
لا؛ لأن التوكيد بمعنى التقوية، وهذه ملاحظة في المؤكدات بنوعيها، سواء
كانت مؤكدات لفظية أو معنوية.
إذاً نقل وجعل علماً على التابع المخصوص مع ملاحظة المعنى اللغوي له،
يعني لم يسلب الدلالة على معنى، فضل إذا سميت فضل، قلنا فضل يدل على
الزيادة، طيب. إذا سميت رجلاً فضل، حينئذٍ نزعته من معناه، لا يدل على
معناه، صالحاً، لو سميت صالح، قد لا يكون صالحاً؛ لأنه فاسداً، ولكن
حينئذٍ نقول: لما نقل من الوصفية إلى العلمية جرد عن معناه الأصلي، سلب
صار جامداً، فحينئذٍ صالح وفضل مثل رجل، رجل لا يدل على ذات ولا يدل
على وصف، وصفٍ باعتبار اصطلاح النحاة، حينئذٍ توكيد نقل، هو في الأصل
مصدر يدل على التقوية، نقل فجعل علماً على التابع المخصوص نفسه، وكلهم
.. إلى آخره، هل سلب معناه اللغوي؟ نقول: لا، لم يسلب، بل روعي فيه
المعنى الأصلي، إذاً هو مصدر ثم سمي به التابع المخصوص، هكذا يقول
النحاة، لكن لا يفهم منه أنه سلب عنه معناه الأصلي اللغوي وهو التقوية،
بل المراد به التقوية.
ويقال فيه أيضاً التأكيد، يعني بالهمزة، وبإبدالها ألفاً على القياس،
في نحو: فأس، ورأس .. فأس فاس، رأس راس .. هذه صحيحة، قلبت الهمزة
ألفاً، حينئذٍ نقول: التأكيد تاكيد ..
إذاً كم لغة؟ ثلاث لغات: توكيد، وتأكيد، وتاكيد، وأفصحها التوكيد
لورودها في القرآن ((بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)) [النحل:91] فدل على أنها هي
الأفصح، ويقال أيضاً: التأكيد بالهمز، تأكيد: تفعيل، وبإبدالها ألفاً
على القياس في نحو فأس، ورأس، يقال: أكد تأكيداً، ووكد توكيداً، وأيهما
أصل؟ هو بالواو أكثر، وهي الأصل والهمزة بدل، إذاً وكَّد أصل أكَّد،
يقال فيه فعلان، وكَّد توكِيداً، وأكَّد توكيداً، والواو أصل والهمزة
بدل عنها.
إذاً التوكيد نقول: هذا تفعيل من فعَّل
يُفعِّل تفعيلاً، وكَّد يوكِّد توكيداً، وهو مصدر في الأصل نقل وجعل
علماً على التابع المخصوص ومعناه اللغوي وهو التقوية مراد كذلك.
التَّوْكِيدُ لم يعرفه النحاة، لم يشتغلوا بتعريفه كعطف البيان،
والنعت، لماذا؟ لأنه ألفاظ محصورة، هو نوعان: توكيد لفظي وهذا يكون
بإعادة اللفظ لا يحتاج إلى تعريف، أعد اللفظ مرة أخرى صار توكيداً
لفظياً، لا نحتاج أن نتعب أنفسنا ونأتي بتعريفه، إعادة اللفظ الأول
بعينه أو بمرادفه: قام قام زيد، لا لا لا. نقول: هذا كله توكيد: نعم
نعم، بلى بلى، هذا توكيد لفظي، إذاً لا نحتاج إلى تعريفه، والمعنوي
نفسه وعينه وكلهم وأجمعون .. سبعة ألفاظ محصورة، وما كان معدوداً بالعد
سبعة ألفاظ لا يحتاج إلى حد، ولذلك نقول: التوكيد نوعان: توكيد معنوي،
وتوكيد لفظي، وقدم الناظم هنا التوكيد المعنوي على التوكيد اللفظي،
والمراد بالتوكيد المعنوي أن ثم ألفاظاً معدودة بالسبعة سيأتي ذكرها في
النظم واحداً واحداً، وهذه يؤكد بها ويُقَوَّى المتبوع ولا يستعمل
غيرها في موضعها، فهي توقيفية، يعني: لا يقال هذا اللفظ يستعمل
توكيداً، نقول: لا. هذا ليس من عندك، الأمر موقوف على السماع، فهي سبعة
ألفاظ المشهور منها، وزاد بعضهم ثلاثتهم وغيرها، لكن نقول: هذا كله
استعماله في التوكيد نادراً، ثم هو مختلف فيه وأما الذي ذكره الناظم
فكله متفق عليه، والشروط المذكورة كلها في الجملة متفق عليها، فباب
النعت وباب التوكيد الإجماع فيه كثير.
فبدأ بالتوكيد المعنوي فقال:
بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاِسْمُ أُكِّدَا ... مَعَ ضَمِيرٍ
طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا
وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ إِنْ تَبِعَا ... مَا لَيْسَ وَاحِداً
تَكُنْ مُتَّبِعَا
النفس والعين، هذان لفظان يؤكد بهما الاسم، فيقال: جاء زيد نفسه، وجاء
عمرو عينه، ويجمع بينهما كما سيأتي.
(بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاِسْمُ أُكِّدَا)، بِالنَّفْسِ جار
ومجرور متعلق بقوله: أُكِّدَا، وبِالعَيْنِ معطوف عليه كذلك.
(أَوْ) مانعة خلو، يعني لا يلزم منهما الجمع.
(الاِسْمُ) هذا مبتدأ، وأُكِّدَا الألف للإطلاق، أُكِّدَا فعل ماضي
مغير الصيغة، ونائب الفاعل يعود على الاسم، وهو الرابط بين الجملة
الخبرية وبين المبتدأ، والجملة في محل رفع خبر المبتدأ. الاسم أكدا
بالنفس أو بالعين، وهل تقديم بالنفس أو بالعين وهو متعلق بأكدا يفيد
الحصر؟ الجواب: لا. وإنما ذكر أو قدم إما من أجل النظم وإما من أجل
الاهتمام بهذين اللفظين؛ إذ لهما شروط ولهما استعمال قد لا يكون في
غيره، وهما أشهر استعمالاً من غيرهما، فحينئذٍ نقول: تقديم ما حقه
التأخير لا يفيد الاختصاص ولا القصر؛ لأنه سيذكر أن ثم ما يؤكد به غير
النفس والعين، النفس في الأصل المراد بها الذات، هذا الأصل في
استعمالها ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِكَ)) [المائدة:116] جاء زيد نفسه أي: ذاته، نفسه استعمال حقيقي
في إرادة الذات جاء زيد نفسه، نفسه يعني: ذاته، فرفع احتمال المجاز.
أما عينه فالأصل في إطلاق العين: العين
الباصرة، إذاً جزء من الذات، فأُطلق مراداً بها الكل، حينئذٍ يكون
استعمالها في الأصل استعمالاً مجازياً؛ لأنها العين هي العين هذه
الباصرة وهي جزء من الذات بخلاف النفس، النفس الشخص كله جسده وروحه
يطلق عليه أنه نفس، جاء زيد نفسه ذاته، وأما جاء زيد عينه، عينه: الأصل
العين هذه الباصرة، فنقول: أطلق الجزء مراداً به الكل، وهذه سبب
الانتقال أو النقل من عين وهي جزء مراداً به الكل هو علة عدم جواز
تقديم العين على النفس إذا اجتمعا؛ لأنه يؤكد بالنفس فقط، وبالعين فقط،
وبهما معاً، فتقول: جاء زيد نفسه، وتقول في تركيب آخر: جاء زيد عينه،
ويجوز أن تجمع بينهما فتقول: جاء زيد نفسه عينه، ولا يصح لك أن تقول:
جاء زيد عينه نفسه، بتقديم العين؛ للعلة المذكورة؛ لأن نفسه دال على
الذات فهو أوجب وآكد بالتقديم من عين، وأما عين فالأصل فيها أنها مجاز.
بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاِسْمُ أُكِّدَا ... مَعَ ضَمِيرٍ
طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا
ما المراد بتأكيد أو الفائدة من تأكيد النفس والعين؟
قالوا: لرفع احتمال المجاز، هذا المشهور عند النحاة، وهو ما عبر عنه
ابن عقيل هنا ما يرفع توهم مضاف إلى المؤكَّد، وهو زيد، إذا قيل: جاء
زيد أو جاء الأمير هنا أسند المجيء إلى الأمير، قالوا: هذا يحتمل، سبق
في باب المضاف أنه يجوز حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه؛ حينئذٍ
تقول: جاء الأمير، الأمير فاعل، هنا احتمالات:
يحتمل أن المتكلم أخطأ في الإسناد، أراد أن يقول: جاء زيد فقال: جاء
الأمير.
ثانياً: يحتمل أنه على حذف مضاف، جاء الأمير أي: رسول الأمير.
ويحتمل أنه على حذف مضاف من جهة أخرى وهو جاء الأمير .. جاء خبر
الأمير.
إذاً صار التركيب محتملاً، إما الأمير
نفسه، وإما الأمير لا بنفسه وإنما بغيره، إما برسوله وإما بخبره، وإما
أن يكون التركيب من أصله سهو وغلط أخطأ، فأراد أن يقول: جاء زيد فقال:
جاء الأمير، إذاً: صار محتملاً، إذا جئت بـ: جاء الأمير نفسه رفعت
الاحتمال، لا نقول: رفعته بالكلية وإنما أضعفت بعض الاحتمالات الواردة
الثلاث، وأهمها أولاً: رفع نسبة الخطأ والسهو والغلط في الكلام، وأما
الباقي فهو محتمل بقاؤه، أن تقول: جاء الأمير نفسه، أكدت. هل
الاحتمالات الثلاثة السابقة كلها ارتفعت؟ قال به بعض النحاة: كل احتمال
متعلق بالفاعل الأمير قد ارتفع بقولنا: نفسه، وهذا فيه نظر، لماذا؟
لأنه بالإجماع يجوز أن يؤكد الأمير في هذا التركيب بنفسه عينه، فالأول
جيء به للتقوية .. التوكيد ورفع الاحتمال، والثاني وظيفته كوظيفة الأول
لرفع الاحتمال، فلو كان الأول نفسه رفع كل الاحتمالات، الثاني ما موقعه
في المعنى؟ أكد ماذا؟ هل أكد المؤكِّد؟ لا، لم يؤكد نفسه، عينه هل هو
توكيد لنفسه أو توكيد للأمير؟ توكيد للأمير، ونحن نقرر أن عينه يجاء به
من أجل رفع الاحتمال، إذا كان نفسه رفع جميع الاحتمالات ماذا رفع عينه؟
هذا يجعلنا نقول: بأن المؤكِّد الأول رفع بعض الاحتمالات، وجاء
المؤكِّد الثاني فأكَّد .. قوى بأن لم يبق احتمال لا إسناد من جهة
الغلط ولا رسول الأمير، ولا خبر الأمير، فتعين 100% أن يكون الذي جاء
هو الأمير عينه، وأما الأول فبقي الإشكال، إلا أن: جاء الأمير نفسه،
جاء الأمير نفسه عينه، أي هذه التراكيب أقوى؟ ما جمعنا بين النفس
والعين، جاء الأمير نفسه عينه هو الأمير بذاته، بجسده وروحه، هو الذي
جاء، وأما جاء الأمير نفسه، إذاً التركيب صحيح جاء الأمير قطعاً ليس
غلطاً ولا سهواً، وإنما محتمل: جاء الأمير خبره، جاء الأمير رسوله ..
يحتمل هذا، ما زال الاحتمال باقياً.
جاء الأمير هذا محتمل.
(بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاِسْمُ أُكِّدَا) إذاً نقول: يؤتى
بالنفس والعين للتوكيد ويدلان على إثبات الحقيقة، ورفع المجاز عن
الذات، قد يقول قائل: أنا ما أقول بالمجاز فكيف نقول: النفس والعين
رافع للمجاز؟ نقول: لا. قل احتمال حذف مضاف، إذا كنت ما ترى مجاز قل:
يحتمل التركيب جاء الأمير، جاء رسول الأمير، وحذف المضاف وإقامة المضاف
إليه مقامه موجود في لسان العرب سواء سميته مجازاً أو حقيقة لا إشكال،
لكنه موجود.
إذاً: إذا لم تقل مجاز حينئذٍ كيف تقول هذا لرفع المجاز؟ لا تنكر وجود
النفس والعين، وإنما قل: النفس والعين يرفعان احتمال حذف مضاف في
التركيب والحمد لله سلمنا من أن نقول مجاز؛ لأن البعض إذا قيل: مجاز،
ما أدري كأنه يرتعش هكذا، نقول: هذه المسألة ميسرة سهلة، ولذلك ينتقد
يعني بشدة في مسألة المجاز هذه.
(بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاِسْمُ أُكِّدَا) إذاً ما يرفع توهم
مضاف إلى المؤكَّد يدل على إثبات الحقيقة، ورفع المجاز عن الذات.
(مَعَ ضَمِيرٍ طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا)
يعني: من شرط صحة التأكيد بالنفس والعين أن يتلبس هذان اللفظان بضمير،
ومن شرط هذا الضمير شرط في الشرط أن يكون مطابقاً للمؤكد؛ لأن النفس
والعين يؤكد بهما المفرد، ويؤكد بهما المثنى، ويؤكد بهما الجمع .. إذاً
ليست من خصائص المفرد، ولذلك نقول في قوله: (بِالنَّفْسِ أَوْ
بِالعَيْنِ الاِسْمُ أُكِّدَا) ليس المراد عين اللفظ، بل المراد
المادة، لماذا؟ لأنه سيقول: (وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ) فدل على أن
قوله: الاسم أكدا بالنفس أي: بمادة النفس، أو بالعين: أي بمادة العين.
لماذا؟
ليشمل المفرد والمثنى والجمع، لو قلت المراد به عين اللفظ حينئذٍ أخرجت
المثنى والجمع، فيكون مفهومه بالنفس مفرداً لا بغيره، وهذا المفهوم
مطروح مرفوض، بدليل قوله: (وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ).
إذاً: (بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ) أي: بهاتين المادتين، هكذا قال
الصبان، بقطع النظر عن إفرادهما وغيره.
مادة النفس ومادة العين. وليس المراد بالنفس والعين مفردين حتى يفيد أن
النفس والعين يبقيان على إفرادهما وإن أكِّد بهما المثنى أو المجموع،
مع أنه ليس كذلك، قد يقال بأن هذا المفهوم نعم، لكن ليس كل مفهوم يكون
معتبراً؛ لأنه قال: بالنفس أو بالعين، إذاً لا بمثنى النفس والعين ولا
بجمع النفس والعين الاسم أكدا، إذاً لا يؤكد الاسم إلا بلفظ النفس وهو
مفرد ولفظ العين وهو مفرد وليس الأمر كذلك، وهذا مفهوم ومطروح.
(مَعَ ضَمِيرٍ طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا) يعني يشترط أن يتصل النفس والعين
بضمير، ثم هذا الضمير يطابق المؤكدا إفراداً إفراداً، تثنية تثنية،
جمعاً جمعاً، فتقول: جاء زيد نفسه عينه، وجاءت هند نفسها عينها تأنيث
مفرد، وجاء الزيدان أنفسهما أعينهما، وجاء الزيدون أنفسهم أعينهم، انظر
أضيف إلى ضمير عائد على الزيدون، جاء الزيدون أنفسهم هم جمع، جاء
الزيدان أنفسهما مثنى، جاءت الهندان أنفسهما، جاءت الهندات أنفسهن،
جاءت هند نفسها عينها.
إذاً: لا بد أن يكون مشتملاً على ضمير ثم هذا الضمير يشترط فيه أن يكون
مطابقاً للمؤكَّد، إن كان مفرد فمفرد، وإن كان مثنى فمثنى، وإن كان
جمعاً فجمعاً.
نأخذ من هذا فائدة: وهي أن لفظ النفس والعين معرفتان مطلقاً؛ لأنه
يشترط فيهما أن يضافا إلى الضمير، نفس نكرة، عين نكرة، أضيف إلى الضمير
نفسه صار معرفة.
إذاً في التوكيد المعنوي الأصل عند جمهور النحاة لا يؤكَّد به إلا
المعرفة؛ لأنها معارف في أنفسها، فحينئذٍ إذا كانت معرفة يشترط التطابق
عند بعضهم وعند الجمهور، وسيأتي أن فيه تفصيلاً.
(مَعَ ضَمِيرٍ طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا) مَعَ بالنصب، هذا متعلق بمحذوف،
حال من النفس وما عطف عليه، (بِالنَّفْسِ أَوْ بِالعَيْنِ الاِسْمُ
أُكِّدَا) كأنه قال: الاسم أكد بالنفس والعين حال كونهما مع ضمير،
طَابَقَ هذا فعل والفاعل ضمير مستتر يعود على الضمير، أي ضمير مطابق،
الْمُؤَكَّدَا مؤكِّد ومؤكَّد، المؤكَّد هو المتبوع، والمؤكِّد هو نفسه
اللفظ .. نفسه وعينه مؤكداً، الْمُؤَكَّدَا الألف هذه للإطلاق يعني: في
الإفراد والتذكير وفروعه.
وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ إِنْ تَبِعَا ... مَا لَيْسَ وَاحِداً
تَكُنْ مُتَّبِعَا
(وَاجْمَعْهُمَا) الضمير يعود على النفس
والعين، وَاجْمَعْهُمَا النفس والعين.
(بِأَفْعُلٍ): يعني جمعاً ملابساً لأفعل، أو على وزن أفعُلٍ، أفعُل من
جموع القلة كما سيأتي كما تقول: أفلس، فتقول: أنفس وأعين.
(وَاجْمَعْهُمَا) الأمر يقتضي الوجوب، هل هو مستعمل مطلقاً في وجوبه أم
على الجواز؟ أما باعتبار الجمع فهو واجب، إذا كان المتبوع المؤكد جمعاً
فيجب الجمع لا بد منه، فحينئذٍ تقول: جاء الزيدون أنفسهم، لا بد من
التطابق، وأما إذا كان مثنى فهذا ليس بواجب، كما سيأتي.
إذاً قوله: (وَاجْمَعْهُمَا) الأمر مستعمل في الوجوب بالنسبة إلى
الجمع، وفي الأولوية بالنسبة إلى المثنى.
(بِأَفْعُلٍ) يعني على وزن أفعُل، أو جمعاً ملابساً لأفعل، الباء إما
بمعنى على وإما بمعنى الملابسة، هذا أولى كلاهما صحيح.
إما اجمعهما جمعاً ملابساً لأفعل، وإما اجمعهما جمعاً على وزن أفعل،
وأفعل كأفلس، جمع قلة.
(إِنْ تَبِعَا) ليس مطلقاً (وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ) مطلقاً؟ لا.
مقيد ليس على إطلاقه بل هو مقيد.
(إِنْ تَبِعَا) الألف هنا للتثنية، يعني النفس والعين، تبعا (إن) حرف
شرط، إذاً صار قيداً، وتبعا هذا فعل ماضي، وألف الاثنين فاعل يعود على
النفس والعين.
(مَا لَيْسَ)، (ما) اسم موصول بمعنى الذي مفعول به لتبع.
(مَا لَيْسَ وَاحِداً) ما ليس هو يعود على (ما)، (مَا لَيْسَ وَاحِداً)
وَاحِداً هذا خبر ليس، ما هو الذي ليس بواحد؟ وَنَعْتُ غَيْرِ وَاحِدٍ
مثله هذا، (مَا لَيْسَ وَاحِداً) الذي هو المثنى والجمع، إذاً متى
يجمعان، سواء كان على وجه الوجوب أو الأولوية؟ إذا كان المتبوع الذي هو
المؤكَّد مثنى أو جمعاً، مفهومه أن المفرد يجب فيه المطابقة، جاء زيد
نفسه، لا يقال: أنفسه، إنما تجب المطابقة إفراداً في اللفظ وفي الضمير،
تجب المطابقة النفس والعين مع المفرد في اللفظ، فلا يثنى ولا يجمع، وفي
الضمير على ما ذكره سابقاً، وأما في الجمع فتجب المطابقة، والضمير على
الأصل، وأما المثنى فلا تجب المطابقة كما سيأتي.
(إِنْ تَبِعَا مَا لَيْسَ وَاحِداً) أما مع المفرد فيجب إفرادها.
(تَكُنْ مُتَّبِعَا)، (تَكُنْ) جواب الطلب، واجمعهما تكن، اجمعهما
بأفعل تكن متبعاً، متبعاً للعرب في أفصح كلامهم. واجمعهما تكن هذا
مجزوم بجواب الأمر الذي هو اجْمَعْهُمَا.
تَكُنْ أنت، اسم تكن ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، مُتَّبِعَا خبر
تكن.
إذاً مراده بهذا البيت أنه إذا أُكد المثنى والجمع لا يؤتى بلفظ النفس
والعين مفردين، فلا يقال: جاء الزيدان نفسهما، هذا كلام الناظم ..
ظاهره، ولا تقول: جاء الزيدون نفسهم، نفسهم عينهم هذا ليس بصواب عند
الناظم، وهذا متفق عليه في الجمع، أما المثنى ففيه.
(وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ إِنْ تَبِعَا) تبعا النفس والعين.
(مَا لَيْسَ وَاحِداً) مؤكَّداً ليس واحداً، (ما) هنا تصدق على
المؤكَّد.
(لَيْسَ وَاحِداً) ليس "ما" هذا الذي هو المؤكَّد وَاحِداً يعني: ليس
مفرداً، مفهومه أنه يجب المطابقة مع المفرد إفراداً في الضمير وفي
اللفظ.
(تَكُنْ مُتَّبِعَا) أفهم كلامه يعني: أشار
بكلامه السابق من جهة الفهم، أفهم كلامه منع مجيء النفس والعين
مؤكَّداً بهما غير الواحد وهو المثنى والمجموع غير مجموعين على أفعُل،
وهو كذلك في المجموع.
وأما المثنى فيجوز فيه أيضاً مع الجمع الإفراد والتثنية، فيه ثلاث
لغات، لكن الأفصح هو الجمع، ولذلك قلنا: اجْمَعْهُمَا مستعمل في الوجوب
باعتبار الجمع، وفي الأولوية الأفصح الأولى في المثنى، ويجوز التثنية
والإفراد، وأما المثنى فيجوز فيه أيضاً مع الجمع الإفراد والتثنية،
فيجوز نفساهما.
بل كل مثنى في المعنى مضاف إلى متضمنه يجوز فيه الجمع والإفراد
والتثنية، والمختار الجمع، ومنه قوله المشهور عند النحاة: ((فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) [التحريم:4] (قُلُوبُكُمَا): قلبا امرأتان فقط،
(قُلُوبُكُمَا) جمع القلوب هنا لإضافتهما إلى ضمير تثنية، وهذا الأفصح،
إذا أضيف إلى ضمير تثنية فالأفصح الجمع؛ لأنهما مضاف ومضاف إليه، فلو
كان مثنى وهذا مثنى أضيف الشيء إلى نفسه، سيأتي.
((فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) [التحريم:4]، ويترجح الإفراد على
التثنية عند ابن مالك -يمكن في غير هذا الكتاب-، يترجح الإفراد على
التثنية عند ابن مالك، يعني يقال: جاء الزيدان الأفصح أنفسهما أعينهما
بالجمع على وزن أفعل، هذا الأفصح، ويجوز جاء الزيدان نفسهما عينهما،
مفرد مضاف إلى ضمير المثنى، وبعضهم ضعفها جاء الزيدان نفساهما، عيناهما
بالتثنية، والإفراد أرجح من التثنية، والأرجح من الاثنين الجمع وهو
الأفصح.
ويترجح الإفراد على التثنية عند ابن مالك، وعند غيره بالعكس، وكلاهما
مسموع، لكن الأكثر المطرد قياساً الجمع على وزن أفعل.
قلنا: يترجح الإفراد على التثنية، فأما على التثنية –الإفراد- فلأن
المتضايفين كالشيء الواحد، فكرهوا الجمع بين تثنيتهما، لماذا رجحنا
نفسهما على نفساهما، مع أن الأصل المتبادر إلى الذهن أنه يثنى ليطابق
المؤكَّد؟ قال: لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، فإذا قيل: نفسا
مثنى، هما مثنى .. وهذا فيه كراهة، أن يضاف الشيء إلى نفسه، كل منهما
مثنى. فكرهوا الجمع بين تثنيتهما -المضاف والمضاف إليه هما كالشيء
الواحد-، وأما على الإفراد فلأن الاثنين جمع في المعنى. إذاً:
وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ إِنْ تَبِعَا ... مَا لَيْسَ وَاحِداً
تَكُنْ مُتَّبِعَا
إذا أُكِّد بالنفس والعين الجمعُ وجب الجمع على وزن أفعُل مضافاً إلى
ضمير يعود على المؤكَّد وهو جمع، وإذا أُكد به المفرد فهذا مفهوم قوله:
مَا لَيْسَ وَاحِداً أنه تجب المطابقة، بقي المثنى، قلنا:
(وَاجْمَعْهُمَا بِأَفْعُلٍ إِنْ تَبِعَا مَا لَيْسَ وَاحِداً) دخل فيه
المثنى، إذاً الأرجح في المثنى أن يجمع النفس والعين على وزن أفعل مضاف
إلى ضمير المثنى، فيقال: جاء الزيدان أنفسهما وجاء الزيدان أعينهما هذا
الأفصح، بعده لغة مسموعة كذلك لكنها ليست هي بالأشهر: أن يبقى على
إفراده مضافاً إلى ضمير المثنى جاء الزيدان نفسهما، كما هي نفسهما،
عينهما.
اللغة الثالثة: جاء الزيدان نفساهما بالتثنية، عيناهما بالتثنية.
(وَاجْمَعْهُمَا) أي النفس والعين
(بِأَفْعُلٍ) يعني على وزن أفعل (إِنْ تَبِعَا) إن تبعا النفس والعين
(مَا) مؤكداً (لَيْسَ وَاحِداً) هذا له مفهوم، (تَكُنْ مُتَّبِعَا).
ولذلك يقال: جاء زيد نفسه باعتبار المفرد، وجاء زيد عينه، وجاء زيد
نفسه عينه، فتجمع بينهما بلا عطف بخلاف النعوت كما سيأتي، النعت يجوز
العطف ويجوز ترك العطف على التفصيل الذي ذكرناه سابقاً، وأما التوكيد
فلا يجوز، يجب فيه عدم العطف.
وتقديم النفس على العين لازم إذا جمع بينهما، يجب تقديم النفس على
العين، ولا يجوز العكس، هذا المشهور عند النحاة؛ للعلة التي ذكرناها.
وقيل: حسن ليس بواجب، لكن التعليل الأول أوفق.
ويجوز جرهما بباء زائدة، يعني يجوز أن تدخل الباء على نفسه وعينه تقول:
جاء زيد نفسه، جاء زيد بنفسه، وجاء زيد عينه، وجاء زيد بعينه، وجاءت
هند بنفسها -وهذا مستعمل عند الناس- بعينها صحيح هذا.
إذاً موافق للسان العرب، فكيف نعربه؟ جاء زيد نفسه، جاء زيد بنفسه.
الباء حرف جر زائد، ونفسه توكيد للمرفوع وهو مرفوع تقديراً، مرفوع
ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر
الزائد، إذاً جاء زيد بنفسه، الباء حرف جر زائد ونفس هذا مؤكد، لماذا
نعربه هكذا؟ لأننا عندنا قاعدة، قبل الولوج في هذه الأبواب قلنا:
التابع الاسم المشارك لما قبله في إعرابه، لا بد تستحضر هذا التعريف في
جميع الأبواب؛ لأن التابع جنس يدخل تحته النعت والتوكيد، وعطف البيان
إلى آخره.
فإذا قلت: جاء زيد بنفسه .. كيف الاسم المشارك لما قبله في إعرابه؟ إذا
حكمنا على الباء بأنها زائدة إذاً الإعراب لا بد أن يكون كقوله: ((مَا
جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ)) [المائدة:19]، و ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ
اللَّهِ)) [فاطر:3] فيبقى على أصله وهو أنه مرفوع ولذلك قلنا: يَتْبَعُ
فِي الإِعْرَابِ يشمل الإعراب التقديري والإعراب المحلي والإعراب
الظاهر، وهذا تجعله مثالاً لما هناك. ومحل المجرور إعراب المتبوع.
قال ابن عقيل هنا: التوكيد قسمان:
أحدهما: التوكيد اللفظي وسيأتي في آخر الباب
والثاني: التوكيد المعنوي وله سبعة ألفاظ معدودة فلا نحتاج إلى حده،
وهو على ضربين:
الأول: ما يرفع توهم مضاف إلى المؤكَّد، وهذه هي عين العبارة التي يعبر
بها الأكثر من النحاة: ما يرفع توهم مجاز، ما يرفع المجاز عن الذات، أو
يدل على إثبات الحقيقية ورفع المجاز عن الذات .. كلها عبارات مؤداها
واحد، المراد أن اللفظ السابق يحتمل حذف مضاف سميته مجازاً أو سميته
حقيقاً لا إشكال، المراد أنه يرفع احتمال حذف المضاف، ويبقى على
حقيقته، جاء زيد نفسه، جاء الأمير نفسه، إذاً لا رسول الأمير، ولا خبر
الأمير، ولا احتمال الخطأ في الإسناد وإن كان هذا فيه بعد.
وهو المراد بهذين البيتين وله لفظان النفس
والعين، إذاً لرفع المجاز عن الذات له لفظان فقط النفس والعين، تقول:
جاء زيد نفسه، فنفسه توكيد لزيد، وهو يرفع توهم أن يكون التقدير: جاء
خبر زيد، أو رسول زيد، أو أخطأ، أراد أن يقول: جاء عمرو فقال: جاء زيد،
هذا محتمل، لكن هذا بعيد، أو رسوله وكذلك: جاء زيد عينه. ولا بد من
إضافة النفس أو العين لضمير يطابق المؤكَّد نحو: جاء زيد نفسه أو عينه
وهند نفسها أو عينها، ثم إن كان المؤكَّد بهما مثنى أو مجموعاً جمعتهما
على مثال أفعُل .. جمع قلة، ولا يجوز أن يؤكد بهما مجموعين على نفوس
وعيون .. أفعُل، فإذا قيل: جاء الزيدون عيونهم، ما يصح، لماذا لا يصح؟
لم يسمع عيونهم، وجاء الزيدون نفوسهم، نقول: لا يصح.
ولا يجوز أن يؤكد بهما مجموعين على نفوس ولا عيون، لكن النفوس لوحدها
لو استعملت دون توكيد جائز، نفوس المؤمنين محرمة صحيح هذا، أرواح
المؤمنين .. جائز، ولكن إذا أريد به التأكيد حينئذٍ اختلفا.
فلا يجوز أن يؤكد بهما مجموعين على نفوس وعيون، ولا في العين مجموعاً
على أعيان أفعال؛ لأن أفعال هذا من جموع القلة مثل أحمال، أما جمع كثرة
فلا، فُعُول نقول: هذا لا يجمع النفس والعين على جمع كثرة، وأما أفعل
فهو المسموع، وأما أعيان على وزن أفعال فهذا جوزه البعض، لكن المشتهر
عندهم لا.
فتقول: جاء الزيدان أنفسهما أو أعينهما، والهندان أنفسهما أو أعينهما،
والزيدون أنفسهم أو أعينهم، والهندات أنفسهن أو أعينهن.
وَكُلاًّ اذْكُرْ فِي الشُّمُولِ وَكِلاَ ... كِلْتَا جَمِيعَاً
بِالضَّمِيرِ مُوصَلاَ
هذه أربعة ألفاظ مع الاثنين ستة، بقي واحد وهو عام.
(وَكُلاًّ اذْكُرْ) اذكر كلاً، يعني من المؤكِّدات، (وَكُلاًّ اذْكُرْ)
كلاً مفعول به، واذكر فعل أمر، اذكر كلاً فعل أمر، والفاعل ضمير مستتر
وجوباً تقديره أنت، أنت اذكر كلاً، في ماذا؟
(فِي الشُّمُولِ) ليس الشمول، وإنما في التوكيد المقصود به تأكيد
الشمول، تقوية الشمول، والمراد بالشمول هنا العموم والإحاطة، ولذلك هذه
الألفاظ من ألفاظ العموم، يعني مما يدل على أن المراد بالمؤكَّد الشمول
والإحاطة والعموم لا الخصوص، ولذلك يعبر عن هذا النوع وهو النوع الثاني
الذي عناه ابن عقيل هنا بأنه: ما يرفع توهم عدم إرادة الشمول، لرفع
احتمال تقدير بعض المضاف إلى متبوعهم، هذا أيضاً قول. أو احتمال إرادة
الخصوص بالمؤكد، تقول: جاء القوم، القوم يطلق في استعمال العرب قد يراد
به كل القوم .. جميعهم، وقد يراد به بعض القوم، جاء القوم، فإذا أريد
باللفظ صار اللفظ محتملاً للشمول وعدم الشمول، للكل وللبعض، إذا أردت
توكيده تقويته بأنه لم يرد به الخصوص فحينئذٍ جئت بلفظ مؤكد دال على
الشمول وهو كل جاء القوم كلهم، إذاً هل يحتمل التخصيص، هل يحتمل إرادة
الخصوص؟ الجواب: لا. لماذا؟ فإن كان اللفظ المتبوع الذي هو المؤكد
يحتمل أن يكون من إطلاق الكل مراداً به الخصوص، وهذا مستعمل في لسان
العرب.
(وَكُلاًّ اذْكُرْ فِي الشُّمُولِ): يعني في التوكيد، توكيد الشمول
المقصود أو المسوق لقصد الشمول، والشمول المراد به العموم والإحاطة.
(وَكِلاَ وَكِلْتَا) وسبق أن كلا وكلتا،
كلا للمثنى المذكر، وكلتا للمثنى المؤنث، وهما كذلك للشمول؛ لأنه قد
يجوز إطلاق "الزيدان" مراداً بهما أحدهما، فيقال: جاء الزيدان على نية
حذف المضاف، جاء أحد الزيدين، وجاءت الهندان، يجوز أن يكون على حذف
مضاف جاءت إحدى الهندين، فرفعاً لهذا المضاف المتوهم وجوده فتقول: جاء
الزيدان كلاهما، وجاءت الهندان كلتاهما، إذاً فيه رفع لتوهم إرادة
المؤكد باللفظ العام الخاص، يحتمل أن يراد بـ"الزيدان" أحد الزيدين،
وبـ"الهندان" أحد الهندين، فحينئذٍ قلت: كلاهما أكدته بأن المراد
باللفظ هو مدلوله وعينه، فليس ثم مضافاً محذوف، وليس ثم دعوى مجاز،
وكذلك الهندان، وَكِلاَ كِلْتَا: يعني وكلتا بحذف حرف العطف.
(جَمِيعاً): أي وجميعاً.
قال ابن هشام في جَمِيعاً: التوكيد بها غريب -قاله في الأوضح-، التوكيد
بها غريب يعني قليل، وهي بمنزلة كل -مثل: كل- القول فيها كالقول في
الكل.
إذاً: هذه أربعة ألفاظ يؤكد بها ما يرفع توهم عدم إرادة الشمول، يعني
رفع احتمال تقدير بعضٍ مضاف إلى متبوعهن: كل، وكلا، وكلتا، وجميع.
قال: (بِالضَّمِيرِ مُوصَلاَ) يعني: موصلاً بالضمير، هذا حال من كل وما
عطف عليه.
كُلاًّ: اذكر كلاً حال كونه موصلاً بالضمير، يعني: كالشرط السابق: مَعَ
ضَمِيرٍ طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا، إذاً يشترط في هذه الأربع إذا أُكد بهن
أن تضاف إلى ضمير، ثم قوله: (بِالضَّمِيرِ) أل للعهد، يعني الضمير الذي
سبق ذكره في قوله: مَعَ ضَمِيرٍ طَابَقَ الْمُؤَكَّدَا، فكأنه قال:
موصلاً بالضمير المطابق للمؤكَّد، فأل للعهد.
إذاً هذه أربع ألفاظ: كل، وكلا، وكلتا، وجميع .. فلا يؤكد بهن إلا ما
له أجزاء يصح وقوع بعضها موقعه، لرفع احتمال إرادة الخصوص بلفظ العموم
فهي لرفع احتمال تقدير بعضٍ مضاف إلى متبوعهن.
يعبر النحاة عن هذا النوع بما ذكره هنا ابن عقيل: ما يرفع توهم عدم
إرادة الشمول -الشمول العموم-، يعني اللفظ السابق يحتمل أنه أريد به
الخصوص فيؤتى بهذه الألفاظ تأكيداً بأن المراد بها الشمول والإحاطة
–العموم-، ويعبر بعضهم بأنها لرفع احتمال حذف مضاف من المتبوع، كأنه
إذا قال: جاء الركب كله: جاء بعض الركب، يحتمل ماذا؟ أن ثم مضافاً
محذوف، جاء القوم: جاء بعض القوم، جاء الزيدان: جاء أحد الزيدين، جاءت
الهندان: جاءت إحدى الهندين .. إذاً يحتمل أن ثم مضافاً محذوفاً.
إذاً لرفع احتمال تقدير بعض .. كلمة "بعض" مضاف لمتبوعهن -المتبوع
المؤكَّد-.
ثم اعلم أن "كل" يشترط في التوكيد بها شروط:
أولاً: أن يكون المؤكد بها غير مثنى، كل (وَكُلاًّ اذْكُرْ) ليس على
إطلاقه، يشترط فيها أن يكون المؤكد بها غير مثنى، أما المثنى فلا يؤكد.
الثاني: أن يكون متجزئاً، يعني يقبل التجزئة، وهو الذي عبر عنه بعضهم
بأنه لا يؤكد بهن إلا ما له أجزاء، لا بد أن يكون متجزئاً، إما بذاته
وإما بعامله.
بذاته بنفسه يتجزأ مثل الجمع: جاء القوم،
القوم: زيد وعمرو وخالد كلهم قوم، يتجزأ بذاته أو لا؟ يتجزأ بذاته،
((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ)) [الحجر:30] الملائكة يتجزءون أم
لا؟ نعم يتجزءون ملك ملك ملك .. كلهم منفصل عن الآخر، إذاً له أجزاء
متجزئة بذاتها .. منفصلة، هذا أول.
بذاته مثل: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ)) [الحجر:30]، جاء
القوم كلهم، أو بعامله، أما هو في ذاته فلا يتجزأ، ولهم مثال مشهور عند
النحاة: اشتريت العبد كله، العبد زيد مثلاً واحد ما يتقسم رجل ويد إلى
آخره ما يتقسم، ليس مثل القوم والملائكة، لكن كونه عبداً هو قال:
اشتريت العبد، والعبد معلوم أنه يتبعض باعتبار الرق .. وصف، وأما
باعتبار ذاته فلا يتبعض، اشتريت العبد يحتمل بعضه، قد يكون اثنان
مشتركين في عبد واحد .. مبعض، وهذا الذي يسميه المواريث مبعض، حينئذٍ
إذا اشترى بعض العبد، تجزأ أو لا؟ تجزأ، إذاً يحتمل، إذا قال: اشتريت
العبد يعني: الثلث أو النصف أو بعضه، والثاني الباقي مملوك للغير، لكن
إذا قال: اشتريت العبد كله رفع احتمال التجزئة، لكن باعتبار العامل هو
قابل للتجزئة.
فرفع قوله: كله احتمال تجزئة العبد، والعبد في الأصل لا يتجزأ باعتبار
ذاته، وإنما يتجزأ باعتبار عامله، والذي دلك على أنه يتجزأ اشتريت،
والعبد يتبعض.
إذاً: أن يكون المؤكد بكل متجزئاً إما بذاته بنفسه اللفظ نفسه وما يصدق
عليه، وإما بالعامل، والأول مثاله كما ذكرنا، والثاني مثاله المشهور:
اشتريت العبد كله.
ولا يجوز جاء زيد كله، جاء زيد كله لا يصح؛ لأن زيد لا يتجزأ لا بذاته
ولا بعامله، إلا إذا كان مؤولاً بأنه عبد، هذا شيء ثاني، وأما إذا كان
حراً فيبقى على الأصل، وكذلك العامل لو كان عبداً مجيئه لا يتجزأ بخلاف
الشراء، هنا. إذاً: لا يجوز جاء زيد كله.
ثالثاً -من شروط كل-: أن يتصل بها ضمير عائد على المؤكد، وهذا ذكرناه
فيما نص عليه الناظم بقوله: (بِالضَّمِيرِ مُوصَلاَ).
إذاً: يشترط في التوكيد بكل ثلاثة شروط: أن يؤكد بها غير مثنى.
أن يكون متجزئاً بذاته أو بعامله.
أن يتصل بها ضمير عائد على المؤكَّد.
وشروط كلا وكلتا: أن يكون المؤكد بهما دالاً على اثنين، ولا يقصد به
المثنى اصطلاحاً لا، أن يكون دالاً على اثنين، جاء زيد وعمروٌ كلاهما،
يصح أو لا يصح؟ زيد وعمروٌ ليس مثنى، نقول: ليس المراد هنا المثنى
الاصطلاحي، وإنما المراد أن يكون المؤكد دالاً على اثنين، إما بالعطف
وإما باللفظ نفسه، فجاء زيد وعمروٌ كلاهما، كلاهما توكيد، والمؤكد مثنى
.. دالاً على اثنين، كيف مثنى؟ نقول: لغة لا اصطلاحاً.
إذاً: الشرط الأول: أن يكون المؤكد بهما دالاً على اثنين.
الثاني: أن يصح حلول الواحد محلهما .. محل الاثنين، هذا احترازاً من
الأفعال التي تستلزم المشاركة، اختصم زيدٌ وعمروٌ كلاهما، غلط على
الصحيح، لماذا؟ لأن اختصم زيدٌ .. لو قال: اختصم زيدٌ ما يصح التعبير؛
لأن اختصم يقتضي فاعلين، وإن كان أحدهما فاعلاً في الاصطلاح والثاني في
المعنى، حينئذٍ نقول: هل يصح حلول المفرد الواحد محل فاعل اختصم؟ نقول:
لا، لا يصح.
أن يصح حلول الواحد محلهما، فلا يجوز اختصم
الزيدان كلاهما؛ لأنه لا يحتمل أن يكون المراد: اختصم أحد الزيدين، هذا
احتمال غير وارد، نحن نقول: كلا هذا لرفع توهم مضاف إلى المتبوع، وهذه
قاعدة عامة في الكل .. في الأربعة، حينئذٍ لا يحتمل اختصم أحد الزيدين،
اختصم مع من؟ مع نفسه؟ هذا ما يحتمل بعيد، إنما لا بد من شخص آخر، إذاً
هو يستلزم فاعلاً آخر؛ لأنه لا يحتمل أن يكون المراد اختصم أحد
الزيدين، فلا حاجة للتأكيد.
الثالث: أن يكون ما أسندته إليهما غير مختلف في المعنى، فلا يجوز مات
زيد وعاش عمرو كلاهما، لا يصح، لكن جاء زيد وانطلق عمروٌ كلاهما يصح.
(وَكُلاًّ اذْكُرْ فِي الشُّمُولِ وَكِلاَ كِلْتَا جَمِيعاً) جَمِيعاً
هذه مثل كل في الشروط، (بِالضَّمِيرِ مُوصَلاَ) يعني موصلاً بالضمير.
فإذا جاء لفظ من هذه الألفاظ غير موصل بالضمير لا يكون مؤكِّداً، ولذلك
قوله: ((خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا)) [البقرة:29] هذا
حال، لا نقول: توكيد، لماذا؟ لأن من شرط التوكيد بجميعاً وكل وما عطف
عليه أن يكون مضافاً للضمير، فإذا جرد عن الضمير لا يكون مؤكداً.
خلافاً لمن وهم، ولا قراءة بعضهم: (إِنَّا كُلاً فِيهَا) (كلاً) هل يصح
أن يكون توكيداً؟ (كلاً) ما يصح لا بد من الضمير كلهم أو كله، لا بد أن
يكون مضافاً إلى الضمير، (إِنَّا كُلاً) إننا كلاً، لا بد أن يكون
مضافاً إلى الضمير، ولذلك خرجه البصريون على أنه بدل من اسم (إن) ولا
يصح أن يكون تأكيداً لاسم (إن). ولا قراءة بعضهم: (إِنَّا كُلاً
فِيهَا) خلافاً للفراء والزمخشري، بل جميعاً حال وكلاً بدل، ويجوز كونه
حالاً من ضمير الظرف، (إِنَّا كُلاً فِيهَا) فيها كلاً؛ لأنه إذا كان
الوصف تقدم على جار ومجرور حينئذٍ أعرب حالاً.
قال الشارح هنا: هذا هو الضرب الثاني من التوكيد المعنوي وهو ما يرفع
توهم عدم إرادة الشمول، أو إن شئت قل: لرفع احتمال تقدير بعض مضاف إلى
متبوعهم، والمستعمل لذلك أربعة ألفاظ: كل، وكلا، وكلتا، وجميع.
جميع بمنزلة كل في المعنى، وكلا وكلتا كذلك بمنزلة كل في المعنى، كل
منها يؤكد بها الشمول والإحاطة والعموم، ويشترط فيها كلها أن تكون
مشتملة على الضمير؛ ليحصل الربط بين التابع والمتبوع.
فيؤكد بكل وجميع ما كان ذا أجزاء يصح وقوع بعضها موقعه نحو: جاء الركب
كله، لجواز أن يقال: جاء بعض الركب، وهكذا.
أو جميعه، والقبيلة كلها، بعض القبيلة أو جميعها، والرجال كلهم أو
جميعهم، والهندات كلهن أو جميعهن ولا تقول: جاء زيد كله، لا يصح،
لماذا؟ لأنه غير متجزئ، لا بد أن يكون متجزئاً إما بذاته أو بعامله.
ويؤكد بكلا المثنى المذكر، لجواز أن يقال: جاء أحد الزيدين، وإحدى
الهندين، نحو: جاء الزيدان كلاهما، وبكلتا المثنى المؤنث نحو: جاءت
الهندان كلتاهما، ولا يجوز اختصم الزيدان كلاهما على مذهب الفراء
والأخفش وأبي علي الفارسي، وذهب الجمهور إلى الجواز، ووافقهم الناظم في
التسهيل، ولا يقال حينئذٍ: اختصم الزيدان كلاهما، ولا الهندان كلتاهما،
لامتناع التقدير المذكور.
إذا كان الضابط هو حذف مضاف .. لفظ بعض، لا
بد أن يكون مطرداً، فلا يقال: اختصم بعض الزيدين أو أحد الزيدين، أو
اختصم إحدى الهندين أو بعض الهندين .. ما يصح هذا، فإذا كان الاحتمال
هو رفع دفع مضاف في المتبوع وهو لفظ بعض أو أحد أو إحدى، نقول: هذا لا
يوجد في اختصم، وتضارب الزيدان، وتقاتل العمران .. نقول: هذا يستلزم أن
يكون كل منهما فاعل، فحينئذٍ لا يصح أن يقال: بعض، فلا يقع فيه مجاز.
ولا بد من إضافتها كلها إلى ضمير يطابق المؤكد كما مُثِّل.
ولا يجوز حذف الضمير استغناء بنيته، يعني بنية الإضافة خلافاً للفراء
والزمخشري، ولذلك جوز هناك جميعاً أن يكون توكيداً؛ لأنه يجوز حذف
الضمير، والصواب لا، وكذلك (إِنَّا كُلاً) جوزوا حذف الضمير على نيته
والصواب لا.
وَاسْتَعْمَلُوا أَيْضاً كَكُلٍّ فَاعِلَهْ ... مِنْ عَمَّ فِي
التَّوْكِيدِ مِثْلَ النَّافِلَهْ
هذا اللفظ السابع والأخير، وهو لفظ عامة، وقل من ذكره من النحاة، هذا
يدل على قلته في استعمال العرب.
إذاً: اللفظ السابع والأخير: هو لفظ عامة.
قال: (وَاسْتَعْمَلُوا) أي: العرب.
(أَيْضاً) أي: كما استعملوا غير عامة في التوكيد فاعله، حال كونه من عم
ككل، يعني يراد بعامة ما يراد بكل، فكل ما اشترط هناك اشترط هنا.
(وَاسْتَعْمَلُوا أَيْضاً) أي: العرب، أَيْضاً إعرابه مفعول مطلق لفعل
محذوف، آض يئيض أيضاً، والرجوع هنا أي: كما استعملوا غير عامة، غير لفظ
عامة، وقوله: مِنْ عَمَّ أي: مشتقاً من مصدره، واستعملوا أيضاً
فَاعِلَهْ هذا مفعول به، مِنْ عَمَّ هذا حال من فاعله .. حال منه.
(كَكُلٍّ) هذا كذلك حال مقدمة، فِي التَّوْكِيدِ: متعلق بقوله:
اسْتَعْمَلُوا، استعملوا في التوكيد، مِثْلَ النَّافِلَهْ: هذا حال
ثالثة، ثلاثة أحوال في هذا التركيب.
تقدير البيت هكذا: استعملوا أيضاً فاعلة من عم ككل مثل النافلة، وأما
قوله: فِي التَّوْكِيدِ فلا داعي له، لماذا؟ حشو هذا، استعملوا فاعله
ككل، حال كونه مثل كل، إذاً وكل يستعمل في التوكيد، لماذا قال: في
التوكيد؟ هذا يعتبر حشواً.
وَاسْتَعْمَلُوا أَيْضاً أي: كما استعملوا غير عامة، وقوله: مِنْ عَمَّ
فاعله حال كونه من عم، عم فعل ماضي، يعني مشتقاً من مصدره، وقوله: فِي
التَّوْكِيدِ متعلق بـ اسْتَعْمَلُوا ويغني عنه قوله: كَكُلٍّ.
إذاً: استعملوا أيضاً حال كونه ككل في الدلالة على الشمول اسماً
موازناً لفاعله، وهذا فاعله ليس هو الذي استعمل، إنما مشتق من عم، إذا
أخذ من عم .. عم بمعنى شمل، عموم .. لفظ العموم نفسه، إذا أخذ منه وزن
فاعله تقول: عامة، إذاً جئت بلفظ عامة، تقول: عامة، جاء القوم عامتهم،
كما تقول: جاء القوم كلهم، إذاً قوله: فَاعِلَهْ .. استعملوا فاعله
يعني: اسماً موازناً لفاعله، حال كونه مشتقاً من مصدر عم.
مِثْلَ النَّافِلَهْ هذا اختلفوا فيه، مراده مثل النافلة هل هي بمعنى
أن عدها من ألفاظ التوكيد يشبه النافلة، يعني كأن الألفاظ ستة، وليست
سبعة، هي الفرض، وعامة نافلة متممة لها، ولذلك قل من ذكرها من النحاة،
إذاً أشبهت النافلة بعد الفرض. والمراد بالنافلة: هي الزيادة؛ لأن أكثر
النحويين لم يذكرها.
وقال في التوضيح: إلا أخرى، قول ابن مالك
هنا: (مِثْلَ النَّافِلَهْ) يقول: ليس المراد بأنه زائدة على ما سبق
لا، مراده أن تاءها مثل تاء النافلة أنها تستعمل مع المؤنث والمذكر،
جاء القوم عامتهم، جاءت الهندات عامتهن، بقيت التاء كما أن النافلة
تبقى.
قال في التوضيح: والتاء فيها بمنزلتها في النافلة، التاء في عامة
بمنزلة التاء في النافلة، فتصلح مع المؤنث والمذكر، والمقصود من
التشبيه أن التاء في عامة مثل التاء في نافلة، يؤتى بها مع المذكر ومع
المؤنث، وليس ذكره استدراكاً على النحاة.
على كلٍّ هذا أو ذاك نقول: ذكر سيبويه عامة من ألفاظ التوكيد. اعتبار
اللفظ عامة بمعنى جميع، ومجيئه توكيداً هو مذهب سيبويه.
قال الشارح هنا: أي: استعمل العرب للدلالة على الشمول ككل عامة -لفظ
عامة-، وإنما لم يصرح الناظم هنا بلفظ عامة، لماذا؟ لأنها ما يمكن أن
يأتي به إلا بحذف الألف: عم عامة الأول من المدغمين ساكن والألف ساكنة،
ولا يجتمع ساكنان عند العرضيين أبداً، لا بد حرف متحرك وساكن، أو
متحركان، أما ساكن فساكن فلا، فلذلك لم يأت به وإنما جاء به على وزن
فاعله.
ولم يقل عامة مع أنه أخصر؛ لأن فيه اجتماع ساكنين وهو غير جائز في
النظم، عاممة هذا الأصل، أريد إدغام المثلين فسلب الحركة من الأول
الميم ثم أدغمت الميم في الميم. إذاً استعمل العرب للدلالة على الشمول
ككل عامة مضافاً إلى ضمير المؤكد نحو: جاء القوم عامتهم والقبيلة
عامتها، والزيدون عامتهم والهندات عامتهن، مثل كلهن وإلى آخره.
وقل من عدها من النحويين في ألفاظ التوكيد وقد عدها سيبويه ويكفي،
وإنما قال: مِثْلَ النَّافِلَهْ بالنصب لأن عدها من ألفاظ التوكيد يشبه
النافلة أي: الزيادة؛ لأن أكثر النحويين لم يذكرها.
وخالف المبرد في عامة وقال: إنما هي بمعنى أكثرهم، جاء القوم عامتهم أي
أكثرهم، فيكون من باب التخصيص، عكس ما أراده الناظم، إذا قيل: جاء
القوم عامتهم، إذا كانت للشمول أفادت نفي التخصيص، احتمال التخصيص
منفي، فحينئذٍ تأكيد للشمول، وعلى مذهب المبرد جاء القوم عامتهم يكون
تخصيصاً بعد تعميم، جاء القوم كلهم، ثم قال: عامتهم، يعني: أكثرهم، مثل
قوله: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ))
[آل عمران:97]. ولذلك يعرب عامتهم بمعنى أكثرهم بدل بعض من كل، فيعد من
المخصصات.
عرفتم الفرق بين المذهبين؟ مذهب سيبويه والذي اختاره الناظم هنا: أن
عامة ترفع احتمال الخصوص، جاء القوم عامتهم، يعني: جميعهم تأكيد، فرفع
احتمال الخصوص، بعض القوم عامتهم رفع الاحتمال.
وعلى مذهب المبرد أن عامتهم بمعنى أكثرهم، صار تخصيصاً بعد تعميم، فهو
من بدل البعض من الكل، وخالف المبرد في عامة وقال: إنما هي بمعنى
أكثرهم، فتكون بدل بعض من كل، جاء القوم عامتهم أي: أكثرهم.
إذاً (وَاسْتَعْمَلُوا) أي: العرب أيضاً فاعله من عم ككل، يعني: في حال
الدلالة على الشمول، (فِي التَّوْكِيدِ) هذا متعلق بقوله: استعملوا ولا
حاجة إليه، (مِثْلَ النَّافِلَهْ) هذا حال من فاعله، فاعله حال كونها
مثل النافلة، الزيادة على ما ذكره النحاة.
وَبَعْدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا ...
جَمْعَاءَ أَجْمَعِينَ ثُمَّ جُمَعَا
وَدُونَ كُلٍّ قَدْ يَجِيءُ أَجْمَعُ ... جَمْعَاءُ أَجْمَعُونَ ثُمَّ
جُمَعُ
هذا ما يسمى بتوابع كل.
(وَبَعْدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا)؟؟؟
إذاً يؤتى بهذه الألفاظ مؤكدة بعد كل على جهة الخصوص، فهل هي مؤكدة لكل
أو أنها مؤكدة لمؤكَّد كل؟ الثاني، مؤكدة لمؤكد كل، يعني تقوي عمل كل،
فكل منهما مؤكد بذاته، فيكون التوكيد بعد توكيد من باب تقوية المؤكَّد
في النفي، نفي الاحتمال بالإضافة.
(وَبَعْدَ كُلٍّ) قلنا هذا متعلق بقوله: أَكَّدُوا، (وَبَعْدَ كُلٍّ
أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا) مفهومه أنه يلزم أن تكون هذه الألفاظ بعد كل لا
سابقة عليها، فيقال: جاء القوم كلهم أجمعون، ولا يصح: جاء القوم أجمعون
كلهم؛ لأنها تابعة لكل والتابع تابع كاسمه، فلا يكون متبوعاً بكل،
ولذلك قال: بَعْدَ كُلٍّ، كما قال هناك: وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ، فدل
على أن رتبة الفاعل بعد رتبة الفعل، هنا قال: (وَبَعْدَ كُلٍّ
أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا) دل على أن رتبة أجمع بعد رتبة كل ولا يجوز
التقديم.
فهم منه أمران: أحدهما واجب وهو أن أجمع إذا ذكر مع كل لا يكون إلا
متأخراً عنها، والآخر غالب وهو أنه لا يؤكد به دون كل، وهذا نبه عليه
بالبيت الذي يليه، يعني: (وَبَعْدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا)
الغالب أنه لا يؤكد بأجمع إلا بعد كل، لكن هذا لو نظرنا إلى أصله نقول:
قد يفهم الوجوب، لكن نقول: هذا ليس بواجب بل هو غالب لمجيء قوله:
(وَدُونَ كُلٍّ قَدْ يَجِيءُ أَجْمَعُ) يعني قد يؤكد بأجمع دون كل،
فيقال: ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)) [الحجر:30]
جاء القوم أجمعون يصح، إذا جئت بها مع كل سبقت كل وتأخرت أجمع، إذا
حذفت كل وجئت بأجمع فقط حينئذٍ قلت: جاء القوم أجمعون، الأول لازم
واجب، والثاني من غير الغالب وهو كون أجمع يؤكد بها دون كل، يعني تنفرد
عن كل فيؤكد بها، هذا غير غالب.
(وَبَعْدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا) يعني غالباً بدليل قوله:
(وَدُونَ كُلٍّ) أما البعدية فهي لازمة واجبة، كونها بعد كل فهو واجب،
وأما دائماً لا تكون إلا بعد كل! لا. ليس بلازم، بل قد يؤتى بأجمع دون
كل، فهذا غالب أن يكون أجمع بعد كل، ومن غير الغالب أن يكون أجمع دون
كل.
(وَبَعْدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا) أي غالباً، فلهذا استغنت عن أن
يتصل بها ضمير يعود على المؤكد ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ)) [الحجر:30] أين الضمير؟ لا تحتاج إلى ضمير، لا يشترط
فيها الضمير؛ لكونها تابعة لكل واشترط الضمير في كل، فأغنى عن أن يتصل
بها ضمير.
استغنت عن أن يتصل بها ضمير يعود على المؤكد فتقول: اشتريت العبد كله
أجمعَ، أجمعَ ممنوع من الصرف، والأَمة كلها جمعاء للمؤنث مفرد، والعبيد
كلهم أجمعين، والإماء كلهن جُمَع، جُمَع هذا توكيد لجمع المؤنث السالم،
إذاً لا يؤتى بها إلا بعد كل، وأما إذا نزعت كل جاز.
وَبَعْدَ كُلٍّ أَكَّدُوا بِأَجْمَعَا ... جَمْعَاءَ أَجْمَعِينَ ثُمَّ
جُمَعَا
(بِأَجْمَعَا) هذا للمفرد المذكر، والألف هذه للإطلاق.
و (جَمْعَاءَ) للمفرد المؤنث، و
(أَجْمَعِينَ) للجمع المذكر (ثُمَّ) هذا بالواو .. بمعنى الواو، (ثُمَّ
جُمَعَا) للجمع المؤنث، والألف هذه للإطلاق، ولا يثنيان فلا يقال:
أجمعان ولا جمعاوان، لا يثنيان وهذا سينص عليه الناظم، فلا يقال:
أجمعان ولا جمعاوان، وهذا هو مذهب جمهور البصريين وهو الصحيح؛ لأن ذلك
لم يسمع، كونه لم يسمع يكفي، وكذلك استغناءً بكلا وكلتا عنها.
قال الشارح: يجاء بعد كل بأجمع وما بعدها لتقوية قصد الشمول، إذاً قصد
الشمول هذا معنى في المؤكَّد، فدل على أن أجمع وما عطف عليه توكيد
للمؤكَّد بكل لا لكل نفسها، لا توكيد للمؤكِّد، فإذا أريد تقوية
التوكيد يجوز أن يتبع كله بأجمع وكلها بجمعاء وكلهم بأجمعين وكلهن
بجمع، فلذلك يقال: جاء الركب كله أجمع، وبجمعاء بعد كلها، جاءت القبيلة
كلها جمعاء، وبأجمعين بعد كلهم نحو: جاء الرجال كلهم أجمعون، وبجمع بعد
كلهن نحو: جاءت الهندات كلهن جمع، ((فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ)).
(وَدُونَ كُلٍّ قَدْ يَجِيءُ أَجْمَعُ) قد للتقليل، فهم منه أن ذلك
قليل بالنسبة لذكرها بعد كل، وأما في القرآن فموجود
((لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) [الحجر:39] ((لَمَوْعِدُهُمْ
أَجْمَعِينَ)) [الحجر:43] ورد في القرآن.
(وَدُونَ كُلٍّ) أي قد يؤكد بهن وإن لم يتقدم لفظ كل، يجرد دون لفظ كل،
لكن الغالب هو الأول، أن يؤتى بلفظ كل ثم يأتي بعدها لفظ أجمع،
(وَدُونَ كُلٍّ قَدْ يَجِيءُ أَجْمَعُ)، قَدْ يَجِيءُ قلنا: قد هذه
للتقليل، فهم منه أن ذلك قليل بالنسبة لذكرها بعد كل.
(وَدُونَ) هذا متعلق بـ يَجِيءُ وهو مضاف، وكل مضاف إليه، يعني: وقد
يجئ أجمعُ وما عطف عليه دون كل، وقد يجيء دون كل أجمعُ وجمعاءُ وأجمعون
ثم جمعُ.
أي: قد ورد استعمال العرب أجمع في التوكيد غير مسبوقة بكله نحو: جاء
الجيش أجمع، واستعمال جمعاء غير مسبوقة بكلها، نحو: جاءت القبيلة
جمعاء، واستعمال أجمعين غير مسبوقة بكلهم نحو: جاء القوم أجمعون،
واستعمال جُمع فُعَل غير مسبوقة بكلهن نحو: جاء النساء جمع، وزعم
المصنف أن ذلك قليل ومنه قوله:
حَولاً أَكْتَعَا إِذًا ظَلِلتُ الدَّهْرَ أَبْكِي أَجْمَعَا، إذا
تكررت ألفاظ التوكيد فهي للمتبوع وليس الثاني تأكيداً للتأكيد لما
ذكرناه سابقاً أنه إذا قيل: كله أجمع فالثاني توكيد للمتبوع الأول،
وكذلك إذا قيل: جاء زيد نفسه عينه فعينه توكيد لزيد، لا توكيد للتوكيد؛
لأن المؤكِّد نفس المؤكِّد اللفظ لا يؤكَّد، لماذا؟ لأن العلة إما رفع
احتمال مجاز وإما رفع احتمال بعض .. مضاف محذوف، وهذه غير موجودة في
ألفاظه لا كل ولا نفس ولا عين، حينئذٍ انتفت علة التوكيد.
إذاً: إذا تكررت ألفاظ التوكيد فهي للمتبوع وليس الثاني تأكيداً
للتأكيد، ولا يجوز قطعها إلى الرفع أو إلى النصب ولا عطف بعضها مطلقاً،
فلا يقال: جاء زيد نفسه وعينه، بالواو كما يجوز في النعت، ولا جاء
الركب كلهم أجمعون بالواو، نقول: هذا لا يجوز، وألفاظ التوكيد كلها
معارف.
وهذا فيما أضيف إلى الضمير ظاهر إذا قيل: نفسه، عينه، كله، كلهم،
أنفسهم، أعينهم .. واضح لأنه مضاف إلى الضمير، والمضاف إلى الضمير
معرفة لا إشكال فيه.
وما خلى عن الإضافة إلى الضمير ففي تعريفه
قولان: قيل: بنية الإضافة، إضافة منوية إلى الضمير، وقيل: بالعلمية
الجنسية، وحينئذٍ تكون ممنوعة من الصرف، إذا قيل بأنها معرفة وهي لم
تضف إلى الضمير، وهذا مثل أجمع وما عطف عليه، إما بأنها منوية وإما
أنها علم بالجنس.
قال الناظم رحمه الله تعالى:
وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ ... وَعَنْ نُحَاةِ
البَصْرَةِ الْمَنْعُ شَمِلْ
(وَإِنْ يُفِدْ) (إن) حرف شرط، و (يفد) هذا فعل مضارع مجزوم بإن.
(تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ) تَوْكِيدُ هذا فاعل، وهو مضاف ومَنْكُورٍ
المراد به النكرة، قُبِلْ يعني: قبِلَ، هذا جواب الشرط.
(وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ الْمَنْعُ شَمِلْ) وَعَنْ نُحَاةِ: جار
ومجرور متعلق بقوله: الْمَنْعُ، المنع عن نحاة البصرة شمل، الْمَنْعُ
مبتدأ وشَمِلْ هذا فعل مبني للمعلوم والفاعل ضمير مستتر يعود على
المنع.
(شَمِلْ) يعني شمل المفيد وغير المفيد؛ لأن قوله: (وَإِنْ يُفِدْ
تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ) مفهومه إن لم يفد فلا يقبل.
(وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ) يعني إذا كان التوكيد
للاسم المؤكَّد النكرة مفيداً قبل، مفهومه إن لم يفد فلا يقبل.
(وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ الْمَنْعُ شَمِلْ) شمل ماذا؟ المفيد وغير
المفيد يعني مطلقاً، ولذلك المذاهب في توكيد النكرة ثلاثة، وعلة الخلاف
أو سبب الخلاف ما ذكرناه آنفاً: وهو أن ألفاظ التوكيد معارف، فإذا قيل:
التزم هذا حينئذٍ هل يشترط في المؤكِّد المطابقة مع المؤكَّد تعريفاً
وتنكيراً أو لا؟ هذا محل النظر هنا.
النعت لا شك فيه، يشترط فيه التنكير والتعريف المطابقة.
وَلْيُُعْطَ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ مَا ... لِمَا تَلاَ
كَـ"امْرُرْ بِقَوْمٍ كُرَمَا
هل هذا الشرط موجود في التوكيد؟ هذا محل النزاع، فمن منع كالبصريين
قال: لا بد من التطابق، فالنكرة لا تفيد؛ لأن هذا معرفة وهذا نكرة،
وبعضهم جوز مطلقاً، وبعضهم فصَّل.
إذاً: في توكيد النكرة ثلاثة أقوال: المنع مطلقاً، وهذا مذهب البصريين
وهو الذي حكاه الناظم هنا (وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ الْمَنْعُ
شَمِلْ) مطلقاً شمل المفيد وغير المفيد، كل توكيد لنكرة باطل ولو أفاد
فهو ممنوع.
المذهب الثاني: الجواز مطلقاً أفاد أو لم يفد، وهذا بعيد في عدم
الإفادة؛ لأن مبنى الكلام على الإفادة، إذا كان لا يفيد شيء لمَ نؤكده؟
وهذا مذهب بعض الكوفيين.
والثالث: التفصيل بين توكيد نكرة أفاد وبين توكيد نكرة لم يفد، فإن
أفاد قُبِل وإلا رُدَّ، وهذا مذهب الكوفيين عامة، وهو الذي اختاره ابن
مالك هنا وقال ابن هشام في التوضيح: وهو الصحيح، يعني التفصيل. إن أفاد
قبل وإلا فلا.
(وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ) يعني إذا لم يفد توكيد
النكرة لم يجز، هذا صار محل وفاق باعتبار الكوفيين والبصريين، اعتبار
الكوفيين والبصريين ما لم يفد حكي الاتفاق أنه لا يصح توكيده، وإن أفاد
جاز عند الكوفيين قال ابن هشام: وهو الصحيح.
هنا قال ابن عقيل: مذهب البصريين أنه لا
يجوز توكيد النكرة سواء كانت محدودة أو غير محدودة، يعني لها أول وآخر،
شهر له أول وآخر، أسبوع له أول وآخر محدود، وكذلك يوم له أول وآخر،
وأما زمن، ووقت، وساعة، وبرهة، وحين .. ألفاظ ليس لها أول ولا آخر، إن
أُكِّد المحدود المؤقت حينئذٍ أفاد، وإن أكِّد غير المحدود حينئذٍ لم
يفد، مذهب البصريين المنع مطلقاً، ولذلك قال هنا: سواء كانت محدودة أو
لا. كيوم وليلة وشهر وحول أو غير محدودة كوقت وزمن وحين.
ومذهب الكوفيين واختاره المصنف وصححه ابن هشام، جواز توكيد النكرة
المحدودة لحصول الفائدة بذلك.
إذاً نقول: النكرة نوعان: نكرة محدودة ونكرة غير محدودة.
النكرة المحدودة: هي التي لها مدة معلومة، معلومة المقدار كأسبوع،
ويوم، وليلة، وشهر، وحول .. هذه محدودة لها أول وآخر، وغير المحدودة هي
التي تصلح للقليل والكثير يعني: ليس لها ولا آخر، لا ابتداء ولا انتهاء
مثل: زمن، ووقت، وحين، ومدة، وساعة، ومهلة.
والثاني متفق على منعه لعدم الفائدة، ما هو الثاني؟ غير المحدود، قال:
وهذا متفق بين البصريين وإلا حكي خلافه، لكن بين عموم البصريين
والكوفيين متفق على أنه لا يؤكد لعدم الفائدة؛ لأنه لو قال: قد انتظرتك
وقتاً كله، ما الفائدة، انتظرتك وقتاً .. وقت نصف ساعة، ساعة، يوم،
يومين .. يحتمل قليل وكثير، إذا قال: كله ما الفائدة؟ ليس فيه فائدة؛
لأن وقتاً ليس له أول ولا آخر، فإذا أكده لا فائدة، وأما الأول وهو
المحدود فأجازه الكوفيون واستدلوا على ذلك بدليلين: الأول: السماع، ورد
السماع، وإذا ورد السماع صار هو الأصل.
فورد السماع عن العرب المعتد بكلامهم، ومنه قول القائل: تَحْمِلُنِي
الذَّلفَاءُ حَولاً أَكْتَعَا، أكتع هذا من توابع أجمع، حولاً: حول له
أول وله آخر، وأكده بأكتعا، إذاً سمع.
(يَا لَيْتَ عِدّةَ حَوْلٍ كُلِّه رَجَبُ) أكد حول، (قَدْ صَرَّتِ
البَكْرَةُ يَومَاً أَجْمَعَا) يَومَاً أَجْمَعَا إذاً أكده، انظر:
حولاً ويوماً هذه نكرة محدودة لها أول ولها آخر، إذا ورد.
ثانياً: حصول الفائدة مع وجود الدليل وهو السمع، حينئذٍ نلحظ من جهة
المعنى ففي توكيد النكرة المحدودة فائدة، بخلافها في غير المحدودة،
فمثلاً يوم معلوم المقدار، فإذا قلت: قد انتظرتك يوماً جاء الاحتمال،
ما هو الاحتمال؟ بعض اليوم، نصفه، ثلثه، غالبه .. يحتمل، فحينئذٍ إذا
أكد هل حصلت فائدة أم لا؟ حصلت فائدة، فإذا قلت: انتظرتك يوماً كله
يعني: أربعة وعشرين ساعة من أوله إلى آخره، لكن يوماً هذا محتمل أنك
أطلقت العام وأردت به الخاص، أو إطلاق الكل مراداً به الجزء، فهو وارد.
إذاً إذا قال: قد انتظرتك يوماً كان محتملاً للمجاز، أو إن شئت قل: من
إطلاق الكل مراداً به الجزء.
أنه يقارب اليوم إما نصفه أو أقل أو أكثر، فإذا قال: قد انتظرتك يوماً
كله فقد أزال بلفظ كله الاحتمال، ومنه صمت شهراً، يحتمل أنه ثمانية
وعشرين يوم، أقل من هذا، ويحتمل النصف، ويحتمل الثلث، لكن إذا قال: صمت
شهراً كله، رفع الاحتمال، إذاً حصلت الفائدة، ولذلك كل من نظر في مذهب
الكوفيين علم أنه هو أصح.
وَإِنْ يُفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ
... وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ الْمَنْعُ شَمِلْ
مذهب الكوفيين واختاره المصنف وصححه ابن هشام في التوضيح: جواز توكيد
النكرة المحدودة لحصول الفائدة بذلك، والأمثلة التي ذكرناها واضحة.
(وَعَنْ نُحَاةِ البَصْرَةِ الْمَنْعُ شَمِلْ) قلنا: الْمَنْعُ مبتدأ،
وشَمِلْ هذا الجملة خبر، وَعَنْ نُحَاةِ متعلق به.
وقوله: (شَمِلْ) أي: عم، الشمول المراد به العموم، المفيد وغير المفيد،
ولا يجوز على القولين: صمت زمناً كله، على القولين لا يجوز هذا، ولا
شهراً نفسه، لماذا؟ هل يؤكَّد بالنفس والعين ما يحتمل عدم الشمول؟
قلنا: يوماً يحتمل بعضه، مثل: جاء القوم كلهم، جاء القوم .. القوم
يحتمل من إطلاق العام وإرادة الخاص، يوم يحتمل من إطلاق الكل مراداً به
الجزء.
هذا التعليل يستلزم ألا يؤكَّد النكرة المحدودة إلا بما يستعمل في
الشمول وهو كل وما عطف عليه، إذاً يقال من الشروط التي يصح فيها توكيد
النكرة: أن تكون النكرة محدودة، وأن يكون المؤكِّد مما يؤكد به الشمول
وَكُلاًّ اذْكُرْ فِي الشُّمُولِ وأما نفسه: صمت شهراً نفسه، ما يصح
هذا؛ لأنه لو احتمل شهر أنه دون الشهر رفع الاحتمال لا يكون بنفس،
وإنما يكون بكل وهو دال على الشمول، فلا بد أن يكون من ألفاظ الإحاطة
ككل وجمع وما عطف عليه.
وَاغْنَ بِكِلْتَا فِي مُثَنًّى وَكِلاَ ... عَنْ وَزْنِ فَعْلاَءَ
وَوَزْنِ أَفْعَلاَ
(وَاغْنَ) يعني: استغن، استغن بكلتا عن وزن فعلاء، يعني لا تثنِ فعلاء
تقول: فعلاوان؛ لوجود كلتا.
وَوَزْنِ أَفْعَلاَ: أجمعا، فلا يقال: جمعاوان؛ لوجود كلا، إذاً لا
يثنى أجمع فيقال: جمعاوان، وكذلك لا يقال: أجمعان ولا يقال: جمعاوان؛
للاستغناء بكلا وكلتا، بدلاً أن تثني جمعاوان ائت بكلتاهما، وبدلاً من
أن تثني أجمع فتقول: أجمعان ائت بكلا.
إذاً يستغنى عن تثنية وزن فعلاء ووزن أفعلا بكلتا وكلا، هذا مراده،
وهذا نصصنا عليه فيما سبق.
(وَاغْنَ): أي: استغن.
(بِكِلْتَا) جار ومجرور متعلق بقوله: اغْنَ، والفاعل ضمير مستتر وجوباً
تقديره أنت.
(في مُثَنًّى) ما المراد بالمثنى هنا .. اصطلاحاً أو لغةً؟ لغةً، يعني
ما دل على اثنين وإن لم يسم في الاصطلاح مثنى، ليدخل نحو: جاء زيد
وعمرو كلاهما، وهند ودعد كلتاهما، (وَكِلاَ) معطوف على قوله: كِلْتَا،
(عَنْ وَزْنِ فَعْلاَءَ) .. عن وزن فعلاء، أو عن تثنية وزن فعلاء؟
الثاني، إذاً يجب تقدير مضاف هنا .. على تقدير مضاف؛ لأن نفس وزن فعلاء
لا يصلح للمثنى حتى يستغنى فيه عنه بغيره.
(عَنْ وَزْنِ فَعْلاَءَ وَوَزْنِ أَفْعَلاَ) كما استغني بتثنية سي عن
تثنية سواء، فلا يقال: سواءان؛ لوجود سيان، سي ثم ألف ونون، إذاً هذه
تثنية سي، فيستغنى عن تثنية سواء فلا يقال: سواءان لوجود سيان، كذلك لا
يقال: جمعاوان ولا أجمعان لوجود كلا وكلتا، وأجاز ذلك الكوفيون
والأخفش، معترفين بعدم السماع والحمد لله.
أجازوه معترفين .. حالة كونهم معترفين بعدم السماع، لم يسمع، فإذا كان
لم يسمع حينئذٍ نقول: الأصل التوقيف لأنه لفظ مسموع كما هو.
قال الشارح: قد تقدم أن المثنى يؤكد بالنفس
أو العين وبكلا وكلتا، ومذهب البصريين: أنه لا يؤكد بغير ذلك فلا تقول:
جاء الجيشان أجمعان، ولا جاء القبيلتان جمعاوان استغناء بكلا وكلتا
عنه، وأجاز ذلك الكوفيون.
إذاً: المشهور أن كلا للمذكر وكلتا للمؤنث، هذا هو المشهور، وقد يستغن
بكليهما عن كلتيهما، كلا قد يقوم مقام كلتا، كلا في المؤنث المثنى يقام
مقام كلتا، قاله في التسهيل.
وقد يستعمل عن كليهما وكلتيهما بـ كلهما، ويقال على هذا: جاء الزيدان
كلُّهما، وجاءت الهندان كلُّهما، لكن هذا كله قليل.
إذاً الاستغناء عن كلتا بكلا نقول: هذا قليل. والاستغناء بكل عن كلا
وكلتا نقول: هذا قليل.
ونقف على هذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!
|