شرح ألفية ابن مالك للحازمي

عناصر الدرس
* تتمة معاني حروف العطف (الغاء , ثم , حتى) ـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
وقفنا عند قول الناظم - رحمه الله تعالى -:
فَاعْطِفْ بِوَاوٍ لاَحِقَاً أَوْ سَابِقَاً ... فِي الحُكْمِ أَوْ مُصَاحِبَاً مُوَافِقَاً

أراد في هذا البيت أن يبيِّن لنا معنى الواو .. واو العطف، ماذا تقتضي؟ حكي الإجماع على أنها للمعية مطلق المعية، وهي التي أرادها بقوله: (لاَحِقاً أَوْ سَابِقَاً أَوْ مُصَاحِبَاً).
الفاء هذه (فَاعْطِفْ) قلنا: فاء الفصيحة، و (بِوَاوٍ) مُتعلِّقٌ به، (فَاعْطِفْ بِوَاوٍ لاَحِقَاً) هذا أيضاً قيدٌ لـ: (فاعْطِفْ) لأن المفعول به .. المعمولات سواءٌ كانت مرفوعة أو منصوبة أو مخفوضة مكملات ومقيدات للعوامل، يعني: اعطف بواوٍ لا بغيرها، اعطف بواوٍ ماذا؟ قال: (لاَحِقَاً)، لاَحِق هذا اسم مفعول، وهو مفعولٌ به لقوله (اعْطِفْ): اعطف أنت لاحقاً، (أَوْ) للتنويع، (سَابِقَاً) هذا النوع الثاني، (أَوْ مُصاحِباً) (أَوْ) للتنويع أيضاً، و (مُصَاحِباً) معطوف على قوله: (لاَحِقاً) وكلٌ منها .. الثلاثة اسم فاعل، لاحق: اسم فاعل .. سابق .. مصاحب، كلها اسم فاعل، اسم الفاعل يعمل.
وقوله: (فِي الحُكْمِ) جار ومجرور تنازع فيه العاملان السابقان، وهما: (لاَحِقاً أَوْ سابقاً) يعني: كلٌ منهما يطلبه على أنه معمولٌ له، حينئذٍ نُعْمِل الثاني لقربه، وهو: (فِي الحُكْمِ) ونقول:

فِي الحُكْم مُتعلِّق بقوله: (سَابِق) طيب! لاحقاً هذا نُقدِّر له ثُمَّ نَحذفه؛ لأنه فَضْلة ليس بعمدة، فنقول: (لاَحِقاً) هذا مفعولٌ به حُذِفَ معموله .. هكذا عند الإعراب، أو حذف متعلقه وهو قوله: (فِي الحُكْمِ) لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: (فِي الحُكْمِ) وهذا تقرير ما سبق معنا في باب التنازع، على رأي من يرى أنه لا بأس أن يقع الاسم المتنازع فيه بين العوامل، حينئذٍ نقول: تنازع (فِي الحُكْمِ) ثلاثة عوامل: (لاَحِقاً أَوْ سَابِقاً أَوْ مُصَاحِباً).
فـ: (سَابِقاً) عُلِّقَ به في الحكم، وأضمر في الأول ثُمَّ حُذِف، (أَوْ مُصَاحِباً) إمَّا أن يكون من باب التنازع، أو أن يكون معطوفاً على لاحقاً وحذف معموله، لا لكونه متنازعاً فيه، وإنما اكتفاءً بما سبق من قوله: (في الحُكْمِ) يعني: حُذف من الثاني لدلالة الأول عليه، حينئذٍ مُصَاحِباً هذا: إمَّا أن يكون مُنازعاً لـ: (لاَحِقاً) أو سَابِقاً لقوله: (في الحُكْمِ) الجار والمجرور، وإمَّا أن يكون منفكاً، والثاني أصح، لماذا؟


لأن (سَابِقاً فِي الحُكْمِ أَوْ مُصَاحِباً) كقولك: ضربتُ زيداً وأهنتُ، قلنا: هذا ليس من باب التنازع، فزيداً يكون مفعولاً به لقوله: ضربت، ونُقدِّر للثاني: أهنت زيداً، فحذف من الثاني لا لكونه منازعاً للأول فأعطي الأول الاسم الظاهر لا، وإنما نقول: ضربت زيداً: فعل وفاعل ومفعولٌ به، وأهنت: هذا فعل وفاعل حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه، هذا مثله: (سَابِقاً في الحُكْمِ أَوْ مُصَاحِباً) حينئذٍ تَجويز بعضهم كالصبَّان وغيره: أن يكون مُصَاحِباً كذلك منازع فيه نظر، بل الصواب: أن التنازع إنما يكون بالسابقين، وهذا ما قرره ابن مالك فيما سبق: (إِنْ عَامِلاَنِ اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ قَبْلُ).
إذاً: يشترط في التنازع: أن يكون العاملان سابقين، فإن توسط بينهما خرجا من باب التنازع، إن تأخرا خرجا من باب التنازع، فالذي تأخر خرج من باب التنازع، والذي تَقدَّم فالحكم باقٍ له.
(فَاعْطِفْ بِواوٍ لاَحِقاً) يعني: أن يكون ما بعده لاحقاً وتابعاً في الوجود لما قبله، تقول: جاء زيدٌ وعمرو بعده، هذا لاحق عمرو معطوفٌ على زيد وهو بعده، تقول: جاء زيدٌ وعمروٌ بعده، (أَوْ سَابِقاً) جاء زيدٌ وعمروٌ قبله، إذاً: عطفت عمرو وهو سابق على زيد في المجيء، أيهما جاء أولاً؟ جاء زيدٌ وعمروٌ قبله، (أَوْ مُصاحِباً) جاء زيدٌ وعمروٌ معه، الواو هنا عطفت عمراً على زيد، وهو مصاحبٌ لما قبله، هذا فيما إذا نُصَّ، يعني: إذا جاءت قرينة ظاهرة واضحة بينة، حينئذٍ نَحمل ما بعد الواو على أحد هذه المعاني الثلاث.
إمَّا أن يكون لاحقاً بأن يكون ما بعد الواو وصف بالعامل .. مقتضى العامل بعدما وصف به ما قبل الواو: جاء زيدٌ، اتصف زيدٌ بالمجيء، وعمروٌ بعده، عمروٌ: معطوفٌ على زيد، متى جاء؟ بعد زيد، إذاً: وصف الأول بمضمون العامل وهو المجيء، ثم بينهما زمن أو فترة أو دون ذلك، فُوصف ما بعد الواو بما قبل الواو.
(أَوْ سَابِقاً) عكس الأول، جاء زيدٌ وعمروٌ قبله، فالسابق في المجيء هو عمرو، وقد وقع بعد الواو، إذاً: عُطِف بها سابق على لاحق.
(أَوْ مُصَاحِباً) يعني بمعنى: المعية.
ومن الأول قوله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ)) [الحديد:26] هذا لاحق، نوح قبل إبراهيم، وإبراهيم لاحق، ونوح أول الرسل.
ومن الثاني وهو السابق: ((كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)) [الشورى:3] يوحى إليك النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم الرسل، ((وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)) [الشورى:3] الواو حرف عطف، عطفت السابق على اللاحق، وهذا واضح بيِّن، ... ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)) [العنكبوت:15] الواو هنا للمصاحبة.
(أَوْ مُصَاحِباً مُوَافِقَاً) موافقاً له .. متابعاً له: هذا صفة لمصاحباً.


إذاً: الواو نقول: هي لمطلق الجمع عند البصريين، سواءٌ عُبِّر مطلق الجمع أو الجمع المطلق فالمعنى واحد لا فرق بينهما على المشهور عند النحاة، فإذا قلت: جاء زيدٌ وعمروٌ، الواو: حرف عطف، وعمروٌ: معطوف على زيد، ماذا تفيد هذه الواو؟ تدل على مطلق الجمع فقط .. الاجتماع، ثُمَّ الاجتماع هذا يُفَسَّر إمَّا بسابق أو لاحق أو معه، وهذا يحتاج إلى قرينة خارجة عن معنى الواو، أمَّا الواو تدل على أن عمرو وزيد اجتمعا في هذا الوصف وهو المجيء، وما عداه فنحتاج إلى قرينة، مع ترجيحٍ لبعض المعاني على بعض من حيث الأكثرية.
جاء زيدٌ وعمروٌ: دل ذلك على اجتماعهما في نسبة المجيء إليهما فقط، هذا المراد بالواو: مطلق الجمع، يعني: مطلق الجمع، الجمع غير المقيد، لأننا إذا قلنا: لاحق، قيدنا الجمع، وإذا قلنا: سابق، قيدنا الجمع، وإذا قلنا: مصاحب، قيدنا الجمع لا، نقول: الواو لمطلق الجمع، الجمع المطلق عن القيد بكونه مصاحباً أو لاحقاً أو سابقاً.
حينئذٍ إذا قيل: جاء زيدٌ وعمروٌ، لا يُفهم منهما .. لا يفهم من الواو: أيُّ أحدهما أسبق؟ لا يفهم، يحتمل أن يكون زيد، الترتيب الظاهر هو المراد جاء زيدٌ وعمروٌ، زيدٌ جاء قبل عمرو يحتمل، ويحتمل العكس، ويحتمل أنهما جاءا معاً، واحتمل كون عمروٍ جاء بعد زيد، أو جاء قبله، أو جاء مصاحباً له، وإنما يَتبيِّن ذلك بالقرينة، كالمعية في قوله تعالى: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)) [البقرة:127] الواو هنا للمعية والمصاحبة، علمناها من خارجٍِ ليس من اللفظ، وإنما جاء في السابق .. القرآن أو في السنة ما يُفَسِّر أن إسماعيل كان يرفع البيت مع إبراهيم عليه السلام، حينئذٍ نستفيد من هذه القصة الخارجة عن مجرد النص المذكور معنا، بأن الواو هنا للمصاحبة.
إذاً: استفدنا المعية بقرينة: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)) [البقرة:127] إسماعيلُ: بالرفع معطوفاً على إبراهيم، إذاً: الواو هنا للمصاحبة بدليلٍ أو بقرينةٍ خارجة.
والترتيب في قوله: ((إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا)) [الزلزلة: 1 - 3] الواو هنا للترتيب، لأن هذه الوقائع إنما تحصل مرتبةً كما جاء في السنة، وكذلك عكس الترتيب الذي هو قوله: سابقاً على لاحقٍ، في قوله تعالى: ((مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا)) [الجاثية:24] عكس الترتيب، نموت ونحيا .. نحيا ونموت، حينئذٍ: نموت ونحيا عطفت السابق على اللاحق، نحيا ونموت هذا الأصل، سيأتي مزيد بيان.
إذاً نقول: لمطلق الجمع عند البصريين الواو، وحكي الإجماع على ذلك، زعمه السيرافي وغيره، أن إجماع النحاة على أن الواو لمطلق الجمع، والمراد بمطلق الجمع: أنه لا يُقيِّد بقيدٍ من القيود الثلاثة التي ذكرناها.


إذاً: لمطلق الجمع والجمع المقيد، فذِكر المطلق ليس للتقييد بالإطلاق، بل لبيان الإطلاق، فلا فرق بين العبارتين كما ذكرناه سابقاً، والمراد بالجمع هنا في مقتضى الواو، يعني: ماذا تفيد؟ المراد الاجتماع في الحصول في عطف الجمل التي لا محل لها من الإعراب، وفي نسبة العامل إلى المتعاطفين أو المتعاطفات في غير ذلك لا الاجتماع في زمانٍ أو مكان، يعني إذا قيل: اجتماع، ماذا تفيد هذه الكلمة: لمطلق الجمع، هل تفيد الاجتماع في زمنٍ مُعيَّن، أو تفيد الاجتماع في مكانٍ مُعيَّن، أو مطلق عن هذا ولا ذاك؟
نقول: الثاني، وإنما تدل على أن العامل الذي عطف عليه، وهو العامل فيما بعد الواو مثلاً نقول: شُرِّك بينهما في النسبة، فكما أنه نُسِبَ المجيء إلى زيد المعطوف عليه، كذلك نُسِبَ ما بعد الواو إلى المجيء الذي هو الأصل في العمل، فحينئذٍ نقول: جاء زيدٌ وعمروٌ، الواو شَرَّكت في النسبة، ما هي النسبة؟ نسبة العامل إلى الفاعل: جاء زيدٌ، هنا نسبة بينهما، وهو إثبات المجيء لزيد في الزمن الماضي، حينئذٍ وعمرو الواو شَرَّكت ما بعدها في نسبة العامل للمعمول السابق، هذا المراد .. الاجتماع، وكذلك في الجمل.
إذاً المراد بالجمع: الاجتماع في الحصول .. في عطف الجمل التي لا محل لها من الإعراب: قام زيدٌ وخرج عمروٌ، أفادت الجمع، ما المراد بالجمع هنا في الجمل: قام زيدٌ وخرج عمروٌ؟ حصول قيام زيد وحصول خروج عمرو، الحصول فقط، هذا الاجتماع .. هذا الجمع المراد به في العطف، وأمَّا في المفردات فالتشريك يحصل في مدلول العامل الذي ثبت لما قبل الواو يحصل كذلك لما بعد الواو، إذاً: فرقٌ بين عطف المفردات وبين عطف الجمل:
عطف الجمل: ما بعد الواو يُشرِّك ما قبله في مجرد الحصول، كلٌ منهما حاصل، إذاً: اجتمعا في مطلق الحصول، وكذلك فيما إذا كان لها محلٌ من الإعراب شَرَّكته في المحل، فالمعطوف على الجملة الواقعة حالاً، كذلك يكون محلها النصب، وأمَّا من حيث المعنى حينئذٍ نقول: المراد به مطلق الحصول، وأمَّا في المفردات فكما أنها تُشرِّك في الإعراب كذلك تُشرِّك في النسبة، وفي نسبة العامل إلى المتعاطفين أو المتعاطفات في غير ذلك، لا الاجتماع في زمانٍ أو مكان.
إذاً: عرفنا أن الواو لمطلق الجمع، وهذا هو مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين أنها للترتيب، بمعنى: أن ما بعدها مؤخرٌ عما قبلها، يعني: تفيد ما تفيده الفاء وثُم من حيث: أن ما بعدها قد وجد بعد ما قبلها: جاء زيدٌ فعمروٌ، دلت الفاء على الترتيب، يعني: مجيء عمرو بعد مجيء زيد، عند الكوفيين: أن الواو للترتيب كذلك.


ورُدَّ بقوله تعالى: ((إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا)) [المؤمنون:37] هؤلاء المنكرون للبعث نَمُوتُ وَنَحْيَا، نَمُوتُ وَنَحْيَا لو كانت للترتيب: الحياة كائنةٌ بعد الموت، إذاً: أنكروا البعث أو أثبتوه؟ أثبتوه، وحكا الله تعالى قولهم بناءً على أنهم ينكرون البعث، إذاً: موتٌ ولا حياة، فلو كانت للترتيب حينئذٍ نموت ونحيا، نموت أولاً وبعد ذلك تقع الحياة وتحصل، إذاً: هذا إثباتٌ للبعث، ولذلك قال هنا: ورُدَّ بقوله تعالى، يعني: القول بأنها للترتيب رُدَّ بقوله: ((إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا)) [المؤمنون:37] إذ لو كانت الواو للترتيب لكان اعترافاً بالموت بعد الحياة.
فأجابوا تأويلاً لهذه الآية: بأن المراد -نموت ونحيا- المراد به: يموت كبارنا وتولد صغارنا فنحيا، هذا تأويل بعيد! ومن أوضح ما يرد عليهم قول العرب: اختصم زيدٌ وعمروٌ، اختصم على وزن: افتعل، وفاعله اثنان، لأنه يقتضي المشاركة افتعل وتفاعل، واتفقوا على أن الثاني في باب افتعل وتفاعل لا يعطف بـ (الفاء) و (ثُم) لأنهما للترتيب، هذا محل وفاقٍ بين البصريين والكوفيين: أن في باب اختصما، يُقال: اختصم زيدٌ وعمروٌ، إذ لا يقال: اختصم زيدٌ، لأن باب افتعل الذي يدل على المشاركة، وكذلك باب تفاعل: تشارك وتضارب وتقاتل، يقتضي أن يقع الفعل بين اثنين، تشارك زيد وعمرو .. تضارب زيد وعمرو.
هل يصح أن يُقال: تضارب زيدٌ فعمروٌ؟ لا يصح، لأن (الفاء) هنا للترتيب، هل يصح أن يُقال: تضارب زيدٌ ثم عمروٌ؟ لا يصح، لأنها للترتيب، إذاً: نُفي صحة قولنا: اختصم زيدٌ فعمروٌ، أو اختصم زيدٌ ثم عمروٌ، نُفي هذا التركيب لكون (الفاء) و (ثم) للترتيب، واتفقوا على أنه يُقال: اختصم زيدٌ وعمروٌ، فلو كانت للترتيب لما صح أن يؤتى بالواو هنا كما نُفي (ثم) و (الفاء)، واضح؟ نحن نرد على الكوفيين القائلين بأن (الواو) للترتيب، لماذا؟ نقول: نرد عليهم لأن قولهم فاسد، هذا قول ضعيف جداً، نرد عليهم بماذا؟ بما دل من الأفعال على المشاركة بين اثنين، في باب افتعل وتفاعل.
اتفق البصريون مع الكوفيين على أنه لا يؤتى بالعطف هنا بـ (الفاء) ولا (ثم) فلا يقال: تضارب زيدٌ فعمروٌ، لماذا لا يؤتى بالفاء؟ قالوا: لأنها تفيد الترتيب، والفعل يقتضي المشاركة بين اثنين، كيف تضارب زيدٌ فعمروٌ، أو تضارب زيدٌ ثم عمروٌ؟ هذه تدل على التعقيب والترتيب، إذاً: منعنا (الفاء) و (ثم) هنا في هذا التركيب، لأنهما يأتيان للترتيب.
وجَوَّزنا معاً في لسان العرب أن يُقال: اختصم زيدٌ وعمروٌ، هل يمكن أن يُقال: بأن الواو للترتيب؟ لا يمكن، لأننا منعنا (الفاء) و (ثم) لأجل الترتيب فكيف نقول: الواو للترتيب؟! هذا فاسد، ولذلك ابن هشام في قطر الندى قال: من أظهر ما يرد عليهم بهذه الأمثلة التي جاءت في لسان العرب في الأفعال التي تقتضي المشاركة بين اثنين، ثم عطف الثاني على الأول بالواو ولم يُجوَّز أن يعطف الثاني على الأول بـ (الفاء) و (ثم) لأنهما يقتضيان الترتيب.
حينئذٍ نقول: جاء في لسان العرب: اختصم زيدٌ وعمروٌ. ظ


ومن أوضح ما يُرَدّ عليهم قول العرب: اختصم زيدٌ وعمروٌ، وامتناعهم أن يعطفوا بـ (الواو) أو بـ (ثم) لكونهما للترتيب، فلو كانت (الواو) مثلهما لامتنع ذلك كما امتنع معهما، أن يعطف بـ (الفاء) و (ثم).
إذاً نقول: (الواو) لمطلق الجمع على الصحيح، ثم هي محتملة لواحدٍ من المعاني الثلاثة المذكورة.
قال في التسهيل: " وتنفرد الواو بكون متبوعها في الحكم محتملاً للمعية برجحانٍ، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة " هذا نستفيد منه: أن مطلق الجمع يدخل فيه هذه الأنواع الثلاثة: عطف اللاحق على السابق، أو بالعكس، أو المصاحبة، يرد السؤال: هل كلها مرتبة واحدة، أم متفاوتة؟ نقول: لا، متفاوتة، هذا مراد ابن مالك في التسهيل: أنها متفاوتة، قال: " وتنفرد الواو بكون متبوعها في الحكم محتملاً للمعية برجحان، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة " يعني: الكثير في لسان العرب: أنه إذا قيل: جاء زيدٌ وعمروٌ، الترتيب أن يكون الثاني لاحق للأول هذا الكثير، والعكس بقلة مع وجوده، والمعية برجحانٍ، يعني: شيء مرجوح.
ولذلك مضى معنا في باب المفعول معه: أن جاء زيدٌ وعمروٌ يجوز أن ينصب، يُقال: جاء زيدٌ وعمراً، لكنه مرجوح؛ لأن الأصل أن الواو لمجرد العطف، تعطف الثاني على السابق، وهذا معناه: أن مجيئها لعطف اللاحق على السابق أكثر، والعكس كذلك مثله، ولكن للمعية هذا قليل، لذلك قال: للمعية برجحان، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة.
فهي وإن كانت موضوعةً لمطلق الجمع الصادق بالأمور الثلاثة لكنها متفاوتة، فاستعمالها في المعية أكثر، وفي تقدم ما قبلها كثير، وفي تأخره قليل، لكن هذا لم يسلم لابن مالك رحمه الله مطلقاً، المراد أنها ليست على مرتبة واحدة.
فتكون عند التجرد عن القرائن للمعية بأرجحية، ولتقدم ما قبلها برجحان، ولتأخره بمرجوحية، ولكن هذا يحتاج إلى إثبات.
فَاعْطِفْ بِوَاوٍ لاَحِقَاً أَوْ سَابِقَاً ... فِي الحُكْمِ أَوْ مُصَاحِبَاً مُوَافِقَاً

إذاً كأنه قال: اعطف بواوٍ لمطلق الجمع، وفَسَّر هذا الإطلاق بقوله: (لاَحِقاً أَوْ سَابِقَاً ... أَوْ مُصَاحِبَاً فِي الحُكْمِ).
وَاخْصُصْ بِهَا عَطْفَ الَّذِيْ لاَ يُغْنِي ... مَتْبُوعُهُ كَاصْطَفَّ هَذَا وَابْنِيْ

(اختصم زيدٌ وعمروٌ) لا عطف هنا إلا بالواو، تقاتل زيدٌ وعمروٌ: لا عطف هنا إلا بالواو، كل ما كان على وزن افتعل وتفاعل مما يقتضي المشاركة وإيقاع الحدث بين اثنين فصاعداً لا يجوز العطف بينها إلا بالواو: تضارب زيدٌ وعمروٌ وخالدٌ وبكرٌ، كل هؤلاء فاعل .. فاعل في المعنى، لأنك تقول: تضارب، يعني: حصل حدث فيه مشاركة، مشاركة ممن؟ زيد وعمرو وخالد وبكر، إذاً: كلهم فعلوا الحدث وهو الضرب، مضاربة كلٌ منهم ضرب الآخر.


وكما ذكرنا سابقاً ونعيد: أن الأول يُعرب فاعلاً اصطلاحاً، والثاني والثالث والرابع يعتبر معطوفاً ولا يعطف إلا بالواو، وأن الأربعة كلٌ منها فاعل ومفعول، الأول فاعل في الاصطلاح مفعولٌ في المعنى، ثُمَّ الثلاثة زيد وعمرو وبكر وخالد .. الثلاث المعطوفات بالواو كلٌ منها فاعل ومفعول، لأنه إذا ضارب فهو ضارب ومضروب، إذا قلت: تضارب زيدٌ وعمروٌ، عمروٌ هذا الثاني ضارب ومضروب، إذاً: هو فاعل للضرب ووقع عليه الضرب، والأول: تضارب زيد، في الاصطلاح هو فاعل ولا شك، وهو في المعنى مفعولٌ.
(وَاخْصُصْ بِهَا) يعني: بالواو (عَطْفَ)، (اخْصُصْ) فعل أمر، والفاعل أنت، (بِهَا) الضمير يعود على الواو، (عَطْفَ الَّذِي) مفعولٌ به، (عَطْفَ) مضاف و (الَّذِي) مضاف إليه، (لاَ يُغْنِي متْبُوعُه) يعني: لا يكتفي الكلام به، هكذا قدره بعضهم، وقيل: يعطف بها ما لا يستغنى به عن متبوعه وهذا أحسن، لذا قال: (لاَ يُغْنِي):
وَاغْنَ بِكِلْتَا .. وَبِسِوَى الْفَاعِلِ قَدْ يَغْنَى فَعَلْ ..
ابن مالك يستعمل هنا: يُغْنِي يَغْنِي غَنَى، يستعمله بمعنى الاستغناء، (الَّذِي لاَ يُغْنِي) يعني: ما لا يُستَغنَى به عن متبوعه، وهذا فيما إذا كان الفعل دالاً على المشاركة.
(كَاصْطَفَّ)، (اصْطَفَّ) أصله: (اصتفف) على وزن (افْتَعَل) كـ: (اجتمع) كـ: (اختصم) حينئذٍ نقول: ما كان على وزن افتعل فاعله اثنان، لكن في المعنى، الفاعل الاصطلاحي واحد له، والثاني لازمٌ له، لأنه لا يقول: اختصم زيد، كيف اختصم زيد .. اختصم مع من؟ خاصم زيدٌ خصمَ من؟ عمراً، إذاً: هذا الفعل المخاصمة والخصومة تقتضي اثنين، لا يمكن أن يتصور أنه يقع من واحد، إلا كما ذكرنا؟؟؟ إذا كان مريضاً، يخاصم نفسه ويختصم.
(كَاصْطَفَّ) أصله: (اصتفف) فأبدل من التاء طاءً وأدغمت الفاء في الفاء، فاصطفوا إذا وقفعوا في الحرب صفاً، (اصْطَفَّ هذَا وابْنِي) هذَا فاعل، وابْنِي: هذا معطوفٌ عليه، الواو حرف عطف، هل يمكن أن يؤتى بحرفٍ غير الواو في هذا المقام؟ الجواب: لا، لأن نسبة الحدث إلى الثاني كنسبته إلى الأول، يعني: وقعا معاً، حينئذٍ لا يمكن أن يؤتى بـ (الفاء) ولا بـ (ثم).
(وَاخْصُصْ بِهَا) يعني: اختصت الواو بأنه يعطف بها في الأفعال التي لا يتصور أن يستغني بواحدٍ عن متبوعه (كَاصْطَفَّ هَذَا وابْنِي).
(وَاخْصُصْ بِهَا) يعني: بالواو، (عَطْفَ الَّذِي لاَ يُغْنِي مَتْبُوعُهُ) وهذا فيما إذا دل الفعل على اشتراكٍ .. مشاركةٍ بين اثنين فصاعداً، حينئذٍ نعطف الثاني على الأول بالواو لا بـ (الفاء) ولا بـ (ثم)، وهذا من الأدلة في الرد على الكوفيين، بكون الواو تأتي للترتيب، وهذا الدليل محفوظ:
وَاخْصُصْ بِهَا عَطْفَ الَّذِي لاَ يُغْنِي ... مَتْبُوعُهُ ..
يعني: لا يكتفى الكلام به (كَاصْطَفَّ هَذَا) كقولك: (اصْطَفَّ هَذَا وابْنِي)، (ابْنِي) معطوفٌ على هَذَا، وكلٌ منهما وقعت منه المصافَّة، لأن الاصطفاف لا يقع من واحد، كيف تصف نفسك؟! ما يمكن هذا، وإنما يقع مع شخصٍ آخر وثالث ورابع.


قال: اختصت الواو من بين حروف العطف، بأنها يعطف بها حيث لا يُكْتَفى بالمعطوف عليه، اختصم زيدٌ وعمروٌ، ولو قلت: اختصم زيد لم يجز، ولو قلت: اختصم زيدٌ فعمروٌ لم يجز، ولو قلت: اختصم زيدٌ ثم عمروٌ لم يجز، لا بد أن تأتي بالواو، ما جئت بالواو لحنٌ! لو جئت بواحدٍ: اختصم زيد كضارب زيد، نقول: هذا ما يصلح، لا بد أن تأتي بالمعطوف والواو.
ولو قلت: اختصم زيدٌ لم يجز، ومثله: اصطف هذا وابني، وتشارك زيدٌ وعمروٌ، ولا يجوز أن يعطف في هذه المواضع بالفاء ولا بغيرها من حروف العطف، ولا يُقال: اختصم زيدٌ فعمروٌ.
إذاً: يعطف بها حيث لا يُكْتَفَى بالمعطوف عليه، يعني: يعطف بها اسمٌ على اسمٍ، لا يُكْتَفى في الكلام به إلا بمتبوعه، فهي من المعاني النسبية التي لا تقوم إلا باثنين فصاعداً، وهذا المشهور أنه في باب افتعل وتفاعل وفاعل، ضارب زيدٌ عمراً هذا لا يحتاج إلى عطف، لأنه يتعدى إلى مفعول، ضارب زيدٌ عمراً من باب: فاعل، وأمَّا باب افتعل وتفاعل هذا الذي يُراد هنا.
وَاخْصُصْ بِهَا عَطفَ الَّذِي لاَ يُغْنِي ... مَتْبُوعُهُ ..
أمَّا قوله: (بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْمَلِ) بالفاء هنا، قالوا: الأصل هنا على تقدير مضاف .. على حذف مضاف، تقديره: بين أماكن الدخول فأماكن حومل، فهو بمنزلة: اختصم الزيدون فالعمرون، جائز أو لا؟ إذا قلت: اختصم الزيدون، كلٌ منهم خاصم الآخر، فاعل ومفعول، فالعمرون: هذا جائز، لأن الثاني ليس معطوفاً على الأول في كونه مشاركاً له في العامل، وإنما هو في قوة قوله: اختصم زيدٌ فاختصم العمرون .. اختصم الزيدون فاختصم العمرون، إذاً: كلٌ منهم له خصومة تخصه منفكة عن الآخر، فلا إشكال في هذا .. هذا جائز.
لو قيل: اختصم الزيدون، صح أو لا؟ صح، لأنك أوقعت الجمع موقع الثلاثة فأكثر، وكذلك اختصم الزيدان، أمَّا إذا جئت بالعطف على الأصل: اختصم زيدٌ وعمروٌ لأن التثنية والجمع إذا اشتركا كلٌ منهما المخاصِم والمخاصَم زيد، إذاً قلت: اختصم الزيدان، هذا جائز، لأنهما منفكان، واختصم الزيدون كأنك قلت: اختصم زيد وزيد وزيد، أمَّا إذا كانا مختلفين: اختصم زيدٌ وعمروٌ لا بد من الفصل.
وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ بِاتِّصَالِ ... وَثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ بِانْفِصَالِ

(وَالفَاءُ) التي ذكرها سابقاً بقوله: (فَا .. وَالفَا) (أل) هذه للعهد الذكري، يعني: الفاء المذكورة في عَدِّ حروف العطف هناك، والفاء العاطفة لها ثلاثة أحكام:
الأول: تُشرِّك ما بعدها فيما قبلها في الحكم، وهذا معلومٌ في كل حرف سيأتينا، ولا نحتاج إلى تنصيص عليه، لأنها ما كانت حرف عطف إلا لكونها مُشرِّكة للثاني فيما قبله في الرفع أو النصب أو الخفض، فلا نحتاج أن نقول: لها حكمٌ مستقلٌ بها، وإنما نَتعرَّض إلى المعنى.
الثاني: أنها تفيد الترتيب، ما المراد بالترتيب؟ يعني: تدل على تأخر المعطوف على المعطوف عليه، يعني: ما بعد الفاء وقع بعد ما قبل الفاء، جاء زيدٌ فعمروٌ، مجيء عمرو ليس مقارناً لمجيء زيد، لماذا؟ لأنك عطفت بالفاء، والفاء تدل على الترتيب، بمعنى: أن ما بعدها حصل له المجيء بعد حصول المجيء لما قبلها، إذاً: لم يَتَّحِدا .. لم يقعا معاً، هذا المراد بالترتيب.


(لِلترْتِيبِ بِاتِّصَالِ) احترازاً من (التَّرتِيبِ بِانْفِصَالِ) الذي هو معنى: (ثُمَّ) إذاً قوله: (بِاتِّصَالِ) متعلق بقوله: (لِلترْتِيبِ)، ولِلترْتِيبِ: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ الفاء، وَالفَاءُ: مبتدأ، كائنٌ للترتيب، و (بِاتِّصَالِ) متعلقٌ به، والمراد بالاتصال: ما يُعبِّر عنه جماهير النحاة بالتعقيب، يعني: أن يكون عقبه بلا مهلةٍ، يعني: ليس بين المعطوف والمعطوف عليه في إيقاع الحدث منهما مهلة، يعني: بلا تراخٍ، كما هو الشأن في (ثم) يعني: إذا قلت: جاء زيدٌ فعمروٌ، نقول: دلت الفاء على أمرين:
أولاً: الترتيب. ز تأخر المعطوف عن المعطوف عليه في إيقاع الحدث، ثم أفادت معنىً آخر وهو: أنه ليس بين الفعلين الواقعين بين المعطوف والمعطوف عليه .. ليس بينهما مهلة .. مباشرةً، جاء زيد فجاء عمروٌ بعده، ليس بينهما زمن، حينئذٍ نقول: هذا المراد بالتعقيب، وتعقيب كل شيءٍ بحسبه:
تزوج زيدٌ فوُلد له، الفاء هنا للتعقيب، تزوج فوُلد، هل هو مثل: جاء زيدٌ فعمروٌ مباشرة بعده عمرو؟ نعم، هنا وقعت بعده، لكن تزوج زيدٌ فولد له لا، وإنما لا بد من تسعة أشهر، إذاً: بينهما مهلة لكنها عرفية .. مهلة عرفية، فهذا تعقيب؟ نقول: نعم، الفاء هنا أفادت التعقيب، لكن هذا التعقيب ليس المراد أن ينفي الزمن لأنه منافٍ للعقل، وإنما المراد أنه لم يتأخر عن المهلة المعهودة، يعني: لو جلس سنتين أو ثلاث ما ولد له ثم قيل: تزوج زيدٌ فولد له خطأ، لماذا؟ لأنه وجد زيادة على تسعة أشهر، أمَّا إذا قيلت هذه بعد تسعة أشهر مباشرةً صار المعنى صحيح.
فإذا أردت أن تخبر بأن زيد تزوج فولد له في الوقت المعهود لم يتأخر عن السنة مثلاً، تقول: تزوج زيدٌ فولد له، وأمَّا إذا تأخر سنتين فأكثر تقول: تزوج زيدٌ ثم ولد له.
(وَالفَاءُ لِلترْتِيبِ بِاتِّصَالِ) يعني: بلا مهلةٍ .. بلا تأخر، وهذا المراد بمعنى: التعقيب عند النحاة، ((أمَّاتَهُ فَأَقْبَرَهُ)) [عبس:21] مباشرة، موت ثم قبر، دخلت البصرة فبغداد، أول كان السفر ليس مثل الآن، دخلت البصرة فبغداد، إذا كانت المسافة بين البصرة وبغداد ثلاثة أيام وقد حصل دخوله بغداد بعد البصرة بثلاثة أيام فهي للتعقيب، فإذا زادت عن ذلك حينئذٍ خطأ في التعبير، فيقال: دخلت البصرة ثم بغداد، وهو في كل شيءٍ بحسبه، كما ذكرناه: تزوج فلانٌ فولد له، كذلك: دخلت البصرة فبغداد.
(وَالفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ بِاتِّصَالِ) المراد بالترتيب هنا المعنوي، لأن الترتيب نوعان: ترتيب معنوي، وترتيبٌ ذكري، يعني: أن يذكر الشيء بعد الأول لكن لا بد من مناسبةٍ، وهنا المراد بالترتيب الترتيب المعنوي، بمعنى: أنه يَتعلَّق بالمعنى.


وقد تكون للترتيب الذكري، وأكثر ما يكون -هذا الترتيب الذكري- في عطف مفصلٍ على مجملٍ، نحو قوله تعالى: ((فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ)) [النساء:153] ما هو السؤال .. ما هي هذه الأسئلة؟ ((فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ)) [النساء:153] إذاً: وقع تفصيل بعد إجمال، نقول: الفاء هنا للترتيب الذكري، لأنه وقع بعد إجمال، والذي انحط عليه الكلام، وليس المراد من الترتيب الذكري مجرد ترتيب شيئين في الذكر، يعني: مجرد أنه قيل: جاء زيدٌ فعمروٌ، إذا قيل: الترتيب الذكري هنا، نقول: لا، ليس هذا المراد، لأن هذا مأخوذٌ من غير الفاء، لو أسقطت الفاء وجيء بحرفٍ آخر حينئذٍ نقول: هذا أفادت الترتيب، كون الشيء مذكوراً أولاً، ثُمَّ الذي يليه سواءٌ كان بحرف عطف أو لا .. سواءٌ كان بالفاء أو بغيرها، نقول: الترتيب حاصل.
لأن هذا القدر لازمُ للذكر مع إسقاط الفاء أيضاً، ليس من أجل الفاء، ونحن نعلق الحكم هنا: الترتيب الذكري بالفاء على جهة الخصوص، بل ترتيب مراتب المذكور في الذكر، أي: بيان أن المذكور أولاً حقه أن يتقدم في الذكر لتقدم رتبته على رتبة المتأخر، إذاً: أفادت الفاء إذا كانت للترتيب الذكري أن رتبة المتقدِّم .. رتبته التقدِّيم، وما بعد الفاء رتبته التأخير، وهذا يكون في عطف المفَصَّل على المجمل كثيراً.
وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ بِاتِّصَالِ ... وَثُمَّ لِلتَّرْتِيْبِ بِانْفِصَالِ

وكثيراً ما يقتضي أيضاً -الفاء-: التسبب، إن كان المعطوف جملة، وهذا يذكرها الأصوليون هناك في جهة التعليل: سها فَسَجد .. زنا فرُجِم .. سرق فقُطِع، هنا الفاء عطفت جملة على جملة، وأفادت السببية، ولذلك نقول: سرق فقطع، أفادت الفاء أن علة القطع السرقة، زنا فرجم، علة الرجم زنى، سها فسجد سجود السهو، إذاً: ما قبله علةٌ لما بعده.
إذاً: كثيراً ما تقتضي الفاء التسبب إن كان المعطوف جملةً: ((فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)) [القصص:15] قضى عليه بسبب الوكز، كذلك الأمثلة التي ذكرناها. ولدلالتها على ذلك كونها تدل على السببية في عطف الجمل لا في عطف المفردات، استعيرت للربط في جواب الشرط، نقول: الفاء تقع رابطةً لجواب الشرط بالشرط، لماذا اختيرت الفاء؟ لأن فيها معنى السببية، ومعلومٌ أن الشرط وجواب الشرط .. فعل الشرط وجوابه أن بينهما تعليق، وأنه مرتبٌ عليه ترتيب السبب على المسبب: إن جئتني أكرمتك يعني سبب أو مسبب على المجيء.


ولدلالته على ذلك استعيرت للربط في جواب الشرط: من يأتيني فإني أكرمه، إني: جملة وجب دخول الفاء عليها، من يأتيني فإني أكرمه، ولهذا إذا قيل: من دخل داري فله درهم، أفاد استحقاق الدرهم بالدخول، يعني: إن دخل استحق الدرهم، إن لم يدخل لم يستحق الدرهم، إذاً: جعل الدخول علة .. سبباً لاستحقاق الدرهم، ولو حذف الفاء احتمل ذلك واحتمل الإقرار بالدرهم له، إذا قيل: من يأتيني له درهمٌ، هذا صار محتملاً للسببية، ويحتمل الإقرار: من يأتيني له درهم، يعني: له دين عندي درهم، إقرارٌ بالدرهم، ويحتمل السببية لو أسقطت الفاء، من يأتيني له درهمٌ، نقول: هذا ليس جزماً .. قطعاً في أن الدرهم حاصلٌ للإتيان، وإنما يحتمل الإقرار بالدرهم، من يأتيني فله درهمٌ، صار محتملاً. ولو حذف الفاء احتمل ذلك السببية واحتمل الإقرار بالدرهم له.
وقد تخلوا الفاء العاطفة للجمل عن هذا المعنى نحو: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى)) [الأعلى: 2 - 4] خلت عن معنى الترتيب ومعنى السببية لمجرد العطف.
(وَالْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ بِاتِّصَالِ وَثُمَّ) يُقال: ثُمَّ ثُمَّت بالتاء، (وَثُمَّ) هذا مُبتدأ قصد لفظه، (لِلتَّرْتِيبِ) كائنٌ للترتيب، وعرفنا معنى الترتيب: تأخر المعطوف عن المعطوف عليه، (بِانْفِصَالِ) مُقابل لقوله: (بِاتِّصَالِ) يعني: بمهلة، كل ترتيب حصل بين المعطوف والمعطوف عليه مهلةٌ من الزمن قلت أم كثرت يُجاء بـ (ثم)، وإذا كان ليس بينهما مهلة إلا ما يتصور في العقل أو العادة، حينئذٍ يلزم أن نأتي بالفاء، إذاً: كلٌ من (الفاء) و (ثم) تفيد الترتيب، إلا أن الترتيب في (الفاء) مع التعقيب، يعني: بنفي المهلة بين المعطوف والمعطوف عليه، و (ثم) كذلك تفيد الترتيب إلا أنه بمهلةٍ، يعني: تأخرٍ في الزمن، بينهما انفصال: (وَ"ثُمَّ" لِلتَّرْتِيبِ بِانْفِصَالِ).
أي: تدل (الفاء) على تأخر المعطوف عن المعطوف عليه متصلاً به، و (ثم) على تأخره عنه منفصلاً، أي: متراخياً عنه، ولذلك يُقال: (ثم) للتراخي، نحو: جاء زيدٌ فعمروٌ، ومنه قوله تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)) [الأعلى:2] هذا محتمل ليس جزماً، وجاء زيدٌ ثم عمروٌ، ومنه قوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) [فاطر:11].
وَاخَصُصْ بِفَاءٍ عَطْفَ مَا لَيْسَ صِلَهْ ... عَلَى الَّذِي اسْتَقَرَّ أَنَّهُ الصِّلَهْ

هذا من خصائص الفاء، كما أن الواو هناك تختص أن يعطف بها ما لا يستغنى عنه في الكلام، هنا تختص الفاء لما فيها من معنى السببية أن يعطف بها على جملة الصلة ما لم يكن فيها ضميرٌ يعود على الجملة أو على الموصول، وتختص الفاء بأنها تعطف على الصلة، يعني: بها، ما لا يصلح كونه صلةً.


يعني: المعطوف بالفاء لا يصلح أن يكون صلةً للموصول، يأتي اسم الموصول، ويأتي بعده جملة صالحة للموصولية، ثُمَّ يؤتى بالفاء وتعطف جملة على جملة الموصول، لو نظرنا في هذه الجملة التي بعد الفاء، هل يصلح أن تقع جملة الموصول؟ لا، لخلوها عن الضمير، وهذا الحكم عام، الناظم هنا خصصه بالصلة، وهو حكمٌ عامٌ في الخبر والنعت والحال والصلة، في أربعة مواضع، سواءٌ تقدمت أم تأخرت.
وتختص الفاء: بأنها تعطف على الصلة .. جملة الصلة يعني، ما لا يصلح كونه صلةً لخلوه من العائد، ولذلك المثال المشهور ذكره ابن عقيل: الذي يطير فيغضب زيدٌ الذبابُ، بعض المسائل أمثلتها ما أظن لها مثال يسلم، الذي يطير فيغضب زيدٌ الذباب، الذي: مبتدأ، الذباب: خبر، وجملة يطير: صلة الموصول، فيها ضمير أو لا؟ يطير هو، يعود على: الذي، الذي يطير لا إشكال مبتدأ وهو جملة الصلة، يغضب زيدٌ: فعل وفاعل، هل يصح أن نقول: الذي يغضب زيدٌ؟ أين الضمير .. أين الرابط بين الموصول وصلته؟ الذي يغضب زيدٌ .. الذي يقوم عمروٌ، يصح؟ لا يصح.
إذاً: لكونها لم تشتمل على ضمير لا يصلح أن تكون صلةً للموصول، لكن لكون الفاء مُتضَمِّنة لمعنى السببية أغنت عن الضمير في جملة: يغضب زيدٌ، فقامت مقام الضمير، إذاً: صلاحيتها في كونها يعطف بها على جملة الصلة لكونها أقيمت مقام الضمير، إذاً: عُطف بالفاء هنا على جهة الخصوص دون غيرها، عُطف بها جملٌة خاليةٌ عن الضمير، لو أردنا أن نوقعها صلة الموصول لما صلُحت، والذي سوَّغ العطف هنا: أنه بالفاء على جهة الخصوص.
إذاً: الذي يطير، الذي هذا مبتدأ، ويطير: فعل مضارع وفاعله: ضمير مستتر يعود على: الذي، إذاً: وجد الرابط، الذباب: هذا خبر، يغضب زيدٌ: هذه جملة معطوفة على يطير، وإذا عُطف عليه حينئذٍ لا بد أن يكون صالحاً لأن يقع صلة الموصول، لكن لا يصلح، لأنها غير مشتملة على ضمير يعود على الموصول، لكن نقول هنا: جاز بالفاء على جهة الخصوص فقط، هذا استثناء.
حينئذٍ: كأن الفاء أقيمت مقام الضمير، كذلك مثله: اللذان يقومان فيغضب زيدٌ أخواك، نفس المثال يغضب زيدٌ، هذه جملة معطوفة بالفاء على يقومان، اللذان: اسم موصول مبتدأ، يقومان: فعل وفاعل، والألف هذه فاعل وهي عائدة على الاسم الموصول، إذاً: صالحة لأن تكون جملة الصلة، أخواك: خبر المبتدأ اللذان، فيغضب زيدٌ: هذه فعل وفاعل ليس فيها ضمير يعود على الموصول، لأن الموصول مثنى، وليس عندنا هنا شيء مثنى في اللفظ، فدل على أنها خاليةٌ من الضمير، جاز عطفها على جملة الصلة مع كونها خاليةً عن الضمير لكون العطف خاصةً بالفاء.
يعني: العرب جَوَّزَت هذا التركيب، مع كونها الجملة خالية عن الضمير، لقيام الفاء مقام الضمير.


وعكسه نحو: والذي يقوم أخواك فيغضب هو زيدٌ، ومثل ذلك جارٍ في الخبر والصفة والحال: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً)) [الحج:63] .. ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)) [الحج:63] أَنَّ: حرف توكيد ونصب، ولفظ الجلالة اسمها، وأنزل من السماء: خبر، "أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ" هنا الشاهد، الجملة في محل رفع خبر المبتدأ " أَنَّ اللَّهَ "، فيها ضمير؟ أنزل هو الله، إذاً: فيها ضمير .. مشتملة على ضمير، صلحت أن تكون خبراً؟ صلحت أن تكون خبراً، ((فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً)) [الحج:63] هذه الجملة خاوية من ضميرٍ يعود على المبتدأ الذي هو في الأصل: أن الله، ما الذي جوَّز عطف هذه الجملة على جملة الخبر، مع كون الأصل في العطف على الجمل إذا كانت خبرية أن يصلح أن يُخبر بها، فإذا قيل: ألم تر أن الله تصبح الأرض مخضرة، هل يصلح أن تقع خبر؟ لا يصلح لخلوها عن الضمير، لكن هنا عطفت على جملة الخبر مع كونها خاليةً من الضمير لكون العطف حاصلاً بالفاء، ((فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً))، ففيها معنى السببية.
وَاخَصُصْ بِفَاءٍ عَطْفَ مَا لَيْسَ صِلَهْ ... عَلَى الَّذِي اسْتَقَرَّ أَنَّهُ الصِّلَهْ

والصفة نحو: مررت بامرأة تضحك فيبكي زيدٌ، هذا من أمثلة الأشْمُوني، مررت بامرأة تضحك ما إعراب تضحك؟ صفة، تضحك، مشتملة على ضمير؟ مشتملة على ضمير هو المصحِّح لكونها واقعةً صفة، فيبكي زيدٌ، يبكي زيدٌ: فعل وفاعل، خالية عن ضمير الموصوف، عُطف بها على جملة الصفة: تضحك، ما الذي جوَّز؟ كون العطف حاصلاً بالفاء.
وبامرأة يضحك زيدٌ فتبكي، يضحك زيدٌ: هذه الجملة صفة، فتبكي: مثلها، وكذلك الخبر: زيدٌ يقوم فتقعد هندٌ، وزيدٌ تقعد هندٌ فيقوم، يعني: زيد، والحال: جاء زيدٌ يضحك فتبكي هندٌ، وجاء زيدٌ تبكي هندٌ فيضحك.
على كلٍّ، القاعدة هنا: أنه يعطف بالفاء على جملة الصلة، وجملة الصفة، وجملة الخبر، وجملة الحال، إذا خلت الجملة المعطوفة بالفاء عن ضميرٍ، فحينئذٍ لا تصلح هذه الجملة المعطوفة بالفاء أن تقع خبراً، ولا أن تقع صفةً، ولا أن تقع حالاً، ولا أن تقع صلةً لخلوها في الأربع المسائل عن الضمير، لأن الضمير شرطٌ في الجميع، كما سبق بيانه.
قال ابن عقيل: " واختصت الفاء بأنها تعطف ما لا يصلح أن يكون صلةً لخلوه عن ضمير الموصول، على ما يصلح أن يكون صلةً لاشتمالها على الضمير، نحو: الذي يطير فيغضب زيدٌ الذبابُ " ولو قلت: ويغضب زيدٌ أو ثم يغضب زيدٌ، لم يجز، لأن (ثم) و (الواو) لا تفيد السببية. لأن (الفاء) تدل على السببية خاصةً دون (الواو) ودون (ثم) فاستغني بها عن الرابط، هنا العلة: لكونها دالةً على السببية استغني بها عن الرابط، ولو قلت: الذي يطير ويغضب منه زيدٌ الذبابُ جاز، لأنك جئت بالضمير، والمسألة ليست مفترضة في جملةٍ مشتملة على الضمير، لو قال: الذي يطير ويغضب زيدٌ مُنع، الذي يطير ويغضب منه زيدٌ صح، لأنه صرَّح بالضمير.
بَعْضَاً بِحَتَّى اعْطِفْ عَلَى كُلٍّ وَلاَ ... يَكُونُ إِلاَّ غَايَةَ الَّذِي تَلاَ


حتى: حرف عطفٍ، ويشترط للعطف بها أربعة شروط، إذا تخلف واحدٌ منها لم يجز:
الشرط الأول: كون المعطوف اسماً لا فعلاً، وهذا مذهب جمهور النحاة، إذ الأصل في (حتى) أنها حرف جر، والعاطفة منقولة عنها، (حتى) العاطفة .. حرف عطف منقولة عن الجآرة، وحرف الجر خاصٌ بالأسماء كما سبق بيانه: (بِالجَرِّ وَالْتَّنْوِينِ) إلى آخره، فبقي لـ (حتى) بعد نقلها ما كان ثابتاً لها قبل النقل وهو الاختصاص بالأسماء، إذاً: لا يعطف بـ (حتى) إلا اسمٌ، لماذا؟ لأنها لو دخلت على الفعل حينئذٍ دخلت على ما لا تختص به، لأن (حتى) العاطفة هي عينها (حتى) الجآرة، يعني: نُقلت عنها، والجآرة خاصةٌ بالأسماء فبقي لها الاختصاص بعد النقل.
وقيل لا، يعني: لا تَخْتصُّ بالاسم، نظراً لما طرأ عليها من النقل، يعني: للعطف، وقيس على غيرها من حروف العطف، يعني: حروف العطف لا تَخْتصُّ باسمٍ، وإنما هي مطلقة يعطف بها الاسم، ويعطف بها الفعل، كذلك (حتى) وإن كانت منقولة عن (حتى) الجآرة المختصة بالأسماء إلا أنها تجري مجرى أخواتها، وهي حروف العطف الأخرى، من كونها لا تَخْتصُّ بالأسماء، لكن جمهور النحاة على الأول: على أن (حتى) باقيةٌ بالاختصاص قبل النقل وبعد النقل، حينئذٍ لا يجر بها الفعل، هذا الشرط الأول.
الثاني: كونه ظاهراً، فلا يجوز: قام الناس حتى أنا، ليس بظاهر .. هذا ضمير، ولا: أكرمت القوم حتى إياك، وسبق معنا في أول حروف الجر: حتاك .. حتاه، قلنا: هذا شاذ، لا يُجر بها الضمير ولا يعطف بها الضمير، إذاً: مراعاةً لأصلها، حتاك قلنا: هذا شاذ، حتاه على أنها تجر الضمير، قلنا: هذا شاذٌ.
كذلك العطف بها، لا يعطف بها إلا الاسم الظاهر، وأمَّا الضمير فلا، حتى أنا، نقول: هذا ليس بصحيح، ولا: أكرمت القوم حتى إياك.
الشرط الثالث: كونه بعضاً من المعطوف عليه، يعني: جزءً منه، إمَّا بالتحقيق أو بالتأويل، إمَّا محققاً تحقيقاً وإمَّا مؤولاً، إذاً: الشرط الثالث كونه: بعضاً من المعطوف عليه، إمَّا تحقيقاً نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، أكلت السمكة: فعل وفاعل ومفعولٌ به، حتى: حرف عطف، رأسَها بالنصب، لأنه معطوفٌ على ما قبله، والعاطفة تُشرِّك ما بعدها فيما قبلها في الحكم فهو منصوب، حتى رأسَها إذا نصبنا يدل على أن الرأس مأكول أو غير مأكول؟ مأكول، إذاً: هو جزءٌ حقيقةً أو لا؟ جزءٌ حقيقةً. وضابطه التحقيقي، بثلاثة أمور .. واحدٌ من ثلاثة أنواع:
- أن يكون جزءً من كلٍّ كالمثال السابق، لأن الرأس جزء من السمكة، والسمكة لفظٌ يطلق على الرأس وغيره.
- الثاني: أن يكون فرداً من جمعٍ .. واحد من جمع، مثاله: قدم الحجاج حتى المشاة، المشاة: هذا اسمٌ، وهو ظاهر وهو فردٌ واحد من جمعٍ، لأن الحجاج يشمل المشاة وغيرهم، حتى المشاةُ، إذاً نقول: هذا تحقيقي، لكونه فرداً من جمعٍ.
- الثالث: أن يكون نوعاً من جنس، أكلت التمر حتى البرني، التمر: جنس .. البرني وغيره، البرني: هذا مأكول، إذاً: هو نوعٌ من جنس.
وأمَّا التأويل: أن يكون جزءً لكنه على جهة التأويل، يعني: ليس بظاهر، لكن لا بد من تأويله، كقول القائل:
أَلقَى الصَّحِيفةَ كَي يُخَفِّفَ رَحْلَهُ ... وَالزَّادَ حَتَى نَعْلَهُ أَلقَاهَا


الزَّادَ حَتَى نَعْلَهُ، نقول هنا: نَزَّل النعل مُنَزَّلة الجزء من الزاد، وإلا ليس بداخل في الأصل، لكنه ما ترك شيء، يعني: إذا ترك نعله فغيره من بابٍ أولى، (حتى نَعْلَهَ) بالنصب مفعولٌ لفعلٍ محذوف يفسره المذكور بعده، تقديره: حتى ألقى نعله. أو شبهها يعني: شبه الجزء بالبعض، كقولك: أعجبتني الجارية حتى كلامُها، هنا ليس بجزء الكلام، وإنما هو شبه جزءٍ.
نحن نقول: الشرط الثالث: كونه بعضاً من المعطوف عليه، إمَّا بالتحقيق، أو بالتأويل، أو الشبيه بالبعض، ليس بعضاً ولا جزءً، وإنما هو مُنَزَّلٌ مُنَزَّلة الجزء أو البعض، لأن الكلام ليس بجزء هو عرض: أعجبتني الجارية حتى كلامُها، ويمتنع: أعجبتني الجارية حتى ولدُها، هذا ممتنع لماذا؟ لأنه منفصلٌ وليس كالجزء، بل هو جزءٌ منفصل، حتى ولدها.
وضابط ذلك: أنه إن حسن الاستثناء حسن دخول (حتى)، يعني لو قال: أعجبتني الجارية إلا كلامُها، حسن أو لا؟ حسن، إذاً: هي شبهٌ بالبعض، وأمَّا أعجبتني الجارية إلا ولدُها، هذا ليس له دخل.
الشرط الرابع: كونه غايةً في زيادةٍ حسية أو معنوية، حسية مثل ماذا؟ فلانٌ يهب الأعداد الكثيرة حتى الألوفَ، فلان .. زيد تاجر، يهب يعطي، الأعداد الكثيرة حتى الألوفَ: هذا زيادة حتى الألوف، إذاً: الألوف غاية في زيادةٍ. أو معنوية: مات الناس حتى الأنبياءُ، يعني: الموت ما يخصص أحد دون أحد، مات الناس حتى الأنبياءُ، يعني: شمل الموت الأنبياء أيضاً، هذه زيادة، لأن الناس مراتب، الأدنى فالأدنى حتى الأنبياء.
أو في نقصٍ كذلك نحو: المؤمن يُجْزى بالحسنات حتى مثقالِ الذرة، هذا فيه نقص، مثال الذرة: قليل! ونحو: غلبك الناس حتى الصبيان والنساء.
إذاً: هذه أربعة شروط لا بد من استيفائها، نص الناظم على اثنين منها فقط:
(بَعْضَاً بحَتَّى اعْطِفْ عَلَى كلِّ) اعْطِفْ: فعل أمر مبني على السكون لا محل له من الإعراب، اعطف بعضاً .. جزءً، بِحَتَّى: جار ومجرور متعلق بقوله: اعْطِفْ، وبَعْضَاً: مفعول مقدم، (عَلَى كلِّ) جار ومجرور متعلق بقوله: اعْطِفْ، إذاً: (اعطف بحتَّى بعضاً على كلٍّ) بأن يكون المعطوف جزءً من المعطوف عليه حقيقةً أو تأويلاً أو شبيهاً بالبعض، والأمثلة كما ذكرناها.
(وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ غَايَةَ الَّذِي تَلاَ) هذا الشرط الرابع: أن يكون غاية، يعني: نهاية الشيء أو آخر الشيء، (وَلاَ يَكُونُ) يكون الضمير هنا يحتمل أنه يعود على البعض أو على المعطوف: ولا يكون المعطوف إلا غايةً .. ولا يكون البعض إلا غاية، (وَلاَ يَكُونُ) أي: البعض أو المعطوف، (إِلاَّ غَايَةَ) يعني: آخر الشيء، (الَّذِي تَلاَ) يعني: المتلو، ما هو المتلو؟ المعطوف عليه، يعني: المعطوف يكون غايةً للمعطوف عليه، فإن انتفى بأن لم يكن غايةً له .. آخر الشيء، متعلقاً به على الجهات الثلاث السابقة، حينئذٍ لا يصح العطف بـ (حتى).


(وَلاَ يَكُونُ) هذا يكون: فعل مضارع ناقص، والضمير المستتر اسم يكون، (إِلاَّ غَايَةَ الَّذِي تَلاَ) أين خبر يكون؟ (الَّذِي) اسم موصول مضاف إليه، و (تَلاَ) فعل ماضي، وفاعله ضميرٌ مستترٌ جوازاً، والجملة لا محل لها صلة الذي، وجملة تكون واسمه خبر في محل نصب حال، أين خبر يكون؟ غَايَةَ، وغَايَةَ: مضاف، والَّذِي: مضاف إليه، وتَلاَهُ: الضمير المحذوف هنا العائد يكون صلة الموصول، وجملة: (لاَ يَكُونُ) أعربها محيي الدين أنها: في محل نصب حال.
من ماذا؟ اعطف بعضاً حال كونه لا يكون إلا غاية الذي تلا، هذا محتمل.
(إِلاَّ غَايَةَ) يعني: آخر الشيء (الَّذِي تَلاَ) الذي هو المعطوف وحذف الضمير.
قال ابن عقيل: " يشترط في المعطوف بـ (حتى) أن يكون بعضاً مما قبله وغايةً له " ولذلك عَبَّر ابن هشام عن هذا المعنى: أن (حتى) للغاية والتدريج، ومعنى الغاية: آخر الشيء، والتدريج: أن ما قبلها ينقضي شيئاً فشيئاً، هذا صحيح: قدم الحجاج حتى المشاة، ما يأتون دفعة واحدة .. لحظة واحدة، وإنما يأتون شيئاً فشيئاً، مات الناس حتى الأنبياءُ .. شيئاً فشيئاً، لا يموتون دفعةً واحدة، أكلت السمكة حتى رأسَها لا يقع دفعةً واحدة.
إذاً التدريج: أن ما قبلها ينقضي شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ الغاية، في زيادةٍ أو نقصٍ، نحو: مات الناس حتى الأنبياءُ، وقدم الحجاج حتى المشاةُ.
نقف على هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!