شرح ألفية ابن مالك للحازمي

عناصر الدرس
* ينصب الضارع بـ (كي وأن) ـ
* إهمال (أن) حملاعلى (ما) المصدرية
* ينصب المضارع بـ (إذن) بشروط
* مواضع إعمال (أن) ظاهرة أو مضمرة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
قال النَّاظِم - رحمه الله تعالى -: (وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ) عرفنا أن (كَيْ) لها ثلاثة أحوال في لسان العرب: إمَّا أن تكون اسْماً مختصراً من (كيف) وإمَّا النوع الثاني أن تكون بمنزلة لام التعليل معنىً وعملاً، وهذا قلنا: داخلة على (مَا) الاستفهامية، و (مَا) المصدريَّة، وكذلك على (أَنْ) المصدرية مُضمَرةً، نَحو: جئت كي تُكرِمنِي (تُكرِمنِي) هذا فعل مضارع منصوب بـ: (أَنْ) مضمرة بعد (كَيْ) وحينئذٍ (أَنْ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بـ: (كَيْ) إذاً: هي بِمنزلة لام التعليل.
ولا يَجوز إظهار (أَنْ) بعدها، فأمَّا قول الشاعر: (كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ) هذا ضرورة، وله توجيه سيأتي معنا.
ثالثاً: تكون بِمنزلة (أَنْ) المصدرية معنىً وعملاً، وهو مراد النَّاظِم هنا، وهي النَّاصِبَة: (وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ) يعني: بنفسها، ويتَعيَّن ذلك الحكم بكونها مَصدريَّة في الواقعة بعد اللام وليس بعدها (أَنْ) كما في قوله تعالى: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا)) [الحديد:23] (تَأْسَوْا) هنا فعل مضارع منصوبٌ بـ: (كَيْ) بنفسها، و (كَي) هنا لم يقع بعدها (أَنْ) فهي ناصبةٌ. تَعيَّن ذلك في الواقعة بعد اللام ((لِكَيْلا)) [الحديد:23].
ولا نُقدِّر (أَنْ) هنا، لماذا؟ لأننا لو قَدَّرْنا (تَأْسَوْا) منصوبٌ بـ: (أَنْ) مضمرة بعد (كَيْ) لزم دخول اللام على (كَيْ) وهي حرف تعليل، إذاً: دخل حرفٌ على حرف، وهذا لا يجوز، أن يدخل حرف على حرف هذا مُمتنع، ولكن إذا دخل اللام على (كَيْ) وما بعدها يكون مصدراً مؤولاً بـ: (كَيْ) .. مع (كَيْ) حينئذٍ جاز، لأن اللام قد دخلت على اسمٍ مؤول.
وأمَّا ((لِكَيْلا)) [الحديد:23] بأن تكون اللام حرف جر، و (كَيْ) كذلك حرف جر وتعليل، و ((تَأْسَوْا)) [الحديد:23] منصوب بـ: (أَنْ) مضمرة بعد (كَيْ) هذا مُمتنع، لأنه يلزم منه دخول حرف الجر على حرفٍ آخر.
ولا يجوز أن تكون حرف جرٍ لدخول حرف الجر عليها، فإن وقع بعدها (أَنْ) نَحو قول الشاعر: (أَرَدْتَ لِكَيْماَ أَنْ تَطِيرَ بِقرْبَتِي) (لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ) وقعت (أَنْ) بعد (كَيْ) احتمل أن تكون مَصْدَريَّة مؤكَّدة بـ: (أَنْ) .. هي مَصْدريَّة بنفسها وأكِّدَت بـ: (أَنْ) (لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ) فهي (كَيْ) هنا مَصْدريَّة، و (أَنْ) توكيدٌ لها.
وأن تكون تَعلِيليَّة مؤكِّدة للام، والثاني أرجح .. ما هو الثاني؟ أن تكون تَعلِيليَّة مؤكِّدة للام، الثاني أرجح لئلا يلزم تقديم الفرع على فالأصل، فـ: (أَنْ) هي أمُّ الباب فلا تُجعَل مؤكِّدة لـ: (كَيْ) يعني: إذا جعلنا (أَنْ) مؤكِّدة لـ: (كَيْ) أيهما أصْل؟ (أَنْ) هي الأصل في الباب، حينئذٍ جعلنا الأصل مؤكداً للفرع، وهذا خلاف الأصل.


كذلك هي الملاصقة للفعل، وما كان ملاصقاً للفعل فالأولى أن يكون هو العامل في الفعل دون (كَيْ) وما كان أصلاً لا يكون مؤكِّداً لغيره، ويجوز الأمران في نحو: جئت كَي تفعل، ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً)) [الحشر:7] يجوز الأمران، يعني: أن تَجعل (أَنْ) مضْمَرة بعد (كَيْ) وأن تَجعل (كَيْ) هي النَّاصِبة، إمَّا أن يكون الفعل منصوباً بـ: (أَنْ) مضمرة بعد (كَيْ) وإمَّا أن تكون (كَيْ) هي النَّاصِبة، لكن تُقدِّر قبلها اللام.
فإن جُعِلَت جارَّة كانت (أَنْ) مُقدَّرة بعدها، وإن جُعِلَت ناصبة كانت اللام مُقدَّرة قبلها، وهذا مذهب سيبويه والجمهور: أنَّ (كَيْ) تكون حرف جر ومَصْدريَّة، إذا كانت حرف جَرْ حينئذٍ جَرَّت (أَنْ) ومدخولها المصدر، وإذا كانت مَصدريَّة حينئذٍ لا يكون مجروراً إلا باللام المُقدَّرة قبلها.
وذهب الكوفيون: إلى أنَّها ناصبةٌ للفعل دائماً، وتأولوا ما احْتَمَل غير ذلك، وذهب قوم: إلى أنَّها حرف جر دائماً.
إذاً ثلاث مذاهب:
- (كَيْ) تكون حرف تعليل وجر، وتكون ناصبة على التفصيل الذي ذكرناه.
- وعند الكوفيين: أنَّها لا تكون إلا ناصبة البتَّة دائماً.
- وقال بعضهم: إنَّها تكون حرف دائماً، والصواب: ما ذهب إليه جمهور البصريين.
ومنع الجمهور تقديم معمول (كَيْ).
هناك في لَنْ قلنا: يَجوز تقديم معمول معمولها: زيداً لن أضرب جاز، وأمَّا (كَيْ) فلا يَجوز.
ومنع الجمهور تقديم معمول معمول (كَيْ) خلافاً للكسيائي فيجوز عنده: جئت النَّحْوَ كَي أتعلم .. جئت كي أتَعلَّم النَّحْو، يجوز عند الكسائي وعند الجمهور يمتنع، لماذا يتمنع؟ قالوا: لأن (كَيْ) من الموصولات الحَرْفيَّة، ومعمول الصِّلَة لا يَتقدَّم على الموصول بِخلاف لَنْ ليست من الموصولات، يعني: لا تؤول مع ما بعدها بِمصدر، وأمَّا (كَيْ) فهي موصولٌ حرفِيِّ، وهي من الخمسة التي ذكرناها سابقاً، وحينئذٍ تؤول ما بعدها للمصدر، وما كان كذلك فحينئذٍ لا يَتقدَّم معموله ولا معمول معموله عليه البتَّة.
لأن (كَيْ) من الموصولات الحرفيَّة، ومعمول الصِّلة لا يَتقدَّم على الموصول، وإن كانت جارَّة فـ: (أنْ) مُضْمَرة بعدها وهي موصولة.
إذاً: (وبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ) (كَي) هو النَّاصِب الثاني.
استعمالات (كَي) .. خلاصة ما سبق: أنَّ (كَيْ) تُذكر وحدها، فيقال كما في قوله تعالى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً)) [الحشر:7] إذاً: ذكرت (كَي) وحدها هنا.
الثاني: أنْ تُذكَر مسبوقةً باللام فقط ((لِكَيْلا تَأْسَوْا)) [الحديد:23] (لِكَيْ) اللام سبقت (كَي) هذا استعمالٌ في لسان العرب.
الثالث: تُذْكَر قبل (أنْ) المصدرية وهذا قيل: ضرورة، يعني: لا تظهر (أنْ) لكن استُعمِل، كقوله: (كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وَتَخْدَعا) كَيْمَا أَنْ إذاً: قيل (كَي) وظهرت بعدها (أَنْ).
الاستعمال الرابع: تُذْكَر مسبوقةً باللام وبعدها (أنْ) المَصْدريَّة: (لِكَيْماَ أَنْ تَطِيرَ بقرْبَتِي) لِكَيْماَ أَنْ جاءت اللام ثُم (كَي) ثُم (أنْ) جُمع بينها.


هذه أربعة استعمالات، المشهور الأول والثاني: وهو أنْ تذكر وحدها، أو أن تكون مسبوقةً باللام فقط: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا)) [الحديد:23] ولذلك هو الوارد في القرآن، وأمَّا الثالث والرابع فلم يَرِد في القرآن.
وجمهور البصريين على أنَّ (كَي) إذا نَصَبَت المضارع فهي مَصدريَّة، وقد تكون (كَيْ) تَعْليليَّة، بِمعنى: لام التعليل، فالنَّاصب حينئذٍ (أنْ) مضمرة بعد (كَيْ)، وعليه .. على ما سبق فإذا قيل: جئت لكي أتَعَلَم، يعني: جِيء بـ: (كَيْ) وذُكِر قبلها اللام، حينئذٍ يتَعيَّن أن تكون اللام حرف تعليل و (كَيْ) مَصْدريَّة، يتَعيَّن إذا لُفِظَ باللام قبل (كَيْ) حينئذٍ النَّاصب (كَيْ) وليس (أنْ) مُضْمَرة بعد (كَيْ) هذا متى؟ إذا نُطِقَ باللام قبل (كَيْ) مثل هذا المثال: جئت لكي أتَعَلَّم، جيء باللام و (كَيْ).
حينئذٍ يتَعيَّن أن تكون (كَيْ) ناصبة، فـ: أتَعَلَّم، هذا فعلٌ مضارع منصوب بـ: (كَيْ) نفسها، ولا نقول بـ: (أنْ) مُضْمَرة، لماذا؟ لأنه لُفِظَ باللام، لأنك لو جَعَلْت (كَيْ) تَعليليَّة لصرت إلى التأكيد ولك معدَلٌ عنه، يعني: خروجاً عنه، إذا جعلت الفعل هنا منصوباً بـ: (أنْ) مُضْمَرة حينئذٍ جعلت (كَيْ) مؤكِّدة للام، ولا شك أن القول بالتأسيس أولى من القول بالتأكيد، لأنه إمَّا أن تجعل (كَيْ) مؤكِّدة للام، وإمَّا أن تجعلها مؤسسة، حينئذٍ تكون ناصبةً لما بعدها.
فإذا قَدَّرت الفعل الذي بعد (كَيْ) في مثل هذا التركيب: (لِكَي) منصوباً بـ: (أنْ) مُضْمرة بعد (كَيْ)، طيب! (كَيْ) واللام حرفان، إذاً: الثاني مؤكِّدٌ للأول، والتأسيس خيرٌ من التوكيد، إذاً: لا نصير إلى التأكيد مع إمكان التَّأسيس، إذ التأسيس خيرٌ من التأكيد.
وإذا قيل: (كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وَتَخْدَعا) بعضهم لم يُجوِّز هذا التَّركيب .. أن يجمع بين (أنْ) ظاهرةً و (كَيْ)، لكن ذكره البعض: (كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وَتَخْدَعا) تَعيَّن أن تكون (كَيْ) حرف تعليل واضح، لأنه إذا ذُكِرَت (أنْ) فهي النَّاصِب، لا مَعْدِل عنها، كيف تترك الأصل وهي (أنْ) أمُّ الباب وتَجعل النَّصب بـ: (كَيْ)؟! هذا فيه نظر.
إذاً: إذا ذُكِرَت (أنْ) بعد (كَيْ) يتَعيَّن أن تكون (أنْ) النَّاصِبة، وإذا كانت (أنْ) هي النَّاصِبة يتَعيَّن أن تكون (كَيْ) التَعليليَّة حرف جر.
حينئذٍ تَعيَّن أن تكون (كَيْ) حرف تعليل، و (أنْ) حرفٌ مصدري، لأنك لو جعلت (كَيْ) حرفاً مَصدَرياً لصرت إلى التأكيد والتأسيس خيرٌ منه، يعني: إذا جعلت (كَيْ) حرفاً مصدرياً، جعلت (أنْ) مؤكِّدة لـ: (كَيْ)، الأصل مؤكِّد للفرع وهذا خلاف الأصل، تَجعل (كَيْ) هي النَّاصبة و (أنْ) ماذا فعلت؟ لم تنصب، ما دورها في هذا التركيب: (كَيْمَا أَنْ تَغرَّ وَتَخْدَعا)؟
(أنْ) توكيد .. هذا خلاف الأصل .. خلاف الأصل من جهتين:
- أنَّ التأسيس أولى من التأكيد، هذا أولاً.
- ثانياً: كيف يُجعل الأصل -أم الباب- مؤكِّداً للفرع؟! هذا مَحلُّ نظر، إذاً: إذا صُرِّح بـ: (أنْ) فهي النَّاصبة، و (كَيْ) حينئذٍ تكون حرف تعليل، وإذا قيل: جئت كي أتَعَلَّم، هذا يجوز فيه وجهان: إذا لم تأت بـ: (أنْ) ولم تأت باللام جاز لك الوجهان:


- أن تَجعل (أتَعَلَّم) منصوبٌ بـ: (أنْ) مضمرة بعد (كَيْ) و (كَيْ) حرف تعليل.
- ويجوز أن تجعل (كَيْ) هي النَّاصِبة وتَنْوِ اللام قبلها، لأنه لا بُدَّ من اللام، إذا جَعَلت (كَيْ) نَاصبةً بنفسها لا بُدَّ من اللام قبلها لفظاً أو نِيَّةً، إذا توجد لا بُدَّ من نِيَّتِها.
إذا قيل: جئت كي أتَعلَّم، جاز أن تكون (كَيْ) مَصدريَّة ولام التَّعليل قبلها مُقدَّرة، مَصدريَّة يعني: ناصبة بنفسها، وجاز أن تكون (كَيْ) حرف تعليل، وأن المَصدريَّة مُقدَّرة بعدها، ماذا بقي؟ بقي أن يُجمع بين اللام و (كَيْ) و (أنْ): (لِكَيْماَ أَنْ تَطِيرَ بقرْبَتَيِ) (لِكَيْماَ أَنْ) جُمِع بين اللام و (كَيْ) و (أنْ)، وهذا بعضهم كذلك لا يُجوزه إلا ضرورةً.
جاز أن تكون في هذا التركيب (كَيْ) مَصْدريَّة، فتكون (أنْ) مؤكِّدةً لها، وهذا مَحلُّ نظر، (أنْ) الأصل مُؤكِّد للفرع هذا محل نظر، لكن يجوز، ودائماً إذا قيل: جائز، لا يلزم منه أن يكون هو الأفصح، ولذلك يُصرِّح ابن مالك وابن هشام أحياناً، يقولون: جائزٌ على قُبحٍ، وأحياناً يقولون: جائزٌ في لُغَيَّة تصغير لغة، يعني: فيه نظر، من باب التحقير أو شيء من ذلك.
فتكون (أنْ) مُؤكِّدة لها، وجاز أن تكون (كَيْ) حرف تعليل فتكون هي مُؤكِّدة للام، وهنا لا مناص عن القول بالتأكيد، لا بُدَّ أن يُقال: (كَيْ) هي مُؤكِّدة للام، أو (أنْ) مؤكِّدة لـ: (كَيْ)، لا بُدَّ من القول بالتأكيد، إذاً: لا نقول التأسيس خيرٌ من التأكيد، لأنَّه لا مناص عنه، فتَحصَّل حينئذٍ من هذه الأقسام أنَّ (كَيْ) تكون مَصدريَّة لا غير في موضعٍ واحد، نَحو: جِئت لِكَي تكْرِمني، هنا (كَيْ) مصدرية لا غير .. لا يَحتمل أن يكون الفعل منصوباً بـ: (أنْ) مُضْمَرة بعدها، لماذا؟ للتَّصرِيح باللام (لِكَي).
إذا قيل: لـ: (لِكَي) ولم يلفظ بـ: (أنْ) تَعيَّن أن تكون مَصدريَّة، هذا واحد.
وتكون تَعليليَّة لا غير في موضع واحد: (كَيْمَا أَنْ تَغُرَّ وَتَخْدَعا) (كَيْمَا أَنْ) إذاً: صُرِّح بـ: (أنْ) بعدها، فإذا لُفِظَ بـ: (أنْ) بعدها، فـ: (أنْ) هي النَّاصِبة، و (كَيْ) قطعاً أنها تَعليليَّة، ولا نَجعل (أنْ) مؤكِّدة و (كَيْ) هي مَصدريَّة.
وتكون مُحتملة للوجهين في موضعين: الثالث والرابع، وهذا قليل جداً .. قليل جداً أن يُلفَظ بـ: (أنْ) بعد (كَيْ)، أو أن يُجمع بين اللام و (كَيْ) و (أنْ)، ولذلك بعضهم يَجعله من باب الضرورة، ولم يُمثَّل إلا بالشعر الذي ذكرناه سابقاً.
إذاً:
وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ كَذَا بِأَنْ ... لاَ بَعْدَ عِلْمٍ. . . . . . . . . . . . .

(وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ) قال الشَّارِح هنا: " ينصب المضارع إذا صحبه حرفٌ ناصبٌ، وهو (لنْ) أو (كَيْ) أو (أنْ) أو (إِذَنْ) هذه ناصبة بنفسها وليس مُتَّفق عليه، لأن بعضهم يرى: أنَّ (إِذَنْ) ليست ناصبة بنفسها، بل (أنْ) مُضْمَرة بعدها، حينئذٍ الأول والثاني و (أنْ) هذا لا إشكال فيه، و (إِذَنْ) هذا مَحلُّ نظر، نَحو: لن أضْرِب، وجئت كَي أتَعَلَّم، وأريد أن تقوم، وإذَنْ أكرمَك، في جواب من قال لك: آتيك، هذه أمثلة لِمَا ذَكَره على جهة العموم.


و (كَيْ) المَصدريَّة كما سبق .. (كَيْ) مَصدريَّة التي أطلقها النَّاظِم هنا (وَبِلَنِ انْصِبْهُ وَكَيْ) أي: المَصدريَّة، وإنما يؤخذ التقييد من كونه ذكرها في أدوات النصب، وإلا (كَيْ) قد لا تكون مصدريةً بل تكون تَعليليَّة، فأمَّا التَّعليليَّة فجَارةٌ والناصب بعدها (أنْ) مضمرة، وتتَعيَّن المصْدريَّة إنْ سبقتها اللام كما ذكرناه سابقاً، كقوله تعالى: ((لِكَيْلا تَأْسَوْا)) [الحديد:23] والتَّعليليَّة إن تَأخَّرَت عنها اللام أو أنْ، وعلامة المَصدريَّة أن تَتَقدَّم عليها اللام لفظاً أو تقديراً.
(لَنِ) قيل: لا يَجوز الفَصْل بين (لَنِ) والفعل اختياراً عند البصريين وهشام، وأجاز الكِسَائي الفَصْل بالقسم ومعمول الفعل: لن والله أقوم، جَوَّز الفَصْل بالقسم، وبِمعمول الفعل: لن زيداً أضرب، ووافقه الفَرَّاء على القسم، وزاد الفَصْل بـ: (أظن) والشرط، والجماهير على المنع:
أنَّه لا يُفصَل بين (لَنِ) ومعمولها، نعم يَتقدَّم معمول معمولها عليها الجمهور على الجواز: زيداً لن أضرب، هذا جائزٌ.
. . . . . . . . . . . كَذَا بِأَنْ ... لاَ بَعْدَ عِلْمٍ وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنّْ
فَانْصِبْ بِهَا وَالرَّفْعَ صَحِّحْ وَاعْتَقِدْ ... تَخْفِيفَهَا مِنْ أَنَّ فَهْوَ مُطَّرِدْ

قوله: (كَذَا بِأَنْ) (كَذَا) أي: مثل ما ذُكِر من كون (لَنِ) ناصبة بنفسها، و (كَيْ) ناصبة على التفصيل السَّابق (بِأَنْ) يعني: فانصبه (بِأَنْ) (لاَ بَعْدَ عِلْمٍ) (لاَ) حرف عطف، لَكنَّه معطوف على محذوف مُقدَّر، والتقدير: فانصبه (بِأَنْ) بعد غير علمٍ لا بعد علم، لأن (أنْ) المصدرية لها ثلاثة أحوال:
- إمَّا أن يسبقها ما يَدلُّ على العِلْم .. ما يَدلُّ على اليقين يعني، سواءٌ بلفظ العِلْم أو غيره: رَأى، وحَسِبَ، وتيَقَّنَ، وظَنَّ إذا أريد بها العِلْم، كل الألفاظ السَّابقة التي مرَّت معنا في باب (ظَنَّ) ما يَدلُّ على اليقين إذا تَقدَّم على (أنْ) .. أن يَتقدَّم عليها ما يفيد اليقين، ويُعبِّر عنه النحاة: بما يدل على العِلْم.
- النوع الثاني: أنْ يَتقدَّم عليها ما يَدلُّ على الرجْحَان، يعني: (ظَنَّ) وأخواتها .. ظَنَّ وحَسِبَ ورَأىَ ونحو ذلك إذا استعملت في الرجحان.
- ألا يَتقدَّم عليها الأول ولا الثاني، كألا يَتقدَّم عليها ما يُفيِد العِلْم، ولا ما يُفيِد الظَّنَّ.
متى تكون ناصبةً متَعيِّنة النَّصب؟ فيما إذا لم يَتقدَّم عليها علمٌ ولا ظنٌ: ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ)) [الشعراء:82] نقول: (يَغْفِرَ) هنا فعلٌ مضارع منصوبٌ بـ: (أنْ) وهذه (أنْ) متَعيِّن أنَّها مَصدريَّة، لأنه لم يسبقها ما يَدلُّ على الظَّنِّ، ولا ما يَدلُّ على العِلْم، فيتَعيَّن أنها مَصدريَّة، وهي التي عنها بقوله: (كَذَا بِأَنْ لاَ بَعْدَ عِلْمٍ) يعني: فانصبه (بِأَنْ) بعد غيْرِ عِلْمٍ لا بعد عِلَمٍ، فإن كانت بعد عِلمٍ حينئذٍ يتَعيَّن أن تكون (أنْ) مُخفَّفة من الثقيلة، هذا إذا كان ما قبلها دالاً على العِلْم.


((عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)) [المزمل:20] (سَيَكُونُ) نقول: (يكون) بالرَّفْع هنا، وسبقها (أنْ) (عَلِمَ أَنْ) (أنْ) هذه قَطعاً قولاً واحداً مُخفَّفَة من الثقيلة، يعني: أخت (إنَّ):
وَإِنْ تُخَفَّفْ أَنَّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنّ ... وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَةً مِنْ بَعْدِ أَنّ
وَإِنْ يَكُنْ فِعْلاً وَلَمْ يَكُنْ دُعَا ... وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا
فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِقَدْ أَوْ نَفْيٍ اوْ ... تَنْفِيسٍ اوْ لَوْ وَقَلِيلٌ ذِكْرُ لَوْ

الأحكام السابقة كلها تَتَعلَّق بـ: (أنْ) هنا، ولذلك جاء: ((عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ)) [المزمل:20] فُصِلَ بين (أنْ) ومدخولها الذي هو الخبر بالسِّيِن وهو واجبٌ أو أحسن، على الخلاف السابق الذي ذكرناه في مَحلِّه.
إذاً: إذا سُبقت بِما يَدلُّ على العِلْم فهي (أنْ) مُخفَّفَة من الثقيلة، فيجب في الفعل أمران:
- الأول: رفعه ولا يجوز نصبه.
- والثاني: فَصْله بفاصلٍ من الأربعة التي ذكرناها سابقاً، ومنه المثال الذي ذكرناه: ((عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)) [المزمل:20] فـ: (سَيَكُونُ) نقول: الجملة في مَحلِّ رفع خبر (أنْ) و (أنْ) محذوفة الاسم وجوباً: (وَإِنْ تُخَفَّفْ أَنَّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنّْ).
(أَنْهُ سَيَكُونُ)، ضمير الشأن محذوف، وهو اسم (أنْ) والجملة التي بعد (سَيَكُونُ) في محل رفع خبر (أنْ) لأنها مُخفَّفَة من الثقيلة، هذا إذا سبقها ما يَدلُّ على العِلْم، وأمَّا إن سبقها ما يَدلُّ على الظن ففيه وجهان: يَجوز فيه الرَّفع، ويَجوز فيه النَّصب، ولذلك قال:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنّْ
فَانْصِبْ بِهَا وَالرَّفْعَ صَحِّحْ. . . . . ... . . . . . . . . . . . .. . . . . . . .

(فَانْصِبْ بِهَا) قَدَّم النَّصب لأنه أرجح، ولذلك أجمع القراء عليه في قوله: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا)) [العنكبوت:2] هنا أجمع القراء على النَّصب، مع كون (أنْ) هنا مسبوقة بـ: (حَسِبَ) و (حَسِبَ) هذه من أفعال الرُّجْحَان، إذاً: الأصل فيه الجواز .. أنَّه في غير القرآن يَجوز: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُون) .. (أَنْ يُتْرَكُوا) لكن في القرآن اتَّفَق القراء على النَّصب، فدل على أنَّه أرجح.
واختلفوا في قوله: ((وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ)) [المائدة:71] (أَلاَّ تَكُونَ .. أَلاَّ تَكُونُ) قراءتان بالرَّفْع والنَّصْب، لَمَّا اتفقوا في موضعٍ واختلفوا في موضعٍ، فما اتفقوا عليه دل على أنَّه الأرجح، وهو الأكثر في لسان العرب، وهو الموافق للقياس.
إذاً: (وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنّْ فَانْصِبْ بِهَا) المضارع إن شِئت، على أنَّها النَّاصبة له وصَحِّح الرَّفع،، يعني الرَّفع صحيح، ولذلك قرئ به: ((وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ)) [المائدة:71].


(وَاعْتَقِدْ تَخْفِيفَهَا مِنْ أَنَّ) متى؟ إذا رَفَعْت: (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونُ) بالرَّفع، حينئذٍ إذا صَحَّحْت الرَّفع اعتقد حينئذٍ .. حين إذ رَفَعْت ما بعدها (تَخْفِيفَهَا مِنْ أَنَّ) الثقيلة، حينئذٍ يكون اسمها ضمير الشأن محذوفاً: (وَحَسِبُوا أنْه لا يكُونُ فِتْنَةٌ) و (لا يكون) حينئذٍ نقول: الرَّفع واجب إذا جعلناها مُخفَّفَة من الثقيلة، والفَاصِل واجب، وفصل هنا بـ: (لاَ) وهو من الفواصل السابقة التي ذكرناها.
(فَهْوَ مُطَّرِدْ) ما هو (فَهْوَ)؟ يعني: الرَّفع أو جواز الوجهين، يَحتمل هذا ويَحتمل ذاك، فَهْوَ مُطَّرِدْ الرفع أو جواز الوجهين كلٌ منهما سَائغٌ في لسان العرب، وجاء به القرآن.
إذاً: إذا لم يكن قبل (أنْ) .. لم يسبقها عِلمٌ ولا ظن، حينئذٍ نقول: يتَعيَّن أنْ تكون ناصبة: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)) [النساء:28] (يُخَفِّفَ) سبقته (أنْ) ولم يَتقدَّم عليها علمٌ ولا ظن فهي ناصبة قولاً واحداً، هي المَصدريَّة وهي النَّاصبة وهي أمُّ الباب كما سيأتي بعض الاستثناءات، وإذا تَقدَّمها ما يدلُّ ويفيد العِلْم حينئذٍ هي مُخفَّفَة من الثقيلة قولاً واحداً، ويَجب في الفعل الذي يليها أمران: رفعه، والثاني: فَصْلُه على ما تَقرَّرَ في بابه.
وإذا تَقدَّم عليها ما يَدلُّ ويفيد الظَّنَّ حينئذٍ جاز فيه وجهان: الرَّفْع والنَّصْب، والنَّصْب أرجح، لأنه أكثر في لسان العرب، وهو المستعمل، وكذلك القياس يقتضيه.
إذاً: (كَذَا بِأَنْ) إذاً: (أنْ) هذه هي أمُّ الباب، لأنها ظاهرة ومُقدَّرة، وإنما أخَّرَها عن (لَنْ) و (كَي) لطول الكلام عنهما، ويُقال فيها: (عَنْ) .. (أنْ) يُقال فيها: (عَنْ) بإبدال الهمزة عيناً، فتقول: عَنْ يَضْرِب .. أرَدْتُ عَنْ أضْرِب، هذا تأتي به لغز! عَنْ أضْرِب أين مَجرور (عَنْ)؟ ليس لها مجرور، هذه (عَنْ) هي (أنْ) قلبت الهمزة عَيناً.
(كَذَا بِأَنْ لاَ بَعْدَ عِلْمٍ) ونحوه مِمَّا يدلُّ على اليقين، فإنها لا تنصبه إذا وقَعَت بعد ما يدل على العِلْم لأنَّها حينئذٍ مُخفَّفَة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، نَحو: ((عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ)) [المزمل:20] ومِثْلُه: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ)) [طه:89] أي: (أَنْه سَيَكُونُ) و (أنْه لا يَرْجِعُ).
وأمَّا قراءة بعضهم: (أَلاَّ يَرْجِعَ) بالنَّصْب وقوله:
. . . . . . . . . . . قَدْ عَلِمْوَا ... أن لاَ يُدَانيَنَا مِنْ خَلقِهِ بَشَرُ

فمِمَّا شَذَّ، يعني: إذا وقعت بعد العِلْم، فإذا نصب حينئذٍ نَقول: هذا شَاذٌ، يُحفظ ولا يُقاس عليه، إلا إذا أوِّل بغيره فجاز وقوع النَّاصبة بعده، وإلا الأصل أن النَّاصبة لا تقع بعد العِلْم، وهذا في استقراء كلام العرب.


(وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنّْ) (الَّتِي) هذا اسمٌ موصول مبتدأ، وقوله: (مِنْ بَعْدِ ظَنّ) (مِنْ بَعْدِ) جار ومجرور مُتعلِّق بِمحذوف صلة الموصول و (بَعْدِ) مضاف، و (ظَنّ) هذا مصدر مضافٌ إليه، ونحوه من أفعال الرُّجْحَان، ليس المقصود (ظن) بل (ظَنّ) إذا أريد بها اليقين دخلت في الأول، وإذا أريد بها الرُّجْحَان صارت في الثاني، إذاً: يَحتمل اللفظ، والمراد ما يَدلُّ على اليقين، يعني: ما يُستَعمل باليقين إمَّا أصَالةً وإمَّا فرعاً، كـ: (ظَنَّ) وأخواتها، قد يستعمل بعضها في اليقين.
(فَانْصِبْ بِهَا) (وَالَّتِي مِنْ بَعْدِ ظَنّْ فَانْصِبْ) الفاء واقعة في جواب المبتدأ، لأنه نُزِّل مُنَزَّلة الشَّرط، لأن المبتدأ إذا كان اسْماً موصولاً أو ما فيه معنى العموم جاز، ولا يَجب أن يدخل على الخبر الفاء، لأن شُبِّه بالشَّرط.
(فَانْصِبْ) الجملة هذه في محل رفع خبر المبتدأ (الَّتِي)، (فَانْصِبْ بِهَا) يعني: بـ: (أنْ) التي وقعت ظَن، فانصب بها المضارع إن شئت، ليس الأمر هنا للوجوب، لأنه قال: (وَالرَّفْعَ صَحِّحْ) فدل على أنَّ النَّصب هنا ليس بواجب.
(فَانْصِبْ بِهَا) إن شئت المضارع على أنَّها النَّاصِبة له، حينئذٍ تكون مَصدريَّة، لكن ليست متَعيِّنة، وصَحِّحْ الرَّفع (الرَّفْعَ صَحِّحْ) قَدَّم المفعول هنا على (صَحِّحْ)، (وَاعْتَقِدْ) حينئذٍ (تَخْفِيفَهَا مِنْ أَنَّ) يعني: إذا رَفَعْت حينئذٍ اعْتَقِد تَخفِيفها من (أنَّ) الثقيلة.
وقد قرئ بالوجهين: (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ) (أَلَّا تَكُونَ .. أَلَّا تَكُونُ) إذا قرأت: (أَلاَّ تَكُونُ) حينئذٍ (أنْ) مُخفَّفة من الثَّقيلة، وإذا قرأت: (أَلاَّ تَكُونَ) حينئذٍ (أنْ) ناصبةٌ بنفسها، ولذلك السِّيُوطِي قال: " {إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتْ} يدخل فيه كثير من مسائل النَّحْو " وهنا ليس فرق إلا النِّيَة، لأنك تلفظ وتَنوِّ، تلفظ بالرَّفع: (أَلاَّ تَكُونُ .. أَلاَّ تَكُونَ) حينئذٍ إذا لفظت بالرَّفْع نَوَيِّت أنَّ (أنْ) مُخفَّفَة من الثقيلة، وهي (أنْ) في اللفظ واحدة، ويجوز الفّصْل بين (أنْ) المصْدريَّة ومدخولها بـ: (لاَ) النَّافيَّة هذا سائغ.
ولذلك نصب: ((وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ)) [المائدة:71] نفس الموضع في النَّصْب فصل بين (أنْ) المصْدريَّة ومدخولها.
إذاً: قرئ بالوجهين: ((وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) [المائدة:71] قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكِسَائي برفع (تَكُونُ) والباقون بالنَّصب، والنَّصب أرجح عند عدم الفصل بينها وبين الفعل، ولهذا اتفقوا في قوله: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا)) [العنكبوت:2].
(فَهْوَ مُطَّرِدْ) يعني: الرَّفع أو جواز الوجهين، (مُطَّرِدٌ) يعني: مَقيسٌ في ما ورد في لسان العرب.
هنا قال: " وأشار بقوله: (لاَ بَعْدَ عِلْمٍ) إلى أنَّه إن وقعت (أنْ) بعد عِلْمٍ ونحوه مِمَّا يدلُّ على اليقين وجب رفع الفعل بعدها، فتكون حينئذٍ مُخفَّفَة من الثقيلة " ومنه الآية التي ذكرناها: ((عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)) [المزمل:20] و: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ)) [طه:89] نحو: عَلِمْت أن يَقوم، ومنه قول الشَّاعر:


عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُوْنَ فَجَادُوا ... قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوا بِأَعْظَمِ سُؤْلِ

قال: (عَلِمُوا أَنْ يُؤَمَّلُوْنَ) أبقى (يُؤَمَّلُوْنَ) ثبوت النون هنا، و (أنْ) هذه مُخفَّفة من الثقيلة لأنها سبقت بِعلْمٍ وهو نَصٌّ في العِلْم، والتَّقدير هنا: أنْه يقوموا، فخُفِّفَت (أنَّ) وحذف اسْمها وبقي خبرها، لكن الظَّاهِر في مثل هذا التَّركيب ألا يُقدَّر الضمير مع المُثقَّلة، وهذا في ظنَِي أنَّه ليس بصواب، لا تُقدِّر مع المثَقَّلة (أنَّه سيكون) لا، (أنْه) بالتَّخفِيف، لأنه لا يكون الضَّميِر اسم (أنْ) إلا بعد الحذف .. بعد التَّخْفِيف، حينئذٍ نقول: (وَإِنْ تُخَفَّفْ أَنَّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنّ) نحكم على الضمير بكونه ضمير الشأن بعد الحذف، أمَّا نقول: أنَّه، هذا الأصل، فخُفِّفَت وحذف اسْمها؟! لا، ليس الأمر كذلك، بل خُفِّفَت فتَعيَّن أن يكون اسْمها ضمير الشأن ولا يذكر معه، هذا الأصل.
والتقدير هنا تقدير لِمَا هو واجب الحذف، فالأصل أنَّه ما يُلفظ، لكن من باب التَّعليم فقط: أنْه سيقوم .. أنْه سيكون، فتقدير الاسم مع (أنَّ) المثَقَّلَة هذا الظَّاهر أنَّه خطأ ليس بصواب: أنَّه سَيَقوم .. أنَّه يقوم، فخُفِّفَت (أنَّ) وحذف اسْمها، هذا فيه نظر، وبقي خبرها: وهذه غَيْرُ النَّاصِبة للمضارع، لأنَّ هذه ثنائيةٌ لفظاً .. ثلاثيةٌ وضعاً، (ثنائيةٌ لفظاً) يعني: مُخفَّفَة من الثَّقِيلة.
وأمَّا في الوضع فهي ثلاثة أحرف: (أنَّ) هذا الأصل، ثُم خُفِّفَت والتَّخفِيف فرعٌ عن الأصل، والعبرة في الوضع إنما يكون بالأصل لا بالفرع، وتلك ثنائيةٌ لفظاً ووضعاً، ما هي تلك؟ النَّاصبة، (أنْ) المصدريَّة ثنائية، يعني: موضوعة على حرفين في اللفظ وفي الوضع، إذاً: لا خلاف.
وإن وقعت بعد ظنٍ ونحوه مِمَّا يَدلُّ على الرجحان جاز في الفعل بعدها وجهان، ويُشترط لكونها مَصدريَّة - إذا جعلناها مَصدريَّة بعد الرجحان - ويُشترط لكونها مَصدريَّة ناصبةً للمضارع بعد ما يفيد الظن: ألا يُفصل بين (أنْ) والمضارع بِفاصلٍ غير لا، فإن فُصِل بينهما نحو: ظَنَنْت أنْ سيقوم، هنا (أنْ) تَقدَّم عليها ما يفيد الظن، لكن فُصِل بين (أنْ) والمضارع بالسِّين لم تكن مَصدريَّة، يَتَعيَّن أن تكون مُخفَّفة من الثَّقِيلة.
إذاً: ليس كل (أنْ) تَقدَّم عليها ما يدل على الظَّن فهي جائزة الوجهين، بل لا بُدَّ أن يُقيَّد بألا يَفصِل بين (أنْ) ومدخولها الفعل بغير لا، كـ: السين وسوف. لأنه لا يُفصَل بين المَصدريَّة ومنصوبها، وتَعيَّن حينئذٍ أن تكون مُخفَّفَة من الثقيلة، وأمَّا الفَصْل بـ: (لاَ) فجائزٌ، ولهذا احْتَمل الوجهين قوله: ((وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) [المائدة:71].


لو كان الفاصل (لاَ) هنا مؤثِّراً حينئذٍ ما جاز النَّصب، قرئ بالنَّصْب وارد قطعاً: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ) إذاً: بالنَّصْب و (أنْ) المَصدريَّة هي ناصبة وفصل بينهما بـ: (لاَ) إذاً: دَلَّ على أن (لاَ) هنا لا أثر لها، وأمَّا غير (لاَ) فالأصل فيه المنع، فإذا تَقدَّم ما يَدلُّ على الظَّنِّ، ثُم فُصِل بين (أنْ) والفعل المضارع بغير (لاَ) تَعيَّن أن تكون مُخفَّفَة من الثقيلة: ظَنَنْتُ أنْ سَيقوم، نقول: هنا (أنْ) مُخفَّفَة من الثقيلة.
جاز وجهان:
- أحدهما: النَّصْب وهو الأرجح في القياس، والأكثر في كلامهم، كما أجمعوا عليه في قوله: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا)) [العنكبوت:2] على جَعْل (أنْ) من نواصب المضارع.
- والثاني: الرَّفْع، على جَعْل (أنْ) مُخفَّفَة من الثقيلة: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونُ) فتقول: ظَنَنْت أنْ يقومَ، وأن يَقومُ، والتقدير مع الرَّفْع: ظَنَنْت أنْه يقومُ، فخُفِّفَت (أنَّ) وحذف اسْمها، وبقي خبرها وهو الفعل وفاعله، ابن عقيل هنا يُقدِّر: أنَّه، بالتَّشْدِيد مع الضمير، وهذا فيه نظر، لأن ضمير الشأن إنما كان اسْماً لـ: (أنْ) بعد التَّخفِيف، لا نقول أصله: أنَّه سيقوم، ثُم حُذِفَت: أنَّه يقوم، ثُم خُفِّفَت ثُم حُذِفَ، هذا ليس كذلك.
ولذلك ظاهر النَّظم -ابن مالك-: (وَإِنْ تُخَفَّفْ أَنَّ فَاسْمُهَا اسْتَكَنّ) (اسْتَكَنّ) يعني: حُذِف وجوباً، وهذا ما يحذف مع (أنَّ) المثَقَّلة وإنما يحذف مع (أنْ) المخفَّفَة، وإذا كان كذلك متى يكون ضمير الشأن اسْماً لـ: (أنَّ)؟ نقول: المُخَفَّفة لا المُثَقَّلة، فكيف نُقدِّره: أنَّه يقوم؟! هذا مَحلُّ نظر، ويُرجع للخضري ماذا قال في هذا المَحلْ.
إذاً: يَجوز فيه الوجهان، هذه (أنْ) إذا كانت مُخفَّفةً من الثَّقيلة، و (أنْ) المراد بها المَصدريَّة.
بقي ماذا من أنواع (أنْ)؟ المُفسِّرة والزائدة، ولذلك يُقيِّدُون (أنْ) المَصدريَّة احترازاً عن الزائدة والمُفسِّرة، وهذه باتفاق: أنَّها لا تنصب الفعل المضارع، (أنْ) المُفسِّرة و (أنْ) الزائدة.
فالمُفسِّرة، أي: المُتعلِّق فِعلٍ قبلها، يعني: يأتي قبلها معمول، وهذا المعمول مُتعلِّق بالفعل، فتأتي (أنْ) مُوضِّحَة وكاشفة ومبيِّنَة ومُفسِّرة لِمَا وقع من إبهامٍ فيما قبلها، وهو معمول عاملٍ سابق.
قال الرَّضي: " و (أنْ) لا تُفسر إلا مفعولاً مُقدّراً: كَتَبْت إليه (كَتَبْت) هذا يَحتمل أشياء كثيرة: كَتَبْت ماذا؟ كَتَبْت إليه أنْ قُم، إذاً: (أنْ قُم) هنا مُفسِّرة، وضَّحَت وفَسَّرت ماذا كتب إليه، كَتَبْت إليه أنْ قُم، إذاً: (أنْ) هذه مُفسِّرة، أي: كتبت إليه شيئاً هو قُم.


أو ظاهراً نحو: ((إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ)) [طه: 38 - 39] ما هو الذي أوحي؟ ((إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى)) [طه:38] الذي يوحى، أو إيِحاءاً، جعلنها مَصدريَّة أو اسم موصول، ما الذي أوحي؟ ((أَنِ اقْذِفِيهِ)) [طه:39] إذاً: جاءت (أنْ) هنا مُفسِّرة، واضح أنَّ الذي أوحي هذا مُبهم، ما هو الذي أوحي؟ ((أَنِ اقْذِفِيهِ)) [طه:39] إذاً: (أنْ) هذه مُفسِّرة، ولذلك بعدها: (اقْذِفِيهِ) .. (قُم) ليس فعل مضارع.
((وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ)) [الصافات:104] (يَا إِبْرَاهِيمُ) قلنا: في الأصل هذا مفعول به، إذاً: هو مُقدَّر، وضابطها: هي المسبوقة بِجملةٍ فيها معنى القول دون حروفه، ولذلك لا بُدَّ من تَحقُّق ثلاثة شروط من أجل الحكم على أنَّها مُفسِّرة:
- أولاً: أن تسبقها جُملةٌ دَالةٌ على معنى القول، وليست مُشتملةً على حروفه ولا مؤولة به، يعني: ما يَدلُّ على حَدَثٍ ولم يكن ذلك الحَدَث القول أو ما يؤول إلى القول، فإن كانت القول أو ما يؤول إلى القول فالأكثر على أنَّه لَحنٌ في لسان العرب، يعني لا يُقال: قلت له أنْ قُم، هذا غلط ليس بصحيح، لماذا؟ لأنَّ (أنْ) المُفسِّرة لا تُفسِّر القول ولا ما يؤوَّل بالقول، ولذلك يُقال: بأنَّه خطأ .. أكثر النُّحاة على أنَّ هذا التركيب غلط.
فلو جيء بِجملة مشتملة على صريح القول لم تحتج إلى تفسير.
وأنْ تتأخر عنها جُملة، يعني: ما بعدها: ((أَنِ اقْذِفِيهِ)) [طه:39] (اقْذِفِيهِ) جُملة .. (قُم) جُملة .. (نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) قلنا: (يَا إِبْرَاهِيمُ) هذا جُملة، إذاً: لا بُدَّ أن يكون ما بعدها جُملة، فلو كان مُفرداً قالوا: لا يَصِّح أن يؤتى بـ: (أنْ) وإنما يؤتى بـ: (أيْ) المُفسِّرة، كما سبق أنَّ: (أيْ) تكون مُفسِّرة في المفردات، فتقول: اشْتريت عَسْجَداً، أي: ذهباً، هنا (أيْ) جاءت مُفسِّرة لمفرد ووقع بعدها مفرد، (ذَهباً) ليس بِجملة، وشرط (أنْ) المُفسِّرة أن يقع بعدها جملة، وهنا لم يقع بعدها جملة.
إذاً: هل يَصِّح أن يُقال: اشتريت عَسْجداً أنْ ذَهباً؟! نقول: لا يَصِّح، لماذا؟ لأن (أنْ) لا يُفسَّر بها المفردات وإنما يُفَسَّر بها الجُمل، وأمَّا: اشتريت عَسْجداً أنْ ذَهباً، هذا غلط ليس بصحيح، إمَّا أنَّك تَحذفها: اشتريت عَسْجداً ذَهباً فصحيح، على أن يكون (ذَهباً) عطف بيان، أو بدل مَمَّا سبق، وأمَّا إذا أردت أن تأتي بِمفَسِّر حينئذٍ لا بُدَّ أن يكون (أنْ).


ولذلك الشُّراح الغالب أنهم إذا شَرحُوا بالمعنى يقول: (يعني) ولا يأتي بـ: (أيْ) إلا إذا أراد أن يُفَسِّر مفرداً واحداً، ولذلك يقال: حكا، أو أتى بالعناية للإشارة إلى المعنى .. معنى التَّركيب، في الشَّرح إذا شرح (الألفية) أو نحوها يقول: (أيْ) وأحياناً يقول: (يعني) متى يقول (يعني)؟ إذا أراد أن يَشْرَح مُركباً .. تركيب، يعني (بيت) يقول: يعني كذا وكذا وكذا إلى آخره، وإذا أراد أن يَشْرح مُفرداً قال: (أيْ)، ولكن هذا أشْبَه ما يكون باصطلاحٍ خاص عندهم في الشُّروح، يعني: ليس على إطلاقه أن يكون موافقاً للسان العرب لا، ولذلك قد يُبدِّلون، يأتي بـ: (يعني) في المفرد، ويأتي بـ: (أيْ) في المفردات، وسبق أنَّ (أيْ) في الجمل، و (أيْ) إنما يُفسَّر بها المفردات بخلاف (أنْ).
إذاً: وأن تتأخر عنها جُملة، أمَّا المفرد فيُفسَّر بـ: (أيْ) نحو: اشتريت عَسْجداً أي: ذهباً.
- الثالث: ألا يدخل عليها حرف جَر لفظاً أو تَقديراً، لماذا؟ لأنها لو دخل عليها حرف جر لفظاً أو تقديراً حينئذٍ صارت مَصدريَّة، وليست بِمُفسِّرة: أشَرْت إليه بأنْ قُم، يعني: بالقيام، فـ: (أنْ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بالباء: أشَرْت إليه أنْ قُم، نَوَيْت الباء .. حذفتها، حينئذٍ نقول: (أنْ) هذه مَصدريَّة، يعني: مؤوَّلة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالحرف.
ألا يدخل عليها حرف جَر لفظاً أو تَقديراً: كَتَبْتُ إليه بأنْ قُم، يعني: بالقيام، أو: كَتَبْتُ إليه أنْ قُم، ونَوَيْتَ الباء، كانت مَصدريَّة لا مُفسِّرة.
إذاً: ضابط المُفسِّرة: هي المسبوقة بِجملةٍ فيها معنى القول دون حروفه، وأن يَتأخَّرْ عنها جُملة ولم تقترن بِجار، كما في قوله تعالى: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المؤمنون:27] الوحي فيه معنى القول دون حروفه: ((أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ)) [المؤمنون:27] (اصْنَعِ) هذه جملة .. فُلْكَ، فعل وفاعل ومفعول به، و (أنْ) هذه مُفسِّرة، ولم تسبق بحرف جر، وجاء بعدها جملة.
وأمَّا الزائدة فهي الواقعة بعد لَمَّا، لها ثلاثة مواضع تحكم عليها بأنَّها زائدة:
- إذا وقعت بعد (لَمَّا): ((فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ)) [يوسف:96] (فَلَمَّا جَاءَ الْبَشِيرُ) إذاً: (أنْ) هذه زائدة.
- والواقعة بين الكاف ومَجرورها: (كَأَنْ ظَبْيَةٍ تَعْطُو) الأصل أنَّه لا يُفْصَل بين الجار والمجرور، لكن في (أنْ) التي هي الزائدة يَجوز في مواضع، (كَأَنْ ظَبْيَةٍ تَعْطُو إِلى وَارِقِ السَّلَمْ) في رواية الجَر، (كَأَنْ ظَبْيَةٍ .. كَأَنْ ظَبْيَةٌ .. كَأَنْ ظَبْيَةً) ثلاث رِوايات (كَأَنْ ظَبْيَةٍ) بالجَر، نقول: الكاف حرف جر، و (ظَبْيَةٍ) اسم مجرور بالكاف، وجَرُّه كسرة ظاهرة على آخره، و (أَنْ) هذه زائدة، لأنَّها وقعت بين الجار والمجرور.
- الثالث: تَقَع بين القَسَم و (لوْ) كقوله:
فأُقْسِمُ أَنْ لَو الْتَقَيْنَا وأَنْتُمُ ... لكانَ لكمْ يَوْمٌ من الشَّرِّ مُظْلِمُ

(فأُقْسِمُ أَنْ لَو الْتَقَيْنَا) وقعت (أُقْسِمُ) ثُم (لَوْ) ووقعت بينهما (أنْ)، إذاً: (أنْ) هنا زائدة لوقوعها بين القسم و (لَو).


إذاً: شرط (أنْ) تكون مَصدريَّة: ألا تكون مُفسِّرة، ولا زائدة، ولا مُخفَّفَة من الثَّقيلة.
حينئذٍ نقول: (أنْ) على أربعة أقسام، وهي: مصدريَّة .. زائدة .. مُفسِّرة .. مُخفَّفَة من الثَّقِيلة.
ومِمَّا طرحناه يُعْلَم الفرق بينها، وأحكامها في الجملة.
قال رحمه الله:
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلاً عَلَى ... مَا أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلاَ

(وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ) الأصل في (أَنْ) أن تكون مَصدريَّة ناصبة .. تنصب، هذا الأصل فيها، يعني: التي لم تُسْبَق بِعلْمٍ ولا ظَنَّ .. السابقة إذا تَعيَّن أنَّها مَصدريَّة، ليس المراد أنَّه إذا كانت مُحتَملة للغير لا، المراد: إذا تَعيَّن أنَّها مَصدريَّة، وذلك فيما إذا لم يسبقها عِلْمٌ أو ظَنٌّ بعض العرب أهملها فلم يَنْصِب بِها، لماذا؟ قياساً على (مَا) المصْدريَّة، و (مَا) المَصدريَّة سبق بيانها في الموصولات، وأنَّها تؤوَّل مع ما بعدها بمصدر.
(مَا) المَصْدريَّة لا تعمل .. لا تَنْصِب، كلٌ منهما مَصْدرِي يُؤوَّل مع ما بعده بمصدر، حينئذٍ أهملت (مَا) المَصدريَّة، قياساً عليها أهملوا (أنْ) المصدريَّة.
(وَبَعْضُهُمْ) أي: بعض العَرَبْ، (أَهْمَلَ أَنْ) أهملها يعني: عن العمل لم يَنْصِب بها، (أَهْمَلَ أَنْ) (أَهْمَلَ) فعل ماضي، و (وَبَعْضُهُمْ) هذا مبتدأ، (أَهْمَلَ) فعل ماضي، والفاعل ضمير مستتر يعود على المبتدأ (بَعْض) و (أَنْ) مفعولٌ به قُصِدَ لفظه، (حَمْلاً) هذا حال من فاعل (أَهْمَلَ) أهملها لماذا؟ (حَمْلاً) يعني: حاملاً لها (عَلَى مَا) المَصدريَّة (أُخْتِهَا) هذا بدل من (مَا).
(حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلاَ) واجباً، وذلك إذا لم يَتقدَّمَها عِلمٌ أو ظَن، لأنها مثلها، (مَا) المَصدريَّة مثل (أنْ) المَصدريَّة، فما دام أنَّه أُعْمِلَت (أنْ) المَصدريَّة إذا لم يَتقدَّمها عِلمٌ ولا ظن، فـ: (مَا أُخْتِهَا) كاسْمها .. أختها، الأصل أنَّها تَنْصِب إذا يَتقدَّم عليها ظنٌ ولا عِلْم، لكن أهْملوها.
حينئذٍ نقول: هذا تَعليلٌ فيه إشكال:
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلاً عَلَى ... مَا أُخْتِهَا. . . . . . . . . . . .

(حَمْلاً عَلَى) أي: بالحمل على (مَا) الحمل المراد به القياس، ولذلك تسمَّى: الحمليات هناك عند المناطقة، (حَمْلاً) أي: بالحمل (عَلَى مَا) بِجامع أنَّ كلاً منهما حرفٌ مَصدريٌّ ثُنَائي، وبعضهم أعْمَلَ (مَا) المَصدريَّة حملاً على (أنْ) المَصدريَّة، العكس يعني.
(مَا) الأصل فيها عدم العمل، ولذلك الفصيح الشائع في لسان العرب: أنَّها على تعمل، (أنْ) المَصدريَّة الأصل فيها أنَّها تعمل، بعضهم أهمل (أنْ) حملاً على (مَا) وهذا قليل، وبعضهم عكس: حَمَلَ (مَا) على (أنْ) المَصدريَّة فأعملها: كما تكونوا يولَّى عليكم، هكذا أوردوه مثالاً، إذ لا يَصِّح حديثاً، كما تكونوا .. تكونون، قيل: (مَا) مَصدريَّة و (تكونوا) هذه فعل مضارع منصوب ونصبه حذف النُّون، والعامل فيهما (مَا) المَصدريَّة.
إذاً: لماذا أُعمِلَت؟ حملاً على (أنْ) المَصدريَّة.


(وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلاً عَلَى مَا) المَصدريَّة أُخْتِهَا، (حَيْثُ) هذا مُتعلِّق بـ: (أَهْمَلَ) أهمل (أنْ) (حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلاَ) متى تَسَتحِق العمل؟ إذا لم يسبقها علمٌ ولا ظن، ولذلك قلنا: البيت هنا يعني به: (أنْ) المَصدريَّة المتَعيِّن فيها العمل، وأمَّا التي يجوز فيها الوجهان فلا، (حَيْثُ) هذا مُتعلِّق بقوله: (أَهْمَلَ) انظر التَّعلُّق هنا يَختلف به المعنى.
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أنْ حيث استَحَقَّت عملاً واجباً، وذلك إذا لم يَتقدَّمها علمٌ أو ظن، هذا مذهب البصريين: أنَّ (أنْ) قد لا تعمل حملاً على (مَا) وأمَّا الكوفيون فهي عندهم مُخفَّفة من الثَّقيلة، يعني: إذا جاء مثل .. هو أوردوا المثال قوله: ((لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)) [البقرة:233] (يُتِمَّ) بقراءة ابن مُحيصن: (أنْ يُتِمُّ) إذاً: على مذهب البصريين (أنْ) مهملة حملاً على (مَا) وعلى مذهب الكوفيين لا يُجوز إهمال (أنْ)، وإنما تُجعل مُخفَّفَة من الثَّقيلة: أنْه يُتِمُّ، حينئذٍ وقع في شذوذ وهو الفاصل، لم يفْصِل بين (أنْ) والفعل، والأصل أنَّه لا بُدَّ من الفاصل .. يتَعيَّن.
ولذلك قنا: إذا جعلنا (أنْ) مُخفَّفَة من الثقيلة وجب فيها أمران: الرَّفْع والفَاصِل لا بُدَّ منهما، إلا على القول بأنَّه .. ؟؟؟ فالأحسن الفصل، ليس بواجب وإنما هو مُستَحْسَن، وعليه لا شذوذ.
وعلى هذا ورد قول الشَّاعر:
أَنْ تَقْرَآنِ على أَسْماءَ وَيْحَكُما ... مِنِّي السَّلامَ وأَنْ لاَ تُشْعِرَا أَحَدَا

لا تُخبِر أحدا .. (أَنْ تَقْرَآنِ على أَسْماءَ وَيْحَكُما) (تَقْرَآنِ) مُثنَّى و (أنْ) هذه مَصدريَّة هذا الأصل، لأنه لم يسبقها عِلمٌ ولا ظن، فتَعيَّن أنَّها مَصدريَّة، قد يقول قائل: هي مُخفَّفَة من الثَّقيلة، نقول: المُخفَّفَة الثَّقيلة ما تأتي في أول الكلام، لا بُدَّ أن يسبقها شيء، ثُم ضابطها إذا أردنا أنْ نَجْعل الأمر مُحتملاً بين اثنين رفع ونصب، حينئذٍ لا بُدَّ أن يَتقدَّمها ظنٌ، هنا لم يَتقدَّم عليها الظن، حينئذٍ نقول: (أنْ) هنا مَصدريَّة على مذهب البصريين.
و (تَقْرَآنِ) هذا مرفوع ورفعه ثبوت النون، و (أنْ) هنا مُهْمَلة لم تعمل النَّصْب.
والإشكال هنا أنَّه أعملها في آخر البيت: (وَأَنْ لاَ تُشْعِرا أَحَدَا) أعْمَلَ (أنْ) في الأخير وأهملها في الأول، والشاعر إذا جمع بين لغتين فإمَّا البيت مطعونٌ فيه، وإمَّا الحكم بالشذوذ، ولذلك مذهب الكوفيين أقرب هنا: أن يُقال لا بُدَّ من التأويل أو يُحكم بكونه شاذَّاً.
إذاً: مذهب البصريين: أنَّه يجوز إهمال (أنْ) المَصدريَّة حَمْلاً عَلَى مَا، وظاهر كلام النَّاظِم أنَّه مقيس، يعني: ليس الحكم في المسموع فحسب: (أنْ يُتِمُّ) و (أَنْ تَقْرَآنِ) ما سُمِع نوجهه بأنَّ: (أنْ) مهملة هنا ولم تعمل النَّصب لا، قال:
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلاً عَلَى ... مَا أُخْتِهَا حَيْثُ اسْتَحَقَّتْ عَمَلاَ

ولم يذكره إلا من باب التَّقعِيد والتَّأصيل، ولذلك نقول: ظاهر النَّظم هنا: أنَّ إهمالها مقيس.


و (أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْماءَ) خَرَّجه الكوفيون على أنَّها مُخفَّفَة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، والجملة (تَقْرَآنِ) خَبَر، وشذَّ لتركه الفَصْل، على القول بوجوبه.
إذاً:
وَبَعْضُهُمْ أَهْمَلَ أَنْ حَمْلاً عَلَى ... مَا أُخْتِهَا. . . . . . . . . . . . .

هذا على مذهب البصريين، وظاهر كلام النَّاظِم أنَّه مقيس، واستدلوا له بقوله: (أَنْ تَقْرَآنِ) .. (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ) ..
أنْ تَهْبِطِينَ بِلادَ قَوْمٍ ... يَرْتَعُونَ مِنَ الطّلاَحِ

ومذهب الكوفيين أقرب والله أعلم.
قال الشَّارِح هنا: " يعني: أنَّ من العرب من لم يُعمِل (أنْ) النَّاصِبة للفعل المضارع، وإن وقعت بعد ما لا يدلُّ على يَقينٍ أو رجحان، فيرفع الفعل بعدها حملاً على أختها (مَا) المَصدريَّة لاشتراكهما في أنَّهما يُقدَّرَان بالمصدر، فتقول: أريد أن تقوموا، كما تقول: عجبت مِمَّا تفعلوا، و (مَا) المَصدريَّة لا عمل لها ".
وَنَصَبُوا بِإِذَنِ الْمُسْتَقْبَلاَ ... إِنْ صُدِّرَتْ وَالْفِعْلُ بَعْدُ مُوصَلاَ
أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ وَانْصِبْ وَارْفَعَا ... إِذَا إِذَنْ مِنْ بَعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا

(وَنَصَبُوا) أي: أكثر العرب - هذا على الوجوب - وأكثْر العرب يلتزم إعمال (إِذَنْ) عند استيفاء الشروط المذكورة سيأتي، والقليل منهم يلتزم إهمالها عند ذلك، أي: عند استيفاء الشروط.
(وَنَصَبُوا) أي: أكثر العرب، وهو على الوجوب، (بِإِذَنِ الْمُسْتَقْبَلاَ) (بِإِذَنِ) إذاً: لا بأن يُضْمَر بعدها، فـ: (إِذَنْ) هي النَّاصبة بنفسها، كما هو الشأن في (لَنْ) و (كَيْ) إذا نَصَبَت بنفسها، و (أنْ) المَصدريَّة، كذلك (إِذَنْ)، ولذلك نقول: النواصب عند البصريين أربعة: أنْ ولَنْ وإذَن وكَيْ، هذه أربعة، يعني: المراد أنَّها تنصب بنفسها.
وأمَّا ما ينصب بـ: (أَنْ) مُضْمَرة فهذا ليس هو بناصبٍ في نفسه، وإنَّما هو مَظِنَّةٌ لإضمار (أنْ) جوازاً أو وجوباً بعدها، فإذا قيل: اللام .. لام التَّعليل ناصبة، ليس المراد أنَّ لام التعليل هي تنصب بنفسها على مذهب البصريين، وإنما لام التَّعليل مِمَّا يَجوز أن تدخل على الفعل المضارع في الظَّاهر .. في اللفظ، وينصب الفعل بـ: (أنْ) مضمرةً بعد اللام.
حينئذٍ ليس كل حرفٍ تدخل أو تُضْمِر (أنْ) لا، المراد ثَمَّ مواضع محصورة إذا أردت إضمار (أنْ) فتضمرها بعد هذه الحروف، لأنَّها في الأصل إمَّا حرف جر، وإمَّا حرف عطف، حرف جر: كلام التَّعليل: لِتبَيِّن له .. لأن تُبيِّنَ، فاللام ليست هي العامل كما سيأتي.
إذاً: (بِإِذَنِ الْمُسْتَقْبَلاَ) (إِذَنْ) أصلها ساكن، لا بـ: (أنْ) مضمرة بعدها، ثُم ذَكَر الشُّروط ليست مُطلقاً، وإنَّما إذا كان الفعل بعدها مُستقبلاً وصُدِّرَت والفعل موصلاً أو قبله اليمين، يعني: يُشتَرط أن يكون الفعل مُتَّصلاً بها ليس منفصلاً.


اختلف في (إِذَنْ) هل هي حرفٌ أم اسمٌ؟ والصَّحِيح الذي عليه الجمهور أنَّها حرفٌ، وذهب بعض الكوفيين إلى أنَّها اسمٌ -ليس منسوباً لجميعهم- والأصل على كلامهم في: إذَنْ أكرمَك إذا جِئتني أكرمَك، ثُم حذفت الجملة وعُوِّضَ عنها التنوين وأضمرت (أنْ)، إذا كانت اسم حينئذٍ لا تكون عَاملةٌ النَّصْب، وإنما يكون النَّصب بعدها بـ: (أنْ) مُضمرةً: إذَنْ أكرمَك، (إذن) التنوين هنا عُوِّض عن الجملة، إذ جئتني أكرمك، فحذفت جئتني، فقيل: إذَنْ أكرمك، فالنصب حينئذٍ لا يكون بـ: (إِذَنْ) وهذا تَكَلُّف، والصواب: أنَّها حرف، وأنَّها ناصبةٌ بنفسها، لأن هذا كله ليس عليه دليل.
إذاً: الصواب أنَّها حرف، وعلى أنَّها حرف هل هي بسيطة أو مُركَّبة؟ الصَّحيح أنًَّها بسيطة .. دائماً أرجح أنا أنَّها بسيطة، إلا إذا ورد في لسان العرب في الشِّعْر مثلاً ما يدلُّ على أصلها أنَّها مُركَّبة حينئذٍ نُسَلِّم، وإلا كل خلافٍ فرجح مباشرةً أنَّها بسيطة.
وعلى أنَّها حرفٌ فالصحيح أنَّها بسيطة لا مُركَّبة مِن: (إذْ وأنْ) نُقِلَت حركة الهمزة إلى الذَّال ثُم حذفت. أبو حيَّان يأتي ببعض المسائل لسيبويه يَردُّه ويقول: هذا مِمَّا يَحتاج إلى وحْيٍ يكشف عنه، يعني: هذا قول في الذِّهْن فقط، لماذا؟ لأنه إذا قيل: أصلها: (إذْ أنْ) من أين هذا؟ من قال لك أنَّ العَرَبي أصلاً نَطَق بهذه الكلمة أو الواضع -وخاصةً إذا قلنا: الواضع هو الله عز وجل- أنَّه وضعت أولاً: (إذْ أنْ) ثُم حذفت الهمزة تَخفِيفاً، ثُم إلى آخره، ما الدَّليل؟
والغريب أنَّه يقول مثل هذا الكلام، وأكثر النَّحو على أنَّه يحتاج إلى وحي، أكثر التَّعليل يحتاج إلى وحيٍ يَكشف عنه، ليست هذه المسألة، لكن بعض النَّاس إذا رد مسألة هكذا قد يأتي بقاعدة صحيحة، وقد يقع هو فيما يُضاد هذه القاعدة.
إذاً: الصواب أنَّها بسيطة لا مُركَّبة من (إذْ وأنْ) فنقلت حركة الهمزة إلى الذَّال ثُم حذفت، وهذا قول الخليل، وعلى أنَّها بسيطة فالصحيح أنَّها النَّاصبة بنفسها لا (أنْ) مُضمرةً بعدها، والقائل بالتركيب يَجعل النَّصب بـ: (أنْ) المُشتملة عليها (إِذَنْ) لأن أصلها: (إذْ أنْ) (أنْ) هي النَّاصِبة، فحُذِفَت الهمزة فقيل: (إِذَنْ) (إذْ أنْ) حذفت الهمزة وألقيت حركتها إلى الذَّال فقيل: (إِذَنْ).
إذن أكرمك، أين النَّاصب؟ (أنْ) الملفوظ بها، أين الملفوظ بها؟ النون فقط، والهمزة حذفت لإبقاء حركتها على ما قبل، وكذلك على مذهب بعض الكوفيين: أنَّها اسمٌ لا تكون ناصبةً بنفسها، وإنما تكون بـ: (أنْ) مضمرة وجوباً، إذاً: الصواب أنَّها ناصبةٌ بنفسها، لأن (إِذَنْ) لا تضمر إلا بعد عاطفٍ أو جار، يعني: (أنْ) المَصدريَّة لا تضمر كما سيأتي إلا بعد اثنين: إمَّا حرف عطف كـ: حتَّى، وأو، أو حرف جر، كـ: حتَّى التي تكون جارَّة، وبعد اللام مثلاً، وكل المواضع إمَّا حرف عطف وإمَّا جار، يعني: إمَّا أن يكون حرف جر كاللام، أو حرف عطف كالفاء .. فاء السَّببيَّة .. واو المعيَّة .. وأو، وحتى، في بعض المواضع.
إذاً: (أنْ) لا تكون مضمرةً إلا بعد عاطف أو جار.


ومذهب الخليل أنَّ النَّصب بـ: (أنْ) مضمرةً بعدها، لعدم اختصاصها بدخولها على الجملة الاسمية، يعني: كونها غير مُختصَّة، حينئذٍ لا تكون عاملةً النَّصب، نَحو: إذَنْ عبد الله يأتيك.
على كلٍ: الصواب أنَّها عَمِلَت النَّصب بنفسها لا بـ: (أنْ) مضمرةً بعدها، وأنَّها حرفٌ، وأنَّها بسيطةٌ، هذا الصحيح فيها.
أمَّا معناها: فهي عِند سيبويه الجواب والجزاء يعني: تدلُّ على الجواب والجزاء، الجواب يعني: لا تقع ابتداءً: آتيك .. سأزورك إذن، لا بُدَّ أن يكون قبلها كلام، فتكون جواباً، والجزاء يعني: تعليق شيءٍ على شيء، آتيك .. سأزورك، نقول: إذن أكرمك.
إذاً: كونها مسبوقة بكلامٍ: سأزورك، ووقعت في الجواب، وكون الإكرام مرتَّب على الزيارة هذا معنى الجزاء، لأن الجزاء تعليق شيءٍ على شيء آخر، إذاً: معناها الجواب والجزاء، أي: ربط الجواب بالجزاء.
والجواب أي: كلام آخر ملفوظ أو مُقدَّر، سواء وَقَعَت في الصدر أو الحشو أو الآخر، يعني: مُطلقاً تكون للجواب والجزاء.
والجزاء أي: المجازاة بمضمون كلامٍ آخر، يعني: ترتيب شيءٍ على شيءٍ آخر.
قال الشَّلُوبِين: " في كل موضعٍ " يعني: تكون للجواب والجزاء في كل تركيب البَتَّة، لا تنفك عن هذا المعنى مُطلقاً، وقال الفارسي في الأكثر، وقد تَتَمَحَّض للجواب، يعني: قد لا يُراد بها الجزاء، مَحلُّ الخِلاف في الجزاء، أمَّا وقوعها جواباً، فهذا مَحلُّ وفاق.
مذهب سيبويه أنَّ (إِذَنْ) تكون بِمعنيين: جوابٌ وجزاء، الشَّلُوبِين يقول: في كل موضع تكون للشيئين الاثنين، وقال الفارسي: لا، قد تكون للجواب .. تَتَمحَّض للجواب، ولا يكون فيه جزاء، بدليل أنَّه يُقال: أحبك، أحبك هذا كلام، فتقول: إذن أظنُّك صادقاً، جواب؟ نعم جواب، جزاء؟ ليس بِجزاء.
إذاً: قد تَتَمحَّض للجواب ولا يكون فيه جزاءٌ البَتَّة، إذ لا مجازاة هنا، لأن الشَّرط والجزاء إمَّا في الاستقبال أو في الماضي، ولا مدخل للجزاء في الحال: إذن أظنُّك صادقاً، يعني: الآن وقت كلامك هذا ليس بدعوى .. يدعي ممكن يُحبك وهو يكنُّه عليك، إذن أظنُّك صادقاً، إذاً: في هذا الحال أنت صادقٌ .. في هذا الزمان، والشرط إنما يكون في المستقبل أو في الماضي، ولأن ظن الصدق لا يصلُح جزاءً للمحبة، هذا معناها.
إذاً: الصواب مذهب الفارسي: أنَّها قد تَتَمحَّض للجواب ولا يكون ثَمَّ جزاء إلا أنَّ الأكثر أن تكون للجواب والجزاء، واختلف في لفظها عند الوقف، الصحيح أن نونها تبدل ألفاً، لو وقف عليها: إذا، ولا تقف عليها بالنون، تشبيهاً لها بتنوين المنصوب: رأيت زيدا .. رأيت زيداً، تقف عليها بالألف، لو وقفت على: (إِذَنْ) تقف عليها بالألف.
وهذا في غير القرآن، أمَّا فيه فيوقف عليها وتكتب بالألف إجماعاً، لأن هناك شيء خاص .. المصحف العثماني، أمَّا في غيره فلا، وقيل: يوقف بالنون لأنَّها كنون (لنْ) و (أنْ)، (إِذَنْ) .. إذا.


إذاً: قولان: تقف عليها بالألف تشبيهاً لها بالتنوين في حالة النَّصب (إذا) وقيل: تقف عليها بالنون: (إِذَنْ)، وقيل: ينبغي أن يكون الخلاف في الوقف عليها مبنياً على الخلاف في حقيقتها، فعلى أنَّها حرف يوقف عليها بالنون، إذا قال: حرف وقف عليها بالنون، وعلى أنَّها اسمٌ منوَّن يوقف عليها بالألف، وينبني على هذا الخلاف خلافٌ في كتابتها، ثَمَّ خلافٌ في اللفظ، وثَمَّ خلافٌ في الكتابة، والجمهور يكتبونها بالألف، وكذا رُسِمَت في المصاحف، والمازِنِي والمُبَرِّد بالنون، وعزاه أبو حيَّان للجمهور، يعني: تكتب بالألف، وقيل: تكتب بالنون.
والأحسن أن يُقال بالتَّفريق، وهو أنَّها إن أُعمِلَت كتبت بالنون، وإن أُهْمِلت كتبت بالألف وهو مذهب الفَرَّاء، وعن الفرَّاء: إن أُعْمِلَت كتبت بالألف، وإلا كتبت بالنون للفرق بينها وبين (إذا) وهذا أضبط وأحسن.
إذاً: المسألة خِلافيَّة، هل تكتبها بالنون أو تكتبها بالألف، نقول: إن أُعمِلَت كتبت بالنون، وإن لم تُعمل كُتِبت بالألف، ولو رُجِّح أنَّها كتبت بالنون مُطلقاً أو بالألف مُطلقاً الأمر فيه سَعَة ليس فيه توقيف.
وحكا سيبويه وعيسى ابنُ عمر: أنَّ من العَرَب من يلغيها مع استيفاء الشُّروط وهي لغةٌ نادرة، ولكنَّها القياس لأنها غير مُختصَّة، وإذا لم تكن مُختصَّة فالقياس أنًّها لا تعمل هذا الأصل فيها، وإنَّما أعملها الأكثرون حملاً على ظَنَّ، لأنها مثلها في جواز تقدُّمِها على الجملة وتأخُّرها عنها، وتوسطها بين جزئيها كما حُملت (مَا) على (ليس) لأنها مثلها في نفي الحال.
إذاً: (وَنَصَبُوا بِإِذَنِ الْمُسْتَقْبَلاَ) قلنا: أكثر العرب، بناءً على أنَّ الأصل إذا أُعْمِلَ الشيء بقي على ما هو عليه، وخاصةً إذا استوفى شروطه، حكا عيسى ابن عمر، وكذلك سيبويه: أنَّ من العرب مع استيفاء الشُّروط .. لأن الخلاف فيما إذا استوفت الشُّروط، إذا انتفى بعض الشُّروط لا إشكال أنَّها لا تعمل، إذا استوفت الشُّروط حينئذٍ فيه لُغيَّة، أنَّها لا تعمل فيجب إهمالها.
إذاً: أكثر العرب يلتزم إعمال (إذَنْ) عند استيفاء الشُّروط، والقليل منهم يلتزم إهمالها عند ذلك.
(وَنَصَبُوا بِإِذَنِ الْمُسْتَقْبَلاَ) يعني: لا بـ: (أنْ) مُضْمَرةً بعدها، (الْمُسْتَقْبَلاَ) الألف هذه للإطلاق، فهم منه أنَّه إذا كان حالاً وجب رفعه، يعني: لا يُنصب الفعل بعدها إلا إذا كان مستقبلاً، فإن كان للحال حينئذٍ وجب رفعه. أنْ يكون الفعل مستقبلاً، فيجب الرَّفع في: إذَنْ تصدق، جواباً لمن قال: أنا أحبك، قال: إذَنْ تصدق، متى تصدق؟ الآن في هذه الدعوى .. الأصل أنَّها دعوى فصَدَّقه، قال: أنا أحبك، قال: إذَنْ تصدق يعني: الآن في كلامك هذا أنت صادق.
إذَنْ تصدق، هذا للحال أو المستقبل؟ للحال، وجب رفعه لتَخلُّف الشَّرط الأول، وهو أن يكون الفعل المنصوب بها مستقبلاً، لأنه حالٌ، ومن شأن النَّاصِب أن يُخلِّص المضارع للاستقبال، النَّواصب كلها الأربعة تُخلِّص الفعل من الحال إلى الاستقبال.


إذاً: اشترطنا هذا الشَّرط: كونه مستقبلاً موافقةً للمعنى، يعني: طلباً لموافقة المعنى للعمل، لأن العمل هو النَّصْب والدخول على الفعل المضارع، إجراءً لها مُجرَى سائر النَّواصِب، وإنَّما لم تعمل النَّواصب في الفعل الحال، لأن له تَحققاً في الوجود، كالأسْماء فلا تعمل فيه عوامل الأفعال، يعني: أنَّ (أنْ) تُخلِّص الفعل المضارع من الحال إلى الاستقبال، فإذا كان كذلك حينئذٍ الحال له تَحقُّق في الوجود .. موجود هذا الأصل، و (أنْ) وأدوات النصب تعمل في شيءٍ لم يوجد بعد: عجبت أن سيقوم، يعني: في المستقبل، مثل السين وسوف.
إذاً: (وَنَصَبُوا بِإِذَنِ الْمُسْتَقْبَلاَ) فُهِمَ منه أنَّه إذا كان حالاً انتفى، (إِنْ صُدِّرَتْ) هذا الشرط الثاني، الشرط الأول: أن يكون مستقبلاً، فإن كان للحال بَطَل عملها، لأنها لم تستوف الشَّرط.
(إِنْ صُدِّرَتْ) يعني: وقعت صَدراً في أول الكلام، فإن وقعت ثانيةً في حَشْو الكلام أو متأخرةً لا تعمل النصبَ، ويجب حينئذٍ رفع الفعل.
فُهم منه: أنَّها إذا لم تُصدَّر، وذلك إذا تَوسَطَت: زيدٌ إذَنْ أكرمُك، قال: سأزورك وهو اسمه زيد .. زيدٌ قال لك: سأزورك، فتقول: زيدٌ، أو: زيدُ إذَنْ أكرمُك، توسطت هنا، حينئذٍ نقول: الفعل يجب أن يكون مرفوعاً بعده لعدم استيفاء الشَّرط.
(إِنْ صُدِّرَتْ) أن تكون مُصدَّرة، أي: في جملتها بحيث لا يسبقها شيءٌ له تَعلُّقٌ بما بعدها، وإنما لم تعمل غير مُصدَّرة لضعفها بعدم تصدرها عن العمل، لأنها تقع جواباً كما قلنا في المعنى، وإذا كانت جواباً حينئذٍ لا بُدَّ أن تكون في أول الكلام، فإذا لم تكن كذلك ضَعُفَت، لأننا إذا اشترطنا الشيء تَخلُّفه يدلُّ على ضعفه، حينئذٍ ضَعُفَت فبطل عملها.
ألا تكون مُصدَّرة، فإن تأخَّرَت نَحو: أكرمُك إذَنْ .. أهمِلت، وكذا إن وقَعَت حْشواً، كقوله: (وأَمْكَنَنِي فِيْها إِذَنْ لاَ أُقِيلُها) نقول: هنا وقعت حَشْواً، حينئذٍ بَطَلَ عملها، (إِنْ صُدِّرَتْ) يعني: وقعت في أول الكلام، فإن وقعت حَشواً أثناء الكلام أو متأخرةً بطل عملها لضعفها.
(وَالْفِعْلُ بَعْدُ مُوصَلاَ) (وَالْفِعْلُ) مبتدأ، (بَعْدُ) هذا مُتعلِّق بِمحذوف خبر، (مُوصَلاَ) حال من الضمير المستتر في الخبر، والفعل كائنٌ بعدها موصلاً، هذا تقدير الكلام، (وَالْفِعْلُ) مبتدأ (كائنٌ) خبرها (بَعْدُ) بعدها، حذف هنا الضمير ونوى معناه: بعدها، فبنيت (بَعْدُ) على الضَمِّ، (مُوصَلاَ) بِها، يعني: مُتَّصلاً بها، لا يفصل بينها وبينه فاصل، لأنها عَمِلَت بالفَرْعيَّة، وإذا عملت بالفرعيَّة حينئذٍ يشترط في معمولها أن يكون مُتَّصلاً بها، إلا ما سُمِع في لسان العرب.
(أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ) يعني: يجوز الفَصْل بينها وبين معمولها، باليمين يعني: بالقَسْم، لأنه سُمِع، وما لم يُسمع لا يقاس على ما سُمِع، لأن القَسَم هذا له معاملة خَاصَّة.


(أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ) (أَوْ) هذا حرف عطف، و (قَبْلَهُ الْيَمِينُ) إمَّا معطوفٌ على (بَعْدُ) و (الْيَمِينُ) فاعل الظَّرْف لاعتماده على المبتدأ، هذا عند المُدَقِّقِين، (قَبْلَهُ الْيَمِينُ) اليمين قبله .. اليمين يكون فاعلاً لأي شيء؟ للظرف (بَعْدُ) وسَبَق أنَّ ابن هشام يرى أنَّ المُحقِّقِين يرون أنَّ الاسم المرفوع بعد الظرف أو الجر والمجرور أن يُعرف فاعلاً بالظَّرْف نفسه، يعني: عندك زيدٌ (زيدٌ) فاعل لـ (عند) في الدار زيدٌ، (زيدٌ) فاعل لقوله: في الدار، لأن العامل .. مُتعلِّق الجار والمجرور والظرف حذف، وفيه ضمير مُستَكِن انتقل إلى الظرف والجار والمجرور.
على كلٍّ: هذا مثله: أو بَعْدُ اليمين، (اليمين) فاعل، والعامل فيه الظرف لاعتماده على المبتدأ، أو مبتدأ مؤخَّر وقَبْلَهُ خبر مُقدَّم، يعني: هذا سهل، (أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ) (الْيَمِينُ) مبتدأ مؤخر و (قَبْلَهُ) مُتعلِّق بمحذوف خبر مُقدَّم، هذا واضح، أمَّا الأول يحتاج.
(أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ) يعني: أن يَفْصِل بينهما اليمين الذي هو القَسَم، لوروده سَمَاعاً:
إِذَنْ وَاللهِ نَرْمِيَهُمْ بِحْربٍ ... تُشِيبُ الطَّفْلَ مِنْ قَبْلِ المَشِيبِ

(إِذَنْ وَاللهِ نَرْمِيَهُمْ) (نَرْمِيَ) فعل مضارع منصوب، والناصب له هنا (إِذَنْ) وفصل بين العامِل (إِذَنْ) والمعمول (نَرْمِيَ) بالقسم، وهو جائزٌ لأنه مسموع.
إذاً: إذا فصل بينها وبينه بالقسم نَصَبْتَ: إذن والله أكرمك، لأن القَسَم لا يُعتد به فاصلاً، لكثرة الفَصْل بين شيئين مُتلازمين كالمتضايفين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . وَالْفِعْلُ بَعْدُ مُوصَلاَ
أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إذاً: لا يستثنى إلا اليمين .. إلا القسم، وما عداه فالأصل لا بُدَّ من اتصال العامل بالمعمول، لأن (إِذَنْ) عملها فرعي، وإذا كان كذلك حينئذٍ تضعف عند عدم استيفاء الشُّروط.
إذاً: ألا يفصل بينها وبين منصوبها فاصلٌ إلا ما استثناه النَّاظِم، وذلك نَحو أن يُقال: أنا آتيك، فتقول: إذن أكرمَك، فلا يُفصَل إلا بالقسم فقط، وأمَّا بغير القسم فهذا نقول: فيه خلاف، وكذا بـ: (لاَ) النَّافيَّة عند بعضهم، يعني: يفصل بين (إِذَنْ) والفعل المضارع بـ (لاَ) النَّافيَّة، لأن القَسَم تأكيدٌ لربط (إِذَنْ) و (لاَ) لم يُعتَدَّ بها فاصلةً في (أنْ)، فكذا في (إِذَنْ). سَبَق أنَّ (أنْ) إذا فَصَل بينها وبين مدخولها (لاَ) قلنا: لا يُعتدُّ بكونه فاصلاً: ((وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ)) [المائدة:71] بالنَّصْب، حينئذٍ (لاَ) هنا وقعت فاصلةً بين العامل والمعمول، هل هو مؤثِّر في عدم الفصل؟ الجواب: لا، إذاً: مِثلُها (إِذَنْ)، لكن قد يُقَال: القياس فيه نظر، ووجهه: أنَّ (أنْ) هذه أمُّ الباب، وسبق أنَّ أمَّ الباب هذه يُتسامَح فيها ما لا يُتسامح مع غيرها، فإذا وقع فَصْلٌ بـ (لاَ) ومعلوم أنَّ النَّفي إنَّما يكون داخلاً في مفهوم الفعل، حينئذٍ قد يُتَسامَح في (أنْ) وأمَّا (إِذَنْ) فهذا فيه نظر.


وأجاز بَعضهم الفَصْل بالنداء والدعاء: إذن يا زيدٌ أكرمك، بالنَّصب مع كونه فاصلاً هنا بين (إِذَنْ) والفعل المضارع، لكنَّه وقع بالدعاء، لكثرته في لسان العرب، والصواب: أنَّه إن وَرَدَ سَماعاً فعلى العين والرأس، وإلا فالأصل عدم القياس، فكذلك الدعاء: إذن غفر الله لك أكرمَك .. سأزورك إذن أكرمَك .. إذن غفر الله لك، هذه جملة خبرية لفظاً، إنشائيةٌ معنىً، دعاءٌ له بالمغفرة.
وابن عصفور أجاز الفصل بالظرف، لأنه يُتوسَّع في المجرورات والظروف ما لا يُتوسَّع في غيرها، وأجاز الكِسَائي وهشام الفصل بِمعمول الفعل، والاختيار حينئذٍ عند الكِسَائي النَّصب، وعند هشام الرَّفع، الصواب أنه يُقال: لا فَصْلَ إلا بِمسموعٍ إن سُمِعَ كالقسم يفصل وإلا فالأصل المنع، لأن العامل يُشْتَرط فيه أن يكون مُتَّصِلاً بِمعموله، وهنا ليس الشأن في الفعل، الفعل أصلٌ في العمل، وأمَّا الحروف فلا، فهي ضعيفة.
إذاً: بهذه الشُّروط الثلاثة حينئذٍ نقول: هل يَجب النَّصب، أو يَجوز؟ الظَّاهر أنَّه يَجب، وأمَّا لغة بعضهم مع استيفاء الشُّروط هذه لغةٌ خَاصَّة، أمَّا من نَصَبَ بها فيجب إذا استوفت الشُّروط أن يُنْصَبَ بها، وأمَّا من ألغاها مع استيفاء الشُّروط أولاً: هي لغة قليلة حكاها سيبويه وعيسى ابن عمر.
وثانياً: هذا في لغته، وسبق بالأمس: أنَّ الاختلاف بين اللغات اختلاف تَنوع، حينئذٍ قد يَجب النَّصب في لغة كذا، ولا يَجب في كذا، ولذلك نقول: البناء والإعراب ضِدَّان، وسبق أنَّ (حذامِ) مبنيةٌ عند الحجازيين، معربة عِند بني تميم .. عند أكثرهم، وهذا تضاد .. تناقض، لو حملناه في لغةٍ واحدة، قلنا: عند الحجازيين مبنية معربة صار تناقضاً، وأمَّا باعتبار لغتين فلا إشكال، إذاً: هي مبنيَّةٌ عند الحجازيين ولا يَجوز أن تُعرب .. إذا كان حجازي يَتكلَّم بلغته فلا يَجوز أن يُعرب (حَذَامِِ) إلا إذا قال: أنا أرجع إلى لغة تميم، وكذلك التميمي.
حينئذٍ نقول: هاتان لغتان في كل لغةٍ يَجب التزام ما هو عليه، فلا يَتكلَّم بلسان الحجازيين فيُعرب (حَذَامِ) ولا يَتكلَّم بلسان التميميين فيبني (حَذَامِ) حينئذٍ نقول: هذا تعارض.
هنا كذلك: إذا اسْتَوْفَت الشُّروط عند من ينصبها وجب النَّصب في لغته ولا يجوز الرَّفْع، ومن لم ينصب بها حينئذٍ لا إشكال استوفت الشُّروط أو لم تَسْتَوفِ الشُّروط، فإذا استوفت الشُّروط هي غير ناصبة، فمن باب أولى إذا لم تَسْتَوف.
. . . . . . . . . وَانْصِبْ وَارْفَعَا ... إِذَا إِذَنْ مِنْ بَعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا

هذا استثناء من قوله: (إِنْ صُدِّرَتْ) إن وقع قبلها الواو أو الفاء، هل تخرجها عن كونها مُصدَّرة أم لا؟ النَّاظِم هنا جَوَّز لَمَّا سبق (إِذَنْ) الواو والفاء .. جَوَّز لك الوجهين، (وَانْصِبْ وَارْفَعَا) وارفعنْ، أكَدَّ لك الرَّفْع بالنون المُخفَّفَة فدل على أنَّه أرجح، دائماً هو إذا قَدَّم فما قَدَّمه هو أرجح، ولكن هنا آخَّرَ الرَّفْع وهو أرجح، لكنَّه عَوَّضَك عن التَقديِم بالتأكيد وقال: (وَانْصِبْ وَارْفَعَاً) إذاً: الثَّاني مؤكَّد والأول مُقدَّم.


إذاً: هل المُقدَّم مُقدَّم؟ لا، نقول: هنا المؤخَّر مُقدَّم بدليل توكيده بالنون الخفيفة، (وَانْصِبْ وَارْفَعَا) إذاً: يَجوز فيه الوجهان، وإنما جاز النَّصْب والرَّفْع إذا تَقدَّمت عليه الواو، لو قال له: سأزورك، تقول له: وإذَنْ أكرمَك، أتى بالواو: فإذاًَ أكرمَك، أتى بالفاء، حينئذٍ يَجوز الوجهان، فإذاً: أكرمُك بالرَّفْع، وإذاً: أكرمَك بالنَّصب .. وإذَن .. فإذَنْ، مع الواو والفاء نقول: يجوز فيه الوجهان، لم جاز الوجهان؟
وإنما جاز النَّصْب والرَّفْع لأنك عَطَفَت جملةً مُستقلة على جُملةٍ مُستقلة، فمن حيث كون (إِذَنْ) في ابتداء جملة مستقلة هو مُتصدِّر، فيجوز انتصاب الفعل بعده، ومن حيث كون ما بعد العاطف من تمام ما قبله بسبب ربط حرف العطف بعض الكلام ببعض هو مُتوسِّط، وإلغاؤها أجْوَد، لأنها غير مُتصدِّرة في الظَّاهر، يعني يقول لك: إذا قلت: وإذَنْ أكرمُك، لك نظران:
إمَّا أن تنظر إلى (إِذَنْ) وهي مسبوقة بالواو فهي غير مُتصدِّرة فترفعها، وإمَّا أن تنظر إلى حرف العطف فقط، فتقول: هنا عطف جملة على جملة، وما بعد حرف العطف فهو مُتصدِّر في تلك الجملة المُستقلِّة فيما بعد الحرف، حينئذٍ إذا عطفت جملة مستقلة على جملة مستقلة نظرت إلى العاطف فقط، وكونه ربط بين جملتين، لا نظر لك إلى (إِذَنْ) فصارت (إِذَنْ) حينئذٍ مُتصدِّرة، وإذا نظرت إلى (إِذَنْ) نفسها وكونها مسبوقة بحرف العطف فهي غير مُتصدِّرة، وأيهما أظهر وأقرب إلى الذِّهْن؟
الأقرب أنَّها ليست مُتصدِّرة، لأن الواو ملفوظٌ بها، الأصل أن تقع جواباً: إذَنْ أكرمك، فذا قلت: وإذَنْ، واضح أنَّها معطوفة على ما قبلها. فـ: إذَنْ أكرمَك، لم تقع مُصدَّرة في أول الكلام، ولذلك كان إلغاؤها بهذا الاعتبار أجوَد، لأن القول بأنَّ عطف جملة مستقلة على عطف جملة مستقلة هذا فيه نوع تَكلُّف، ولَمَّا جاء الوجهان تَكلَّفوا ما ذكروه.
إذاً: إلغاؤها أجْوَد، لأنها غير مُتصدِّرة في الظَّاهر، هذا هو الظَّاهر، أنت تلفظ بالواو قبل (إِذَنْ) ونحن اشترطنا أن تكون مُتصدِّرة أول ما تنطق بـ (إِذَنْ) فقط، فإذا قَدَّمت الواو أو الفاء حينئذٍ صارت غير مُتصدِّرة، ويشير إلى رجحانه قوله: (وَارْفَعَا) بنون التوكيد الخفيفة المبدلة ألفاً.
. . . . . . . . . وَانْصِبْ وَارْفَعَا ... إِذَا إِذَنْ مِنْ بَعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا

(وَقَعَا) الألف هذه للإطلاق.
قال الشَّارِح هنا: " فلو كان الفعل بعدها حالاً لم ينصب، نَحو أن يُقال: أحبُك، فتقول: إذَنْ أظنُّكَ صادقاً، فيجب رفع أظن، وكذلك يجب رفع الفعل بعدها إن لم تَتَصدَّر، زيدٌ إذَنْ يكرمك، فإن كان المُتقدِّم عليها حرف عَطفٍ جاز في الفعل الرَّفْع والنَّصْب، نَحو: وإذَنْ أكرِمُك بالرَّفْع، وأكرِمَك بالنَّصْب.
وكذلك يجب رفع الفعل بعدها إن فُصِلَ بينها وبينه، نَحو: إذَنْ زيدٌ يكرمُك، ولذلك قرئ في الشاذ: ((وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ)) [الإسراء:76] وكذلك قرئ: ((فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً)) [النساء:53] (لا يُؤْتُوا) بالنَّصب، لكنه هذا في قراءة على الشاذ .. على الإعمال، والغالب الرَّفْع على الإهمال وبه قرأ السَّبْعة.


إذاً: النَّاصب الرَّابع (إذَنْ) وشَرَط له:
- أن يكون ناصباً للفعل المستقبل.
- وأن تكون مُصدَّرة.
- والفعل متصل بها.
- ولا يفصل سَماعاً إلا باليمين، ثُم إذا تَقدَّم عليها رافع عطف، وهنا أطلق النَّاظِم: (مِنْ بَعْدِ عَطْفٍ) والصواب أنَّه لا بُدَّ من تقييده، لأنه يُوهم أنَّ غَيْر الواو والفاء كذلك، بل الصواب أنَّه لو وقع قبلها غير الفاء والواو بَطَل عملها، وأمَّا إذا تَقدَّمها واو أو فاء حينئذٍ جاز فيه الوجهان.
. . . . . . . . . وَانْصِبْ وَارْفَعَا ... إِذَا إِذَنْ مِنْ بَعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا

ثُم قال:
وَبَيْنَ لاَ وَلاَمِ جَرٍّ الْتُزِمْ ... إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً وَإِنْ عُدِمْ
لاَ فَأَنِ اعْمِلْ مُظْهِرَاً أَوْ مُضْمِرَاً ... وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْمَاً أُضْمِرَا
كَذَاكَ بَعْدَ أَوْ إِذَا يَصْلُحُ فِي ... مَوْضِعِهَا حَتَّى أَوِ الاَّ أَنْ خَفِي

وَبَيْنَ لاَ وَلاَمِ جَرٍّ الْتُزِمْ ... إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً. . . . . .

(إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً بَيْنَ لاَ وَلاَمِ جَرٍّ الْتُزِمْ) (بَيْنَ) هذا منصوب على الظَّرفيَّة مُتعلِّق بقوله: (الْتُزِمْ) وهو مضاف و (لاَ) قُصِد لفظه مضاف إليه، (وَلاَمِ جَرٍّ) قُصِد لفظه مضاف إليه، (وَبَيْنَ لاَ وَلاَمِ جَرٍّ) بالنَّصب، (الْتُزِمْ) هذا فعل ماضي مُغيَّر الصِّيغَة، (الْتُزِمْ إِظْهَارُ أَنْ) إذاً: (الْتُزِمْ) هذا مُغيَّر الصِّيغة، ونائب الفاعل (إِظْهَارُ أَنْ) (إِظْهَارُ) هو نائب فاعل وهو مضاف، و (أَنْ) قُصِد لفظه مضافٌ إليه، (نَاصِبَةً) هذا حال مؤكدة من المضاف إليه وهو (أنْ) .. (أَنْ نَاصِبَةً) وإنما نَصَّ عليه مع كون الكلام في (أنْ) النَّاصِبة، لماذا؟ لأنَّه يَحتمل، لَمَّا فُصِل بينها وبين معمولها بـ: (لاَ) يَحتمل أنَّها ليست هي النَّاصبة، أتى به مع علمه من كون الكلام في (أنْ) النَّاصِبة دفعاً لتوهُّم إهمالها لفصلها من الفعل بـ: (لاَ) أنَّها ليست هي النَّاصِبة بل غيرها، مثل: ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ)) [طه:89] حينئذٍ نقول هنا: وقعت (لاَ) فاصلة، قد يُتوهَّم أنَّ (لاَ) أبطلت عمل (أنْ) والصواب أنَّها نَاصبة كما هي.
إذاً: (الْتُزِمْ إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً)
(أنْ) بعد (لاَ) على ثلاثة أضْرُب:
- الأول: أنَّه يَجب إظهارها، وذلك مع المقرون بـ: (لاَ) كراهة اجتماع الَّلامين، يعني: إذا جاء بعد (أنْ) (لاَ) وجب إظهار (أنْ): ((لِئَلَّا يَكُونَ)) [النساء:165] أصلها: لأن لا يكون، وجب إظهار (أنْ) هنا ولا يَجوز إضمارها: (لِئَلَّا يَكُونَ) هذا النوع الأول.
- الثاني: وجوب إضمارها، وذلك بعد لام الجحود، وهو الذي عناه بقوله: (وَبَعْدَ نَفْيِ).
- الثالث: جواز الوجهين.
إذاً: (أنْ) المَصدريَّة مع (لاَ) .. مع اللام على ثلاثة أضْرُب:
- وجوب الإظهار، وذلك إذا فَصَلَ بينهما (لاَ) النَّافيَّة:
وَبَيْنَ لاَ وَلاَمِ جَرٍّ الْتُزِمْ ... إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً. . . . .


نحو قوله تعالى: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ)) [النساء:165] لِئَلَّا يَكُونَ (يَكُونَ) هذا فعل مضارع منصوب بـ: (أنْ)، أين (أنْ) مُضْمَرة أو ظاهرة؟ ظاهرة، أين هي؟ مُدغَمة (لِئَلَّا) الهمزة هذه همزة ماذا؟ همزة (أنْ)، إذاً: (لِئَلَّا) اللام الأولى لام الجر .. لام التَّعليل، و (أنْ) ثُم جاءت (لاَ) إذاً: وجب إظهار (أنْ) في هذا الموضع، وذلك إذا دَخَلَت على منفيٍ بـ: (لاَ) هذا يَتَعيَّن فيه الإظهار، سواءٌ كانت (لاَ) نافيةً كالمثال السابق أو زائدة، نحو:
((لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ)) [الحديد:29] ليعلم أهل الكتاب، (لاَ) هنا زائدة، لِئَلَّا يَعْلَمَ (يَعْلَمَ) هذا فعل مضارع منصوب بـ: (أنْ) مُظهرةً، لماذا مظهرةً؟ للفصل بينها وبين الفعل بـ: (لاَ) كراهة توالي لامين، حينئذٍ وجب إظهار (أنْ).
إذاً:
وَبَيْنَ لاَ وَلاَمِ جَرٍّ الْتُزِمْ ... إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً. . . . . .

هذه الحالة الأولى (أنْ) مع لام التَّعليل .. لام الجر، وهو وجوب إظهارها.
الحال الثاني، قال: (وَإِنْ عُدِمْ لاَ) (لاَ) ما إعرابها؟ نائب فاعل، (عُدِمْ لاَ) (وَإِنْ عُدِمْ لاَ) يعني: لم يُذْكر .. ليس في التركيب (لاَ) (فَأَنِ اعْمِلْ مُظْهِراً أَوْ مُضْمِراً) يجوز فيه الوجهان: أن يكون الفعل بعد لام الجَر منصوباً بـ: (أنْ) مُضمرة، يعني: محذوفة وتنوى، أو منصوباً بـ: (أنْ) ظاهرةً، ولذلك جاء: ((وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام:71] .. ((وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)) [الزمر:12] (لِأَنْ أَكُونَ) أظهرت (لِنُسْلِمَ) أضمرت.
لماذا أضمرت؟ جاز الوجهان، لأنه لم يفصل بينها وبين مدخولها (لاَ) وليست هي (لاَ) المسبوقة بما كان ولم يكن.
(وَإِنْ عُدِمْ لاَ فَأَنِ اعْمِلْ مُظْهِراً أَوْ مُضْمِراً) (فَأَنَ اعْمِلْ) ما إعرابها؟ (اعْمِلْ) هذا فعل أمر، والفاعل أنت، و (أنْ) مفعول به مُقدَّم، فأعملن .. فأعمل أنْ، يعني: اعملها، (مُظْهِراً) أنت .. حال من المفعول به، أعمل (أنْ) مظهَراً، يعني: الحرف مظهَراً، حالٌ من (أنْ) .. من المفعول به، مظهراً أنت، إذاً: يَجوز الوجهان .. يجوز الضبطان: (مُظْهِر) باسم فاعل و (مُظْهَر) باسم المفعول.
إن جعلته: (مُظْهِراً) فهو حالٌ منك أنت .. من فاعل (اعْمِلْ) ضمير مستتر، (مُظْهَراً) من الحرف نفسه.
(فَأَنِ اعْمِلْ مُظْهِراً أَوْ مُضْمِراً) أي: يَجوز إظهار (أنْ) وإضمارها بعد اللام، إذا لم يسبقها كونٌ ناقص ماض لفظاً ومعنىً، أو معنىً فقط، كما سيشير إليه بقوله: (وَبَعْدَ نَفْيٍ).
إذا لم يسبقها كونٌ ناقص ماضٍ منفيٍ، ولم يقترن الفعل بـ: (لاَ) فالإضمار نَحو: ((وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام:71] والإظهار نَحو: ((وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)) [الزمر:12] فإن سبقها كون ناقص .. ماضٍ .. منفي، وجب إضمار (أنْ) بعدها وإلى هذا أشار بقوله: (وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْمَاً أُضْمِرَا) يعني: لام الجحود.
إذاً:
وَبَيْنَ لاَ وَلاَمِ جَرٍّ الْتُزِمْ ... إِظْهَارُ أَنْ نَاصِبَةً. . . . . . .


هذا فيما إذا لم تسبق بما كان ولم يكن وهي لام الجحود، ولم يقع بعد (أنْ) المَصدريَّة (لا) حينئذٍ يَجوز فيه الوجهان: الإضمار والإظهار.
أي: الواقعة بعد لام الجَرِّ سواءً كانت للتَّعليل أو للعاقبة أو للتَّوكيد أو للتَّعدِيَة، يعني: مُطلقاً، كل لام جرٍ بقطع النَّظر عن معناها، حينئذٍ يَجوز فيه الوجهان.
أي: الواقعة بعد لام الجَرِّ سواءً كانت للتَّعليل، نَحو: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ)) [النساء:165] هذا سبق فيما سبق، (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ)) [الحديد:29] كذلك سبق، أو للعاقبة نَحو: ((فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً)) [القصص:8] اللام هذه تُسمَّى ماذا؟ لام العاقبة، وهي لام الصَّيْرورة أيضاً،
وضابطها: أنَّ ما قبلها ليس عِلَّةً لِمَا بعدها، وإنَّما وقع ما بعدها اتفاقاً، بِخلاف لام التَّعليل، لام التَّعليل ما قبلها عِلَّةٌ لِمَا بعدها، وما بعده مُسَبَّبٌ عَمَّا قبلها، العِلَّة واضح معناها: أن يكون ما قبلها عِلَّة لِمَا بعدها، وما بعدها مُسبَّبٌ عَمَّا قبلها، بِخلاف لام الصَّيْرورة والعاقبة، وضابطها: أنَّ ما قبلها ليس عِلَّةً لِمَا بعدها، وإنَّما وقع اتفاقاً.
وكل لام تعليل في القرآن فهي لام صيرورةٍ وعاقبة عند الأشاعرة، لا يوجد لام تعليل البَتَّة في أسماء الله وصفاته مُطلقاً، في أفعاله والأحكام الشَّرعيَّة والكّونيَّة، وهذا بناءً على مذهبهم.
إذاً: أو للعاقبة نَحو: ((فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)) [القصص:8] أو للتَّوكيد، وهي الآتية بعد فِعلٍِ متعدٍ، نَحو: ((وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الأنعام:71] ومِثلُها: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ)) [الأحزاب:33] (لِيُذْهِبَ) هذه وقعت بعد فعلٍ متعدي: (إِنَّمَا يُرِيدُ) هذا مُتعدِّي بنفسه (لِيُذْهِبَ) نقول: هذه اللام وقعت بعد فعل مُتعدِّي، وهذه تفيد التَّوكِيد، يعني: كأنها زائدة.
أو للتَّعديَّة، نَحو: أعددت زيداً ليقاتل، إذاً: كل لام جَرٍّ وقع بعدها فعلٌ مضارع منصوب، حينئذٍ ننظر فيه: هل بعدها (لا) أو سبقت بما كان ولم يكن، حينئذٍ إذا وقع بعدها (لاَ) فوجب إظهار (أنْ)، إذا سبقها ما كان ولم يكن حينئذٍ هي لام الجحود وجب إضمار (أنْ)، إذا لم يكن ذلك ولا ذاك حينئذٍ جاز فيه الوجهان.
ولذلك قال: (وَإِنْ عُدِمْ) يعني: (لاَ) التي بعد (أنْ)
لاَ فَأَنِ اعْمِلْ مُظْهَِرَاً أَوْ مُضْمِرَاً ... وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْمَاً أُضْمِرَا

يعني: تقع (أَنْ) مضمرةً واجبة الإضمار إذا سُبِقَت اللام بما كان أولم يكن، وإن كان النَّاظِم هنا عَمَّم: (وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ) وهو ما كان أو لم يكن، و (كَانَ) هنا عَبَّر بها بالماضي، وهي أعَمُّ من الماضي، لأن لام الجحود تقع بعد ما كان ولم يكن، دخل في قوله: (نَفْيِ كَانَ) نَحو: لم يكن، أي: المضارع المنفي لـ: (لم) وفُهِم من النَّظم قصر ذلك على (كَانَ) خلافاً لمن أجازه في أخواتها، يعني: (كَانَ) طيب! وأخوات (كَانَ)؟


النَّاظِم هنا خَصَّ الحكم بـ: (كَانَ)، إذاً: أخوات (كَانَ) لا يشملها الحكم، فمن باب أولى أنَّ (ظَنَّ) وأخواتها لا يشملها الحكم كذلك، فلو وقعت اللام بعد (أصبح) وهي مَنفيَّة، لا نقول: هذه لام الجحود، أو بعد (ظَنَّ) وأخواتها وهي منفية لا نقول: هذه لام الجحود، بل الحكم خاص بـ: (كَانَ).
إذاً: فهم من النَّظم قصر ذلك على (كَانَ) خلافاً لمن أجازه في أخواتها قياساً، ولمن أجازه في (ظَنَنْت) نَحو: ما أصبح زيدٌ ليضربَ عمراً، اللام هذه وقعت بعد: ما أصبح، وهي من أخوات (كَانَ) هل الحكم يَعمُّها؟ الجواب: لا، ولم يصبح زيدٌ ليضرب عمراً .. لم يكن مثلها، وما ظننت زيداً ليضرب عمراً، وما أظن زيداً ليضرب عمراً، قال أبو حَيَّان: " وهذا كُلُّه تركيبٌ لم يُسمَع فوجب منعه " وجب منعه .. لا قياس، إنما سُمِع: ما كان ولم يكن.
(وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ) حينئذٍ نقول: بعد نفي (كَانَ) فقط دون أخواتها، ولم يكن فقط، حينئذٍ نقيس عليها ليس قياساً وإنما هو سَمَاعاً، لأنه جاء قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) [العنكبوت:40] (لِيَظْلِمَهُمْ) نقول: هذه اللام لام الجحود، وهي لام النَّفْي كما سيأتي، وكذلك: ((لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ)) [النساء:137] نقول: (يَغْفِرَ) هذا فعلٌ مضارع منصوب بـ: (أنْ) مُضْمَرة وجوباً لوقوعها بعد اللام، ونقول: هذه اللام لام الجحود، لأنها سبقت بـ: لم يكن.
كذلك: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) [العنكبوت:40] (يَظْلِمَهُمْ) فعل مضارع منصوب بـ: (أنْ) مُضْمَرة وجوباً لوقوعها بعد اللام، وهذه اللام لام الجحود، والذي دَلَّ على ذلك وقوعها بعد: ما كان.
إذاً: (وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْمَاً أُضْمِرَا) (أُضْمِرَا) الفاعل ضمير مستتر، (أُضْمِرَا) ما هو الذي أضمر؟ أضمر (أنْ) بعد اللام إذا وقعت بعد نفي (كَانَ)، (وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ) يعني: بعد اللام التي بعد نفي (كَانَ)، (حَتْمَاً أُضْمِرَا) أضمر حتماً (حَتْمَاً) هذا حالٌ من فاعل (أُضْمِرَا) وهي لام الجحود، وسَمَّاها النَّحاس لام النفي، وهو مراد النَّحاة، مراد النحاة لام النفي، لماذا؟ لأنهم لا يعنون الجحود الذي هو أخَصُّ من مُطلق النَّفْي.
ولام الجحود من باب تَسْمِية العام بالخاص، يعني: الجحود أخص من مُطلق النَّفي، لأن النفي هذا نَفْي كاسْمه، الجحود: نفيٌ لكنَّه أخَص، لماذا؟ لأنه ينفي شيئاً يعلمه، والنفي أعم قد يَنفي شيئاً يعلمه وقد يَنفي شيئاً لا يعلمه.
إذاً: لأن الجحود إنكار الحَقِّ لا مُطلق النَّفي، والنحويون أطلقوا لام الجحود وأرادوا الثَّاني، إذاً: من أطلاق الخاص مراداً به العام، وحينئذٍ تَسمية ابن النَّحَاس أو النَّحَاس لام النفي لا إشكال فيها، والتي قبلها تُسمَّى: لام كي، لأنها للسبب كما أنَّ (كَيْ) للسبب، وحكمها الكسر وفتحها لغة تَميم.
إذاً: ذكر في هذين البيتين ثلاثة أنواع للام مع حكم النون بعدها، وحاصل كلامه: أنَّ لـ: (أنْ) بعد اللام ثلاثة أحوال:
- وجوب إظهارها مع المقرون بـ: (لاَ) كراهة اجتماع اللامين.
- ووجوب إضمارها بعد نفي (كَانَ).
- وجواز الأمرين فيما عدا ذلك.


ولا يَجب الإضمار بعد (كَانَ) التَّامَّة، لأن اللام بعدها ليست لام الجحود، وإنما لم يُقيِّد كلامه بالناقص اكتفاءً بأنها المفهوم عند إطلاق (كَانَ) لشهرتها، لأنه قال: (وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ) (كَانَ) معلوم أنَّها تأتي زائدة، وتأتي ناقصة، وتأتي شأنية، وتأتي تامَّة، ما مراده؟ نقول: إذا أطلقت (كَانَ) فالمراد بها الناقصة، هذا الأصل فيها، وإذا أريد بها غيرها حينئذٍ لا بُدَّ من تقييدها: (وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْمَاً أُضْمِرَا).
قال الشَّارِح هنا: " اخْتصَّت (أنْ) من بين نواصب المضارع بأن تعمل مُظْهَرةً ومُضْمَرةً -وهذا مِمَّا يدلُّ على أنها أمُّ الباب- فَتظْهَر وجوباً إذا وقعت بين لام الجَرِّ و (لاَ) النَّافيَّة، نحو: جئتك لئلا تضربَ زيداً " سواءٌ كانت (لاَ) النَّافيَّة مقصوداً بها النَّفي، أو كانت زائدة لمُجرَّد التَّوكيد.
وتظهر جوازاً إذا وقعت بعد لام الجر، ولم تصحبها (لاَ) النَّافيَّة: جئتك لأقرأ .. جئتك لأن أقرأ، وجاء في القرآن بالوجهين، هذا إذا لم تسبقها (كَانَ) المنفيَّة، فإن سبقتها (كَانَ) وجب إضمار (أنْ) نَحو: ما كان زيدٌ ليفعل، ولا يَصِّح أن تقول: لأن يفعل، قال الله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)) [الأنفال:33] .. ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) [العنكبوت:40] .. ((لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ)) [النساء:137].
إذاً: ما يَنْفِي الماضي لا بُدَّ أن يكون هو الشرط في سبق (كَانَ) ولذلك عَبَّرَ هنا كما عَبَّرَ في النَّظم، قال: (بَعْدَ نَفْيِ كَانَ) وهنا قال: بعد كان المنْفيَّة، ولم يُعيِّن النَّافِي، ما هو النَّافِي؟ المشهور أنه (مَا) مع الماضي، و (لم) مع المضارع.
ما ينفي الماضي وذلك: (ما) و (لم) دون (لَنْ) مع كون (لَنْ) نَافيَّة: لَنْ يكن، هل يَصِّح؟ لن يكون زيدٌ ليضرب عمراً، هذا كونٌ منفي، لكنَّه لم يكن بـ (لم) هل هذا مفهومٌ من كلام النَّاظِم أم لا؟ لأنه أطْلَق (بَعْدَ نَفْيِ كَانَ).
وهنا قال ابن عقيل: " فإن سبقتها (كَانَ) المنفيَّة ".
إذاً: ما ينفي الماضي وذلك: (ما) و (لم) دون (لَنْ) لعدم السَّماع، وأيضاً لأنَّها تَختصُّ بالمستقبل، وكذلك: (لاَ) لأن نفي غير المستقبل بها قليل، ولذلك قلنا: مدخول اللام هنا النصب يكون بـ: (أنْ) مُضْمَرة، و (أنْ) تُخلِّص الفعل المضارع إلى المستقبل، كل النَّواصِب تَجعل المضارع .. تنقله من الحال إلى المستقبل، حينئذٍ إذا كان حرفٌ على يدخل على المستقبل في الغالب حينئذٍ نقول: الأصل أنَّه لا يدخل على: (كَانَ) أو (يكن).
لأنها تَختصُّ بالمستقبل، وكذلك (لاَ) لأن نفي غير المستقبل بها قليل، وأمَّا (لَمَّا) فإنها وإن كانت تنفي الماضي، لكن تدلُّ على اتصال نفيه بالحال، وهذا غير مراد في التركيب، وأمَّا (إنْ) فهي بِمعنى (مَا) وإطلاقه يشملها: إن كان زيدٌ لَيقوم، ظاهر كلام النَّاظِم أنَّه يشملها، لأنها بِمنْزِلة (مَا).
ثُم قال:
كَذَاكَ بَعْدَ أَوْ إِذَا يَصْلُحُ فِي ... مَوْضِعِهَا حَتَّى أَوِ الاَّ أَنْ خَفِي


ذكر لك موضعاً مِمَّا يجب فيه إضمار (أنْ) بعد (كَانَ) المنفيَّة مُطلقاً، سواءً كانت بلفظ الماضي أو المضارع، وأطلق النَّاظِم هنا النَّافِي فنُخصِّصُه بـ (ما) و (لم) ويَحتمل أن يكون (أنْ) داخلاً أيضاً فيها.
الموضع الثاني: (بَعْدَ أَوْ) و (أَوْ) حرف عطف في الأصل، ولذلك كان المرجَّح أو الصحيح عند البصريين أن النَّصْب ليس بها بعينها، وإنما هو بـ (أنْ) مضمرةً بعدها، وأمَّا قول الكوفيين: بأنَّها ناصبةٌ بنفسها فقولٌ ضعيف، لأن (أَوْ) حرف عطف، وحرف العطف مشترك بين الجملة الفِعليَّة والاسْميَّة وبين المفرد .. الاسم والفعل إلى آخره، ولا يكون ناصباً بنفسه البَتَّة، لأن العَاطِف لا ينصب.
كَذَاكَ بَعْدَ أَوْ إِذَا يَصْلُحُ فِي ... مَوْضِعِهَا حَتَّى أَوِ الاَّ. . . . .

يعني: ليس مُطلقاً: (أَنْ خَفِي كَذَاكَ) (أنْ) مبتدأ، انظر آخر البيت! (أَنْ خَفِي) (أنْ) هذا مبتدأ، (خَفِي) هذه الجملة خبر، (كَذَاكَ) الإشارة إلى (أنْ) بعد نفي (كَانَ).
إذاً: هذا الموضع مِمَّا يجب فيه إضمار (أنْ) بعد المذكور، وهو الحرف .. حرف العطف وهو (أوْ) لأنه شبَّه هذه الحال بالسَّابق، وهو قوله: (وَبَعْدَ نَفْيِ كَانَ حَتْمَاً) وجب إضمار (أنْ)، إذاً: (كَذَاكَ) مثله في وجوب إضمار (أنْ) (أوْ .. بَعْدَ أَوْ)، (كَذَاكَ) جار ومجرور، و (بَعْدَ) منصوب على الظَّرفيَّة متعلقان بـ: (خَفِي) .. (أَنْ خَفِي) مثل ذاك (بَعْدَ أَوْ).
ثُم قيَّد (أوْ) ليس مُطلقاً، قال:
. . . . . . إِذَا يَصْلُحُ فِي ... مَوْضِعِهَا حَتَّى أَوِ الاَّ. . . . . .

يعني: إذا كانت بِمعنى: (حَتَّى) وهو فيما يتطاول، أو كانت بِمعنى: (إِلاَّ) وهو فيما لا يتطاول.
مفهومه: إذا لم تكن في هذين الموضعين أو ما يصلح أن يُفسَّر (أوْ) بهذين المَحلين فلا تقع (أنْ) مضمرةً بعد (أوْ) لأنَّه قيَّدها، قال: (إِذَا يَصْلُحُ) إذاً: إذا لم يصلح لا تكون ناصبةً، لا هي بنفسها على مذهب الكوفيين، ولا بـ (أنْ) مضمرةً وجوباً بعدها.
(إِذَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا) يعني: من حيث المعنى، ليس المراد أنَّها تزال فيؤتى بـ (حَتَّى أَوِ إِلاَّ) لا، إنما المراد أن يصلح في موضعها من جهة المعنى.
(إِذَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا حَتَّى) (حَتَّى) هذا فاعل (يَصْلُحُ) و (فِي مَوْضِعِهَا) مُتعلِّق بقوله: (يَصْلُحُ).
(أَوِ الاَّ) (أَوْ) حرف عطف و (إِلاَّ) معطوفٌ عليها.
قال هنا: " ويجب إضمار (أنْ) بعد (أوْ) المقدَّرَة بـ: (حَتَّى أَوِ الاَّ) " مُقدَّرة من جهة المعنى، فتُقدَّر بـ: (حَتَّى) إذا كان الفعل الذي قبلها مِمَّا ينقضي شيئاً فشيئاً .. يتطاول، يعني: حدثه لا يقع دفعةً واحدة، وإنما يتطاول يقع شيئاً فشيئاً، مثل: لألزمنك أو تقضيَني حقي، يعني: إلى أن تقضيَني حقي، إذاً: الملازمة هنا تقع شيئاً فشيئاً ليست دفعة واحدة .. شيءٌ يتطاول.
وتُقدَّر بـ: (إِلاَّ) إن لم يكن كذلك، فالأول نَحو:
لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ المُنَى ... فَمَا انْقَادَتِ الآمَّالُ إِلاَّ لِصَابِرِ


(لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ أَوْ أُدْرِكَ المُنَى) إلى أن أدرك المنى، وهذا ما يقع دفعة واحدة في ساعة .. ليلة .. ليلتين لا، يَحتاج إلى عمر!
إذاً: (أَوْ) هنا بِمعنى: إلى، إذاً: مِمَّا ينقضي شيئاً فشيئاً .. مِمَّا يَتَطَاول، أي: لأَسْتَسْهِلَنَّ الصَّعْبَ حتَّى أُدْرِكَ المُنَى، و (حتَّى) بَمعنى: إلى، فـ (أُدْرِكَ) منصوبٌ بـ (أنْ) مُضمرةً وجوباً بعد (أوْ) .. (أوْ) التي بِمعنى: حتَّى، وهي واجبة الإضمار.
والثاني: الذي لم يكن بِمعنى: حتَّى، وإنما بِمعنى: (إلا) كقوله:
وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيْمَا

كسرت كعوبها إلى أن تستقيما، يُكسِّر يُكسِّر حتى تستقيم، أو: إلا أن تستقيما؟ إلا أن تستقيما. ومثله: لأقْتلنَّ الكافر أو يُسلم .. إلا أن يُسلم، ولا يَصِّح أن يكون مَمَّا ينقضي شيئاً فشيئاً .. يقتل .. يقتل .. يقتل حتى يُسلم؟! هذا ما يتأتَّى .. هذا بعيد.
إذاً: قد تكون بِمعنى: حتَّى .. إلى أن، وقد تكون بِمعنى: إلا، والنَّاصِب حينئذٍ نقول: هو (أنْ) مضمرةً بعد (أوْ) والإضمار حكمه الوجوب.
وذهب الكِسَائي: إلى أنَّ (أوْ) المذكورة ناصبةٌ بنفسها، وذهب الفَرَّاء: إلى أنَّ الفعل انتصب بالمخالفة، يعني: ما بعده يُخالف ما قبله، وهذا المُخالفة عاملٌ معنوي، وقلنا: هذا ضعيف فيما سبق، والصحيح: أنَّ النَّصْب بـ: (أنْ) مضمرةً بعدها لأن (أوْ) حرف عطف، فلا عمل لها هذا الأصل فيها، ولكنَّها عَطَفَت مَصدراً مُقدَّراً على مصدرٍ مُتوَهَّم، ومن ثَمَّ لزم إضمار (أنْ) بعدها، يعني: ما بعدها يكون في تأويل مصدر، لأن (أنْ) ومدخولها في تأويل مصدر.
ثُم تَعطِف هذا المصدر الملفوظ به .. في قوة الملفوظ على مصدرٍ مُتوهَّم .. مُتصيَّد مِمَّا قبله: لألزَمنَّك أو تقضيَني حقي، يعني: إلزامي هذا مصدر .. إلزامي إلى قضاء حقي، أو: ملازمتي إلى قضاء حقي.
لأقتلنَّ الكافر أو يُسلَّم، قتله إلى إسلامه، يعني: أقتله قتلاً إلى إسلامه.
كَذَاكَ بَعْدَ أَوْ إِذَا يَصْلُحُ فِي ... مَوْضِعِهَا حَتَّى أَوِ الاَّ أَنْ خَفِي

واحترز بقوله: (إِذَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا حَتَّى أَوِ الاَّ) من التي لا يصلح في موضعها أحد الحرفين، -وقلنا: هذا قَيد- فإنَّ المضارع إذا وَرَد بعدها منصوباً جاز إظهار (أنْ) كقول الشَّاعِر:
وَلَولاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٌ ... وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا

(أَسُوءَكَ) هنا لا يصلح أن يكون (أَوْ) بمعنى: حتَّى، ولا بمعنى: أو، مع كون المضارع وقع منصوباً بعدها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ... !!!