شرح ألفية ابن مالك للعثيمين

المبتدأ والخبر

  

استغناء الوصف بالفاعل عن الخبر

الاستغناء بالفاعل عن الخبر إذا اعتمد المبتدأ على الاستفهام

الاستغناء بالفاعل عن الخبر إذا اعتمد المبتدأ على النفي

الاستغناء بالفاعل عن الخبر من غير اعتماد على نفي ولا غيره

حكم تطابق الوصف مع فاعله المغني عن الخبر

الرافع للمبتدأ والخبر

تعريف الخبر

أنواع الخبر

روابط جملة الخبر بالمبتدأ

حكم ربط الخبر المفرد بالمبتدأ

الإخبار بشبه الجملة

حكم الإخبار بالزمن عن الذات

مسوغات الابتداء بالنكرة

متى يجوز أن يقدم الخبر

حالات امتناع تقديم الخبر

حالات وجوب تقديم الخبر

حذف المبتدأ والخبر

حالات حذف الخبر وجوباً

تعدد الأخبار

 

قال ابن مالك رحمه الله في الألفية: [ الابتداء. متبدأ زيد وعادر خبر إن قلت زيد عاذر من اعتذر ]. بدأ المؤلف في الكلام على تركيب الجملة، ومن هذا الباب تبدأ التراكيب، وفائدة النحو لأن ما سبق كله فهو كالمفردات من الآن فصاعداً في التراكيب. قال المؤلف: [الابتداء]. ولم يقل: المبتدأ والخبر، كما قاله غيره اختصاراً؛ ولأن الابتداء يستلزم المبتدأ، والمبتدأ يستلزم الخبر فاستغنى بذكر الابتداء عن ذكر المبتدأ والخبر للتلازم. ومع ذلك فهو لم يعرف المبتدأ، وصاحب الآجرومية عرف المبتدأ، فصارت الآجرومية في هذا أوسع من الألفية. يقول صاحب الآجرومية: المبتدأ هو الاسم المرفوع العاري عن العوامل اللفظية. فأخرج بقوله: (العاري عن العوامل اللفظية) الفاعل، ونائب الفاعل، واسم كان، وخبر إن؛ لأن العوامل في هذه المرفوعات لفظية. لكن عامل المبتدأ معنوي، وهو الابتداء؛ ولهذا قال ابن مالك في الكافية: (المبتدأ مرفوع معنى ذو خبر أو وصف استغنى بمرفوع ظهر) إذاً العامل في المبتدأ معنوي؛ لأنه لم يسبقه فعل حتى يكون عاملاً فيه، لكن للابتداء به صار مرفوعاً. قال: [مبتدأ زيد وعاذر خبر إن قلت زيد عاذر من اعتذر] فزيد: مبتدأ مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره. وعاذر: خبر مبتدأ مرفوع بالمبتدأ وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره. ومن: اسم موصول مفعول به. واعتذر: جملة صلة الموصول. فكأن المؤلف رحمه الله استغنى بذكر المثال عن التعريف. وهنا بحث فقهي: هل يحمد زيد، حيث عذر من اعتذر؟ الجواب: فيه تفصيل: إن كان الذي اعتذر إليه قدم عذراً صحيحاً فكونه يعذره محمود، وإن قدم عذراً غير صحيح فهو غير محمود. والخلاصة: المبتدأ: كل اسم مرفوع عار عن العوامل اللفظية؛ إذاً فهو مرفوع بأمر معنوي وهو الابتداء.

 

استغناء الوصف بالفاعل عن الخبر

  

 

قال ابن مالك رحمه الله في الألفية: [ الابتداء. متبدأ زيد وعادر خبر إن قلت زيد عاذر من اعتذر ]. بدأ المؤلف في الكلام على تركيب الجملة، ومن هذا الباب تبدأ التراكيب، وفائدة النحو لأن ما سبق كله فهو كالمفردات من الآن فصاعداً في التراكيب. قال المؤلف: [الابتداء]. ولم يقل: المبتدأ والخبر، كما قاله غيره اختصاراً؛ ولأن الابتداء يستلزم المبتدأ، والمبتدأ يستلزم الخبر فاستغنى بذكر الابتداء عن ذكر المبتدأ والخبر للتلازم. ومع ذلك فهو لم يعرف المبتدأ، وصاحب الآجرومية عرف المبتدأ، فصارت الآجرومية في هذا أوسع من الألفية. يقول صاحب الآجرومية: المبتدأ هو الاسم المرفوع العاري عن العوامل اللفظية. فأخرج بقوله: (العاري عن العوامل اللفظية) الفاعل، ونائب الفاعل، واسم كان، وخبر إن؛ لأن العوامل في هذه المرفوعات لفظية. لكن عامل المبتدأ معنوي، وهو الابتداء؛ ولهذا قال ابن مالك في الكافية: (المبتدأ مرفوع معنى ذو خبر أو وصف استغنى بمرفوع ظهر) إذاً العامل في المبتدأ معنوي؛ لأنه لم يسبقه فعل حتى يكون عاملاً فيه، لكن للابتداء به صار مرفوعاً. قال: [مبتدأ زيد وعاذر خبر إن قلت زيد عاذر من اعتذر] فزيد: مبتدأ مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره. وعاذر: خبر مبتدأ مرفوع بالمبتدأ وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره. ومن: اسم موصول مفعول به. واعتذر: جملة صلة الموصول. فكأن المؤلف رحمه الله استغنى بذكر المثال عن التعريف. وهنا بحث فقهي: هل يحمد زيد، حيث عذر من اعتذر؟ الجواب: فيه تفصيل: إن كان الذي اعتذر إليه قدم عذراً صحيحاً فكونه يعذره محمود، وإن قدم عذراً غير صحيح فهو غير محمود. والخلاصة: المبتدأ: كل اسم مرفوع عار عن العوامل اللفظية؛ إذاً فهو مرفوع بأمر معنوي وهو الابتداء.

 

الاستغناء بالفاعل عن الخبر إذا اعتمد المبتدأ على الاستفهام

  

 

ثم قال: [وأول المبتدأ والثاني فاعل اغنى في أسار ذان] هذا معنى قوله في الكافية: (أو وصف استغنى بمرفوع ظهر). قوله: (والثاني فاعل أغنى) أي: أغنى عن الخبر. (في أسار ذان) أي في قولك: أسار ذان؟ (أسار): الهمزة في (أسار) للاستفهام. و(سار) مبتدأ وهو اسم فاعل. (ذان): لا نقول: خبر المبتدأ، بل نقول: فاعل سار مبني على الألف في محل رفع؛ لأنه اسم إشارة مثنى، والفاعل سد مسد الخبر. أو إن شئت فقل: الفاعل أغنى عن الخبر، ومثله: أقائم الرجلان: (قائم): اسم فاعل، و(الرجلان): فاعل فهي تساوي: أسار ذان. وكذلك: أمضروب الرجلان، فمن المعلوم أن مضروب اسم مفعول يعمل عمل الفعل، مثل اسم الفاعل، وعلى هذا فيكون مثله، ومن ثم قلنا: إن الكافية في هذا المكان أحسن من الخلاصة لأنه قال: أو وصف استغنى بمرفوع ظهر. وكلمة (وصف) تشمل: اسم الفاعل، واسم المفعول إذا استغنى بمرفوعه. فإذا قلت: أمضروب الرجلان، فالهمزة للاستفهام، و(مضروب) مبتدأ، والرجلان نائب فاعل أغنى عن الخبر. والخلاصة أن المبتدأ له خبر، وقد يكون المبتدأ وصفاً فيستغنى بمرفوعه عن الخبر.

 

 

 

 

الاستغناء بالفاعل عن الخبر إذا اعتمد المبتدأ على النفي

  

 

يقول: [وقس وكاستفهام النفي وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد] كلمة (وقس) ربما نقول: إنه أراد أن نقيس على هذا المثال ما يوازيه، فنقول: أسار ذان، أداع ذان، أقائم الرجلان. ويحتمل أن نقول: يريد أن نقيس على اسم الفاعل اسم المفعول فيشمل: أمضروب الرجلان، والثاني أولى؛ لأنه يشمل الأول. قوله: (وقس) يعني: قس على هذا الوصف ما أشبهه. (وكاستفهام النفي) يعني: إذا اعتمد الوصف على نفي استغنى بمرفوعه عن الخبر كما لو اعتمد على استفهام. فلو جعلت بدل الهمزة (ما) فقلت: ما سار ذان، صح، ونقول: ما نافية. وسار: مبتدأ. وذان: فاعل أغنى عن الخبر. ولو قلت: غير سار ذان، صح؛ لأن (غير) تأتي للنفي. ولو قلت: ليس سار ذان، صح؛ لأن ليس نفي، و(سار) اسم ليس، و(ذان) فاعل أغنى عن الخبر. فصار النفي: إما بما، أو بغير، أو بليس. ومعنى قوله: (وكاستفهام النفي) يعني: أن النفي يقوم مقام الاستفهام، وبناء عليه يصح حذف الهمزة، ونأتي بدلها بما يدل على النفي.

 

 

 

 

الاستغناء بالفاعل عن الخبر من غير اعتماد على نفي ولا غيره

  

 

قال: (وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد) المقصود أن الوصف هنا وهو (فائز) لم يعتمد على استفهام ولا نفي، ومع ذلك نقول في إعرابه: (فائز) مبتدأ، و(أولو) فاعل أغنى عن الخبر. مع أنه لم يعتمد على استفهام ولا نفي، وهذا قد يجوز، و(قد) تفيد التقليل كما يقولون: قد يجود البخيل، وقد يكون الجبان شجاعاً. ولهذا شاهد من كلام العرب، وهو قول الشاعر: خبير بنو لهب فلا تك ملغياً مقالة لهبي إذا الطير من مرت وبنو لهب مشهورون بالتطير، والشاهد: قوله: خبير بنو لهب، فـ(خبير) مبتدأ، و(بنو) فاعل سد مسد الخبر مع أن (خبير) لم يعتمد على استفهام ولا نفي. إذاً يجوز في اللسان العربي أن يستغنى بمرفوع الخبر وإن لم يعتمد على نفي أو استفهام. وكلام ابن مالك يدل على أن الأصل أنه لا يستغنى بمرفوع مبتدأ عن الخبر إلا إذا اعتمد على استفهام أو نفي، لكن قد يجوز على وجه قليل. وهذا القول وسط بين قول الكوفيين السمحين الذين يقولون: يجوز أن يستغنى بمرفوع المبتدأ عن الخبر وإن لم يعتمد مطلقاً. وبين المتشددين من البصريين الذين يقولون: لا يجوز أبداً. وقالوا في قوله: (خبير بنو لهب): (خبير): خبر مقدم. فقيل لهم: (خبير) مفرد و(بنو لهب) جمع، فكيف يخبر بالمفرد عن الجمع؟ قالوا: إن (فعيل) قد يخبر به عن الجمع، ومنه قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، ولم يقل: ظهيرون. لكن الصواب ما ذهب إليه الكوفيون بناء على القاعدة العريضة عندنا: أنه إذا اختلف النحاة على قولين أخذنا بالأسهل، ولا إثم علينا، فمن يسر يسر الله عليه. والخلاصة: أن كل مبتدأ لا بد له من خبر، وقد يستغنى بمرفوع المبتدأ عن الخبر إذا كان وصفاً معتمداً على استفهام أو نفي. وقد يجوز أن يستغني المبتدأ بمرفوعه وإن لم يتقدم استفهام ولا نفي.

 

 

 

 

حكم تطابق الوصف مع فاعله المغني عن الخبر

  

 

ثم قال المؤلف: [والثان مبتدا وذا الوصف خبر إن في سوى الإفراد طبقا استقر] الوصف: إما أن يكون مفرداً، وما بعده مفرد، أو مثنى وما بعده مثنى، أو جمعاً وما بعده جمع. فقولنا: أقائم زيد، الوصف مفرد وما بعده مفرد. وقولنا: أقائمان الزيدان، الوصف مثنى وما بعده مثنى. وأقائمون الزيدون، الوصف جمع وما بعده جمع. فإذا كان الوصف جمعاً وما بعده جمع، أو الوصف مثنى وما بعده مثنى؛ تعين أن يكون الوصف خبراً مقدماً. وإذا كان الوصف مفرداً وما بعده مفرد؛ جاز الوجهان: أن يكون الوصف خبراً مقدماً وما بعده مبتدأ مؤخراً، أو يكون الوصف مبتدأً وما بعده فاعلاً أغنى عن الخبر. مثل: أقائم زيد، لك أن تقول: الهمزة للاستفهام، و(قائم) خبر مقدم، و(زيد) مبتدأ مؤخر، والأصل: أزيد قائم. ولك أن تقول: الهمزة للاستفهام، و(قائم) مبتدأ، و(زيد) فاعل أغنى عن الخبر. وإذا قلت: أقائمان الرجلان؛ فقل: الهمزة للاستفهام، و(قائمان) خبر مقدم، و(الرجلان) مبتدأ مؤخر. وكذلك إذا كان الوصف جمعاً وما بعده جمع مثل: أقائمون المسلمون، تقول: الهمزة للاستفهام، و(قائمون) خبر مقدم، و(المسلمون) مبتدأ مؤخر، والأصل إذا رددته للترتيب أن تقول: ألمسلمون قائمون. وإذا كان الوصف مفرداً، وما بعده مثنى تعين أن يكون الوصف مبتدأ، وما بعده فاعلاً أغنى عن الخبر، مثاله: أقائم الرجلان، (قائم) مبتدأ، و(الرجلان) فاعل أغنى عن الخبر. ولكن لا نقول: قائم: خبر مقدم؛ لأنك لو قلت ذلك لأخبرت بمفرد عن مثنى، والإخبار بالمفرد عن المثنى لا يجوز. وكذلك إذا كان الوصف مفرداً وما بعده جمع؛ فإنه يتعين أن يكون الوصف مبتدأً، وما بعده فاعلاً أغنى عن الخبر، مثاله: أقائم الرجال. فنقول: (قائم) مبتدأ، و(الرجال) فاعل أغنى عن الخبر، ولا يجوز أن تقول: (قائم) خبر مقدم، و(الرجال) مبتدأ مؤخر؛ لأنك لو قلت ذلك لأخبرت بالمفرد عن الجمع، وهذا لا يجوز في اللغة العربية. وإذا كان الوصف مما يستوي فيه المفرد والجمع جاز الوجهان، مثاله: أجُنُب الرجلان، يجوز أن تجعل (جنب) خبراً مقدماً، و(الرجلان) مبتدأ مؤخراً، أو تقول: (جنب) مبتدأ، و(الرجلان) فاعل أغنى عن الخبر. وكذلك قولنا: أجنب الرجال، يجوز الوجهان: أن تجعل (جنب) مبتدأً، و(الرجال) فاعلاً أغنى عن الخبر، أو (جنب) خبراً مقدماً، و(الرجال) مبتدأً مؤخراً، قال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، فأخبر بجنب وهي مفرد عن الجماعة؛ لأن (جنب) مما يستوي فيه المفرد وغيره. يقول: (والثان مبتدا وذا الوصف خبر) يعني: وهذا الوصف، فـذا: اسم إشارة، والوصف: نعت أو بدل أو عطف بيان، و(خبر) خبر ذا، يعني: يكون الثاني مبتدأ، ويكون هذا الوصف خبراً. قال: (إن في سوى الإفراد طبقاً استقر) الذي سوى الإفراد هو التثنية والجمع، يعني: إن استقر مطابقاً في سوى الإفراد، فإن الثاني يكون مبتدأ، ويكون الوصف خبراً، إلا على لغة أكلوني البراغيث. أما على لغة أكلوني البراغيث فيجوز إذا تطابق في غير الإفراد أن تجعل الوصف مبتدأ، وما بعده فاعلاً أغنى عن الخبر. أما على لغة سائر العرب فيقولون هنا: يجب أن يكون الوصف خبراً مقدماً كما قال: (والثان مبتدا وذا الوصف خبر). فإذا قيل: أقائمون الرجال؟ فيجعل الرجال فاعل على لغة أكلوني البراغيث، وأما بقية العرب فيقولون: قائمون: خبر مقدم، والرجال: مبتدأ مؤخر، والفرق أن علامة التثنية والجمع تلحق العامل على لغة أكلوني البراغيث، ولا تلحقه على اللغة الكثيرة المشهورة عند العرب. ويقولون: قاموا الرجال، كما تلحق تاء التأنيث بالفعل إذا كان الفاعل مؤنثاً، تلحق واو الجماعة إذا كان جماعة. ويقولون: ضربن النساء، فضربن: فعل ماض، والنون علامة للنسوة فقط، والنساء: فاعل. وقاموا الرجال، (قاموا) فعل، والواو علامة الجمع فقط، والرجال: فاعل، مثلما تقول: ضربت هند، وتقول: ضربن النساء، فالتاء للتأنيث، والنون أيضاً للتأنيث، لكنها علامة الجمع والتاء علامة الإفراد، هذا مأخذ لغة البراغيث.

 

 

 

 

الرافع للمبتدأ والخبر

  

 

ثم قال المؤلف رحمه الله: [ورفعوا مبتدأ بالابتدا كذاك رفع خبر بالمبتدا] بين المؤلف في هذا البيت بأي شيء رفع المبتدأ؛ لأننا لا نجد عاملاً لفظياً تقدمه فعمل فيه، أو عاملاً لفظياً تأخر عنه فعمل فيه، فإذا قلنا: قام زيد، نعرف أن زيداً مرفوع بقام، لكن (زيد قائم) بأي شيء ارتفع زيد؟ قال: إنه مرفوع بالابتداء، يعني: لكوننا ابتدأنا به استحق أن يكون مرفوعاً، فالعامل فيه إذاً معنوي وليس لفظياً. (كذاك رفع خبر بالمبتدأ) فالخبر مرفوع بعامل لفظي وهو المبتدأ. إذاً عامل المبتدأ معنوي وعامل الخبر لفظي؛ ولهذا تقول في قولك: زيد قائم: زيد: مبتدأ مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه الضمة على آخره. وقائم: خبر المبتدأ مرفوع بالمبتدأ، وعلامة رفعه ضم آخره. وقيل: كلاهما مرفوع بالابتداء. وقيل: كل واحد منهما رفع الآخر، وفي هذا يقول: ابن مالك في الكافية: وقال أهل الكوفة الجزءان قد ترافعا وذا ضعيف المستند قال أهل الكوفة: الجزءان ترافعا، أي: كل واحد رفع الآخر، وذا ضعيف المستند. والخلاف في الواقع لا فائدة منه، المهم أن نعرف أن المبتدأ مرفوع، وأن الخبر مرفوع، فالعربي حين قال: زيد قائم، لم يكن يخطر بذهنه أن زيداً ارتفع لأنه ابتدئ به. ولكن يفعله العلماء لتمرين العقول.

 

تعريف الخبر

  

 

ثم قال المؤلف: [والخبر الجزء المتم الفائدة كالله برو الأيادي شاهدة] الخبر هو: الجزء المتم الفائدة، فمتى تمت الفائدة بكلمة من الجملة فهذا الذي تمت به الفائدة هو الخبر. وهذا التعريف غير مانع؛ لأنه يدخل فيه غير المعرف، فإنك إذا قلت: قام زيد، فزيد متم للفائدة، ومع ذلك ليس بخبر بالاتفاق. وإذا قلت: إن قام زيد قام عمرو، فـ(إن قام عمرو) تتم به الفائدة، ومع ذلك ليس خبراً، فالتعريف غير مانع؛ لأنه يدخل فيه غير المعرف، فيكون التعريف هنا قاصراً. لكن ربما يعتذر عن ابن مالك رحمه الله بأنه أتى بمثال، وقيد به هذا الإطلاق فيكون قوله: (كالله بر) من تمام التعريف، فكأنه قال: المتم الفائدة كإتمام بر في قولك: الله بر، وشاهدة في قولك: الأيادي شاهدة ويكون هذا التمثيل من التعريف، وبهذا يزول الإشكال الذي أوردناه. وقوله: (كالله بر)، البر: كثير الخيرات، كما قال تعالى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:28]. وقوله: (الأيادي شاهدة)، الأيادي جمع أيد وهي النعمة، فجمع يد أيد، وجمع أيد أياد، إذاً هي جمع الجمع، أي: فالنعم شاهدة بأن الله بر. وهذا المثال من أحسن الأمثلة، فإنك لا تستطيع أن تحصي نعمة الله عليك، ومثل ابن هشام قال: كالله ربنا ومحمد نبينا، وهي إجابة سؤالين من أسئلة القبر، من ربك؟ ربي الله، من نبيك؟ محمد. إذاً يحتاج أن نقول في التعريف: الخبر الجزء الذي تتم به الفائدة مع المبتدأ، وإذا قلت: تتم به الفائدة مع المبتدأ زال الإشكال نهائياً.

 

أنواع الخبر

  

 

ثم قال: [ومفرداً يأتي ويأتي جملة حاوية معنى الذي سيقت له وأخبروا بظرف أو بحرف جر ناوين معنى كائناً أو استقر] يأتي الخبر على ثلاثة أوجه: مفرد. وجملة. وشبه جملة. وهو ما أشار إليه بقوله: (وأخبروا بظرف أو بحرف جر) وقد قدمت البيت الثاني؛ ليجتمع أنواع الخبر في مكان واحد. وشبه الجملة، هو الظرف والجار والمجرور. والمفرد هنا في باب الخبر ما ليس جملة ولا شبه جملة. وفي باب الإعراب: ما ليس جمعاً ولا مثنى ولا ملحقاً بهما. فإذا قلنا هنا: الرجل قائم، فالخبر مفرد. وكذلك: الرجل فاهم، ومثله: الرجل غير فاهم. وإذا قلنا: الرجل علمه قليل، فالخبر جملة. وكذلك: الرجل قام أبوه، الخبر جملة. وإذا قلنا: الرجل في البيت، فالخبر شبه جملة. ومثله: كذلك الرجل أمامك، الخبر شبه جملة.

  


 

شرح ألفية ابن مالك [17]

 

الخبر قد يكون مفرداً وقد يكون جملة وقد يكون شبه جملة، وإذا كان الخبر جملة فلابد أن يكون فيها رابط يربطها بالمبتدأ، وكذا المفرد المشتق، وقد بين العلماء الأحوال المختلفة لذلك.

 

روابط جملة الخبر بالمبتدأ

  

 

يقول ابن مالك : (حاوية معنى الذي سيقت له). يعني: لابد أن تكون الجملة الواقعة خبراً حاوية معنى المبتدأ، ومعنى (حاوية معناه): أن نعلم أن لها اتصالاً به؛ ولذلك لابد من وجود رابط بين هذه الجملة والمبتدأ. فلو قلت: الرجل قام زيد، لا يصح أن تكون خبراً؛ لأنه ليس هناك رابط. وإذا قلت: الرجل قام أبوه، صح لوجود الرابط وهو الضمير، إذاً لابد من رابط يربط الجملة بالمبتدأ حتى نعرف أن هذه الجملة حاوية له، وأنها وصف له؛ لأن الخبر كما نعلم وصف للمبتدأ، فإذا لم تكن مشتملة على شيء يربطها به؛ فإنها لا تكون وصفاً له. وفي قوله تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]. (لباس) مبتدأ و(التقوى) مضاف إليه، و(ذا) مبتدأ ثان و(خير) خبر المبتدأ الثاني، والرابط اسم الإشارة (ذا)؛ لأن قوله: (( ذَلِكَ )) أي: لباس التقوى. وقوله تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-2]. (الحاقة) مبتدأ وخبره جملة: (ما الحاقة)، والرابط إعادة المبتدأ بلفظه؛ لأن إعادة المبتدأ بلفظه أقوى ربطاً من إعادة المبتدأ بضمير. فالحاقة الثانية هي الحاقة الأولى. وقوله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2]، (القارعة) مبتدأ، وجملة (( مَا الْقَارِعَةُ )) خبره، والرابط إعادة المبتدأ بلفظه. فإذا قيل: كيف كانت إعادة المبتدأ بلفظه ربطاً؟ قلنا: لأن ارتباط الجملة بإعادة لفظ المبتدأ بالمبتدأ أقوى من ارتباطها بإعادة الضمير؛ لأن الضمير يدل على المرجع وليس هو المرجع. وإذا قلنا: طالب العلم نعم الرجل، فالجملة الثانية: نعم الرجل لها ارتباط بالمبتدأ لأن هذا اللفظ عام يدخل فيه بالأولوية المبتدأ، الذي هو طالب العلم. والربط هو: أنه لا يشك أي مخاطب أن المراد بقولك: نعم الرجل، هو طالب العلم. فإن قال قائل: أفلا يمكن أن ندعي أن الربط هنا إعادة المبتدأ بلفظه؟ فالجواب: لا؛ لأن الرجل غير طالب، لكنه إعادة المبتدأ بمعناه لعموم الأفراد في قولك نعم الرجل. فصارت الروابط الآن أربعة: الضمير، والإشارة، وإعادة المبتدأ بلفظه، وبالعموم. قال رحمه الله تعالى: [ ومفرداً يأتي ويأتي جملة حاوية معنى الذي سيقت له وإن تكن إياه معنى اكتفى بها كنطقي الله حسبي وكفى والمفرد الجامد فارغ وإن يشتق فهو ذو ضمير مستكن وأبرزنه مطلقاً حيث تلا ما ليس معناه له محصلاً وأخبروا بظرف أو بحرف جر ناوين معنى كائن أو استقر ولا يكون اسم زمان خبـراً عن جثة وإن يفد فأخبرا ]. قوله: (وإن تكن إياه معنى اكتفى بها كنطقي الله حسبي وكفى). قوله: (وإن تكن): الضمير يعود على الجملة التي أخبر بها عن المبتدأ. إياه: أي المبتدأ. معنى: أي في المعنى. اكتفى بها: أي بدون رابط. ومعنى ذلك: أنه إذا كانت الجملة هي معنى المبتدأ؛ فإنه يكتفى بها عن الرابط، مثاله: كنطقي الله حسبي. فنطق: مبتدأ مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، و(نطق) مضاف، و(الياء) مضاف إليه مبني على السكون في محل جر. الله: مبتدأ ثان مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعة ضمة ظاهرة في آخره. حسبي: خبر المبتدأ الثاني مرفوع بضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، و(حسب) مضاف والياء مضاف إليه مبني على السكون في محل جر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول. فلا حاجة للرابط هنا؛ لأن هذه الجملة هي معنى المبتدأ. فإذا قيل: هل هناك ضابط يقربها؟ قلنا: الضابط لذلك هو: أن تحل محل اسم الإشارة ، فإذا حلت محل اسم الإشارة صارت هي معنى المبتدأ، فمثلاً: نطقي الله حسبي، لو حذفنا (الله حسبي) تكون: نطقي هذا، يعني: هذا القول. على أن من المعربين من قال: إن الإخبار هنا ليس من باب الإخبار بالجملة بل هو من باب الإخبار بالمفرد؛ لأن هذه الجملة أريد لفظها، وهذا القول أسهل. وبناء على هذا القول نقول في قوله: نطقي الله حسبي، (نطق) مبتدأ، و(الله حسبي) كلها: خبر المبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية. وهذا هو الحقيقة والواقع؛ لأن قولك: نطقي الله حسبي، يعني: أن (نطق) مبتدأ، و(الله حسبي) الخبر، فهي جملة واحدة في الحقيقة، ونظير ذلك ما سبق لنا عند أول الألفية وهو: ( قال محمد ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك). وقلنا: إن قوله: (أحمد ربي... إلى آخر حرف في الألفية) في محل نصب مقول القول. وفي الحديث الصحيح: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله)، فخير: مبتدأ وهو مضاف إلى ما الموصولة، يعني: خير الذي قلت، ولا إله إلا الله، هي الخبر، وإعرابها بالتفصيل: (لا) نافية للجنس، و(إله) اسمها، وخبرها محذوف، والاسم الكريم بدل منه. أو نقول: لا إله إلا الله خبر (خير) مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الحكاية. والأول هو رأي ابن مالك وأكثر النحويين. أما قوله: (وكفى) فليس له دخل في الجملة، ويعني: هو كاف، مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].

 

حكم ربط الخبر المفرد بالمبتدأ

  

 

قال المؤلف: (والمفرد الجامد فارغ) الجامد هو ما ليس بمشتق؛ لأنه قال: (وإن يشتق) والمعنى: إذا كان الخبر مفرداً جامداً فهو فارغ من الضمير بدليل قوله: وإن يشتق فهو ذو ضمير مستكن. وقد أورد بعض الناس إشكالاً على كلام ابن مالك في قوله: (فارغ) أنه ليس فيه بيان. فنقول: فيه بيان؛ لأنه لما جاء بقسيمه (وإن يشتق فهو ذو ضمير) عرفنا أن المراد أنه فارغ من الضمير. قوله: (وإن يشتق فهو ذو ضمير مستكن) وهذا الضمير لابد أن يكون مستكناً، أي: مستتراً وجوباً. ومثال ذلك: زيد رجل، فرجل ليس فيه ضمير؛ لأنه غير مشتق. وزيد أخوك، كذلك جامد وليس فيه ضمير. ومثله: زيد أسد، وقولنا: زيد مفتاح كل خير، هذا مشتق من الفتح لكن لا يتحمل الضمير؛ والمقصود بالمشتق هو اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة، وليس معنى المشتق ما اشتق من مصدر، وذلك لأن المفتاح لا يتحمل ضميراً. فإذا كان الخبر مشتقاً فلابد أن يتحمل الضمير، ويكون الضمير مستتراً وجوباً. وإذا كان الخبر غير مشتق؛ فإنه فارغ لا يتحمل الضمير. وقال بعضهم: إنه يتحمل الضمير مطلقاً، وإن قولك: زيد أخوك، أي: زيد منسوب إليك، فيؤلون الأخوة إلى مشتق. وزيد أسد، يقولون: التقدير: زيد شجاع، والشجاع مشتق من الشجاعة، لكن الذي ذكره المؤلف أقرب إلى الصواب؛ لأن ذاك فيه شيء من التكلف. وإذا قيل: فلان قرطاس، فقرطاس جامد، لكن على رأي من يرى أن المؤول يمكن أن يكون بمعنى المشتق، والقرطاس هو الريشة التي في الجدار. يقول المؤلف: (وأبرزنه مطلقاً) أي: أبرزن الضمير المستتر. مطلقاً، والإطلاق، يقول العلماء: يفهم معناه من قيد سابق أو قيد لاحق، فإذا قلت: أكرم زيداً إن اجتهد، وعمراً مطلقاً؛ يعني: إن اجتهد أو لم يجتهد. وإذا قلت: أكرم عمراً مطلقاً، وأكرم زيداً إن اجتهد، فمطلقاً يعني: اجتهد أو لا، لكن الإطلاق فهمناه في المثال الثاني من قيد لاحق. وفي المثال الأول من قيد سابق. هنا يقول: [وأبرزنه مطلقاً حيث تلا ما ليس معناه له محصلاً] فالواقع أنه ليس هناك قيد سابق ولا لاحق، لكن المراد هنا بالإطلاق: أبرزنه على كل حال، سواء اتضح المعنى أو لم يتضح. (حيث تلا) الضمير يعود على المشتق. ومعنى (تلا) أي: تبع. (ما ليس معناه) أي: معنى الخبر، (له) أي للمبتدأ (محصلاً). وقوله: (ما) تعود على المبتدأ؛ ولهذا يمكن ألا نعربها موصولاً، بل نعربها على أنها نكرة موصوفة. فيكون معنى البيت: أبرز الضمير المستتر في الخبر مطلقاً حيث تلا الخبر مبتدأ ليس معنى الخبر للمبتدأ محصلاً. وهذا البيت فيه تشتيت للضمائر؛ ولهذا يعتبر بعيداً عن البلاغة. يعني: أن الوصف إذا تلا المبتدأ وهو لا يعود معناه عليه؛ فإنه يجب أن يبرز الضمير. مثاله: زيد عمرو ضاربه، فضاربه خبر عن عمرو، إذا اقتصرنا على هذا، فليس فيه إشكال فقد تمت الجملة، فالمتصف بالضرب هو عمرو؛ لكن إذا أردت أن تخبر أن الضارب زيد، فقلت: زيد عمرو ضاربه، إذا قلت: الضارب هو زيد، فيجب أن تقول: ضاربه هو؛ لأن الوصف الآن تلا ما ليس معناه له، فلما تلا ما ليس معناه له، وجب أن يبرز الضمير. فالقاعدة: أنه إذا كان الوصف خبراً لما لا يعود معناه إليه وجب إبراز الضمير مطلقاً. وفي قولنا: زيد هند ضاربها يجب إبراز الضمير إذا كنت أريد أن زيداً هو الضارب. وابن مالك يقول: مطلقاً، ونحن الآن نقرر ما قال ابن مالك . وذهب بعض النحويين إلى أنه لا يجب إبرازه إلا إذا خيف اللبس، بحيث لا ندري من الضارب، أو إذا كان يوهم خلاف المقصود، وعلى هذا فإذا قلت: زيد عمرو ضاربها، فلا يجب إبراز الضمير؛ لأن الضارب معلوم وهو زيد، فاللبس هنا مأمون. وهذا هو القول الراجح؛ بناء على القاعدة النحوية القوية وهي: أنه متى دار الأمر بين التسهيل والتعسير فعليك بالتيسير. ولو قلت: زيد هند ضاربته؛ فلا يحتاج إلى أن أقول: هي؛ لأن الخبر وقع وصفاً لمن هو له، فضاربته خبر هند، فلا يحتاج إلى إبراز الضمير حتى على رأي ابن مالك .

 

 

 

 

الإخبار بشبه الجملة

  

 

قال المؤلف: [وأخبروا بظرف أو بحرف جر ناوين معنى كائناً أو استقر] كأن أحداً قال لـابن مالك : أنت قسمت الخبر إلى مفرد وجملة فقط، فماذا تقول: فيما إذا قال القائل: محمد في البيت، محمد عندك؟ وهذا شيء مشتهر في اللغة العربية، فالعرب يخبرون بالظرف ويخبرون بحرف جر. واستغنى بقوله: بحرف جر عن قول: جار ومجرور، وإلا فالحرف وحده ليس بشيء، لكن بحرف جر مع مجروره. فقال: (ناوين معنى كائن) وهذا مفرد، أو (استقر) وهذا جملة، فكأنه يقول: حتى الظرف والجار والمجرور لا يخرجان عن كونهما مفرداً أو جملة، إن قدرنا معنى كائن فالخبر مفرد، وإن قدرنا (استقر)، فالخبر جملة؛ ولهذا نقول: محمد في البيت، (في البيت) جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره (كائن) خبر المبتدأ، أو نقول: (في البيت) جار ومجرور متعلق بمحذوف تقديره (استقر)، فالخبر في الأول مفرد وفي الثاني جملة. والأولى أن نقدر (كائن)؛ لأن الأصل في الخبر أن يكون مفرداً؛ ولأنا لو قدرنا الخبر جملة لكان مركباً، والأصل عدم التركيب، ويحتاج أن تقول: الجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ، والرابط الضمير المستتر وما أشبه ذلك، فإذا قدرته مفرداً لم تحتج إلى هذا؛ ولهذا: قدم (كائن) على (استقر). وقال بعض العلماء: إن الجار والمجرور والظرف نفسه هو الخبر، فيقولون: زيد في البيت، (في البيت) جار ومجرور خبر المبتدأ، ولا حاجة إلى التقدير. وعلى هذا يكون الخبر ثلاثة أقسام: مفرد وجملة وشبه جملة، وهذا القول هو الراجح بناء على القاعدة الراجحة الصحيحة الواضحة: وهو أن الأصل التسهيل وعدم التقدير، فنقول: الجار والمجرور هو الخبر، وكذلك الظرف هو الخبر.

 

حكم الإخبار بالزمن عن الذات

  

 

يقول المؤلف: [ولا يكون اسم زمان خبـراً عن جثة وإن يفد فأخبرا] فلا يكون اسم زمان خبراً عن جثة، يعني: عن شخص، وأما المكان فيكون خبراً عن الجثة، وعن الفعل وعن كل شيء، مثال ذلك: زيد عندك، فالظرف هنا ظرف مكان، وكذلك: العلم عنده، والمبتدأ العلم معنى. إذاً ظرف المكان يقع خبراً عن الجثة وعن المعنى، ولا إشكال فيه. وظرف الزمان يقع خبراً عن المعنى، ولا يقع خبراً عن الجثة، فتقول: القتال اليوم، الحج اليوم، وما أشبه ذلك. أما إذا قلت: الرجل اليوم، فلا يصح، إذ لا يمكن أن يكون اسم الزمان خبراً عن جثة. وعبر ابن هشام عن كلمة جثة بذات، فقال: ولا يخبر بالزمان عن الذات، وقوله: ألطف من كلام ابن مالك ؛ لأن جثة يتصور القارئ أو السامع أن شاة ميتة حوله. والمقصود أنه لفظ ليس بذاك اللفظ الذي ترتاح له النفس. فإن وقع ظرف زمان خبراً عن ذات؛ فإنه يكون مؤولاً. وابن مالك يقول: (وإن يفد فأخبرا) أي: ولو كان الخبر ظرف زمان عن جثة أو عن ذات. أما ابن هشام فيرى أنه لا يجوز أن يخبر بالزمان عن الذات، وأنه إذا وقع وجب التأويل، مثاله قوله: الهلال ليلة الإثنين، فالهلال جثة، وليلة زمان، لكن هذه الكلمة شائعة عند العرب، يقولون: الليلة الهلال، أو الهلال ليلة أمس، أو الهلال ليلة الإثنين وما أشبه ذلك، فـابن مالك يقول: لا بأس أن تخبر بالزمان عن الجثة بدون تأويل؛ لأن المقصود فهم المعنى، وإذا أفاد السياق فلا حاجة إلى تقدير، وهذا مذهب سهل. أما ابن هشام رحمه الله فيقول: لا يمكن أن يخبر بالزمان عن الجثة، فإن وقع شيء من ذلك في كلام العرب فإنه مؤول، فيؤول بـ: الليلة طلوع الهلال. وعلى كل حال فهم متفقون على أنه متى أفاد سواء بتأويل أو بغير تأويل فإنه يقع خبراً عن الذات. وخلاصة البيت أن اسم المكان يقع خبراً عن الذات والمعنى، وأخذنا ذلك من قوله فيما سبق: (وأخبروا بظرف او بحرف جر) ثم استثنى أنه لا يكون اسم الزمان خبراً عن جثة فيكون الإخبار بظرف المكان عن الجثة وعن المعنى داخلاً في قوله: (وأخبروا بظرف). ولا يخبر بظرف الزمان عن الجثة -أي عن الذات- أما عن المعنى فيخبر، وإن أفاد يجوز الإخبار به عن الذات على رأي ابن مالك رحمه الله. وما ذهب إليه ابن مالك أولى؛ لأن المقصود من الكلام الفائدة.

  


 

شرح ألفية ابن مالك [18]

 

الأصل في الترتيب بين المتبدأ والخبر أن يتقدم المبتدأ ويتأخر الخبر، والأصل في المبتدأ أن يكون معرفة؛ لأنه محكوم عليه، لكن قد يرد ما يخالف الأصل لأسباب ذكرها النحاة.

 

مسوغات الابتداء بالنكرة

  

 

ثم قال: [ولا يجوز الابتدا بالنكره]. من أحكام المبتدأ أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة؛ لأن المبتدأ محكوم عليه، ولا بد أن يكون المحكوم عليه معروفاً، والنكرة غير معروفة، فكيف يحكم على غير معروف، فلا تقل: رجل في البيت، ورجل قائم. قال: [ما لم تفد كعند زيد نمره] يعني: ما لم تفد النكرة، فإن أفادت بعموم أو خصوص أو غير ذلك فإنه يجوز، مثاله: عند زيد نمره: عند زيد: ظرف خبر مقدم. نمرة: مبتدأ مؤخر. والنمرة نوع من اللباس، وهي نكرة ومع ذلك جاز الابتداء بها. فنأخذ من هذا المثال قاعدة وهي: أنه يجوز الابتداء بالنكرة إذا وقعت متأخرة، مثل: عند زيد نمرة، وفي البيت رجل. قال: [وهل فتىً فيكم]. المبتدأ: فتىً، وهو في موضعه مقدم، والخبر (فيكم) وهو في موضعه مؤخر، فجاز الابتداء به وهو نكرة لأنه سبق بأداة استفهام. إذاً نأخذ قاعدة وهي: أنه إذا سبق النكرة أداة استفهام جاز الابتداء بها؛ لأن الاستفهام أدخل على النكرة العموم، والعموم معنىً زائد على الذات. فقوله: (فتىً) يدل على الفتوة، والاستفهام (هل فتىً؟) عموم، لأنه يسأله: أي فتى؛ هل فتى فيكم ؟ والعموم معنىً زائدٌ على الذات، يعني على المعنى المفهوم من كلمة (فتىً) فجاز الابتداء؛ لأنه أفاد معنىً وهو العموم. قال: [فما خل لنا]. خل: نكرة، وابن مالك ضرب هذا المثال على لغة بني تميم؛ لأنه لو أراد لغة الحجازيين لصارت (خل) اسماً لما الحجازية التي تعمل عمل ليس، فلو أراد المؤلف أن يعمل (ما) هنا لم تكن من هذا الباب، بل تكون من باب النواسخ، لكنه أراد بهذا المثال لغة بني تميم. يقول الشاعر: ومهفهف الأعطاف قلت له انكسر فأجاب ما قتل المحب حرام فرفع (قتل) فدل على أن (ما) مهملة وهذه لغة بني تميم. وابن مالك الآن في قوله: (ما خل لنا) تميمي. و(الخل) المحب، والخلة أعلى أنواع المحبة، وقد شرحها الشاعر بأكمل شرح فقال يخاطب معشوقته: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا فمسلك الروح يعني: مجاري الدم التي تصل إلى أعماق القلب؛ ولهذا ذكر ابن القيم في كتاب روضة المحبين الذي شكك بعض الناس بنسبته لـابن القيم : أن المحبة عشرة أنواع أعلاها الخلة. ولهذا لم تثبت فيما نعلم إلا للخليلين محمد وإبراهيم، بخلاف المحبة، فهي ثابتة للمؤمنين، للمقسطين، للمتقين وغير ذلك. وبهذا فالذين يعظمون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيقولون: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، نقول لهم: ويلكم! قد انتقصتم مرتبة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمحمد خليل الله كما أن إبراهيم خليل الله؛ ولهذا لم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أحداً خليلاً له، واتخذ حبيباً له عائشة رضي الله عنها، ويحب أباها ويحب أسامة وغيرهم، لكن لم يتخذ خليلاً بل جعل ربه سبحانه وتعالى خليلاً، قال: (لو كنت متخذاًَ من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا). وقول ابن مالك : (فما خل لنا) هل أراد معناها وأنه جعل أعلى المحبة لله، ويكون المعنى: فما خل لنا سوى ربنا، أم أنه مثال ضرب فقط؟ الجواب: الأول؛ لأن بإمكانه أن يبدل الكلمة بكلمة أخرى لا يختل بها الوزن، فلو قال: (فما حب لنا)، لاستقام الوزن. لكن يبدو -والله أعلم- أنه أراد أن يقول: لا خل لنا إلا ربنا، أي فما خل لنا من الناس. الشاهد: أن (خل) نكرة وابتدئ بها؛ لأنها سبقت بحرف نفي، وعلى هذا فنقول: إذا سبقت النكرة بحرف نفي جاز الابتداء بها؛ لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم، فالعموم معنىً زائد على الذات. قوله: [ورجل من الكرام عندنا]. (رجل) نكرة لكنها وصفت بقوله: (من الكرام)، قوله: (عندنا) هي الخبر، فلما وصفت تخصصت، فاستفدنا معنىً زائداً على مجرد الذات. فلما قلنا: (رجل من الكرام) خرج به الرجل الذي من اللئام، أو الرجل الذي ليس بلئيم وكريم. ويقال: إن ابن مالك أنشد هذا البيت وكان عنده النووي رحمه الله، فقال: ورجل من الكرام عندنا يعني: به النووي . وسواء صح هذا أم لم يصح فالمهم أن هذا المثال وقعت فيه النكرة مبتدأً؛ لأنها وصفت فتخصصت بالوصف فاستفدنا معنى ً زائداً على مجرد الذات. قال: [رغبة في الخير خير]. رغبة: مبتدأ، وخبره: خير، فلو قلت: رغبة خير لم يصح الكلام؛ لأننا لا ندري أي رغبة يريد، فإذا قال: (رغبة في الخير) خصصها، بأنها رغبة معينة. مثال آخر: ضارب رجلاً قائم، فهذا يصح؛ لأن النكرة عملت فإذا عملت فقد خصصها عملها فيجوز أن يبتدأ بها. قال: [وعمل بر يزيد]. (عمل): مبتدأ، وجملة (يزين) خبر المبتدأ، (وعمل) هنا نكرة وإن كان مضافاً؛ لأن المضاف إلى النكرة لا يتعرف، لكنها خصت بأنه ليس كل عمل هو المراد، بل المراد عمل البر، وبهذا أفادت. فإن قال قائل: أليست الإضافة فيها عمل المضاف في المضاف إليه؟ فالجواب: بلى. فيقول: فهل يقتضي من كلام ابن مالك أن يكون المثال مكرراً مع ما قبله؛ لأن الذي قبله (رغبة في الخير)، هذا عمل، (عمل بر يزين)، هذا عمل أيضاً. فيقال: أولاً: أن العلماء مختلفون في المضاف إليه، هل الذي عمل فيه المضاف أو الذي عمل فيه الحرف المقدر بالإضافة؛ لأن الإضافة تكون على تقدير (في) وعلى تقدير (من) فإن أضيف الشيء إلى نوع فالتقدير (من)، وإن أضيف إلى ظرفٍ فالتقدير (في)، وما عدا ذلك فالتقدير لام. فإذا قلت: خاتم فضة، فالتقدير (من) لأنها نوع. وفي قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سبأ:33] التقدير (في)؛ لأنه أضيف إلى زمن، وما عدى ذلك فاللام. فمن العلماء من يقول: إن العامل في المضاف إليه هو الحرف المقدر. وإذا قلنا بالقول الآخر: إن العامل في المضاف إليه هو المضاف؛ فإن عمل المضاف ليس كعمل المقطوع عن الإضافة في قوله: ( ورغبة في الخير )؛ لأن (رغبة) عملت في قوله: (في الخير) عمل العامل الناصب. قال: (وليقس ما لم يقل) وليقس، اللام هنا للأمر، فكأنه قال: وقس ما لم أقل على ما قلت. والعلة الجامعة التي يمكن أن نلحق بها الفرع بالأصل الإفادة؛ لأنه قال: (ما لم تفد)، فإذا كان أعطانا علة وهي الفائدة، نقول: كل ما حصلت به الفائدة فإنه يصح أن يقع مبتدأ، وفي هذا إثبات القياس في علم النحو وهو دليل من الأدلة النحوية. وقوله: (ما لم يقل) أي: ما لم أقله من المسوغات، مثل: سلام على المرسلين، فسلام: مبتدأ، وعلى المرسلين: خبره، مع أن سلام نكرة، لكنه مفيد؛ لكون كلمة (سلام) أفادت الدعاء. والمسوغات أوصلها بعضهم إلى ثلاثين مسوغاً، لكن كلها تدخل تحت قوله: (ما لم تفد). وابن هشام قال: إن عم أو خص، فجعل مناط الحكم العموم والخصوص، لكن كلام ابن هشام لا يخرج عن كلام ابن مالك ؛ لأنه لا تمكن الفائدة إلا بالعموم أو الخصوص.

 

متى يجوز أن يقدم الخبر

  

 

ثم قال: [والأصل في الأخبار أن تؤخرا وجوزوا التقديم إذ لا ضرر] هذا البيت يقول فيه ابن مالك : الأصل في الأخبار التأخير؛ لأن المبتدأ محكوم عليه، والمحكوم عليه لابد أن يتقدم على الحكم ليكون محلاً له. فأنت إذا قلت: زيد قائم، فقد حكمت على زيد بالقيام، فلا بد أن يتقدم المبتدأ الذي هو محكوم عليه على الخبر الذي هو المحكوم به، ليكون محلاً له، وإلا فكيف تحكم على شيء لم يوجد. فإذا كان الأصل في الأخبار أن تؤخر؛ فالأصل في المبتدأ أن يقدم. فالأصل أن تقول: (زيد قائم). قال: (وجوزوا التقديم إذ لا ضررا) أي: جوز النحاة والعرب تقديم الخبر بشرط أن لا يكون هناك ضرر. وقوله: (ألا يكون هناك ضرر) قد يوحي بأن الفاعل في جوزوا يعود على النحاة؛ لأن المراد بالضرر مخالفة القواعد أو اللبس، فإذا قلنا مخالفة القواعد فالمجوز هم النحويون، وإذا قلنا اللبس فالمجوز النحويون وأهل اللغة. والمهم أنه يجوز تقديم الخبر إذا لم يتضمن ضرراً من مخالفة للقواعد أو إيقاع في لبس وإشكال. هذا البيت ركب عليه الخباز ما يتعلق بخبزه، فقال: والأصل في الأخباز أن تخمرا وجوزا الفطير إذ لا ضرر وركب عليه الطالب أيضاً حين تخلف أستاذه عن الحضور فقال: والأصل في التدريس أن يؤبد ا وجوزوا قطعاً إذا شغل بدا

 

حالات امتناع تقديم الخبر

  

 

قال: [فامنعه حين يستوي الجزءان عرفاً ونكراً عادمي بيان]. فقوله: (فامنعه) يعود الضمير على التقديم، أي: فامنع تقديم الخبر. وقوله: (حين يستوي الجزءان) أي: إذا استوى الجزءان؛ والمراد بالجزءين: المبتدأ والخبر. (عرفاً ونكراً) يعني: إذا كانا معرفتين أو نكرتين ولم نعلم أيهما المبتدأ من قرينة حال، أو نحو ذلك، فهنا يمتنع تقديم الخبر ويتعين تقديم المبتدأ؛ لأجل أن نحكم بأن الثاني حكم على الأول بمقتضى الترتيب. مثال استوائهما عرفاً: إذا قلت: (زيد أخوك) كلاهما معرفة، وهنا تخبر بأن زيداً هو أخوك. فإذا قلت: أخوك زيد، التبس المعنى، فلا يجوز أن تقدم الخبر هنا؛ لأنك إذا قدمته التبس هل أنت تريد أن تخبر عن زيد بأنه أخوك، أو عن أخيك بأنه زيد، وبينهما فرق، فإذا قلت: (أخوك زيد) فالمعنى أنه لا يوجد أخ لك إلا زيد. وإذا قلت: زيد أخوك فيحتمل أن يكون هناك أخ ثان وثالث ورابع، فيلتبس المعنى، فحينئذٍ لابد أن يبقى كل جزء في محله. أما إذا قلت: ابن القيم ابن تيمية ، فهذا تركيب صحيح، ولو قلت: ابن تيمية ابن القيم يصلح أيضاً؛ لأننا نعلم أن ابن تيمية خبر مقدم وابن القيم مبتدأ مؤخر؛ لأننا نعرف أن المراد تشبيه ابن القيم بـابن تيمية . ومثل ذلك قول النحويون: أبو يوسف أبو حنيفة . فالخلاصة: أنه إذا استوى المبتدأ والخبر في المعرفة وجب أن يبقى الخبر في مكانه، ولا يجوز تقديمه إلا إذا كان هناك دليل يبين الخبر. مثال الاستواء في النكرة قولهم: أفضل من عمرو أفضل من بكر، فإذا كنت تريد أن تقول: كل من كان أفضل من عمر فهو أفضل من بكر، فالترتيب: أفضل من عمرو أفضل من بكر، فلو قدمت لالتبس المعنى وكان كل من كان أفضل من بكر فهو أفضل من عمرو، وحينئذ يلتبس فنقول: إذاً يجب أن يبقى كل واحد في مكانه. ثم قال: (كذا إذا ما الفعل كان الخبر). يعني: كذا يمتنع تقديم الخبر إذا كان فعلاً، مثل: زيد قام، فلا يجوز أن أقدم (قام) على أن زيداً مبتدأ مؤخر. أما لو قدمتها على أن زيداً فاعل فهذا لا بأس به، ولكنه ليس من هذا الباب. فإذا قال قائل: ما الفرق بين أن أقدم (قام) على أنها خبر المبتدأ، وبين أن أقدم (قام) على أنها فعل وفاعلها زيد؟ نقول: إذا قدمت (قام) على أنها خبر مقدم، فإنها تتحمل ضميراً، لأن (زيد) مبتدأ مؤخر و(قام) فعل ماض وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو، والجملة خبر مبتدأ، فيكون إسناد القيام إلى زيد قد وقع مرتين: أسندنا القيام إليه باعتباره خبراً، وأسندنا القيام إليه باعتباره فاعلاً، وفرق بين أن نسند القيام إليه مرتين أو مرة واحدة. ومن هنا نعرف أن قول ابن مالك رحمه الله: (كذا إذا ما الفعل كان الخبرا) فيه تسامح ويعترض عليه؛ لأن الفعل لا يكون خبراً وإنما يكون الخبر الجملة الفعلية. فإذا قلت: الرجلان قاما، فـ(الرجلان) مبتدأ و(قاما) فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ. فهل يجوز في هذه الحال أن أقدم قام؟ الجواب: نعم، يجوز أن أقدم قام؛ لأنه لا يلتبس هنا المبتدأ بالفاعل، فتكون (قاما) فعل وفاعل، و(الرجلان) مبتدأ مؤخر. أما على لغة أكلوني البراغيث فإنه لا يجوز التقديم؛ لأنهم يعربون (الرجلان) فاعلاً، وحينئذٍ يكون كقولنا: قام زيد فلا يجوز التقديم، لكن المعروف أن المشهور من لغة العرب الأول. يقول المؤلف: [أو قصد استعماله منحصرا]. أي: إذا قصد الحصر فإنه يجب الترتيب، مثاله: إنما زيد قائم، (زيد) مبتدأ و(قائم) خبر، فزيد حصر في القيام، كأني قلت: (ما زيد إلا قائم). ولكن ما الفرق بين (إنما زيد قائم) وبين (إنما قائم زيد)؟ والفرق إذا قلت: (إنما زيد قائم) فهذا يقتضي انحصار زيد في حال القيام ولا يمنع مشاركة غيره معه، يعني: وعمرو وخالد وبكر إلى آخره، فلا يمنع قيام غيره، لكن يمنع أن يكون هو قاعداً. وإذا قلت: (إنما قائم زيد) أو (إنما القائم زيد) معناه: لا قائم غيره. فأنت إذا قلت: إنما زيد قائم، تريد أن تحصر زيد في القيام فبدأت بالمبتدأ وأخرت الخبر، فلو أردت أن تقدم الخبر في هذه الحال قلنا: لا يجوز؛ لأنك إذا قدمت الخبر اختلف المعنى. قال: [أو كان مسنداً لذي لام ابتداء]. أي: أو كان الخبر مسنداً لمبتدأ فيه لام الابتداء؛ فإنه لا يجوز أن يقدم الخبر. مثاله: لزيد قائم، اللام هذه لام الابتداء، فلا يجوز أن أقول: قائم لزيد؛ لأن هذا تناقض، فلام الابتداء يجب أن تكون في صدر الجملة. (أو لازم الصدر كمن لي منجدا). وكذلك إذا كان الخبر مسنداً لمبتدأ له الصدارة؛ فإنه لا يجوز تقديمه. مثاله: (من لي منجدا)، فمَنْ: مبتدأ، ولي: خبره، ومنجداً: حال. والمعنى: إذا كان المبتدأ له الصدارة فإنه لا يجوز أن يتقدم خبره عليه. فالضمير في قوله: (كان مسنداً) يعود على الخبر. وهناك كلمات يجب أن يكون لها الصدارة في الكلام، مثل: الاستفهام أو اسم الشرط أو كم الخبرية أو ما التعجبية. فإذا كان المبتدأ له الصدارة؛ فإنه لا يجوز تقديم الخبر عليه مثل: من لي؟ فلا يجوز أن أقول: لي من. ومثال أوضح: من زيد؟ لا يجوز أن أقول: زيد من؛ لأن المبتدأ له الصدارة، وإذا كان له الصدارة، فإنه لا يمكن أن يتقدم الخبر فيكون في محله؛ لأنه يفوت المحل الأصلي وهو الصدارة. وتنحصر مواضع امتناع تقديم الخبر في خمسة مواضع: الأول: إذا استوى المبتدأ والخبر في التعريف والتنكير. الثاني: إذا كان الخبر جملة فعلية. الثالث: إذا كان محصوراً فيه. الرابع: إذا كان مسنداً لمبتدأ فيه لام الابتداء. الخامس: إذا كان مسنداً لما له الصدارة. والفرق بين ما فيه لام الابتداء وما له الصدارة في الرابع والخامس أن ما له الصدارة استحقها بنفسه وبدون واسطة، أما ما فيه لام الابتداء فاستحق الصدارة لدخول لام الابتداء عليه.

 

حالات وجوب تقديم الخبر

  

 

ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى ما يجب فيه تقديم الخبر بعد أن ذكر ما يمتنع فيه تقديم الخبر؛ فقال: [ونحو عندي درهم ولي وطر ملتزم فيه تقدم الخبر] هذا بيت كامل خلاصته: أنه متى كان المبتدأ نكرة لا مسوغ له إلا التأخير، فيمتنع تقديمه؛ لأن أصل النكرة لا يجوز الابتداء بها، فإذا كان لا يجوز الابتداء بها إلا لتأخيرها ثم قدمناها ارتكبنا الممنوع. فإن كان نكرة له مسوغ سوى التأخير جاز تقديمه. مثل: رجل من الكرام عندنا؛ فالمبتدأ نكرة وهو مقدم الآن، والمسوغ لتقديمه أنه وصف. لكن: عندي درهم؛ درهم: نكرة ليس له مسوغ إلا التأخير؛ فلذلك امتنع تقديمه. والأمثلة التي ذكرها المؤلف فيما سبق كقوله: عند زيد نمرة، فنمرة نكرة سوغ الابتداء بها التأخير، إذاً يمتنع أن تقدم، فلا يصح أن أقول: نمرة عند زيد. وإذا قلنا: عندي درهم صحيح، يجوز تقديمه؛ لأنه وصف، فتقول: درهم صحيح عندي. فالقاعدة الأولى في وجوب تقديم الخبر أن يكون المبتدأ نكرة لا مسوغ له إلا التأخير. وقوله: (ولي وطر). (وطر) نكرة، وهو مبتدأ، ولا مسوغ له إلا التأخير. فالمثالان سواء، إلا أن الأول خبره ظرف، والثاني خبره جار ومجرور. قال ابن مالك : [كذا إذا عاد عليه مضمـر مما به عنه مبيناً يخبر ] أي: كذا إذا عاد على الخبر ضمير، (مما) أي: من مبتدأ (به) أي بالخبر (عنه) أي عن المبتدأ، (مبيناً يخبر). والمعنى: إذا كان في المبتدأ ضمير يعود على الخبر فإنه لا يجوز تقدمه، وذكر بعضهم بيتاً أحسن من هذا فقال: كذا إذا عاد عليه مضمر من مبتدا وما له التصدر فجمع البيتين في بيت واحد مع الوضوح، فقوله: (كذا إذا عاد عليه) أي: على الخبر، (مضمر من مبتدأ) أي: ضمير من المبتدأ، (وما له التصدر) أي: ما له الصدارة فإنه يمتنع تأخيره. وخلاصة البيت: إذا كان في المبتدأ ضمير يعود على الخبر فإنه يتعين تقديم الخبر. المثال: في الدار صاحبها، فالمبتدأ (صاحب)، والضمير (ها) يعود على الدار، و(في الدار) هو الخبر المتعين تقديمه؛ لأنك لو قلت: صاحبها في الدار؛ لعاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة وهذا لا يجوز، إذ لابد للضمير من مرجع سابق. قال ابن مالك : [كذا إذا يستوجب التصديرا كأين من علمته نصيرا ] قوله: (كذا إذا يستوجب التصديرا) يعني: يجب تقديم الخبر إذا يستوجب التصديرا. (إذا) هنا بمعنى (حين) وليست شرطية، والمعنى: حين يكون الخبر مما له صدر الكلام كالاستفهام، مثل: أين زيدٌ؟ فهنا يجب أن نقدم (أين) التي هي الخبر، ولا يجوز أن نقول: زيد أين؟ وإن كان بعض العلماء يستعمل التأخير في مثل هذا، كما في محلى ابن حزم ، وكذلك في مؤلفات ابن القيم رحمه الله يقول: ثم كان ماذا؟ يريد: ثم ماذا كان، وهذا حسب القواعد العربية لا يصح؛ لأنه إذا كان الخبر له الصدارة وجب أن يتقدم. فقولنا: أين زيد؟ الخبر هو (أين)، وله الصدارة؛ لأنه اسم استفهام، فلا يجوز: زيد أين؟ ومن ذلك مثال المؤلف: (أين من علمته نصيراً). فـ(أين) خبر مقدم، و(مَنْ) مبتدأ مؤخر، و(علمته) فعل وفاعل ومفعول أول، و(نصيراً) مفعول ثان، ومعنى المثال: أين الذي ينصرك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وخبر المحصور قدم أبـدا كما لنا إلا اتباع أحمدا] يعني: يجب التقديم إذا حصر الخبر في المبتدأ، مثاله: ما لنا إلا اتباع أحمدا، يعني: محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فما: نافية. ولنا: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم. وإلا: أداة حصر. واتباع: مبتدأ مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه ضم آخره. واتباع: مضاف. وأحمد: مضاف إليه مجرور بالإضافة، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه اسم لا ينصرف، وعلتا المنع: العلمية ووزن الفعل. فهنا يجب أن يؤخر المبتدأ؛ لأنه محصور فيه. والقاعدة: أن المحصور فيه يتأخر، وسواء كان الحصر بإلا أو بغيرها من طرق الحصر، حتى لو قلت: إنما لنا اتباع أحمد وجب تأخير المبتدأ وتقديم الخبر. انتهى المؤلف رحمه الله من الترتيب بين المبتدأ والخبر، ولنستعيد ما سبق، فالأصل في الخبر التأخير، وقد يجوز تقديم الخبر على المبتدأ، وقد يمتنع تقديم الخبر، وقد يمتنع تقديم المبتدأ وكلها مذكورة في كلام المؤلف رحمه الله تعالى.

  


 

شرح ألفية ابن مالك [19]

 

الأصل ذكر المبتدأ والخبر، وقد يحذف أحدهما إذا دل عليه دليل، وقد يحذفان معاً إذا دل عليهما دليل، وقد يجب حذف الخبر في بعض التراكيب.

 

حذف المبتدأ والخبر

  

 

بقي بحث جديد، وهو حذف المبتدأ والخبر، أي: هل يجوز أن نحذف المبتدأ وأن نحذف الخبر؟ وهل يجوز أن نحذفهما جميعاً؟ بين المؤلف رحمه الله فقال: [وحذف ما يعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما وفي جواب كيف زيد قل دنف فزيد استغني عنه إذ عرف] هذا البيت في باب المبتدأ والخبر، وهذا الحكم ليس خاصاً بالمبتدأ والخبر، بل حذف كل ما يعلم من المبتدأ، أو الخبر، أو الحال، أو المفعول به جائز إذا كان معلوماً. ولهذا يعتبر هذا البيت قاعدة، وبه نعرف أن مبنى الكلام على العلم والفائدة. فقد سبق لنا أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تفد، كـعند زيد نمرة، وسبق لنا أنه إذا اشتبه المبتدأ بالخبر فإنه لا يجوز تقديم الخبر. إذاً فمبنى الكلام كله على الفائدة والعلم، فإذا كان من المعلوم ما يحذف جاز حذفه. ثم ضرب المؤلف أمثلة فقال: (كما تقول زيدٌ بعد من عندكما). سأل سائل فقال: من عندكما؟ يخاطب اثنين، فقالا: زيد، فالذي حذف هو الخبر، والتقدير: زيد عندنا. (وفي جواب كيف زيد قل دنف). سأل سائل فقال: كيف زيد؟ فقلت: دنف، أي: مريض. فدنف: خبر لمبتدأ محذوف، فالمحذوف المبتدأ، والتقدير: زيد دنف، أو هو دنف. وهل يحذف المبتدأ والخبر؟ الجواب: نعم، إذا علم المبتدأ والخبر حذفا، فلو قال لك قائل: أزيد قائم؟ فقلت: نعم. فالذي حذف المبتدأ والخبر؛ لأن (نعم) حرف جواب وليست جملة، يعني: نعم زيد قائم، فحذف الجزءان. وأما ما مثل به بعضهم وهو قوله تبارك وتعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، لحذف المبتدأ والخبر؛ فإن تمثيله ليس بصحيح، حيث قال: إن التقدير: واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، وذلك لوجهين: الأول: نحن لا نسلم أن المحذوف جملة، إذ من الممكن أن نقدر: (( وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ )) كذلك، و(كذلك) ليست جملة إنما هو مفرد، وكلما قل التقدير كان أولى، فلم يحذف فيها المبتدأ والخبر جميعاً. الثاني: سلمنا جدلاً أن المحذوف هو المبتدأ والخبر؛ لكن هذا المبتدأ والخبر هو في الحقيقة خبر؛ لأن المبتدأ والخبر هنا نائب عن خبر فقط؛ لأن (اللائي لم يحضن) مبتدأ، (عدتهن) مبتدأ ثان، و(ثلاثة أشهر) خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني والخبر في محل رفع خبر المبتدأ الأول. فالمحذوف حقيقة هو الخبر، فالتمثيل بالآية لا يصح للوجهين اللذين ذكرتهما. فالمثال الصحيح هو أن يقال: أزيد قائم ؟ فيقال: نعم أي: زيد قائم. إذاً ابن مالك رحمه الله أعطانا قاعدة ومثل بمثالين فقط، مثل بحذف الخبر، ومثل بحذف المبتدأ، ولم يمثل بحذفهما، فهل يقال: إن ابن مالك قصر في ذلك؟ فالجواب: لا؛ لأن المثال إنما يراد به بيان القاعدة، والقاعدة سبقت وهي حذف ما يعلم جائز، فهذا يشمل ما يعلم من مبتدأ أو خبر أو مبتدأ وخبر.

 

حالات حذف الخبر وجوباً

  

 

قال: (وبعد لولا غالباً حذف الخبر حتم). لما تكلم المؤلف عن جواز حذف المبتدأ والخبر ذكر المواضع التي يجب فيها حذف الخبر، كالاستثناء مما سبق، فكأنه قال: إلا في هذه المواضع فيجب الحذف. فبعد (لولا) يجب حذف الخبر، كقولك: لولا زيدٌ لغرقت؛ فعندنا مبتدأ ولم نجد له خبراً؛ لأن (لغرقت) جواب لولا، فالخبر محذوفٌ وجوباً، التقدير: لولا زيد موجود، أو لولا زيد حاضر. وقول ابن مالك رحمه الله: (غالباً) يعني: في أكثر الأحوال، ومفهومه أن من غير الغالب ألا يحذف الخبر بعد لولا، فيكون إبقاؤه قليلاً. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها: (لولا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) فقوم: مبتدأ، وحديثو عهد: خبر المبتدأ، ولهدمت الكعبة: جواب لولا، فهنا ذكر الخبر بعد لولا. ومن ذلك أيضاً قول الشاعر: فلولا الغمد يمسكه لسالا فقوله الغمد: مبتدأ. ويمسكه: خبر. ولسال: جواب لولا. فأنت ترى الآن أن الخبر وجد بعد (لولا) في كلام أفصح العرب وهو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي كلام العرب العرباء، فما الجواب عن هذا؟ الجواب عن هذا حسب كلام ابن مالك سهل؛ فهذا من القليل الذي لا يحذف فيه خبر المبتدأ مع لولا، وإذا سلكنا هذا المسلك صار الأمر سهلاً، فكلما جاءك الخبر مع وجود لولا فقل: هذا من القليل. لكن بعض النحويين يقول: إن الخبر بعد لولا: إما أن يكون كوناً عاماً، وإما أن يكون شيئاً خاصاً لا دليل عليه، وإما أن يكون شيئاً خاصاً عليه دليل. فإن كان كوناً عاماً وجب الحذف، وإن كان شيئاً خاصاً وجب الذكر إذا لم يكن له دليل، وإذا كان شيئاً خاصاً لكن في الكلام ما يدل عليه فحذفه جائز، ووجوبه قليل. وهذا جيد؛ لأنه إذا كان الخبر شيئاً خاصاً ولكنه لا يعلم فلابد من ذكره. ففي الحديث: (لولا قومك حديثو عهد بكفر) لو حذفنا (حديثو عهد بكفر) لا يمكن أن نقدر: لولا قومك موجودون، يعني: لا يمكن أن نقدره كوناً عاماً؛ لأنه ليس المانع وجود قومها، إنما المانع هو كونهم حديثي عهد، فمجرد وجودهم لا يمنع هذا الذي أراد الرسول عليه الصلاة والسلام، لذلك كان لابد من ذكره. وإذا كان خاصاً لكن يدل عليه الدليل، مثل: لولا زيدٌ لهلكت من الجوع، هنا لا يمكن أن تقدر كوناً عاماً، فلا نقول: لولا زيدٌ موجود لهلكت من الجوع؛ لأن وجود زيد ليس سبباً لكونك تسلم من الموت بالجوع، لكن المعنى: لولا زيدٌ أطعمني لهلكت من الجوع. فكلمة (أطعمني) خاص لكن دل عليه دليل: لهلكت من الجوع. إذاً في هذه الحال يجوز أن يذكر الخبر ويجوز أن يحذف، فيجوز أن تقول: لولا زيدٌ أطعمني لهلكت من الجوع، ويجوز أن تقول: لولا زيدٌ لهلكت من الجوع. ومن ذلك قول الشاعر: لولا الغمد يمسكه لسالا. لو قال: لولا الغمد لسال، لجاز؛ لأن المعنى مفهوم، فإنه إذا كان في الغمد سيمسكه الغمد ولا يمكن أن يسيل، فصار ذكر (يمسكه) وحذفها على حد سواء؛ لأنها معلومة من السياق. فالأول يحتج به الطالب المبتدئ، إذا قال: كيف تقول في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا قومك حديثو عهد بالكفر)؟ يقول: وبعد لولا غالباً ليس دائماً، وهذا من القليل ويكفيه على رأي ابن مالك . وإذا كان طالب علم فسيجيبه، ويقول: الكون هنا ليس كوناً عاماً، بل هو شيء خاص لابد من ذكره؛ يعني يجوز مثلاً أن يكون المعنى: لولا قومك منعوا لبنيت الكعبة، لولا قومك حاضرون لبنيت الكعبة، إذاً لابد أن يقول: لولا قومك حديثو عهد، حتى تزول هذه الاحتمالات. وإن قيل: ما تقول في قول الشاعر: فلولا الغمد يمسكه لسالا؟ أقول: هذا لا شك أنه خاص؛ لأنه ليس المانع وجود الغمد، إنما المانع كون الغمد يمسكه. إذاً نقول: كان مقتضى القاعدة أن يجب حذفه لكونه بعد (لولا)، لكن لابد من ذكره؛ لأنه خاص إلا أن وجوب الذكر عارضه العلم به من حيث السياق؛ لأن قوله: (لسال)، يدل على أن المعنى: لولا الغمد يمسكه. فلذلك نقول: (لولا الغمد يمسكه) يجوز حذفه ويجوز ذكره. وأما (لولا قومك حديثو عهد) فيجب ذكره. وأما في قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ [الحج:40] فلا يجوز ذكره؛ لأن المقصود مجرد وجود الدفع، أي: ولولا دفع الله الناس موجود لهدمت صوامع. وفي قوله تعالى: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31]، أي: لولا أنتم صددتمونا، هذا شيء خاص لكن بدليل قوله تعالى: أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ [سبأ:32]، فصار هذا معلوماً من السياق. ومما حذف فيه الخبر قوله تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82] والتقدير: لولا منة الله موجودة لخسف بنا. فخلاصة القول الآن: إن ابن مالك في هذا الكتاب سلك مسلكاً يكون به مخرجاً للمبتدئ إذا أورد عليه ذكر الخبر بعد لولا؛ يقول: حذفه غالب وهذا من غير الغالب. وأما التفصيل الذي قيل فهو تفصيل حسن من حيث المعنى، وهو أن يقال: الخبر بعد (لولا) ثلاثة أقسام: كون عام، وشيء خاص لا دليل عليه، وشيء خاص عليه دليل، فالأول: يجب فيه الحذف، والثاني: يجب فيه الذكر، والثالث: يجوز فيه الوجهان. قال المؤلف: [وفي نص يمين ذا استقر] في نص: خبر مقدم أو متعلق بالخبر. ذا استقر: وذا: مبتدأ، وجملة (استقر) خبره. يعني: واستقر الحذف الواجب في نص يمين. فإذا كان المبتدأ نص يمين في القسم فإنه يحذف الخبر وجوباً، مثاله: لعمر الله لأفعلن، فهنا (عمر) مبتدأ، وهو نص في اليمين فيحذف الخبر وجوباً. ولا يجوز أن تقول: لعمر الله قسمي، بل يجب عليك حذف الخبر، لأن هذا هو المعروف من لغة العرب، والقواعد النحوية بنيت على كلام العرب، وليس كلام العرب مبنياً على القواعد، ولهذا فكلام العرب يحكم على قواعد النحويين لا والعكس. وفي قوله: (وفي نص يمين) مفهومه أنه إذا كان دالاً على اليمين ولكن ليس نصاً فيه فإنه يجوز الحذف وعدمه, مثل أن تقول: (عهد الله لأفعلن)، فهنا (عهد) يحتمل أن تكون يميناً، ويحتمل أن تكون ميثاقاً، فهي ليست نصاً في اليمين؛ ولهذا يجوز أن تقول: ( عهد الله علي، أو تقول: علي عهد الله لأفعلن ) ولا يجب حذف الخبر هنا؛ لأن المبتدأ ليس نصاً في اليمين. وخلاصة القول: أنه يجب حذف الخبر إذا كان المبتدأ نصاً في اليمين، والمثال: لعمر الله لأفعلن، والعمر هنا بمعنى الحياة. فإن لم يكن نصاً في اليمين لكنه دال على اليمين جاز الذكر والحذف ومثاله: ( عهد الله لأفعلن ) فيجوز أن تذكر الخبر وتقول: (علي عهد الله لأفعلن، أو عهد الله علي لأفعلن) لأن المبتدأ هنا ليس نصاً في اليمين. فإن قال قائل: لعمري لا أفعلن، فهو يحلف بحياته والأصل ألا يحلف، لكن الحلف هنا ليس بصيغة القسم، والممنوع أن يكون بصيغة القسم، مثل أن يقول: (وعمري لأفعلن)، فهذا لا يجوز، لكن لو قال: لعمري؛ يجوز وقد جاءت في السنة، وأيضاً جاءت عن الصحابة، وهي بمعنى القسم؛ لأنه حتى التحريم المجرد يكون حكمه حكم القسم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبعد واو عينت مفهوم مع كمثل كل صانع وما صنع] قوله: (وبعد واو عينت مفهوم مع) هذا الموضع الثالث مما يجب فيه حذف الخبر، فيجب حذف الخبر بعد واو المعية التي لا يصح أن تكون عاطفة، مثل: (كل صانع وما صنع) فالخبر محذوف والتقدير: كل صانع وما صنع مقترنان. و(كل) مبتدأ، و(صانع) مضاف إليه، و(الواو) للمعية. و(ما صنع) يحتمل أن تكون (ما) موصولة، أي: والذي صنعه، ويحتمل أن تكون مصدرية أي: وصنعته، وهذا أقرب، فنقول: كل صانع وصنعته مقترنان. وكذلك: كل طالب وكتابه، وكل إنسان وثوبه. فإذا كانت الواو بمعنى: (مع) وهي نص في المعية، فإن الخبر يكون محذوفاً وجوباً. ولو قال قائل: إن الواو هنا بمعنى: (مع) فتكون ظرفاً ويكون الظرف هو الخبر؛ والتقدير: كل صانع كائن مع صنعته، وكل إنسان كائن مع ثوبه، وكل إنسان كائن مع كتابه، وما أشبه ذلك، نقول: لو قيل بهذا لكان له وجه؛ لأنه إذا تعينت أن تكون الواو بمعنى: (مع) فإن (مع) ظرف يصح أن يكون خبراً. وقوله: (عينت مفهوم مع) يفهم منه أنه لو كانت الواو صالحة لأن تكون عاطفة، ولم تكن متعينة للمعية؛ فإنه لا يجب حذف الخبر، مثل أن تقول: (زيد وعمرو مصطحبان). وحينئذ نقول: إن كان الخبر معلوماً جاز حذفه وذكره، وإن كان الخبر خاصاً لا يعلم مما تفيده الواو وجب ذكره. زيد وعمرو: الواو هذه عاطفة، ويجوز أن تكون للمعية لكنها لا تتعين، فإذا قلت: زيد وعمرو، فالواو تفيد اقترانهما في المجيء، فتقول: مقترنان، ويجوز أن تحذف الخبر. أما لو كنت تريد أن تقول: زيد وعمرو مقتتلان، فهنا لا يجوز الحذف، لأنك إذا قلت: زيد وعمرو، وأنت تريد مقتتلان، لا يفهم هذا؛ بخلاف زيد وعمرو مقترنان؛ لأن الواو تقتضي الاشتراك والاقتران. فصارت المسألة على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن تكون الواو بمعنى (مع)، ولا تحتمل العطف، فهنا يكون الخبر محذوفاً وجوباً، استغناءً عنه بواو المعية. والقسمان الثاني والثالث: أن يكون العطف بواو لا تتعين للمعية، فهنا نقول: إن دل دليل على الخبر المحذوف جاز ذكره وحذفه، وإن لم يدل عليه دليل وجب ذكره. قال: [وقبل حال لا يكون خبرا عن الذي خبره قد أضمرا كضربي العبد مسيئاً وأثم تبييني الحق منوطاً بالحكم] إذا أتى المبتدأ وبعده حال لا تصح أن تكون خبراً فإنه يجب تقدير الخبر، ويكون في هذه الحال محذوفاً مثاله: ضربي العبد مسيئاً: (ضرب): مبتدأ مرفوع بالضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، وهو مضاف والياء مضاف إليه مبني على السكون في محل جر. والضرب هنا مضاف إلى الفاعل. و(العبد): مفعول به. (مسيئاً): حال من العبد، يعني: ضربه حال إساءته. ولا يصح أن يكون (مسيئاً) خبراً لضرب؛ لأن الضرب لا يوصف بالإساءة، إنما ا

 

تعدد الأخبار

  

 

ثم قال: [وأخبروا باثنين أو بأكثر عن واحد كهم سراة شعرا] (أخبروا) الضمير يعود على العرب. (كهم سراة شعرا) (هم) مبتدأ، (سراة) خبر، (شعرا) خبر ثان، والسراة هم الشرفاء. يعني: أن العرب أخبروا بخبرين فأكثر عن مبتدأ واحد. وجواز تعدد الخبر هو القياس، كما يجوز تعدد الصفة، فيقال: أتاني زيد العالم الغني الكريم، والخبر وصف للمبتدأ في الواقع، فإذا جاز تعدد الصفة جاز تعدد الخبر. ولكن: هل يجوز الفصل بين الخبرين بواو العطف، فأقول: هم سراة وشعراء؟ والجواب: نعم يجوز كما يجوز فصل الصفتين بالعطف سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى [الأعلى:1-4]، فكما يجوز تعدد الصفات في العطف يجوز تعدد الخبر في العطف. ولكن يجب أن نعلم أن المسألة هنا على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: منع العطف. والوجه الثاني: وجوب العطف. والوجه الثالث: جواز العطف. فإذا كان الخبران بمعنى خبر واحد فإنه لا يجوز العطف؛ لأنك إذا عطفت جعلت كل خبر مستقلاً عن الخبر الآخر مع أن اجتماعهما عبارة عن صفة واحدة، مثاله: (برتقالي حلو حامض)؛ فيه خبران هما: حلو حامض، فهنا لا يجوز أن أقول: حلو وحامض؛ لأني لو قلت ذلك لفسد المعنى؛ وهو أن طعمه مركب من حلو وحامض. فإذا قلت: برتقالي حلو وحامض، معناه: أن عندي نوعين من البرتقال: نوعاً حلواً، وآخر حامضاً. أما إذا كان كل واحد من الخبرين لشخص آخر؛ فإنه يجب العطف، مثاله: بنوك شاعر ومهندس ونحوي وفقيه، فالأبناء أربعة: الأول: شاعر، والثاني: مهندس، والثالث: نحوي، والرابع: فقيه. فلو تركنا العطف لصارت هذه الأخبار لكل واحد منهم، فكل واحد شاعر ومهندس ونحوي وفقيه؛ لكن الأمر ليس كذلك كما بينا. إذاً لابد أن نأتي بالعطف؛ لأن العطف يقتضي المغايرة فإذا حذف صار متحداً. والخلاصة أن تعدد الخبر جائز، لكن هل يجوز فصل هذا المتعدد بالعطف؟ نقول: هذا على ثلاثة أقسام: قسم لا يجوز، وقسم يجب، وقسم يجوز: إن شئت فاعطف، وإن شئت فلا تعطف، ففي قولنا: ابني شاعر كاتب فقيه سلفي، يجوز أن أعطف بالواو، ويجوز أن أبقي كل خبر منفرد، فأقول: (شاعر) خبر المبتدأ (كاتب) خبر ثان، (نحوي) خبر ثالث، (فقيه سلفي) خبر رابع وخامس. وفي قول الله تعالى: وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد [البروج:14-15]، لا يجوز أن نجعل الودود صفة للغفور؛ لأنها لا تعود على الغفور، إنما تعود على الموصوف الذي هو الله عز وجل، أي: على الضمير. وتفصيل الأقسام كما يلي: القسم الأول: يجب حذف حرف العطف، وهو ما إذا كان الخبران بمعنى خبر واحد كقول القائل: برتقالي حلو حامض. القسم الثاني: هو وجوب ذكر حرف العطف، وهو إذا كان كل خبر مختصاً بشخص معين كقولك: ابناي فقيه ومحدث. القسم الثالث: جواز ذكر حرف العطف وحذفه، وهو إذا كان المبتدأ واحداً، ووصف بأوصاف متعددة كقول القائل مثلاً: (ابني فقيه ومحدث وشاعر).

  


 

شرح ألفية ابن مالك [20]

 

هناك عوامل تدخل على المبتدأ والخبر فتنسخهما أو أحدهما، ومن ذلك كان وأخواتها، فإنها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، لكن بعضها يشترط فيه تقدم نفي أو شبهه وبعضها لا يشترط فيه ذلك، كما أن بعضها تتصرف وبعضها لا تتصرف.