شرح ألفية ابن مالك للعثيمين

ما ينوب عن الفاعل غير المفعول

  

نيابة الظرف والمصدر والجار والمجرور عن الفاعل

متى وجد المفعول لم ينب عن الفاعل غيره

نيابة المفعول الثاني من باب كسا عن الفاعل

حكم إقامة غير المفعول الأول مقام الفاعل

 

نيابة الظرف والمصدر والجار والمجرور عن الفاعل

   انتهى المؤلف رحمه الله من صيغة الفعل المبني لما لم يسم فاعله، ثم انتقل رحمه الله إلى: هل ينوب غير المفعول به عن الفاعل؟ لأن الكلام في نيابة المفعول به عن الفاعل، كما قال في أول الباب: (ينوب مفعول به عن فاعل)، فهل ينوب غير المفعول به عن الفاعل؟ يقول رحمه الله: [وقابل من ظرف او من مصدر أو حرف جر بنيابة حري] قوله: (قابل) مبتدأ، وسوغ الابتداء به الوصف: قابل من كذا. من ظرف: جار ومجرور. أو من مصدر: أو: حرف عطف، من مصدر: معطوف على (ظرف) بإعادة العامل. أو حرف جر: معطوف على ظرف. بنيابة: بنيابة جار ومجرور متعلق بحري. حري: خبر المبتدأ، الذي هو: قابل. أي: أن القابل من الظرف أو المصدر أو حرف الجر حري بالنيابة عن الفاعل، كما ناب المفعول به عن الفاعل. بين المؤلف رحمه الله في هذا البيت أنه قد ينوب عن الفاعل ثلاثة أشياء: الأول: الظرف. والثاني: المصدر. والثالث: الجار والمجرور. لكنه اشترط أن تكون قابلة للنيابة عن الفاعل. والقابل للنيابة عن الفاعل هو الذي لم يلزم صيغة واحدة، فإن لزم صيغة واحدة فإنه لا يمكن أن يكون نائباً عن الفاعل؛ لأنه لو ناب عن الفاعل لتحول من اللزوم إلى الجواز، فلا بد أن يكون قابلاً للنيابة، وأن يكون مخصَّصاً بشيء من المخصصات، كما يقول في الشرح. أولاً: الظرف: هناك بعض الظروف لا يمكن أن تكون نائباً عن الفاعل؛ لأنها لا تتحول عن الظرفية، وإذا لم تتحول عن الظرفية فلا يصح أن تكون نائباً عن الفاعل، ولنضرب أمثلة للذي يتحول عن الظرفية: كلمة (يوم) تتحول عن الظرفية، والدليل: أنها وردت اسماً لـ(إن) مثل قوله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]. وجاءت مفعولاً به كقوله تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]. وجاءت مجرورة كقوله تعالى: لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين:5]. إذاً: يصح أن ينوب عن الفاعل، فيقال مثلاً: صيمَ يومٌ. لفظ: (مكان)، أيضاً يصح أن ينوب عن الفاعل؛ لأنه يتصرف فيستعمل ظرفاً وغير ظرف، فتقول: نزل الرجل مكان زيدٍ، هذه ظرف، وتقول: سافرت إلى مكانٍ بعيد، كما قال تعالى: يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]، فتحول الآن عن الظرف إلى الجار والمجرور، فيصح أن يقال: اشتُريَ مكانٌ بعيد، وسُكِنَ مكانٌ بعيد، ويكون (مكان) نائباً عن الفاعل. ثانياً: المصدر، إن كان يتحول عن المصدرية جاز أن ينوب، وإن كان لا يتحول لم يجز أن ينوب، فكلمة: (سبحان)، يقولون إنها ملازمة للنصب على المصدرية أو على المفعولية المطلقة، فلا يمكن أن تنوب عن الفاعل؛ لأنها لا تتحول عن حال واحدة، فلو قلت مثلاً: سُبِّحَ سبحانُ الله، لكان هذا غير جائز، لأن (سبحان) لا تتحول عن المصدر أو عن المفعولية المطلقة. ومن أمثلة المصادر التي يصح أن تكون نائباً للفاعل: المصدر (شُرْب) تقول: شُرِبَ شُربٌ كثير، فهذا المصدر يجوز أن يكون نائباً للفاعل؛ لأن (شُرب) تتحول عن المصدرية إلى أن تكون فاعلاً أو مفعولاً به أو مجروراً أو مبتدأ، لكن (سبحان) لا يمكن أن تتغير عما كانت عليه. ثالثاً: حرف الجر، من حروف الجر ما لا يتحول عن حاله، مثل: حروف القسم، فالمجرور بحروف القسم لا يمكن أن يقع نائب فاعل؛ لأنه مختص بالقسم، فلا يمكن أن يقع نائب فاعل، فلو قلت: حُلِفَ والله، لكان هذا غير سائغ؛ لأنه لا يتحول عن القسم، لكن لو قلت: مُرَّ بزيد، فإنه يجوز أن ينوب عن الفاعل؛ لأنه يتحول عن هذه الصيغة، حتى إنهم يقولون: لو حذف حرف الجر لنصب، على حد قول الشاعر: تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكم عليّ إذاً حرام

 

 

 

 

متى وجد المفعول لم ينب عن الفاعل غيره

  

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا ينوب بعض هذي إن وجد في اللفظ مفعول به وقد يرد] أي: إذا وجد في اللفظ مفعول به فإنه لا يجوز أن ينوب شيء من هذه الثلاثة عن الفاعل، مثل: ضُرِبَ زيدٌ أمامَ الأمير يومَ السبت ضرباً شديداً، فعندنا الآن ثلاثة أمور: أمام: ظرف مكان، ويوم السبت: ظرف زمان، وضرباً: مصدر، فلا يجوز أن تنيب واحداً من هذه الثلاثة؛ لوجود المفعول به وهو زيد، لأن الضرب واقع على زيد. فإذا وجد مفعول به في اللفظ فإنه لا يجوز العدول عنه، لكنه قال: (وقد يرد). وقد هذه للتقليل؛ لأنها دخلت على الفعل المضارع، و(قد) إذا دخلت على فعل مضارع كانت للتقليل، أو على فعل ماض كانت للتحقيق، إلا أنها قد ترد للتحقيق مع الفعل المضارع، كقول الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب:18]. وقوله: (قد يرد) أي: عن العرب، ومعلوم أن العرب يحكمون على النحاة وليس النحاة هم الذين يحكمون على العرب، ومثاله قول الشاعر: لم يُعن بالعلياء إلا سيداً ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى الشاهد قوله: لم يعن بالعلياء إلا سيداً، فإن (سيداً) مفعول به: و(بالعلياء): جار ومجرور، ومع ذلك نصب سيداً الذي هو المفعول به، فيكون (بالعلياء) نائب الفاعل مع أنه جار ومجرور. لكن هذا نادر؛ لأنه متى أمكن أن يسلط الفعل على المفعول به فإنه لا يعدل عنه. قوله: (لا ينوب): فعل مضارع منفي بلا. وبعض: فاعل، وبعض: مضاف، وهذي: مضاف إليه. إن وجد: جملة شرطية أداة الشرط فيها (إن)، وفعل الشرط (وجد)، فأين جواب الشرط؟ قيل: إن جواب الشرط لا يحتاج إليه في مثل هذا التركيب، وقيل: إنه محذوف دل عليه ما قبله، وعلى هذا فالتقدير: إن وجد فلا ينوب، لكن القول الأول أحسن، وهو الذي اختاره ابن القيم رحمه الله: أنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب؛ وذلك لأن النفس لا تتشوف إلى الجواب، وإذا كانت لا تتشوف إليه فلا حاجة إلى أن نقدره، ثم إنك إن قدرته مع وجود ما يدل عليه جمعت بين الدال والمدلول، وإن قدرته مع حذفه فات مقصود الذي ركب الكلام على هذا الوجه. وقوله: (مفعول به): نائب فاعل وجد. وقد يرد: جملة فعلية مؤكدة بقد، ويرد: فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة، وفاعله مستتر جوازاً تقديره هو.

 

 

 

 

نيابة المفعول الثاني من باب كسا عن الفاعل

  

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وباتفاق قد ينوب الثان من باب كسا فيما التباسه أمن] قوله: (وباتفاق قد ينوب الثان من باب كسا) ظاهره أن النحويين متفقون على جواز نيابة الثاني من باب كسا إذا أمن اللبس، فإن لم يؤمن اللبس فإنه لا يجوز. مثال ذلك: كُسي زيدٌ جبة، المفعول الثاني: جبة، والذي دلنا أنه المفعول الثاني: أن المفعول الأول هو لابس الجبة، فهو الفاعل في المعنى، فيقدم، فيكون زيد نائب الفاعل، وجبة: المفعول الثاني. ولك أن تقول: كُسي زيداً جبةٌ وهذا باتفاق، كما قال ابن مالك رحمه الله. وقوله: (فيما التباسه أمن): يدل على أنه إن وجد التباس فإنه لا يجوز، فإذا قلت: مُلِّكَ زيدٌ عمراً، فهنا لا يجوز أن تقول: مُلِّكَ زيداً عمرو؛ لأنه يلتبس المعنى، ففي العبارة الأولى: مُلِّك زيدٌ عمراً، الرقيق هو عمرو، فإذا قلت: مُلِّكَ زيداً عمرو، أوهم أن الرقيق هو زيد، فلذلك يمتنع هنا أن ينوب المفعول الثاني عن الفاعل لأنه يلتبس. قوله: (باتفاق) متعلق بينوب بـ (ينوب). قد ينوب: فعل مضارع مؤكد بقد، والظاهر أنها للتقليل. الثان: فاعل مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة للتخفيف، وإن شئت فقل: على الياء المحذوفة لإقامة الوزن. من باب كسا: هذه متعلقة بمحذوف حال من (الثاني)، أي: الثاني حال كونه من باب كسا، وباب: مضاف، وكسا: مضاف إليه باعتبار اللفظ. فيما: جار ومجرور متعلق بينوب، و(ما) اسم موصول مبني على السكون في محل جر. التباسه: التباس مبتدأ، وأُمِن خبره، والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.

 

 

 

 

حكم إقامة غير المفعول الأول مقام الفاعل

  

 

قال المصنف رحمه الله تعالى: [في باب ظن وأرى المنع اشتهر ولا أرى منعاً إذا القصد ظهر] قوله: (في باب ظن) أي: في باب ظن الذي ينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، بخلاف كسا التي تنصب مفعولين فليس أصلهما المبتدأ والخبر. وقوله: (وأرى) ليست هنا فعلاً مضارعاً، بل هي فعل ماض، والمراد بها: أرى التي تنصب ثلاثة مفاعيل، نحو: أريت زيداً عمراً قائماً، هذا مراد ابن مالك . قوله: (ولا أرى منعاً إذا القصد ظهر)، نسب إلى نفسه أنه إذا كان القصد ظاهراً فلا مانع من أن ينوب الثاني عن الفاعل مع نصب الأول. وبالنسبة لـ(أرى) ليس الذي ينوب الثاني عن الأول، بل الثالث عن الثاني، لأن الثاني والثالث هما اللذان أصلهما المبتدأ والخبر. تقول: أُعلِمَ زيدٌ عمراً قائماً، فنائب الفاعل هو (زيد)، والنحويون منعوا من أن يكون نائب الفاعل هو الثاني أو الثالث، وابن مالك يقول: لا أرى منعاً إذا القصد ظهر، مثل أن يقال: أُعلِمَ زيداً فرسُك مسرجاً، فهنا أقيم الثاني، وتقول: أُعلِمَ زيداً فرسَك مسرجٌ، وهنا أقيم الثالث، لكن الظاهر أن الصواب مع الذين منعوه؛ لأنه يتغير المعنى، وقول المؤلف: (إذا القصد ظهر)، قد يكون تصويره صعباً. يقول ابن عقيل رحمه الله: [يعني أنه إذا كان الفعل متعدياً إلى مفعولين الثاني منهما خبر في الأصل كظن وأخواتها، أو كان متعدياً إلى ثلاثة مفاعيل كأرى وأخواتها، فالأشهر عند النحويين أنه يجب إقامة الأول ويمتنع إقامة الثاني في باب ظن، والثاني والثالث في باب أَعلم، فتقول: ظُن زيدٌ قائماً، ولا يجوز: ظُن زيداً قائمٌ، وتقول: أُعلمَ زيدٌ فرسَك مسرجاً، ولا يجوز إقامة الثاني، فلا تقول: أُعلمَ زيداً فرسُك مسرجاً، ولا إقامة الثالث فتقول: أُعلمَ زيداً فرسَك مسرجٌ. ونقل ابن أبي الربيع الاتفاق على منع إقامة الثاني، ونقل الاتفاق أيضاً ابن المصنف. وذهب قوم منهم المصنف إلى أنه لا يتعين إقامة الأول لا في باب ظن ولا باب أعلم، لكن اشترطوا ألا يحصل لبس، فتقول: ظُن زيداً قائمٌ، وأُعلمَ زيداً فرسُك مسرجاً. وأما إقامة الثالث من باب أعلم فنقل ابن أبي الربيع وابن المصنف الاتفاق على منعه، وليس كما زعما، فقد نقل غيرهما الخلاف في ذلك، فتقول: أُعلمَ زيداً فرسَك مسرجٌ. فلو حصل لبس تعين إقامة الأول في باب ظن وأعلم، فلا تقول: ظُنّ زيداً عمرو، على أن (عمرو) هو المفعول الأول، ولا أُعلمَ زيداً خالدٌ منطلقاً]. وذلك أنك إذا قلت: ظُنَّ زيداً عمرو، كان عمرو هو الذي ظُنَّ أنه زيد، وأنت تريد أن زيداً هو الذي ظُنَّ أنه عمرو، فنقول: إذا كنت تريد هذا فقل: ظُن زيدٌ عمراً، ولا يجوز أن تقول: ظُن زيداً عمرو. أما ظُن زيدٌ منطلقاً، فيجوز أن تقول: ظُن زيداً منطلقٌ، هذا على كلام ابن مالك رحمه الله، لكن كلام الجمهور أَسَدٌّ؛ لأنك إذا قلت: ظُن عمراً منطلقٌ، يكون الكلام ركيك جداً؛ لأنك لو حولته فقلت: ظُن منطلقٌ عمراً، سيكون الكلام ركيكاً، فالظاهر أن ما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح، أنه لا يجوز في باب ظن وأرى أن يتحول العمل إلى الثاني في باب ظن، أو الثالث والثاني في باب أرى، بل يتعين أن يكون الأول هو نائب الفاعل، بخلاف كسا وأعطى، فالأمر فيه سعة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وما سوى النائب مما علقا بالرافع النصب له محققا] ما: مبتدأ، وقوله: (النصب): مبتدأ ثان، وله: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول. والمعنى: ما سوى النائب عن الفاعل مما تعلق بالفعل فإنه منصوب على كل حال، فتقول: ظُن زيدٌ منطلقاً، وأُرِيَ زيدٌ عمراً قائماً.

 


 

شرح ألفية ابن مالك [32]

 

الأصل أن يتسلط العامل على معموله، لكن قد يتقدم المعمول فيشتغل العامل عنه بضمير أو ما تعلق به هذا الضمير، وهنا يكون للاسم المعمول المتقدم أحوال من حيث نصبه أو رفعه؛ فقد يجوزان على السواء وقد يترجح أحدهما أو يجب.