حروف الجر
تعداد حروف الجر وذكر ما يختص به كل حرف
معاني (من) من حروف الجر
مجيء (حتى واللام وإلى) للانتهاء
معاني اللام غير الانتهاء
مجيء الباء وفي للظرفية والسببية
مجيء الباء للاستعانة والإلصاق
مجيء الباء بمعنى مع ومن وعن
مجيء على للاستعلاء ومعنى في وعن
معاني عن
معاني الكاف
ما يستعمل اسماً من حروف الجر
معاني مذ ومنذ
زيادة (ما) بعد بعض حروف الجر
زيادة (ما) بعد الباء ومن وعن
زيادة (ما) بعد الكاف ورُبَّ
الحروف التي تعمل مذكورة ومحذوفة
تعداد حروف الجر وذكر ما يختص به كل حرف
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حروف الجر]. قوله: (حروف الجر).
من باب إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأنها حروف تجر، كما أن هناك حروفاً
ترفع وحروفاً تنصب وحروفاً تجزم. فمثلاً: إن وأخواتها حروف ترفع
الخبر وتنصب المبتدأ. وحروف الجر جميعها تشترك في العمل، بمعنى:
أنها كلها تجر، وليس فيها حرف لا يجر، لكنها تختلف في مدخولها وفي
معناها، كما سيتبين إن شاء الله. قال المؤلف رحمه الله: [ هاك حروف
الجر وهي من إلى حتى خلا حاشا عدا في عن على ]. قال المؤلف: (هاك
حروف الجر)، هاك: اسم فعل بمعنى: خذ، وهل اسم الفعل هو (ها) والكاف
حرف خطاب أو هو الجميع؟ فيه خلاف. حروف الجر: حروف: مفعول به بهاك؛
لأن هاك اسم فعل يعمل عمل الفعل. هاك حروف الجر، يعني: خذ الحروف
التي تجر. واستفدنا من قوله: (حروف) أنها ليست أسماء ولا أفعالاً،
لكن بعضها قد يكون أسماء وقد يكون أفعالاً، وفي هذه الحال يخرج عن
حروف الجر، فإن (على) تستعمل اسماً والكاف تستعمل اسماً، ومذ ومنذ
يستعملان اسمين، وخلا وحاشا وعدا تستعمل أفعالاً، فهي في خروجها
إلى ذلك لا تعتبر من حروف الجر. وقوله: (وهي من إلى): أي: من وإلى،
لكنه أسقط حرف العطف لضرورة الوزن واختصاراً. قوله: (حتى ...): أي:
وحتى، وخلا، وحاشا وعدا وفي وعن وعلى، فذكر في بيت واحد تسعة حروف.
وفي هذا البيت هبة وحكم وأدوات، وهذا يدلك على أن هذه الألفية
جامعة، وهي من أجمع كتب النحو. يقول: [مذ منذ ورُبّ اللام كي واو
وتا والكاف والبا ولعل ومتى]. وبهذا تكون عشرين حرفا. وقد ذكرنا
أنها كلها تجر، وأنها تختلف في المعنى، وتختلف في الاختصاص، أي ما
يختص به واحد دون الآخر. وقد بدأ المؤلف رحمه الله بذكر ما يختص به
كل حرف، فقال: [بالظاهر اخصص منذ مذ وحتى والكاف والواو ورب والتا]
بالظاهر: جار ومجرور متعلق باخصص. اخصص: فعل أمر؛ يقال: اخصص بفك
الإدغام، ويقال: خُصَّ بالإدغام. قال: (بالظاهر اخصص منذ، مذ،
وحتى، والكاف، والواو، ورُبَّ، والتاء) فهذه سبع أدوات من العشرين
تختص بالظاهر، أي فلا تجر الضمائر، وإنما تجر الأسماء الظاهرة فقط.
فمثلاً تقول: حضرت مذ يومين، ولا يجوز أن تقول: حضرت مذهما، وتقول:
منذ يومين، ولا تقول: منذهما. وتقول: سأنتظر حتى مجيء زيد، وقال
الله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]. ولا
يجوز: سرت حتاك! لكن يجوز: سرت إليك؛ لأن (إلى) غير مختصة بالظاهر،
مع أن (حتى وإلى) كليهما للغاية. أيضاً: الكاف مختصة بالظاهر، تقول
مثلاً: فلان كالأسد. ويجوز أن يقول: فلان كزيد، وهو يخاطب زيداً،
ولا يجوز أن يضع بدل زيد المخاطب ضمير الخطاب فيقول: فلان كك! لأن
الكاف لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، وسيأتي في كلام المؤلف أنها
قد تدخل على الاسم المضمر لكن نادراً، مثل: كها! كذلك الواو مختصة
بالظاهر، وهي كما علمنا فيما سبق من حروف القسم، تقول: واللهِ،
وربِّ العالمين، وخالقِ الأرض والسماء.. وما أشبه ذلك، ولا تقول:
وك يا ربِ! فلا يجوز دخولها على الضمير حتى ضمير الغيبة، فلو قلت
مثلاً: وهو! تحلف وتريد بالضمير الله لم يجز. لكن الباء تجوز: وبه
أحلف. كذلك أيضاً: رُبَّ، لا تدخل إلا على الاسم الظاهر، وأضيق من
هذا أيضاً أنها لا تدخل إلا على النكرة، تقول مثلاً: رُبَّ رجل
لقيته، لكن لا يمكن أن تقول: رُبَّ الرجل لقيته، ولا تقول: رُبَّ
زيدٍ لقيته، تريد زيداً معيناً، أما: رُبَّ زيدٍ لقيته، تريد:
رُبَّ مسمى بهذا الاسم، فهذا جائز؛ لأنه ليس علماً. ويجوز بقلة:
ربه رجل قائم، كما قال: [وما رووا من نحو ربه فتى نزر] كما سيأتي.
قوله: (والتا) التاء أيضاً مما يختص بالظاهر، وهي من حروف القسم.
فعندنا الآن من حروف القسم اثنان هما: الواو والتاء؛ لكن التاء كما
لا تجر إلا المقسم به، لا تكون إلا متصلة بالله أو برب، كما قال
المؤلف: (والتاء لله ورَبْ)، إذا قلت: تالرحمن، فلا يجوز، ولا:
تالعزيز، ولا: تالسلام. إذاً التاء خصصت بعدة تخصيصات: الاسم
الظاهر، القسم، الله ورب، تقول: تالله لأفعلن، وتقول: ترب الكعبة
لأفعلن كذا. ولو قلت مثلاً: ربي الله، ته أحلف، مثل: به أحلف، فلا
يجوز. قوله: [واخصص بمذ ومنذ وقتاً]: أي: مذ ومنذ إذا كانا حرفي جر
فاخصص بهما الوقت، تقول مثلاً: ما رأيته مذ يومين، ما رأيته منذ
يومين، واليوم وقت. ولا تقول: ما سرت مذ المسجد ولا منذ المسجد،
لأن المسجد مكان وليس وقتاً. وتصلح (منذ ومذ) للمعرفة والنكرة،
فتقول: ما رأيته منذ اليوم، وما رأيته منذ يومين، وما رأيته منذ
سنة، وما رأيته منذ شهر، وما رأيته منذ أسبوع. قوله: [وبرب
منكراً]. يعني: واخصص برب منكراً، فهي لا تدخل على المعارف، فلا
تقول: رب الرجل لقيته، ولا رب زيد لقيته؛ إلا على تقدير: رب مسمى
بهذا الاسم، كما تقدم، أما زيد الذي هو زيد بن فلان فلا. قال
المؤلف: [ وما رووا من نحو ربه فتى نزر كذا كها ونحوه أتى ] الذين
رووا هم النحاة، والعرب مروي عنهم. نزر: خبر ما؛ لأن (ما) اسم
موصول مبني على السكون في محل رفع متبدأ. و(رووا) صلة الموصول،
والعائد محذوف تقديره: وما رووه، أي: من نحو ربه فتى نزر قليل.
والذي خرج عن القاعدة في هذا المثال أن (رُبَّ) دخلت على الضمير،
وهي لا تدخل إلا على ظاهر. وأيضاً: الضمير معرفة وهي مختصة
بالنكرة، أي أنها خالفت القياس من وجهين. قوله: (كذا كها) أي أن
(كها) أيضاً نزر قليل في كلام العرب. كها: الكاف حرف جر، وها: ضمير
مبني على السكون في محل جر، فهنا دخلت الكاف على ضمير، وقد سبق أن
الكاف لا تدخل إلا على الاسم الظاهر؛ ولكنه كما قال ابن مالك: نزر.
قوله: (ونحوه) أي: مثله، أي: نحو كها، وذلك مثل: (كهو) يعني: ضمير
الغائب، وأما ضمير المخاطب (كك) فلا أظنه يروى، ولهذا قال: (ونحوه)
أي من ضمائر الغيب كهن. الآن نذكر القواعد: أولاً: حروف الجر هي
الأدوات التي تعمل الجر، وهي عشرون أداة، تشترك جميعاً في عمل
الجر، وتختلف في الاختصاص والمعاني. البيتان الأولان عدد فيهما هذه
الأدوات. البيت الثالث: القاعدة فيه: يختص بالأسماء الظاهرة هذه
الأدوات، وهي: مذ ومنذ وحتى والكاف والواو ورب والتاء. وهي سبع.
والبيت الرابع القاعدة فيه: تختص مذ ومنذ بالوقت، فلا تجر إلا ما
دل على زمن، وتختص رب بالنكرات فلا تجر الضمائر ولا المعارف، وتختص
التاء باسمين فقط وهما: الله ورَبّ. البيت الخامس: ما روي عن العرب
من دخول رُبَّ على الضمير والكاف على الضمير فهو نزر قليل وخارج عن
القياس. والله أعلم.
معاني (من) من حروف الجر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ بعض وبين وابتدئ في الأمكنة بمن وقد
تأتي لبدء الأزمنة وزيد في نفي وشبهه فجر نكرة كما لباغ من مفر ]
بدأ المؤلف بذكر معاني حروف الجر، واختصاص كل واحد بمعنى، فقال:
(بعض وبين وابتدئ) فهذه ثلاثة معان: بعض: التبعيض. بيِّن: التبيين.
ابتدئ: الابتداء. (في الأمكنة بمن) من: حرف جر. فقوله: (بعِّض)
معناه أنها تأتي للتبعيض، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا [البقرة:165] أي: بعض
الناس. قوله: (بيِّن) معناه أنها تأتي للبيان، مثل أن تقول: إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:6] فإن قوله:
((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) لبيان الجنس؛ أي: لتمييز هؤلاء من
هؤلاء، وليست للتبعيض؛ لأن كل أهل الكتاب كفار بعد بعثة الرسول
عليه الصلاة والسلام، أما قبل ذلك، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر. أما
قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ
مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فهي للتبعيض. وكذلك قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ [هود:105] للتبعيض، يعني: فبعضهم شقي، وبعضهم سعيد.
والغالب أن (مِنْ) البيانية تأتي بياناً لاسم موصول، أو لأداة شرط،
أو استفهام، أي: تأتي بعد الأسماء المبهمة، فكلما دخلت (من) على
أسماء مبهمة فهي للتبيين، سواء كان هذا الإبهام في الشرط أو في
الاستفهام أو في الموصول. قوله: (وابتدئ في الأمكنة): يعني: وتأتي
(من) أيضاً للابتداء في الأماكن، كقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، والمسجد الحرام مكان. وتقول:
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، أي أن ابتداء هجرته كان من
مكة. وتقول: سرت من البيت إلى المسجد، ورجعت من المسجد إلى البيت.
قوله: (وقد تأتي لبدء الأزمنة) يعني: قد تأتي أيضاً للابتداء في
الزمان، وقوله: (قد) هذه للتقليل، إذاً: فالأكثر في (من) إذا كانت
للابتداء أن تكون في الأمكنة. ومثال مجيء (من) للابتداء في الزمان:
جلست عندك من يوم الأحد إلى يوم الأربعاء. فالقاعدة التي في البيت
الأول: أن (مِنْ) تأتي لثلاث معان: للتبعيض والتبيين والابتداء،
والابتداء في الأمكنة أكثر منها للابتداء في الأزمنة. إعراب البيت:
بعض: فعل أمر. وبيَّن: الواو حرف عطف، وبيَّن فعل أمر أيضاً.
وابتدئ: فعل أمر، والأصل في الأمر الوجوب. في الأمكنة: جار ومجرور
متعلق بابتدئ. بمن: جار ومجرور متنازع فيه بين الأفعال الثلاثة:
(بعض وبين وابتدئ)، فهو متعلق بابتدئ عند أهل البصرة، لأنه أقرب،
واختار عكساً غيرهم ذا أسرة. وما لم يعمل في المتنازع فيه عمل في
مضمر مقدر، كما قال ابن مالك : وأعمل المهمل في ضمير ما تنازعاه
والتزم ما التزما ولا تجي مع أول قد أهملا بمضمر لغير رفع أوهلا
وعلى هذا نقول: المعمل هو الأخير في هذا البيت، وهو قوله (ابتدئ)؛
لأننا لو أعملنا الأول لوجب أن نضمر في الثاني والثالث، وهنا لم
نضمر فيكون الإعمال للأخير. ثم قال: (وزيد في نفي وشبهه). وهذا هو
المعنى الرابع لـ (مِنْ) وهو أن تكون زائدة، وهي تزيد في اللفظ،
وتزيد أيضاً في المعنى؛ لأنها تعطيه قوة. ولعل هذا التعبير غريب؛
لأن المعروف أننا نقول: زائدة لفظاً لا زائدة معنى، وقصدهم (لا
زائدة معنى)، أي: ليست خالية من المعنى؛ لكن الذي قالوا: إنها
زائدة لفظاً زائدة معنى فقصدهم أنها تزيد المعنى قوة. يقول: (وزيد
في نفي وشبهه)، النفي واضح، ويكون بما، ولا، وليس.. وما أشبهها.
وشبه النفي هو النهي والاستفهام الذي بمعنى النفي. وأنا عندي شك في
كلام ابن مالك من جهة اللفظ: (زِيد) لأنه قال عنها: (وقد تأتي)
بالتأنيث؛ فكيف يجعلها مؤنثة، ثم يقول: (زيد) فيجعلها مذكرة؟ نقول:
إذا اعتبرنا اللفظ فهي مذكرة، وإذا اعتبرنا أنها أداة جر فهي
مؤنثة. وعليه فقوله: (وقد تأتي) أي هذه الأداة، وهي باعتبار اللفظ
مذكرة، يعني: زيد حرف مِنْ، والمعنى: أتى زائداً في نفي وشبهه.
قوله: (فجر نكرة)، جر: فعل ماض فاعله مستتر، ونكرة: مفعول جر.
مثاله: (كما لباغٍ من مفر) من زائدة؛ لأن الكلام يستقيم لو قلت: ما
لباغٍ مفر، بحذف مِنْ. والإعراب: ما: نافية. لباغٍ: جار ومجرور
متعلق بمحذوف خبر مقدم. من: زائدة. مفر: مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة
مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. و(ما)
هنا ملغاة لا تعمل عمل ليس؛ لتقدم الخبر، كما قال ابن مالك : إعمال
ليس أعملت ما دون إن مع بقا النفي وترتيب زكن إذاً: هذه ملغاة؛
وذلك لأن خبرها متقدم، ومن شرطها أن يتقدم الاسم. فالقاعدة من
البيت: أن (من) تزاد بشرطين: أولاً: أن يتقدمها نفي أو شبهه.
والثاني: أن يكون مدخولها نكرة. ومثالها: ما لباغ من مفر. نأخذ
أمثلة أيضاً: قال الله تعالى: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا
نَذِيرٍ [المائدة:19]، (من) هنا زائدة لسبقها بما ودخولها على نكرة
(بشير). وعلى هذا فنقول: جاء: فعل ماض ونا: مفعول به مبني على
السكون في محل نصب. من: حرف جر صلة، ولا نقول (زائد) لئلا يظن أحد
أن في القرآن لغواً. بشير: فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من
ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. ومثال الاستفهام: هَلْ
تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم:98]، وتكررت (من) هنا مرتين،
لكن الزائدة هي الثانية، لأن الثانية داخلة على نكرة، والأولى على
معرفة. هل: حرف للاستفهام. تحس: فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره
أنت. منهم: جار ومجرور. من: زائدة. أحد: مفعول به منصوب بالفتحة
المقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. ومثال
النهي: لا تضرب من أحد من الطلبة. الشاهد في قوله: (من أحد)، من:
حرف جر زائد، وأحد: مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على آخره منع من
ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. أما قوله تعالى:
ِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى [إبراهيم:10] فهي تبعيضية. وحملها بعض النحويين على قوله:
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، فجعل (من) زائدة، وقال: يجوز دخولها
زائدة على معرفة، واستدل بالآية. ونحن نقول: لا نوافقك على هذا
الشيء؛ لأنك إذا تأملت: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وجدت الخطاب
موجهاً إلى هذه الأمة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
[الصف:10-12]. إذاً: فهي للعموم، وكل ذنوبنا مغفورة بهذا الوعد من
الله سبحانه وتعالى، وإذا تأملت: مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف:31]
وجدتها إما من كلام الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ
وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]، ولم يجزموا بغفران الذنوب
جميعاً؛ لأنهم إنما يرجون ذلك رجاء. ووجدت أيضاً أن (( يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ )) جاءت في كلام نوح، في قوله: يَغْفِرْ
لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
[نوح:4]، وهذا إما أن يقال: إن هذه الأمة فضلت على قوم نوح بمغفرة
جميع ذنوبها، أو يقال: إن نوحاً عليه الصلاة والسلام قال لقومه هذا
لأجل أن يرجيهم. المهم أنه لا يمكن أن نحمل هذه على هذه مع اختلاف
المعنى، فالصحيح إذاً كما قال ابن مالك إن (من) تزاد بشرطين كما
تقدم.
مجيء (حتى واللام وإلى) للانتهاء
قال المؤلف: [ للانتها حتى ولام وإلى ]. معناه: أن (حتى واللام
وإلى) تأتي للانتهاء. مثال (حتى) قوله تعالى: سَلامٌ هِيَ حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]. ومنه أيضاً: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ [البقرة:187]. البصريون
يقولون: حتى: حرف جر والفعل منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وعلى هذا
فيكون المعنى: وكلوا واشربوا حتى تبيُّن، فيؤول بمصدر. أما
الكوفيون فيرون أن (حتى) نفسها تنصب الفعل، وهي على كل حال
للانتهاء. كذلك اللام تكون للانتهاء، مثل أن تقول: سرت من عنيزة
لمكة، بمعنى: إلى مكة، ومثل قوله تعالى: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ
مُسَمًّى [الرعد:2]، أي: إلى أجل، كما في آية أخرى. فاللام تأتي
للغاية. و(إلى) كذلك، وهي الأصل، قال الله تعالى: سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]. والغاية غير داخلة إلا
بقرينة، فلو قلت مثلاً: سرت إلى مجرى السيل، فالمعنى أنك لم تدخل
فيه. وقال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
[البقرة:187] ولا يدخل الليل في الصيام، فابتداء الغاية ليس بداخل.
وإذا قلنا مثلاً: لك هذه الأرض إلى الجبل، فالجبل لا يدخل. أما إذا
وجدت قرينة فإنه يدخل، ومنه قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فإن المرفق داخلة لفعل الرسول صلى الله
عليه وسلم. قوله: (ومن وباء يفهمان بدلاً): يعني: يأتيان للبدلية،
أي: بمعنى بدل. إذا: (من) تأتي للتبعيض وللبيان وللابتداء وتأتي
زائدة، وتأتي بمعنى بدل، قال الله تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ
[الزخرف:60] أي: بدلكم. وقال: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38]، أي بدل الآخرة، وليس المعنى أن الدنيا
من الآخرة. وتقول: اقتنعت بالدرهم من الدينار، أي: بدل الدينار.
والباء أيضاً تأتي بدلية بمعنى بدل، مثل قولك: ما أحب أن لي بها
حمر النعم. أي: ما أحب أن لي بدلها حمر النعم. ومثلها قول كعب بن
مالك : ما أحب أن لي بها بدراً، يعني: بدلاً عنها بدراً. ومنه قول
الشاعر: لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحساناً فهو
يقول: قومي وإن كانوا ذوي حسب وشرف لا يحبون الشر ولو كان هيناً،
وإذا ظلمهم أحد يجازون الظلم بالمغفرة، وإذا أساء إليهم يجازون
الإساءة بالإحسان، أي أنهم جبناء لا ينصرونه، ولهذا قال: فليت لي
بهمُ قوماً إذا ركبوا شنوا الإغارة فرساناً وركبانا لا يسألون
أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا طيب، الشاهد قوله:
(فليت لي بهم قوماً) أي: بدلهم. إذاً: الباء تأتي بمعنى: بدل،
وكذلك (من) تأتي بمعنى: بدل.
شرح ألفية ابن مالك [41]
تأتي حروف الجر لمعان كثيرة، فمن هذه المعاني الاستعلاء والتبعيض
والظرفية والسببية والمجاوزة والإلصاق وغيرها، وقد بين العلماء
تفاصيل ذلك. وقد تدخل (ما) على بعض حروف الجر فلا تكفها عن العمل،
وقد تكفها أحياناً.
تابع معاني حروف الجر
معاني اللام غير الانتهاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ واللام للملك وشبهه وفي تعدية أيضاً
وتعليل قفي وزيد والظرفية استبن ببا وفي وقد يبينان السببا] قوله:
(واللام للملك وشبهه) أي: أن اللام تفيد التمليك وشبه التمليك،
فالتمليك أن يكون مدخولها مالكاً لما سبق، أو إن شئت فقل: أن تقع
بين شيئين الثاني منهما مالك للأول. مثاله: الكتاب للطالب، أي: ملك
للطالب، فالثاني مالك للأول، أي: أن مدخولها مالك لما قبله، وقد
يتأخر عنه مثل: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ [آل عمران:189]،
فهنا تأخر الأول عنها وعن الثاني؛ لكن الحكم لا يتغير، فاللام هنا
للملك. قوله: (وشبهه) وهو ما يسمى بالاختصاص، وهو: أن يكون مدخولها
مختصاً بالأول لا مالكاً، مثاله: العلف للدابة، أو الزمام للجمل،
فليس هو ملكه، لكنه اختصاص، وقوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60] اللام هنا للملك. قال: (وفي تعدية
أيضاً) يعني: أن اللام تأتي للتعدية. ومعنى التعدية: أن تدخل على
مفعول عامله ضعيف ليتعدى إلى المفعول، مثل اسم الفاعل إذا تأخر
فضعف عمله، تقول مثلاً: أنا ضاربٌ لزيد، أصلها: أنا ضاربٌ زيداً،
وكذلك: أنا لزيد ضارب، فاللام هنا لا تصلح للملك ولا لشبه الملك،
لكنها للتعدية. قال: (وتعليل قفي) أي: وتأتي اللام للتعليل كثيراً:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات:56]، وكأني بكم تقولون: إن (يعبدون) فعل وليست اسماً،
لكنني أقول: إنه فعل مؤول بمصدر، والتقدير: إلا لعبادتي، فاللام
للتعليل. وكذلك أيضاً قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا
فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، أي: لأجلكم. وتقول: (جئت
لأقرأ) أي لأجل القراءة. وكذلك كل أفعال الله تعالى التي تتعدى
باللام هي للتعليل : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1]،
فاللام للتعليل. قال المؤلف: [وزيد والظرفية استبن ببا وفي وقد
يبينان السببا] (وزيد): أي: أن اللام تأتي زائدة، أي أنها تأتي لا
لمعنى كقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ
[يوسف:43]. وهذا المثال فيه نظر، ووجه النظر: أن اللام في قوله:
(للرؤيا تعبرون) يظهر أنها للتعدية؛ لأنها دخلت على المفعول لضعف
العامل بتأخره. ومثلوا في الزائدة بما يقال كثيراً: لا أبا لك،
ومنه: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
قالوا: إن اللام هنا زائدة، والدليل على زيادتها: أن (أبا) أعربت
بالألف، ومن شرط إعرابها بالألف أن تضاف، ولو قلنا: إن اللام غير
زائدة لكان يقول: لا أباً لك، أو: لا أب لك، بدون ألف، فلما أعربت
بالألف دل هذا على أن اللام زائدة، وأصلها: لا أباك، وهذا أحد
الوجوه في قوله: لا أبا لك. وفي وجه آخر: أنها على لغة من يلزم
الأسماء الخمسة الألف مطلقاً، وعلى هذا فلا يكون فيها شاهد.
مجيء الباء وفي للظرفية والسببية
قوله: (والظرفية استبن ببا وفي). الظرفية: مفعول مقدم لقوله:
(واستبن) يعني: استظهر، أي: أنه تأتي الباء وفي للظرفية، أما الباء
فمثالها قوله تعالى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ [الصافات:137] يعني: وفي الليل، وهي
كثيرة في الكلام العربي، تقول مثلاً: سكنت بعنيزة.. سكنت ببريدة..
سكنت بالبدائع.. سكنت بمكة.. سكنت بالرياض.. وهكذا. أما (في)
فمثالها: دخلت في المسجد، سكنت في البلد الفلاني، وهي في القرآن
أيضاً كثيرة: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي
أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ
[الذاريات:20-22]، إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]،
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهاهمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ
[آل عمران:107]، وهكذا تكون للظرفية كثيرة جداً. قوله: (قد يبينان
السببا) يعني: أن الباء وفي قد تأتيان للسببية بأن يدخلا على
السبب.
مجيء الباء للاستعانة والإلصاق
قال المؤلف: [بالبا استعن وعد عوض ألصق ومثل مع ومن وعن بها انطق]
أي: أن الباء تأتي للاستعانة. والاستعانة طلب العون، فمعنى
الاستعانة: أن الباء تدخل على ما تطلب الإعانة منه مثل: أستعين
بالله. فالباء للاستعانة، أي: أنه سبحانه وتعالى يطلب العون منه.
قوله: (وعدِّ) يعني: أنه يعدى بها الفعل اللازم، مثال ذلك قوله
تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، أصل (ذهب) فعل
لازم، يقال: ذهب الرجل، فإذا أردنا أن تتعدى إلى مفعول فإما أن
ندخل عليها الهمزة أو نأتي بالباء، ولذا قال تعالى: ذََهَبَ
اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17]، ويصح في غير القرآن أن يقال:
أذهب الله نورهم. قوله: (عوض) معناها: أن الباء تأتي للتعويض؛ بأن
يكون مدخولها عوضاً عن غيره، وهذا كثير جداً، فالباء التي تدخل في
البيع والشراء تكون للتعويض، تقول: اشتريت كتاباً بدرهم، الباء
للتعويض، وهل مدخولها هو العوض، أو ما سبقها هو العوض؟ الحقيقة أن
كل واحد منهما عوض عن الثاني، لكنها دائماً تدخل على الثمن، ولهذا
قال الفقهاء: يتميز الثمن عن المثمن بالباء، فما دخلت عليه الباء
فهو الثمن، فإذا قلت: بعت الثوب بدرهم، فالثمن هو الدرهم. وإذا
قلت: بعت الدرهم بثوب. فالثمن الثوب. وقول المؤلف: (ألصق). الإلصاق
هو مباشرة الشيء بشيء، وقد يراد بالإلصاق مجاورة الشيء للشيء. مثال
الإلصاق المباشر: مسحت رأسي بيدي، أمسكت ثوبي بيدي، امسحوا
برءوسكم. ومثال غير المباشر: مررت بزيد. وقد زعم بعض النحويين أن
جميع معانيها تعود إلى الإلصاق، ولكن لو سلكنا هذا المسلك لوجدنا
أنها لا تكون للإلصاق في بعض المواضع إلا بتكلف شديد، ولا حاجة إلى
هذا التكلف، فالأولى أن نقول كما قال ابن مالك : إن الإلصاق من بعض
معانيها.
مجيء الباء بمعنى مع ومن وعن
قوله: (ومثل مع ومن وعن بها انطق). يعني: أن الباء تأتي بمعنى: مع،
وتأتي بمعنى: من، وتأتي بمعنى: عن. تأتي بمعنى (مع) كما لو قلت:
بعتك الفرس بلجامه، أي: مع لجامه. وتقول: بعتك السيارة بمفاتيحها.
أي: مع المفاتيح. وتأتي أيضاً بمعنى (من)، ومثلوا لذلك بقوله
تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا
تَفْجِيرًا [الإنسان:6]، أي: يشرب منها؛ لأن العين يشرب منها لا
بها، وقد سبق لنا أن الصحيح في هذه الآية أن الباء للسببية لا
بمعنى (من)، وأن (يشرب) مضمنة معنى (يروى). وذكرنا: أن الأصح أن
يضمن الفعل لا أن يجعل الحرف بمعنى حرف آخر، وأن تضمين الفعل
يستلزم معنى أصل الفعل وزيادة، فقولك: (يشرب بها عباد الله) قلنا:
إن (يشرب) مضمن معنى: (يروى)، فتضمن الشرب والري. كذلك تأتي الباء
بمعنى (عن)، كما لو قلت مثلاً: سألتك بعلمك، أي: عن علمك. وتقول:
رضيت بالله رباً، أي: رضيت عن الله رباً. وقال تعالى: سَأَلَ
سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1]، أي: عن عذاب. وقال بعض أهل
العلم: إن الباء هنا على بابه، وإن المعنى: سأل سائل وأجيب بعذاب
واقع للكافرين، وإن السؤال هنا ضمن معنى الجواب، فيكون هذا أبلغ؛
لأنه لو قرأنا: (سأل سائل عن عذاب واقع لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ
دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ [المعارج:2-3] فأين
الجواب؟ والواقع أن الآيات تجيب عن هذا السؤال، ولهذا قال بعض
العلماء: إن الباء هنا على أصلها، وإن السؤال هنا ضمن معنى الجواب،
كأنه قال: سأل سائل فأجيب بعذاب واقع للكافرين.. إلى آخره. وبهذا
تبين أن للباء تسع معان: الظرفية، والسببية، والاستعانة، والتعدية،
والتعويض، والإلصاق، ومثل مع، ومن، وعن. ويذكر بعضهم من معانيها
المصاحبة، وهي لا تخرج عن الإلصاق، ولكنها إما أن تكون حسياً أو
معنوياً. وقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) الباء هنا للإلصاق، وقيل:
إن الباء للاستعانة، أي: سبحتك بحمدك، فعلى المعنى الأول تكون جملة
جامعة بين التنزيه والثناء، أي: تسبيح ثم حمد. وعلى قول الذي
يقولون: إن الباء للاستعانة، تكون الجملة مشتملة على التسبيح لكنه
بمعونتك التي تحمد عليها، وعلى هذا فكونها للمصاحبة أولى، لكن
بعضهم لم يعدها، قال: لأن المصاحبة داخلة في الإلصاق. إعراب: ذهب
الله بنورهم: ذهب: فعل ماض مبني على الفتحة. لفظ الجلالة فاعل
مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره. بنورهم: جار ومجرور
ومضاف إليه.
مجيء على للاستعلاء ومعنى في وعن
قال المؤلف: [على للاستعلاء ومعنى في وعن بعن تجاوزاً عنى من قد
فطن] على: مبتدأ. لأن المقصود ولفظها، بخلاف ما إذا قلت: الماء على
السطح، فلا تقول: على: مبتدأ. للاستعلاء: جار ومجرور متعلق بمحذوف
خبر المبتدأ. وبعضهم يقول: إن الجار والمجرور نفسه هو الخبر. قوله:
(على للاستعلاء) الاستعلاء هو: علو شيء على شيء، ولهذا كانت حروف
(على) نفسها هي حروف العلو، ففيها العين واللام والألف. مثال ذلك
قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .. فعلى
هنا للعلو. وتقول مثلاً: الماء على السطح، وتقول: السماء على
الأرض. والعلو لا تلزم منه المباشرة، بل قد تكون معه مباشرة، وقد
لا تكون معه مباشرة. ثم العلو قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً،
تقول مثلاً: من على هؤلاء الجماعة؟ يعني: من هو الوالي عليهم، فهذا
العلو معنوي. وتقول: ركبت على البهيمة أو على السيارة، وهذا علو
حسي. قال: (ومعنى في وعن) قوله: (ومعنى) معطوفة على قوله:
(للاستعلاء) يعني: و(على) تأتي لمعنى (في)، ومثلوا لذلك بقوله
تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا
[القصص:15]، أي: في حين غفلة من أهلها. قوله: (وعن) يعني: أن (على)
تأتي لمعنى (عن)، ومنه قول الشاعر: إذا رضيت علي بنو قشير المعنى:
إذا رضيت عني بنو قشير.
معاني عن
ثم قال: (بعن تجاوزاً عنى من قد فطن). إعراب الشطر: بعن: جار
ومجرور متعلق بعنى. تجاوزاً: مفعول مقدم بعنى. عنى: فعل ماض. من:
اسم موصول فاعل. قد فطن: جملة فعلية صلة الموصول لا محل لها من
الإعراب، وترتيب البيت: عنى من قد فطن تجاوزاً بعن.. ومعنى (عنى)
قصد وأراد، يعني: أن (عن) من معانيها المجاوزة، والمجاوزة معناها:
مرور شيء بشيء وانفصاله عنه، مثاله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذَلِكَ [الكهف:82]، ويقولون: رميت السهم عن القوس، يعني: مجاوزاً
القوس. قال المؤلف: [وقد تجي موضع بعد وعلـى كما على موضع عن قد
جعلا] قوله: (قد تجي موضع بعد) يعني: قد تأتي (عن) بمعنى (بعد)،
فتكون للترتيب، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا
عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19]، أي: طبقاً بعد طبق. ويمكن أن نقول: إن
هذا المعنى يرجع إلى المجاوزة؛ لأن معناه: تنتقلون من حال إلى حال،
وتجاوزون الحال الأولى إلى الحال الثانية، ولهذا فالأصل في (عن) أن
تأتي للمجاوزة؛ لكن في بعض الأحيان تكون واضحة، وفي بعض الأحيان
تحتاج إلى تأمل. قوله: (وعلى) يعني: تأتي عن بمعنى (على)، ومثلوا
له بقول الشاعر: لاه ابن عمك ما أفضلت في حسب عني أي: ما أفضلت
عليَّ. أفضل: فعل ماض، والتاء ضمير مخاطب فاعل. قال المؤلف رحمه
الله تعالى: (وقد تجي موضع بعد وعلـى كما على موضع عن قد جعلا)
يعني: كما أن (على) تأتي بمعنى (عن)، فإذا قال قائل: أليس هذا
تكراراً؛ لأنه قد تقدم قوله: (على للاستعلاء ومعنى في وعن)؟
والجواب: هو في الحقيقة من حيث المعنى تكرار، لكنه تكرار لفائدة،
وفائدته: أن هذين الحرفين وهما (عن وعلى) يتناوبان المعنى، فكأن
ابن مالك في الشطر الأخير يقول: إن هذا من باب تناوب الحروف.
معاني الكاف
ثم قال المؤلف: [شبه بكاف وبها التعليل قـد يعنى وزائداً لتوكيد
ود] شبه بكاف: يعني: ائت بها للتشبيه، وعلى هذا فيكون المعنى أن
الكاف للتشبيه، مثاله: زيد كالبدر في الجمال وكالبحر في العلم.
وأمثلتها كثيرة في القرآن وفي غير القرآن: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40] .. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ
[البقرة:19] .. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا
[البقرة:17]. قوله: (وبها التعليل قد يعنى). بها: جار ومجرور متعلق
بيعنى. التعليل: مبتدأ، وجملة (قد يعنى) خبره، ومعنى يعنى: يقصد،
أي: وقد يقصد بها التعليل، و(قد) هنا تفيد التقليل، وهو كذلك
بالنسبة للتشبيه، أعني أن معنى التعليل في الكاف قليل بالنسبة
لمعنى التشبيه، مثاله قوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ
[البقرة:198]، ليس المراد تشبيه الذكر بالهداية، بل المراد تعليل
الأمر بالذكر بالهداية، أي: اذكروه لهدايته إياكم. ومنه على القول
الصحيح: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى
آل إبراهيم، يعني: أنت صاحب الكرم أولاً وآخراً، ومن أجل أنك صليت
على هذا فصل على هذا، وبهذا المعنى يزول الإشكال الذي أورده كثير
من أهل العلم على هذا الحديث، وقال: المعروف أن المشبه به أقوى من
المشبه، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم،
فكيف يشبه الأفضل بالمفضول؟ ولكن إذا قلنا: إن الكاف هنا للتعليل،
وإن ذكرها من باب التوسل بنعم الله السابقة على نعمه اللاحقة، فإنه
يزول الإشكال نهائياً. قوله: (وزائداً لتوكيد ورد) يعني: وورد
زائداً للتوكيد. ولما كان يخشى أن يقال: إن الزائد لا فائدة له،
قال: (لتوكيد). فإذا قيل: لماذا لم يقلها فيما سبق؛ لأنه قال: فيما
سبق: وزيد؟ قلنا: لأنه يشير إلى آية من القرآن اشتهرت بين الناس،
وهي قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ [الشورى:11]، فلهذا نص على أنه للتوكيد؛ لأن الآية تدل
على امتناع مشابهة المخلوقين للخالق. فمن أجل هذا اختلفت أقوال
الناس فيها كيف يخرجونها: فقال بعضهم: بأن الكاف زائدة، وهذا الذي
مشى عليه ابن مالك ، وهو مشهور، وعلى هذا فيكون تقدير الكلام: ليس
مثله شيئاً، يعني: ليس شيء يماثل الله، وهذا معنى واضح وبسيط،
وتكون الكاف للتوكيد فكأن المثل نفي مرتين؛ لأن الكاف للتشبيه ومثل
للتمثيل، أو كأنه نفي المماثل والمشابه معاً. وهناك فرق بين
التشبيه والتمثيل: فالتمثيل: المطابقة من كل وجه. والتشبيه:
المقاربة، يعني: المماثلة بأكثر الصفات، ولهذا يقال: فلان شبيه
بفلان، أي: مقارب له في أكثر الصفات، لكن: فلان مثل فلان، أي:
مطابق له. هذا وجه. الوجه الثاني: إن الزائد كلمة (مثل) يعني: ليس
كهو شيء، وهذا كما قلت لكم قبل قليل عند قوله: بِمِثْلِ مَا
آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، خلاف الأولى؛ لأن زيادة الحروف أهون
من زيادة الأسماء. والقول الثالث: أن مثل بمعنى صفة، أي: ليس كصفته
شيء من الصفات. والقول الرابع: أن مثل بمعنى ذات، أي: ليس كذاته
شيء. وهذان القولان الأخيران إنما لجأ إليهما القائل فراراً من
إثبات الزيادة، وإلا فهما بعيدان من ظاهر اللفظ، لكن قال: بدل ما
أقول: الكاف زائدة ومثل زائدة أقول: ليس كذاته شيء، أو ليس كصفته
شيء. ولكننا نقول: ما دامت اللغة العربية فيها مثل هذا الأسلوب
وتزاد فيها الكاف تأكيداً، فلا مانع، والله تعالى نزَّل القرآن
بلسان عربي مبين، والعرب إذا قالوا: ليس كمثل فلان، فمعناه: أنه لا
يمكن أن يكون أحد يماثله أو يقاربه، وأنشدوا على ذلك: "ليس كمثل
الفتى زهير". والخلاصة: أن الكاف تأتي زائدة لكن للتوكيد، وأن ابن
مالك رحمه الله إنما قال (لتوكيد) في هذه المسألة ولم يقلها فيما
سبق؛ لأنها اشتهر فيها هذا المثال الذي يتعلق بصفات الله تبارك
وتعالى.
ما يستعمل اسماً من حروف الجر
قال المؤلف: [واستعمل اسماً وكذا عن وعلى من أجل ذا عليهما من
دخلا] أي: تستعمل الكاف اسماً بمعنى مثل: ومن أمثلة ذلك: ما رأيت
كاليوم قط، أي: ما رأيت مثل اليوم قط. وهل هذا قياس أو سماع؟
الظاهر أنه قياس، وأن كل شيء تدخل عليه الكاف يصلح أن تكون في معنى
(مثل) ما لم يوجد مانع، حتى قولنا: زيد كالبحر، يصلح أن نقول:
الكاف اسم بمعنى مثل، وحينئذ تكون مبنية على الفتح في محل رفع أو
نصب أو جر حسب الحال. فزيد كالبحر، نقول: زيد: مبتدأ، وكالبحر:
الكاف اسم بمعنى مثل، وهي مضافة إلى البحر، والبحر مضاف إليه.
وظاهر كلام ابن مالك في قوله: (واستعمل اسماً) أن ذلك سماعي، يعني:
استعمل عند العرب ولكن لا تستعمله أنت، فيقتضي أن يكون ذلك
سماعياً، وأما أنت فلا تستعمله. قوله: (وكذا عن وعلى) يعني:
واستعمل كذلك (عن) اسماً، وكذلك (على) استعمل اسماً. يقول المؤلف:
(من أجل ذا عليهما مِنْ دخلا) يعني: من أجل استعمال عن وعلى اسمين
صح أن يدخل عليهما (مِنْ). وإعراب البيت: استعمل: فعل ماض مبني
للمجهول، ونائب الفاعل مستتر يعود على الكاف. اسماً: حال من نائب
الفاعل. وكذا عن: مبتدأ وخبر. وعلى: معطوف على ما قبله. من أجل ذا:
متعلق بقوله (دخلا). عليهما: متعلق بقوله (دخلا) أيضاً، يعني: من
أجل كونهما اسمين صح دخول (مِنْ) عليهما. وهنا الشارح خالف، فإن
الشارح يقول: لا يستعملان اسماً إلا إذا دخل عليهما (مِنْ)، وليس
كذلك، فإن ظاهر كلام ابن مالك هو الحق، وهو أنهما يستعملان اسمين
مطلقاً، وأن الدليل على أنهما يستعملان اسمين دخول مِنْ. والمعنى:
أنَّ (عن) يجوز أن تكون اسماً، تقول مثلاً: مررت مِنْ عن يمينه،
و(مِنْ) مِنْ حروف الجر وهي لا تدخل إلا على اسم. فتكون (عن) هنا
بمعنى (جانب)، أي: مررت من جانب يمينه، وكذا: مررت من عن شماله،
أي: من جانب شماله. والإعراب: مررت: فعل وفاعل. من: حرف جر. عن:
اسم مبني على السكون في محل جر. وعن مضاف، ويمين مضاف إليه، والهاء
مضاف إليه أيضاً. وكذلك (على) تقول: مررت إليه من على السطح، فيكون
معناها: فوق، وإعرابها أن تقول: من: حرف جر. على: اسم مبني على
السكون في محل جر بمن، وعلى مضاف، والسطح مضاف إليه مجرور وعلامة
جره كسرة ظاهرة في آخره. وتأتي (على) فعلاً، لكن الرسم يختلف، أما
اللفظ فهو واحد، تقول: علا الماء على العتبة. علا: فعل ماض. الماء:
فاعل. على العتبة: جار ومجرور. فصارت (على) تأتي اسماً وفعلاً
وحرفاً، و(عن) تأتي حرفاً وتأتي اسماً، و(من) تأتي حرفاً وتأتي فعل
أمر من: مان يمين، بمعنى: كذب يكذب. وهذا وأمثاله كثير مما يؤيد ما
ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من أنه لا مجاز في
اللغة العربية، وأن الكلمات ليس لها معنى ذاتي، وأن الذي يحدد معنى
الكلمة هو سياق الكلام. وإذا تدبرت كلامه وجدته حقيقة، وأهم شيء
عندي باعتبار كلامه هو أن نوصد الباب أمام أهل التحريف في الأمور
العلمية وفي الأمور العملية؛ أفلا ترون إلى أولئك الذين يستغيثون
بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقولون: هو أكرم الناس جاهاً، فهؤلاء
حرفوا في أمور عملية، وهناك أيضاً مسائل عملية في باب المعاملات
وغيرها حرف بعض العلماء فيها النصوص ارتكاباً للمجاز، فنحن إذا
قلنا: المجاز في اللغة العربية معدوم والكلمات يعينها سياقها
وأحوال من تكلم بها، سلمنا من التحريف.
معاني مذ ومنذ
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومذ ومنذ اسمان حيث رفعا أو أوليا
الفعل كجئت مذ دعا] (مذ ومنذ) تقدم أنهما من حروف الجر، لكنهما
يستعملان اسمين أيضاً، ففي بعض السياق يكونان اسمين، وفي بعض
السياق يكونان حرفين، ومتى يكونان اسمين؟ قال: (حيث رفعا أو أوليا
الفعل): (حيث رفعا): يعني: حيث كان الذي بعدهما مرفوعاً، مثل: جئت
مذ يومان، أو منذ يومان. (أو أوليا الفعل) أي: جيء بهما بعد الفعل،
(كجئت مذ دعا). إعراب: مذ يومان: مذ: مبتدأ مبني على السكون في محل
رفع. يومان: خبر المبتدأ مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى،
والنون عوض عن التنوين. ونقول في: منذ: إنه مبني على الضم في محل
رفع مبتدأ. يومان: خبر المبتدأ. قوله: (أو أوليا الفعل) أي: كذلك
إذا جاء بعدهما الفعل، يعني: إذا جعل الفعل والياً لهما. جئت مذ
دعا: جئت: فعل وفاعل. مذ: ظرف مبني على السكون في محل نصب. ودعا
فعل ماض مبني على السكون، وفاعله مستتر جوازاً تقديره هو. إذاً: مذ
ومنذ يقعان حرفي جر إذا وليهما اسم مجرور، ويقعان اسمين إذا وليهما
اسم مرفوع أو وليهما فعل، فالأول مثل قولك: جئت مذ يومان، وقولك:
جئت مذ دعا. فإذا قلت: جئت مذ يومين، فهما حرفا جر. قال المؤلف
رحمه الله تعالى: [ وإن يجرا في مضي فكمـن هما وفي الحضور معنى في
استبن] لما تكلم رحمه الله عن عملهما وأنهما يأتيان اسمين، تكلم عن
معناهما في حالة الجر، فقال: (وإن يجرا في مضي فكمن هما) أي: فهما
بمعنى (مِنْ)، فإذا قلت: جئت مذ يومين، فالمعنى: من يومين. قوله:
(وفي الحضور معنى في) أي: إذا جرا في الحضور فهما بمعنى (في)، فإذا
قلت: جئتك منذ الآن، فالمعنى: في هذا الوقت. والحاصل: منذ ومذ إذا
كانا حرفي جر، فإن جرا في ماض فهما بمعنى (من)، وإن جرا في حاضر
فهما بمعنى (في). وهل يجران في المستقبل؟ الجواب: لا يجران في
المستقبل، ولذلك لم يتكلم عليه ابن مالك ، فلا يمكن أن تقول: لا
آتيك منذ يومين؛ لأنهما إما في الحاضر وإما في الماضي. والله أعلم.
زيادة (ما) بعد بعض حروف الجر
قال المؤلف: [واستعمل اسماً وكذا عن وعلى من أجل ذا عليهما من
دخلا] أي: تستعمل الكاف اسماً بمعنى مثل: ومن أمثلة ذلك: ما رأيت
كاليوم قط، أي: ما رأيت مثل اليوم قط. وهل هذا قياس أو سماع؟
الظاهر أنه قياس، وأن كل شيء تدخل عليه الكاف يصلح أن تكون في معنى
(مثل) ما لم يوجد مانع، حتى قولنا: زيد كالبحر، يصلح أن نقول:
الكاف اسم بمعنى مثل، وحينئذ تكون مبنية على الفتح في محل رفع أو
نصب أو جر حسب الحال. فزيد كالبحر، نقول: زيد: مبتدأ، وكالبحر:
الكاف اسم بمعنى مثل، وهي مضافة إلى البحر، والبحر مضاف إليه.
وظاهر كلام ابن مالك في قوله: (واستعمل اسماً) أن ذلك سماعي، يعني:
استعمل عند العرب ولكن لا تستعمله أنت، فيقتضي أن يكون ذلك
سماعياً، وأما أنت فلا تستعمله. قوله: (وكذا عن وعلى) يعني:
واستعمل كذلك (عن) اسماً، وكذلك (على) استعمل اسماً. يقول المؤلف:
(من أجل ذا عليهما مِنْ دخلا). يعني: من أجل استعمال عن وعلى اسمين
صح أن يدخل عليهما (مِنْ). وإعراب البيت: استعمل: فعل ماض مبني
للمجهول، ونائب الفاعل مستتر يعود على الكاف. اسماً: حال من نائب
الفاعل. وكذا عن: مبتدأ وخبر. وعلى: معطوف على ما قبله. من أجل ذا:
متعلق بقوله (دخلا). عليهما: متعلق بقوله (دخلا) أيضاً، يعني: من
أجل كونهما اسمين صح دخول (مِنْ) عليهما. وهنا الشارح خالف، فإن
الشارح يقول: لا يستعملان اسماً إلا إذا دخل عليهما (مِنْ)، وليس
كذلك، فإن ظاهر كلام ابن مالك هو الحق، وهو أنهما يستعملان اسمين
مطلقاً، وأن الدليل على أنهما يستعملان اسمين دخول مِنْ. والمعنى:
أنَّ (عن) يجوز أن تكون اسماً، تقول مثلاً: مررت مِنْ عن يمينه،
و(مِنْ) مِنْ حروف الجر وهي لا تدخل إلا على اسم. فتكون (عن) هنا
بمعنى (جانب)، أي: مررت من جانب يمينه، وكذا: مررت من عن شماله،
أي: من جانب شماله. والإعراب: مررت: فعل وفاعل. من: حرف جر. عن:
اسم مبني على السكون في محل جر. وعن مضاف، ويمين مضاف إليه، والهاء
مضاف إليه أيضاً. وكذلك (على) تقول: مررت إليه من على السطح، فيكون
معناها: فوق، وإعرابها أن تقول: من: حرف جر. على: اسم مبني على
السكون في محل جر بمن، وعلى مضاف، والسطح مضاف إليه مجرور وعلامة
جره كسرة ظاهرة في آخره. وتأتي (على) فعلاً، لكن الرسم يختلف، أما
اللفظ فهو واحد، تقول: علا الماء على العتبة. علا: فعل ماض. الماء:
فاعل. على العتبة: جار ومجرور. فصارت (على) تأتي اسماً وفعلاً
وحرفاً، و(عن) تأتي حرفاً وتأتي اسماً، و(من) تأتي حرفاً وتأتي فعل
أمر من: مان يمين، بمعنى: كذب يكذب. وهذا وأمثاله كثير مما يؤيد ما
ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من أنه لا مجاز في
اللغة العربية، وأن الكلمات ليس لها معنى ذاتي، وأن الذي يحدد معنى
الكلمة هو سياق الكلام. وإذا تدبرت كلامه وجدته حقيقة، وأهم شيء
عندي باعتبار كلامه هو أن نوصد الباب أمام أهل التحريف في الأمور
العلمية وفي الأمور العملية؛ أفلا ترون إلى أولئك الذين يستغيثون
بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقولون: هو أكرم الناس جاهاً، فهؤلاء
حرفوا في أمور عملية، وهناك أيضاً مسائل عملية في باب المعاملات
وغيرها حرف بعض العلماء فيها النصوص ارتكاباً للمجاز، فنحن إذا
قلنا: المجاز في اللغة العربية معدوم والكلمات يعينها سياقها
وأحوال من تكلم بها، سلمنا من التحريف.
زيادة (ما) بعد الباء ومن وعن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وبعد من وعن وباء زيد ما فلم يعق عن
عمل قد علما] وبعد من: (بعد) هذه ظرف منصوب على الظرفية وعامله
قوله: (زيد). و(بعد) مضاف، و(من) مضاف إليه باعتبار لفظها. وعن:
معطوفة على من. وباء: معطوفة على من أيضاً. زيد: فعل ماض مبني
للمفعول. ما: نائب فاعل مبني على السكون في محل رفع. فلم يعق: أي:
هذه الزيادة، أي: أو دخول ما، والمعنى: أنها تزاد (ما) بعد من وعن
والباء، ولا تبطل العمل، بل يبقى العمل على ما هو عليه، مثال (من)
قول الله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح:25]، من:
حرف جر، وما: زائدة. خطيئاتهم: خطيئات: اسم مجرور بمن وعلامة جره
كسر ظاهر في آخره. وكذلك تزاد (ما) بعدها (عن) ويبقى عملها، قال
الله تعالى: قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ
[المؤمنون:40]. (عما قليل): عن: حرف جر، وما: زائدة، وقليل: اسم
مجرور بعن وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره، فهنا لم يتغير العمل
(خطيئاتهم) معرفة، و(قليل) نكرة، إذاً: لا فرق بين أن يكون المجرور
معرفة أو نكرة، فالعمل باق. كذلك الباء تزاد بعدها (ما) ويبقى
عملها، قال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ
لَهُمْ [آل عمران:159] الباء حرف جر، وما: زائدة، ورحمة: اسم مجرور
بالباء وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره. فتبين أن (ما) تزاد بعد عن
ومن والباء فلا يبطل العمل بهذه الزيادة.
زيادة (ما) بعد الكاف ورُبَّ
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وزيد بعد رب والكاف فكف وقد يليهما
وجر لم يكف] قوله: (زيد) الضمير يعود على (ما) أي: زيد (ما) بعد
رُبَّ والكاف فكفهما عن العمل، (وقد يليهما وجر لم يكف). والمعنى:
أن (ما) تزاد بعد (رُبَّ) فتكفها عن العمل، وإذا كفتها عن العمل
سلبت اختصاصها بالاسم، فتدخل على الفعل، قال الله تعالى: رُبَمَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2].
ومثالها إذا داخلت على الاسم أن تقول: رُبما رجلٌ لقيته، بينما لو
حذفت (ما) لقلت: رُبَّ رجلٍ لقيته، لكن لما جاءت (ما) بطل عملها،
فوجب أن يقال: ربما رجلٌ لقيته، وإعرابها: رُبَّ: حرف جر ملغى.
وما: زائدة. ورجل: مبتدأ. ولقيته: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة من
الفعل والفاعل والمفعول في محل رفع خبر. قوله: (والكاف): أي: ما
الزائدة تلي الكاف وتكفها عن العمل، ودخولها على (ما) كثير في كلام
العامة، يقولون: فلان كما البحر، لكن في اللغة العربية إنما تدخل
عليها فتكفها عن العمل، ويكون ما بعدها مبتدأ، ويحتاج إلى خبر،
تقول مثلاً: كما الناس مؤمن وكافر، فالكاف: هنا حرف جر ملغى، وما:
زائدة تكف الكاف عن العمل، والناس: مبتدأ، ومؤمن: خبر المبتدأ،
وكافر: معطوف على مؤمن. قوله: (وقد يليهما) يعني: أن رُبَّ والكاف
قد تليهما (ما) الزائدة (وجر لم يكف) أي: مع بقاء عملهما، فتقول
مثلاً: زيد كما البحرِ، أي: كالبحر. فالكاف: حرف جر، وما: زائدة،
والبحر: اسم مجرور بالكاف وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره. وكذلك
أيضاً: رُبَّ، تقول: ربما رجلٍ لقيته، بجر (رجل). فالحاصل أن (ما)
تزاد بعد خمسة من حروف الجر، ثلاثة منها لا تبطل عملها وهي: من وعن
والباء، واثنان الأصل أن تبطل عملهما وقد لا تبطله، وهما الكاف
ورُبَّ. إذا قال لنا قائل: هل نحن بالخيار في هذه الأمور؟ نقول:
أما ما ورد عن العرب فبالإعمال أو الإهمال، فليس لنا فيه خيار؛
لأنه سمع هكذا، وأما ما ننشئه نحن من الكلام فلنا فيه الخيار، وعلى
هذا فالواحد منكم إذا قرأ في كتاب، وقال: ربما رجلٌ لقيته، وآخر
قال: ربما رجلٍ لقيته، فكلاهما صحيح.
الحروف التي تعمل مذكورة ومحذوفة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحذفت رُبَّ فجرت بعد بل والفا وبعد
الواو شاع ذا العمل] قوله: (وحذفت رُبَّ)، أي: حذفت من الكلام،
فتجر وهي محذوفة لكن بعد ثلاثة حروف: بل والفاء والواو، لكنها بعد
الواو أكثر، ولهذا قال: (وبعد الواو شاع ذا العمل) بمعنى: كثر.
مثالها بعد بل أن تقول: ما رأيت رجلاً فاسقاً بل رجلٍ صالحٍ لقيته،
أي: بل رُبَّ رجلٍ صالحٍ لقيته. ومثالها بعد الفاء قول الشاعر:
فمثلكِ حبلى قد طرقت ومرضعٍ فألهيتها عن ذي تمائم محول الشاهد
قوله: (فمِثلك)، أي: فرب مِثلك حبلى، بجر (مثل)، فهنا عملت رُبَّ
وهي محذوفة. ومثالها بعد الواو قول الشاعر: وليلٍ كموج البحر أرخى
سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي أي: ورُبَّ ليلٍ كموج البحر ..
وتقدم أن (رُبَّ) تدخل عليها (ما) فتكف عملها، وربما لا تكف، وذكر
هنا أنها تعمل مذكورة وتعمل محذوفة بعد ثلاثة حروف. قال المؤلف
رحمه الله تعالى: [وقد يجر بسوى رب لدى حذف وبعضه يرى مطردا]
المعنى: قد يُجَرُّ الاسم بحرف محذوف سوى رُبَّ؛ وقد سبق لنا في
تعدي الفعل ولزومه قوله: وعدِّ لازماً بحرف جر وإن حذف فالنصب
للمنجر نقلاً وفي أن وأن يطرد مع أمن لبس كعجبت أن يدوا المهم أن
الأصل إذا حذف حرف الجر أن ينصب المجرور، وقد يحذف ويبقى الجر،
وذلك في (رُبَّ) بعد الفاء والواو وبل كما تقدم، وقد يجر بسوى
(رُبَّ) مع الحذف، لكنه قليل، فإن قوله: (قد يجر) للتقليل، يعني
أنه أحياناً يجر، والأصل عند حذف حرف الجر أنه ينصب. مثاله يقال:
أن رؤبة بن العجاج قيل له: كيف أصبحت؟ قال: خيرٍ والحمد لله. أي:
أصبحت بخيرٍ والحمد لله، فجر الاسم بالباء المحذوفة. وليس لنا نحن
أن نفعل ذلك؛ لأنه قليل في اللغة العربية، والقليل يقتصر به على
السماع. قال: (وبعضه يرى مطرداً) أي: بعض هذا الذي يحذف فيه الحرف
ويبقى عمل الجر مطرد، أي قياسي، ومثل ذلك: تمييز كم الخبرية،
يقولون إنه مجرور بحرف جر محذوف هو (من)، مثل أن أقول: كم درهمٍ
أفنيته في الكرم! أي: دراهم كثيرة أفنيتها في الكرم! ويسميها بعضهم
تكثيرية، وتمييزها مجرور بمن محذوفة، والدليل على أنه مجرور بمن
المحذوفة أن (مِنْ) تدخل كثيراً على مجرورها: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا [الأعراف:4]، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً [البقرة:249]، وأمثال ذلك، قالوا: فهذا دليل على
أن ما بعدها مجرور بمن المحذوفة، وهو مطرد. وقال بعض النحويين: إن
المجرور بعدها مجرور بالإضافة، كم: مضاف، والذي بعدها مضاف إليه
مجرور بالإضافة، وحينئذ لا يكون فيه شاهد لما قاله ابن مالك ، لكن
ابن مالك رحمه الله يرى رأي سيبويه في هذه المسألة وأن تمييز (كم
الخبرية) مجرور بمن محذوفة. وقال: إن الدليل على ذلك أنها تأتي
مذكورة في مواضع كثيرة.
شرح ألفية ابن مالك [42]
الإضافة نسبة شيء إلى شيء، والأسماء العربية قد يضاف بعضها إلى
بعض، فإن استفاد المضاف بالإضافة تخصيصاً أو تعريفاً فهي إضافة
معنوية وإلا فهي لفظية، وتمتنع إضافة الشيء إلى نفسه إلا بتأويل.