أعلام النبوة للماوردي

الباب الخامس عشر في بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه وسلم
إن لله تعالى عونا على أوامره وإغناء عن نواهيه فكان أنبياء الله تعالى معانين على تأسيس النبوّة بما تقدمه من بشائرها وتبديه من أعلامها وشعائرها ليكون السابق مبشرا ونذيرا واللاحق مصدقا وظهيرا فتدوم بهم طاعة الخلق وينتظم بهم استمرار الحق وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم بما أطلعه الله تعالى على غيبه ليكون عونا للرسول وحثا على القبول.
فمن ذلك بشائر موسى عليه السلام في التوراة: فأولها؛ في الفصل التاسع من السفر الأول (لما هربت هاجر من سارة تراءى لها ملك وقال: يا هاجر أمة سارة ارجعي إلى سيدتك فاخضعي لها، فإن الله سيكثر زرعك وذريتك حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين إبنا وتسميه إسماعيل لأن الله تعالى قد سمع خشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهذا لم يكن في ولد إسماعيل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا قبله مقهورين فصاروا به قاهرين) .
ومنها: قوله في هذا السفر لإبراهيم حين دعاه في إسماعيل (وباركت عليه وكثرته وعظمته جدا جدا وسيلد اثنى عشر عظيما وأجعله لأمة عظيمة) وليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد صلى الله عليه وسلم.
ومنها: في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس عن موسى عليه

(1/149)


السلام (إن الرب إلهكم قال إني أقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم أجعل كلامي على فمه فأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي فأنا أنتقم منه) ومعلوم أن أخا بني إسرائيل هم بنو إسماعيل وليس منهم من ظهر كلام الله تعالى على فمه غير محمد صلى الله عليه وسلم «1» .
ومنها: في الفصل العشرين من هذا السفر (أن الرب جاء من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلى من جبال فاران ومعه عن يمينه ربوات جيش القديسين فمنحهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة) فمجيء الله تعالى من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى، وإشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى لأنه كان في ساعير أرض الخليل في قرية ناصرة، واستعلاؤه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وفاران هي جبال في مكة في قول الجميع، فإن ناكروا كان دفعا لما في التوراة ولأنه لم يستعل الدين كاستعلائه منها فاندفع الإنكار بالعيان.

فصل من البشائر به
كان بين موسى وعيسى من الأنبياء الذين أوتوا الكتاب باتفاق أهل الكتابين عليهم ستة عشر نبيا ظهرت كتبهم في بني إسرائيل فبشر كثير منهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فمنهم: شعيا «2» بن أموص قال في الفصل الثاني والعشرين (قومي فأزهري مصباحك) يعني مكة (فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامته عليك فتسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك ارفعي
__________
(1) لأن القرآن وحده من بين الكتب السماوية قد انزل من لدنه تعالى لفظا ومعنى. وقد قال عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، لتفاصيل أوفى في هذا الباب يمكن للقارىء الكريم الرجوع إلى كتابنا «قصص القرآن الكريم» .
(2) سفر إشعياء.

(1/150)


بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم يستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بعيد وتسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم حتى تعمرك الإبل المؤبلة وتضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ يحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام قاذار) يعني غنم العرب لأنهم من ولد قاذار «3» بن إسماعيل (ويرتفع إلى مديحي ما يرضينني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمدا) وهذه الصفات كلها موجودة بمكة فكان ما دعا إليها هو الحق ومن قام بها هو المحق.
وفي فصل آخر من كتابه: (قال لي الرب فامض فاقم على المنظرة تخبرك بما ترى فرأى راكبين أحدهما راكب حمار) يعني عيسى (والآخر راكب جملا) يعني محمدا (فبينما هو كذلك إذ أقبل أحد الراكبين وهو يقول هوت بابل وتكسرت آلهتها المنجورة على الأرض فهذا الذي سمعت الرب إله إسرائيل قد أنبأتكم) .
وفي الفصل «4» السادس عشر منه (لتفرح أرض البادية العطشى بمنتهج البراري والفلوات ولتسر وتزهو مثل الوعل فإنها بأحمد محاسن لبنان، ويكمل حسن الدساكر والرياض وسترون جلال الله تعالى بها) قال شعيا وسلطانه على كتفه يريد علامة نبوته على كتفه. وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبادية الحجاز.
وفي الفصل التاسع عشر منه: (هتف هاتف من البدو فقال خلوا الطريق للرب وسهلوا سبيل الهنا في القفر فستمتلىء الأودية مياها وتفيض فيضا وتنخفض الجبال والروابي انخفاضا وتصير الآكام «5» دكاكا، والأرض الوعرة مذللة ملسا، وتظهر كرامات الرب ويراها كل أحد.
وفي الفصل العشرين منه وهو مذكور في ثلاث وخمسين ومائة من مزامير داود: (لترتاح البوادي وقراها، ولتصير أرض قاذار مروجا، ويسيح سكان
__________
(3) قيدار أو قيذار على اختلاف الروايات.
(4) الفصل هو ما نسميه تبعا لتسميتهم الإصحاح حيثما استشهدنا به أو ذكرناه.
(5) الآكام: التلال والجبال.

(1/151)


الكهوف ولتهتفوا من قلال الجبال بمحمد الرب وليرفعوا تسابيحه، فإن الرب يأتي كالجبار الملتظي المتكبر وهو يزجر ويقتل أعداءه) وأرض قاذار هي أرض العرب لأنهم ولد قاذار. والمروج ما صار حول مكة من النخل والشجر والعيون.
وفي الفصل الحادي والعشرين منه أيضا: (أن الضعفاء والمساكين يستسقون ماء ولا ماء لهم فقد جفت ألسنتهم من الظمأ وأنا الرب أجيب يومئذ دعوتهم ولن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال الأنهار وأجري بين القفار والعيون وأحدث في البدو أجساما وأجري في الأرض العطشى ماء معينا وأنبت في البلاقع القفار الصنوبر والآس والزيتون وأغرس في القاع الصفصف البر ليروها جميعا ثم يتدبروا ويعلموا أن يد الله صنعت ذلك وقدوس إسرائيل ابتدعه) وهذه صفات بلاد العرب فيما أحدث الله تعالى لهم فيها بإسلامهم

ومن بشائر نوال بن نوتال «6» من أنبياء بني إسرائيل
مثل الصبح المسلط على الجبال شعب عظيم عزيز لم يكن مثله قط ولا يكون بعده مثله إلى أبد الأبد، أمامه نار تتأجج وخلفه لهيب وتلتهب الأرض بين يديه مثل فردوس عدن فإذا جاز فيها وعبرها تركها برية خاوية رؤيته كرؤية الجبل رجالته فر سراع مثل الفرسان أصواتهم كصوت لهب النار الذي يحرق الهشيم رجفت الأرض أمامهم وتزعزعت السماء وأظلمت الشمس وغاب نور النجوم والرب أسمع صوتا بين يدي أجناده لأن عسكره كثير جدا وعمل قوله عزيز لأن نور الرب عظيم مرهوب جدا) وهذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من بشائر عويديا «7» من أنبياء بني إسرائيل
وفي كتابه: (قد سمعنا خبرا من قبل الرب وأرسل رسولا إلى الشعوب ثم
__________
(6) هو يوئيل بن فثوئيل، والمقطع المذكور هنا هو من الإصحاح الثاني من سفره المذكور في أسفار إسرائيل مع خلاف بسيط بالترجمة دون اختلاف في المعنى. من العدد (2) إلى (11) .
(7) وسفره إصحاح واحد والعبارة الواردة من أوله.

(1/152)


يتقدم إليه بالحرب أيها الساكن في بحر الكهف ومحله في الموضع الأعلى لأن يوم الرب قريب من جميع الشعوب) . فهذا مرموز في نبوّته.

من بشائر ميخاء «8» من أنبياء بني إسرائيل في كتابه
(فأما الآن فسيتسلم إلى الوقت الذي تلد فيه الوالدة ويقوم فيرعاهم) يعني الرب (وبكرامة اسم الله ربه ويقبلون بهم إلى من سيعظم سلطانه إلى أقطار الأرض ويكون على عهده الإسلام) .

من بشائر حبقوق «9» من أنبياء بني إسرائيل
(جاء الله من طور سيناء واستعلن القدوس من جبال فاران وانكسفت لبهاء محمد وانخسفت من شعاع المحمود وامتلأت الأرض من محامده لأن شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعده وتسير المنايا أمامه وتصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وبحث عنهم فتصفصفت الجبال القديمة واتضعت الروابي الدهرية وتزعزع سور أرض مدين ولقد جاز المساعي القديمة قطع الرأس من حب الأثيم ودمغت رؤوس سلاطينه بغضبه) ومعلوم أن محمدا ومحمودا صريح في اسمه وهما يتوجهان إلى من انطلق عليه اسم المحمد وهو بالسريانية موشيحا أي محمد ومحمود ولهذا إذا أراد السرياني أن يحمد الله تعالى قال شريحا لإلهنا.

من بشائر حزقيال «10» من أنبياء بني إسرائيل
في كتابه: (إن الذي يظهر من البادية فيكون فيه حتف اليهود كالكرمة أخرجت ثمارها وأغصانها عن مياه كثيرة وتفرعت منها أغصان مشرقة على
__________
(8) سفر ميخا والعبارتان من الإصحاح الخامس.
(9) المقطع المذكور هو من سفر حبقوق الإصحاح الثالث. وفي الترجمة التي بين أيدينا يبدأ المقطع بالقول: «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران إلخ..» والقدوس هنا هو المحمّد أو المحمود.
(10) وفي سفر حزقيال بشارات عديدة بالرسول الكريم غير هذه أيضا.

(1/153)


أغصان الأكابر والسادات وبسقت فلم تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة وضرب بها على الأرض فأخرجت ثمارها وأتت نار فأكلتها فكذلك غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى وخرج من أغصانه الفاضلة نار فأكلت ثمار تلك حتى لم يبق منها عصا قوية ولا قضيب ينهض بأمر السلطان) .

من بشائر يرصفينا «11» من أنبياء بني إسرائيل
في كتابه: (أيها الناس ترجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة فقد حان أن أظهر حكمي بحشر الأمم وجميع الملوك لأصب عليهم سخطي وتكبري، هناك أجدد للأمم اللغة المختارة ليرفعوا اسم الرب جميعا وليعبدوه في ربقة واحدة معا وليأتوا بالذبائح من مغاراتها تكون) ومعلوم أن اللغة العربية هي المختارة لأنها طبقت الأرض وانتقلت أكثر اللغات إليها حتى صار ما عداها نادرا.

من بشائر زكريا «12» بن يوحنا من أنبياء بني إسرائيل
في كتابه: (رجع الملك الذي ينطق على لساني وأيقظني كالرجل الذي يستيقظ من نومه وقال لى: ما الذي رأيت، فقلت: منارة من ذهب وكفة على رأسها ورأيت على الكفة سبعة سرج لكل سراج منها سبعة أفواه وفوق الكفة شجرتا زيتون إحداهما عن يمين الكفة والأخرى عن يسارها، فقلت للملك الذي ينطق على لساني: ما هذه يا سيدي، فرد الملك عليّ وقال لي: أما تعلم ما هذه؟ فقلت: ما أعلم، فقال لي: هذا قول الرب في زربايال) يعني محمدا (وهو يدعى باسمي وأنا أستجيب له للنصح والتطهير وأصرف عن الأرض أنبياء الزور والأرواح النجسة لا بقوة ولا بعز ولكن بروحي، بقول الرب القوي) ويعني بشجرتي الزيتون، الدين والملك، وزربايال هو محمد صلى الله عليه وسلم.

من بشائر دانيال من أنبياء بني إسرائيل
في كتابه: (رأيت على سحاب السماء المسمى كهيئة إنسان جاء فانتهى
__________
(11) هو سفر صفينا، والمقطع المذكور من الإصحاح الثالث من العدد 8 وما بعد.
(12) هو آخر أسفار اليهود المسماة العهد القديم.

(1/154)


إلى عتيق الإمام وقدموه بين يديه فحوله الملك والسلطان والكرامة أن تعبد له جميع الشعوب والأمم واللغات سلطانه دائم إلى الأبد له يتعبد كل سلطان ويمضي ألفان وثلثمائة ينقضي عقاب الذنوب يقوم ملك منيع الوجه في سلطانه عزيز القوة لا تكون عزته تلك بقوة نفسه وينجح فيما يريد ويجوز في شعب الاطهار ويهلك الأعزاء ويؤتى بالحق الذي لم يزل قبل العالمين) وفي هذا دليل على أمرين:
أحدهما: صدق الخبر لوجوده على حقه.
والثاني: صحة نبوّته لظهور الخبر في صحته.

من بشائره في رؤيا بختنصر «13»
وهو أن بختنصر رأى في السنة الثانية من ملكه رؤيا ارتاع منها ونسيها، فأحضر من في ممالكه من الكهنة والمنجمين وكان قد ملك الأقاليم السبعة، وسألهم عن الرؤيا وتأويلها، فقالوا له: اذكرها لنا حتى نذكر تأويلها لك، فأمر بقتلهم إن لم يذكروها وتأويلها.
وكان دانيال النبي قد سباه من اليهود فاستمهل في أمرهم ورغب إلى الله تعالى في اطلاعه على الرؤيا وتأويلها، فأطلعه الله تعالى على ذلك، فأتى بختنصر وقال: أيها الملك إنك كلفت هؤلاء ما لا يعلمه إلا الله وقد رغبت إليه فأطلعني عليه ورؤياك التي رأيتها أن قلبك جاش واختلج بما يحدث بعدك في آخر الزمان فعرفك مبدي السرائر ما يكون أنك أيها الملك رأيت صنما عظيما قائما قبالتك له منظر رائع رأسه من الذهب الابريز وصدره وذراعاه من فضة وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعض رجليه من حديد وبعضها من خزف، ورأيت حجرا انقطع من جبل عظيم بغير يد إنسان فضرب ذلك الصنم فهشمه حتى صار كالرماد ألوت به ريح عاصف حتى لم يعرف له مكان ثم عظم الحجر الصلد الذي صك الصنم حتى صار جبلا عظيما امتلأت منه الأرض كلها، فهذه الرؤيا وأنا معبرها، أما الصنم فهم الملوك فأنت الرأس الذهب ويقوم من
__________
(13) سفر دانيال.

(1/155)


بعدك من هو دونك ألين منك.
فأما المملكا الثالثة التي هي مثل النحاس فتسقط على الأرض كلها وأما المملكة الرابعة التي هي مثل الحديد فتكون عزيزة كما أن الحديد يهشم الجميع فكذلك هذه تسحق وتغلب الكل.
وأما الأرجل والأصابع التي رأيت أن منها من خزف الفخار ومنها من حديد فإن المملكة تكون مختلفة ومتفرقة يكون منها أصل من جوهر الحديد وخلط من خزف الفخار فيكون بعض المملكة قويا وبعضها واهيا كسيرا لا يأتلف بعضها ببعض كما لا يختلط الحديد بالخزف.
وأما الحجر الواقع من الجبل فإن إله السماء يرسل مملكة من عنده لأنه لم تقطع الحجر يد إنسان في زمان هذه الممالك يهلكها ويبقى إلى آخر الدهر ولا يكون لأمة أخرى مملكة ولا سلطان إلا دقه كما يدق الحجر الحديد والنحاس والفضة والذهب فعرّفك الله العظيم ما يكون بعدك في آخر الأيام، فهذه رؤياك وتأويلها.
فخر بختنصر على وجهه ساجدا لدانيال وقال: إن إلهكم هذا هو إله الآلهة ورب الأملاك حقا وهو مبدي السرائر، وجعل دانيال رأسا مؤمرا على أرض بابل، ومعلوم أنه لم يرسل الله تعالى سلطانا أزال به الممالك وملأ به الأرض ودام له الأمر إلا بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.

من بشائر أرميا بن برخنا من أنبياء بني إسرائيل في أيام بختنصر
لما قتل أهل الرس نبيهم، قال ابن عباس: أمر الله تعالى أن يأمر بختنصر أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم، فأمره بذلك فدخل بختنصر بلاد العرب، فقتل وسبى حتى انتهى إلى تهامة فأتى بمعد بن عدنان فأمر بقتله، فقال له النبي: «لا تفعل فإن في صلب هذا نبيا يبعث في آخر الزمان يختم الله به الأنبياء» ، فخلى سبيله وحمله معه حتى أتى حصونا باليمن فهدمها وقتل أهلها وزوّج معدا بأجمل امرأة منهم في زمانها وخلفه بتهامة حتى نسل بها، قال ابن عباس: وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَكَمْ

(1/156)


قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ «14» .

من بشائر داود في الزبور
(سبحان الذي هيكله الصالحون يفرح إسرائيل بخالقه وبيوت صيلون من أجل أن الله اصطفى له أمته وأعطاه النصر وسدد الصالحين منه بالكرامة يسبحونه على مضاجعهم ويكّبرون الله بأصوات مرتفعة بأيديهم سيوف ذوات شفرتين لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال) . ومعلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين ومحمد هو المنتقم بها من الأمم.
وفيه: (أن الله أظهر من صيفون أكليلا محمودا) وصيفون: العرب، والأكليل: النبوة، ومحمود هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي مزمور آخر منه: (أنه يجوز من بحر إلى بحر ومن لدن الأنهار إلى الأنهار إلى منقطع الأرض وأن تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه الملوك بالقرابين وتسجد وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ويرأف بالضعفاء والمساكين وأنه يعطى من ذهب بلاد سبأ ويصلى عليه في كل وقت ويبارك عليه في كل يوم ويدوم ذكره إلى الأبد) . ومعلوم أنه لم يكن هذا إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي مزمور آخر: قال داود: اللهم ابعث جاعل السنّة حتى يعلم الناس أنه بشر، أي ابعث نبيا يعلم الناس أن المسيح بشر لعلم داود أن قوما سيدعون في المسيح ما ادعوه، وهذا هو محمد صلى الله عليه وسلم.

من بشائر المسيح به في الإنجيل
قال المسيح عليه السلام للحواريين: (أنا ذاهب وسيأتيكم البار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له وهو يشهد عليّ وأنتم
__________
(14) سورة الأنبياء الآية (11) .

(1/157)


تشهدون لأنكم معي من قبل الناس وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به) .
وفي نقل يوحنا عنه: (أن البار قليط لا يجيئكم ما لم أذهب فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا ولكنه مما يسمع به يكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب) .
وفي نقل آخر عنه: (أن البار قليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء إني سائل أن يبعث إليكم بار قليط آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء) .
وفي نقل آخر عنه: (أن البشير ذاهب والبار قليط بعده يحيي لكم الأسرار ويقيم لكم كل شيء وهو يشهد لي كما شهدت له فإني لأجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل) . والبار قليط بلغتهم لفظ من الحمد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
وأنا أحمد وأنا محمود وأنا محمد.
فهذه من بشائر الأنبياء عن الكتب الإلهية المتناصرة بصحة نبوته المتواترة الأخبار بانتشار دعوته وتأييد شريعته، ولعل ما لم يصل إلينا منها أكثر، فمنهم من عيّنه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى جميعها فيه حتى صار جليا بعد الاحتمال ويقينا بعد الارتياب.
فإن قيل: مجيء الأنبياء موضوع لمصالح العالم وهم مأمورون بالرأفة والرحمة ومحمد جاء بالسيف وسفك الدماء وقتل النفوس فصار منافيا لما جاء به موسى وعيسى فزال عن حكمهما في النبوّة لمخالفتهما في السيرة فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: ان الله تعالى بعث كل نبي بحسب زمانه، فمنهم من بعثه بالسيف لأن السيف أنجع، ومنهم من بعثه باللطف لأن اللطف أنفع، كما خالف بين معجزاتهم بحسب أزمانهم، فبعث موسى بالعصا في زمان السحر، وبعث عيسى بإحياء الموتى في زمان الطب، وبعث محمد بالقرآن في زمان الفصاحة، لأن الناس في بدء أمرهم يتعاطفون مع القلة ثم يتنافرون

(1/158)


ويتحاسدون مع الكثرة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل» .
والجواب الثاني: أن السيف إذا كان لطلب الحق كان خيرا، واللطف إذا كان مع إقرار الباطل كان شرا لأن الشرع موضوع لإقرار الفضائل الإلهية والحقوق الدينية، ولذلك جاء الشرع بالقتل والحدود ليستقر به الخير وينتفي به الشر لأن النفوس الأشرة لا يكفها إلا الرهبة فكان القهر لها أبلغ في انقيادها من الرغبة وكانت العرب أكثر الناس شرا وعتوا لكثرة عددهم وقوة شجاعتهم فلذلك كان السيف فيهم أنفع من اللطف.
والجواب الثالث: أنه لم يكن في جهاده بالسيف بدعا من الرسل ولا أول من أثخن في أعداء الله تعالى.
وقبل هذا إبراهيم عليه السلام جاهد الملوك الأربعة الذين ساروا إلى بلاد الجزيرة للغارة على أهلها وحاربهم حتى هزمهم بأحزابه وأتباعه.
وهذا يوشع بن نون قتل نيفا وثلاثين ملكا من ملوك الشام وأباد من مدنها ما لم يبق له أثر ولا من أهلها صافر من غير أن يدعوهم إلى دين أو يطلب منهم أتاوة وساق الغنائم.
وغزا داود من بلاد الشام ما لم يدع فيها رجلا ولا امرأة إلا قتلهم، وهو موجود في كتبهم.
ومحمد صلى الله عليه وسلم بدأ بالاستدعاء وحارب بعد الآباء.
روى ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متنصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله تعالى شيء فإذا انتهك من محارم الله تعالى شيء كان أشدهم في ذلك غضبا وما خيّر بين أمرين، إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما، وقد كان صلى الله عليه وسلم أحث الناس على الصفح والتعاطف.
روى أسيد بن عبد الرحمن عن فروة بن مجاهد عن عقبة بن عامر قال:
لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك واعف

(1/159)


عمن ظلمك، فهل يكون أحنى على الخلق ممن يأمرهم بمثل هذا، وإنما تطلبت الملحدة بمثل هذا الأعتراض القدح في النبرّات فإنهم لم يعفوا نبيا من القدح في معجزاته والطعن على سيرته حتى قال منهم في عصرنا ما طعن به على موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم عليهم بشعر نظمه فقال:
وفالق البحر لم يفلق جوانبه ... إذ ضاع فيه ضياع الحر في السفل
ومدع يدعي الأشياء خلقته ... ما باله زال والأشياء لم تزل
وآخر يدعي بالسيف حجته ... هل حجة السيف إلّا حجة البطل
فحضرني حين وردت هذه الأبيات إلى بعض أهل العلم فأجاب عنها فقال:
قل للذي جاء بالتكذيب للرسل ... ورد معجزهم بالزيغ والدغل
وقال في ذاك أبياتا مزخرفة ... ليوقع الناس في شك من الملل
ضياع موسى دليل من أدلته ... من بعد ما صار فرق البحر كالجبل
ليعلم الناس أن الله فالقه ... وأن موسى ضعيف تاه في السبل
والمعجز الحق في فلق المياه له ... وجعله البر ما يحتاط بالحيل
وابن البتول فإن الله نزهه ... عما ذكرت من الدعوى على الجمل
ما كان منه سوى طير يقدره ... طينا وربي أحياه ولم يزل
وقال إني بإذن الله فاعله ... وإذن ربي يحيي الخلق لا عملي
وصاحب السيف كان السيف حجته ... بعد البيان عن الإعجاز والمثل
وجاء مبتديا بالنصح مجتهدا ... بمعجزات لها حارت أولو النحل
منها كتاب مبين نظمه عجب ... فيه من الغيب ما أوحى إلى الرسل
فأفحم الشعراء الملفقين به ... لما تحداهم بالرفق في مهل
وأنبع الماء عذبا من أنامله ... من غير صخرة كانت ولا وشل
وشارف القوم وافاداه وكلمه ... وقال أنى من قتلي على وجل
والذئب قد أخبر الراعي بمبعثه ... فجاء يشهد في الإسلام في عجل
والجذع حن إليه حين فارقه ... حنين ذات جؤار ساعة الهبل
وأخبر الناس عما في ضمائرهم ... مفصلا بجواب غير محتمل

(1/160)


ونبأ الروم من نصر يكون لها ... من بعد سبعة أعوام على جدل
والفرس أخبرها عن قتل صاحبها ... برويز إذ جاءه فيروز في شغل
وإن تقصيت ما جاء النبي به ... طال النشيد ولم آمن من الملل

(1/161)


الباب السادس عشر في هتوف الجن بنبوّته صلى الله عليه وسلم
والجن من العالم المميز يأكلون ويتناكحون ويتناسلون ويموتون وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار وإن تميزوا بأفعال وآثار إلّا أن يخص الله تعالى برؤيتهم من يشاء، وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية وما تخيلوه من آثارهم الخفية قال الله تعالى فيما وصفه من إنشاء الخلق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ «1» يريد بقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ- آدم- أبا البشر عليه السلام وفي الصلصال وجهان:
أحدهما: أنه الطين النابت.
والثاني: أنه الطين الذي لم تمسه النارم والحمأ جمع حمأة وفيها وجهان.
أحدهما: أنه المنصوب القائم فيكون صفة للإنسان.
والثاني: أنه المنسوب فيكون تمييزا للجنس وقوله: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل آدم، لأن آدم خلق آخر الخلق. وفي الجان وجهان:
والثاني: أنه أبو الجن فآدم أبو البشر والجان أبو الجن وإبليس أبو الشياطين وفي قوله: مِنْ نارِ السَّمُومِ «2» وجهان:
__________
(1) سورة الحجر الايتان (26- 27) .
(2) سورة الحجر من الآية (27) .

(1/163)


أحدهما: من نار الشمس.
والثاني: نار الصواعق بين السماء وبين حجاب دونها فلم يختلفوا في أن الجن يتناسلون ويموتون ومنهم مؤمن ومنهم كافر.
واختلف في الشياطين فزعم قوم أنهم كفار الجن يتناسلون ويموتون، وزعم آخرون أنهم غير الجن وأنهم من ولد إبليس، واختلف من قال بهذا في تناسلهم وموتهم فذهب فريق إلى أنهم يتناسلون ويموتون، وذهب آخرون إلى أنهم كإبليس لا يموتون إلّا معه وأن تناسلهم انقطع بإنظار إبليس إلى يوم يبعثون فإن أنكر قوم خلق الجن ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية قهرتهم براهين العقول وحجج القياس لأن الله تعالى أنشأ خلق العالم من أربعة أجرام جعلها أصولا لما خلق من العالم الحي وهي الأرض والماء والهواء والنار، والعالم نوعان إتفاقا علوي وسفلي، فالعالم السفلي نوعان خلقهما من جرمين:
أحدهما: من الأرض وهو ما عليها من الحيوان.
والثاني: من الماء وهو ما فيه من السموك وهما هابطان لهبوط الأرض والماء وظاهران لظهور أصلهما واستمر القياس فيهما.
وبقي العالم العلوي جرمان: الهواء والنار وقد استقر خلق الملائكة من الهواء فاقتضى معقول القياس أن يكون خلق الجن من النار لتكون الأجرام الأربعة أصولا لخلق أجناس أربعة.
ولعلو الهواء كان عالمه من الملائكة علويا ولخفائه كان خفيا لا يهبط إلّا عن أمر إلهي ولا يعاين إلّا بمعونة إلهية.
ولعلو النار في أصل هابط كان لعالمه من الجن علو وهبوط ولخفاء كمونها خفي عالمها عن العيان إلّا بمعونة إلهية فصار اصلان من الأربعة محسوسين بالعيان وهما على الأرض وفي الماء وأصلان معقولين بالقياس وهما الملائكة والجن ولولا أن دافع ذلك عادل عن الدلائل الشرعية لما عدلنا إلى هذا الاستدلال الخارج عن البراهين الشرعية.

(1/164)


فصل [في وجوب التكليف على الجن]
فإذا ثبت خلق الجن بما دللنا عليه من شرع ومعقول فهم مكلفون لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحداهم بالقرآن بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «3» وقال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «4» وفي صرفهم وجهان:
أحدهما: أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما هذا الحادث في السماء إلا لحادث في الأرض وتخيلوا به تجديد النبوة فجابوا الأرض حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن مكة عامدا إلى عكاظ وهو يصلي الفجر فاستمعوا القرآن ورأوه كيف يصلي ويقتدي به أصحابه فعلموا أنه لهذا الحادث صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب، وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
وحكى عكرمة أن السورة التي كان يقرؤها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «5» .
والوجه الثاني: أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله تعالى حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة فنزل عليه جبريل بهذه الآية وأخبره بوفود الجن وأمره بالخروج إليهم فخرج ومعه ابن مسعود حتى جاء الحجون عند شعيب أبي ذر قال ابن مسعود: فخط على خطا وقال: لا تجاوزه، ومضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل حتى لم أره، فعلى الوجه الأول لم يعلم بهم حتى أتوه، وعلى الوجه الثاني أعلمه جبريل قبل إتيانهم، واختلف أهل العلم في رؤيته لهم وقراءته عليهم.
فحكي سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرهم ولم يقرأ
__________
(3) سورة الإسراء الآية (88) .
(4) سورة الأحقاف الآية (29) .
(5) سورة العلق الآية (1) .

(1/165)


عليهم وإنما سمعوا قراءته حين مروا به مصليا.
وحكي عن ابن مسعود أنه رآهم وقرأ عليهم القرآن.
وفي قوله: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا «6» وجهان:
أحدهما: فلما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتو لسماعه.
والوجه الثاني: فلما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنصتوا لسماع قوله، فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين وفيه وجهان:
أحدهما: فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين به.
والثاني: لما فرغ من قراءته القرآن ولوا إلى قومهم منذرين وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «7» في فصاحته وبلاغته.
والثاني: عجبا في حسن مواعظه.
وفي قوله يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ «8» وجهان:
أحدهما: إلى مراشد الأمور.
والثاني: إلى معرفة الله تعالى، فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامّ الرسالة إلى الإنس والجن فلم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولا من الإنس واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم فجوزه قوم لقول الله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
«8» ومنع آخرون منه وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس وحملوا قوله: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
«9» على الذين لما سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين فأما كفارهم فيدخلون النار، وأما مؤمنوهم فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثوابا على إيمانهم، فقال الضحاك: ومن جوّز أن يكون رسلهم منهم يدخلون الجنة.
__________
(6) سورة الأحقاف الآية (29) .
(7) سورة الجن الآية (1) .
(8) سورة الجن الآية (2) .
(9) سورة الأنعام الآية (130) .

(1/166)


وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصا منها، ثم يقال لهم: كونوا ترابا كالبهائم، فأما استراقهم للسمع فقد كانوا في الجاهلية قبل بعث الرسول يسترقونه ولذلك كانت الكهانة في الإنس لإلقاء الجن إليهم ما استرقوه من السمع في مقاعد كانت لهم يقربون فيها من السماء كما قال الله تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «10» ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء فينقلونها إلى الكهنة فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «11» يعني بالشهب الكواكب المحرقة وبالرصد الملائكة، فأما استراقهم للسمع بعد بعث الرسول فقد اختلف فيه أهل العلم على قولين:
أحدهما: أنه زال استراقهم للسمع ولذلك زالت الكهانة.
والثاني: أن استراقهم باق بعد بعث الرسول، وكان قبل الرسول لا تأخذهم الشهب لقول الله تعالى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً «11» والذي يستمعونه أخبار الأرض دون الوحي لأن الله تعالى قد حفظ وحيه منهم لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «12» .
واختلف على هذا في أخذ الشهب لهم هل يكون قبل استراقهم للسمع أو بعده، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الشهب تأخذهم قبل استراق السمع حتى لا يصل إليهم لانقطاع الكهانة بهم وتكون الشهب منعا عن استراقه.
وذهب آخرون منهم إلى أن الشهب تأخذهم بعد استراقه وتكون الشهب عقابا على استراقه.
وفيها: إذا أخذتهم قولان:
أحدهما: أنها تقتلهم ولذلك انقطعت الكهانة بهم.
والثاني: أنها تجرح وتحرق ولا تقتل ولذلك عادوا لاستراقه بعد الاحتراق ولولا بقاؤهم لانقطع الاسترقاق بعد الاحتراق ويكون ما يلقونه من السمع إلى
__________
(10) سورة الجن الآية (9) .
(11) سورة الجن الآية (9) .
(12) سورة الحجر الآية (9)

(1/167)


الجن دون الإنس لانقطاع الكهانة عن الإنس وفي الشهاب الذي يأخذهم قولان:
أحدهما: أنه نور يمتد لشدة ضيائه ثم يعود.
والقول الثاني: أنه نار تحرقهم ولا تعود، فهذا خطب الجن فيما هم عليه من نعت وحكم.

هتوف الجن «13»
فأما هتوفهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من آيات نبوّته فإن كان قبل مبعثه كان من نذر آياته الصادرة عن إلهام فمن هتوفهم بنبوّته ما حكاه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن العباس رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رجل من خثعم قال لا تحل حلالا ولا تحرم حراما وكانت تعبد أصناما فبينا نحن عند صنم منها ذات ليلة نتقاضى إليه في أمر قد شجر بيننا إذ صاح من جوف الصنم صائح يقول:
يا أيها الركب ذوو الأحكام ... ما أنتم وطائش الأحلام
ومسندو الحكم إلى الأصنام ... هذا نبي سيد الأنام
يصدع بالحق وبالإسلام ... أعدل ذي حكم من الأحكام
ويتبع النور على الأظلام ... سيعلن في البلد الحرام
قد طهر الناس من الآثام
قال الخثعمي ففزعنا منه وخرجت إلى مكة وأسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن بشائر هتوفهم: ما رواه عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال: بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ذات يوم جالسا، إذ مر به رجل، فقيل له: أتعرف هذا المار يا أمير المؤمنين قال: ومن هو قالوا هذا سواد بن قارب رجل من أهل اليمن وكان له رئي من الجن فأرسل إليه عمر، فقال:
__________
(13) هتوف الجن: مناديهم الذي يتحدث إلى البشر.

(1/168)


أنت سواد بن قارب قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نعم يا أمير المؤمنين. بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني رئى من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلا بها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذا بها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قدامها كأذنا بها
فقلت له دعني فأنا أمسيت ناعسا ولم أرفع بما قال رأسا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:
عجبت للجن وتخبارها ... وشدها العيش بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها
فقلت: دعني فقد أمسيت ناعسا ولم أرفع بما قال رأسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:
عجبت للجن وتجساسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: فأصبحت وقد امتحن الله تعالى قلبي للإسلام فرحلت ناقتي واتيت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقلت: اسمع مقالي يا رسول الله، قال:
«هات» ، فأنشأت:

(1/169)


أتاني نجي بين هدو ورقدة ... ولم أك فيما قد نجوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت من ذيل الأزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب
ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في وجوههم، قال: فوثب إليه عمر فالتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع منك هذا الحديث فهل يأتيك رئيك اليوم؟ فقال: مذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن.
ومن بشائر هتوفهم: ما رواه إبراهيم بن سلامة عن إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب حدث يوما في مجلس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خرجنا قبل مظهر النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين إلى الأبطح بمكة معنا عجل نريد ذبحه ونحن نفر فلما ذبحناه وتصابّ دمه ومات إذ صاح من جوفه صائح يقول: يا ذريح يا ذريح صائح يصيح بصوت فصيح نبي يظهر الحق يفيح يقول لا إله إلّا الله، فصاح كذلك ثلاث مرات ثم هدأ صوته وتفرقنا ورعبنا منه فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن ظهر، فقال رجل من القوم: لا تعجب يا أمير المؤمنين خرجت وأصحاب لي في تجارة لنا ونحن أربعة نفر نريد الشام حتى إذا كنا ببعض أودية الشام قرمنا إلى اللحم قرما شديدا قبل مظهر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بظبية قد عرضت لنا مكسورة القرن فلم نزل بها حتى أخذناها، قال: فو الله إننا نتآمر بذبحها إذ هتف هاتف فقال:
يا أيها الركب السراع الأربعة ... خلوا سبيل الظبية المروعة
فإنها لطفلة ذات دعة ... خلوا عن العضبان فقدامي سعة
ثم قال: خلوا عنها، فو الله لقد رأيت هذا الوادي وما يمر فيه أقل من خمسين رجلا حتى كنتم به، قال: فأرسلناها، فلما أمسينا أخذ بأزمة رواحلنا

(1/170)


حتى أتي بنا إلى حاضر لجب كثير الأهل فأطعمنا من الثريد ما أذهب قرمنا ثم خرجنا حتى قضى الله تجارتنا فصحبنا رجل من يهود، فلما كنا بذلك الوادي هتف هاتف فقال:
إياك لا تعجل وخذها موبقه ... فإن شر السير سير الحقحقه
قد لاح نجم فاستوى في مشرقه ... يكشف عن ظلما عبوس موبقه
يدعو إلى ظل جنان مونقه
فقال اليهودي: تدرون ما يقول هذا الصارخ؟ قلنا: ما يقول؟ قال:
يخبر أن نبيا قد ظهر خلافكم بمكة، فقدمنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
ومن بشائر هتوفهم: ما حكاه أبو عيسى، قال: سمعت قريش في الليل هاتفا على أبي قبيس يقول:
فإن يسلم السعد أن يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان سعد بكر وسعد تميم، فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات زخارف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هما والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
ومن بشائر هتوفهم: ما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أسماء بنت أبي بكر قالت: ما علم المشركون من أهل مكة أين يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة حتى هتف هاتف بعد ذلك بأيام فقال:
جزى الله خيرا والجزاء فريضة ... رفيقين حلّا خيمتي أم معبد
هما دخلا بالهدى واهتدى به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب محل فتاتهم ... ومقعدها للمسلمين بمرصد
وقالت أسماء: ما علم المشركون من أهل مكة بوقعة بدر حتى هتف

(1/171)


هاتف من جبال مكة وفتيان يسمرون بمكة فقال:
أزال الحنيفيون بدرا بوقعة ... سينقض منها ملك كسرى وقيصرا
أصاب رجالا من لؤي وجردت ... حرائر يضر بن الترائب حسرا
ألا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد ذاق حزنا في الحياة وحسرا
وأصبح في هامي العجاج معفرا ... تناوبه الطير الجياع وتنفرا
فعلموا بذلك وظهر الخبر من الغد ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه «14» ولا يحج قوله «15» فخروجه عن العادة نذير وتأثيره في النفوس بشير وقد قبلها السامعون وقبول الأخبار يؤكد صحتها ويؤكد حجتها.
فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة جاز أن تكون دليلا على صحة الكهانة، فعنه جوابان:
أحدهما: أن دلائل النبوة غيرها وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة، أخبارا.
والثاني: أن الكهانة عن مغيب والبشارة عن معين، فالعيان معلوم والغائب موهوم.
__________
(14) لا يرى شخصه: لا مكانة مرموقة له
(15) لا يحج بقوله: لا يحتج بقوله.

(1/172)