الروض الأنف ت السلامي

أمر ربيعة بن نصر ملك اليمن وقصة شِقّ وسَطِيح الكاهنين معه
رؤيا ربيعة بن نصر:
قال ابن إسحاق : وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هالته وفظع بها، فلم يدع كاهنا، ولا ساحرا، ولا عائفا2، ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها،
__________
حديث ربيعة بن نصر ورؤياه
وبعضهم يقول فيه نصر بن ربيعة، وهو في قول نساب اليمن: ربيعة بن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم. وقال الزبير في هذا النسب نصر بن مالك بن شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم3 ولخم أخو جذام، وسمي
ـــــــ
2 العائف: يزجر الطير.
3 في الاشتقاق نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم ، ومن نسله النعمان بن المنذر.

(1/66)


فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.
نسب سطيح وشق:
واسم سطيح ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان.
وشق: بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قسر بن عبقر بن أنمار بن نزار، وأنمار أبو بجيلة وخثعم.
ـــــــ
لخما لأنه لخم أخاه أي لطمه فعضه الآخر في يده فجذمها، فسمي جذاما، وقال قطرب اللخم سمكة في البحر بها سمي الرجل لخما وأكثر المؤرخين يقولون فيه نصر بن ربيعة وقد تقدم ما قاله سعيد بن جبير في نسب النعمان وهو من ولد ربيعة، وأن لخما في نسبه تصحيف من عجم بن قنص.
وذكر رؤياه وسطيحا الكاهن ونسبه وقد خالفه محمد بن حبيب النسابة في شيء من هذا النسب في كتاب المحبر وكان سطيح جسدا ملقى لا جوارح له - فيما يذكرون - ولا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب انتفخ فجلس وكان شق شق إنسان - فيما يذكرون - إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة ويذكر عن وهب بن منبه1 أنه قال قيل لسطيح أنى لك هذا العلم؟ فقال لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله تعالى منه موسى - عليه السلام - فهو يؤدي إلي من ذلك ما يؤديه.
ـــــــ
1 كان ممن يروجون قصص الماضين . يقول عنه ابن خلكان: كانت له معرفة بأخبار الأوائل وقيام الدنيا وأحوال الأنبياء توفي سنة 110هـ وقيل غير ذلك . لكني أسأل من أين كان يأتي بهذه الأخبار التي لا توجد في كتاب الله؟

(1/67)


نسب بجيلة:
قال ابن هشام: وقالت اليمن: وبجيلة: [بنو] أنمار، بن إراش بن لحيان، بن عمرو، بن الغوث، بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، ويقال إراش بن عمرو بن لحيان بن الغوث. ودار بجيلة وخثعم يمانية.
قال ابن إسحاق : فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق فقال له إني رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها. قال أفعل. رأيت حممه خرجت من ظلمه فوقعت بأرض تهمه فأكلت منها كل ذات جمجمه فقال له الملك ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، ما عندك في تأويلها، فقال احلف بما بين الحرتين من حنش لتهبطن أرضكم الحبش فليملكن ما بين أبين إلى جرش، فقال له الملك وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ
ـــــــ
وولد سطيح وشق في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر، وهي بنت الخير الحميرية ودعت بسطيح قبل أن تموت فأتيت به فتفلت في فيه وأخبرت أنه سيخلفها في علمها، وكهانتها، وكان وجهه في صدره لم يكن له رأس ولا عنق ودعت بشق ففعلت به مثل ما فعلت بسطيح ثم ماتت وقبرها "الجحفة1", وذكر أبو الفرج أن خالد بن عبد الله القسري كان من ولد شق هذا، فهو خالد بن عبد الله بن أسد بن يزيد بن كرز وذكر أن كرزا كان دعيا، وأنه كان من اليهود، فجنى جناية فهرب إلى بجيلة، فانتسب فيهم ويقال كان عبدا لعبد القيس وهو ابن عامر ذي الرقعة، وسمي بذي الرقعة ; لأنه كان أعور يغطي عينه برقعة. ابن عبد شمس بن جوين بن شق الكاهن بن صعب.
ـــــــ
1 في مراصد الاطلاع: كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق مكة وهي ميقات أهل مصر والشام – إن لم يمروا بالمدينة وفي تقويم البلدان لأبي الفداء وهي رسم خال ولا ساكن به واسمها مشهور ، وهي بالقرب من رابغ .

(1/68)


موجع فمتى هو كائن؟ أفي زماني هذا، أم بعده؟ قال لا، بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين قال أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين قال ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟. قال يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم
ـــــــ
وقوله في حديث الرؤيا: أكلت منها كل ذات جمجمه وكل ذات نسمه. نصب كل أصح في الرواية وفي المعنى ; لأن الحممة نار فهي تأكل ولا تؤكل على أن في رواية الشيخ برفع كل ولها وجه لكن في "حاشية كتابه" أن في نسخة البرقي التي قرأها على ابن هشام: كل ذات بنصب اللام.
وقوله "خرجت من ظلمه" أي من ظلمة وذلك أن الحممة قطعة من نار وخروجها من ظلمة يشبه خروج عسكر الحبشة من أرض السودان، والحممة الفحمة وقد تكون جمرة محرقة كما في هذا الحديث فيكون لفظها من الحميم ومن الحمى أيضا لحرارتها، وقد تكون منطفئة فيكون لفظها من الحمة وهي السواد يقال حممت وجهه إذا سودته، وكلا المعنيين حاصل في لفظ الحممة ههنا.
وقوله بين روضة وأكمة لأنها وقعت بين صنعاء وأحوازها1.
وقوله في أرض تهمه أي منخفضة ومنه سميت تهامة.
وقوله أكلت منها كل ذات جمجمه ولم يقل كل ذي جمجمة وهو من باب قوله تعالى سبحانه {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْء} [فاطر 18].
لأن القصد إلى النفس والنسمة فهو أعم، ويدخل فيه جميع ذوات الأرواح ولو جاء بالتذكير لكان إما خاصا بالإنسان أو عاما في كل شيء حي أو جماد ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - "[تنح عني، فإن] كل بائلة تفيخ" ، أي: يكون منها إفاخة، وهي
ـــــــ
1 جمع حوزة وهو الناحية .

(1/69)


من عدن، فلا يترك أحدا منهم باليمن. قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟
قال لا، بل ينقطع.
قال ومن يقطعه؟ قال نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي قال وممن هذا النبي؟.
قال رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال وهل للدهر من آخر؟ قال نعم يوم يجمع فيه
ـــــــ
الحدث وقال النحاس هو تأنيث الصفة والخلقة.
وقوله "ليهبطن أرضكم الحبش" هم بنو حبش بن كوش بن حام1 بن نوح وبه سميت الحبشة.
وقوله: ما بين أبين إلى جرش ذكره سيبويه بكسر الهمزة على مثل إصبع وجوز فيه الفتح وكذلك تقيد في هذا "الكتاب" وقال ابن ماكولا: هو أبين بن زهير بن أيمن بن الهميسع من حمير، أو من ابن حمير سميت به البلدة وقد تقدم قول الطبري أن أبين وعدن ابنا عدن، سميت بهما البلدتان.
وقوله بغلام لا دني ولا مدن. الدني معروف والمدن الذي جمع الضعف مع الدناءة. قاله صاحب "العين".
وقوله: لحق ما فيه أمض: أي: ما فيه شك ولا مستراب، وقد عمر سطيح زمانا طويلا بعد هذا الحديث حتى أدرك مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز ما رأى من ارتجاس الإيوان2 وخمود النيران ولم تكن خمدت قبل ذلك بألف عام وسقطت من قصره أربع عشرة شرفة وأخبره الموبذان ومعناه القاضي، أو المفتي بلغتهم أنه رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، فانتشرت في بلادهم وغارت بحيرة ساوة فأرسل كسرى عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن
ـــــــ
1 في قاموس د. بوست : أنه أحد أولاد نوح ، وأنه كان له أربعة بنين : كوش ، ومصرايم ، وفوص, وكنعان .
2 كسرى هذا من ملوك الساسانية أو الفرس الثانية حكم حوالى سبعا وأربعين سنة ، والارتجاس: الاضطراب ، أو الصوت الشديد من الرعد ، والإيوان: بناء أزج غير مسدود الوجه.

(1/70)


الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون قال أحق ما تخبرني؟ قال نعم. والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق.
ربيعة بن نصر وشق:
ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان فقال نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة. قال فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، وأن
ـــــــ
نفيلة الغساني إلى سطيح وكان سطيح من أخوال عبد المسيح ولذلك أرسله كسرى فيما ذكر الطبري إلى سطيح يستخبره علم ذلك ويستعبره رؤيا الموبذان فقدم عليه وقد أشفى على الموت فسلم عليه فلم يحر إليه سطيح جوابا فأنشأ عبد المسيح يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري للوسن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
تجوب بي الأرض علنداة شزن ... ترفعني وجنا وتهوي بي وجن
حتى أتى عاري الجآجي والقطن ... تلفه في الريح بوغاء الدمن
كأنما حثحث من حضني ثكن!
ثكن اسم جبل فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه فقال عبد المسيح على جمل مشيح1 جاء إلى سطيح حين أوفى على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان. رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها. يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة،
ـــــــ
1 جاد مسرع ، وفي "الطبرى"يسيح .

(1/71)


قولهما واحد إلا أن سطيحا قال "وقعت بأرض تهمه فأكلت منها كل ذات جمجمه". وقال شق: "قعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة".
فقال له الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان وليملكن ما بين أبين إلى نجران.
ـــــــ
وظهر صاحب الهراوة وخمدت نار فارس، وغارت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة1 فليست الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه.
وقوله فازلم به معناه قبض قاله ثعلب، وقوله شأو العنن. يريد الموت وما عن منه قاله الخطابي. وفاد مات. يقال منه فاد يفود وأما يفيد فمعناه يتبختر.
وقول ابن إسحاق في خبر ربيعة بن نصر، فجهز أهله وبنيه إلى الحيرة، وكتب لهم إلى ملك يقال له سابور بن خرزاذ.
من تاريخ ملوك الفرس:
قال المؤلف الشيخ الحافظ أبو القاسم - عفا الله عنه - ولا يعرف خرزاذ في ملوك بني ساسان من الفرس، وهم من عهد أزدشير بن بابك إلى يزدجرد الذي قتل في أول خلافة عثمان - رضي الله عنه - معروفون مسمون بأسمائهم وبمقادير مددهم. مشهور ذلك عند الإخباريين والمؤرخين ولكنه يحتمل أن يكون ابن خرزاذ هذا ملكا دون الملك الأعظم منهم أو يكون أحد ملوك الطوائف وهو الظاهر في
ـــــــ
1 بادية بين الكوفة والشام وأرض مستوية لاحجر فيها.

(1/72)


فقال له الملك: وأبيك يا شق، إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن؟ أفي زماني، أم بعده؟ قال لا، بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شأن ويذيقهم أشد الهوان. قال ومن هذا العظيم الشأن؟ قال غلام ليس بدني،
ـــــــ
مدة ربيعة بن نصر لأنه جد عمرو بن عدي وابن أخت جذيمة الأبرش1 وكان ملك جذيمة أوله فيما أحسب في مدة ملوك الطوائف وآخره في مدة الساسانيين وأول من ملك الحيرة من الساسانية سابور بن أزدشير وهو الذي خرب الحضر2 وكانت ملوك الطوائف متعادين يغير بعضهم على بعض قد تحصن كل واحد منهم في حصن وتحوز إلى حيز منهم عرب. ومنهم أشغانيون على دين الفرس، وأكثرهم ينتسبون إلى الفرس من ذرية دارا بن دارا، وكان الذي فرقهم وشتت شملهم وأدخل بعضهم بين بعض لئلا يستوثق لهم ملك ولا يقوم لهم سلطان الإسكندر بن فيلبش اليوناني، حين ظهر على دارا، واستولى على بلاد مملكته وتزوج بنته روشنك. بوصية أبيها دارا له بذلك حين وجده مثخنا في المعركة ولم يكن الإسكندر أراد قتله لأنه كان أخاه لأمه فيما زعموا، فوضع الإسكندر رأسه على فخذه - فيما ذكروا - وقال يا سيد الناس لم أرد قتلك، ولا رضيته، فهل لك من حاجة؟ قال نعم. تزوج ابنتي روشنك، وتقتل من قتلني، ثم قضى دارا، ففعل ذلك الإسكندر وفرق الفرس، وأدخل بينهم العرب. فتحاجزوا، وسموا: ملوك الطوائف لأن كل واحد منهم كان على طائفة من الأرض ثم دام أمرهم كذلك أربعمائة وثمانين سنة في قول الطبري، وقد قيل أقل من ذلك وقال المسعودي: خمسمائة وعشرين سنة وفي أيامهم بعث عيسى ابن مريم - عليه السلام - وذلك بعد موت الإسكندر بثلاثمائة سنة. فابن خرزاذ هذا - والله أعلم - من أولئك. وبنو
ـــــــ
1 ويلقب أيضا بالوضاح ، وقد ملك جذيمة من مشارق الشام إلى الفرات من قبل الروم.
2 الحضر: اسم مدينة في البرية بإزاء تكريت بينها وبين الموصل والفرات ، يقال: لم يبق منها إلا رسم السور.

(1/73)


ولا مدن يخرج عليهم من بيت ذي يزن [فلا يترك أحدا منهم باليمن]؛ قال:
ـــــــ
ساسان القائمون بعد ملوك الطوائف وبعد ملوك الأشغانيين: هم وبنو ساسان بن بهمن. وهو من الكينية وإنما قيل لهم الكينية لأن كل واحد منهم يضاف إلى كي وهو البهاء. ويقال معناه إدراك الثأر. وأول من تسمى بكي أفريذون بن أثفيان قاتل الضحاك بثأر جده جم ثم صار الملك في عقبه إلى منوشهر الذي بعث موسى - عليه السلام - في زمانه إلى كي قاووس. وكان في زمن سليمان - عليه السلام - وسيأتي طرف من ذكره في الكتاب إلى كي يستاسب الذي ولي بختنصر وملكه. وبختنصر هو الذي حير الحيرة1 حين جعل فيها سبايا العرب، فتحيروا هناك فسميت الحيرة، وأخذ اسمه من بوخت وهي النخلة لأنه ولد في أصل نخلة. ثم كان بعد كي يستاسب بهمن بن إسبندياذ بن يستاسب.
وكان له ابنان دارا وساسان وكان ساسان هو الأكبر فكان قد طمع في الملك بعد أبيه فصرف بهمن الأمر عنه إلى دارا لخبر يطول ذكره حملته على ذلك "خمانا أم دارا"، فخرج "ساسان" سائحا في الجبال ورفض الدنيا، وهانت عليه وعهد إلى بنيه متى كان لهم الأمر أن يقتلوا كل أشغاني وهم نسل "داراء" فلما قام "أزدشير بن بابك "وقيده الدارقطني "أردشير" بالراء المهملة ودعا ملوك الطوائف إلى القيام معه على من خالفه حتى ينتظم له ملك فارس، وأجابه إلى ذلك أكثرهم وكانوا يدا على الأقل حتى أزالوه وجعل "أزدشير" يقتل كل من ظهر عليه من أولئك الأشغانيين، فقتل ملكا منهم يقال له الأردوان2 واستولى على قصره فألقى فيه امرأة جميلة رائعة الحسن فقال لها: ما أنت؟ فقالت أمة من إماء الملك وكانت بنت الملك الأردوان لاذت بهذه الحيلة من القتل لأنه كان لا يبقي منهم
ـــــــ
1 في المراصد أنها سميت بهذا لأن تبعا لما قصد خراسان خلف ضعفة جنده بهذا الموضع وقال لهم خيروا به أي أقيموا .
2 يلقب بالأصغر، ومدة ملكه كما في الطبرى 13سنة.

(1/74)


....................................................
ـــــــ
ذكرا ولا أنثى، فصدق قولها، واستسرها فحملت منه فلما أثقلت استبشرت بالأمان منه فأقرت أنها بنت الأشغاني الذي قتل واسمه أردوان - فيما ذكروا - فدعا وزيرا له ناصحا - وقد سماه الطبري في التاريخ - فقال استودع هذه بطن الأرض فكره الوزير أن يقتلها، وفي بطنها ابن للملك وكره أن يعصي أمره فاتخذ لها قصرا تحت الأرض ثم خصى نفسه وصبر مذاكيره وجعلها في حريرة ووضع الحريرة في حق وختم عليه ثم جاء به الملك فاستودعه إياه وجعل لا يدخل إلى المرأة في ذلك القصر سواه ولا تراها إلا عينه حتى وضعت المولود ذكرا، فكره أن يسميه قبل أبيه فسماه شاهبور، ومعناه ابن الملك فكان الصبي يدعى بهذا، ولا يعرف لنفسه اسما غيره فلما قبل التعليم نظر في تعليمه وتقويم أوده. واجتهد في كل ما يصلحه إلى أن ترعرع الغلام. فدخل الوزير يوما على أزدشير وهو واجم فقال لا يسوءك الله أيها الملك فقد ساءني إطراقك ووجومك، فقال كبرت سني، وليس لي ولد أقلده الأمر بعدي، وأخاف انتثار الأمر بعد انتظامه وافتراق الكلمة بعد اجتماعها، فقال له إن لي عندك وديعة أيها الملك وقد احتجت إليها، فأخرج إليه الحقة1 بخاتمها، ففض الخاتم وأخرج المذاكير منها، فقال له الملك ما هذا؟ فقال كرهت أن أعصي الملك حين أمرني في الجارية بما أمر فاستودعتها بطن الأرض حية حتى أخرج الله منها سليل الملك حيا، وأرضعته وحضنته وها هو ذا عندي، فإن أمر الملك جئته به فأمره أزدشير بإحضاره في مائة غلام من أبناء فارس، بأيديهم الصوالج2 يلعبون الكرة فلعبوا في القصر فكانت الكرة تقع في إيوان الملك فيتهيبون أخذها حتى طارت للغلام فوقعت في سرير الملك فتقدم حتى أخذها، ولم يهب ذلك فقال الملك ابني والشمس!! متعجبا من عزة نفسه
ـــــــ
1 هي الحق وجمعها حقق وحقوق وحقاق ، وفي الطبري أنه طلب من الملك أن يختم الحق بخاتمه.
2مفردها: الصولج ، والصولجة وهي عصا معقوف طرفها يضرب بها الفارس الكرة .

(1/75)


أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل قال وما يوم الفصل؟ قال يوم تجزى فيه الولاة ويدعى فيه من السماء بدعوات يسمع منها الأحياء والأموات ويجمع فيه بين الناس للميقات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات؛
ـــــــ
وصرامته ثم قال له ما اسمك يا غلام؟ فقال له شاهبور، فقال له صدقت أنت ابني. وقد سميتك بهذا الاسم وبور هو الابن وشاه هو الملك بلسانهم وإضافتهم مقلوبة يقدمون المضاف إليه على المضاف كما تقدم في "الكي" الكلمة التي كانت في أوائل أسماء الملوك الكينية فكانوا يضافون إلى الكي ثم إن أزدشير عهد إلى ابنه شاهبور، وسيأتي في الكتاب في قول الأعشى:
أقام به شاهبور الجنود ... حولين يضرب فيه القدم
ثم غيرت العرب هذا الاسم فقالوا: سابور وتسمى به ملوك بني ساسان منهم سابور ذو الأكتاف الذي وطئ أرض العرب، وكان يخلع أكتافهم حتى مر بأرض بني تميم ففروا منه1 وتركوا عمرو بن تميم. وهو ابن ثلاثمائة سنة لم يقدر على الفرار وكان في قفة معلقا من عمود الخيمة من الكبر فأخذ وجيء به الملك فاستنطقه سابور فوجد عنده رأيا ودهاء فقال له أيها الملك لم تفعل هذا بالعرب؟ فقال: يزعمون أن ملكنا يصل إليهم على يد نبي يبعث في آخر الزمان فقال عمرو: فأين حلم الملوك وعقلهم؟ إن يكن هذا الأمر باطلا فلا يضرك، وإن يكن حقا ألفاك، وقد اتخذت عندهم يدا، يكافئونك عليها، ويحفظونك بها في ذويك، فيقال إن سابور انصرف عنهم واستبقى بقيتهم وأحسن إليهم بعد ذلك والله أعلم.
وأما أبرويز بن هرمز - وتفسيره بالعربية مظفر - فهو الذي كتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 إن سابور ضرى بقتل العرب ونزع أكتاف رؤسائهم إلى أن هلك ،وكان ملكه /72/سنة ذكره الطبري 2/60.

(1/76)


قال أحق ما تقول؟ قال إي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض.
قال ابن هشام: أمض. يعني: شكا، هذا بلغة حمير، وقال أبو عمرو. أمض أي باطل.
هجرة ربيعة بن نصر إلى العراق:
فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما
ـــــــ
وسيأتي طرف من ذكره وهو الذي عرض على الله تعالى في المنام1 فقيل له سلم ما في يديك إلى صاحب الهراوة فلم يزل مذعورا من ذلك حتى كتب إليه النعمان بظهور النبي -صلى الله عليه وسلم- بتهامة فعلم أن الأمر سيصير إليه حتى كان من أمره ما كان وهو الذي سئل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "ما حجة الله على كسرى؟ فقال إن الله تعالى أرسل إليه ملكا، فسلك يده في جدار مجلسه حتى أخرجها إليه وهي تتلألأ نورا، فارتاع كسرى، فقال له الملك لم ترع يا كسرى. إن الله قد بعث رسوله فأسلم تسلم [دنياك وآخرتك]2، فقال سأنظر" ذكره الطبري، في أعلام كثيرة من النبوة عرضت على أبرويز أضربنا عن الإطالة بها، في هذا الموضع وتسمى أيضا سابور بعد هذا سابور بن أبرويز أخو شيرويه، وقد ملك نحوا من شهرين في مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - وملك أخوه شيرويه نحوا من ستة أشهر ثم ملكت بوران أختهما، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال "لا يفلح قوم ملكتهم امرأة" 3 فملكت سنة وهلكت وتشتت أمرهم كل الشتات. ثم اجتمعوا على يزدجرد بن شهريار والمسلمون قد غلبوا على أطراف أرضهم ثم كانت حروب القادسية معهم إلى أن قهرهم الإسلام وفتحت بلادهم
ـــــــ
1 يردد ما لا يصح .
2 زيادة من الطبري .
3 أخرجه أحمد في مسنده والبخاري والترمذي واليسائي عن أبي بكرة.

(1/77)


يصلحهم وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة.
ـــــــ
على يدي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واستؤصل أمرهم والحمد لله1.
وسابور تنسب إليه الثياب السابرية2 قاله الخطابي، وزعم أنه من النسب الذي غير فإذا نسبوا إلى نيسابور المدينة، قالوا: نيسابوري على القياس وزعم بعضهم أن ني هي القصب وكانت مقصبة فبناها سابور مدينة، فنسبت إليه والله أعلم.
رجوعه إلى حديث سطيح وذي يزن:
فصل وقول سطيح في حديث ربيعة: إرم ذي يزن، المعروف سيف بن ذي يزن، ولكن جعله إرما، إما لأن الإرم هو العلم فمدحه بذلك وإما شبهه بعاد إرم في عظم الخلق والقوة قال الله تبارك وتعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 6، 7].
وربيعة بن نصر هذا هو: أحد ملوك الحيرة، وهم آل المنذر والمنذر هو ابن ماء السماء وهي أمه عرف بها، وهي من النمر بن قاسط وابنه عمرو بن هند عرف بأمه أيضا، وهي بنت الحارث آكل المرار جد امرئ القيس الشاعر ويعرف عمرو بمحرق لأنه حرق مدينة، يقال لها: ملهم وهي عند اليمامة، وقال المبرد والقتبي سمي محرقا، لأنه حرق مائة من بني تميم وذكر خبرهم3.
وولد نصر بن ربيعة هو عدي، وكان كاتبا لجذيمة الأبرش وابنه: عمرو،
ـــــــ
1 في "المرصد" عن القادسية أنها فتحت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وقيل في عهد عمر رضي الله عنه.
2 الثياب السابرية نوع من أجود الثياب وأرقها.
3 في "الاشتقاق" ص 435: المحرق هو: الحارث بن عمرو بن عامر، وقد عرف بأنه المحرق الثاني.

(1/78)


نسب النعمان بن المنذر:
فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر، فهو في نسب اليمن وعلمهم النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، ذلك الملك.
قال ابن هشام: النعمان بن المنذر بن المنذر فيما أخبرني خلف الأحمر.
ـــــــ
وهو ابن أخت جذيمة ويكنى جذيمة أبا مالك في قول المسعودي، وهو منادم الفرقدين واسم أخت جذيمة رقاش بنت مالك بن فهم بن غنم بن دوس، وهو الذي اختطفته الجن1، وفيه جرى المثل شب عمرو عن الطوق. وهو قاتل الزباء بنت عمرو واسمها: نائلة في قول الطبري ويعقوب بن السكيت وميسون في قول دريد واستشهد الطبري بقول الشاعر2:
أتعرف منزلا بين المنقى ... وبين مجر نائلة القديم
وقد أملينا في غير هذاالموضع ذكر نسبها وطرفا من أخبارها.
وأخو عمرو بن هند: النعمان بن المنذر، وهو ابن مامة وكان ملكه بعد عمرو، وفي ملك عمرو ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي زمن كسرى أنوشروان بن قباذ.
وأسقط ابن إسحاق من هذا النسب رجلين وهما: النعمان بن امرئ القيس وأبوه امرؤ القيس بن عمرو بن عدي. وقد قيل إن النعمان هذا هو أخو امرئ القيس وملك بعده وسيأتي ذكر النعمان بعد هذا عند ذكر صاحب الحضر إن شاء الله تعالى، وأنه الذي بنى الخورنق والسدير.
ـــــــ
1 بمثل أسطورة حطف الجن للناس، سيطر الدجاجلة على الذين لا دين لهم ولا عقل.
2 هو القعقاع بن الدرماء الكلبي.

(1/79)