الروض
الأنف ت السلامي أخبار الكهان
من العرب والأحبار من يهود والرهبان من النصارى:
معرفة الكهان والأحبار والرهبان بمبعثه صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، والكهان
من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه
لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من يهود والرهبان من النصارى. فعما
وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه
وأما الكهان من العرب: فأتتهم به الشياطين من الجن
ـــــــ
فصل في الكهانة:
روي في مأثور الأخبار أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى، فلما بعث
عيسى، أو ولد حجب عن ثلاث سموات فلما ولد محمد حجب عنها كلها، وقذفت
الشياطين بالنجوم وقالت قريش حين كثر القذف بالنجوم قامت الساعة فقال
عتبة بن
ـــــــ
1 ذكر البخاري عن البراء: "كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من
ظهره فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِهَا} [البقرة:189]
(2/194)
فيما تسترق من
السمع إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم وكان الكاهن والكاهنة
لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقي العرب لذلك فيه بالا، حتى
بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون. فعرفوها.
قذف الجن بالشهب، وآية ذلك على مبعثه صلى الله عليه وسلم:
فلما تقارب أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحضر مبعثه. حجبت
الشياطين عن السمع وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق
السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله في
العباد يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حين بعثه
وهو يقص عليه خبر الجن إذ حجبوا عن السمع فعرفوا ما عرفوا، وما أنكروا
من ذلك حين رأوا ما رأوا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا
أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً
وَلا وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ
ـــــــ
ربيعة: انظروا إلى العيوق1 فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا
فلا. وممن ذكر هذا الخبر الزبير بن أبي بكر.
رمي الشياطين:
وذكر ابن إسحاق في هذا الباب ما رميت به الشياطين حين ظهر القذف
بالنجوم لئلا يلتبس بالوحي وليكون ذلك أظهر للحجة وأقطع للشبهة والذى
قاله صحيح ولكن القذف بالنجوم قد كان قديما، وذلك موجود في أشعار
القدماء من الجاهلية. منهم عوف بن أجرع وأوس بن حجر وبشر بن أبي حازم
وكلهم جاهلي، وقد وصفوا الرمي بالنجوم وأبياتهم في ذلك مذكورة في مشكل
ابن قتيبة في تفسير سورة الجن2، وذكر عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن
ابن شهاب أنه
ـــــــ
1 نجم أحمر مضيء في طرف الجرة الأيمن يتلو الثريا لا يتقدمها.
2 انظر كتاب "القرطين" 2/184. وفي هذا يقول ابن قتيبة: وفي أيدي الناس
كتب الأعاجم وسيرهم تنبئ عن انقضاض النجوم في كل عصر وكل زمان.
(2/195)
شَطَطاً
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى
اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن : 1 – 6] إلى
قوله {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَداً} [الجن: 9، 10].
ـــــــ
سئل عن هذا الرمي بالنجوم أكان في الجاهلية؟ قال نعم ولكنه إذ جاء
الإسلام غلظ وشدد وفي قول الله سبحانه {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ
فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن: 8] الآية
ولم يقل حرست دليل على أنه قد كان منه شيء فلما بعث النبي - صلى الله
عليه وسلم - ملئت حرسا شديدا وشهبا، وذلك لينحسم أمر الشياطين وتخليطهم
ولتكون الآية أبين والحجة أقطع وإن وجد اليوم كاهن فلا يدفع ذلك بما
أخبر الله به من طرد الشياطين عن استراق السمع فإن ذلك التغليظ
والتشديد كان زمن النبوة ثم بقيت منه أعني من استراق السمع بقايا يسيرة
بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وفي بعض البلاد. "وقد سئل رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان فقال ليسوا بشيء فقيل إنهم
يتكلمون بالكلمة فتكون كما قالوا، فقال تلك الكلمة من الجن يحفظها
الجني، فيقرها في أذن وليه قر الزجاجة فيخلط فيها أكثر من مائة كذبة"،
ويروى: قر الدجاجة1 بالدال وعلى هذه الرواية تكلم قاسم بن ثابت في
الدلائل. والزجاجة بالزاي أولى ; لما ثبت في الصحيح فيقرها في أذن وليه
كما تقر القارورة ومعنى يقرها: يصبها ويفرغها، قال الراجز:
لا تفرغن في أذني قرها ... ما يستفز فأريك فقرها
وفي "تفسير" ابن سلام عن ابن عباس، قال إذا رمى الشهاب الجني لم يخطئه
ويحرق ما أصاب ولا يقتله وعن الحسن قال في أسرع من طرفة العين وفي
تفسير ابن سلام أيضا عن أبي قتادة أنه كان مع قوم فرمي بنجم فقال لا
تتبعوه أبصاركم وفيه أيضا عن حفص أنه سأل الحسن أيتبع بصره الكوكب،
ـــــــ
1 وفي رواية: قز الزجاج بالزاء, أي: بصوتها إذا صب فيها الماء.
(2/196)
فلما سمعت الجن
القرآن عرفت أنها إنما منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء خبر
السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه لوقوع الحجة وقطع
الشبهة. فآمنوا وصدقوا، ثم {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ
مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ... [الأحقاف: 29، 30] الآية.
وكان قول الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} . [الجن: 6] أنه كان
الرجل من العرب من قريش وغيرهم إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت
فيه قال إني أعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة من شر ما فيه.
ـــــــ
فقال: قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ } [الملك:
5]. وقال {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]. قال كيف نعلم إذا لم ننظر إليه لأتبعنه
بصري.
الجن الذين ذكرهم القرآن:
وذكر النفر من الجن الذين نزل فيهم القرآن والذين {وَلَّوْا إِلَى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا
كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 29،30]. وفي الحديث
أنهم كانوا من جن نصيبين1. وفي التفسير أنهم كانوا يهودا ; ولذلك
قالوا: من بعد موسى، ولم يقولوا من بعد عيسى ذكره ابن سلام2. وكانوا
سبعة قد ذكروا بأسمائهم في التفاسير والمسندات وهم شاصر وماصر ومنشى،
ولاشى، والأحقاب وهؤلاء الخمسة ذكرهم ابن دريد ووجدت في خبر حدثني به
أبو بكر بن طاهر الإشبيلي القيسي عن أبي علي الغساني في فضل عمر بن عبد
ـــــــ
1 مدينو عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام,
وقبل غير ذلك.
2 الذي ينقله عن ابن سلام, تهويمة خيال.
(2/197)
قال ابن هشام:
الرهق الطغيان والسفه. قال رؤبة بن العجاج:
إذ تستبي الهيامة المرهقا
وهذا البيت في أرجوزة له. والرهق أيضا: طلبك الشيء حتى تدنو منه فتأخذه
أو لا تأخذه. قال رؤبة بن العجاج يصف حمير وحش:
بصبصن واقشعررن من خوف الرهق
وهذا البيت في أرجوزة له. والرهق أيضا: مصدر لقول الرجل رهقت الإثم أو
العسر الذي أرهقتني رهقا شديدا، أي حملت الإثم أو العسر الذي حملتني
ـــــــ
العزيز قال: "بينما عمر بن عبد العزيز يمشي في أرض فلاة فإذا حية ميتة
فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها فإذا قائل يقول يا سرق اشهد لسمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك: "ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك
رجل صالح" , فقال من أنت - يرحمك الله - فقال رجل من الجن الذين تسمعوا
القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبق منهم إلا أنا وسرق
وهذا سرق قد مات. وذكر ابن سلام من طريق أبي إسحاق [عمرو بن عبد الله
بن علي] السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم
منه ثم انقشع فإذا حية قتيل فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية
ببعضه ودفنها. فلما جن الليل إذا امرأتان تتساءلان أيكم دفن عمرو بن
جابر؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر؟ فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر
فقد وجدتموه. إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين منهم فقتل عمرو، وهو
الحية التي رأيتم وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد - صلى
الله عليه وسلم - ثم ولوا إلى قومهم منذرين!!
ابن علاط والجن:
فصل وأما ما ذكره في معنى قوله سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ
الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} الآية [الجن: 6]. فقد
روي في معنى ذلك عن حجاج بن علاط السلمي وهو والد نصر بن حجاج الذي قيل
فيه:
(2/198)
حملا شديدا،
وفي كتاب الله تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً
وَكُفْراً} [الكهف: 80] وقوله {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً}
[الكهف: 73].
فزع ثقيف من رمي الجن بالنجوم، وسؤالهم عمرو بن أمية:
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن
أول العرب فزع للرمي بالنجوم - حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف، وأنهم
جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج - قال وكان أدهى
العرب وأنكرها رأيا - فقالوا له يا عمرو: ألم تر ما حدث في السماء من
القذف بهذه النجوم؟ قال بلى فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى
بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس
في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو والله طي الدنيا، وهلاك هذا الخلق
الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد
الله به هذا الخلق فما هو؟.
حديثه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في رمي الجن بالنجوم:
وقال ابن إسحاق: وذكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن علي بن
ـــــــ
أم لا سبيل إلى نصر بن حجاج1
أنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش فقال له الركب قم خذ
لنفسك أمانا، ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول:
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي
من كل جني بهذا النقب
حتى أءوب سالما وركبي
فسمع قارئا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ
أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ
ـــــــ
1 ذكره البغدادي في "الخزاتة": وحكى السهيلي في: "الروضة الأنف" هذه
الحكاية على خلاف ما تقدم قال: الحجاج بن علاظ: وهو والد نصر الذي حلق
عمر رأسه فنفاه من المدينة, فأتى الشام.
(2/199)
الحسين بن علي
بن أبي طالب، عن عبد الله بن العباس عن نفر من الأنصار: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لهم "ماذا كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى
به؟ قالوا: يا نبي الله كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك ملك
ملك ولد مولود مات مولود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس ذلك
كذلك ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش
فسبحوا، فسبح من تحتهم فسبح لتسبيحهم من تحت ذلك فلا يزال التسبيح يهبط
حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض مم سبحتم؟
فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم فيقولون ألا تسألون من فوقكم مم
سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش فيقال لهم مم سبحتم؟
فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا، للأمر الذي كان فيهبط به الخبر من
سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثوا به فتسترقه
الشياطين بالسمع على توهم واختلاف ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض
فيحدثوهم به فيخطئون ويصيبون فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضا ويخطئون
بعضا. ثم إن الله عز وجل حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها،
فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة".
ـــــــ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا
بِسُلْطَانٍ} الآية [الرحمن: 33]. فلما قدم مكة خبر كفار قريش بما سمع
فقالوا: أصبت1 يا أبا كلاب. إن هذا يزعم محمد أنه أنزل عليه فقال والله
لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي، ثم أسلم وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة ،
وابتنى بها مسجدا فهو يعرف به2.
حول انقطاع الكهانة:
فصل: وذكر ابن إسحاق حديث ابن عباس وفيه كنا نقول إذا رأيناه: يموت
ـــــــ
1 روى البلوي نفس القصة وفيها: "صبأت" بدلا من أصبت وهو الأصح.
2 ما ذكره هنا لا سند له. وما ورد من أحاديث عن استماع الجن ذكرها
البيهقي في "الدلائل".
(2/200)
.....................................................
ـــــــ
عظيم أو يولد عظيم" وفي هذا دليل على ما قدمناه من أن القذف بالنجوم
كان قديما، ولكنه إذ بعث الرسول عليه السلام وغلظ وشدد - كما قال
الزهري - وملئت السماء حرسا. وقوله في آخر الحديث "وقد انقطعت الكهانة
اليوم فلا كهانة" يدل قوله "اليوم" على تخصيص ذلك الزمان كما قدمناه
والذي انقطع اليوم وإلى يوم القيامة أن تدرك الشياطين ما كانت تدركه في
الجاهلية الجهلاء وعند تمكنها من سماع أخبار السماء وما يوجد اليوم من
كلام الجن على ألسنة المجانين إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض مما
لا نراه نحن كسرقة سارق أو خبيئته في مكان خفي1 أو نحو ذلك وإن أخبروا
بما سيكون كان تخرصا وتظنيا، فيصيبون قليلا، ويخطئون كثيرا.
وذلك القليل الذي يصيبون هو مما يتكلم به الملائكة في العنان كما في
حديث البخاري، فيطردون بالنجوم فيضيفون إلى الكلمة الواحدة أكثر من
مائة كذبة - كما قال عليه السلام - في الحديث الذي قدمناه فإن قلت: فقد
كان صاف بن صياد وكان يتكهن ويدعي النبوة وخبأ له النبي - صلى الله
عليه وسلم - خبيئا، فعلمه وهو الدخ2 فأين انقطاع الكهانة في ذلك
الزمان؟ قلنا: عن هذا جوابان أحدهما ذكره الخطابي في أعلام الحديث قال
الدخ نبات يكون من النخيل، وخبأ له عليه السلام {فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فعلى هذا لم يصب
ابن صياد ما خبأ له النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أن شيطانه كان يأتيه بما خفي من أخبار الأرض ولا يأتيه بخبر
السماء
ـــــــ
1 هذا إفك يفتريه الدجاجلة, ولا بأس نذكر بقوله تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14] فلنتدبر هذه الآية
المحكمة وعندها نؤمن بأن الجن لا يعرفون غيبا كما بين الله تعالى.
2 بضم الدال وفتحها: الدخان, يقول ابن الأثير في "النهاية": وفسر في
الحديث أنه أراد بذلك {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}
[الدخان: 10] وقيل إن الدجال يقتله عيسى عليه السلام بجبل الدخان
(2/201)
قال ابن إسحاق:
وحدثني عمرو بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن علي بن
الحسين بن علي رضي الله عنه بمثل حديث ابن شهاب عنه.
الغيطلة وما حدثت به بني سهم:
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها
الغيطلة، كانت كاهنة في الجاهلية فلما جاءها صاحبها في ليلة من
الليالي، فأنقض تحتها، ثم
ـــــــ
لمكان القذف والرجم فإن كان أراد بالدخ الدخان بقوة جعلت لهم في
أسماعهم ليست لنا، فألقى الكلمة عن لسان صاف وحدها، إذ لم يمكن سماع
سائر الآية ولذلك قال له النبي - عليه السلام – "اخسأ فلن تعدو قدر
الله فيك" أي فلن تعدو منزلتك من العجز عن علم الغيب وإنما الذي يمكن
في حقه هذا القدر دون مزيد عليه على هذا النحو فسره الخطابي.
الغيطلة الكاهنة وكهانتها:
فصل: وذكر حديث الغيطلة الكاهنة قال وهي من بني مرة بن عبد مناة بن
كنانة أخي مدلج وهي أم الغياطل الذي ذكر أبو طالب وسنذكر معنى الغيطلة
عند شعر أبي طالب إن شاء الله. ونذكرها هاهنا ما ألفيته في حاشية كتاب
الشيخ أبي بحر في هذا الموضع. قال الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو
بن الصعق بن شنوق بن مرة وشنوق أخو مدلج وهكذا ذكر نسبها الزبير.
وذكر قولها: شعوب وما شعوب تصرع فيها كعب لجنوب. كعب هاهنا هو كعب بن
لؤي، والذين صرعوا لجنوبهم ببدر وأحد من أشراف قريش، معظمهم من كعب بن
لؤي، وشعوب هاهنا أحسبه بضم الشين ولم أجده مقيدا، وكأنه جمع شعب وقول
ابن إسحاق يدل على هذا حين قال فلم يدر ما قالت حتى قتل من قتل ببدر
وأحد بالشعب1.
ـــــــ
1 ومن رواه بفتح الشين فهو اسم للمنية لا يصرف انظر "شرح السيرة"
للخشني ص 68.
(2/202)
قال أدر ما أدر
يوم عقر ونحر فقالت قريش حين بلغها ذلك ما يريد؟ ثم جاءها ليلة أخرى،
فأنقض تحتها، ثم قال شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب لجنوب فلما بلغ ذلك
قريشا، قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو؟ فما
عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب فعرفوا أنه الذي كان جاء إلى
صاحبته.
نسب الغليطة:
قال ابن هشام: الغيطلة من بني مرة بن عبد مناة بن كنانة إخوة مدلج بن
مرة وهي أم الغياطل الذين ذكر أبو طالب في قوله:
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بني خلف قيضا بنا والغياطل
فقيل لولدها: الغياطل، وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص. وهذا البيت في
قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى.
حديث كاهن جنب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي"أن جنبا بطن من اليمن، كان
لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وانتشر في العرب، قالت له جنب انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له
في أسفل جبله فنزل عليهم حين
ـــــــ
وذكر قول التابع أدر ما أدر وقيد عن أبي علي فيه رواية أخرى: وما بدر؟
وهي أبين من هذه وفي غير رواية البكائي عن ابن إسحاق أن فاطمة بنت
النعمان النجارية كان لها تابع من الجن، وكان إذا جاءها اقتحم عليها في
بيتها، فلما كان في أول البعث أتاها، فقعد على حائط الدار ولم يدخل
فقالت له لم لا تدخل؟ فقال قد بعث نبي بتحريم الزنا، فذلك أول ما ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة1
ـــــــ
1 لا أدري كيف يلقي السهلي وأمثاله آذانهم إلى مثل هذا الخرف.
(2/203)
طلعت الشمس
فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل
ينزو، ثم قال أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه
ومكثه فيكم أيها الناس قليل ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء".
ـــــــ
ثقيف ولهب والرمي بالنجوم:
فصل: وذكر إنكار ثقيف للرمي بالنجوم وما قاله عمرو بن أمية أحد بني
علاج إلى آخر الحديث وهو كلام صحيح المعنى، لكن فيه إبهاما لقوله وإن
كانت غير هذه النجوم فهو لأمر حدث فما هو وقد فعل ما فعلت ثقيف بنو لهب
عند فزعهم للرمي بالنجوم فاجتمعوا إلى كاهن لهم يقال له خطر فبين لهم
الخبر، وما حدث من أمر النبوة. روى أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة
عن رجل من بني لهب يقال له لهب أو لهيب1. وقد تكلمنا على نسب لهب في
هذا الكتاب. "قال لهيب حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت
عنده الكهانة فقلت: بأبي وأمي: نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر
الشياطين ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم وذلك أنا اجتمعنا إلى
كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا، قد أتت عليه مائتا سنة
وثمانون سنة وكان من أعلم كهاننا، فقلنا: يا خطر هل عندك علم من هذه
النجوم التي يرمى بها، فإنا قد فزعنا لها، وخشينا سوء عاقبتها؟ فقال:
ائتوني بسحر
أخبركم الخبر
أبخير أم ضرر
أو لأمن أو حذر
قال فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه فإذا هو
قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه فناديناه أخطر يا خطر؟ فأومأ
إلينا: أن
ـــــــ
1 في الأصل: لهيب أو لهيب, وهو خطأ صوبته من "الإصابة" فابن مندة يقول:
لهيب بالتصغير, وابن مالك: اللهبي, وأبو عمر يقول: لهب مكبرا وبه جزم
الرشاطي.
(2/204)
.....................................................
ـــــــ
أمسكوا، فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته:
أصابه إصابة ... خامره عقابه
عاجله عذابه ... أحرقه شهابه
زايله جوابه
يا ويله ما حاله ... بلبله بلباله
عاوده خباله ... تقطعت حباله
وغيرت أحواله
ثم أمسك طويلا وهو يقول:
يا معشر بني قحطان ... أخبركم بالحق والبيان
أقسمت بالكعبة والأركان ... والبلد المؤتمن السدان
لقد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب بكف ذي سلطان
من أجل مبعوث عظيم الشان ... يبعث بالتنزيل والقرآن
وبالهدى وفاصل القرآن ... تبطل به عبادة الأوثان
قال فقلنا: ويحك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟ فقال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
فقلنا له يا خطر وممن هو؟ فقال والحياة والعيش. إنه لمن قريش، ما في
حلمه طيش ولا في خلقه هيش1 يكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل
ـــــــ
1 ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح.
(2/205)
ما جرى بين عمر
بن الخطاب وسواد بن قارب:
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن
ـــــــ
أيش فقلت له بين لنا: من أي قريش هو؟ فقال والبيت ذي الدعائم والركن
والأحائم إنه لمن نجل هاشم من معشر كرائم يبعث بالملاحم وقتل كل ظالم
ثم قال هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان ثم قال الله أكبر جاء الحق
وظهر وانقطع عن الجن الخبر - ثم سكت وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة
فقال لا إله إلا الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد نطق
عن مثل نبوة وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده1" .
أصل ألف إصابة:
قال المؤلف في هذا الخبر قوله أصابه إصابة هكذا قيدته بكسر الهمزة من
إصابة على أبي بكر بن طاهر وأخبرني به عن أبي علي الغساني ووجهه أن
تكون الهمزة بدلا من واو مكسورة مثل وشاح وإشاح [ووسادة وإسادة]،
والمعنى: أصابه وصابه جمع: وصب مثل جمل وجمالة.
معنى كلمة أيش والأحائم:
وقوله: من آل قحطان وآل أيش يعني بآل قحطان الأنصار ; لأنهم من قحطان
وأما آل أيش فيحتمل أن تكون قبيلة من الجن المؤمنين ينسبون إلى أيش فإن
يكن هذا، وإلا فله معنى في المدح غريب تقول فلان أيش هو وابن أيش
ومعناه أي شيء أي شيء عظيم فكأنه أراد من آل قحطان، ومن المهاجرين الذي
يقال فيهم مثل هذا، كما تقول هم وما هم؟ وزيد ما زيد وأي شيء زيد
ـــــــ
1 هو في الأصل: "الإصابة" مع اختصار وتصرف يسير عما هنا, ولا يليق
بالسهيلي أن يصدق مثل هذا, ويعلق عليه كأنه صحيح. بينما يقول أبو عمر:
إسناده ضعيف.
(2/206)
.....................................................
ـــــــ
وأيش في معنى: أي شيء كما يقال ويلمه في معنى: ويل أمه على الحذف لكثرة
الاستعمال وهذا كما قال هو في جيش أيما جيش والله أعلم. وأحسبه أراد
بآل أيش بني أقيش وهم حلفاء الأنصار من الجن ; فحذف من الاسم حرفا، وقد
تفعل العرب مثل هذا، وقد وقع ذكر بني أقيش في السيرة في حديث البيعة.
وذكر الركن والأحائم يجوز أن يكون أراد الأحاوم بالواو فهمز الواو
لانكسارها، والأحاوم جمع أحوام والأحوام جمع حوم وهو الماء في البئر
فكأنه أراد ماء زمزم، والحوم أيضا: إبل كثيرة ترد الماء فعبر بالأحائم
عن وراد زمزم، ويجوز أن يريد بها الطير وحمام مكة التي تحوم على الماء
فيكون بمعنى الحوائم وقلب اللفظ فصار بعد فواعل أفاعل والله أعلم.
حي جنب:
فصل: وذكر أن جنبا وهم حي من اليمن اجتمعوا إلى كاهن لهم فسألوه عن أمر
النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رمى بالنجوم إلى آخر الحديث جنب هم
من مذحج، وهم عيذ الله وأنس الله وزيد الله وأوس الله وجعفي والحكم
وجروة بنو سعد العشيرة بن مذحج، ومذحج هو مالك بن أدد وسموا: جنبا
لأنهم جانبوا بني عمهم صداء ويزيد ابني سعد العشيرة بن مذحج1. قاله
الدارقطني. وذكر في موضع آخر خلافا في أسمائهم وذكر فيهم بني غلي
بالغين وليس في العرب غلي غيره قال مهلهل:
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم
ـــــــ
1في "الإشتقاق" وهو يتكلم عن مذحج: ومن بطونهم بنو أمية بن حرب بن زيد
والحارث والغلي وسيحان وشمران وهفان يقال لهم جنب لأنهم جانبوا قومهم.
انظر ص 405.
(2/207)
عفان، أنه حدث
"أن عمر بن الخطاب، بينما هو جالس في مسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، إذ أقبل رجل من العرب داخلا المسجد يريد عمر بن الخطاب، فلما نظر
إليه عمر رضي الله عنه قال إن هذا الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد أو لقد
كان كاهنا في الجاهلية. فسلم عليه الرجل ثم جلس فقال له عمر - رضي الله
عنه هل أسلمت؟ قال نعم يا أمير المؤمنين قال له فهل كنت كاهنا في
الجاهلية؟ فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في
واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت، فقال
عمر اللهم غفرا1، قد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام
ونعتنق الأوثان حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام قال نعم والله يا
أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية قال فأخبرني ما جاءك به
صاحبك، قال جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه فقال ألم تر إلى الجن
وإبلاسها، وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص2 وأحلاسها".
قال ابن هشام: هذا الكلام سجع وليس بشعر.
ـــــــ
معنى خلت في وشيعة:
فصل: وذكر حديث عمر وقوله للرجل: "أكنت كاهنا في الجاهلية؟ فقال الرجل
سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك
استقبلت به أحدا منذ وليت" وذكر الحديث وقوله خلت في هو من باب حذف
الجملة الواقعة بعد خلت وظننت، كقولهم في المثل من يسمع يخل ولا يجوز
حذف أحد المفعولين مع بقاء الآخر لأن حكمهما حكم الابتداء والخبر، فإذا
حذفت الجملة كلها جاز لأن حكمهما حكم المفعول والمفعول قد يجوز حذفه
ولكن لا بد من قرينة تدل على المراد ففي قولهم من يسمع يخل دليل يدل
على المفعول وهو يسمع وفي قوله خلت في دليل أيضا، وهو قوله في كأنه قال
خلت الشر في
ـــــــ
1 غفرا كلمة تقولها العرب إذا أخطأ الرجل على الرجل. ومعناه: اللهم
اغفر لي غفرا.
2 القلاص من الإبل: الفتية.
(2/208)
قال عبد الله
بن كعب: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك يحدث الناس والله إني لعند وثن من
أوثان الجاهلية في نفر من قريش، قد ذبح له رجل من العرب عجلا، فنحن
ننتظر قسمه ليقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط
أنفذ منه وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول يا ذريح أمر نجيح رجل
يصيح يقول: لا إله إلا الله.
ـــــــ
أو نحو هذا، وقوله قبل الإسلام بشهر أو شيعه أي دونه بقليل وشيع كل شيء
ما هو تبع له وهو من الشياع وهي حطب صغار تجعل مع الكبار تبعا لها،
ومنه المشيعة وهي الشاة تتبع الغنم لأنها دونها من القوة.
جليح وسواد بن قارب:
والصوت الذي سمعه عمر من العجل يا جليح1 سمعت بعض أشياخنا يقول هو اسم
شيطان والجليح في اللغة ما تطاير من رءوس النبات وخف نحو القطن وشبهه
والواحدة جليحة والذي وقع في السيرة يا ذريح وكأنه نداء للعجل المذبوح
لقولهم أحمر ذريحي، أي شديد الحمرة فصار وصفا للعجل الذبيح من أجل الدم
ومن رواه يا جليح فمآله إلى هذا المعنى ; لأن العجل قد جلح أي كشف عنه
الجلد فالله أعلم وهذا الرجل الذي كان كاهنا هو سواد بن قارب الدوسي في
قول ابن الكلبي وقال غيره هو سدوسي2 وفيه يقول القائل:
ألا لله علم لا يجارى ... إلى الغايات في جنبي سواد
أتيناه نسائله امتحانا ... فلم يبعل وأخبر بالسداد
وهذان البيتان في شعر وخبر ذكره أبو علي القالي في أماليه وروى غير ابن
ـــــــ
1 هذه رواية البخاري.
2 قال ابن حبيب: كل سدوس في العرب مفتوح إلا سدوس بن أجمع بن أبي عبيد
بن ربيعة بن مضر.
(2/209)
قال ابن هشام:
ويقال رجل يصيح بلسان فصيح يقول لا إله إلا الله. وأنشدني بعض أهل
العلم بالشعر:
عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كأنجاسها
ـــــــ
إسحاق هذا الخبر عن عمر على غير هذا الوجه وأن عمر مازحه فقال: "ما
فعلت كهانتك يا سواد؟ فغضب وقال قد كنت أنا وأنت على شر من هذا من
عبادة الأصنام وأكل الميتات أفتعيرني بأمر تبت منه؟ فقال عمر حينئذ
اللهم غفرا" وذكر غير ابن إسحاق في هذا الحديث سياقة حسنة وزيادة مفيدة
وذكر أنه حدث عمر أن رئيه جاء ثلاث ليال متواليات هو فيها كلها بين
النائم واليقظان فقال قم يا سواد واسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل قد
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لؤي بن غالب يدعو إلى الله
وعبادته وأنشده في كل ليلة من الثلاث الليالي ثلاثة أبيات معناها واحد
وقافيتها مختلفة:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها1
وقال له في الثانية:
عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما طاهر الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس ذنابى الطير من رأسها2
ـــــــ
1 في "الخصائص" للسيوطي: قدام, وهو صحيح المعنى أيضا.
2 في "البداية" لابن كثير وفي "الخصائص" للسيوطي.
(2/210)
قال ابن إسحاق:
فهذا ما بلغنا من الكهان من العرب.
ـــــــ
وقال له في الثالثة:
عجبت للجن وتنفارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن ككفارها
فارحل إلى الأتقين من هاشم ... ليس قداماها كأدبارها
وذكر تمام الخبر، وفي آخر شعر سواد قدم على رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فأنشده ما كان من الجني رئية ثلاث ليال متواليات وذلك قوله:
أتاني نجيي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب1
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك نبي من لؤي بن غالب
فرفعت أذيال الإزار وشمرت ... بي العرمس الوجنا هجول السباسب
فأشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا ... وإن كان فيما جئت شيب الذوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
سواد ودوس عند وفاة الرسول "صلى الله عليه وسلم":
ولسواد بن قارب هذا مقام حميد في دوس حين بلغهم وفاة رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقام حينئذ سواد فقال يا معشر الأزد، إن من سعادة
القوم أن يتعظوا بغيرهم ومن شقائهم ألا يتعظوا إلا بأنفسهم ومن لم
تنفعه التجارب ضرته ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل وإنما تسلمون
اليوم بما أسلمتم به أمس وقد علمتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد
تناول قوما أبعد منكم فظفر بهم وأوعد قوما أكثر منكم فأخافهم ولم يمنعه
منكم عدة ولا عدد وكل بلاء منسي إلا ما بقي أثره في الناس ولا ينبغي
لأهل
ـــــــ
1 في "الخصائص": رئي, وليل وهجعه.
(2/211)
ـــــــ
البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية وإنما كف نبي الله
عنكم ما كفكم عنه فلم تزالوا خارجين مما فيه أهل البلاء داخلين مما فيه
أهل العافية حتى قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبكم
ونقيبكم فعبر الخطيب عن الشاهد ونقب النقيب عن الغائب ولست أدري لعله
تكون للناس جولة فإن تكن فالسلامة منها: الأناة والله يحبها، فأحبوها،
فأجابه القوم وسمعوا قوله فقال في ذلك سواد بن قارب:
جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها تزداد
أبقى لنا فقد النبي محمد ... - صلى الإله عليه - ما يعتاد
حزنا لعمرك في الفؤاد مخامرا ... أو هل لمن فقد النبي فؤاد؟
كنا نحل به جنابا ممرعا ... جف الجناب فأجدب الرواد
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجدا به الأكباد
قل المتاع به وكان عيانه ... حلما تضمن سكرتيه رقاد
كان العيان هو الطريف وحزنه ... باق لعمرك في النفوس تلاد
إن النبي وفاته كحياته ... الحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبي محمدا ... بذلت له الأموال والأولاد
وتسارعت فيه النفوس ببذلها ... هذا له الأغياب والأشهاد
هذا، وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه فداه سواد
ـــــــ
1في سائر الأصول: "عمرو", وهو تحريف.
(2/212)
|