الروض
الأنف ت السلامي
إرسال قريش إلى الحبشة في طلب المهاجرين إليها
رسولا قريش إلى النجاشي لاسترداد المهاجرين:
قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قد أمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة ، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا،
ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي،
فيردهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها
وأمنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص بن وائل،
وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ثم بعثوهما إليه فيهم.
__________
إرسال قريش إلى النجاشي في أمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ذكر ابن إسحاق أنهم أرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بن
المغيرة وأهدوا معهما هدايا إلى النجاشي. وعبد الله بن أبي ربيعة هذا
كان اسمه بحيرا، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أسلم: عبد
الله وأبوه أبو ربيعة ذو الرمحين وفيه يقول ابن الزبعرى:
(3/145)
شعر أبي طالب
للنجاشي يحضه على الدفع عن المهاجرين:
فقال أبو طالب حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه أبياتا للنجاشي
يحضه على حسن جوارهم والدفع عنهم:
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر ... وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نالت أفعال النجاشي جعفرا ... وأصحابه أو عاق ذلك شاغب
تعلم - أبيت اللعن - أنك ماجد ... كريم فلا يشقى لديك المجانب
تعلم بأن الله زادك بسطة ... وأسباب خير كلها بك لازب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة ... ينال الأعادي نفعها والأقارب
حديث أم سلمة عن رسولي قريش مع النجاشي:
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة
__________
بحيرا بن ذي الرمحين قرب مجلسي ... وراح علينا فضله وهو عاتم
واسم أبي ربيعة: عمرو، وقيل حذيفة وأم عبد الله بن أبي ربيعة: أسماء
بنت محربة التميمية وهي أم أبي جهل بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة هذا
هو والد عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة الشاعر ووالد الحارث أمير البصرة
المعروف بالقباع وكان في أيام عمر واليا على الجند وفي أيام عثمان فلما
سمع بحصر عثمان جاء لينصره فسقط عن دابته فمات.
عمارة بن الوليد بن المغيرة:
فصل: وكان معهما في ذلك السفر عمارة بن الوليد بن المغيرة الذي تقدم
ذكره
(3/146)
زوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم قالت لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار
النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئا
نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا
رجلين منهم جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ،
وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من
بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي
ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل
بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم
سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت فخرجا حتى قدما على
النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار <110> فلم يبق من بطارقته
بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم
إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا
في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك
فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن
يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا
عليهم فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى
__________
حين قالت قريش لأبي طالب خذ عمارة بدلا من محمد وادفع إلينا محمدا
نقتله وكان عمارة من أجمل الناس فذكر أصحاب الأخبار أنهم أرسلوه مع
عمرو بن العاصي إلى النجاشي، ولم يذكره ابن إسحاق في رواية ابن هشام،
وذكر حديثه مع عمرو في رواية يونس ولكن في غير هذه القصة المذكورة
هاهنا، ولعل إرسالهم إياه مع عمرو، كان في المرة الأخرى التي سيأتي
ذكرها في السيرة عند حديث إسلام عمرو، وممن ذكر قصة عمارة بطولها أبو
الفرج الأصبهاني، وذكر أن عمرا سافر بامرأته فلما ركبوا البحر وكان
عمارة قد هوي امرأة عمرو وهويته، فعزما على دفع
(3/147)
النجاشي فقبلها
منهما، ثم كلماه فقالا له أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان
سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا
نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم
وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم
وعاتبوهم فيه. قالت ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو
بن العاص من أن يسمع
__________
عمرو، أو كان ذلك من عمارة على غير قصد فدفع عمرا، فسقط في البحر فسبح
عمرو، ونادى أصحاب السفينة فأخذوه ورفعوه إلى السفينة فأضمرها عمرو في
نفسه ولم يبدها لعمارة بل قال لامرأته - فيما ذكر أبو الفرج - قبلي ابن
عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو، وقال إني
قد كتبت إلى بني سهم ليبرؤوا من دمي لك، فاكتب أنت لبني مخزوم ليبرؤوا
من دمك لي، حتى تعلم قريش أنا قد تصافينا، فلما كتب عمارة إلى بني
مخزوم وتبرءوا من دمه لبني سهم قال شيخ من قريش: قتل عمارة - والله -
وعلم أنه مكر من عمرو، ثم أخذ عمرو يحرض عمارة على التعرض لامرأة
النجاشي، وقال له أنت امرئ جميل وهن النساء يحببن الجمال من الرجال
فلعلها أن تشفع لنا عند الملك في قضاء حاجتنا ; ففعل عمارة فلما رأى
عمرو ذلك وتكرر عمارة على امرأة الملك ورأى إنابتها إليه أتى الملك
منتصحا، وجاءه بأمارة عرفها الملك قد كان عمارة أطلع عمرا عليها،
فأدركته غيرة الملك وقال لولا أنه جاري لقتلته، ولكن سأفعل به ما هو شر
من القتل فدعا بالسواحر فأمرهن أن يسحرنه فنفخن في إحليله نفخة طار
منها هائما على وجهه حتى لحق بالوحوش في الجبال وكان يرى آدميا فيفر
منه وكان ذلك آخر العهد به إلى زمن عمر بن الخطاب، فجاء ابن عمه عبد
الله بن أبي ربيعة إلى عمر واستأذنه في المسير إليه لعله يجده فأذن له
عمر فسار عبد الله إلى أرض
(3/148)
كلامهم
النجاشي. قالت فقالت بطارقته حوله صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم
عينا، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما، فليردهم إلى بلادهم
وقومهم. قالت فغضب النجاشي، ثم قال لاها الله إذن لا أسلمهم إليهما،
ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم
فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما،
ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم
ما جاوروني.
إحضار النجاشي للمهاجرين, وسؤاله لهم عن دينهم ، وجوابهم عن ذلك:
قالت ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم فلما
جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟
قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم
كائنا في ذلك ما هو كائن فلما جاءوا، وقد دعا النجاشي
__________
الحبشة ، فأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه - بحيل يرد مع
الوحوش إذا وردت ويصدر معها إذا صدرت فسار إليه حتى كمن له في الطريق
إلى الماء فإذا هو قد غطاه شعره وطالت أظفاره وتمزقت عليه ثيابه حتى
كأنه شيطان فقبض عليه عبد الله وجعل يذكره بالرحم ويستعطفه وهو ينتفض
منه ويقول أرسلني يا بحير أرسلني يا بحير وأبى عبد الله أن يرسله حتى
مات بين يديه وهو خبر مشهور اختصره بعض من ألف في السير وطوله أبو
الفرج وأوردته على معنى كلامه متحريا لبعض ألفاظه.
عن حديث أصحاب الهجرة مع النجاشي:
فصل : وذكر حديث أصحاب الهجرة مع النجاشي، وقال له جعفر إلى آخر
(3/149)
أساقفته فنشروا
مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم
ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل قالت فكان الذي كلمه
جعفر بن أبي طالب، فقال له أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد
الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل
القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف
نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا
نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث
وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا
عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا أن نعبد
الله وحده - لا نشرك به شيئا - وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام قالت
فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من
الله فعبدنا الله وحده فلم
__________
القصة وليس فيها إشكال وفيه من الفقه الخروج عن الوطن وإن كان الوطن
مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارا بالدين وإن لم يكن إلى إسلام فإن
الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون هو عبد الله وقد تبين ذلك
في هذا الحديث وسموا بهذه مهاجرين وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى الله
عليهم بالسبق فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: من
الآية100] وجاء في التفسير أنهم الذين صلوا القبلتين وهاجروا الهجرتين
وقد قيل أيضا: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، فانظر كيف أثنى الله عليهم
بهذه الهجرة وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار كفر لما كان
فعلهم ذلك احتياطا على دينهم ورجاء أن يخلى بينهم وبين عبادة ربهم
يذكرونه آمنين مطمئنين وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد وأوذي على
الحق مؤمن ورأى الباطل قاصرا للحق ورجا أن يكون في بلد آخر - أي بلد
(3/150)
نشرك به شيئا،
وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا،
وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله تعالى، وأن
نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا،
وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك،
ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت فقال له
النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟
__________
كان - يخلى بينه وبين دينه ويظهر فيه عبادة ربه فإن الخروج على هذا
الوجه حتم على المؤمن وهذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة 115].
فصل وليس في باقي حديثهم شيء يشرح قد شرح ابن هشام الشيوم وهم الآمنون
فيحتمل أن تكون لفظة حبشية غير مشتقة ويحتمل أن يكون لها أصل في
العربية وأن تكون من شمت السيف إذا أغمدته، لأن الآمن مغمد عنه السيف
أو لأنه مصون في صوان وحرز كالسيف في غمده.
وقوله ضوى إليك فتية أي أووا إليك، ولاذوا بك، وأما ضوي بكسر الواو فهو
من الضوى مقصور وهو الهزال وقال الشاعر:
فتى لم تلده بنت عم قريبة ... فيضوى، وقد يضوى رديد الغرائب
ومنه الحديث "اغتربوا لا تضووا" ، يقول إن تزويج القرائب يورث الضوى في
الولد والضعف في القلب قال الراجز:
إن بلالا لم تشنه أمه ... لم يتناسب خاله وعمه
(3/151)
قالت فقال له
جعفر نعم فقال النجاشي: فاقرأه علي قالت فقرأ عليه صدرا من {كهيعص}
[مريم:1] قالت فبكى والله النجاشي، حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى
أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والذي
جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما،
ولا يكادون.
__________
إضافة العين إلى الله:
وفيه قومهم أعلى بهم عينا، أي أبصر بهم أي عينهم وإبصارهم فوق عين
غيرهم في أمرهم فالعين هاهنا بمعنى الرؤية والإبصار لا بمعنى العين
التي هي الجارحة وما سميت الجارحة عينا إلا مجازا، لأنها موضع العيان
وقد قالوا: عانه يعينه عينا إذا رآه وإن كان الأشهر في هذا أن يقال
عاينه معاينة والأشهر في عنت أن يكون بمعنى الإصابة بالعين وإنما
أوردنا هذا الكلام لتعلم أن العين في أصل وضع اللغة صفة لا جارحة وأنها
إذا أضيفت إلى الباري سبحانه فإنها حقيقة نحو قول أم سلمة لعائشة بعين
الله مهواك، وعلى رسول الله تردين ؟ وفي التنزيل {وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي} [طه: من الآية39] وقد أملينا في المسائل المفردات مسألة في
هذا المعنى، وفيها الرد على من أجاز التثنية في العين مع إضافتها إلى
الله تعالى، وقاسها على اليدين وفيها الرد على من احتج بقول النبي عليه
السلام: "إن ربكم ليس بأعور" وأوردنا في ذلك ما فيه شفاء وأتبعناه
بمعان بديعة في معنى عور الدجال فلينظر هنالك.
(3/152)
مقالة
المهاجرين في عيسى عليه السلام عند النجاشي:
قالت فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا عنهم بما
استأصل به خضراءهم. قالت فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى
الرجلين فينا: لا نفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال
والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد قالت ثم غدا عليه من
الغد فقال له أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما،
فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت فأرسل إليهم ليسألهم عنه. قالت
ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض ماذا تقولون في
عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه ؟ قالوا: نقول - والله - [فيه] ما قال
الله وما جاءنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. قالت فلما دخلوا
عليه قال لهم ماذا تقولون في عيسى ابن مريم ؟ قالت فقال [له] جعفر بن
أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم هو عبد
الله ورسوله وروحه
__________
معنى أن عيسى كلمة الله وروحه:
وقول جعفر في عيسى: هو روح الله وكلمته ومعنى: كلمته أي قال له كما قال
لآدم حين خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ولم يقل فكان لئلا يتوهم
وقوع الفعل بعد القول بيسير وإنما هو واقع للحال فقوله فيكون مشعر
بوقوع الفعل في حال القول وتوجه الفعل بيسير على القول لا يمكن مستقدم
ولا مستأخر فهذا معنى الكلمة وأما روح الله فلأنه نفخة روح القدس في
جيب الطاهرة المقدسة والقدس: الطهارة من كل ما يشين أو يعيب أو تقذره
نفس أو يكرهه شرع وجبريل روح القدس، لأنه روح لم يخلق من مني، ولا صدر
عن شهوة فهو مضاف إلى الله سبحانه إضافة تشريف وتكريم لأنه صادر عن
الحضرة المقدسة
(3/153)
وكلمته ألقاها
إلى مريم العذراء البتول. قالت فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها
عودا، ثم قال والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود قالت
فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال وإن نخرتم والله اذهبوا
فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون - من سبكم غرم ثم قال من سبكم غرم
ثم قال من سبكم غرم ما أحب أن لي دبرا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم -
قال ابن هشام: ويقال دبري من ذهب. ويقال فأنتم سيوم والدبر - بلسان
الحبشة : الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما
أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس
في فأطيعهم فيه. قالت فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به
وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
فرح المهاجرين بنصرةالنجاشي على عدوه:
قالت فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه.
قالت فوالله ما علمتنا حزنا حزنا قط كانت أشد علينا من حزن حزناه عند
ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا
ما كان النجاشي يعرف منه قالت وسار إليه النجاشي، وبينهما عرض النيل ،
قالت فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من رجل يخرج
حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر ؟ قالت فقال الزبير بن العوام:
أنا، قالوا: فأنت - وكان من أحدث القوم سنا - قالت فنفخوا له قربة
فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى
القوم ثم انطلق حتى حضرهم قالت فدعونا الله تعالى للنجاشي بالظهور
__________
وعيسى عليه السلام صادر عنه فهو روح الله على هذا المعنى ; إذ النفخ قد
يسمى: روحا أيضا، كما قال غيلان [بن عقبة ذو الرمة] يصف النار:
فقلت له ارفعها إليك، وأحيها ... بروحك، واقدرها لها قيتة بدرا
وأضف هذا الكلام في روح القدس، وفي تسمية النفخ روحا إلى ما ذكرناه قبل
في حقيقة الروح وشرح معناه فإنه تكملة له.
(3/154)
على عدوه
والتمكين له في بلاده قالت فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ
طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول ألا أبشروا، فقد ظفر
النجاشي، وأهلك الله عدوه ومكن له في بلاده. قالت فوالله ما علمتنا
فرحنا فرحة قط مثلها. قالت ورجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه ومكن له
في بلاده واستوثق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
قصة تملك النجاشي على الحبشة
قتل النجاشي، وتولية عمه:
قال ابن إسحاق: قال الزهري: فحدثت عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد
الرحمن عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل تدري ما قوله
ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع
الناس في فأطيع الناس فيه ؟ قال قلت: لا، قال فإن عائشة أم المؤمنين
حدثتني أن أباه كان ملك قومه ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي
عم، له من صلبه اثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة ، فقالت
الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي، وملكنا أخاه فإنه لا ولد له
غير هذا الغلام وإن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلا، فتوارثوا ملكه من
بعده بقيت الحبشة بعده دهرا، فغدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه
فمكثوا على ذلك حينا
__________
النجاشي أصحمة:
فصل وذكر حديث عائشة عن النجاشي حين رد الله عليه ملكه وأن قومه كانوا
باعوه فلما مرج أمر الحبشة ، أخذوه من سيده واستردوه. وظاهر الحديث يدل
على أنهم أخذوه منه قبل أن يأتي به بلاده لقوله خرجوا في طلبه فأدركوه
وقد بين في حديث آخر أن سيده كان من العرب وأنه استعبده طويلا، وهو
الذي يقتضيه قوله:
(3/155)
غلبة النجاشي
عمه على أمره ، وسعي الأحباش لإبعاده:
ونشأ النجاشي مع عمه - وكان لبيبا حازما من الرجال - فغلب على أمر عمه
ونزل منه بكل منزلة فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله لقد
غلب هذا الفتى على أمر عمه وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملكه علينا
ليقتلنا أجمعين لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه. فمشوا إلى عمه فقالوا: إما
أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفناه على
أنفسنا، قال ويلكم قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم بل أخرجه من بلادكم.
قالت فخرجوا به إلى السوق فباعوه إلى رجل من التجار بستمائة درهم فقذفه
في سفينة فانطلق به حتى إذا كان العشي من ذلك اليوم هاجت سحابة من
سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته. قالت ففزعت
الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق ليس في ولده خير فمرج على الحبشة أمرهم.
تولية الملك برضا الحبشة:
فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض تعلموا والله أن ملككم
الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتم غدوة فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة
فأدركوه الآن. قالت فخرجوا في طلبه وطلب الرجل الذي باعوه منه حتى
أدركوه فأخذوه منه ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير
الملك فملكوه.
__________
فلما مرج على الحبشة أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه وهذا يدل على طول
المدة في مغيبه عنهم وقد روي أن وقعة بدر حين انتهى خبرها إلى النجاشي
علم بها قبل من عنده من المسلمين فأرسل إليهم فلما دخلوا عليه إذا هو
قد لبس مسحا، وقعد على التراب والرماد فقالوا له ما هذا أيها الملك ؟
فقال إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه إذا أحدث بعبده وجب على العبد
أن يحدث لله تواضعا، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة وهي أن
النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - بلغني أنه التقى هو
(3/156)
حديث التاجر
الذي ابتاع النجاشي:
فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه فقال إما أن تعطوني مالي، وإما أن
أكلمه في ذلك ؟ قالوا: لا نعطيك شيئا، قال إذن والله أكلمه قالوا:
فدونك وإياه. قالت فجاءه فجلس بين يديه فقال أيها الملك ابتعت غلاما من
قوم بالسوق بستمائة درهم فأسلموا إلي غلامي، وأخذوا دراهمي، حتى إذا
سرت بغلامي، أدركوني، فأخذوا غلامي، ومنعوني دراهمي. قالت فقال لهم
النجاشي: لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده في يده فليذهب به حيث شاء
قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت فلذلك يقول ما أخذ الله مني رشوة حين رد
علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه. قلت:
وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه وعدله في حكمه.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت
لما مات النجاشي، كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور
__________
وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الأراك، كنت أرعى فيه الغنم على سيدي،
وهو من بني ضمرة وأن الله قد هزم أعداءه فيه ونصر دينه فدل هذا الخبر
على طول مكثه في بلاد العرب، فمن هنا - والله أعلم - تعلم من لسان
العرب ما فهم به سورة مريم حين تليت عليه حتى بكى، وأخضل لحيته وروي
عنه أنه قال إنا نجد في الإنجيل أن اللعنة تقع في الأرض إذا كانت إمارة
الصبيان
من فقه حديث الهجرة إلى الحبشة
فصل : ومما في حديث الهجرة إلى الحبشة من الفقه أن جعفر بن أبي طالب
قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف نصلي في السفينة إذا ركبنا
في البحر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم "صل قائما إلا أن تخاف الغرق" خرجه
الدارقطني، ولكن في إسناده مقال وفي مسند ابن أبي شيبة: وصلى أنس في
السفينة جالسا. وذكر البخاري عن الحسن يصلي قائما إلا أن يضر بأهلها.
(3/157)
خروج الحبشة
على النجاشي:
قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه قال اجتمعت الحبشة ،
فقالوا للنجاشي إنك قد فارقت ديننا، وخرجوا عليه قال فأرسل إلى جعفر
وأصحابه فهيأ لهم سفنا، وقال اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم فإن هزمت
فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب
فيه هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى
ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه
عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة ، وصفوا له فقال يا معشر الحبشة ،
ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا: بلى، قال فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا:
خير سيرة قال فما لكم ؟ قالوا: فارقت ديننا،
__________
حول كتاب النجاشي والصلاة عليه:
فصل : وذكر الكتاب الذي كتبه النجاشي، وجعله بين صدره وقبائه وقال
للقوم أشهد أن عيسى لم يزد على هذا، وفيه من الفقه أنه لا ينبغي للمؤمن
أن يكذب كذبا صراحا، ولا أن يعطي بلسانه الكفر وإن أكره ما أمكنه
الحيلة وفي المعاريض مندوحة عن الكذب وكذلك قال أهل العلم في قول النبي
عليه السلام "ليس بالكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيرا" روته أم كلثوم
بنت عقبة. قالوا: معناه أن يعرض ولا يفصح بالكذب مثل أن يقول سمعته
يستغفر لك، ويدعو لك، وهو يعني أنه سمعه يستغفر للمسلمين ويدعو لهم لأن
الآخر من جملة المسلمين ويحتال في التعريض ما استطاع ولا يختلق الكذب
اختلاقا، وكذلك في خدعة الحرب يوري، ويكني، ولا يختلق الكذب يستحله بما
جاء من إباحة الكذب في خدع الحرب هذا كله ما وجد إلى الكناية سبيلا.
(3/158)
وزعمت أن عيسى
عبد قال فما تقولون أنتم في عيسى ؟ قالوا: نقول هو ابن الله فقال
النجاشي، ووضع يده على صدره على قبائه هو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد
على هذا شيئا، وإنما يعني ما كتب فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبي صلى
الله عليه وسلم فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له
__________
وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي، واستغفر له
وكان موت النجاشي في رجب من سنة تسع ونعاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الناس في اليوم الذي مات فيه وصلى عليه بالبقيع ، رفع إليه
سريره بأرض الحبشة حتى رآه وهو بالمدينة فصلى عليه وتكلم المنافقون
فقالوا: أيصلي على هذا العلج ؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199]. ومن رواية يونس عن ابن إسحاق أن
أبا نيزر مولى علي بن أبي طالب، كان ابنا للنجاشي نفسه وأن عليا وجده
عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين.
وذكر أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد النجاشي، وأنهم أرسلوا وفدا منهم
إلى
(3/159)
................................................
__________
أبي نيزر، وهو مع علي ليملكوه ويتوجوه ولم يختلفوا عليه فأبى وقال ما
كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علي بالإسلام قال وكان أبو نيزر من
أطول الناس قامة وأحسنهم وجها، قال ولم يكن لونه كألوان الحبشة ، ولكن
إذا رأيته قلت: هذا رجل من العرب
(3/160)
|