الروض الأنف ت السلامي

ذكر ما أنزل الله في أحد من القرآن
<294> قال حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال
فكان مما أنزل الله تبارك وتعالى في يوم أحد من القرآن ستون آية من آل عمران، فيها صفة ما كانا في يومهم ذلك ومعاتبة من عاتب منهم يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121]
قال ابن هشام
تبوئ للمؤمنين تتخذ لهم مقاعد ومنازل. قال الكميت بن زيد
ليتني كنت قبله ... قد تبوأت مضجعا
وهذا البيت في أبيات له.
أي سميع بما تقولون عليم بما تخفون.
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:122] أن تتخاذلا، وللطائفتان بنو سلمة بن جشم بن الخزرج، وبنو حارثة بن النبيت من الأوس، وهما الجناحان. يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي المدافع عنهما ما همتا به من فشلهما، وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما غير شك في
ـــــــ
تفسير ما نزل من القرآن في أحد
بعض من آمن رغم الدعاء عليهم
قد ذكر ابن إسحاق ما يحتاج إليه قارء السيرة من تفسير ذلك وذكر قوله سبحانه ليس {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران:128] الآية لم

(6/38)


دينهما، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته حتى سلمتا من وهونهما وضعفهما، ولحقتا بنبيهما صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: حدثني رجل من الأسد من أهل العلم قال
قالت الطائفتان ما نحب أنا لم نهم بما هممنا به، لتولي الله إيانا في ذلك
قال ابن إسحاق:
يقول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] أي من كان به ضعف من المؤمنين فليتوكل علي وليستعن بي، أعنه على أمره وأدفع عنه حتى أبلغ به وأدفع عنه وأقويه على نيته. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] أي فاتقوني، فإنه شكر نعمتي. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} وأنتم أقل عددا <295> وأضعف قوة {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124-125] أي إن تصبروا لعدوي، وتطيعوا أمري، ويأتوكم من وجههم هذا، أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام:
مسومين معلمين بلغنا عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال أعلموا على أذناب خيلهم ونواصيها بصوف أبيض
فأما ابن إسحاق فقال كانت سيماهم يوم بدر عمائم بيضا وقد ذكرت ذلك في حديث بدر والسيما العلامة وفي كتاب الله عز وجل {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] أي علامتهم و {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً} [هود:82-83] يقول معلمة بلغنا عن
ـــــــ
يزد على ما في الكتاب منه. وفي تفسير <295> الترمذي حديث مرفوع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(6/39)


الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال عليها علامة أنها ليست من حجارة للدنيا، وأنها من حجارة العذاب قال رؤبة بن العجاج:
فالآن تبلى بي الجياد السهم ... ولا تجاريني إذا ما سوموا
وشخصت أبصارهم وأجذموا
[ أجذموا " بالذال المعجمة ": أي أسرعوا: وأجدموا " بالدال المهملة ": أقطعوا]
وهذه الأبيات في أرجوزة له والمسومة "أيضا" المرعية وفي كتاب الله تعالى: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14] و {شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10] تقول العرب: سوم خيله وإبله وأسامها: إذا رعاها.
قال الكميت بن زيد
راعيا كان مسجحا ففقدنا ... ه وفقد المسيم هلك السوام
قال ابن هشام:
مسجحا: سلس السياسة محسن "إلى الغنم" وهذا البيت في قصيدة له.
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] أي ما سميت لكم من سميت من جنود ملائكتي إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به لما أعرف من ضعفكم وما النصر إلا من عندي، لسلطاني وقدرتي، وذلك أن العز والحكم إلي لا إلى أحد من خلقي. ثم قال {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} [آل عمران:127] أي ليقطع طرفا من المشركين بقتل ينتقم به <296> منهم أو يردهم خائبين أي ويرجع من بقي منهم فلا خائبين لم ينالوا شيئا مما كانوا يأملون.
ـــــــ
كان يدعو على أبي سفيان والحارث بن هشام <296> وعمرو بن العاصي، حتى أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} قال فتابوا وأسلموا، وحسن إسلامهم وهذا حديث ثابت في حسن إسلام أبي سفيان خلافا لمن زعم غير ذلك

(6/40)


تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام:
يكبتهم يغمهم أشد الغم ويمنعهم ما أرادوا. قال ذو الرمة
ما أنس من شجن لا أنس موقفنا ... في حيرة بين مسرور ومكبوت
ويكبتهم "أيضا" يصرعهم لوجوههم.
قال ابن إسحاق:
ثم قال لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي، إلا ما أمرتك به فيهم أو أتوب عليهم برحمتي، فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم فبحقي {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي قد استوجبوا ذلك بمعصيتهم إياي {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
ـــــــ
وأما الحارث بن هشام فلا خلاف في حسن إسلامه وفي موته شهيدا بالشام وأما عمرو بن العاصي، فقد قال فيه النبي عليه السلام أسلم الناس وآمن عمرو وقال في حديث جرى: ما كانت هجرتي للمال وإنما كانت لله ورسوله فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - نعما بالمال الصالح للرجل الصالح فسماه رجلا صالحا، والحديث الذي جرى: أنه كان قال له إني أريد أن أبعثك وجها يسلمك الله فيه ويغنمك وأزعب لك زعبة من المال وستأتي نكت. وعيون من أخبار الحارث وأبي سفيان - فيما بعد - إن شاء الله.
معنى اتخذ
وذكر قوله سبحانه {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } [آل عمران:140] وفيه فضل عظيم للشهداء وتنبيه على حب الله إياهم حيث قال {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} ولا

(6/41)


[آل عمران 129] أي يغفر الذنب ويرحم العباد على ما فيهم.
النهي عن الربا
<297> ثم قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] أي لا تأكلوا في الإسلام إذ هداكم الله به ما كنتم تأكلون إذ أنتم على غيره مما لا يحل لكم في دينكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] أي فأطيعوا الله لعلكم تنجون مما حذركم الله من عذابه وتدركون ما رغبكم الله فيه من ثوابه {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131] أي التي جعلت دارا لمن كفر بي.
الحض على الطاعة
ثم قال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132] معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم به في ذلك اليوم وفي غيره. ثم قال {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133} أي دارا لمن أطاعني وأطاع رسولي: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أي وذلك هو الإحسان وأنا أحب من عمل به {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ
ـــــــ
يقال اتخذت ولا اتخذ إلا في مصطفى <297> محبوب قال الله سبحانه {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91] وقال {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:3] فالاتخاذ إنما هو اقتناء واجتباء وهو افتعال من الأخذ فإذا قلت: اتخذت كذا، فمعناه أخذته لنفسي، واخترته لها، فالتاء الأولى بدل من ياء وتلك الياء بدل من همزة أخذ فقلبت تاء إذ كانت الواو تنقلب تاء في مثل هذا البناء نحو اتعد واتزر والياء أخت الواو فقلبت في هذا الموضع تاء وكثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى قالوا: تخذت بحذف إحدى التاءين اكتفاء بأحديهما عن الأخرى، ولا يكون هذا

(6/42)


ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:135" أي إن أتوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بمعصية ذكروا نهي الله عنها، وما حرم عليهم فاستغفروه لها، وعرفوا أنه لا يغفر الذنوب إلا هو.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] أي لم يقيموا على معصيتي كفعل من أشرك بي فيما غلوا به في كفرهم وهم يعلمون ما حرمت عليهم من عبادة غيري.{<298> {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] أي ثواب المطيعين.
ذكر ما أصابهم وتعزيتهم عنه:
ثم استقبل ذكر المصيبة التي نزلت بهم والبلاء الذي أصابهم والتمحيص لما كان فيهم واتخاذه الشهداء منهم فقاله تعزية لهم وتعريفا لهم فيما صنعوا، وفيما هو صانع بهم { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137] أي قد مضت منه وقائع نقمة في أهل التكذيب لرسلي والشرك بي: عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، فرءوا مثلات قد مضت مني فيهم ولمن هو على مثل ما هم عليه من ذلك مني، فإني أمليت لهم أي لئلا يظنوا
ـــــــ
الحذف إلا في الماضي خاصة لا يقال تتخذ كما يقال تخذ لأن المستقبل ليس فيه همزة وصل وإنما فروا في الماضي من ثقل الهمزة في الابتداء واستغنوا بحركة التاء عنها، وكسروا الخاء من تخذت لأنه لا مستقبل له مع الحذف فحركوا عين الفعل بالحركة التي كانت له في المستقبل. وكلامنا هذا على اللغة المشهورة وإلا فقد حكي يتخذ في لغة ضعيفة ذكرها أبو عبيد، وذكرها النحاس في إعراب القرآن.
أدلة على صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
<298> وذكر قوله سبحانه {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] إلى قوله {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] ظهر تأويل هذه الآية حين انقلب

(6/43)


أن نقمتي انقطعت عن عدوكم وعدوي للدولة التي أدلتهم بها عليكم ليبتليكم بذلك ليعلمكم ما عندكم.
ثم قال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] أي هذا تفسير للناس إن قبلوا الهدى {وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ} [آل عمران:138] أي نور وأدب للمتقين أي لمن أطاعني وعرف أمري، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139] أي لا تضعفوا ولا تبتئسوا على ما أصابكم {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ } [آل عمران:139] أي لكم تكون العاقبة والظهور {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي إن كنتم صدقتم نبيي بما جاءكم به عني، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] أي جراح مثلها، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] أي نصرفها بين الناس للبلاء وللتمحيص {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140] أي ليميز بين المؤمنين والمنافقين وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57] أي المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم الطاعة وقلوبهم مصرة على المعصية {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:141] أي يختبر الذين آمنوا حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم <299> وكيف صبرهم ويقينهم {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] أي يبطل من المنافقين قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم حتى يظهر معهم كفرهم الذي يستترون به
ـــــــ
أهل الردة على أعقابهم فلم يضر ذلك دين الله ولا أمة نبيه وكان أبو بكر يسمى: أمير الشاكرين لذلك وفي هذه الآية دليل على صحة خلافته لأنه الذي قاتل المنقلبين على أعقابهم حين ردهم إلى الدين الذي خرجوا منه وكان في قوله سبحانه {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] دليل على أنهم سيظفرون بمن ارتد وتكمل عليهم النعمة فيشكرون فتحريضه إياهم على الشكر - والشكر لا يكون إلا على نعمة - دليل على أن بلاء الردة لا يطول وأن الظفر بهم سريع كما كان.

(6/44)


دعوة الجنة للمجاهدين
ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] أي حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا من ثوابي الكرامة ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم صدق ذلك منكم بالإيمان بي، والصبر على ما أصابكم في ولقد كنتم تمنون الشهادة على الذي أنتم عليه من الحق قبل أن تلقوا عدوكم يعني الذين استنهضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجه بهم إلى عدوهم لما فاتهم من حضور اليوم الذي كان قتله ببدر ورغبة في الشهادة التي فاتتهم بها، فقال {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} [آل عمران:143] يقول {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143] أي الموت بالسيوف في أيدي الرجال قد خلى بينكم وبينهم وأنتم تنظرون إليهم ثم صدهم عنكم {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] أي لقول الناس قتل محمد صلى الله عليه وسلم وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران:144] رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله وما خلف نبيه صلى الله عليه وسلم من دينه معكم
ـــــــ
<299> وكذلك قوله سبحانه {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} [الفتح:16] فيه أيضا: التصحيح لخلافة أبي بكر لأنه الذي دعا الأعراب إلى جهاد حنيفة وكانوا أولي بأس شديد ولم يقاتلوا لجزية وإنما قوتلوا ليسلموا، وكان قتالهم بأمر أبي بكر وفي سلطانه ثم قال {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح:16] فأوجب عليهم الطاعة لأبي بكر فكان في الآية كالنص على خلافته.
وكذلك قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

(6/45)


وعندكم وقد بين لكم فيما جاءكم به عني أنه ميت ومفارقكم {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} [آل عمران:144] أي يرجع عن دينه { فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} أي ليس ينقص ذلك عز الله تعالى ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} أي من أطاعه وعمل بأمره. <300>
ذكره أن الموت بإذن الله
ثم قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً } [آل عمران:145] أي أن لمحمد صلى الله عليه وسلم أجلا هو بالغه فإذا أذن الله عز وجل في ذلك كان. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145] أي من كان منكم يريد الدنيا، ليست له رغبة في الآخرة نؤته منها ما قسم له من رزق ولا يعدوه فيها، وليس له في الآخرة من حظ {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران:145] ما وعد به مع ما يجزى عليه من رزقه في دنياه وذلك جزاء الشاكرين أي المتقين.
ذكر شجاعة المجاهدين من قبل مع الأنبياء
ثم قال {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ
ـــــــ
[التوبة:119] وقد بين في سورة الحشر من الصادقون وهم المهاجرون بقوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:8] فأمر الذين تبوءوا الدار والإيمان أن يكونوا معهم أي تبعا لهم فحصلت الخلافة في الصادقين بهذه الآية فاستحقوها بهذا الاسم ولم يكن في الصادقين من سماه الله الصديق إلا أبو بكر فكانت له خاصة ثم للصادقين بعده.
ربيون ورفعها في الآية
<300> وذكر قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قتل مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [آل

(6/46)


اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:146) أي وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون كثير أي جماعة فما وهنوا لفقد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله تعالى وعن دينهم وذلك الصبر والله يحب الصابرين {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام:
واحد الربيين ربي وقولهم الرباب، لولد عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس ولضبة لأنهم تجمعوا وتحالفوا، من هذا، يريدون الجماعات. وواحدة
ـــــــ
عمران:146] ارتفع ربيون على تفسير ابن إسحاق بالابتداء والجملة في موضع الحال من الضمير في قتل وهذا أصح التفسيرين لأنه قال فما وهنوا لما أصابهم ولو كانوا هم المقتولين ما قال فيهم ما وهنوا لما أصابهم أي ما ضعفوا، وقد يخرج أيضا قول من قال ربيون مفعول لم يسم فاعله بقتل على أن يكون معنى قوله فما وهنوا أي ما وهن الباقون منهم لما أصيبوا به من قتل إخوانهم وهذا وجه ولكن سبب نزول الآية يدل على صحة التفسير الأول.
وقوله ربيون وهم الجماعات في قول أهل اللغة وقال ابن مسعود ربيون ألوف وقال أبان بن تغلب: الربي: عشرة آلاف.
من تفسير آيات أحد
<301> وقوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران: 153] وعلى: تفسير ابن

(6/47)


الرباب: ربة "وربابة" وهي جماعات قداح أو عصي ونحوها، فشبهوها بها.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع
وهذا البيت في أبيات له. وقال أمية بن أبي الصلت:
حول شياطينهم أبابيل رب ... يون شدوا سنورا مدسورا
وهذا البيت في قصيدة له
قال ابن هشام: والربابة "أيضا" الخرقة التي تلف فيها القداح.
قال ابن هشام: والسنور الدروع. والدسر هي المسامير التي في الحلق يقول الله عز وجل {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]
قال الشاعر وهو أبو الأخرز الحماني، من تميم
دسرا بأطراف القنا المقوم
قال ابن إسحاق:
أي فقولوا مثل ما قالوا، واعلموا إنما ذلك بذنوب منكم واستغفروه كما استغفروه وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين فكل هذا من قولهم قد كان. وقد قتل نبيهم فلم يفعلوا كما فعلتم {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران:148] بالظهور على عدوهم {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران:148] وما وعد الله فيها، والله يحب المحسنين.
ـــــــ
إسحاق غما بعد غم الباء متعلقة بمحذوف التقدير غم مقرون بغم وعلى تفسير آخر متعلقة بأثابكم أي أثابكم غما بما غممتم نبيه حين خالفتم أمره.

(6/48)


تحذيره إياهم من إطاعة الكفار:
<302> {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] أي عن عدوكم فتذهب دنياكم وآخرتكم { بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150" فإن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا في قلوبكم فاعتصموا به ولا تستنصروا بغيره ولا ترجعوا على أعقابكم مرتدين عن دينه. {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران:151] أي الذي به كنت أنصركم عليهم بما أشركوا بي ما لم أجعل لهم من حجة أي فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهور عليكم ما اعتصمتم بي، واتبعتم أمري، للمصيبة التي أصابتكم منهم بذنوب قدمتموها لأنفسكم خالفتم بها أمري للمعصية وعصيتم بها النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152] أي وقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوكم إذ تحسونهم بالسيوف أي القتل بإذني وتسليطي أيديكم عليهم وكفي أيديهم عنكم.
قال ابن هشام:
الحس: الاستئصال يقال حسست الشيء أي استأصلته بالسيف وغيره. قال جرير
تحسهم السيوف كما تسامى ... حريق النار في الأجم الحصيد
ـــــــ
<302> وقوله {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] قال ابن عباس: هو عبد الله بن جبير الذي كان أميرا على الرماة وكان أمرهم أن يلزموا مكانهم وألا يخالفوا أمر نبيهم فثبتت معه طائفة فاستشهد واستشهدوا، وهم الذين أرادوا الآخرة وأقبلت طائفة على المغنم وأخذ السلب فكر عليهم العدو، وكانت المصيبة وفي الخبر: لقد رأيت خدم هند وصواحبها، وهن مشمرات في الحرب.

(6/49)


وهذا البيت في قصيدة له. وقال رؤبة بن العجاج:
إذا شكونا سنة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا
وهذان البيتان في أرجوزة له.
<303> قال ابن إسحاق: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } [آل عمران:152] أي تخاذلتم {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:152] أي اختلفتم في أمري، أي تركتم أمر نبيكم وما عهد إليكم يعني الرماة {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152] أي الفتح لا شك فيه وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] أي الذين أرادوا النهب في الدنيا وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] أي الذين جاهدوا في الله ولم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا، رغبة فيها، رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة أي الذين جاهدوا في الدين ولم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا، ليختبركم وذلك ببعض ذنوبكم ولقد عفا الله عن عظيم ذلك أن لا يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم ولكني عدت بفضلي عليكم وكذلك {مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:164] أن عاقب ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبا وموعظة فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم بما أصابوا من معصيته رحمة لهم وعائدة عليهم لما فيهم من الإيمان.
ـــــــ
والخدم الخلاخيل وكذلك قوله حين ذكر هندا، وأنها اتخذت من آذان الشهداء وآنفهم خدما وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيا، معناه الخلاخل أيضا.

(6/50)


تأنيبه إياهم لفرارهم عن نبيهم
ثم أنبهم بالفرار عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وهم يدعون لا يعطفون عليه لدعائه إياهم فقال {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ} (آل عمران: من الآية153) أي كربا بعد كرب بقتل من قتل من إخوانكم وعلو عدوكم عليكم وبما وقع في أنفسكم من قول من قال قتل نبيكم فكان ذلك مما تتابع عليكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من ظهوركم على عودكم بعد أن رأيتموه بأعينكم ولا ما أصابكم من قتل إخوانكم حتى فرجت ذلك الكرب عنكم {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:153] وكان الذي فرج الله به عنهم ما كانوا فيه من الكرب والغم الذي أصابهم أن الله عز وجل رد عنهم كذبة الشيطان بقتل نبيهم صلى الله عليه وسلم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا بين أظهرهم هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم والمصيبة التي أصابتهم في إخوانهم حين صرف الله القتل عن نبيهم صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] <304> فأنزل الله النعاس أمنة منه على أهل اليقين به فهم نيام لا يخافون وأهل النفاق قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية تخوف القتل وذلك أنهم لا يرجون عاقبة فذكر الله عز وجل تلاومهم وحسرتهم على ما أصابهم. ثم قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:154] لم تحضروا هذا
ـــــــ
<303> وقوله سبحانه {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] في صحيح التفسير أن عتاب بن قشير هو قائل هذه المقالة وكان منبوذا بالنفاق.

(6/51)


الموطن الذي أظهر الله فيه معكم ما أظهر من سرائركم لبرز لأخرج {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } [آل عمران:154] إلى موطن غيره يصرعون فيه حتى يبتلي به ما في صدورهم {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] أي لا يخفى عليه ما في صدورهم مما استخفوا به منكم.
تحذيرهم أن يكونوا ممن يخشون الموت في الله
ثم قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156] أي لا تكونوا كالمنافقين الذين ينهون إخوانهم عن الجهاد في سبيل الله والضرب في الأرض في طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقولون إذا ماتوا أو قتلوا: لو أطاعونا ما ماتوا وما قتلوا {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} لقلة اليقين بربهم " {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يعجل ما يشاء ويؤخر ما يشاء من ذلك من أجابهم بقدرته.
قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157] أي إن الموت لكائن لا بد منه فموت في سبيل الله أو قتل خير لو علموا وأيقنوا مما يجمعون من الدنيا التي لها يتأخرون عن الجهاد تخوف الموت والقتل لما جمعوا من زهرة الدنيا زهادة في الآخرة {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} [آل عمران:158] أي ذلك كان {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:158] أي إن إلى الله المرجع فلا تغرنكم الدنيا، ولا تغتروا بها، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه من ثوابه آثر عندكم منها.
ذكره رحمة الرسول عليهم
ثم قال تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ
ـــــــ
<304> وقوله {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } [آل عمران:154] أي يظنون أن الله خاذل دينه ونبيه.

(6/52)


الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي لتركوك {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران:159] أي فتجاوز عنهم {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم <305> لينه لهم وصبره عليهم لضعفهم وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه عليهم في كل ما خالفوا عنه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ثم قال تبارك وتعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي تجاوز عنهم {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ذنوبهم من قارف من أهل الإيمان منهم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم وإن كنت غنيا عنهم تألفا لهم بذلك على دينهم {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي على أمر جاءك مني وأمر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك فامض على ما أمرت به على خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك، {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي ارض به من العباد {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] أي لئلا تترك أمري للناس وارفض أمر الناس إلى أمري، {وَعَلَى اللَّهِ} لا على الناس {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
ما نزل في الغلول
ثم قال {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى
ـــــــ
وقوله {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] أي أهل الجاهلية كأبي سفيان وأصحابه.
<305> وذكر قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وفسره وقد جاء عن ابن عباس أنه قال نزلت في أبي بكر وعمر أمر بمشاورتهما.
حكم الغلول
وذكر قوله {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161] وفسره أن يكتم ما

(6/53)


كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:161] أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم عن رهبة من الناس ولا رغبة ومن يفعل ذلك يأت يوم القيامة به ثم يجزى بكسبه غير مظلوم ولا معتدى عليه {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:162] على ما أحب الناس أو سخطوا {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:162] لرضا الناس أو لسخطهم. يقول أفمن كان على طاعتي، فثوابه الجنة ورضوان من الله كمن باء بسخط من الله واستوجب سخطه فكان وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أسواء المثلان فاعرفوا. {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163] لكل درجات مما عملوا في الجنة والنار أي إن الله لا يخفى عليه أهل طاعته من أهل معصيته.
فضل الله على الناس ببعث الرسل
<306> ثم قال {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] أي لقد من الله عليكم يا أهل الإيمان إذ بعث فيكم رسولا من أنفسكم يتلو عليكم آياته فيما أحدثتم وفيما عملتم فيعلمكم الخير والشر لتعرفوا الخير فتعملوا به والشر فتتقوه ويخبركم برضاه عنكم إذا أطعتموه فتستكثروا من
ـــــــ
أنزل الله وأكثر المفسرين يقولون نزلت في الغلول وفي بعض الآثار أنهم فقدوا قطيفة من المغنم فقال قائل لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها، فأنزل الله الآية ومن قرأ يغل بضم الياء وفتح الغين فمعناه أن يلقى غالا، تقول أجبنت الرجل إذا ألفيته جبانا، وكذلك أغللته: إذا وجدته. غالا، وقد قال عمرو بن معدي كرب لبني سليم: قاتلناكم فما أجبناكم وسألناكم فما أبخلناكم وتفسير ابن إسحاق <306> [ غير] خارج

(6/54)


طاعته وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته لتتخلصوا بذلك من نقمته وتدركوا بذلك ثوابه من جنته {وإن} كنتم { مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] أي لفي عمياء من الجاهلية أي لا تعرفون حسنة ولا تستغفرون من سيئة صم عن الخير بكم عن الحق عمي عن الهدى.
ذكره المصيبة التي أصابتهم
ثم ذكر المصيبة التي أصابتهم فقال {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] أي إن تك قد أصابتكم مصيبة في إخوانكم بذنوبكم فقد أصبتم مثليها قبل من عدوكم في اليوم الذي كان قبله ببدر قتلا وأسرا ونسيتم معصيتكم وخلافكم عما أمركم به نبيكم صلى الله عليه وسلم أنتم أحللتم ذلك بأنفسكم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي إن الله على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166)] أي ما أصابكم حين التقيتم أنتم وعدوكم فبإذني، كان ذلك حين فعلتم ما فعلتم بعد أن جاءكم نصري، وصدقتكم وعدي، ليميز بين المؤمنين والمنافقين وليعلم الذين نافقوا منكم أي ليظهر ما فيهم. {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران:167] يعني عبد الله بن أبي وأصحابه الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوه من المشركين بأحد وقولهم لو نعلم أنكم تقاتلون لسرنا معكم ولدفعنا عنكم ولكنا
ـــــــ
عن مقتضى اللغة. فمن كتم فقد غل أي ستر وكذلك من خان في شيء وأخذه خفية فقد ستره وكتمه وأصل الكلمة الستر والإخفاء ومنه الغلالة والغلل للماء الذي يغطيه الشجر والنبات وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض المغازي بإحراق متاع الغال وأخذت به طائفة من الفقهاء منهم أحمد وإسحاق.

(6/55)


لا نظن أنه يكون قتال. فأظهر معهم ما كانوا يخفون في أنفسهم. يقول الله عز وجل {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167] أي يظهرون لك الإيمان وليس في قلوبهم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167] أي ما يخفون {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ } [آل عمران:168] <307> الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] أي أنه لا بد من الموت فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا، وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله حرصا على البقاء في الدنيا، وفرارا من الموت.
الترغيب في الجهاد
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم يرغب المؤمنين في الجهاد ويهون عليهم القتل {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:170] أي لا تظنن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا: أي
ـــــــ
الشهادة والشهداء
فصل: <307> وذكر قوله سبحانه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:169] الآيات وهؤلاء هم الذين سماهم الله شهداء بقوله {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] وهذا الاسم مأخوذ من الشهادة أو من المشاهدة فإن كان من الشهادة فهو شهيد بمعنى مشهود أي مشهود عليه ومشهود له بالجنة أما مشهود عليه فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وقف على قتلى أحد، قال هؤلاء الذين أشهد عليهم أي أشهد عليهم بالوفاء وقال عليهم ولم يقل لهم لأن المعنى: أجيء يوم القيامة شهيدا عليهم وهي ولاية وقيادة فوصلت بحرف على، ويجوز أن يكون من الشهادة وتكون فعيلا بمعنى فاعل لأن الله تعالى يقول وتكونوا شهداء على الناس أي تشهدون عليهم وهذا، وإن كان

(6/56)


قد أحييتهم فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من فضله على جهادهم عنه ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم قد أذهب الله عنهم الخوف والحزن. يقول الله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:171] لما عاينوا من وفاء الموعود وعظيم الثواب.
مصير قتلى أحد
<308> قال ابن إسحاق: وحدثني إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا
ـــــــ
عاما في جميع أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - فالشهداء أولى بهذا الاسم إذ هم تبع للصديقين والنبيين. قال الله سبحانه {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} [النساء:69] فهذان وجهان في معنى الشهيد إذا جعلته مشتقا من الشهادة وإن كان من المشاهدة فهو فعيل بمعنى: فاعل أيضا، لأنه يشاهد من ملكوت الله ويعاين من ملائكته ما لا يشاهد غيره ويكون أيضا بمعنى مفعول وهو من المشاهدة أي إن الملائكة تشاهد قبضه والعروج بروحه ونحو <308> ذلك فيكون فعيلا بمعنى مفعول. وأولى هذه الوجوه كلها بالصحة أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ويكون معناه. مشهودا له بالجنة أو يشهد عليه النبي عليه السلام كما قال " هؤلاء أنا شهيد عليهم" أي قيم عليهم بالشهادة لهم وإذا حشروا تحت لوائه فهو وال عليهم وإن كان شاهدا لهم فمن هاهنا اتصل الفعل بعلى، فتقوى هذا الوجه من جهة الخبر، ومن وجه آخر من العربية وهو أن

(6/57)


يعلمون ما صنع الله بنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى: فأنا أبلغهم عنكم فأنزل الله على رسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات {وَلا تَحْسَبَنَّ}"
ـــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الشهداء قال " والمرأة تموت بجمع شهيد " ، ولم يقل شهيدة وفي رواية أخرى قال " والنفساء شهيد يجرها جنينها بسرره إلى الجنة " ، ولم يقل شهيدة وفعيل إذا كان صفة لمؤنث كان بغير هاء إذا كان بمعنى مفعول نحو امرأة قتيل وجريح وإن كان بمعنى فاعل كان بالهاء كقولهم امرأة عليمة ورحيمة ونحو ذلك فدل على أن الشهيد مشهود له ومشهود عليه وهذا استقراء من اللغة صحيح واستنباط من الحديث بديع فقف عليه.
وذكر ابن إسحاق حديث ابن عباس المرفوع وفيه أن الله جعل أرواحهم في أجواف طير خضر وعن قتادة قال ذكر لنا أن أرواح الشهداء تتعارف عند السدرة في أجواف طير بيض وقد أنكر هذه الرواية قوم وقالوا: لا يكون روحان في جسد واحد وإن ذلك محال وهذا جهل بالحقائق فإن معنى الكلام بين فإن روح الشهيد الذي كان في جسده في الدنيا، يجعل في جسد آخر كأنه صورة طائر فيكون في هذا الجسد الآخر كما كان في الأول إلى أن يعيده الله يوم القيامة كما خلقه وهذه الرواية لا تعارض ما رووه من قوله في صور طير خضر والشهداء طير خضر وجميع الروايات كلها متفقة المعنى، وإنما الذي يستحيل في العقل قيام حياتين بجوهر واحد فيحيا الجوهر بهما جميعا، وأما روحان في جسد فليس بمحال إذا لم نقل بتداخل الأجسام فهذا الجنين في بطن أمه وروحه غير <309> روحها،

(6/58)


<309> <310> وقد اشتمل عليهما جسد واحد وهذا أن لو قيل لهم إن الطائر له روح غير روح الشهيد وهما في جسد واحد فكيف وإنما قال في أجواف طير خضر أي في صورة طير خضر كما تقول رأيت ملكا في صورة إنسان وكذلك قوله عليه السلام " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في ثمر الجنة " تأوله بعضهم مخصوصا بالشهيد وقال بعضهم إنما الشهيد في الجنة يأكل منها حيث شاء ثم يأوي إلى قناديل معلقة في العرش وغير الشهيد من المؤمنين نسمته أي روحه طائر لا أن روحه جعل في جوف طائر ليأكل ويشرب كما فعل بالشهيد لكن الروح نفسه طائر يعلق بشجر الجنة يعلق بفتح اللام ينشب بها، ويرى مقعده منها، ومن رواه يعلق فمعناه يصيب العلقة أي ينال معها ما هو دون نيل الشهيد فضرب العلقة مثلا، لأن من أصاب العلقة من الطعام والشراب فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى.
وإن كان أراد بيعلق الأكل نفسه فهو مخصوص بالشهيد فتكون رواية من رواه بالضم للشهداء ورواية الفتح لمن دونهم فالله أعلم بما أراد رسوله من ذلك.
وقوله ثم تأوي إلى قناديل يصدقه قوله تعالى عز وجل {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] وإنما تأوي إلى تلك القناديل ليلا، وتسرح نهارا، فتعلم بذلك الليل من النهار وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل - والله أعلم - وإنما ذلك مدة البرزخ هذا ما يدل عليه ظاهر الحديث. وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها، وقد أنكر أبو عمر قول مجاهد، ورده وليس بمنكر عندي، ويشهد له ما وقع في مسند ابن أبي

(6/59)


قال ابن إسحاق: وحدثني الحارث بن الفضيل عن محمود بن لبيد الأنصاري عن ابن عباس أنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في فئة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا"
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن هؤلاء الآيات {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] فقال أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: "إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قنديل من ذهب في ظل العرش فيطلع الله عز وجل عليهم إطلاعة فيقول يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ قال فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا قال ثم يطلع الله عليهم إطلاعة فيقول يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا قال ثم يطلع عليهم إطلاعة فيقول
ـــــــ
شيبة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الشهداء بنهر " أو على نهر يقال له " بارق عند باب الجنة في قباب خضر يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيا "، فهذا يبين ما أراد مجاهد، والله أعلم.
ومما وقع السيرة أيضا، ولم يذكره ابن هشام حديث رواه ابن إسحاق، قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "<310> الشهداء ثلاثة فأدنى الشهداء عند الله منزلة رجل خرج مسودا بنفسه ورحله لا يريد أن يقتل ولا يقتل أتاه سهم غرب فأصابه قال فأول قطرة تقطر من دمه يغفر الله بها ما تقدم من ذنبه ثم يهبط الله إليه جسدا من السماء فيجعل فيه روحه ثم يصعد به إلى الله فما يمر بسماء من السموات

(6/60)


يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا. قال: ثم يطلع عليهم اطلاعة فيقول: يا عبادي، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا. إلا أنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا، ثم نرد إلا الدنيا، فنقاتل فيك، حتى نقتل مرة أخرى
<311> قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال سمعت جابر بن عبد الله يقول
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أبشرك يا جابر؟ قال قلت: بلى يا نبي الله قال "إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله عز وجل ثم قال له ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال أي رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك، فأقتل مرة أخرى
ـــــــ
إلا شيعته الملائكة حتى ينتهي به إلى الله فإذا انتهى به إليه وقع ساجدا، ثم يؤمر به فيكسى سبعين زوجا من الإستبرق "، ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "كأحسن ما رأيتم من شقائق النعمان" وحدث كعب الأخبار عن قول - رسول الله عليه السلام - فقال كعب الأخبار أجل كأحسن ما رأيتم من شقائق النعمان ثم يقول اذهبوا به إلى إخوته من الشهداء، فاجعلوه. معهم فيؤتى به إليهم من قبة خضراء في روضة خضراء عند باب الجنة يخرج عليهم حوت ونور من الجنة لغدائهم فيلعبانهم حتى إذا كثر عجبهم منها طعن الثور الحوت بقرنه فبقره. لهم عما يدعون. ثم يروحان عليهم لعشائهم فيلعبانهم حتى إذا كثر عجبهم منهما ضرب الحوت الثور بذنبه فبقره. لهم عما يدعون فإذا انتهى إلى إخوانه سألوه. تسألوا الراكب يقدم عليكم بلادكم فيقولون ما فعل فلان؟ فيقول أفلس فيقولون فما أهلك ماله فوالله إن كان لكيسا جموعا تاجرا، فيقال لهم إنا لا نعد الفلس ما تعدون وإنما

(6/61)


قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده "ما من مؤمن يفارق الدنيا يحب أن يرجع إليها ساعة من نهار وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يحب أن يرد إلى الدنيا، فيقاتل في سبيل الله فيقتل مرة أخرى
ذكر من خرجوا مع الرسول إلى حمراء الأسد:
قال ابن إسحاق:
ثم قال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172] أي الجراح وهم المؤمنون الذين ساروا مع رسول الله - الغد من يوم أحد إلى حمراء الأسد على ما بهم من ألم الجراح {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:172-173] والناس الذين قالوا لهم ما قالوا، النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال قالوا إن أبا سفيان
ـــــــ
نعد الفلس من الأعمال فما فعل فلان وامرأته فلانة؟ فيقول طلقها، فيقولون فما الذي نزل بينهما، حتى طلقها، فوالله إن كان بها لمعجبا؟ فيقولون ما فعل فلان؟ فيقولون مات أيهات قبل بزمان فيقولون هلك والله ما سمعنا له بذكر إن لله طريقين أحدهما: علينا، <311> والآخر يخالف بها عنا، فإذا أراد الله بعبد خيرا أمر به علينا، فعرفنا، وعرفنا متى مات واذا أراد الله بعبد شرا خولف به عنا، فلم نسمع له بذكر هلك والله فلان فإن هذا لأدنى الشهداء عند الله نزلة وإن الآخر رجل خرج مسودا بنفسه ورحله يحب أن يقتل ولا يقتل أتاه سهم غرب فأصابه فذلك رفيق إبراهيم خليل الرحمن يوم القيامة يحك ركبتاه ركبتيه وأفضل الشهداء: رجل خرج مسودا بنفسه ورحله يحب أن يقتل وأن يقتل وقاتل حتى قتل قعصا فذلك

(6/62)


ومن معه راجعون إليكم يقول الله عز وجل {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174] لما صرف الله عنهم من لقاء عدوهم إنما ذلكم الشيطان أي لأولئك الرهط وما ألقى الشيطان على أفواههم {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } [آل عمران:175] أي يرهبكم بأوليائه {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران:176] أي المنافقون <312> {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ, وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 176 177 178 179] أي المنافقين {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179] أي فيما يريد أن يبتليكم به لتحذروا ما يدخل عليكم فيه {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:179] أي يعلمه ذلك {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران:179] أي ترجعوا وتتوبوا {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179]
ـــــــ
يبعثه الله يوم القيامة شاهرا سيفه يتمنى على الله لا يسأله شيئا إلا أعطاه إياه" <312> . وقع في هذا الحديث ذكر الحوت ولعبه مع الثور وقد خرجه هناد بن السري بإسناد حسن في كتاب الرقاق له بأكثر مما وقع ها هنا، وفي الصحيحين منه ذكر أكل أهل الجنة من كبد أول ما يأكلون ثم ينحر لهم ثور الجنة وفي هذا الحديث

(6/63)