الروض الأنف ت السلامي

ذكر غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان ومقتل جعفر وزيد وعبد الله بن رواحة.
قال ابن إسحاق:
فأقام بها بقية ذي الحجة وولي تلك الحجة المشركون والمحرم وصفرا وشهري ربيع وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.
بعث الرسول إلى مؤتة واختياره الأمراء
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال:
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس .
ـــــــ
غزوة مؤتة
وهي مهموزة الواو وهي قرية من أرض البلقاء من الشام، وأما الموتة بلا همز فضرب من الجنون وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في صلاته" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " وفسره راوي الحديث فقال " نثفه الشعر ونفخه الكبر وهمزه الموتة".

(7/164)


بكاء ابن رواحة مخافة النار وشعره للرسول
فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم. فلما ودع عبد الله بن رواحة من ودع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة ؟ فقال أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } [مريم: 71]، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود فقال المسلمون صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة
...
وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
...
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي
...
أرشده الله من غاز وقد رشدا
قال ابن إسحاق:
ثم إن القوم تهيئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه ثم قال
ـــــــ
تفسير {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}
ذكر في هذه الغزوة قول عبد الله بن رواحة حين ذكر قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود وقد تكلم العلماء فيها بأقوال منها أن الخطاب متوجه إلى الكفار على الخصوص واحتج قائلو هذه المقالة بقراءة ابن عباس: وإن منهم إلا واردها، وقالت طائفة الورود ههنا هو الإشراف عليها ومعاينتها، وحكوا عن العرب: وردت

(7/165)


تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
...
الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
...
والوجه منه فقد أزرى به القدر
قال ابن هشام: أنشدني بعض أهل العلم بالشعر هذه الأبيات
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
...
والوجه منه فقد أزرى به القدر
فثبت الله ما أتاك من حسن
...
في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
...
فراسة خالفت فيك الذي نظروا
يعني المشركين وهذه الأبيات في قصيدة له.
قال ابن إسحاق: ثم خرج القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم قال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على امرئ ودعته
...
في النخل خير مشيع وخليل
تخوف الناس من لقاء هرقل وشعر ابن رواحة يشجعهم.
ثم مضوا حتى نزلوا معان، من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب ،
ـــــــ
الماء فلم أشرب. وقالت طائفة الورود ههنا هو المرور على الصراط لأنه على متن جهنم أعاذنا الله منها، وروي" أن الله تبارك وتعالى يجمع الأولين والآخرين فيها، ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي " وقالت طائفة الورود أن يأخذ العبد بحظ منها، وقد يكون ذلك في الدنيا بالحميات فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الحمى كير من جهنم وهو حظ كل مؤمن من النار"

(7/166)


من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي مائة ألف منهم عليهم رجل من بلي ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. قال" فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة لا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة. قال فقال الناس قد والله صدق ابن رواحة" فمضى الناس فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك
جلبنا الخيل من أجإ وفرع
...
تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من الصوان سبتا
...
أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان
...
فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات
...
تنفس في مناخرها السموم
فلا وأبي مآب لنأتينها
...
وإن كانت بها عرب وروم
ـــــــ
شرح شعر ابن رواحة
وذكر شعر عبد الله بن رواحة وفيه
تقر من الحشيش لها العكوم
تقر: أي يجمع بعضها إلى بعض والعكوم جمع عكم.
وفيه:

(7/167)


فعبأنا أعنتها فجاءت
...
عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيه
...
إذا بررت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها
...
أسنتها فتنكح أو تئيم
ـــــــ
من الغبار لها بريم
البريم خيط تحتزم به المرأة والبريم أيضا: لفيف الناس وأخلاطهم ويقال هم بريمان أي لونان مختلطان. وفيه
أقامت ليلتين على معان
قال الشيخ أبو بحر معان بضم الميم وجدته في الأصلين وأصلحه علينا القاضي - رحمه الله - حين السماع معان بفتح الميم وهو اسم موضع وذكره البكري بضم الميم وقال هو اسم جبل والمعان أيضا: حيث تحبس الخيل والركاب ويجتمع الناس ويجوز أن يكون من أمعنت النظر أو من الماء المعين فيكون وزنه فعالا، ويجوز أن يكون من العون فيكون وزنه مفعلا، وقد جنس المعري بهذه الكلمة فقال
معان من أحبتنا معان
...
تجيب الصاهلات بها القيان
وقوله
فراضية المعيشة طلقتها
أي المعيشة المرضية وبناها على فاعلة لأن أهلها راضون لأنها في

(7/168)


قال ابن هشام: "ويروى: جلبنا الخيل من آجام قرح"، وقوله "فعبأنا أعنتها" عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: ثم مضى الناس فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن "زيد بن أرقم قال كنت يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله فوالله إنه ليسير ليلة إذا سمعته وهو ينشد أبياته هذه
إذا أديتني وحملت رحلي
...
مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم
...
ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني
...
بأرض الشام مشتهي الثواء
ـــــــ
معنى صالحة وقد تقدم طرف من القول في هذا المعنى .
وقوله وخلاك ذم، أي فارقك الذم، فلست بأهل له وقد أحسن في قوله
فشأنك أنعم وخلاك ذم
بعد قوله إذا بلغتني، وأحسن أيضا من اتبعه في هذا المعنى، كقول أبي نواس
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
...
فظهورهن على الرجال حرام
وكقول الآخر
نجوت من حل ومن رحلة
...
يا ناق إن قربتني من قثم

(7/169)


وردك كل ذي نسب قريب
...
إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل
...
ولا نخل أسافلها رواء
فلما سمعتهن معه بكيت. قال فخفقني بالدرة وقال ما عليك يا لكع أن يرزقني الله شهادة وترجع بين شعبتي الرحل "قال ثم قال عبد الله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو يرتجز
يا زيد زيد اليعملات الذبل
...
تطاول الليل هديت فانزل
ـــــــ
وقد أساء الشماخ حيث يقول
إذا بلغتني وحملت رحلي
...
عرابة فاشرقي بدم الوتين
ويذكر عن الحسن بن هانئ أنه كان يشنؤه إذ ذكر هذا البيت وذكر مهلهل بن يموت بن المزرع عن أبي تمام أنه قال كان الحسن يشنأ الشماخ وأنا ألعنه من أجل قوله هذا.
"وقول النبي صلى الله عليه وسلم للغفارية بئس ما جزيتيها يشد الغرض المتقدم ويشهد لصحته ".
وقوله مستنهي الثواء مستفعل من النهاية والانتهاء أي حيث انتهى مثواه ومن رواه مشتهي الثواء أي لا أريد رجوعا.
وقوله
حذوناها من الصوان سبتا

(7/170)


لقاء الروم
قال ابن إسحاق:
فمضى العباس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل، من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عبادة بن مالك.
قال ابن هشام: ويقال عبادة بن مالك.
ـــــــ
أي حذوناها نعالا من حديد جعله سبتا لها، مجازا. وصوان من الصون أي يصون حوافرها، أو أخفافها، إن أراد الإبل فهو فعال من الصون فقد كانوا يحذونها السريح وهو جلد يصون أخفافها، وأظهر من هذا أن يكون أراد بالصوان يبيس الأرض أي لا سبت له إلا ذلك ووزنه فعلان من قولهم نخلة خاوية أي يابسة وأنشد أبو علي
قد أوبيت كل ماء فهي صاوية
...
مهما تصب أفقا من بارق تشم
ويشهد لمعنى الصوان هنا قول النابغة الذبياني
يرى وقع الصوان حد نسورها
...
فهن لطاف كالصعاد الذوابل
وعين الفعل في صوان ولامه واو وأدخل صاحب العين في باب الصاد والواو والياء هذا اللفظ فقال صوي يصوي: إذا يبس ونخلة صاوية ولو كان مما لامه ياء لقيل في صوان صيان كما قيل طيان وريان ولكن لما انقلبت الواو ياء من أجل الكثرة توهم الحرف من ذوات الياء

(7/171)


مقتل ابن حارثة
قال ابن إسحاق:
ثم التقى الناس واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم.
إمارة جعفر ومقتله
ثم أخذها جعفر فقاتل بها. حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل .فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام.
وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال حدثني أبي الذي
ـــــــ
وقول عبد الله
هل أنت إلا نطفة في شنة
النطفة القليل في الماء والشنة السقاء البالي، فيوشك أن تهراق النطفة وينخرق السقاء ضرب ذلك مثلا لنفسه في جسده.
عقر جعفر فرسه ومقتله
وأما عقر جعفر فرسه ولم يعب ذلك عليه أحد، فدل على جواز ذلك إذا خيف أن يأخذها العدو، فيقاتل عليها المسلمين فلم يدخل هذا في باب النهي عن تعذيب البهائم وفعلها عبثا غير أن أبا داود خرج هذا الحديث فقال حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن مسلمة عن محمد بن إسحاق عن ابن عباد يعني: يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، قال حدثني أبي الذي أرضعني، وهو أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزاة غزاة مؤتة، قال والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل

(7/172)


أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول
يا حبذا الجنة واقترابها
...
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
...
كافرة بعيدة أنسابها
علي إن لاقيتها ضرابها
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت فأخذه بشماله فقطعت
ـــــــ
قال أبو داود: وليس هذا الحديث بالقوي وقد جاء فيه نفي كثير عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في جعفر فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء " وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وقال" دخلت الجنة البارحة فرأيت جعفرا يطير مع الملائكة وجناحاه مضرجان بالدم " وعن سعيد بن المسيب، قال"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل لي جعفر وزيد وعبد الله بن رواحة في خيمة من در على أسرة فرأيت زيدا وعبد الله وفي أعناقهما صدود ورأيت جعفرا مستقيما. فقيل لي: إنهما حين غشيهما الموت أعرضا بوجوههما، ومضى جعفر فلم يعرض " وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة حين جاء نعي جعفر تقول واعماه فقال على مثل جعفر فلتبك البواكي وكان أبو هريرة يقول ما احتذى النعال ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر وقال عبد الله بن جعفر:

(7/173)


فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين.
ـــــــ
كنت إذا سألت عليا حاجة فمنعني أقسم عليه بحق جعفر فيعطيني"
معنى الجناحين
ومما ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين أنهما ليسا كما يسبق إلى الوهم على مثل جناحي الطائر وريشه لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، وفي قوله عليه السلام" إن الله خلق آدم على صورته " تشريف له عظيم وحاشا لله من التشبيه والتمثيل ولكنها عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر كما أعطيتها الملائكة وقد قال الله تعالى لموسى : {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] فعبر عن العضد بالجناح توسعا، وليس ثم طيران فكيف بمن أعطي القوة على الطيران مع الملائكة أخلق به إذا: أن يوصف بالجناح مع كمال الصورة الآدمية وتمام الجوارح البشرية وقد قال أهل العلم في أجنحة الملائكة ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة واحتجوا بقوله تعالى :{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر 1] فكيف تكون كأجنحة الطير على هذا، ولم ير طائر له ثلاثة أجنحة ولا أربعة فكيف بستمائة جناح كما جاء في صفة جبريل عليه السلام، فدل على أنها صفات لا تنضبط كيفيتها للفكر ولا ورد أيضا في بيانها، خبر فيجب علينا الإيمان بها، ولا يفيدنا علما إعمال الفكر في كيفيتها، وكل امرئ قريب من معاينة ذلك.

(7/174)


إمارة ابن رواحة ومقتله
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها، وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال
أقسمت يا نفس لتنزلنه
...
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه
...
ما لي أراك تكرهين الجنه
قد طال ما قد كنت مطمئنه
...
هل أنت إلا نطفة في شنه
ـــــــ
فإما أن يكون من الذين{ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] وإما أن يكون من الذين تقول لهم الملائكة وهم باسطو أيديهم{ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ }. [الأنعام: 93]
فضل ابن رواحة
وأما عبد الله بن رواحة فقد ذكر ابن إسحاق ما ذكر من فضائله.
وذكر قوله للنبي صلى الله عليه وسلم
فثبت الله ما آتاك من حسن
...
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
وروى غيره "أنه عليه السلام قال له قل شعرا تقتضبه اقتضابا، وأنا أنظر إلي ك، فقال من غير روية
إني تفرست فيك الخير
...
الأبيات حتى انتهى إلى قوله

(7/175)


وقال أيضا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي
...
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت
...
إن تفعلي فعلهما هديت
يريد صاحبيه زيدا وجعفرا ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.
ابن الوليد وانصرافه بالناس
ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم قالوا: أنت قال ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس.
تنبؤ الرسول بما حدث للمسلمين مع الروم
قال ابن إسحاق:
ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني :" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا قال ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل
ـــــــ
فثبت الله ما آتاك من حسن
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة "

(7/176)


شهيدا، ثم قال لقد رفعوا إلي في الجنة، فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا ؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى
حزن الرسول على جعفر ووصاته بآله
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية عن أم جعفر بنت محمد بن أبي طالب عن جدتها "أسماء بنت عميس، قالت لما أصيب جعفر وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا - قال ابن هشام: ويروى: أربعين منيئة - وعجنت عجيني، وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم. قالت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتيني ببني جعفر قالت فأتيته بهم فتشممهم وذرفت عيناه فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء ؟ قال نعم أصيبوا هذا اليوم . قالت فقمت أصيح واجتمعت إلي النساء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم
وحدثني عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن. قالت فدخل عليه رجل فقال يا رسول الله إن النساء عنيننا وفتننا، قال فارجع إليهن فأسكتهن . قالت فذهب ثم رجع فقال له مثل ذلك - قال تقول وربما ضر التكلف أهله - قالت قال فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحث في أفواههن التراب قالت وقلت في نفسي: أبعدك الله فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وعرفت أنه لا يقدر على أن يحثي في أفواههن التراب
ـــــــ
فضل زيد
وأما زيد فقد تقدم التعريف به وبجملة من فضائله في أحاديث المبعث

(7/177)


قال ابن إسحاق:
وقد كان قطبة بن قتادة العذري، الذي كان على ميمنة المسلمين قد حمل على مالك بن رافلة فقتله فقال قطبة بن قتادة:
طعنت ابن زافلة بن الإراش
...
برمح مضى فيه ثم انحطم
ضربت على جيده ضربة
...
فمال كما مال غصن السلم
وسقنا نساء بني عمه
...
غداة رقوقين سوق النعم
قال ابن هشام: قوله "ابن الإراش" عن غير ابن إسحاق. والبيت الثالث عن خلاد بن قرة ؟ ويقال مالك بن رافلة.
كاهنة حدس
قال ابن إسحاق: وقد كانت كاهنة من حدس حين سمعت بجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، قد قالت لقومها من حدس - وقومها بطن يقال لهم بنو غنم - أنذركم قوما خزرا - ينظرون شزرا، ويقولون الخيل تترى، ويهريقون دما عكرا. فأخذوا بقولها، واعتزلوا من بين لخم، فلم تزل بعد أثري حدس. وكان الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة بطن من حدس فلم يزالوا قليلا بعد. فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلا .
رجوع الجيش وتلقى الرسول له وغضب المسلمين
قال ابن إسحاق:
ـــــــ
وحسبك بذكر الله له باسمه في القرآن ولم يذكر أحد من الصحابة باسمه سواه وقد بينا النكتة في ذلك في كتاب التعريف والأعلام فلينظر هنالك.
رجوع أهل مؤتة
فصل وذكر رجوع أهل مؤتة وما لقوا من الناس إذ قالوا لهم يا فرار

(7/178)


فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، قال:
لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال خذوا الصبيان فاحملوهم ، وأعطوني ابن جعفر . فأتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه. قال وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فرار فررتم في سبيل الله؟ قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى
قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن بعض آل الحارث بن هشام : وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال "قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين؟ قال والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته فما يخرج
شعر قيس في الاعتذار عن تقهقر خالد
قال ابن إسحاق :
ـــــــ
فررتم في سبيل الله ورواية غير ابن إسحاق أنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - نحن الفرارون يا رسول الله؟ فقال " بل أنتم الكرارون وقال لهم أنا فئتكم " يريد أن من فر متحيزا إلى فئة المسلمين فلا حرج عليه وإنما جاء الوعيد فيمن فر عن الإمام ولم يتحيز إليه أي لم يلجأ إلى حوزته فيكون معه فالمتحيز متفيعل من الحوز ولو كان وزنه متفعلا ، كما يظن بعض الناس لقيل فيه متحوز. وروي أن عمر رضي الله عنه حين بلغه قتل أبي عبيد بن مسعود وأصحابه في بعض أيام القادسية ، قال هلا تحيزوا إلينا ، فإنا فيئة لكل مسلم.

(7/179)


وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم قيس بن المسحر اليعمري ، يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس
فوالله لا تنفك نفسي تلومني
...
على موقفي والخيل قابعة قبل
وقفت بها لا مستجيرا فنافذا
...
ولا مانعا من كان حم له القتل
على أنني آسيت نفسي بخالد
...
ألا خالد في القوم ليس له مثل
وجاشت إلي النفس من نحو جعفر
...
بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل
وضم إلينا حجزتيهم كليهما
...
مهاجرة لا مشركون ولا عزل
فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه.
ـــــــ
وذكر ابن إسحاق مخاشاة خالد بن الوليد بالناس يوم مؤتة. والمخاشاة المحاجزة وهي مفاعلة من الخشية لأنه خشي على المسلمين لقلة عددهم فقد قيل كان العدو مائتي ألف من الروم ، وخمسين ألفا من العرب ، ومعهم من الخيول والسلاح ما ليس مع المسلمين وفي قول ابن إسحاق : وكان العدو مائة ألف وخمسين ألفا ، وقد قيل إن المسلمين لم يبلغ عددهم في ذلك اليوم ثلاثة آلاف ومن رواه حاشى بالحاء المهملة فهو من الحشى ، وهي الناحية وفي رواية قاسم بن أصبغ عن ابن قتيبة في المعارف أنه سئل عن قوله حاشى بهم فقال معناه انحاز بهم وشعر قطبة بن قتادة يدل على أنه قد كان ثم ظفر ومغنم لقوله
وسقنا نساء بني عمه
...
غداة رقوقين سوق النعم
وفي هذا الشعر أنه قتل رئيسا منهم وهو مالك بن رافلة وقد اختلف في ذلك كما ذكر ابن إسحاق ، فقال ابن شهاب : فأخذ خالد الراية حتى فتح الله على المسلمين فأخبر أنه قد كان ثم فتح وفي الراية الأخرى حين قيل لهم يا فرار

(7/180)


قال ابن هشام : فأما الزهري فقال فيما بلغنا عنه:
أمر المسلمون عليهم خالد بن الوليد ، ففتح الله عليهم وكان عليهم حتى قفل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
شعر حسان في بكاء قتلى مؤتة
قال ابن إسحاق:
وكان مما بكي به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول حسان بن ثابت:
ـــــــ
دليل على أنه قد كان ثم محاجزة وترك للقتال حتى قالوا : نحن الفرارون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم فالله أعلم.
طعام التعزية وغيرها
فصل وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يصنع لآل جعفر طعام فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم وهذا أصل في طعام التعزية وتسميه العرب الوضيمة كما تسمي طعام العرس الوليمة وطعام القادم من السفر النقيعة وطعام البناء الوكيرة وكان الطعام الذي صنع لآل جعفر فيما ذكر الزبير في حديث طويل عن عبد الله بن جعفر قال فعمدت سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى شعير فطحنته ثم آدمته بزيت وجعلت عليه فلفلا ، قال عبد الله فأكلت منه وحبسني النبي صلى الله عليه وسلم مع إخوتي في بيته ثلاثة أيام.

(7/181)


وهم إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لي عبرة
...
سفوحا وأسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية
...
وكم من كريم يبتلى ثم يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا
...
شعوب وخالفا بعدهم يتأخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا
...
بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيد وعبد الله حين تتابعوا
...
جميعا وأسباب المنية تخطر
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم
...
إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البد من آل هاشم
...
أبي إذا سيم الظلامة مجسر
فطاعن حتى مال غير موسد
...
بمعترك فيه قنا متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه
...
جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد
... وفاء وأمر حازما حين يأمر
فما زال في الإسلام من آل هاشم
...
دعائم عز لا يزلن ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حولهم
...
رضام إلى الطود يروق ويقهر
بها ليل منهم جعفر وابن أمه
...
علي ومنهم أحمد المتخير
ـــــــ
من شعر حسان في رثاء جعفر:
وذكر قول حسان يرثي جعفراً:
تأوبني ليل بيثرب أعسر
أعسر: بمعنى عسر، وفي التنزيل: { يَوْمٌ عَسِرٌ }[القمر: من الآية 8] فيه وأيضاً { عَسِيرٌ }[المدثر: من الآية 9] والمعنى متقارب، فمن قال: عسر [يعسر] قال: عسير بالياء، ومن قال: عسر يعسر، قال في الاسم: عسر وأعسر، مثل حمق وأحمق.
وفي هذا الشعر قوله:
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير

(7/182)


وحمزة والعباس منهم ومنهم
...
عقيل وماء العود من حيث يعصر
ـــــــ
البهاليل: جمع بهلول، وهو الوضيء الوجه مع طول.
وقوله: منهم أحمد المتخير، فدعا به بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير
إليهم، وليس بعيب لأنها ليست بإضافة تعريف، وإنما هو تشريف لهم حيث كان منهم، وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس:
كيف لا يدنيك من أمل
...
من رسول الله من نفره
لأنه ذكر واحد، وأضاف إليه، فصار بمنزلة ما عيب على الأعشى:
شتان ما يومي على كورها
...
ويوم حيان أخي جابر
وكان حيان أسن من جابر، وأشرف فغضب على الأعشى حيث عرفه بجابر واعتذر إليه من أجل الروي، فلم يقبل عذره، ووجدت في رسالة المهلهل بن يموت بن المزرع، قال: قال علي بن الأصفر، وكان من رواة أبي نواس قال: لما أبو نواس:
أيها المنتاب عن عفره
أنشدنيها فلما بلغ قوله:
كيف لا يدنيك من أمل
...
من رسول الله من نفره
وقع لي أنه كلام مستهجن في غير موضعه إذ كان حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف إلى أحد فقلت له: أعرفت عيب هذا البيت؟ قال: ما يعيبه إلا جاهل بكلام العرب، وإنما أردت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبيل الذي هذا الممدوح منه، أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر دين الإسلام:
وما زال في الإسلام من آل هاشم
...
دعائم عز لا ترام ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه
...
علي ومنهم أحمد المتخير

(7/183)


عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياءالله أنزل حكمه
...
عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر
شعر كعب في بكاء قتلى مؤتة
وقال كعب بن مالك :
سحا كما وكف الطباب المخضل
...
قام العيون ودمع عينك يهمل
ـــــــ
وقوله:
بهم تفرج اللأواء في كل مأزق *عماس
المأزق: المضيق من مضائق الحرب والخصومة وهو من أزقت الشيء إذا ضيقته وفي قصة ذي الرمة قال: سمعت غلاما يقول لغلمة قد أزقتم هذه الأوقة حتى جعلتموها كالميم ثم أدخل منجمه يعني عقبة فيها ,حتى أفهقها, أي حركه حتى وسعها. والعماس: المظلم, والأعمس: الضعيف البصر وحفرة معمسة, أي مفطاة قال الشاعر:
فإنك قد غطيت أرجاء هوة
...
معمسة لا يستبان ترابها
بثوبك في الظلماء ثم دعوتني
...
فجئت إليها سادراً لا أهابها
أنشده ابن الأنباري في خير لزرارة بن عدس.
حول شعر كعب
وذكر شعر كعب وفيه
سحا كما وكف الطباب المخضل

(7/184)


في ليلة وردت علي همومها
...
طورا أخن وتارة أتململ
واعتادني حزن فبت كأنني
...
ببنات نعش والسماك موكل
وكأنما بين الجوانح والحشى
...
مما تأوبني شهاب مدخل
وجدا على النفر الذين تتابعوا
...
يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية
...
وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم
...
حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
فمضوا أمام المسلمين كأنهم
...
فنق عليهن الحديد المرفل
ـــــــ
الطباب جمع طبابة وهي سير بين خرزتين في المزادة فإذا كان غير محكم وكف منه الماء والطباب أيضا: جمع طبة وهي شقة مستطيلة.
وقوله طورا أخن. الخنين بالخاء المنقوطة حنين ببكاء فإذا كان بالحاء المهملة فليس معه بكاء ولا دمع
الاستقاء للقبور عند العرب
وقوله: وسقى عظامهم الغمام المسبل يرد قول من قال إنما استسقت العرب لقبور أحبتها لتخصب أرضها فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها لمطلب النجعة في البلاد. وقال قاسم بن ثابت في الدلائل فهذا كعب يستسقي لعظام الشهداء بمؤتة وليس معهم وكذلك قول الآخر
سقى مطغيات المحل جودا وديمة
...
عظام ابن ليلى حيث كان رميمها
فقوله: حيث كان رميمها يدل على أنه ليس مقيما معه وإنما استسقاؤهم لأهل القبور استرحام لهم لأن السقي رحمة وضدها عذاب.
وقوله كأنهم فنق جمع: فنيق وهو الفحل كما قال الآخر وهو طخيم
معي كل فضفاض الرداء كأنه
...
إذا ما سرت فيه المدام فنيق

(7/185)


إذ يهتدون بجعفر ولوائه
...
قدام أولهم فنعم الأول
حتى تفرجت الصفوف وجعفر
...
حيث التقى وعث الصفوف مجدل
فتغير القمر المنير لفقده
...
والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قرم علا بنيانه من هاشم
...
فرعا أشم وسؤددا ما ينقل
قوم بهم عصم الإله عباده
...
وعليهم نزل الكتاب المنزل
لا يطلقون إلى السفاه حباهم
...
ويرى خطيبهم بحق يفصل
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم
...
تندى إذا اعتذر الزمان الممحل
وبهديهم رضي الإله لخلقه
...
وبجدهم نصر النبي المرسل
ـــــــ
وقوله
فتغير القمر المنير لفقده
...
والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قوله حق، لأنه إن كان عنا بالقمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله قمرا، ثم جعله شمسا، فقد كان تغير بالحزن لفقد جعفر وإن كان أراد القمر نفسه فمعنى الكلام ومغزاه حق أيضا، لأن المفهوم منه تعظيم الحزن والمصاب وإذا فهم مغزى الشاعر في كلامه والمبالغ في الشيء فليس بكذب ألا ترى إلى قوله عليه السلام أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه أراد به المبالغة في شدة أدبه لأهله فكلامه كله حق - صلى الله عليه وسلم - وكذلك قالوا في مثل قول الشاعر [طفيل الغنوي]
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
...
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
قال إنما أراد فعلنا فعلة شنيعة عظيمة فضرب المثل بهتك حجاب الشمس وفهم مقصده فلم يكن كذبا، وإنما الكذب أن يقول فعلنا، وهم لم يفعلوا، وقتلنا وهم لم يقتلوا.

(7/186)


شعر حسان في بكاء جعفر بن أبي طالب
وقال حسان بن ثابت يبكي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
ولقد بكيت وعز مهلك جعفر
...
حب النبي على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لي
...
من للجلاد لدى العقاب وظلها
بالبيض حين تسل من أغمادها
...
ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر
...
خير البرية كلها وأجلها
رزءا وأكرمها جميعا محتدا
...
وأعزها متظلما وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل
...
كذبا وأنداها يدا وأقلها
فحشا وأكثرها إذا ما يحتدى
...
فضلا وأبذلها ندى وأبلها
بالعرف غير محمد لا مثله
...
حي من أحياء البرية كلها
ـــــــ
من شعر حسان في رثاء جعفر
وذكر أبيات حسان وفي بعضها تضمين نحو قوله وأذلها، ثم قال في أول بيت آخر للحق وكذلك قال في بيت آخر وأقلها، وقال في الذي بعده فحشا، وهذا يسمى التضمين.
وذكر قدامة في كتاب نقد الشعر أنه عيب عند الشعراء ولعمري إن فيه مقالا، لأن آخر البيت يوقف عليه فيوهم الذم في مثل قوله وأذلها، وكذلك وأقلها، وقد غلب الزبرقان على المخبل السعدي واسمه كعب بكلمة قالها المخبل أشعر منه ولكنه لما قال يهجوه
وأبوك بدر كان ينتهز الخصي
...
وأبي الجواد ربيعة بن قتال
وصل الكلام بقوله وأبي، وأدركه بهر أو سعلة فقال له الزبرقان فلا بأس

(7/187)


شعر حسان في بكاء ابن حارثة وابن رواحة
وقال حسان بن ثابت في يوم مؤتة يبكي زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة:
عين جودي بدمعك المنزور
...
واذكري في الرخاء أهل القبور
واذكري مؤتة وما كان فيها
...
يوم راحوا في وقعة التغوير
حين راحوا وغاروا ثم زيد
...
نعم مأوى الضريك والمأسور
حب خير الأنام طرا جميعا
...
سيد الناس حبه في الصدور
ذاكم أحمد الذي لا سواه
...
ذاك حزني له معا وسروري
إن زيدا قد كان منا بأمر
...
ليس أمر المكذب المغرور
ـــــــ
إذا، فضحك من المخبل وغلب عليه الزبرقان وإذا كان هذا معيبا في وسط البيت فأحرى أن يعاب في آخره إذا كان يوهم الذم ولا يندفع ذلك الوهم إلا بالبيت الثاني، فليس هذا من التحصين على المعاني والتوقي للاعتراض.
وقول حسان
عين جودي بدمعك المنزور
النزر القليل ولا يحسن ههنا ذكر القليل ولكنه من نزرت الرجل إذا ألحجت عليه ونزرت الشيء إذا استنفدته، ومنه قول عمر - رحمه الله - نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأصح فيه التخفيف قال الشاعر
فخذ عفو من تهواه لا تنزرنه
...
فعند بلوغ الكدر رنق المشارب
وقوله :يوم راحوا في وقعة التغوير هو مصدر غورت إذا توسط القائلة من

(7/188)


ثم جودي للخزرجي بدمع
...
سيدا كان ثم غير نزور
قد أتانا من قتلهم ما كفانا
...
فبحزن نبيت غير سرور
وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من غزوة مؤتة:
كفى حزنا أني رجعت وجعفر
...
وزيد وعبد الله في رمس أقبر
قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم
...
وخلفت للبلوى مع المتغبر
ثلاثة رهط قدموا فتقدموا
...
إلى رد مكروه من الموت أحمر
شهداء مؤتة
وهذه تسمية من استشهد يوم مؤتة:
من بني هاشم
من قريش، ثم من بني هاشم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن حارثة رضي الله عنه.
من بني عدي
ومن بني عدي بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة
ـــــــ
النهار ويقال أيضا: أغور فهو مغور وفي حديث الإفك مغورين في نحر الظهيرة وإنما صحت الواو في مغور وفي أغور من هذا، لأن الفعل بني فيه على الزوائد كما يبنى استحوذ وأغيلت المرأة وليس كذلك أغار على العدو ولا أغار الحبل .
وذكر فيمن استشهد بمؤتة أبا كليب بن أبي صعصعة.
وقال ابن هشام: فيه أبو كلاب وهو المعروف عندهم وقال أبو عمر لا يعرف في الصحابة أحد يقال له أبو كليب .

(7/189)


من بني مالك
ومن بني مالك بن حسل: وهب بن سعد بن أبي سرح.
من الأنصار
ومن الأنصار ثم من بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس.
ومن بني غنم بن مالك بن النجار: الحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة بن عبد بن عوف بن غنم
ومن بني مازن بن النجار سراقة بن عمرو بن عطية ابن خنساء
من ذكرهم ابن هشام
قال ابن هشام: وممن استشهد يوم مؤتة، فيما ذكر ابن شهاب.
من بني مازن بن النجار: أبو كليب وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم.
ومن بني مالك بن أفصى: عمرو وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى.
قال ابن هشام: ويقال أبو كلاب وجابر ابنا عمرو.
ـــــــ
........................

(7/190)