الروض الأنف ت السلامي

حج أبي بكر بالناس سنة تسع واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بتأدية أول براءة عنه وذكر براءة والقصص في تفسيرها
تأمير أبي بكر على الحج
قال ابن إسحاق:
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم فخرج أبو بكر رضي الله عنه ومن معه من المسلمين.
نزول براءة في نقص ما بين الرسول والمشركين
ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد في الشهر
ـــــــ
إنزال سورة براءة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك، فذكر مخالطة المشركين للناس في حجهم وتلبيتهم بالشرك وطوافهم عراة بالبيت، وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا كما ولدوا بغير الثياب التي أذنبوا فيها، وظلموا، فأمسك - صلى الله عليه وسلم - عن الحج في ذلك العام وبعث أبا بكر - رضي الله عنه - بسورة براءة لينبذ إلى كل ذي عهد

(7/421)


الحرام. وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك، وفي قول من قال منهم فكشف الله تعالى فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون منهم من سمي لنا، ومنهم من لم يسم لنا، فقال عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي لأهل العهد العام من أهل الشرك {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ، وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أي بعد هذه الحجة {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} يعني الأربعة التي ضرب لهم أجلا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي من هؤلاء
ـــــــ
عهده من المشركين إلا بعض بني بكر الذين كان لهم عهد إلى أجل خاص، ثم أردف بعلي رضي الله عنه فرجع أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله هل أنزل في قرآن؟ قال: لا، ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي، قال أبو هريرة: فأمرني علي - رضي الله عنه - أن أطوف في المنازل من منى ببراءة فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له بم كنت تنادي؟ فقال بأربع ألا يدخل الجنة إلا مؤمن وألا يحج بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان ومن

(7/422)


الذين أمرتك بقتلهم {اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 1،6]
ثم قال: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ} الذين كانوا هم وأنتم على العهد العام أن لا يخيفوكم ولا يخيفوهم في الحرمة ولا في الشهر الحرام {عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وهي قبائل من بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم يوم الحديبية، إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش; وهي الديل من بني بكر بن وائل، الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم. فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}.
ثم قال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل الشرك العام {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً}.
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: الإل: الحلف. قال أوس بن حجر أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم:
لولا بنو مالك والإل مرقبة
...
ومالك فيهم الآلاء والشرف
وهذا البيت في قصيدة له وجمعه آلال قال الشاعر
ـــــــ
كان له عهد فله أجل أربعة أشهر ثم لا عهد له وكان المشركون إذا سمعوا النداء ببراءة يقولون لعلي سترون بعد الأربعة أشهر بأنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب ثم إن الناس في ذلك المدة رغبوا في الإسلام حتى دخلوا فيه طوعا وكرها، وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل وحج المسلمون وقد عاد الدين كله واحدا لله رب العالمين.
وأما النداء في أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب وفي بعض الروايات أكل

(7/423)


فلا إل من الآلال بيني
...
وبينكم فلا تألن جهدا
والذمة العهد. قال الأجدع بن مالك الهمداني، وهو أبو مسروق بن الأجدع الفقيه:
وكان علينا ذمة أن تجاوزوا
...
من الأرض معروفا إلينا ومنكرا
وهذا البيت في ثلاثة أبيات له وجمعها: ذمم.
{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} أي قد اعتدوا عليكم { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:7،11]
اختصاص الرسول عليا بتأدية براءة عنه
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه أنه قال:
لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم للناس الحج قيل له يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
وشرب وبعال فإن الذي أمر أن ينادي بذلك في أيام التشريق هو كعب بن مالك وأوس بن الحدثان وفي الصحيح أن زيد بن مربع ويقال فيه أيضا: عبد الله بن مربع كان ممن أمر أن ينادي بذلك وروي مثل ذلك عن بشر بن سحيم الغفاري وقد روي أن حذيفة كان المنادي بذلك وعن سعد بن أبي وقاص

(7/424)


عهد فهو له إلى مدته فخرج علي بن أبي طالب رضوان الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر بالطريق فلما رآه أبو بكر بالطريق قال أأمير أم مأمور؟ فقال بل مأمور ثم مضيا. فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم أو بلادهم ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان.
ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق:
فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
ما نزل في الأمر بجهاد المشركين
قال ابن إسحاق:
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص ومن كان من أهل العهد العام بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلا إلا أن يعدو فيها عاد منهم فيقتل بعدائه فقال {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ
ـــــــ
أيضا، وبلال ذكر بعض ذلك البزار في مسنده، وقد قيل في قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5] أنه أراد ذا الحجة والمحرم من ذلك العام وأنه جعل ذلك أجلا لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له أربعة

(7/425)


يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ} أي من بعد ذلك {عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:13،16]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: وليجة دخيل وجمعها: ولائج وهو من ولج يلج أي دخل يدخل وفي كتاب الله عز وجل {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [لأعراف:40] أي يدخل يقول لم يتخذوا دخيلا من دونه يسرون إليه غير ما يظهرون نحو ما يصنع المنافقون يظهرون الإيمان للذين آمنوا {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] قال الشاعر
واعلم بأنك قد جعلت وليجة
...
ساقوا إليك الحتف غير مشوب
ما نزل في الرد على قريش بادعائهم عمارة البيت
قال ابن إسحاق:
ثم ذكر قول قريش: إنا أهل الحرم، وسقاة الحاج وعمار هذا البيت فلا أحد
ـــــــ
أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام وقوله تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة:3] قيل أراد حين الحج أي أيام الموسم كلها، لأن نداء علي بن أبي طالب ببراءة كان في تلك الأيام.
ما نزل في سورة براءة:
فصل وذكر ابن إسحاق ما أنزل الله في سورة براءة في غزوة تبوك، وأهل التفسير يقولون إن آخرها نزل قبل أولها، فإن أول ما نزل منها:
{انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] ثم نزل أولها في نبذ كل عهد إلى صاحبه كما تقدم.

(7/426)


أفضل منا، فقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] أي إن عمارتكم ليست على ذلك وإنما يعمر مساجد الله أي من عمرها بحقها {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18] أي فأولئك عمارها {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] وعسى من الله حق.
ثم قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ} [التوبة:18،19]
ما نزل في الأمر بقتال المشركين
ثم القصة عن عدوهم حتى انتهى إلى ذكر حنين، وما كان فيه وتوليهم عن عدوهم وما أنزل الله تعالى من نصرة بعد تخاذلهم ثم قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وذلك أن الناس قالوا: لتنقطعن عنا الأسواق فلتهكن التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من
ـــــــ
وقوله {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} فيه أقوال قيل معناه شبانا وشيوخا، وقيل أغنياء وفقراء وقيل أصحاب شغل وغير ذي شغل وقيل ركبانا ورجالة.
عن الأجدع بن مالك
وأنشد شاهدا على أوضعوا خلالكم للأجدع بن مالك والد مسروق بن الأجدع وقد غير عمر رضي الله عنه اسم الأجدع وقال الأجدع اسم شيطان فسماه عبد الرحمن ويكنى مسروق أبا عائشة.
وقوله في البيت يصطادك الوحد أي يصطاد بك، وأراد بالوحد الثور الوحشي.
وقوله بشريج بين الشد والإيضاع يقال هما شريجان أي مختلفان وقبل هذا البيت بأبيات في شعر الأجدع

(7/427)


المرافق فقال الله عز وجل {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي من وجه غير ذلك {إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:28،29] أي ففي هذا عوض مما تخوفتم من قطع الأسواق فعوضهم الله بما قطع عنهم بأمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية.
ـــــــ
أسألتني بركائبي ورحالها
...
ونسيت قتلى فوارس الأرباع
وذكره أبو علي [القالي] في الأمالي، فقال وسألتني بالواو وقد خطئوه وقالوا: إنما هو أسألتني. وفوارس الأرباع قد سماهم أبو علي في الأمالي، وذكر لهم خبرا.
إعطاء الجزية عن يد
وذكر قوله تعالى :{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وقيل فيه أربعة أقوال أيضا:
أحدها : أن يؤديها الذمي بنفسه ولا يرسلها مع غيره.
الثاني : أن يؤديها قائما، والذي يأخذها قاعدا.
الثالث: أن معناه عن قهر وإذلال.
الرابع: أن معناه عن يد منكم أي إنعام عليهم بحقن دمائهم وأخذ

(7/428)


ما نزل في أهل الكتابين
ثم ذكر أهل الكتابين بما فيه من الشر والفرية عليه حتى انتهى إلى قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]
ما نزل في النسيء
ثم ذكر النسيء وما كانت العرب أحدثت فيه. والنسيء ما كان يحل ما حرم الله تعالى من الشهور ويحرم مما أحل الله منها، فقال {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي لا تجعلوا حرامها حلالا، ولا حلالها حراما: أي كما فعل أهل الشرك {إِنَّمَا النَّسِيءُ} الذي كانوا يصنعون {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37]
ما نزل في تبوك
ثم ذكر تبوك وما كان فيها من تثاقل المسلمين عنها، وما أعظموا من غزوة الروم، حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهادهم ونفاق من نافق من المنافقين حين دعوا إلى ما دعوا إليه من الجهاد ثم ما نعى عليهم من إحداثهم في الإسلام فقال
ـــــــ
الجزية منهم بدلا من القتل كل هذه الأقوال مذكورة في كتب المفسرين ولفظ الآية يتناول جميع هذه المعاني، والله أعلم.
ومعنى قوله تعالى: في هذه الآية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:29] وإن كان أهل الكتاب يصدقون بالآخرة فمعناه فيما ذكر ابن سلام أن أهل الكتاب لا يقولون بإعادة الأجساد ويقولون إن الأرواح هي التي تبعث دون الأجساد.

(7/429)


تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} ثم القصة إلى قوله تعالى: {ا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة:39] إلى قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:38،40]
ما نزل في أهل النفاق
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر أهل النفاق { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي إنهم يستطيعون {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} إلى قوله {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:42،47]
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: أوضعوا خلالكم ساروا بين أضعافكم فالإيضاع ضرب من السير أسرع من المشي قال الأجدع بن مالك الهمداني:
يصطادك الوحد المدل بشأوه
...
بشريج بين الشد والإيضاع
وهذا البيت في قصيدة له.
ـــــــ
من المعذرين
وذكر في المعذرين خفاف بن إيماء بن رحضة، ويقال فيه رحضة بالضم ابن خربة وكان له ولأبيه إيماء ولجده رحضة صحبة. مات خفاف في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان إماما لبني غفار

(7/430)


عود إلى ما نزل في أهل النفاق
قال ابن إسحاق:
وكان الذين استأذنوه من ذوي الشرف فيما بلغني، منهم عبد الله بن أبي بن سلول والجد ابن قيس ; وكانوا أشرافا في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم. فقال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل أن يستأذنوك، {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} أي ليخذلوا عنك أصحابك ويردوا عليك أمرك {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:47،49] وكان الذي قال ذلك. فيما سمي لنا، الجد بن قيس، أخو بني سلمة، حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الروم.ثم كانت القصة إلى قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:57،58] أي إنما نيتهم ورضاهم وسخطهم لدنياهم.
ما نزل في ذكر أصحاب الصدقات
ثم بين الصدقات لمن هي وسمى أهلها، فقال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]
ـــــــ
وذكر ابن عقيل صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون واسمه جثجاث وقد قيل في صاحب الصاع أنه رفاعة بن سهل

(7/431)


ما نزل فيمن آذوا الرسول
ثم ذكر غشهم وأذاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61] وكان الذي يقول تلك المقالة فيما بلغني، نبتل بن الحارث أخو بني عمرو بن عوف وفيه نزلت هذه الآية وذلك أنه كان يقول إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه. يقول الله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة:61] أي يسمع الخير ويصدق به.
ثم قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62] ثم قال {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} إلى قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} [التوبة:65،66] وكان الذي قال وديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد من بني عمرو بن عوف وكان الذي عفي عنه فيما بلغني: مخشن بن حمير الأشجعي، حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع.
ثم القصة من صفتهم حتى انتهى إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:73،74] وكان الذي قال تلك المقالة الجلاس بن سويد بن صامت فرفعها عليه رجل كان في حجرة يقال له عمير بن سعد فأنكرها وحلف بالله ما قالها، فلما نزل فيهم القرآن تاب ونزع وحسنت حاله وتوبته فيما بلغني.
ثم قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
ـــــــ
.......................................

(7/432)


الصَّالِحِينَ} [التوبة:75] وكان الذي عاهد الله منهم ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف.
ثم قال {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي أخا بني العجلان وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف، فتصدق بأربعة آلاف درهم وقام عاصم بن عدي، فتصدق بمائة وسق من تمر فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو بني أنيف أتى بصاع من تمر فأفرغها في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل.
ثم ذكر قول بعضهم لبعض حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد وأمر بالسير إلى تبوك ، على شدة الحر وجدب البلاد فقال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82] إلى قوله {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ} [التوبة:85].
ما نزل بسبب صلاة النبي على ابن أبي
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عقبة عن ابن عباس، قال:
سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفي عبد الله بن أبي، دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله أتصلي على عدو الله عبد الله بن أبي بن سلول؟ القائل كذا يوم
ـــــــ
....................................

(7/433)


كذا، والقائل كذا يوم كذا؟ أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال يا عمر أخر عني، إني قد خيرت فاخترت، قد قيل لي : {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت. قال ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه. قال فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق حتى قبضه الله تعالى.
ما نزل في المستأذنين
قال ابن إسحاق:
ثم قال تعالى: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ} وكان ابن أبي من أولئك فنعى الله ذلك عليه وذكره منه ثم قال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:86،90] إلى آخر القصة. وكان المعذرون، فيما بلغني نفرا من بني غفار، منهم خفاف بن إيماء بن رحضة، ثم كانت القصة لأهل العذر حتى انتهى إلى قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] وهم البكاءون.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} والخوالف النساء. ثم
ـــــــ
.......................................

(7/434)


ذكر حلفهم للمسلمين واعتذارهم فقال: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
ما نزل فيمن نافق من الأعراب
ثم ذكر الأعراب ومن نافق منهم وتربصهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين فقال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ} أي من صدقة أو نفقة في سبيل الله {مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ثم ذكر الأعراب أهل الإخلاص والإيمان منهم فقال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة:98،99].
ما نزل في السابقين من المهاجرين والأنصار
ثم ذكر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وفضلهم وما وعدهم الله من حسن ثوابه إياهم ثم ألحق بهم التابعين لهم بإحسان فقال {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] ثم قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أ ي لجوا فيه وأبوا غيره {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} والعذاب الذي أوعدها الله تعالى مرتين فيما بلغني: غمهم بما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب النار والخلد فيه. ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ـــــــ
.........................................

(7/435)


ثم قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] إلى آخر القصة. ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106] وهم الثلاثة الذين خلفوا، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى أتت من الله توبتهم. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً} [التوبة:107] إلى آخر القصة ثم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] ثم كان قصة الخبر عن تبوك، وما كان فيها إلى آخر السورة.
وكانت براءة تسمى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس. وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شعر حسان الذي عدد فيه المغازي
وقال حسان بن ثابت يعدد أيام الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر مواطنهم معه في أيام غزوة.
قال ابن هشام: وتروى لابنه عبد الرحمن بن حسان:
ألست خير معد كلها نفرا
...
ومعشرا إن هم عموا وإن حصلوا
ـــــــ
قصيدة حسان الميمية
فصل وذكر كلمة حسان الميمية وفيها:
ألست خير معد كلها نفرا
وحسان ليس من معد ولكن أراد ألست خير الناس فأقام معدا لكثرتها مقام الناس.

(7/436)


قوم هم شهدوا بدرا بأجمعهم
...
مع الرسول فما آلوا وما خذلوا
وبايعوه فلم ينكث به أحد
...
منهم ولم يك في إيمانهم دخل
ويوم صبحهم في الشعب من أحد
...
ضرب رصين كحر النار مشتعل
ويوم ذي قرد يوم استثار بهم
...
على الجياد فما خاموا وما نكلوا
وذا العشيرة جاسوها بخيلهم
...
مع الرسول عليها البيض والأسل
ويوم ودان أجلوا أهله رقصا
...
بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل
وليلة طلبوا فيها عدوهم
...
لله والله يجزيهم بما عملوا
وغزوة يوم نجد ثم كان لهم
...
مع الرسول بها الأسلاب والنفل
وليلة بحنين جالدوا معه
...
فيها يعلهم بالحرب إذ نهلوا
وغزوة القاع فرقنا العدو به
...
كما تفرق دون المشرب الرسل
ويوم بويع كانوا أهل بيعته
...
على الجلاد فآسوه وما عدلوا
وغزوة الفتح كانوا في سريته
...
مرابطين فما طاشوا وما عجلوا
ويوم خيبر كانوا في كتيبته
...
يمشون كلهم مستبسل بطل
بالبيض ترعش في الأيمان عارية
...
تعوج في الضرب أحيانا وتعتدل
ويوم سار رسول الله محتسبا
...
إلى تبوك وهم راياته الأول
وساسة الحرب إن حرب بدت لهم
...
حتى بدا لهم الإقبال والقفل
أولئك القوم أنصار النبي وهم
...
قومي أصير إليهم حين أتصل
ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم
...
وقتلهم في سبيل الله إذ قتلوا
قال ابن هشام عجز آخرها بيتا عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق:
وقال حسان بن ثابت أيضا:
كنا ملوك الناس قبل محمد
...
فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل
ـــــــ
.....................................

(7/437)


وأكرمنا الله الذي ليس غيره
...
إله بأيام مضت ما لها شكل
بنصر الإله والرسول ودينه
...
وألبسناه اسما مضى ما له مثل
أولئك قومي خير قومك بأسرهم
...
فما عد من خير فقومي له أهل
يربون بالمعروف معروف من مضى
...
وليس عليهم دون معروفهم قفل
إذا اختبطوا لم يفحشوا في نديهم
...
وليس على سؤالهم عندهم بخل
وإن حاربوا أو سالموا لم يشبهوا
...
فحربهم حتف وسلمهم سهل
وجارهم موف بعلياء بيته
...
له ما ثوى فينا الكرامة والبذل
وحاملهم موف بكل حمالة
...
تحمل لا غرم عليها ولا خذل
وقائلهم بالحق إن قال قائل
...
وحلمهم عود وحكمهم عدل
ومنا أمير المسلمين حياته
...
ومن غسلته من جنابته الرسل
قال ابن هشام: وقوله وألبسناه اسما عن غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضا:
قومي أولئك إن تسألي
...
كرام إذا الضيف يوما ألم
ـــــــ
وفيها:
وناد جهارا ولا تحتشم
وفيها رد على من زعم أن الحشمة لا تكون إلا بمعنى الغضب وأنها مما يضعها الناس غير موضعها، وقد جاء عن ابن عباس: لكل طاعم حشمة فابدءوه باليمين وفي الحديث المرفوع لا يرفعن أحدكم يده عن الطعام قبل أكيله فإن ذلك مما يحشمه
وأنشد أبو الفرج لمحمد بن يسير وإن كان ليس مثل حسان في الحجة

(7/438)


عظام القدور لأيسارهم
...
يكبون فيها المسن السنم
يؤاسون جارهم في الغنى
...
ويحمون مولاهم إن ظلم
فكانوا ملوكا بأرضيهم
...
ينادون عضبا بأمر غشم
ملوكا على الناس لم يملكوا
...
من الدهر يوما كحل القسم
فأنبوا بعاد وأشياعها
...
ثمود وبعض بقايا إرم
بيثرب قد شيدوا في النخيل
...
حصونا ودجن فيها النعم
نواضح قد علمتها اليهود
...
(عل) إليك وقولا هلم
وفيما اشتهوا من عصير القطا
...
ف والعيش رخوا على غيرهم
فسرنا إليهم بأثقالنا
...
على كل فحل هجان قطم
جنبنا بهن جياد الخيول
...
قد جللوها جلال الأدم
فلما أناخوا بجنبي صرار
...
وشدوا السروج بلي الحزم
فما راعهم غير معج الخيول
...
والزحف من خلفهم قد دهم
فطاروا سراعا وقد أفزعوا
...
وجئنا إليهم كأسد الأجم
على كل سلهبة في الصيا
...
ن لا يشتكين نحول السأم
ـــــــ
في انقباض وحشمة فإذا
...
جالست أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها
...
وقلت ما شئت غير محتشم
وفيها قوله
وكانوا ملوكا، ولم يملكوا
...
من الدهر يوما كحل القسم
فيه شاهد لما قاله ابن قتيبة في تفسير كحلة القسم وخلافه لأبي عبيد، وقد قدمنا قولهما فيما تقدم من شرح قصيدة كعب بن زهير

(7/439)


وكل كميت مطار الفؤاد
...
أمين الفصوص كمثل الزلم
عليها فوارس قد عودوا
...
قراع الكماة وضرب البهم
ملوك إذا غشموا في البلاد
...
لا ينكلون ولكن قدم
فأبنا بساداتهم والنساء
...
وأولادهم فيهم تقتسم
ورثنا مساكنهم بعدهم
...
وكنا ملوكا بها لم نرم
فلما أتانا الرسول الرشي
...
د بالحق والنور بعد الظلم
قلنا صدقت رسول المليك
...
هلم إلينا وفينا أقم
فنشهد أنك عبد الإله
...
أرسلت نورا بدين قيم
فإنا وأولادنا جنة
...
نقيك وفي مالنا فاحتكم
فنحن أولئك إن كذبوك
...
فناد داء ولا تحتشم
وناد بما كنت أخفيته
...
نداء جهارا ولا تكتتم
فصار الغواة بأسيافهم
...
إليه يظنون أن يخترم
فقمنا إليهم بأسيافنا
...
نجالد عنه بغاة الأمم
ـــــــ
وأنشد ابن قتيبة:
إذا عصفت ريح فليس بقائم
...
بها وتد إلا تحلة مقسم
وأنشد أيضا:
قليلا كتحليل الألى ثم أصبحت
البيت. وقوله وعزا أشم هو كقول العرب: عزة قعساء يريد شماء لأن الأقعس الذي يخرج صدره ويدخل ظهره وقد فسره المبرد غير هذا التفسير وبيت حسان يشهد لما قلناه إنما هو الشمم الذي يوصف به ذو العزة فوصفت العزة به مجازا.

(7/440)


بكل صقيل له ميعة
...
رقيق الذباب عضوض خذم
إذا ما يصادف صم العظام
...
لم ينب عنها ولم ينثلم
فذلك ما ورثتنا القرو
...
م مجدا تليدا وعزا أشم
إذا مر نسل كفى نسله
...
وغادر نسلا إذا ما انفصم
فما إن من الناس إلا لنا
...
عليه وإن خاص فضل النعم
قال ابن هشام: أنشدني أبو زيد الأنصاري بيته:
ـــــــ
تفسير سورة النصر
فصل وذكر سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1} وتفسيره لها في الظاهر خلاف ما ذكره ابن عباس حين سأله عمر عن تأويلها، فأخبره أن الله تعالى أعلم فيها نبيه عليه السلام بانقضاء أجله فقال له عمر ما أعلم منها إلا ما قلت. وظاهر هذا الكلام يدل على ما قاله ابن عباس وعمر لأن الله تعالى لم يقل فاشكر ربك، واحمده كما قال ابن إسحاق: إنما قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] فهذا أمر لنبيه عليه السلام بالاستعداد للقاء ربه تعالى والتوبة إليه ومعناها الرجوع عما كان بسبيله مما أرسل به من إظهار الدين إذ قد فرغ من ذلك وتم مراده فيه فصار جواب إذا من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:2] محذوفا. وكثيرا ما يجيء في القرآن الجواب محذوفا، والتقدير إذا جاء نصر الله والفتح فقد انقضى الأمر ودنا الأجل وحان اللقاء فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ووقع في مسند البزار مبينا من قول ابن عباس فقال فيه فقد دنا أجلك فسبح هذا المعنى هو الذي فهمه ابن عباس، وهو حذف جواب إذا، ومن لم يتنبه لهذه النكتة حسب أن جواب إذا في قوله سبحانه {فَسَبِّحْ} [النصر:3] كما تقول إذا جاء رمضان فصم وليس في هذا التأويل من المشاكلة لما قبله ما في تأويل ابن عباس فتدبره فقد وافقه عليه عمر رضي الله

(7/441)


فكانوا ملوكا بأرضيهم
...
ينادون غضبا بأمر غشم
وأنشدني:
بيثرب قد شيدوا في النخيل
...
حصونا ودجن فيها النعم
وبيته "وكل كميت مطار الفؤاد" عنه.
ـــــــ
عنه وحسبك بهما فهما لكتاب الله تبارك وتعالى، فالفاء على قول ابن عباس رابطة للأمر بالفعل المحذوف وعلى ما ظهر لغيره رابطة لجواب الشرط الذي في "إذا".

(7/442)