الروض الأنف ت السلامي

جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه
من تولى غسل الرسول
قال ابن إسحاق:
فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء فحدثني عبد الله بن أبي بكر وحسين بن عبد الله وغيرهما من أصحابنا:
أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين ولوا غسله وأن
ـــــــ
.......................................

(7/592)


أوس بن خولي أحد بني عوف بن الخزرج، قال لعلي بن أبي طالب أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أوس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر قال ادخل فدخل فجلس وحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه هما اللذان يصبان الماء عليه وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي يقول "بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حيا وميتا" ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما يرى من الميت.
كيف غسل الرسول
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد عن عائشة قالت:
لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه. فقالوا: والله ما ندري، أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه قالت فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه والقميص دون أيديهم
تكفين الرسول
قال ابن إسحاق:
فلما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا، كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه عن جده علي بن الحسين والزهري، عن علي بن الحسين.
حفر القبر
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة، عن ابن عباس، قال
ـــــــ
..........................................

(7/593)


لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة ، فكان يلحد فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجراح وللآخر اذهب إلى أبي طلحة. اللهم خر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم.
دفن الرسول والصلاة عليه
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع في سريره في بيته وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه. فقال قائل ندفنه في مسجده وقال قائل بل ندفنه مع أصحابه فقال أبو بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض" فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه فحفر له تحته ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالا، دخل الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان. ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
ـــــــ
كيف صلي على جنازته عليه السلام؟
ذكر ابن إسحاق وغيره أن المسلمين صلوا عليه أفذاذا، لا يؤمهم أحد، كلما جاءت طائفة صلت عليه وهذا خصوص به صلى الله عليه وسلم ولا يكون هذا الفعل إلا عن توقيف وكذلك روي أنه أوصى بذلك ذكره الطبري مسندا، ووجه الفقه فيه أن الله تبارك وتعالى افترض الصلاة عليه بقوله {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وحكم هذه الصلاة التي تضمنتها الآية ألا تكون بإمام والصلاة عليه عند موته داخلة في لفظ الآية وهي متناولة لها، وللصلاة عليه على كل

(7/594)


دفن الرسول
ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء. قال ابن إسحاق: وحدثني
ـــــــ
حال وأيضا فإن الرب تبارك وتعالى، قد أخبره أنه يصلي عليه وملائكته فإذا كان الرب تعالى هو المصلي والملائكة قبل المؤمنين وجب أن تكون صلاة المؤمنين تبعا لصلاة الملائكة وأن تكون الملائكة هم الإمام والحديث الذي ذكرته عن الطبري فيه طول وقد رواه البزار أيضا من طريق مرة عن ابن مسعود وفيه أنه حين جمع أهله في بيت عائشة رضي الله عنها أنهم قالوا: فمن يصلي عليك يا رسول الله؟ قال فهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا، فبكينا وبكى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " إذا غسلتموني، وكفنتموني، فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة فإن أول من يصلي علي جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده ثم الملائكة بأجمعها، ثم ادخلوا علي فوجا بعد فوج فصلوا علي وسلموا، تسليما، ولا تؤذوني بتزكية ولا ضجة ولا رنة وليبدأ بالصلاة علي رجال بيتي ثم نساؤهم وأنتم بعد أقرئوا أنفسكم السلام مني، ومن غاب من أصحابي فأقرئوه مني السلام ومن تابعكم بعدي على ديني، فأقرئوه مني السلام فإني أشهدكم أني قد سلمت على من تابعني على ديني من اليوم إلى يوم القيامة "، قلت: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟ قال " أهلي مع ملائكة كثير يرونكم من حيث لا ترونهم "
موته عليه الصلاة والسلام كان خطبا كالحا
فصل وكان موته عليه السلام خطبا كالحا، ورزءا لأهل الإسلام فادحا، كادت تهد له الجبال وترجف الأرض وتكسف النيرات لانقطاع خبر السماء

(7/595)


عبد الله بن أبي بكر، عن امرأته فاطمة بنت عمارة عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة رضي الله عنها: قالت:
ـــــــ
وفقد من لا عوض منه مع ما آذن به موته عليه السلام من الفتن السحم والحوادث الوهم والكرب المدلهمة والهزاهز المضلعة فلولا ما أنزل الله تبارك وتعالى من السكينة على المؤمنين وأسرج في قلوبهم من نور اليقين وشرح له صدورهم من فهم كتابه المبين لانقصمت الظهور وضاقت عن الكرب الصدور ولعاقهم الجزع عن تدبير الأمور فقد كان الشيطان أطلع إليهم رأسه ومد إلى إغوائهم مطامعه فأوقد نار الشنآن ونصب راية الخلاف ولكن أبى الله تبارك وتعالى إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته وينجز موعوده فأطفأ نار الردة وحسم قادة الخلاف والفتنة على يد الصديق رضي الله عنه ولذلك قال أبو هريرة: لولا أبو بكر لهلكت أمة محمد عليه السلام بعد نبيها ولقد كان من قدم المدينة يومئذ من الناس إذا أشرفوا عليها سمعوا لأهلها ضجيجا، وللبكاء في جميع أرجائها عجيجا، حتى صحلت الحلوق ونزفت الدموع وحق لهم ذلك ولمن بعدهم كما روي عن أبي ذؤيب الهذلي واسمه خويلد بن خالد وقيل ابن محرث قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل فاستشعرت حزنا وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها، حتى إذا كان قرب السحر أغفيت، فهتف بي هاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومي فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد

(7/596)


ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء
ـــــــ
الذابح فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض وهو ميت من علته فركبت ناقتي وسرت، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به فعن لي شيهم يعني: القنفذ قد قبض على صل يعني: الحية فهي تلتوي عليه والشيهم يقضمها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: شيهم شيء مهم، والتواء الصل التواء الناس عن الحق على القائم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعده على الأمر. فحثثت ناقتي، حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطائر فأخبرني بوفاته ونعب غراب سانح فنطق مثل ذلك فتعوذت بالله من شر ما عن لي في طريقي، وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام فقلت: مه؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت المسجد فوجدته خاليا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبت بابه مرتجا، وقيل هو مسجى فدخلا به أهله فقلت: أين الناس؟ فقيل في سقيفة بني ساعدة، صاروا إلى الأنصار، فجئت إلى السقيفة فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالما وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، وفيهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وملأ منهم فآويت إلى قريش، وتكلمت الأنصار، فأطالوا الخطاب وأكثروا الصواب وتكلم أبو بكر رضي الله عنه فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب والله لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه ثم تكلم عمر رضي الله عنه بعده دون كلامه ومد يده فبايعه وبايعوه ورجع أبو بكر ورجعت معه.
قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه ثم أنشد أبو ذؤيب يبكي النبي صلى الله عليه وسلم
لما رأيت الناس في عسلانهم ... من بين ملحود له ومضرح
متبادرين لشرجع بأكفهم ... نص الرقاب لفقد أبيض أروح

(7/597)


من تولى دفن الرسول
قال محمد بن إسحاق: وقد حدثني فاطمة هذا الحديث قال محمد بن إسحاق:
وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
فهناك صرت إلى الهموم ومن يبت ... جار الهموم يبيت غير مروح
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح
وتزعزعت أجبال يثرب كلها ... ونخيلها لحلول خطب مفدح
ولقد زجرت الطير قبل وفاته ... بمصابه وزجرت سعد الأذبح
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرقت فبات ليلي لا يزول ... دليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحق ما سألت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل
نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي، ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن ورجع المهاجرون والأنصار إلى رحالهم ورجعت فاطمة إلى بيتها اجتمع إليها نساؤها، فقالت:
اغبر آفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران

(7/598)


وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب يا علي، أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له انزل فنزل مع القوم وقد كان مولاه شقران حين وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته وبنى عليه قد أخذ قطيفة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويفترشها، دفنها في القبر وقال والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا.
قال فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أحدث الناس عهدا بالرسول
وقد كان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أخذت خاتمي، فألقيته في القبر، وقلت: إن خاتمي سقط مني، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون أحدث الناس عهدا به صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
فالأرض من بعد النبي كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكل يمان
وليبكه الطود المعظم جوه ... والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضوءه ... صلى عليك منزل القرآن
[نفسي فداؤك ما لرأسك ماثلا ... ما وسدوك وسادة الوسنان]
الاختلاف في كفنه
فصل وأما الاختلاف في كفنه عليه السلام كم ثوبا كان وفي الذين أدخلوه قبره ونزلوا فيه فكثير وأصح ما روي في كفنه أنه كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية وكانت تلك الأثواب من كرسف وكذلك قميصه عليه السلام كان

(7/599)


قال ابن إسحاق: فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن مقسم، أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن مولاه عبد الله بن الحارث، قال:
اعتمرت مع علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في زمان عمر أو زمان عثمان فنزل على أخته أم هانئ بنت أبي طالب فلما فرغ من عمرته رجع فسكب له غسل فاغتسل فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق، فقالوا: يا أبا حسن جئنا نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه؟ قال أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: أجل عن ذلك جئنا نسألك، قال كذب قال أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن عباس.
خميصة الرسول
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة حدثته قالت:
كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة سوداء حين اشتد به وجعه قالت فهو يضعها مرة على وجهه ومرة يكشفها عنه ويقول " قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر من ذلك على أمته.
قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة قالت:
كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال " لا يترك بجزيرة العرب دينان "
ـــــــ
من قطن، ووقع في السيرة من غير رواية البكائي أنها كانت إزارا ورداء ولفافة وهو موجود في كتب الحديث وفي الشروحات وكانت اللبن التي نضدت عليه في قبره تسع لبنات.
وذكر ابن إسحاق فيمن ألحده شقران مولاه واسمه صالح وشهد بدرا، وهو عبد قبل أن يعتق فلم يسهم له انقرض عقبه فلا عقب له.

(7/600)


افتتان المسلمين بعد موت الرسول
قال ابن إسحاق:
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين فكانت عائشة فيما بلغني، تقول لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى جمعهم الله على أبي بكر.
قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد، فتوارى، فقام سهيل بن عمرو، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه فتراجع الناس وكفوا عما هموا به وظهر عتاب بن أسيد.
فهذا المقام الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعمر بن الخطاب " إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه "
شعر حسان بن ثابت في مرثيته الرسول
وقال حسان بن ثابت يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حدثنا ابن هشام، عن أبي زيد الأنصاري
بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
ـــــــ
وذكر ابن إسحاق مراثي حسان في النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيها ما يشكل فنشرحه وقد رثاه كثير من الشعراء وغيرهم وأكثرهم أفحمهم المصاب عن القول وأعجزتهم الصفة عن التأبين ولن يبلغ بالإطناب في مدح ولا رثاء في كنه محاسنه عليه السلام ولا قدر مصيبة فقده على أهل الإسلام فصلى الله عليه وعلى آله

(7/601)


ولا تمتحي الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آثار وباقي معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا بها واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجفن تسعد
يذكرن آلاء الرسول وما أرى ... لها محصيا نفسي فنفسي تبلد
مفجعة قد شفها فقد أحمد ... فظلت لآلاء الرسول تعدد
وما بلغت من كل أمر عشيره ... ولكن لنفسي بعد ما قد توجد
أطالت وقوفا تذرف العين جهدها ... على طلل الذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا ... عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيد وأعين ... عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السماوات يومه ... ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
تقطع فيه منزل الوحي عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد
يدل على الرحمن من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا ... معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا
ـــــــ
صلاة تتصل مدى الليالي والأيام وأحله أعلى مراتب الرحمة والرضوان والإكرام وجزاه عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ولا خالف بنا عن ملته، إنه ولي الطول والفضل والإنعام وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين.

(7/602)


عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدد
فبينا هم في نعمة الله بينهم ... دليل به نهج الطريقة يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثنى جناحه ... إلى كنف يحنو عليهم ويمهد
فبينا هم في ذلك النور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت مقصد
فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... يبكيه حق المرسلات ويحمد
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد
قفارا سوى معمورة اللحد ضافها ... فقيد يبكيه بلاط وغرقد
ومسجده فالموحشات لفقده ... خلاء له فيه مقام ومقعد
وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد
فبكى رسول الله يا عين عبرة ... ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد
وما لك لا تبكين ذا النعمة التي ... على الناس منها سابغ يتغمد
فجودي عليه بالدموع وأعولي ... لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعف وأوفى ذمة ... بعد ذمة وأقرب منه نائلا لا ينكد
وأبذل منه للطريف وتالد ... إذا ضن معطاء بما كان يتلد
وأكرم صيتا في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جدا أبطحيا يسود
وأمنع ذروات وأثبت في العلا ... دعائم عز شاهقات تشيد
وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا ... وعودا غذاه المزن فالعود أغيد
رباه وليدا فاستتم تمامه ... على أكرم الخيرات رب ممجد
تناهت وصاة المسلمين بكفه ... فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند
أقول ولا يلقى لقولي عائب ... من الناس إلا عازب العقل مبعد
ـــــــ
..........................................

(7/603)


وليس هواي نازعا عن ثنائه ... لعلي به في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
وقال حسان بن ثابت أيضا، يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدي أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهي يقيك الترب لهفي ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد
بأبي وأمي من شهدت وفاته ... في يوم الاثنين النبي المهتدي
فظللت بعد وفاته متبلدا ... متلددا يا ليتني لم أولد
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا ليتني صبحت سم الأسود
أو حل أمر الله فينا عاجلا ... في روحة من يومنا أو من غد
فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا ... محضا ضرائبه كريم المحتد
يا بكر آمنة المبارك بكرها ... ولدته محصنة بسعد الأسعد
نورا أضاء على البرية كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدي
يا رب فاجمعنا معا ونبينا ... في جنة تثنني عيون الحسد
في جنة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسودد
والله أسمع ما بقيت بهالك ... إلا بكيت على النبي محمد
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الإثمد
ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم نجحد
والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره في كل ساعة مشهد
صلى الآله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
ـــــــ
..........................................

(7/604)


قال ابن إسحاق:
وقال حسان بن ثابت يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم
نب المساكين أن الخير فارقهم ... مع النبي تولى عنهم سحرا
من ذا الذي عنده رحلي وراحلتي ... ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا
أم من نعاتب لا نخشى جنادعه ... إذا اللسان عتا في القول أو عثرا
كان الضياء وكان النور نتبعه ... بعد الإله وكان السمع والبصرا
فليتنا يوم واروه بملحده ... وغيبوه وألقوا فوقه المدرا
لم يترك الله منا بعده أحدا ... ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا
ذلت رقاب بني النجار كلهم ... وكان أمرا من أمر الله قد قدرا
واقتسم الفيء دون الناس كلهم ... وبددوه جهارا بينهم هدرا
وقال حسان بن ثابت يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا:
آليت ما في جميع الناس مجتهدا ... مني ألية بر غير إفناد
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل الرسول نبي الأمة الهادي
ولا برا الله خلقا من بريته ... أوفى بذمة جار أو بميعاد
من الذي كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد
أمسى نساؤك عطلن البيوت فما ... يضربن فوق قفا ستر بأوتاد
مثل الرواهب يلبسن المباذل قد ... أيقن بالبؤس بعد النعمة البادي
يا أفضل الناس إني كنت في نهر ... أصبحت منه كمثل المفرد الصادي
قال ابن هشام: عجز البيت الأول من غير ابن إسحاق.
تم الكتاب والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

(7/605)