الروض
الأنف ت الوكيل [أَمْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الثّامِرِ،
وَقِصّةُ أَصْحَابِ الأخدود]
[ «فيميون والساحر» :]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمّدِ
بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، وَحَدّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ
عَنْ أَهْلِهَا: أَنّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ
الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ
نَجْرَانَ- وَنَجْرَانُ: الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الّتِي إلَيْهَا جِمَاعُ
أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ- سَاحِرٌ يُعَلّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ
السّحْرَ، فَلَمّا نَزَلَهَا فَيْمِيُون- وَلَمْ يُسَمّوهُ لِي بِاسْمِهِ
الّذِي سَمّاهُ بِهِ وَهْبُ بْنُ مُنَبّهٍ، قَالُوا: رَجُلٌ نَزَلَهَا-
ابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ، وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الّتِي
بِهَا السّاحِرُ، فَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ
إلَى ذَلِكَ السّاحِرِ، يُعَلّمُهُمْ السّحْرَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ الثّامِرُ
ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الثّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ،
فَكَانَ إذَا مَرّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ مِنْ
صَلَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(خَبَرُ ابْنِ الثّامِرِ) التّفَاضُلُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيّةِ:
وَذَكَرَ فِيهِ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَقَوْلُ الرّاهِبِ لَهُ: إنّك لَنْ
تُطِيقَهُ. أَيْ: لَنْ تُطِيقَ شُرُوطَهُ، وَالِانْتِهَاضَ بِمَا يَجِبُ
مِنْ حَقّهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) [النّمْلُ 40] إنّهُ أُوتِيَ الِاسْمَ
الْأَعْظَمَ الّذِي إذَا دُعِيَ اللهُ بِهِ أَجَابَ، وَهُوَ آصَفُ بْنُ
برخيا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وقيل غير ذلك «1» .
__________
(1) ورأى آخر أحق بالتقديم يقرر أنه نفس سليمان، فهو الذى كان عنده علم من
الكتاب.
(1/196)
وَيَسْمَعُ مِنْهُ حَتّى أَسْلَمَ،
فَوَحّدَ اللهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ
الْإِسْلَامِ حَتّى إذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْمِ
الْأَعْظَمِ- وكان يعلمه- فكتمه إياه وقال له: يابن أَخِي إنّك لَنْ
تَحْمِلَهُ، أَخْشَى عَلَيْك ضَعْفَك عَنْهُ- وَالثّامِرُ أَبُو عَبْدِ
اللهِ لَا يَظُنّ إلّا أَنّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إلَى السّاحِرِ كَمَا
يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمّا رَأَى عَبْدُ اللهِ أَنّ صَاحِبَهُ قَدْ
ضَنّ بِهِ عَنْهُ، وَتَخَوّفَ ضَعْفَهُ فيه، عمد إلى قداح فَجَمَعَهَا،
ثُمّ لَمْ يُبْقِ لِلّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إلّا كتبه فى قدح، لكلّ اسم
قدح، حتى إذا أحصاها أو قد لَهَا نَارًا، ثُمّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا
قِدْحًا قِدْحًا، حَتّى إذَا مَرّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا
بِقِدْحِهِ، فَوَثَبَ الْقِدْحُ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ تَضُرّهُ
شَيْئًا. فَأَخَذَهُ ثُمّ أَتَى صَاحِبَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنّهُ قَدْ
عَلِمَ الِاسْمَ الّذِي كَتَمَهُ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: هُوَ كَذَا
وَكَذَا، قال: وكيف علمته؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ، قَالَ:
أَيْ ابْنَ أَخِي، قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِك، وَمَا أَظُنّ
أن تفعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَعْجَبُ مَا قِيلَ فِيهِ: إنّهُ ضَبّةُ بْنُ أدّ بن طابخة قاله النقاش،
ولا يصح، وهى مسئلة اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ
إلَى تَرْكِ التّفْضِيلِ بَيْنَ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالُوا: لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ أَعْظَمَ مِنْ الِاسْمِ
الْآخَرِ، وَقَالُوا: إذَا أَمَرَ فِي خَبَرٍ، أَوْ أَثَرَ ذِكْرَ الِاسْمِ
الْأَعْظَمِ، فَمَعْنَاهُ: الْعَظِيمُ؛ كَمَا قَالُوا: إنّي لَأُوجِلَ
أَيْ: وَجِلًا، وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَكْبَرِ مِنْ قَوْلِك: اللهُ
أَكْبَرُ: إنّ أَكْبَرَ بِمَعْنَى كَبِيرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ
سِيبَوَيْهِ، وَذَكَرُوا أَنّ أَهْوَنَ بِمَعْنَى: هَيّنٍ مِنْ قَوْلِهِ
عَزّ وَجَلّ: (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّومُ: 27] وَأَكْثَرُوا
الِاسْتِشْهَادَ عَلَى هَذَا وَنَسَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ هَذَا
الْقَوْلَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: ابْنُ أَبِي زَيْدٍ، وَالْقَابِسِيّ
وَغَيْرُهُمَا، وَمِمّا احْتَجّوا بِهِ أَيْضًا: أَنّ رَسُولَ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ لِيُحَرّمَ الْعِلْمَ
بِهَذَا الِاسْمِ، وَقَدْ عَلِمَهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مَنْ لَيْسَ
بِنَبِيّ؛
(1/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَمْ يَكُنْ لِيَدْعُوَ حِينَ اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ لِأُمّتِهِ أَلّا
يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ رَءُوفٌ بِهِمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ
عَنَتُهُمْ إلّا بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، لِيُسْتَجَابَ لَهُ فِيهِ،
فَلَمّا مُنِعَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنّهُ لَيْسَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ
إلّا وَهُوَ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَضِيلَةِ،
يَسْتَجِيبُ اللهُ إذَا دُعِيَ بِبَعْضِهَا إنْ شَاءَ، وَيَمْنَعُ إذَا
شَاءَ، وَقَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
[الْإِسْرَاءُ: 110] ، وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ: التّسْوِيَةُ بَيْنَ
أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَكَذَلِكَ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ وغيرهم من العلماء
إلى أنه ليس شئ من كلام الله تعالى أفضل من شئ، لِأَنّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ
مِنْ رَبّ وَاحِدٍ، فَيَسْتَحِيلُ التّفَاضُلُ فِيهِ.
قَالَ الشّيْخُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو القاسم- عفا الله عنه: وجه
استفتلح الْكَلَامِ مَعَهُمْ أَنْ يُقَالَ: هَلْ يَسْتَحِيلُ هَذَا
عَقْلًا، أَمْ يَسْتَحِيلُ شَرْعًا؟ وَلَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا أَنْ
يُفَضّلَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَمَلًا مِنْ الْبِرّ عَلَى عَمَلٍ، وَكَلِمَةً
مِنْ الذّكْرِ عَلَى كَلِمَةٍ، فَإِنّ التّفْضِيلَ رَاجِعٌ إلَى زِيَادَةِ
الثّوَابِ وَنُقْصَانِهِ، وَقَدْ فُضّلَتْ الْفَرَائِضُ عَلَى النّوَافِلِ،
بِإِجْمَاعِ، وَفُضّلَتْ الصّلَاةُ وَالْجِهَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
الْأَعْمَالِ وَالدّعَاءِ، وَالذّكْرُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ، فَلَا
يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ مِنْ بَعْضٍ،
وَأَجْزَلَ ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ بَعْضٍ، وَالْأَسْمَاءُ عِبَارَةٌ
عَنْ الْمُسَمّى، وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللهِ سُبْحَانَهُ الْقَدِيمِ «1» ،
وَلَا نَقُولُ فِي كَلَامِ اللهِ: هو هو، ولا هو
__________
(1) لا يجوز الإخبار عن الله بأنه قديم؛ إذ لم يرد هذا فى قرآن أو حديث،
وإنما يقال عنه: إنه الأول بدلا من القديم، فقد وصف الضلال بأنه قديم،
والعرجون كذلك والبيت القديم. ثم القدم لا يمنع من أن يكون له أول أو
بداية.
(1/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرُهُ، كَذَلِكَ لَا نَقُولُ فِي أَسْمَائِهِ الّتِي تَضَمّنَهَا
كَلَامُهُ: إنّهَا هُوَ، وَلَا هِيَ غَيْرُهُ «1» فَإِنْ تَكَلّمْنَا
نَحْنُ بِهَا بِأَلْسِنَتِنَا الْمَخْلُوقَةِ وَأَلْفَاظِنَا
الْمُحْدَثَةِ، فَكَلَامُنَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِنَا، وَاَللهُ-
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَقُولُ: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ
«2» [الصّافّاتُ: 3] ، وَقُبْحًا لِلْمُعْتَزِلَةِ «3» ؛ فَإِنّهُمْ
زَعَمُوا أَنّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ
__________
(1) الرجل أشعرى العقيدة، ورأيهم فى الصفات منبوذ من سلف الأمة، وقد رجع
الأشعرى عن هذا المذهب فى كتابيه الإبانة ومقالات الإسلاميين.
(2) كنا نود أن يبرأ الكتاب من سفسطة علم الكلام، والسهيلى ينزع عن عقيدته
الأشعرية التى تقرر امورا تستلزم القول ببطلان الثواب والعقاب، والقول
بالجبرية. والآية لا تؤيد الأشعرية فيما ذهبوا إليه، فالله يقص عن إبراهيم
قوله لقومه: «أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعملون» فما موصولة.
والمعنى: خلقكم وخلق الأحجار التى تنحتون منها أصنامكم، ولكن الأشعرية
يجعلون «ما» مصدرية، فيصير المعنى: والله خلقكم وخلق أعمالكم، والقرآن يقرر
فى عديد من آياته أن العمل هو سبيل الإنسان إلى مصيره (وَلَتُسْئَلُنَّ
عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل: 93 «ومن جاء بالسيئة، فكبّت وجوههم فى
النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون» النمل: 90.
(3) يقول الشهرستانى: «الذى يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد: القول بأن
الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف ذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلا، فقالوا:
هو عالم لذاته، قادر لذاته، حى لذاته، لا بعلم وقدرة وحياة هى صفات قديمة
ومعانى قائمة، لأنه لو شاركته الصفات فى القدم الذى هو أخص الوصف لشاركته
فى الإلهية، واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق فى محل، وهو حرف وصوت، كتب
أمثاله فى المصاحف.. واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معانى
قائمة بذاته، لكن اختلفوا فى وجوه وجودها ومحامل معانيها كما سيأتى..
وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة، واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله
خيرها وشرها» وسبب تسميتهم بالمعتزلة أن واصل بن عطاء خالف الحسن البصرى
فى-
(1/199)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مسألة مرتكب الكبيرة، فقد قرر واصل أن مرتكبها ليس بمؤمن ولا كافر، وإنما
هو فى منزلة بين المنزلتين، فطرده الحسن من مجلسه، فسمى وأتباعه بالمعتزلة.
وهم فرق عديدة أطلقت على نفسها: أصحاب العدل والتوحيد، وفى أيامنا هذه طبع
كثير من كتبهم فى مصر. هكذا كلما بعد المرء عن هدى القرآن ضل. ولعلك تلحظ
أنهم بنوا معتقداتهم على إيمانهم بأن الله قديم!! وتبعا لهذا دانو بما
دانوا فى مسألة الصفات وما تفرع عنها، فبنوا دينهم على وهم، أو على صفة لا
يوصف الله بها، ولا يسمى: فلو أنهم والأشعرية دانوا بما وصف الله به نفسه
ما تردوا فى هذه المهلكات أو المتناقضات. لقد نفى المعتزلة الصفات، لأنهم
لو أثبتوها فى ظنهم لأثبتوا مع الله عدة قدماء، وجاء الأشعرية هنا بمضحكات
فقالوا عن الصفات: لا هى هو، ولا هى غيره!! قضيتان كلتاهما تبطل الأخرى. لو
قالوا: هى هو لتفوا الصفات، وللزمهم القول بأن الصفة عين الموصوف ولو قالوا
هى غيره للزمهم القول بتعدد القدماء!! هكذا يضرب الله من يضل عن سبيله، فلا
يرى نورا ولا صباحا لليله المظلم الطويل. والفيلسوف ابن رشد- على ما فيه-
يقول: «ومن البدع التى حدثث فى هذا الباب: السؤال عن هذه الصفات: هل هى
الذات أم زائدة على الذات؟» ثم يقول فى مكان آخر من كتابه مناهج الأدلة:
«الذى ينبغى أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات هو ما صرح به الشرع فقط وهو
الاعتراف بوجودها دون تفصيل الأمر فيها هذا التفصيل» ثم يقول عن دواء
القرآن فى الصفات: «وأول من غير هذا الدواء الأعظم، هم الخوارج، ثم
المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد- يعنى الغزالى-
فطم الوادى على القرى» . لقد أثبت المعتزلة ذاتا مجردة عن الصفات فعطلوا،
وجاء الأشاعرة، فوقفوا بين مثبتة الصفات ونفاتها، وما كان لهؤلاء السير
وراء السؤال القلق: هل الصفات زائده على الذات أو لا، لأن كل ذات لها وجود
تستلزم فى نفس الأمر وجود الصفات، إذ لا يمكن تصور ذات مجردة عن الصفات، بل
إن نفس اللفظ «ذات» - وهو مولدّ- يستلزم ذلك إذ-
(1/200)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
أصله أن يقال: ذات علم، ذات قدرة، ذات سمع، فهى مؤنث لفظ يستلزم الإضافة
وهو ذو، والذات المجردة عن الصفة لا توجد إلا فى الذهن فقط. أما الموجودات
فى أنفسها فلا يمكن فيها وجود ذات مجردة عن الصفات. يقول الإمام ابن تيمية
«وأصل النفاة المعطلة من الجهمية والمعتزلة أنهم يصفون الله بما لم يقم به،
بل بما قام بغيره، أو بما لم يوجد. ويقولون: هذه إضافات لا صفات، فيقولون:
هو رحيم ويرحم، والرحمة لا تقوم به، بل هى مخلوقة، وهى نعمته، ويقولون: هو
يرضى ويغضب، والرضا والغضب لا يقوم به، بل هو مخلوق، وهو ثوابه وعقابه
ويقولون: هو متكلم ويتكلم، والكلام لا يقوم به، بل هو مخلوق قائم بغيره»
جواب أهل العلم والإيمان ص 88. وأقول: ترى لو وقف هؤلاء عند قولهم: هو يرضى
ويغضب، هو متكلم ويتكلم، هو رحيم ويرحم أكان الله سائلهم يوم القيامة: أهذه
صفات أم إضافات؟ إنها لعنة علم الكلام الذى استمد من ضلالات السابقين. ثم
يقول الإمام ابن تيمية: «مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات ونفى مماثلتها
بصفات المخلوقات، فالله تعالى موصوف بصفات الكمال الذى لا نقص فيه، منزه عن
صفات النقص مطلقا، ومنزه عن أن يماثله غيره فى صفات كماله، فهذان المعنيان
جمعا: التنزيه، وقد دل عليهما قوله تعالى: «قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ،
اللَّهُ الصَّمَدُ» فالاسم الصمد يتضمن صفات الكمال. والاسم الأحد يتضمن
نقى المثل ... فالقول فى صفاته كالقول فى ذاته، والله تعالى ليس كمثله شئ،
لا فى ذاته، ولا فى صفاته، ولا فى أفعاله، لكن يفهم من ذلك أن نسبة هذه
الصفة إلى موصوفها، كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها، فعلم الله وكلامه ونزوله
واستواؤه هو كما يناسب ذاته، ويليق بها كما أن صفة العبد هى كما يناسب
ذاته، ويليق بها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته ولهذا
قال بعضهم: إذا قال لك السائل: كيف ينزل، أو كيف يستوى أو كيف يعلم، أو كيف
يتكلم، ويقدر ويخلق؟ فقل له: كيف هو فى نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية
ذاته. فقل له: وأنا لا أعلم كيفية صفاته؛ فإن العلم بكيفية الصفة يتبع
العلم بكيفية الموصوف» شرح حديث النزول ص 10 طبع 1366 هـ-
(1/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَسْمَاؤُهُ عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ الْمُسَمّى
بِهَا، وَسَوّوْا بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ، وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي
الْغَيْرِيّةِ وَالْحُدُوثِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَصَحّ جَوَازُ
التّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ إذَا دَعَوْنَا بِهَا، فَكَذَلِكَ
الْقَوْلُ فِي تَفْضِيلِ السّوَرِ، وَالْآيِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ،
فَإِنّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى التّلَاوَةِ، الّتِي هِيَ عَمَلُنَا، لَا إلَى
الْمَتْلُوّ الّذِي هو كلام رينا، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ،
وَقَدْ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُبَيّ: «أَيّ آيَةٍ
مَعَك فِي كِتَابِ اللهِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: «اللهُ لَا إلَهَ إِلّا هُوَ
الْحَيّ الْقَيّومُ» فَقَالَ: «لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ «1»
» ، وَمُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: أَعْظَمُ مَعْنًى عَظِيمٌ؛ لِأَنّ
الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ، فَكَيْفَ يَقُولُ لَهُ: أَيّ آيَةٍ فِي
الْقُرْآنِ عَظِيمَةٌ، وَكُلّ آيَةٍ فِيهِ عَظِيمَةٌ كَذَلِكَ؟ وَكُلّ مَا
اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَكْبَرُ بِمَعْنَى كَبِيرٍ،
وَأَهْوَنُ بِمَعْنَى هَيّنٍ بَاطِلٍ عِنْدَ حُذّاقِ النّحَاةِ، وَلَوْلَا
أَنْ نَخْرُجَ عَمّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، لَأَوْضَحْنَا بُطْلَانَهُ، بِمَا
لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْعَرَبِيّةِ، مَا
جَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ
اللهِ أَعْظَمُ، لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ، وَإِنّمَا سَأَلَهُ
عَنْ الْأَعْظَمِ مِنْهُ، وَالْأَفْضَلِ فِي ثَوَابِ التّلَاوَةِ، وَقُرْبِ
الْإِجَابَةِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى ثُبُوتِ
الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنّ لِلّهِ اسْمًا هُوَ أَعْظَمُ أَسْمَائِهِ،
وَمُحَالٌ أَنْ يَخْلُو الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَاَللهُ تعالى
__________
- والحق فيما ذهب إليه الإمام الجليل. فليسكن قلب كل مسلم إلى صفات الله
وأسمائه وليدن بها وهو ثابت اليقين، دون أن يسأل نفسه: كيف يتكلم، كيف
استوى، ما حقيقة اليدين؟ ودون أن ينفى شيئا أثبته الله، وإلا بهت الله بأنه
لم يحسن وصف نفسه، أو أصابه العى فلم يستطع البيان عن صفات وأسماء نفسه.
(1) المسئول هو أبى بن كعب، والحديث فى مسلم ومسند أحمد.
(1/202)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقُولُ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «1» [الْأَنْعَامُ: 38]
، فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ لَا مُحَالَةَ. وَمَا كَانَ اللهُ لِيُحَرّمَهُ
مُحَمّدًا، وَأُمّتَهُ، وَقَدْ فَضّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ،
وَفَضّلَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ، فَإِنْ قُلْت: فَأَيْنَ هُوَ فِي
الْقُرْآنِ؟ فَقَدْ قِيلَ: إنّهُ أُخْفِيَ فِيهِ، كَمَا أُخْفِيَتْ
السّاعَةُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ؛
لِيَجْتَهِدَ النّاسُ وَلَا يَتّكِلُوا قَالَ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو
الْقَاسِمِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُبَيّ: أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللهِ
أَعْظَمُ، وَلَمْ يَقُلْ: أَفَضْلُ إشَارَةً إلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ
أَنّهُ فِيهَا، إذْ لَا يُتَصَوّرُ أَنْ تَكُونَ هِيَ أَعْظَمُ آيَةً،
وَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِي أُخْرَى دُونَهَا. بَلْ: إنّمَا
صَارَتْ أَعْظَمَ الْآيَاتِ؛ لِأَنّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فِيهَا. أَلَا
تَرَى كَيْفَ هَنّأَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أُبَيّا، بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ الْعِلْمِ، وَمَا هَنّأَهُ
إلّا بِعَظِيمِ بِأَنْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَالْآيَةُ الْعُظْمَى
الّتِي كَانَتْ الْأُمَمُ قَبْلَنَا لَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ إلّا
الْأَفْرَادُ، عَبْدُ اللهِ بْنُ الثّامِرِ، وآصف صَاحِبُ سُلَيْمَانَ
عَلَيْهِ السّلَامُ، وَبُلْعُوم قَبْلَ أَنْ يتبعه الشيطان «2»
__________
(1) هو الكتاب الذى كتب الله فيه كل شئ قبل الخلق، لا القرآن.
(2) لست أدرى من أين جاء بهذا؟! ولقد دار حول الاسم الأعظم مادار، من
أقاويل وأساطير مفتراة تزعم أن فلانا كان يسخر به الجن والإنس، وأن غيره
كان، وكان،!! وغير هذا مما يأفكه المبطلون المشعبذون الذين يفترون أنهم
يعرفون اسم الله الأعظم، والله لا يحرم أمة من معرفة اسمه الأعظم الذى هو
«الله» . وفى مسألة تفضيل بعض كلام الله على بعض يقول الإمام ابن تيمية
«الناس متنازعون فيها- أى فى مسألة التفضيل- نزاعا منتشرا فطوائف يقولون:
بعض كلام الله أفضل من بعض، كما نطقت به النصوص النبوية، حيث أخبر عن-
(1/203)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ، وَقَدْ جَاءَ مَنْصُوصًا فِي حَدِيثِ أُمّ
سَلَمَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ وَأَبُو
دَاوُدَ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ- وَكُنْيَتُهَا:
أُمّ سَلَمَةَ- فَلَعَلّ الْحَدِيثَ وَاحِدٌ أَنّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ،
فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو فى هَاتِينَ الْآيَتَيْنِ
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ والم اللَّهُ لَا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: هُوَ
الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
الْآيَةَ أَيْ:
فَادْعُوهُ بِهَذَا الِاسْمِ، ثُمّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ تنبيها لنا على حمده
__________
- الفاتحة أنه لم ينزل فى الكتب الثلاثة مثلها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنها
تعدل ثلث القرآن. وجعل آية الكرسى أعظم آية فى القرآن.. وروى أنها سيدة
القرآن» ثم يقول: «والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور
عن السلف، وهو الذى عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام
القائلين بذلك كثير منتشر فى كتب كثيرة» ثم يقول: «والنصوص والآثار فى
تفضيل كلام الله- بل وتفضيل بعض صفاته- على بعض متعددة. وقول القائل: صفات
الله كلها فاضلة فى غاية التمام والكمال ليس فيها نقص، كلام صحيح، لكن
توهمه أنه إذا كان بعضها أفضل من بعض كان المفضول معيبا منقوصا خطأ منه،
فإن النصوص تدل على أن بعض أسمائه أفضل من بعض، ولهذا يقال: دعا الله باسمه
الأعظم، وتدل على أن بعض صفاته أفضل من بعض، وبعض أفعاله أفضل من بعض» ثم
ساق الكثير من النصوص التى تثبت ما ذهب إليه وهو حق (جواب أهل العلم
والإيمان ج 1 ط السلفية 1375 ص 7، 9، 54. وانظر ص 438 ج 1 البرهان للزركشى)
. دين ابن الثامر: فى قصته عن الذين كانوا يلبون دعوته «فيوحد الله ويسلم»
أى: يصير مسلما. ولهذا لا يجوز بعد ذلك أن نقول: دين نصرانى، فالنصرانية
ليست دينا من الله سبحانه، فدين الرسل جميعا هو الإسلام.
(1/204)
[ «ابن الثامر يدعو إلى الإسلام» :]
فَجَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الثّامِرِ إذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ
أَحَدًا بِهِ ضُرّ إلّا قال:
يَا عَبْدَ اللهِ، أَتُوَحّدُ اللهَ، وَتَدْخُلُ فِي دِينِي، وَأَدْعُو
اللهَ، فَيُعَافِيك مِمّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ؟ فَيَقُولُ:
نَعَمْ، فَيُوَحّدُ اللهَ وَيُسْلِمُ، وَيَدْعُو لَهُ فَيُشْفَى، حَتّى
لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرّ إلّا أَتَاهُ فَاتّبَعَهُ عَلَى
أَمْرِهِ، وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ، حَتّى رُفِعَ شَأْنُهُ إلَى مَلِكِ
نَجْرَانَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَفْسَدْت عَلَيّ أَهْلَ قَرْيَتِي،
وَخَالَفْت دِينِي وَدِينَ آبَائِي، لَأُمَثّلَنّ بِك، قَالَ: لَا تَقْدِرُ
عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إلَى الْجَبَلِ الطّوِيلِ،
فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيَقَعُ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ،
وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إلَى مِيَاهٍ بنجران، بحور لا يقع فيها شئ إلّا
هَلَكَ، فَيُلْقَى فِيهَا، فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، فَلَمّا
غَلَبَهُ، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الثّامِرِ: إنّك وَاَللهِ لَنْ
تَقْدِرَ عَلَى قتلى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَشُكْرِهِ، إذْ عَلِمْنَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ مَا لَمْ نَكُنْ
نَعْلَمُ، فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ
أَيْضًا أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ
رَجُلًا- وَهُوَ زَيْدٌ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ- ذَكَرَ اسْمَهُ الحرث
بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ- يَقُولُ: «اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك،
بِأَنّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْمَنّانُ بَدِيعُ
السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَقَالَ: لَقَدْ
دَعَا اللهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ «1» » وَيُرْوَى أَنّهُ قَالَ لَهُ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ: غَفَرَ اللهُ لَهُ غَفَرَ اللهُ لَهُ. وَرَوَى
التّرْمِذِيّ نَحْوَ هَذَا فِيمَنْ قَالَ: «اللهُمّ إنّي أَسْأَلُك؛
فَإِنّك اللهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصّمَدُ الّذِي
لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ «2» » وَهَذَا مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ أُمّ
سَلَمَةَ، قلنا: لا معارضة بين هذا،
__________
(1) الترمذى وأبو داود والنسائى وابن ماجة.
(2) الترمذى وأبو داود.
(1/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبَيْنَ مَا تَقَدّمَ، فَإِنّا لَمْ نَقُلْ: إنّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ،
هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ، بَلْ: الْحَيّ الْقَيّومُ: صِفَتَانِ
تَابِعَتَانِ لِلِاسْمِ الْأَعْظَمِ. وَتَتْمِيمٌ لِذِكْرِهِ، وَكَذَلِكَ
الْمَنّانُ.
وَذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ
خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ أَيْضًا فِي الدّعَوَاتِ، وَكَذَلِكَ الْأَحَدُ
الصّمَدُ فِي حَدِيثِ التّرْمِذِيّ. وَقَوْلُك: اللهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ:
هُوَ الِاسْمُ، لِأَنّهُ لَا سَمِيّ لَهُ، وَلَمْ يَتّسِمْ بِهِ غَيْرُهُ،
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي التّسْعَةِ وَالتّسْعِينَ اسْمًا:
إنّهَا كُلّهَا تَابِعَةٌ لِلِاسْمِ الّذِي هُوَ اللهُ، وَهُوَ تَمَامُ
الْمِائَةِ، فَهِيَ مِائَةٌ عَلَى عَدَدِ دَرَجِ الْجَنّةِ، إذْ قَدْ
ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ «1» بَيْنَ كُلّ
دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ، وَقَالَ فِي الْأَسْمَاءِ: «مَنْ
أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ «2» » فَهِيَ عَلَى عَدَد دَرَجِ الْجَنّةِ،
وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى لَا تُحْصَى، وإنما هذه
__________
(1) ورد عدد درجات الجنة فى حديث رواه البخارى والترمذى، ورواية البخارى:
«ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» ورواية الترمذى: «ما بين كل
درجتين مائة عام» وفى الطبرانى: ما بين كل درجتين خمسائة عام.
(2) يشير إلى الحديث: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا لا يحفظها
أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر» متفق عليه. وفى رواية أخرى: «من
أحصاها دخل الجنة» متفق عليها، ورواها الترمذى وابن ماجة ومعنى الإحصاء
والحفظ: التدبر والعمل بما يوجبه رب هذه الأسماء، لا مجرد الإحصاء والحفظ
كما يفعل نعقة المقابر. والحديث الذى أحصيت فيه الأسماء قال عنه الترمذى.
حديث غريب أى: ضعيف، ويقول عنه ابن كثير فى تفسير الأعراف: «وقد روى من غير
وجه عن أبى هريرة، ولا نعلم فى كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا فى هذا
الحديث، ورواه ابن حبان فى صحيحه من طريق صفوان به، وقد رواه ابن ماجة فى
سننه من طريق آخر عن موسى بن عقبة، عن الأعرج عن أبى هريرة مرفوعا، فسرد
الأسماء بزيادة ونقصان، والذى عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء فى
هذا الحديث مدرج فيه»
(1/206)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَسْمَاءُ هِيَ الْمُفَضّلَةُ عَلَى غَيْرِهَا، وَالْمَذْكُورَةِ فِي
الْقُرْآنِ. يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الصّحِيحِ: «أَسْأَلُك
بِأَسْمَائِك الْحُسْنَى مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ»
وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ: «سُبْحَانَك لَا أُحْصِي أَسَمَاءَك»
وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ أَنّك تُضِيفُ جَمِيعَ
الْأَسْمَاءِ إلَيْهِ، وَلَا تُضِيفُهُ إلَيْهَا. تَقُولُ: الْعَزِيزُ
اسْمٌ من أسماء الله، ولا تقول: اللهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَزِيزِ،
وَفُخّمَتْ اللّامّ مِنْ اسْمِهِ- وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفَخّمُ لَامٌ فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ إلّا مَعَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ نحو الطلاق، ولا تفخّم
لام فى شئ من أسمائه، ولا شئ مِنْ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَسْمَائِهِ
الّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَعْلِيَةِ إلّا فِي هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ «1»
الْمُنْتَظَمِ من ألف ولامين وهاء.
__________
(1) يقول ابن كثير: «ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة فى تسعة
وتسعين» ثم روى الحديث الذى رواه أحمد، وأبو حاتم بن حبان البستى، وفيه
«أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته فى كتابك، أو علمته أحدا من
خلقك، أو استأثرت به فى علم الغيب» وحروف الإطباق هى: الصاد والضاد والطاء
والظاء، والمستعلى من الحروف: الخاء والغين والقاف والضاد والصاد والطاء
والظاء، وأربعة منها مع استعلائها إطباق، وهى ما عدا الخاء والغين والقاف
ومعنى استعلائها أن تتصعد فى الحنك الأعلى. والإطباق: أن ترفع ظهر لسانك
إلى الحنك الأعلى مطبقا له. هذا، وقد تكلم ابن القيم فى بدائع الفوائد
كلاما قيما فى هذا الشأن اخترت منه: «الثانى عشر: فى بيان مراتب إحصاء
أسمائه التى من أحصاها دخل الجنة، وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة
والفلاح. المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها. المرتبة الثانية: فهم
معانيها ومدلولها. المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى، فَادْعُوهُ بِها) وهو مرتبتان: إحداهما: دعاء ثناء
وعبادة، والثانية: دعاء طلب ومسئلة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى،
وصفاته العلا، وكذلك لا يسئل إلا بها، فلا يقال: يا موجود، أو يا شئ، أو يا
ذات: اغفرلى وارحمنى، بل يسئل فى كل مطلوب باسم-
(1/207)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَالْأَلِفُ مِنْ مَبْدَأِ الصّوْتِ، وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إلَى مَخْرَجِ
الْأَلِفِ، فَشَاكَلَ اللّفْظ الْمَعْنَى، وَطَابَقَهُ، لِأَنّ الْمُسَمّى
بِهَذَا الِاسْمِ مِنْهُ الْمَبْدَأُ، وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ.
وَالْإِعَادَةُ.
أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَكَذَلِكَ الْهَاءُ
أَخَفّ وَأَلْيَنُ فِي اللّفْظِ مِنْ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ مَبْدَأُ
الِاسْمِ. أُخْبِرْت بِهَذَا الْكَلَامِ أَوْ نَحْوِهِ فِي الِاسْمِ
وَحُرُوفِهِ عَنْ ابْنِ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ اللهُ. ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ
شَيْخُنَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لَهُ. فَإِنْ قِيلَ:
فَأَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنّهُ لَا يُدْعَى
اللهُ بِهِ إلّا أَجَابَ، ولا يسئل بِهِ شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ.
قُلْنَا: عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنّ هَذَا الِاسْمَ كَانَ
عِنْدَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا- إذَا عَلِمَهُ- مَصُونًا غَيْر مُبْتَذَلٍ،
مُعَظّمًا لَا يَمَسّهُ إلّا طَاهِرٌ، وَلَا يَلْفِظُ بِهِ إلّا طَاهِرٌ،
وَيَكُونُ الّذِي يَعْرِفُهُ عَامِلًا بِمُقْتَضَاهُ مُتَأَلّهًا
مُخْبِتًا، قَدْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِعَظَمَةِ الْمُسَمّى بِهِ لَا
يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَا يَخَافُ سِوَاهُ، فَلَمّا اُبْتُذِلَ
وَتُكُلّمَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الْبَطَالَاتِ وَالْهَزْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ
بِمُقْتَضَاهُ ذَهَبَتْ مِنْ الْقُلُوبِ هَيْبَتُهُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ
مِنْ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ، وَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِلدّاعِي ما
كان قبل. ألا ترى قول
__________
- يكون مقتضيا لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلا إليه بذلك الاسم، ومن
تأمل أدعية الرسل، ولا سيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا» ص 164
ويقول: «إحصاء الأسماء الحسنى، والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فمن أحصى
أسماءه كما ينبغى للمخلوق أحصى جميع العلوم؛ إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل
معلوم» ص 163 ويقول فى شأن «من أحصاها دخل الجنة» إنها صفة لا خبر مستقل.
والمعنى: له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة وهنا لا ينبغى
أن يكون له أسماء غيرها ص 167. وقد أبدع ابن القيم فى هذا فانظر كتابه
بدائع الفوائد ج 1
(1/208)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيّوبَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي بَلَائِهِ: «قَدْ كُنْت أَمُرّ
بِالرّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذْكُرَانِ اللهَ- يَعْنِي فِي
تَنَازُعِهِمَا، أَيْ تَخَاصُمِهِمَا- فَأَرْجِعُ إلَى بَيْتِي، فَأُكَفّرُ
عَنْهُمَا كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللهُ إلّا فِي حَقّ» وَفِي الْحَدِيثِ
عَنْ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كَرِهْت أَنْ
أَذْكُرَ اللهَ إلّا عَلَى طُهْرٍ» فَقَدْ لَاحَ لَك تَعْظِيمُ
الْأَنْبِيَاءِ لَهُ.
وَالْجَوَابُ الثّانِي: أَنّ الدّعَاءَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ الْقَلْبِ،
وَلَمْ يَكُنْ بِمُجَرّدِ اللّسَانِ اُسْتُجِيبَ لِلْعَبْدِ، غَيْرَ أَنّ
الِاسْتِجَابَةَ تَنْقَسِمُ كَمَا قَالَ- عَلَيْهِ السّلَامُ- إمّا أَنْ
يُعَجّلَ لَهُ مَا سَأَلَ وَإِمّا أَنْ يَدّخِرَ لَهُ، وَذَلِكَ خَيْرٌ
مِمّا طَلَبَ، وَإِمّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الْبَلَاءِ بِقَدْرِ مَا
سَأَلَ مِنْ الْخَيْرِ «1» ، وَأَمّا دُعَاءُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُمّتِهِ أَلّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ «2»
، فَمَنَعَهَا، فَقَدْ أُعْطِيَ عِوَضًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ: الشّفَاعَةِ
لَهُمْ فى الآخرة،
__________
(1) يشير إلى الحديث: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم
إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له فى
الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر. قال: الله
أكثر» أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
(2) يشير إلى حديث «سألت ربى ثلاثا. سألته ألا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها،
وسألته ألا يهلك أمتى بالسنة «أى الجدب» فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم
بينهم، فمنعنيها» مسلم وأحمد. والأحاديث فى هذا تكاد تجمع على أن التى
منعها هى ألا يجعل بأسهم بينهم. أما اللتان استجيبتا ففيهما خلاف. ففى بعض
الأحاديث ألا يظهر عليهم عدوا، ولا يهلكهم بالسنين، وفى بعضها ألا يهلكهم
بغرق، وألا يسلط عليهم عدوا، وفى بعضها ألا يهلك أمته بما أهلك به الأمم
قبلنا. وهكذا.
(1/209)
حَتّى تُوَحّدَ اللهَ، فَتُؤْمِنَ بِمَا
آمَنْتُ بِهِ، فَإِنّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ، سُلّطْت عَلَيّ فَقَتَلْتنِي.
قَالَ: فَوَحّدَ اللهَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ
عَبْدِ اللهِ بْنِ الثّامِرِ، ثُمّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ، فَشَجّهُ
شَجّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ، فَقَتَلَهُ، ثُمّ هَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ،
وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الثّامِرِ-
وكان على ماء جاء به عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ- ثُمّ
أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ الْأَحْدَاثِ،
فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ النّصْرَانِيّةِ بِنَجْرَانَ، وَاَللهُ
أَعْلَمُ بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ قَالَ: «أُمّتِي هَذِهِ أُمّةٌ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا فِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ، عَذَابُهَا فِي الدّنْيَا: الزّلَازِلُ وَالْفِتَنُ» .
خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ «1» ، فَإِذَا كَانَتْ الْفِتَنُ سَبَبًا لِصَرْفِ
عَذَابِ الْآخِرَةِ عَنْ الْأُمّةِ، فَمَا خَابَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ. عَلَى
أَنّنِي تَأَمّلْت هَذَا الْحَدِيثَ، وَتَأَمّلْت حَدِيثَهُ الْآخَرَ حِينَ
نَزَلَتْ: قُلْ: هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً
مِنْ فَوْقِكُمْ [الْأَنْعَامُ: 65] . فَقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك. فلما
سمع: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِك، فَلَمّا
سَمِعَ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.
قال: هذه أهون «2» .
__________
(1) ورواه أيضا الطبرانى فى الكبير، والحاكم فى مستدركه، والبيهقى فى
الشعب. ولكن لن تكون شفاعة إلا بعد إذن الله، فالرسول- صلى الله عليه وسلم
لا بملكها- وآيات القرآن كلها تظاهر هذا المعنى، وحديث أبى داود الذى ينفى
عذاب الآخرة عن هذه الأمة حديث يخالف الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة
المتفق عليها، ولا سيما حديث الحوض الذى يقول فيه عن الذين منعوا الدنو من
الحوض: فأقول: ألا سحقا، ألا سحقا أو ما فى معنى هذا
(2) البخارى والنسائى والحميدى وابن حبان وابن جرير وابن مردويه وسعيد بن
منصور.
(1/210)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ
مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ
اللهِ بْنِ الثّامِرِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فمن ها هنا- وَاَللهُ أَعْلَمُ- أُعِيذَتْ أُمّتُهُ مِنْ الْأُولَى
وَالثّانِيَةِ، وَمُنِعَ الثّالِثَةُ، حِينَ سَأَلَهَا بَعْدُ. وَقَدْ
عَرَضْت هَذَا الْكَلَامَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ فُقَهَاءِ زَمَانِنَا،
فَقَالَ:
هَذَا حَسَنٌ جِدّا، غَيْرَ أَنّا لَا نَدْرِي: أَكَانَتْ مَسْأَلَتُهُ
بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَمْ لَا؟
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، فَأَخْلِقْ بِهَذَا النّظَرِ أَنْ
يَكُونَ صَحِيحًا. قُلْت لَهُ:
أَلَيْسَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّهُ دَعَا بِهَا فِي مَسْجِدِ بَنِي
مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنّ سُورَةَ
الْأَنْعَامِ مَكّيّةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَسَلّمَ وَأَذْعَنَ لِلْحَقّ،
وَأَقَرّ بِهِ.
رَحِمَهُ اللهُ.
هَلْ الشّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ؟
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مِنْ وَجْدَانِ عَبْدِ اللهِ فِي خَرِبَةٍ مِنْ خِرَبِ
نَجْرَانَ.
يُصَدّقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ «1» [آلُ عِمْرَانَ: 169]
الْآيَةَ وَمَا وُجِدَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ،
وَغَيْرِهِمْ عَلَى هَذِهِ الصّورَةِ لَمْ يَتَغَيّرُوا بَعْدَ الدّهُورِ
الطّوِيلَةِ كَحَمْزَةِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
فَإِنّهُ وُجِدَ حِينَ حَفَرَ مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ صَحِيحًا لَمْ
يَتَغَيّرْ، وَأَصَابَتْ الْفَأْسُ أُصْبُعَهُ، فَدَمِيَتْ، وَكَذَلِكَ
أَبُو جَابِرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَرَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ،
وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- اسْتَخْرَجَتْهُ
بِنْتُهُ عَائِشَةُ مِنْ قبره حين
__________
(1) لم يرو قصة ابن التامر غير ابن إسحاق، ولم يخرجها أحد من أصحاب الصحيح.
وفى الآية رد على ما يفترى من مثل هذه الأساطير فالآية تقول: «عند ربهم» لا
«فى قبورهم» كما يريد السهيلى أن يفهم هو ومن يذهب معهم مذاهبهم.
(1/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَأَتْهُ فِي الْمَنَامِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْقُلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ،
فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ مَوْضِعِهِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ
يَتَغَيّرْ. ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ. وَالْأَخْبَارُ
بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ «1» .
وقد قال- عليه السلام- «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
خرجه سليمان بن الأشعث. وذكر أبو جعفر الداوودي في كتاب الناس هذا الحديث
بزيادة: ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين، وهي زيادة غريبة لم تقع لي في
مسند، غير أن الداوودي من أهل الثقة والعلم. وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ
طَرِيقِ أَنَسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ يُصَلّونَ فِي
قُبُورِهِمْ» . انْفَرَدَ بِهِ ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ
روى أن ثابتا التمس فى قبره بعد ما دُفِنَ، فَلَمْ يُوجَدْ، فَذَكَرَ
ذَلِكَ لَبِنْتِهِ. فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلّي فَلَمْ تَرَوْهُ، لِأَنّي
كُنْت أَسْمَعُهُ إذَا تَهَجّدَ بِاللّيْلِ يَقُولُ. «اللهُمّ اجْعَلْنِي
مِمّنْ يصلّى
__________
(1) إنما هى أساطير تسكر العاطفة، فتذهلها عن هدى الكتاب والسنة.. فما ورد
شئ من هذا، لا فى الكتاب، ولا فى السنة، وحياة الشهداء عند ربهم حياة غيبية
نؤمن بها، ولا نكلف أنفسنا البحث عن حقيقتها، ولا نرجم فيها بالغيب أو نهوم
مع الظنون والتخيلات المجنحة بالتهويلات الخرافية، ولا نكفر بها. وليست
كرامة الشهداء فى بقاء أجسادهم، وإلا فقد بقيت أجساد كفرة عشرات السنين، بل
مئاتها. والصوفية هى التى تحمل وزر ما قاله السهيلى، أما أبو جابر فقد ثبت
فى الصحيح قول جابر عنه: «لما قتل أبى جعلت أبكى، وأكشف الثوب عن وجهه،
فجعل أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينهونى، والنبى- صلى الله عليه
وسلم- لم ينه، فَقَالَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا
تبكه، أو ما تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع» وقد أسنده هو
ومسلم والنسائى من طرق. وجميع الأحاديث الصحيحة التى تحدثت عن حياة الشهداء
لم تذكر شيئا مما ذهب إليه السهيلى.
(1/212)
[ «أصحاب الأخدود ومعناه» :]
فَسَارَ إلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنُودِهِ، فَدَعَاهُمْ إلَى
الْيَهُودِيّةِ، وَخَيّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا
الْقَتْلَ، فَخَدّ لَهُمْ الْأُخْدُودَ، فَحَرَقَ مَنْ حَرَقَ بِالنّارِ،
وقتل من قتل بالسيف، ومثّل بهم، حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ
عِشْرِينَ أَلْفًا، ففى ذى نواس وَجُنْدِهِ تِلْكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى
عَلَى رَسُولِهِ سَيّدِنَا مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:
(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ
عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ.
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ) . البروج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي قَبْرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ» «1» وَفِي الصّحِيحِ: أَنّ رسول الله- صلى
الله عليه وسلم- قال: (مَرَرْت بِمُوسَى- عَلَيْهِ السّلَامُ- وَهُوَ
يُصَلّي فِي قَبْرِهِ «2» ) .
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ:
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الثّامِرِ إنّمَا رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ
مَوْقُوفًا عَلَى مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ
نَجْرَانَ، لِيَصِلَ بِهِ حَدِيثَ فَيُمْؤُنّ، وَهُوَ حَدِيثُ ثَابِتٍ عَنْ
رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيب عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ: وَهُوَ يُخَالِفُ
حَدِيثَ ابْنِ إسْحَاقَ فِي أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ. قال: كان رسول الله- صلى
الله
__________
(1) هذا وما قبله لا يتفق لا مع النقل الصحيح، ولا مع العقل الصريح. إنما
هو خرافات يراد بها ربط الناس بالموتى، لا بالحى القيوم، وحمم تجتاح الصحيح
من الدين.
(2) كان هذا ليلة الإسراء، وهى من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا
ففى نفس الحديث أنه لقيه فى السماء!!
(1/213)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأُخْدُودُ:
الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ، كَالْخَنْدَقِ وَالْجَدْوَلِ
وَنَحْوِهِ، وَجَمْعُهُ: أَخَادِيدُ. قَالَ ذُو الرّمّةِ- وَاسْمُهُ:
غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةَ، أَحَدُ بَنِي عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
أُدّ بن طابخة بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ.
مِنْ الْعِرَاقِيّةِ اللّاتِي يحيل لها ... بين الغلاة وَبَيْنَ النّخْلِ
أُخْدُودُ
يَعْنِي: جَدْوَلًا. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. قَالَ:
وَيُقَالُ لِأَثَرِ السّيْفِ وَالسّكّينِ فِي الْجِلْدِ وَأَثَرِ السّوْطِ
وَنَحْوِهِ: أُخْدُودٌ: وجمعه أخاديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا حَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثًا
تَقَدّمَ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ يُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ.
قَالَ: كَانَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ، وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ
«1» يَكْهُنُ لَهُ، فَقَالَ الْكَاهِنُ: اُنْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهمَا
أَوْ قَالَ: فَطِنًا لَقِنًا؛ فَأَعْلَمَهُ عِلْمِي هَذَا، فَإِنّي أَخَافُ
أَنْ أَمَوْتَ؛ فَيَنْقَطِعُ مِنْكُمْ هَذَا الْعِلْمُ، وَلَا يَكُونُ
فِيكُمْ مَنْ يَعْلَمُهُ قَالَ: فَنَظَرُوا لَهُ غُلَامًا عَلَى مَا
وَصَفَ، فَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْكَاهِنُ وَأَنْ يَخْتَلِفَ
إلَيْهِ، فَجَعَلَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْغُلَامِ
رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ قَالَ مَعْمَرٌ: أَحْسَبُ أَنّ أَصْحَابَ
الصّوَامِعِ يَوْمئِذٍ كَانُوا مُسْلِمِينَ «2» قَالَ: فَجَعَلَ الْغُلَامُ
يَسْأَلُ الرّاهِبَ كُلّمَا مَرّ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى
أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: إنّمَا أَعْبُدُ اللهَ، قَالَ: فَجَعَلَ الْغُلَامُ
يَمْكُثُ عِنْدَ الرّاهِبِ، وَيُبْطِئُ عَلَى الْكَاهِنِ، فَأَرْسَلَ
الْكَاهِنُ إلَى أَهْلِ الْغُلَامِ أَنّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي،
فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ الرّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ: إذَا
قَالَ لَك الْكَاهِنُ: أَيْنَ كُنْت، فَقُلْ: كُنْت عِنْدَ أَهْلِي،
فَإِذَا قال
__________
(1) فى رواية ساحر.
(2) هذا تعبير دقيق؛ فكل من آمن بالله وبالرسول فهو مسلم.
(1/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَك: أَهْلُك: أَيْنَ كُنْت؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّك كُنْت عِنْدَ
الْكَاهِنِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا الْغُلَامُ عَلَى ذَلِكَ إذْ مَرّ
بِجَمَاعَةِ مِنْ النّاسِ كَثِيرٍ قَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابّةٌ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: إنّ تِلْكَ الدّابّةَ كَانَتْ أَسَدًا، فَأَخَذَ الْغُلَامُ
حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمّ إن كان ما يقول الراهب حقا فأسئلك أَنْ
تَقْتُلَهُ، قَالَ: ثُمّ رَمَى، فَقَتَلَ الدّابّةَ، فَقَالَ النّاسُ: مَنْ
قَتَلَهَا؟
فَقَالُوا: الْغُلَامُ، فَفَزِعَ النّاسُ، وَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمَ هَذَا
الْغُلَامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ.
قَالَ: فَسَمِعَ بِهِ أَعْمَى، فَقَالَ لَهُ: إنْ أَنْتَ رَدَدْت بَصَرِي
فَلَك كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لَهُ:
لَا أُرِيدُ مِنْك هَذَا، وَلَكِنْ أَرَأَيْت إنْ رَجَعَ إلَيْك بَصَرُك
أَتُؤْمِنُ بِاَلّذِي رَدّهُ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعَا اللهَ، فَرَدّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَآمَنَ
الْأَعْمَى، فَبَلَغَ الْمَلِكَ أَمْرُهُمْ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ، فَأَتَى
بِهِمْ، فَقَالَ: لَأَقْتُلَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لَا
أَقْتُلُ بِهَا صَاحِبَهُ، فَأَمَرَ بِالرّاهِبِ وَبِالرّجُلِ الّذِي كَانَ
أَعْمَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى مَفْرِقِ أَحَدِهِمَا فَقَتَلَهُ،
ثُمّ قَتَلَ الْآخَرَ بِقِتْلَةِ أُخْرَى، ثُمّ أَمَرَ بِالْغُلَامِ،
فَقَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَأَلْقُوهُ مِنْ
رَأْسِهِ، فَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَلَمّا انْتَهَوْا
إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي أَرَادُوا أَنْ يَلْقَوْهُ مِنْهُ، جَعَلُوا
يَتَهَافَتُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَيَتَرَدّوْنَ مِنْهُ، حَتّى لَمْ
يَبْقَ مِنْهُمْ إلّا الْغُلَامُ، قَالَ: ثُمّ رَجَعَ فَأَمَرَ بِهِ
الْمَلِكَ أَنْ يَنْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْبَحْرِ، فَيَلْقَوْنَهُ فِيهِ،
فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى الْبَحْرِ، فَغَرّقَ اللهُ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ،
وَأَنْجَاهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ: إنّك لَا تَقْتُلُنِي حَتّى
تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَنِي، وَتَقُولَ إذَا رَمَيْتنِي: «بِاسْمِ اللهِ
رَبّ هَذَا الْغُلَامِ» قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ، فَصُلِبَ ثُمّ رَمَاهُ،
فَقَالَ: بِاسْمِ اللهِ رَبّ هَذَا الْغُلَامِ، قال: فَوَضَعَ الْغُلَامُ
يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِينَ رُمِيَ ثُمّ مَاتَ، فَقَالَ النّاسُ: لَقَدْ
عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ، فَإِنّا نُؤْمِنُ
بِرَبّ هَذَا الْغُلَامِ، قَالَ: فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَجَزِعْت أَنّ
خَالَفَك ثَلَاثَةً،
(1/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَهَذَا الْعَالَمُ كُلّهمْ قَدْ خَالَفُوك، قَالَ: فَخَدّ أَخُدُودًا «1»
، ثُمّ أَلْقَى فِيهِ الْحَطَبَ وَالنّارَ، ثُمّ جَمَعَ النّاسَ، فَقَالَ:
مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ تَرَكْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ
أَلْقَيْنَاهُ فِي هَذِهِ النّارِ، فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ فِي ذَلِكَ
الْأُخْدُودِ. قَالَ: يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ- (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) حَتّى بَلَغَ: (الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ) : الْبُرُوجُ قَالَ: فَأَمّا الْغُلَامُ فَإِنّهُ دُفِنَ.
قَالَ: فَيُذْكَرُ أَنّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ-
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأُصْبُعُهُ عَلَى صُدْغِهِ، كَمَا وَضَعَهَا حِينَ
قُتِلَ. رَوَاهُ التّرْمِذِيّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْ عَبْدِ
الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هَدّابِ بْنِ خَالِدٍ
عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ، ثُمّ اتّفَقَا عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى عَنْ صُهَيب غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنّ الْأَعْمَى
الّذِي شُفِيَ، كَانَ جَلِيسًا لِلْمَلِكِ، وَأَنّهُ جَاءَهُ بَعْدَ مَا
شُفِيَ، فَجَلَسَ مِنْ الْمَلِكِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ: مَنْ رَدّ
عَلَيْك بَصَرَك، قَالَ: رَبّي، قَالَ: وَهَلْ لَك رَبّ غَيْرِي؟! فَقَالَ:
اللهُ رَبّي وَرَبّك، فَأَمَرَ بِالْمِنْشَارِ، فَجُعِلَ عَلَى رَأْسِهِ
حَتّى وَقَعَ شِقّاهُ، وَأَمَرَ بِالرّاهِبِ فَفُعِلَ بِهِ، مِثْلُ ذَلِكَ،
وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ. قَالَ: فَأُتِيَ بِامْرَأَةِ
لِتُلْقَى فِي النّارِ، وَمَعَهَا صَبِيّ يَرْضَعُ فَقَالَ لَهَا
الْغُلَامُ:
يَا أُمّهْ لَا تَجْزَعِي، فَإِنّك عَلَى الْحَقّ، وَذَكَرَ ابْنُ
قُتَيْبَةَ أَنّ الْغُلَامَ الرّضِيعَ كَانَ مِنْ سبعة أشهر «2» .
__________
(1) خد: شق، والأخدود: شق فى الأرض مستطيل غائص. جمعه: أخاديد وقد شرحه ابن
هشام.
(2) ورواه أحمد أيضا. وقد قال الحافظ المزى عن سياق القصة: يحتمل أن يكون
من كلام صهيب الرومى، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، وقد ذكر السدى:
كانت الأخدود ثلاثة، خد بالعراق، وخد بالشام، وخد باليمن، -
(1/216)
[ «مصير عبد الله بن الثامر» :]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَيُقَالُ: كَانَ فِيمَنْ قَتَلَ ذُو نُوَاسٍ،
عَبْدُ اللهِ بْنُ الثّامِرِ رأسهم وإمامهم
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنّهُ حُدّثَ: أَنّ رَجُلًا مِنْ
أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ- رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- حَفَرَ خَرِبَةً مِنْ خَرِبِ نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ،
فَوَجَدُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ الثّامِرِ تَحْتَ دَفْنٍ مِنْهَا قَاعِدًا،
وَاضِعًا يَدَهُ على ضربة فى رأسه، ممسكا عليها بيده، فَإِذَا أُخّرَتْ
يَدُهُ عَنْهَا تَنْبَعِثُ دَمًا، وَإِذَا أُرْسِلَتْ يَدُهُ رَدّهَا
عَلَيْهَا، فَأَمْسَكَتْ دَمُهَا، وَفِي يده خاتم مكتوب فيه: «رَبّي اللهُ»
فَكُتِبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ يُخْبَرُ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ
إلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنْ أَقِرّوهُ عَلَى حَالِهِ
وَرُدّوا عليه الدفن الذى كان عليه، ففعلوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ |