الروض
الأنف ت الوكيل [غَلَبُ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ عَلَى أَمْرِ
مَكّةَ وَجَمْعُهُ أَمْرَ قُرَيْشٍ ومعونة قضاعة له]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ، فَعَلَتْ صُوفَةُ
كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ، وَقَدْ عَرَفَتْ ذَلِكَ لَهَا الْعَرَبُ، وَهُوَ
دِينٌ فِي أَنْفُسِهِمْ فِي عَهْدِ جُرْهُمٍ وَخُزَاعَةَ وَوِلَايَتِهِمْ.
فَأَتَاهُمْ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ
قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، فَقَالَ: لَنَحْنُ
أَوْلَى بِهَذَا مِنْكُمْ، فَقَاتِلُوهُ، فَاقْتَتَلَ النّاسُ قِتَالًا
شَدِيدًا، ثُمّ انْهَزَمَتْ صُوفَةُ، وَغَلَبَهُمْ قُصَيّ عَلَى ما كان
بأيديهم من ذلك.
وَانْحَازَتْ عِنْدَ ذَلِكَ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ عَنْ قُصَيّ،
وَعَرَفُوا أَنّهُ سَيَمْنَعُهُمْ كَمَا مَنَعَ صُوفَةَ، وأنه سيحول بيهم
وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَمْرِ مَكّةَ. فَلَمّا انْحَازُوا عَنْهُ بادأهم،
وأجمع لحربهم، وَخَرَجَتْ لَهُ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ فَالْتَقَوْا،
فَاقْتَتَلُوا قتالا شديدا، حَتّى كَثُرَتْ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ
جَمِيعًا، ثُمّ إنّهُمْ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ، وَإِلَى أَنْ يُحَكّمُوا
بَيْنَهُمْ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ، فَحَكّمُوا يَعْمُرَ بْنَ عوف بن كعب
بن عامر بن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/45)
لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ
بْنِ كِنَانَةَ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِأَنّ قُصَيّا أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ،
وَأَمْرِ مَكّةَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَأَنّ كُلّ دَمٍ أَصَابَهُ قُصَيّ مِنْ
خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ: مَوْضُوعٌ يَشْدَخُهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ،
وَأَنّ مَا أَصَابَتْ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ
وَقُضَاعَةَ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُؤَدّاةٌ، وَأَنْ يُخَلّى بَيْنَ قُصَيّ
وَبَيْنَ الكعبة ومكة.
فَسُمّيَ يَعْمُرُ بْنُ عَوْفٍ يَوْمَئِذٍ: الشّدّاخَ، لِمَا شدخ من الدماه
وَوَضَعَ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَال: الشّدَاخُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَوَلِيَ قُصَيّ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكّةَ،
وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إلَى مَكّةَ، وَتَمَلّكَ عَلَى
قَوْمِهِ وَأَهْلِ مَكّةَ فَمَلّكُوهُ، إلّا أَنّهُ قَدْ أَقَرّ لِلْعَرَبِ
مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَذَلِك أَنّهُ كَانَ يَرَاهُ دِينًا فِي نَفْسِهِ
لَا يَنْبَغِي تَغْيِيرُهُ، فَأَقَرّ آلَ صَفْوَانَ وَعَدْوَانَ
وَالنّسْأَةَ وَمُرّةَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، حَتّى
جَاءَ الْإِسْلَامُ، فَهَدَمَ اللهُ بِهِ ذَلِكَ كُلّهُ. فَكَانَ قُصَيّ
أَوّلَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ أَصَابَ مُلْكًا أَطَاعَ لَهُ بِهِ قومه،
فكانت إليه الحجابة، والسّقاية، وَالرّفَادَةُ، وَالنّدْوَةُ، وَاللّوَاءُ،
فَحَازَ شَرَفَ مَكّةَ كُلّهُ. وَقَطَعَ مَكّةَ رِبَاعًا بَيْنَ قَوْمِهِ،
فَأَنْزَلَ كُلّ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَنَازِلَهُمْ مِنْ مَكّةَ الّتِي
أَصْبَحُوا عَلَيْهَا، وَيَزْعُمُ النّاسُ أَنّ قُرَيْشًا هَابُوا قَطْعَ
شَجَرِ الْحَرَمِ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَقَطَعَهَا قُصَيّ بِيَدِهِ
وَأَعْوَانِهِ، فَسَمّتْهُ قُرَيْشٌ: مُجَمّعًا لِمَا جَمَعَ مِنْ
أَمْرِهَا، وَتَيَمّنَتْ بِأَمْرِهِ، فَمَا تُنْكَحُ امْرَأَةٌ، وَلَا
يَتَزَوّجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ نَزَلَ
بِهِمْ، وَلَا يَعْقِدُونَ لِوَاءً لِحَرْبِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ إلّا
فِي دَارِهِ، يَعْقِدُهُ لَهُمْ بَعْضُ وَلَدِهِ، وَمَا تَدّرِعُ جَارِيَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(2/46)
إذَا بَلَغَتْ أَنْ تَدّرِعَ مِنْ قُرَيْشٍ
إلّا فِي دَارِهِ، يَشُقّ عَلَيْهَا فِيهَا دِرْعَهَا ثُمّ تَدّرِعُهُ،
ثُمّ يَنْطَلِق بِهَا إلَى أَهْلِهَا. فَكَانَ أَمْرُهُ فِي قَوْمِهِ مِنْ
قُرَيْشٍ فِي حَيَاتِهِ، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، كَالدّينِ الْمُتّبِعِ
لَا يُعْمَلُ بِغَيْرِهِ. وَاِتّخَذَ لِنَفْسِهِ دَارَ النّدْوَةِ،
وَجَعَلَ بَابَهَا إلَى مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، فَفِيهَا كَانَتْ قُرَيْشٌ
تَقْضِي أمورها: قال ابن هشام:
وقال الشاعر:
قُصَيّ لَعَمْرِي كَانَ يُدَعّى مُجَمّعًا ... بِهِ جَمَعَ اللهُ
الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ
أَبِيهِ، قال: سمعت السائب ابن خَبّابٍ صَاحِبَ الْمَقْصُورَةِ يُحَدّثُ،
أَنّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُحَدّثُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ،
حَدِيثَ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ، وَمَا جَمَعَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ،
وَإِخْرَاجِهِ خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ مِنْ مَكّةَ، وَوِلَايَتِهِ
الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكّةَ، فَلَمْ يَرُدّ ذَلِكَ عليه ولم ينكره.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا فَرَغَ قُصَيّ مِنْ حَرْبِهِ، انْصَرَفَ
أَخُوهُ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ إلَى بِلَادِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ
قَوْمِهِ، وَقَالَ رِزَاحٌ فى إجابته قصيّا:
لمّا أتى من قصىّ رسول ... فَقَالَ الرّسُولُ: أَجِيبُوا الْخَلِيلَا
نَهَضْنَا إلَيْهِ نَقُودُ الْجِيَادَ ... وَنَطْرَحُ عَنّا الْمَلُولَ
الثّقِيلَا
نَسِيرُ بِهَا اللّيْلَ حَتّى الصّبَاحِ ... وَنَكْمِي النّهَارَ؛ لِئَلّا
نَزُولَا
فَهُنّ سِرَاعٌ كَوِرْدِ الْقَطَا ... يُجِبْنَ بِنَا مِنْ قُصَيّ رَسُولَا
جَمَعْنَا مِنْ السّرّ مِنْ أَشْمَذَيْنِ ... ومن كلّ حىّ جمعنا قبيلا
فيالك حُلْبَةَ مَا لَيْلَة ... تَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ سَيْبًا رسيلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/47)
فلمّا مررن على عسجر ... وأسهلن من مستتاخ
سَبِيلَا
وَجَاوَزْنَ بِالرّكْنِ مِنْ وَرِقَانٍ ... وَجَاوَزْنَ بِالْعَرْجِ حيا
حلولا
مررن على الحيل مَا ذُقْنَهُ ... وَعَالَجْنَ مِنْ مَرّ لَيْلًا طَوِيلَا
نُدْنِي مِنْ الْعُوذِ أَفْلَاءَهَا ... إرَادَةَ أَنْ يَسْتَرِقْنَ
الصّهِيلَا
فَلَمّا انْتَهَيْنَا إلَى مَكّةَ ... أَبَحْنَا الرّجَالَ قَبِيلًا
قَبِيلًا
نُعَاوِرُهُمْ ثُمّ حَدّ السّيُوفِ ... وَفِي كُلّ أَوْبٍ خَلَسْنَا
الْعَقُولَا
نُخَبّزُهُمْ بِصَلَابِ النّسُو ... رِ خَبْزَ الْقَوِيّ الْعَزِيزَ
الذّلِيلَا
قَتَلْنَا خُزَاعَةَ فِي دَارِهَا ... وَبَكْرًا قَتَلْنَا وَجِيلًا
فَجِيلَا
نَفَيْنَاهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمَلِيكِ ... كَمَا لَا يَحِلّونَ أَرْضًا
سُهُولَا
فَأَصْبَحَ سَبْيُهُمْ فِي الْحَدِيدِ ... وَمِنْ كُلّ حىّ شفينا الغليلا
وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ ذُبْيَانَ بن الجارث بن سعد بن
هُذَيْمٍ الْقُضَاعِيّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ قُصَيّ حِينَ دَعَاهُمْ
فَأَجَابُوهُ:
جَلَبْنَا الْخَيْلَ مُضْمَرَةً تَغَالِي ... مِنْ الْأَعْرَافِ أَعْرَافَ
الْجِنَابِ
إلَى غَوْرَى تِهَامَةَ، فَالْتَقَيْنَا ... مِنْ الْفَيْفَاءِ فِي قَاعٍ
يَبَابِ
فَأَمّا صُوفَةُ الْخُنْثَى، فَخَلّوْا ... مَنَازِلَهُمْ مُحَاذَرَةَ
الضّرَابِ
وَقَامَ بنر عَلِيّ إذْ رَأَوْنَا ... إلَى الْأَسْيَافِ كَالْإِبِلِ
الطّرَابِ
وَقَالَ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ:
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيّ ... بِمَكّةَ مَنْزِلِي، وَبِهَا
رَبِيتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/48)
إلَى الْبَطْحَاءِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ
... وَمَرْوَتُهَا رَضِيت بِهَا رَضِيت
فَلَسْت لِغَالِبِ إنْ لَمْ تَأَثّلْ ... بها أولاد قيذر، والنّبيت
رزاح ناصرى، وَبِهِ أُسَامِي ... فَلَسْتُ أَخَافُ ضَيْمًا مَا حَيِيتُ
فَلَمّا اسْتَقَرّ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي بِلَادِهِ، نَشَرَهُ اللهُ
وَنَشَرَ حُنّا، فَهُمَا قَبِيلَا عُذْرَةَ الْيَوْمِ. وَقَدْ كَانَ بَيْنَ
رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ، حِينَ قَدِمَ بِلَادَهُ، وَبَيْنَ نَهْدِ بْنِ
زَيْدِ وَحَوْتَكَةَ بْنِ أَسْلُمَ، وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ قُضَاعَةَ
شَيْءٌ، فَأَخَافَهُمْ حَتّى لَحِقُوا بِالْيَمَنِ، وَأَجْلَوْا مِنْ
بِلَادِ قُضَاعَةَ، فَهُمْ الْيَوْمَ بِالْيَمَنِ، فَقَالَ قُصَيّ بْنُ
كِلَابٍ، وَكَانَ يُحِبّ قُضَاعَةَ وَنَمَاءَهَا وَاجْتِمَاعَهَا
بِبِلَادِهَا، لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِزَاحٍ مِنْ الرّحِمِ، ولبلائهم
عنده إذا أَجَابُوهُ إذْ دَعَاهُمْ إلَى نُصْرَتِهِ، وَكَرِهَ مَا صَنَعَ
بِهِمْ رِزَاحٌ:
أَلَا مِنْ مُبْلِغٍ عَنّي رِزَاحَا ... فَإِنّي قَدْ لَحَيْتُك فِي
اثْنَتَيْنِ
لَحَيْتُك فِي بَنِي نَهْدِ بْنِ زَيْدِ ... كَمَا فَرّقْتَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنِي
وَحَوْتَكَةُ بْنُ أَسْلُمَ إنّ قَوْمًا ... عَنَوْهُمْ بِالْمَسَاءَةِ
قَدْ عَنَوْنِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِزُهَيْرِ بْنِ
جَنَابٍ الْكَلْبِيّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا كَبِرَ قُصَيّ وَرَقّ عَظْمُهُ، وَكَانَ
عَبْدُ الدّارِ بِكْرَهُ، وَكَانَ عَبْدُ مَنَافٍ قَدْ شَرُفَ فِي زَمَانِ
أَبِيهِ، وَذَهَبَ كُلّ مَذْهَبٍ، وَعَبْدُ الْعُزّى وَعَبْدٌ. قَالَ
قُصَيّ لِعَبْدِ الدّارِ: أَمَا وَاَللهِ يَا بُنَيّ لِأُلْحِقَنّك
بِالْقَوْمِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ شَرُفُوا عَلَيْك: لَا يَدْخُلُ رَجُلٌ
مِنْهُمْ الْكَعْبَةَ، حَتّى تَكُونَ أَنْت تَفْتَحُهَا لَهُ، وَلَا
يَعْقِدُ لِقُرَيْشٍ لِوَاءً لِحَرْبِهَا إلّا أَنْت بِيَدِك، وَلَا
يَشْرَبُ أَحَدٌ بِمَكّةَ إلّا مِنْ سِقَايَتِك، وَلَا يَأْكُلُ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْمَوْسِمِ طَعَامًا إلّا مِنْ طَعَامِك، وَلَا تقطع قريش
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/49)
أمرا من أمورها إلا فى دَارِك، فَأَعْطَاهُ
دَارَهُ دَارَ النّدْوَةِ، الّتِي لَا تَقْضِي قُرَيْشٌ أَمْرًا مِنْ
أُمُورِهَا إلّا فِيهَا، وأعطاه الحجابة واللواء والسّقاية والرّفادة.
[من فرض الرفادة:]
وَكَانَتْ الرّفَادَةُ خَرْجًا تُخْرِجُهُ قُرَيْشٌ فِي كلّ موسم من
أموالها إلى قصىّ ابن كِلَابٍ، فَيَصْنَعُ بِهِ طَعَامًا لِلْحَاجّ،
فَيَأْكُلُهُ مَنْ لم يكن له سعة ولازاد، وَذَلِك أَنّ قُصَيّا فَرَضَهُ
عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَمَرَهُمْ بِهِ: يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ، إنّكُمْ جِيرَانُ اللهِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَأَهْلُ الْحَرَمِ،
وَإِنّ الْحَاجّ ضَيْفُ اللهِ وَزُوّارُ بَيْتِهِ، وَهُمْ أَحَقّ الضّيْفِ
بِالْكَرَامَةِ، فَاجْعَلُوا لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا أَيّامَ الْحَجّ،
حَتّى يَصْدُرُوا عَنْكُمْ، فَفَعَلُوا، فَكَانُوا يُخْرِجُونَ لِذَلِك
كُلّ عَامٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَرْجًا، فَيَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ،
فَيَصْنَعُهُ طَعَامًا لِلنّاسِ أَيّامَ مِنًى، فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى قَوْمِهِ حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ،
ثُمّ جَرَى فِي الْإِسْلَامِ إلَى يَوْمِك هَذَا، فَهُوَ الطّعَامُ الّذِي
يَصْنَعُهُ السّلْطَانُ كُلّ عَامٍ بِمَنَى لِلنّاسِ حَتّى يَنْقَضِيَ
الْحَجّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي بِهَذَا مِنْ أَمْرِ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ،
وَمَا قَالَ لِعَبْدِ الدّارِ فِيمَا دُفِعَ إلَيْهِ مِمّا كَانَ بِيَدِهِ:
أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ الْحَسَنِ بن محمد ابن عَلِيّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، قَالَ:
سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ لِرَجُلِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ، يُقَالُ
لَهُ: نُبَيْهُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنُ عَامِرِ
بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ.
قَالَ الْحَسَنُ: فَجَعَلَ إلَيْهِ قُصَيّ كُلّ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ
أَمْرِ قَوْمِهِ، وَكَانَ قُصَيّ لَا يُخَالَفُ، وَلَا يُرَدّ عَلَيْهِ شىء
صنعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/50)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمُ بِالْأَمَارَاتِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ عَامِرُ بْنُ الظّرِبِ وَحُكْمُهُ فِي الْخُنْثَى، وَمَا
أَفْتَتْهُ بِهِ جَارِيَتُهُ سُخَيْلَةُ، وَهُوَ حُكْمٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي
الشّرْعِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ
وَالْعَلَامَاتِ، وَلَهُ أصل فى الشريعة، قال الله سبحانه: (وجاؤا على
قميصه بدم كذب) وَجْهُ الدّلَالَةِ عَلَى الْكَذِبِ فِي الدّمِ أَنّ
الْقَمِيصَ الْمُدْمَى لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَرْقٌ وَلَا أَثَرٌ لِأَنْيَابِ
الذّئْبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُبُلٍ
[فَصَدَقَتْ، وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ] . يُوسُفَ: 26) الْآيَةَ.
وَقَوْلُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْلُودِ:
«إنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيّا فَهُوَ لِلّذِي رُمِيَتْ
بِهِ «1» » فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَمَارَاتِ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ
كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْحُدُودِ وَالْمِيرَاثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْحُكْمُ فِي الْخُنْثَى أَنْ يُعْتَبَرَ الْمَبَالُ، وَيُعْتَبَرَ
بِالْحَيْضِ، فَإِنْ أَشْكَلَ مِنْ كُلّ وَجْهٍ، حُكِمَ بِأَنْ يَكُونَ
لَهُ فِي الْمِيرَاثِ سَهْمُ امْرَأَةٍ وَنِصْفٌ، وَفِي الدّيَةِ كَذَلِكَ،
وَأَكْثَرُ أَحْكَامِهِ مَبْنِيّةٌ عَلَى الاجتهاد.
__________
(1) هذا جزء من حديث- رواه أبو داود مطولا، وفى إسناده عباد بن منصور، وقد
تكلم فيه غير واحد، وهو فى قذف هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين خلفوا
امرأته بشريك بن سحماء، فشكا ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم فطلب منه
الرسول «ص» البينة، وإلا أقام عليه الحد، فنزلت آيات اللعان من سورة النور،
وقد روى قصة هلال: الجماعة وأحمد، والجعد: القصير الشعر، والأورق: الأسمر
مع بياض. والجمالى: العظيم الخلق كأنه الجمل، وقد طلب النبى صلى الله عليه
وسلم أن تترك المرأة حتى تلد، فجاءت بالولد فى صفات الرجل الذى رميت به،
فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لى ولها شأن» .
(2/51)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشّدّاخُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ يَعْمَرَ الشّدّاخَ بْنَ عَوْفٍ حِينَ حَكّمُوهُ،
وَأَنّهُ سُمّيَ بِالشّدّاخِ لَمّا شَدَخَ مِنْ دِمَاءِ خُزَاعَةَ «1»
وَيَعْمَرُ الشّدّاخُ هُوَ جَدّ بَنِي دَأْبٍ الّذِينَ أُخِذَ عَنْهُمْ
كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْسَابِ وَهُمْ: عِيسَى بْنُ
يَزِيدَ بن [بكر] ابن دَأْبٍ، وَأَبُوهُ: يَزِيدُ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ
دَأْبٍ، وَدَأْبٌ هُوَ: ابْنُ كُرْزِ بْنِ أَحْمَرَ مِنْ بَنِي يَعْمَرَ
بْنِ عَوْفٍ الّذِي شَدَخَ دِمَاءَ خُزَاعَةَ، أَيْ: أَبْطَلَهَا، وَأَصْلُ
الشّدْخِ:
الْكَسْرُ وَالْفَضْخُ، وَمِنْهُ الْغُرّةُ الشّادِخَةُ، شُبّهَتْ
بِالضّرْبَةِ الْوَاسِعَةِ. وَالشّدّاخُ بِفَتْحِ الشّينِ كَمَا قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ، وَالشّدّاخُ بِضَمّهَا إنّمَا هُوَ جَمْعٌ، وَجَائِزٌ أَنْ
يُسَمّى هُوَ وَبَنُوهُ: الشّدّاخَ، كَمَا يُقَالُ: الْمَنَاذِرَةُ فِي
الْمُنْذِرِ وَبَنِيهِ، وَالْأَشْعَرُونَ فِي بَنِي الْأَشْعَرِ مِنْ
سَبَأٍ «2» وَهُوَ بَابٌ يَكْثُرُ وَيَطُولُ. وَأُمّ يَعْمَرَ الشّدّاخِ
اسْمُهَا: السّؤْمُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ جُرّةَ بِضَمّ الْجِيمِ،
وَسَيَأْتِي ذِكْرُ جِرّةَ بِالْكَسْرِ «3» ذَكَرَهُ ابْنُ ما كولا. وَمِنْ
بَنِي الشّدّاخِ: بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عبد الله بن يعمر
__________
(1) فى الاشتقاق: «إنما سمى الشداخ لأنه أصلح بين قريش وخزاعة فى الحرب
التى كانت بينهم، فقال: شدخت الدماء تحت قدمىّ، والشّدخ: وطؤك الشىء حتى
تفضخه، والفرس الشادخ: الذى انتشرت غرته فى وجهه، ولم تبلغ العينين،
والجمع: شوادخ، والفضخ: الكسر، ويذكر السهيلى عيسى بن يزيد بن دأب، وهو فى
الاشتقاق: عِيسَى بْنُ يَزِيدَ بْنِ بَكْرِ بْنِ دَأْبٍ.
(2) الأشعر هو: نبت بن زيد بن كهلان بن سبأ.
(3) فى القاموس: السوم بفتح السين وواو ساكنة بنت جرة بكسر الجيم: أعرابية،
وفيه: يزيد بن الأخنس بن جرة بضم الجيم: صحابى.
(2/52)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشّدّاخُ الشّاعِرُ الْمَذْكُورُ فِي شِعْرِ الْحَمَاسَةِ، اسْمُهُ:
حُمَيْضَةُ، وَلُقّبَ:
بَلْعَاءَ «1» لِقَوْلِهِ:
أَنَا ابْنُ قَيْسٍ سَبُعًا وَابْنَ سَبُعْ ... أَبَارَ مِنْ قَيْسٍ
قَبِيلًا فَالْتَمَعْ
كَأَنّمَا كَانُوا طَعَامًا فَابْتُلِعْ
(وِلَايَةُ قُصَيّ الْبَيْتَ) ذَكَرَ فِيهِ أَمْرَ قُصَيّ وَمَا جَمَعَ
مِنْ أَهْلِ مَكّةَ، وَأَنْشَدَ:
قُصَيّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجَمّعًا
«2» . الْبَيْتَ وَبَعْدَهُ:
هُمُوا مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَسُوْدُدًا ... وَهُمْ طَرَدُوا
عَنّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرِ
وَيَذْكُرُ أَنّ هَذَا الشّعْرَ لِحُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ.
وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا قَطّعَ مَكّةَ رِبَاعًا «3» ، وَأَنّ أَهْلَهَا
هَابُوا قَطْعَ شَجَرِ الْحَرَمِ للبنيان. وقال الْوَاقِدِيّ: الْأَصَحّ
فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ أَرَادُوا الْبُنْيَانَ قَالُوا
لِقُصَيّ: كَيْفَ نَصْنَعُ فى شجر الحرم، فحذّرهم قطعها وخوّفهم
__________
(1) فى الاشتقاق: بلعاء من قولهم: بئر بلعاء: واسعة، ورجل بلع إذا كان
نهما، وقد أخرج له أبو تمام فى ديوان الحماسة ثلاثة أبيات، أولها:
وفارس فى غمار الموت منغمس ... إذا تألىّ على مكروهة صدقا
غمار الموت: شدائده، تألى: حلف، وفى اللسان: حمضة اسم حى بلعاء وقد كان
بلعاء رئيسا فى الجاهلية، وشهد حرب الفجار الثانى، ومات فى تلك الأيام
(2) فى الطبرى 256 ج 2، أبوكم قصى كان يدعى مجمعا.
(3) دورا.
(2/53)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعُقُوبَةَ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَحُوفُ بِالْبُنْيَانِ
حَوْلَ الشّجَرَةِ، حَتّى تَكُونَ فِي مَنْزِلِهِ. قَالَ: فَأَوّلُ مَنْ
تَرَخّصَ فِي قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ للبنيان عبد الله ابن الزّبَيْرِ
حِينَ ابْتَنَى دُورًا بِقُعَيْقِعَانَ، لَكِنّهُ جَعَلَ دِيَةَ كُلّ
شَجَرَةٍ: بَقَرَةً، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عمر- رضى الله- أَنّهُ قَطَعَ
دَوْحَةً كَانَتْ فِي دَارِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، كَانَتْ تَنَالُ
أَطْرَافُهَا ثِيَابَ الطّائِفِينَ بِالْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُوَسّعَ الْمَسْجِدُ، فَقَطَعَهَا عُمَرُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-
وَوَدَاهَا بَقَرَةً، ومذهب مالك- رحمه الله- فى ذلك: ألّادية فِي شَجَرِ
الْحَرَمِ. قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَدْ أَسَاءَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَأَمّا الشّافِعِيّ- رَحِمَهُ اللهُ-
فَجَعَلَ فِي الدّوْحَةِ بَقَرَةً، وَفِيمَا دُونَهَا شَاةً. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللهُ- إنْ كَانَتْ الشّجَرَةُ الّتِي فِي الْحَرَمِ
مِمّا يَغْرِسُهَا النّاسُ، ويَسْتَنْبِتُونها، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ
قَطَعَ شَيْئًا مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا، فَفِيهِ الْقِيمَةُ
بَالِغًا مَا بَلَغَتْ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا- أَفْتَى فِيهَا بِعِتْقِ «1» رقبة.
__________
(1) وفى الثقرى للمحب الطبرى: «عن عطاء أنه كان يقول فى المحرم: إذا قطع
شجرة عظيمة من شجر الحرم فعليه بدنة، وفى الدوحة: بقرة. وعنه أنه سئل عمن
قطع من شجر الحرم، فقال: يستغفر الله عز وجل ولا يعود، وعنه أنه كان يرخص
فى القصب والشوك. والسّنى: نوع من النبات. وعنه لا بأس أن يجنى الكمأة من
الحرم ولا بأس بالسعشرق (نبات يتفرش على وجه الأرض عريض الورق وليس له شوك)
والكمأة جمع مفرده: كمء، والكمء: نبات ينفض الأرض، فيخرج كما يخرج الفطر،
يأكله الناس والحيوان، على أنه ورد فى حديث أخرجه البخارى ومسلم أن الحرم
لا يعضد شوكه، أى: لا يقطع.
(2/54)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دَارُ النّدْوَةِ:
وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا اتّخَذَ دَارَ النّدْوَةِ، وَهِيَ الدّارُ الّتِي
كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا لِلتّشَاوُرِ، وَلَفْظُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ
لَفْظِ النّدِيّ وَالنّادِي وَالْمُنْتَدَى، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ
الّذِي يَنْدُونَ حَوْلَهُ، أَيْ: يَذْهَبُونَ قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمّ
يَرْجِعُونَ إلَيْهِ، وَالتّنْدِيَةُ فِي الْخَيْلِ. أَنْ تُصْرَفَ عَنْ
الْوِرْدِ إلَى الْمَرْعَى قَرِيبًا، ثُمّ تُعَادُ إلَى الشّرْبِ، وَهُوَ
الْمُنَدّى «1» ، وَهَذِهِ الدّارُ تَصَيّرَتْ بَعْدَ بَنِي عبد الدار إلى
حكيم بن حزام ابن خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ
قُصَيّ، فَبَاعَهَا فِي الْإِسْلَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ
فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، فَلَامَهُ مُعَاوِيَةُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ:
أَبِعْت مَكْرُمَةَ آبَائِك وَشَرَفِهِمْ، فَقَالَ حَكِيمٌ: ذَهَبَتْ
الْمَكَارِمُ إلّا التّقْوَى. وَاَللهِ: لَقَدْ اشْتَرَيْتهَا فِي
الْجَاهِلِيّةِ بِزِقّ خَمْرٍ، وَقَدْ بِعْتهَا بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَأُشْهِدُكُمْ أَنّ ثَمَنَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَيّنَا
الْمَغْبُونُ؟! ذَكَرَ خَبَرَ حَكِيمٍ هذا الدار قطنى فِي أَسْمَاءِ
رِجَالِ الْمُوَطّأِ لَهُ.
مِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ رِزَاحٍ.
فَصْلٌ: وَذَكَرَ شِعْرَ رِزَاحٍ، وَفِيهِ: وَنَكْمِي النّهَارَ أَيْ:
نَكْمُنُ وَنَسْتَتِرُ، وَالْكَمِيّ مِنْ الْفُرْسَانِ، الّذِي تَكَمّى
بِالْحَدِيدِ. وَقِيلَ: الّذِي يَكْمِي شَجَاعَتَهُ، أَيْ: يَسْتُرُهَا،
حَتّى يُظْهِرَهَا عِنْدَ الْوَغَى. وَفِيهِ: مَرَرْنَا بِعَسْجَرَ،
وَهُوَ: اسْمُ مَوْضِعٍ، وَكَذَلِكَ: وَرِقَانُ اسْمُ جَبَلٍ، وَوَقَعَ فِي
نُسْخَةِ سُفْيَانَ: وَرَقَانُ بِفَتْحِ الرّاءِ، وَقَيّدَهُ أَبُو
عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ: ورقان بكسر الراء، وأنشد للأحوص:
__________
(1) والمنتدى أيضا من أسماء النادى الذى هو مجتمع مجلس القوم ومتحدثهم
والمندى: مكان ورد الإبل.
(2/55)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَيْفَ نُرَجّي الْوَصْلَ مِنْهَا وَأَصْبَحَتْ ... ذُرَى وَرِقَانٍ «1»
دُونَهَا وَحَفِيرُ
وَيُخَفّفُ، فَيُقَالُ: وَرْقَانُ. قَالَ جَمِيلٌ:
يَا خَلِيلَيّ إنّ بَثْنَةَ بَانَتْ ... يَوْمَ وَرْقَانَ بِالْفُؤَادِ
سَبِيّا
وَذَكَرَ أَنّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْجِبَالِ، وذكر أن فيه أو شالا «2»
وَعُيُونًا عِذَابًا، وَسَكّانُهُ: بَنُو أَوْسِ بْنِ مُزَيْنَةَ.
وَذَكَرَ أَيْضًا الْحَدِيثَ، وَهُوَ قَوْلُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ضِرْسُ الْكَافِرِ فِي النّارِ مِثْلُ أُحُدٍ،
وَفَخِذُهُ مِثْلُ وَرِقَانٍ» «3» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ ذَكَرَ آخِرَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ، فَقَالَ:
رَجُلَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يَنْزِلَانِ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الْعَرَبِ،
يُقَالُ لَهُ: وَرِقَانُ «4» كُلّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْبَكْرِيّ فِي
كِتَابِ مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ.
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَشْمَذِينَ بِكَسْرِ الذّالِ، وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ
سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِ:
الْأَشْمَذَانِ: جَبَلَانِ [بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ] ، ويقال: اسم
قبيلتين، ثم قال فى
__________
(1) ورقان- بالفتح ثم الكسر- ويروى بسكون الراء: جبل أسود بين العرج
والرويثة على يمين المصعد من المدينة إلى مكة، وهو من جبال تهامة.
(2) مياه تسيل من أعراض الجبال، فتجتمع ثم تساق إلى المزارع.
(3) رواه أحمد فى مسنده والحاكم فى مستدركه عن أبى هريرة.
(4) الذى فى الحاكم: «آخر من حشر: راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان
بضمهما فيجدانها وحوشا، حتى إذا بلغا ثنيّة الوداع خرا على وجوههما» ومثل
هذه الأحاديث لا يعتد بها.
(2/56)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَاشِيَةِ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الرّوَايَةُ بِفَتْحِ الذّالِ
وَكَسْرِ النّونِ مِنْ أَشْمَذَيْنِ- قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللهُ-
فَإِنْ صَحّ أَنّهُمَا اسْمُ قَبِيلَتَيْنِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ
الرّوَايَةُ كَمَا فِي الْأَصْلِ: أَشْمَذِينَ «1» بِكَسْرِ الذّالِ،
لِأَنّهُ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى. واشتقاق الأشمذ من شمذت النّاقَةِ
بِذَنَبِهَا أَيْ: رَفَعَتْهُ، وَيُقَالُ لِلنّحْلِ: شُمّذٌ، لِأَنّهَا
تَرْفَعُ أَعْجَازَهَا.
وَفِيهِ: مَرَرْنَ عَلَى الْحَيْلِ «2» وَفَسّرَهُ الشّيْخُ فِي حَاشِيَةِ
الْكِتَابِ، فَقَالَ:
هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَنْقَعُ فِي بَطْنِ وَادٍ، وَوَجَدْت فِي غَيْرِ
أَصْلِ الشّيْخِ رِوَايَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا:
مَرَرْنَ عَلَى الْحِلّ وَالْأُخْرَى: مَرَرْنَ عَلَى الْحِلْيِ، فَأَمّا
الْحِلّ: فَجَمْعُ حِلّةٍ، وَهِيَ بَقْلَةٌ شَاكّةٌ «3» . ذَكَرَهُ ابْنُ
دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ. وَأَمّا الْحِلْيُ، فَيُقَالُ: إنّهُ ثمر
القلقلان «4» وهو نبت.
__________
(1) فى المراصد: أشمذين- بفتح أوله والميم والذال مفتوحتان، والياء ساكنة
والنون مكسورة بلفظ التثنية: جبلان بين المدينة وخيبر تنزلهما جهينة وأشجع.
(2) الحيل فى اللسان كما ذكر الشيخ، وأيضا: القطيع من الغنم، وحجارة تحدر
من جوانب الجبل إلى أسفله وفى الأصل «الجبل» وهو خطأ.
(3) وفى اللسان والقاموس: شجرة شاكّة.
(4) عرق هذا الشجر المغاث، وقد خطأ أبوذر فى شرحه للسيرة هذا الرأى لأن اسم
النبات: الحلى بتشديد الياء وكسر اللام. وذكر أنه اسم موضع. ورزاح بن ربيعة
بكسر الراء، وغيره بالكسر وبالفتح. ومن معانى مفردات قصيدة رزاح: الورد:
الواردة. الحلبة: جماعة الخيل. السيب: المشى السريع فى رفق كانسياب الحية.
الرسيل: المشى الذى فيه تمهل. وعسجر: موضع قرب مكة. أسهل: حل الموضع السهل،
العرج: واد من نواحى الطائف. العوذ: جمع عائذ: الناقة أو الفرس التى لها
أولاد. والأفلاء: جمع فلو، المهر العظيم. نعاور:
(2/57)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ فِيهَا: نُخَبّزُهُمْ. أَيْ: نَسُوقُهُمْ سَوْقًا شَدِيدًا،
وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ الرّاجِزِ. لَا تَخْبِزَا خَبْزًا وَبُسّا بَسّا.
وَذَكَرَ شِعْرَ رِزَاحٍ الْآخَرَ، وَفِيهِ: مِنْ الْأَعْرَافِ أَعْرَافِ
الْجِنَابِ. بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ قُضَاعَةَ.
وَفِيهِ: وَقَامَ بَنُو عَلِيّ، وَهُمْ بَنُو كِنَانَةَ، وَإِنّمَا سُمّوا
بِبَنِي على؛ لأنّ عبد مناة ابن كِنَانَةَ كَانَ رَبِيبًا لِعَلِيّ بْنِ
مَسْعُودِ بْنِ مازن من الأزدجدّ سَطِيحٍ الْكَاهِنِ، فَقِيلَ لِبَنِي
كِنَانَةَ: بَنُو عَلِيّ، وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ فِي هَذَا الْبَيْتِ بَنِي
بَكْرِ ابن عَبْدِ مَنَاةَ؛ لِأَنّهُمْ قَامُوا مَعَ خُزَاعَةَ.
شِعْرُ قُصَيّ والعذرتان:
وَذَكَرَ شِعْرَ قُصَيّ: أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيّ.
الْأَبْيَاتَ. وَلَيْسَ فِيهَا مَا يشكل.
__________
نداول مرة بعد أخرى. الأوب: الرجوع. وصلاب النسور: النسور: جمع نسر، وهو
اللحم اليابس الذى فى باطن الحافر. وصلاب النسور كناية عن الخيل القوية،
ومن مفردات قصيدة ثعلبة: التغالى من المغالاة، وهى ارتفاع الدابة فى سيرها
ومجاوزتها حسن السير. والغور: أصله ما تدخل من الأرض، وانهبط، ومنه: غور
تهامة، وكل ما وصف به تهامة، فهو من صفة الغور؛ لأنهما اسمان لمسمى واحد.
والفيفاء: الصحراء. القاع: أرض مستوية مطمئنة عما يحيط بها من الجبال
والاكام، تنصب إليها الأمطار، فتمسكها، ثم تنبت العشب، الضراب: يقال: ضرب
الفحل ضرابا: أتى الناقة. والطراب: الإبل التى اشتاقت إلى موطنها.
(2/58)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ أَنّ رِزَاحًا حِينَ اسْتَقَرّ فِي بِلَادِهِ نشر الله ولده وولد
حنّ، ابن رَبِيعَةَ، فَهُمَا حَيّا عُذْرَةَ.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: فِي قُضَاعَةَ: عُذْرَتَانِ: عُذْرَةُ بْنُ رُفَيْدَةَ،
وَهُمْ مِنْ بنى كلب ابن وَبْرَةَ. وَعُذْرَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سُودِ بْنِ
أَسْلُمِ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ، وَأَسْلُمُ هَذَا هُوَ بِضَمّ
اللّامِ مِنْ وَلَدِ حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ أَخِي رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ
جَدّ جَمِيلِ بن عبد الله ابن مَعْمَرٍ صَاحِبِ بُثَيْنَةَ، وَمَعْمَرٌ
هُوَ ابْنُ وَلَدِ الحارث بن خبير بْنِ ظَبْيَانَ، وَهُوَ الضّبِيسُ بْنُ
حُنّ. وَبُثَيْنَةُ أَيْضًا مِنْ وَلَدِ حُنّ، وَهِيَ بِنْتُ حِبّانَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ الْهَوْذِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحَبّ بْنِ حُنّ [وَفِي
قُضَاعَةَ أَيْضًا عُذْرَةُ بْنُ عَدِيّ، وَفِي الْأَزْدِ: عُذْرَةُ بْنُ
عَدّاد] .
حَوْتَكَةُ وَأَسْلُمٌ:
وَذَكَرَ حَوْتَكَةَ بْنَ أَسْلُمٍ وَبَنِيّ نهد بن زيد وإجلاء رزاح لهم
«1»
__________
(1) نسب جميل فى جمهرة أنساب العرب: جميل بن عبد الله بن معمر ابن الحارث
بن الخبير [فى الروض ابن خيبر فى] ابن طبيان، وهو خبيس بن جر بن ربيعة،
ويتفق الأغانى مع الجمهزة حتى الحارث، وبعدها يقول الأغانى «ابن ظبيان بن
قيس بن جزء بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير، بن عذرة بن سعد- وهو
هذيم، سمى بذلك إضافة لاسمه إلى عبد لأبيه، يقال له: هذيم، وكان يحضنه،
فغلب عليه، وفى الاشتقاق كذلك عن سعد وهذيم- بن زيد بن سود بن أسلم بن
الحاف بن قضاعة. ونسب بثينة فى الجمهرة: بثينة بنت حبّا ابن ثعلبة بن الهوذ
بن عمرو بن الأحبّ بن جرير بن ربيعة. لأبيها صحبة ص 420 جمهرة. وفى
الأغانى: بنت حبأ بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن
(2/59)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَحَوْتَكَةُ هُوَ: عَمّ نَهْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلُمٍ، وَلَيْسَ فِي
الْعَرَبِ أَسْلُمٌ بِضَمّ اللّامِ إلّا ثَلَاثَةٌ. اثْنَانِ مِنْهَا فِي
قُضَاعَةَ، وَهُمَا: أَسْلُمُ بْنُ الْحَافّ هَذَا، وَأَسْلُمُ بْنُ
تَدُولَ ابن تيم الّلات «1» بن رفيدة بن ثورين كَلْبِ، وَالثّالِثُ فِي
عَكّ أَسْلُمُ بْنُ الْقَيَاتَةِ بْنِ غَابِنِ «2» بْنِ الشّاهِدِ بْنِ
عَكّ، وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ فَأَسْلَمُ بِفَتْحِ اللّامِ.
ذَكَرَهُ ابْنُ حبيب فى المؤتلف والمختلف.
__________
الأحب بن حن بن ربيعة. وفى الاشتقاق عن عذرة بن رفيدة، وكذلك فى جمهرة ابن
حزم: أنه عذرة بْنِ زَيْدِ اللّاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ
كَلْبِ بْنِ وبرة. وفى كتاب متفق القبائل لابن حبيب، وفى قضاعة: عذرة بن
سعد، وفى كلب: عذرة ابن زيد اللات، وعذرة بْنُ عَدِيّ، وَفِي الْأَزْدِ:
عُذْرَةُ بْنُ عَدّاد، وفى الجمهرة لابن حزم ضبط أسلم بفتح اللام مرة،
وبضمها فى مكان آخر، وفيها ما يأتى: ولد أسلم بن الحافى: سود بن أسلم. فولد
سود بن أسلم ليث وحوتكة «بفتح الحاء وإسكان الواو» بطن بمصر مع بنى خميس بن
جهينة، وإياس بن سود، وهم فى بنى لؤى بن عذرة. وفى أمالى ابن الشجرى عن
الحاف أنه مما حذفت العرب ياءه اجتزاء بالكسر مثل: العاص فى اسم العاص بن
أمية، والعاص بن وائل السهمى، ومثل اليمان فى أبى حذيقة اليمان، ومثل الداع
فى قوله سبحانه: «أجيب دعوة الداع إذا دعان» انظر الاشتقاق فى قبائل قضاعة،
وص 415 جمهرة. ونقلت ما ذكرت عن ابن الشجرى من تعليق للأستاذ هرون فى
الاشتقاق. وفى الاشتقاق عن هوذى أنه هوذة.
(1) فى الجمهرة والاشتقاق وغيرهما: زيد اللات. ولكن ورد فى الجمهرة ص 429
وهو يتحدث عن بنى كلب بن وبرة: «وبنو أسلم بضم اللام بن تدول بن تيم اللات
بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة» .
(2) فى الجمهرة: أسلم بن القيانة بن غافق، ومنهم كان أمير الأندلس. وفى
اللسان عن أسلم بضم اللام نقل عن كراع أنه جمع: سلم، وذكر أنه لم يفسر أى:
سلم- بفتح فسكون- يعنى، ثم نقل أنه قد يكون جمع سلم- بفتح فسكون- وهى الدلو
العظيمة.
(2/60)
|