الروض الأنف ت الوكيل

 [بين النبى (ص) وبين قريش]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ الْإِسْلَامَ جَعَلَ يَفْشُو بِمَكّةَ فِي قَبَائِل قُرَيْشٍ فِي الرّجَالِ وَالنّسَاءِ، وَقُرَيْشٌ تَحْبِسُ مَنْ قَدَرَتْ عَلَى حَبْسِهِ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم إن أشراف قُرَيْشٍ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ- كَمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عباس رضي الله عنهما قال:
اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وأبو سفيان بن حرب، والنّضر بن الحارث، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بن هشام- لعنه الله- وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ السّهْمِيّانِ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، أَوْ مَنْ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ. قَالَ:
اجْتَمِعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:
ابْعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ فَكَلّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتّى تُعْذِرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إلَيْهِ: إنّ أَشْرَافَ قَوْمِك قَدْ اجْتَمَعُوا لَك لِيُكَلّمُوك، فَأْتِهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- سَرِيعًا، وَهُوَ يَظُنّ أَنْ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِيمَا كَلّمَهُمْ فِيهِ بَدَاءٌ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حريصا يحب رشدهم، ويعزّ عليه عنهم، حَتّى جَلَسَ إلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمّدُ، إنّا قَدْ بَعَثْنَا إلَيْك؛ لِنُكَلّمَك، وَإِنّا وَاَللهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِك، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/122)


الدّينَ، وَشَتَمْت الْآلِهَةَ، وَسَفّهْت الْأَحْلَامَ، وَفَرّقْت الْجَمَاعَةَ، فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إلّا قَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَك- أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ- فَإِنْ كُنْتَ إنّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إنّمَا تَطْلُبُ بِهِ الشّرَفَ فِينَا، فَنَحْنُ نُسَوّدُك عَلَيْنَا، وَإِنْ كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رِئْيًا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْك- وَكَانُوا يُسَمّونَ التّابِعَ مِنْ الْجِنّ رِئْيًا- فَرُبّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا لَك أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطّبّ لَك حَتّى نُبْرِئَك مِنْهُ، أَوْ نُعْذِرَ فِيك، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ. وَلَكِنّ اللهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عَلَيّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللهِ حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، أَوْ كَمَا قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: يَا مُحَمّدُ، فَإِنْ كُنْت غَيْرَ قَابِلٍ مِنّا شَيْئًا مِمّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْك، فَإِنّك قَدْ عَلِمْتَ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ النّاسِ أَحَدٌ أَضْيَقَ بَلَدًا، وَلَا أَقَلّ مَاءً، وَلَا أَشَدّ عَيْشًا مِنّا، فَسَلْ لَنَا رَبّك الّذِي بَعَثَك بِمَا بَعَثَك بِهِ، فَلْيُسَيّرْ عَنّا هَذِهِ الْجِبَالَ الّتِي قَدْ ضَيّقَتْ عَلَيْنَا، وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُفَجّرْ لَنَا فِيهَا أَنَهَارًا كَأَنْهَارِ الشّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يُبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ: قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ، فَإِنّهُ كَانَ شَيْخَ صِدْقٍ، فَنَسْأَلَهُمْ عَمّا تَقُولُ: أَحَقّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، فَإِنْ صَدّقُوك، وَصَنَعْتَ مَا سَأَلْنَاك، صَدّقْنَاك، وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/123)


مِنْ اللهِ، وَأَنّهُ بَعَثَك رَسُولًا- كَمَا تَقُول- فَقَالَ لَهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ:
مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إلَيْكُمْ، إنّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ اللهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، وَقَدْ بَلّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْت بِهِ إلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ، فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر اللهِ تَعَالَى، حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا، فخذ لنفسك، سل رَبّك أَنْ يَبْعَثَ مَعَك مَلَكًا يُصَدّقُك بِمَا تَقُولُ، وَيُرَاجِعُنَا عَنْك وَسَلْهُ، فَلْيَجْعَلْ لَك جَنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضّةٍ يُغْنِيك بِهَا عَمّا نَرَاك تَبْتَغِي، فَإِنّك تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ كَمَا نَقُومُ، وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتّى نَعْرِفَ فَضْلَك وَمَنْزِلَتَك مِنْ رَبّك إنْ كُنْت رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِفَاعِلِ، وَمَا أَنَا بِاَلّذِي يَسْأَلُ رَبّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْت إلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنّ اللهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا- أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللهِ، حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا:
فَأَسْقِطْ السّمَاءَ عَلَيْنَا كسفا كما زعمت أن ربّك لو شَاءَ فَعَلَ، فَإِنّا لَا نُؤْمِنُ لَك إلّا أَنْ تَفْعَلَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَلِكَ إلَى اللهِ، إنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ، قَالُوا: يَا مُحَمّدُ، أَفَمَا عَلِمَ رَبّك أَنّا سَنَجْلِسُ مَعَك، وَنَسْأَلُك عَمّا سَأَلْنَاك عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْك مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدّمَ إلَيْك فَيُعَلّمَك مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرُك مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا، إذا لَمْ نَقْبَلْ مِنْك مَا جِئْتنَا بِهِ! إنّهُ قَدْ بَلَغْنَا أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَال لَهُ: الرّحْمَنُ، وَإِنّا وَاَللهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إلَيْك يَا مُحَمّدُ، وَإِنّا وَاَللهِ لَا نَتْرُكُك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/124)


وَمَا بَلَغْتَ مِنّا حَتّى نُهْلِكَك، أَوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللهِ. وَقَالَ: قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتّى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.
فَلَمّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَامَ عَنْهُمْ، وَقَامَ مَعَهُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ- وَهُوَ ابْنُ عَمّتِهِ فَهُوَ لِعَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ- فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمّدُ، عَرَضَ عَلَيْك قَوْمُك مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمّ سَأَلُوك لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا، لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَك مِنْ اللهِ كَمَا تَقُول، وَيُصَدّقُوك وَيَتّبِعُوك فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمّ سَأَلُوك أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِك مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَك عَلَيْهِمْ، وَمَنْزِلَتَك مِنْ اللهِ، فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمّ سَأَلُوك أَنْ تُعَجّلَ لَهُمْ بَعْضَ مَا تُخَوّفُهُمْ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ، فَلَمْ تَفْعَلْ- أَوْ كما قال له- فو الله لَا أُومِنُ بِك أَبَدًا حَتّى تَتّخِذَ إلَى السّمَاءِ سُلّمًا، ثُمّ تَرْقَى فِيهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْكَ حَتّى تَأْتِيَهَا، ثُمّ تَأْتِي مَعَك أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَك أَنّك كَمَا تَقُول.
وايم الله أن لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَا ظَنَنْتُ أَنّي أُصَدّقُك، ثُمّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى الله عليه وسلم- إلى أهله جزينا آسِفًا لِمَا فَاتَهُ مِمّا كَانَ يَطْمَعُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ، وَلِمَا رَأَى مِنْ مباعدتهم إياه.
فَلَمّا قَامَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ مُحَمّدًا قَدْ أَبَى إلّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أحلامنا، وشتم آلهتنا، وَإِنّي أُعَاهِدُ اللهَ لَأَجْلِسَنّ لَهُ غَدًا بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/125)


- أَوْ كَمَا قَالَ- فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ، فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ، فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ، أَوْ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ، قَالُوا: وَاَللهِ لَا نُسْلِمُك لشىء أبدا، فامض لما تريد.
فَلَمّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ، أَخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ، ثُمّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- يَنْتَظِرُهُ، وَغَدَا رَسُولُ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- كَمَا كَانَ يَغْدُو، وَكَانَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة وَقِبْلَتُهُ إلَى الشّامِ، فَكَانَ إذَا صَلّى صَلّى بين الرّكْنِ الْيَمَانِيّ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشّامِ.
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلّي وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ، فَجَلَسُوا فِي أَنْدِيَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَا أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ. فَلَمّا سَجَدَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ، ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتّى إذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا. مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ مَرْعُوبًا. قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ. حَتّى قَذَفَ الْحَجَرَ مِنْ يَدِهِ. وَقَامَتْ إليه رجال قريش. فقالوا له: مالك يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ: قُمْتُ إلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ مَا قُلْتُ لَكُمْ الْبَارِحَةَ، فَلَمّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ، لَا وَاَللهِ مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتهِ، وَلَا مِثْلَ قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطّ. فَهَمّ بى أن يأكلنى.
قال بن إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- قَالَ:
ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام: لو دنا لأخذه.
فَلَمّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ. قَامَ النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة ابن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/126)


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْش. إنّهُ وَاَللهِ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا أَتَيْتُمْ لَهُ بِحِيلَةِ بَعْدُ، قَدْ كَانَ مُحَمّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ. وَأَصْدَقَكُمْ حَدِيثًا. وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً. حَتّى إذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ الشّيب، وجاءكم بما جاءكم به. قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن. لا والله ما هو بكاهن؛ قد رأينا الكهنة، وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر؛ قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلّها: هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وَسْوَسَتِهِ، وَلَا تَخْلِيطِهِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَانْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ، فَإِنّهُ وَاَللهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أمر عظيم.
وَكَانَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحِيرَةَ، وَتَعَلّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ واسبنديار، فَكَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ الله- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مَجْلِسًا فَذَكّرَ فِيهِ بِاَللهِ، وَحَذّرَ قَوْمَهُ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللهِ، خَلَفَهُ فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ، ثُمّ قَالَ: أَنَا وَاَللهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، فَهَلُمّ إلَيّ، فَأَنَا أُحَدّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمّ يُحَدّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ واسبنديار. ثُمّ يَقُولُ: بِمَاذَا مُحَمّدٌ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنّي؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/127)


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيمَا بَلَغَنِي: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ- فِيمَا بَلَغَنِي: نَزَلَ فِيهِ ثَمَانِ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ: قَوْلُ الله عَزّ وَجَلّ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. القلم: 15 وَكُلّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الْأَسَاطِيرِ مِنْ القرآن.
فَلَمّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بَعَثُوهُ، وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَالُوا لَهُمَا: سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمّدٍ، وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأُوَلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عندنا من علم الْأَنْبِيَاءِ، فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ. وَأَخْبَرَاهُمْ بِبَعْضِ قَوْلِهِ. وَقَالَا لَهُمْ: إنّكُمْ أَهْلُ التّوْرَاةِ. وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا. فَقَالَتْ لَهُمَا أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنّ. فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنّ، فَهُوَ نَبِيّ مُرْسَلٌ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ. فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ. سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ مَا كَانَ أَمْرُهُمْ، فَإِنّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجَبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ نَبَؤُهُ، وَسَلُوهُ عن الرّوّح ما هى؟ فإن أَخْبَرَكُمْ بِذَلِك فَاتّبِعُوهُ، فَإِنّهُ نَبِيّ. وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوّلٌ. فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ حَتّى قَدِمَا مَكّةَ عَلَى قُرَيْشٍ. فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ. قَدْ أَخْبَرَنَا أحبار يهود أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/128)


تسأله عَنْ أَشْيَاءَ أَمَرُونَا بِهَا، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ عَنْهَا فَهُوَ نَبِيّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ. فروا فيه رأيكم.
فجاؤا رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ قِصّةٌ عَجَبٌ، وَعَنْ رَجُلٍ كَانَ طَوّافًا قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الأرض ومغاربها. وأخبرنا عن الرّوح ماهى؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ غَدًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُحْدِثُ اللهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، حَتّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكّةَ وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. قَدْ أَصْبَحْنَا مِنْهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءِ مِمّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مُكْثُ الوحى عنه، وَشَقّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلّمُ بِهِ أَهْلُ مَكّةَ، ثُمّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللهِ عَزّ وَجَلّ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إيّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أمر الفتية، والرجل الطّوّاف، والروح.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ لِجِبْرِيلَ حِين جَاءَهُ: لَقَدْ احْتَبَسْتَ عَنّي يَا جِبْرِيلُ حَتّى سُؤْتُ ظَنّا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ:
«وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا، وَما بَيْنَ ذلِكَ، وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مريم: 64 فَافْتَتَحَ السّورَةَ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَمْدِهِ وَذِكْرِ نُبُوّةِ رَسُولِهِ، لِمَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الكهف: 1: 26 يَعْنِي: مُحَمّدًا صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/129)


إنّك رَسُولٌ مِنّي: أَيْ تَحْقِيقٌ لِمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ نُبُوّتِك. وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً: أَيْ: مُعْتَدِلًا، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ. لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ: أَيْ عَاجِلَ عُقُوبَتِهِ فى الدنيا، وعذابا أليما فى الاخرة من عند ربك الذى بعثك رَسُولًا. وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً، ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً: أَيْ دَارُ الْخُلْدِ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا الّذِينَ صَدّقُوك بِمَا جِئْت بِهِ مِمّا كَذّبَك بِهِ غَيْرُهُمْ، وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرْتهمْ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً يَعْنِي: قُرَيْشًا فِي قَوْلِهِمْ:
إنّا نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللهِ. مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ الّذِينَ أَعْظَمُوا فِرَاقَهُمْ وَعَيْبَ دِينِهِمْ. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أَيْ: لِقَوْلِهِمْ: إنّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً، فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ يَا مُحَمّدُ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً أَيْ: لِحُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِين فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُمْ، أَيْ: لَا تَفْعَلْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَاخِعٌ نَفْسَك، أَيْ: مُهْلِكٌ نَفْسَك، فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ ذُو الرّمّةِ:
أَلَا أَيّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ ... لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
وَجَمْعُهُ: بَاخِعُونَ وَبَخَعَةٌ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قصيدة له. وتقول العرب:
قد بخعت له نُصْحِي وَنَفْسِي، أَيْ جَهَدْت لَهُ. إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/130)


قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ: أَيّهُمْ أَتْبَعُ لِأَمْرِي، وأعمل بطاعتى. إِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً: أَيْ: الْأَرْضِ، وَإِنّ مَا عَلَيْهَا لَفَانٍ وَزَائِلٌ، وَإِنّ الْمَرْجِعَ إلَيّ، فَأَجْزِي كُلّا بِعَمَلِهِ، فَلَا تَأْسَ، وَلَا يَحْزُنْك مَا تَسْمَع وَتَرَى فِيهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الصّعِيدُ: الْأَرْضُ، وَجَمْعُهُ: صُعُدٌ. قَالَ ذُو الرّمّةِ يَصِفُ ظَبْيًا صَغِيرًا:
كَأَنّهُ بِالضّحَى تَرْمِي الصّعِيدَ بِهِ ... دَبّابَةٌ فِي عِظَامِ الرّأْسِ خُرْطُومُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالصّعِيدُ أَيْضًا: الطّرِيقُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
«إيّاكُمْ وَالْقُعُودَ عَلَى الصّعَدَاتِ» يُرِيدُ الطّرُقَ. وَالْجُرُزُ: الْأَرْضُ الّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَجَمْعُهَا: أَجْرَازٌ. وَيُقَالُ: سَنَةٌ جُرُزٌ، وَسُنُونَ أَجْرَازٌ، وَهِيَ الّتِي لَا يَكُون فِيهَا مَطَرٌ، وَتَكُونُ فِيهَا جُدُوبَةٌ وَيُبْسٌ وَشِدّةٌ. قال ذو الرّمّة يضف إبلا:
طوى النّحز وَالْأَجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا ... فَمَا بَقِيَتْ إلّا الضّلُوعُ الْجَرَاشِعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
[حول سورة الكهف]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ اسْتَقْبَلَ قِصّةَ الْخَبَرِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ شَأْنِ الْفِتْيَةِ، فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/131)


أَيْ: قَدْ كَانَ مِنْ آيَاتِي فِيمَا وَضَعْت عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالرّقِيمُ: الْكِتَابُ الّذِي رُقِمَ فِيهِ بِخَبَرِهِمْ، وَجَمْعُهُ: رُقُمٌ.
قَالَ العجّاج:
ومستقرّ المصحف المرقّم
وهذا البيت فى أرجوة لَهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا:
رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً، فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. ثُمّ قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ: أَيْ: بِصِدْقِ الْخَبَر عَنْهُمْ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا، فَقالُوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالشّطَطُ: الْغُلُوّ وَمُجَاوَزَةُ الْحَقّ. قَالَ أَعْشَى بنى قيس ابن ثَعْلَبَةَ:
لَا يَنْتَهُونَ، وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزّيْتُ وَالْفَتْلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/132)


هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَيْ بِحُجّةٍ بَالِغَةٍ.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَزَاوَرُ: تَمِيلُ، وَهُوَ مِنْ الزّورِ: وقال امرؤ القيس بن حجر:
وَإِنّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْتُ مُمَلّكًا ... بِسَيْرٍ تَرَى مِنْهُ الْفُرَانِقَ أَزْوَرَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ له. وقال أبو الزّحف الكليبى يَصِفُ بَلَدًا:
جَأْبُ الْمُنَدّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ ... يُنْضِي الْمَطَايَا خِمْسُهُ الْعَشَنْزَرُ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. و «تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ» :
تُجَاوِزُهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ عَنْ شِمَالِهَا. قَالَ ذُو الرّمّةِ:
إلَى ظُعْنٍ يَقْرِضْنَ أَقْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنّ الْفَوَارِسُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْفَجْوَةُ: السّعَةُ، وَجَمْعُهَا: الْفِجَاءُ قَالَ الشّاعِرُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/133)


أَلْبَسْتَ قَوْمَك مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حَتّى أُبِيحُوا، وَخَلّوْا فَجْوَةَ الدّارِ
«ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ» أَيْ فِي الْحُجّةِ عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِمّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ بِمَسْأَلَتِك عَنْهُمْ فِي صِدْقِ نُبُوّتِك بِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ عنهم. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ، وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ، وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ» .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْوَصِيدُ: الْبَابُ. قَالَ الْعَبْسِيّ، وَاسْمُهُ: عُبَيْدُ بْنُ وَهْبٍ:
بِأَرْضٍ فَلَاةٍ لَا يُسَدّ وَصِيدُهَا ... عَلَيّ، وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ مُنْكَرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَالْوَصِيدُ أَيْضًا: الْفِنَاءُ، وجمعه: وصائد، ووصد، ووصدان، وأصد، وأصدان.
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً، وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ... إلَى قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أَهْلُ السّلْطَانِ وَالْمُلْكِ مِنْهُمْ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً سَيَقُولُونَ يَعْنِي: أَحْبَارَ يَهُودَ الّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْهُمْ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أَيْ: لَا عِلْمَ لَهُمْ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً:
أَيْ: لَا تُكَابِرْهُمْ. وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً فإبهم لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِم.
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَاذْكُرْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/134)


رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً:
أَيْ: وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءِ سَأَلُوك عَنْهُ كَمَا قُلْت فِي هذا: إنى مخبركم غدا. واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت، وقل: عسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبّي لِخَيْرٍ مِمّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ رَشَدًا، فَإِنّك لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِعٌ فِي ذَلِكَ. وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً: أَيْ: سَيَقُولُونَ ذَلِكَ.
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً أَيْ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا سألوك عنه.
وَقَالَ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّجُلِ الطواف: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً الكهف: 83 حَتّى انْتَهَى إلَى آخِرِ قِصّةِ خَبَرِهِ.
وَكَانَ مِنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنّهُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَمُدّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ، حَتّى انْتَهَى مِنْ الْبِلَادِ إلَى مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، لَا يَطَأُ أَرْضًا إلّا سُلّطَ عَلَى أَهْلِهَا، حَتّى انْتَهَى مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَى مَا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ الْخَلْقِ.
قَالَ ابن إسحاق: حدثنى مِنْ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ عَنْ الْأَعَاجِمِ، فِيمَا تَوَارَثُوا مِنْ عِلْمِهِ: أَنّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، اسْمُهُ: مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْذُبَةَ الْيُونَانِيّ، مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/135)


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُهُ: الْإِسْكَنْدَرُ، وَهُوَ الّذِي بَنَى الإسكندرية، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكُلَاعِيّ وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: مَلِكٌ مَسَحَ الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا بِالْأَسْبَابِ.
وَقَالَ خَالِدٌ: سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: اللهُمّ غَفْرًا، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَسَمّوْا بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تسمّيتم بالملائكة؟! قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ، أَقَالَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ، فالحق ما قال.
أسباب نزول بعض الايات وعن الرّوحِ:
وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أمر الروح: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الإسراء: 85.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّهُ قَالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ: يَا مُحَمّدُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَك:
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا إيّانَا تُرِيدُ، أَمْ قَوْمَك؟ قَالَ: كُلّا، قَالُوا:
فَإِنّك تَتْلُو فِيمَا جَاءَك: أَنّا قَدْ أُوتِينَا التّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلّ شَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّهَا فِي عِلْمِ اللهِ قَلِيلٌ، وَعِنْدَكُمْ فى ذلك ما يكفيكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/136)


لو أقمتوه. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لقمان: 27: أَيْ: أَنّ التّوْرَاةَ فِي هَذَا مِنْ عِلْمِ الله قليل.
عن تسيير الجبال وبعث الموتى:
قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلَهُ قومه لأنفسهم من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض، وبعث من مضى من آبائهم من الموتى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى، بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَيْ: لَا أَصْنَعُ من ذلك إلا ما شئت.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: خُذْ لِنَفْسِك، مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جَنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا، وَيَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا يُصَدّقُهُ بِمَا يَقُول، وَيَرُدّ عَنْهُ:
وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها، وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ: كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ: أَيْ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسَ الْمَعَاشَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً الفرقان 7: 10.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/137)


وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ، وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً، أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً الفرقان: 20 أَيْ جَعَلْت بَعْضَكُمْ لِبَعْضِ بَلَاءً، لِتَصْبِرُوا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَجْعَلَ الدّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يخالفوا لفعلت.
وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ. حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ.
قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا. الإسراء: 90- 95.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْيَنْبُوعُ: مَا نَبَعَ مِنْ الماء من الأرض وغيرها. وجمعه ينابيع. قال ابن هرمة. واسمه: إبراهيم بن عبد الله الْفِهْرِيّ.
وَإِذَا هَرَقْتَ بِكُلّ دَارٍ عَبْرَةً ... نُزِفَ الشّئُونُ. وَدَمْعُك الْيَنْبُوعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْكِسَفُ الْقِطَعُ مِنْ الْعَذَابِ. وَوَاحِدَتُهُ:
كِسْفَةٌ. مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ. وَهِيَ أَيْضًا: وَاحِدَةُ الْكِسْفِ. وَالْقَبِيلُ: يَكُونُ مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا: أَيْ:
عِيَانًا. وَأَنْشَدَنِي أبو عبيدة لأعشى بنى قيس بنى ثعلبة:
أصالحكم، حتى تبوؤا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْهَا قَبِيلُهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/138)


يَعْنِي: الْقَابِلَةُ؛ لِأَنّهَا تُقَابِلُهَا، وَتَقْبُلُ وَلَدَهَا. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ الْقَبِيلُ: جَمْعُهُ قُبُلٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَاتُ، وَفِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا. الأنعام: 111 فَقُبُلٌ: جَمْعُ قَبِيلٍ، مِثْلُ سُبُلٍ: جَمْعُ سَبِيلٍ وَسُرُرٍ: جَمْعُ سَرِيرٍ، وَقُمُصٍ: جَمْعُ قَمِيصٍ. وَالْقَبِيلُ أَيْضًا: فِي مَثَلٍ مِنْ الْأَمْثَالِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْ دَبِيرٍ: أَيْ: لَا يَعْرِفُ مَا أَقْبَلَ مِمّا أَدْبَرَ، قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
تَفَرّقَتْ الْأُمُورُ بِوَجْهَتَيْهِمْ ... فَمَا عَرَفُوا الدّبِيرَ مِنْ الْقَبِيلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ له، ويقال: إنما أريد بهذا: الْفَتْلُ، فَمَا فُتِلَ إلَى الذّرَاعِ فَهُوَ الْقَبِيلُ، وَمَا فُتِلَ إلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ الدّبِيرُ، وَهُوَ مِنْ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ الّذِي ذَكَرْتُ. وَيُقَالُ: فتل المغزل. فإذا فتل إلى الركبة فهو القبيل، وإذا فتل إلى الورك فهو الدّبير. والقبيل أيضا: قوم الرجل. والزخرف:
الذهب. والمزخرف: المزين بالذهب. قَالَ الْعَجّاجُ:
مِنْ طَلَلٍ أَمْسَى تَخَالُ الْمُصْحَفَا ... رُسُومَهُ وَالْمُذْهَبَ الْمُزَخْرَفَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ له، ويقال أيضا لكلّ مزيّن: مزخرف.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: إنّا قَدْ بَلَغَنَا أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ. يُقَالُ لَهُ: الرّحْمَنُ. وَلَنْ نُؤْمِنَ بِهِ أَبَدًا: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. وَهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/139)


يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ. قُلْ: هُوَ رَبِّي. لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ. الرعد: 30.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هشام- لعنه الله- وَمَا هَمّ بِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى، كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ، كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ
سورة العلق.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: لَنَسْفَعًا: لَنَجْذِبَنْ، وَلَنَأْخُذَنْ. قَالَ الشّاعِرُ:
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصّرَاخَ رَأَيْتَهُمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ
وَالنّادِي: الْمَجْلِسُ الذى يجتمع فيه القوم، ويقصّون فيه أمورهم، وفى كتاب الله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ العنكبوت: 29 وَهُوَ النّدِيّ. قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
اذْهَبْ إلَيْك فَإِنّي مِنْ بَنِي أَسَدٍ ... أَهْلُ النّدِيّ، وأهل الجرد وَالنّادِي
وَفِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مريم. 73. وجمعه: أندية. يقول:
فليدع أهل ناديه. كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ يوسف: 82 يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تميم:
يومان: يوم مقامات، وأندبة ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/140)


وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ الْكُمَيْتُ بن زيد:
لا مهاذير فى النّدىّ مكائير ... وَلَا مُصْمِتِينَ بِالْإِفْحَامِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَيُقَالُ: النّادِي: الْجُلَسَاءُ. وَالزّبَانِيَةُ: الْغِلَاظُ الشّدَادُ، وَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: خَزَنَةُ النّارِ. وَالزّبَانِيَةُ أَيْضًا فِي الدّنْيَا: أَعْوَانُ الرّجُلِ الّذِينَ يَخْدُمُونَهُ وَيُعِينُونَهُ، وَالْوَاحِدُ: زِبْنِيَةٌ. قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى فِي ذَلِكَ:
مَطَاعِيمُ فِي الْمَقْرَى، مَطَاعِينُ فِي الْوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ، عِظَامٌ حُلُومُهَا
يَقُول: شَدّادٌ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ صَخْرُ بْنُ عبد الله الهذلىّ، وهو صخر الغىّ:
ومن كبير نفر زبانيه
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ:
قُلْ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. وسبأ: 47.
فَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحَقّ، وَعَرَفُوا صِدْقَهُ فِيمَا حَدّثَ، وَمَوْقِعَ نُبُوّتِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمِ الْغُيُوبِ حِين سَأَلُوهُ عَمّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/141)


سَأَلُوا عَنْهُ، حَالَ الْحَسَدُ مِنْهُمْ لَهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اتّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ فَعَتَوْا عَلَى اللهِ وَتَرَكُوا أَمْرَهُ عِيَانًا، وَلَجّوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ، أَيْ: اجْعَلُوهُ لَغْوًا وَبَاطِلًا، وَاِتّخِذُوهُ هُزُوًا لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَهُ بِذَلِكَ، فَإِنّكُمْ إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمًا- وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، يَزْعُمُ محمد أنّ جُنُودُ اللهِ الّذِينَ يُعَذّبُونَكُمْ فِي النّارِ، وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ النّاسِ عَدَدًا، وكثرة، أفيعجز كلّ مائة رَجُلٍ مِنْكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا. المدثر: 31 إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ، جَعَلُوا إذَا جَهَرَ رَسُولُ الله- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي، يَتَفَرّقُونَ عَنْهُ، وَيَأْبَوْنَ أَنْ يَسْتَمِعُوا لَهُ، فَكَانَ الرّجُلُ مِنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ مَا يَتْلُو مِنْ الْقُرْآنِ، وَهُوَ يُصَلّي، اسْتَرَقَ السّمْعَ دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ، فَلَمْ يَسْتَمِعْ، وَإِنْ خَفَضَ رسول الله- صلّى الله عليه عَلَيْهِ وَسَلّمَ- صَوْتَهُ، فَظَنّ الّذِي يَسْتَمِعُ أَنّهُمْ لَا يَسْتَمِعُونَ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ، وَسَمِعَ هُوَ شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، مَوْلَى عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ حَدّثَهُمْ أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا حَدّثَهُمْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/142)


إنّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا الإسراء: 110. مِنْ أَجْلِ أُولَئِكَ النّفَرِ. يَقُولُ: لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرّقُوا عَنْك، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا، فَلَا يَسْمَعْهَا مَنْ يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ دُونَهُمْ، لَعَلّهُ يَرْعَوِي إلَى بَعْضِ مَا يسمع، فينتفع به.
[أول صحابى جهر بِالْقُرْآنِ:]

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ أَوّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكّةَ عَبْدُ اللهِ ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: اجْتَمَعَ يَوْمًا أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: وَاَللهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا، قَالُوا: إنّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْك، إنّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ أَرَادُوهُ، قَالَ: دَعُونِي فَإِنّ اللهَ سَيَمْنَعُنِي. قَالَ: فَغَدَا ابْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضّحَى، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا حَتّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمّ قَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قَالَ: ثُمّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا. قَالَ: فَتَأَمّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ.
مَاذَا قَالَ ابن أمّ عبد؟ قال: ثم قالوا: لَيَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ، فَقَامُوا إلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنّ يَبْلُغَ. ثُمّ انْصَرَفَ إلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ أَثّرُوا فِي وَجْهِهِ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا الّذِي خَشِينَا عَلَيْك فَقَالَ: مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللهِ أَهْوَنَ عَلَيّ مِنْهُمْ الْآنَ، وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنّهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا، قَالُوا: لَا، حَسْبُك، قَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يكرهون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/143)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما لقى رسول الله (ص) مِنْ قَوْمِهِ:
فَصْلٌ: فِيمَا لَقِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْمِهِ، ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيّ وَالتّيْمِيّ، وَابْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أُمُورًا كَثِيرَةً تَتَقَارَبُ أَلْفَاظُهَا وَمَعَانِيهَا، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْهَا حَثْوُ سُفَهَائِهِمْ التّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَمِنْهَا أَنّهُمْ كَانُوا يَنْضِدُونَ «1» الْفَرْثَ وَالْأَفْحَاثَ وَالدّمَاءَ عَلَى بَابِهِ، وَيَطْرَحُونَ رَحِمَ الشّاةِ فِي بُرْمَتِهِ، وَمِنْهَا: بَصْقُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي وَجْهِهِ، وَمِنْهَا:
وَطْءُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ «2» عَلَى رَقَبَتِهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتّى كَادَتْ عَيْنَاهُ تَبْرُزَانِ، وَمِنْهَا أَخْذُهُمْ بِمُخَثّقِهِ حِينَ اجْتَمَعُوا لَهُ عِنْدَ الْحِجْرِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ، وَزَادَ غَيْرُهُ الْخَبَرَ أَنّهُمْ خَنَقُوهُ خَنْقًا شَدِيدًا وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ دونه فجبذوا
__________
(1) ينضدون: يضعون بعضه فوق بعض، والأفحاث جمع الفحث- بسكون الحاء وكسرها- شىء متصل بالكرش ذو أطباق وأجواف، والفرث ما فى داخل الكرش
(2) قتل بعد بدر، وقيل: قتل صبرا مع النصر فى بدر وقد روى البخارى فى كتاب خلق أفعال العباد. وأبو يعلى وابن حبان عن عمرو بن العاصى: «ما رأيت قريشا أرادوا قتل النبى- صلّى الله عليه وسلم- إلا يوم أغروا به وهم فى ظل الكعبة جلوس، وهو يصلى عند المقام، فقام إليه عقبة، فجعل رداءه فى عنقه، ثم جذبه، حتى وجب لركبتيه، وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ورائه، وهو يقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبّي اللهُ، ثُمّ انصرفوا عنه، فلما قضى صلاته، مربهم، فقال: والذى نفسى بيده ما أرسلت إليكم إلا [بالذبح، فقال له أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولا، فقال: أنت منهم»

(3/144)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ حَتّى سَقَطَ أَكْثَرُ شَعْرِهِ، وَأَمّا السّبّ وَالْهَجْوُ وَالتّلْقِيبُ وَتَعْذِيبُ أَصْحَابِهِ وَأَحِبّائِهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ، فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِسُمَيّةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ: مَا آمَنْت بِمُحَمّدِ إلّا لِأَنّك عَشِقْته لِجَمَالِهِ، ثُمّ طَعَنَهَا بِالْحَرْبَةِ فِي قُبُلِهَا حَتّى قَتَلَهَا، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
السّبَبُ فِي تَلْقِيبِهِ بِالْمُدّثّرِ وَالنّذِيرِ الْعُرْيَانِ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَثّرُونِي دَثّرُونِي» فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ «1» قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِي تَسْمِيَتِهِ إيّاهُ
__________
(1) ذكر فى أسباب نزول هذه الايات- روايتان. أما الأولى: فعن يحيى قال: سألت أبا سلمة رضى الله عنه: أى القرآن أنزل أول؟ فقال: يا أيها المدثر. قلت: أنبئت: أنه اقرأ باسم ربك، فقال: لا أخبرك إلا بما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: جاورت فى حراء، فلما قضيت جوارى هبطت، فاستبطنت الوادى، فنوديت، فنظرت أمامى وخلفى وعن يمينى، وعن شمالى فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فأتيت خديجة، فقلت: دثرونى، وصبوا على ماء باردا، ففعلوا، وأنزل على: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ» رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى. أما الرواية الأخرى فعن الزهرى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ جابر ابن عبد الله رضى الله عنهما قال: سمعت النبى- صلّى الله عليه وسلم- وهو يحدث عن فترة الوحى، فقال فى حديثه: «فبينا أنا أمشى إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالس على كرسى بين السماء والأرض، فجثثت منه رعبا، فرجعت، فقلت: زملونى، فدثرونى، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر- إلى- والرجز فاهجر قبل أن تفرض الصلاة. البخارى ومسلم والإمام أحمد. والروايتان عن جابر بن عبد الله. وذكر الطبرانى رواية ثالثة يسند ضعيف عن ابن عباس قال: إن الوليد ابن المغيرة صنع لقريش طعاما، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون فى هذا الرجل؟ -

(3/145)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْمُدّثّرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُلَاطَفَةٌ وَتَأْنِيسٌ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إذَا قَصَدَتْ الْمُلَاطَفَةَ أَنْ تُسَمّيَ الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ مُشْتَقّ مِنْ الْحَالَةِ الّتِي هُوَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِحُذَيْفَةَ: قُمْ يَا نَوْمَانُ، وَقَوْلِهِ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- وَقَدْ تَرِبَ جَنْبُهُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ «1» فَلَوْ نَادَاهُ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْكَرْبِ بِاسْمِهِ، أَوْ بِالْأَمْرِ الْمُجَرّدِ مِنْ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةِ لهاله ذلك، ولكن لما بدىء، بيا أَيّهَا الْمُدّثّرُ أَنِسَ، وَعَلِمَ أَنّ رَبّهُ رَاضٍ عنه، ألا تراه كيف قال عند ما لقى من أهل الطائف من شدة البلاه وَالْكَرْبِ مَا لَقِيَ: رَبّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا أُبَالِي «2» إلَى آخِرِ الدّعَاءِ، فَكَانَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبّهِ، وَبِهِ كَانَتْ تَهُونُ عَلَيْهِ الشّدَائِدُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَنْتَظِمُ يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ مَعَ قَوْلِهِ: قُمْ فَأَنْذِرْ، وَمَا الرّابِطُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، حَتّى يَلْتَئِمَا فِي قانون البلاغة، ويتشا كلا فِي حُكْمِ الْفَصَاحَةِ؟ قُلْنَا: مِنْ صِفَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ حِينَ قَالَ: أَنَا النّذِيرُ الْعُرْيَانُ، وَهُوَ مَثَلٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ العرب، يقال لمن أنذر بقرب
__________
- فقال بعضهم: ساحر. وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل سحر يؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحزن، وقنع رأسه، وتدثر، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) وأخرجه البزار بنحوه عن جابر.
(1) كان على رضى الله عنه قد غاضب فاطمة، فلما جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ منزل فاطمة، وعلم بهذا، أرسل من يبحث عنه، فجاء، فأخبره أنه فى المسجد، فجاءه رسول الله «ص» وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب. فجعل رسول الله «ص» يمسحه عنه، ويقول: قم أبا التراب، قم أبا التراب.. مختصر من حديث رواه الشيخان.
(2) من حديث رواه الطبرانى فى الكبير عن عبد الله بن جعفر.

(3/146)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَدُوّ، وَبَالَغَ فِي الْإِنْذَارِ، وَهُوَ النّذِيرُ الْعُرْيَانُ «1» ، وَذَلِكَ أَنّ النّذِيرَ الْجَادّ يُجَرّدُ ثَوْبَهُ، وَيُشِيرُ بِهِ إذَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَ الْعَدُوّ صَوْتَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنّ أَصْلَ الْمَثَلِ لِرَجُلِ مِنْ خَثْعَمَ سَلَبَهُ الْعَدُوّ ثَوْبَهُ، وَقَطَعُوا يَدَهُ، فَانْطَلَقَ إلَى قَوْمِهِ نَذِيرًا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَنَا النّذِيرُ الْعُرْيَان أَيْ: مَثَلِي مِثْلُ ذَلِكَ، وَالتّدَثّرُ بِالثّيَابِ مُضَادّ لِلتّعَرّي، فَكَانَ فى قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) مَعَ قَوْلِهِ:
(قُمْ فَأَنْذِرْ) وَالنّذِيرُ الْجَادّ يُسَمّى: الْعُرْيَانُ: تَشَاكُلٌ بَيّنٌ، وَالْتِئَامٌ بَدِيعٌ وَسَمَاقَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَجَزَالَةٌ فِي اللّفْظِ.
تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ:
وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أَيْ: رَبّك كَبّرْ، لَا غَيْرَهُ لَا يَكْبُرُ عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ إخْلَاصٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: إيّاك نعبد [وإياك نستعين] أَيْ: لَا نَعْبُدُ غَيْرَك [وَلَا نَسْتَعِينُ إلّا بِك] «2» ، وَلَمْ يَقُلْ: نَعْبُدُك وَنَسْتَعِينُك، وَفِي الْحَدِيثِ: إذَا قَالَ الْعَبْدُ: إِيّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَخْلَصَ لِي عَبْدِي الْعِبَادَةَ، واستعاننى عليها، فهذه بينى وبين عبدى «3» .
__________
(1) روى الصحيحان قول النبى «ص» : «إنما مثلى، ومثل ما بعثنى الله كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم: إنى رأيت الجيش بعينى، وإنى أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة من قومه، فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم، واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعنى، واتبع ما جئت به، ومثل من عصانى، وكذب ما جئت به من الحق» وانظر مجمع الأمثال
(2) الزيادة يقتضيها سياق الكلام.
(3) فى رواية مسلم: «وإذا قال: إياك نعبد، وإياك نستعين، قال: هذا بينى وبين عبدى، ولعبدى ما سأل»

(3/147)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالرّئِيّ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ عُتْبَةَ: إنْ كان هذا رئيا تَرَاهُ. وَلُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ: رِئِيّ بِكَسْرِ الرّاءِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فى كل فعيل عين الفعل منه هَمْزَةٌ، أَوْ غَيْرُهَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ، يَكْسِرُونَ أَوّلَهُ، مِثْلَ: رَحِيمٍ وَشَهِيدٍ وَالرّئِيّ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ «1» ، وَلَا يَكُونُ إلّا مِنْ الْجِنّ، وَلَا يَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي غَيْرِ الْجِنّ. إلّا أَنْ يُؤَثّرَ فِيهِ الْفِعْلُ نَحْوَ: جَرِيحٍ وَقَتِيلٍ وَذَبِيحٍ وَطَحِينٍ، وَلَا يُقَالُ مِنْ الشّكْرِ: شَكِيرٌ، وَلَا ذَكَرْته فَهُوَ ذَكِيرٌ، وَلَا فِيمَنْ لَطَمَ: لَطِيمٌ إلّا أَنْ تُغَيّرَ مِنْهُ اللّطْمَةُ، كَمَا قَالُوا: لَطِيمُ الشّيْطَانِ. قَالَ ابْنُ الزّبَيْرِ حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق [ابن الْعَاصِ] «2» : أَلَا إنّ أَبَا ذِبّانَ قَتَلَ لَطِيمَ الشيطان «3» : كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ الْأَنْعَامِ: 29. وَقَالُوا مِنْ الْحَمْدِ: حَمِيدٌ، ذَهَبُوا بِهِ مَذْهَبٌ كَرِيمٌ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْجِنّ: رَئِيّ، وَإِنْ كَانَتْ الرّؤْيَا لَا تُؤَثّرُ فِي الْمَرْئِيّ؛ لأنهم ذهبوا به مذهب قرين ونجىّ.
__________
(1) وعن اللحيانى: رئى بكسر الراء- إذا كان يحبه ويؤالفه، وفى اللسان كذلك: هو فعيل أو فعول سمى به لأنه يتراءى لمتبوعه، أو هو من الرأى من قولهم: فلان رئى قومه بفتح الراى وكسر الهمزة وتضعيف الياء، إذا كان صاحب رأيهم. وحروف الحلق هى حروف الهجاء التى تخرج من الحلق عند النطق، وهى الهمزة والحاء والخاء والعين والغين والهاء.
(2) الذى قتله عبد الملك بن مروان، وكان الأشدق يلقب بلطيم الشيطان فلما بلغ ابن الزبير مقتله، وهو بمكة صعد المنير، وقال ما ذكر «السهيلى، وأبو ذبان بكسر الذال وتشديد الباء مع فتح كنية لعبد الملك بن مروان، وقد كنى بها لشدة يخره، وموت الذبان إذا دنت من فيه (ص 79 الاشتقاق لابن دريد وتعليقاته للأستاذ عبد السلام هارون»
(3) عن قصة عتبة روى عبد ابن حميد فى مسنده عن ابن أبى شيبة بسنده عن

(3/148)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
جابر وأبو يعلى أيضا بسنده عن جابر: (اجتمعت قريش يوما، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذى قد فرق جماعتنا، وشئت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعه، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله «ص» فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله «ص» فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الالهة التب عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم حتى نسمع قولك، وإنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا فى العرب حتى لقد طار فيهم أن فى قريش ساحرا وأن فى قريش كاهنا، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى. أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وأخذا، وإن كان إنما بك من الباءة، فاختر أى نساء قريش شئت، فلنزوجك عشرا، فقال رسول الله «ص» فرغت؟ قال: نعم، فقرأ رسول الله «ص» من أول سورة فصلت إلى قوله سبحانه: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فقال عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ فقال رسول الله «ص» لا. فرجع إلى قريش، قالوا: ما وراءك. قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم والذى نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قاله، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعريبة لا تدرى ما قال؟! قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة» وقد ساقه البغوى بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح وهو ابن عبد الله الكندى الكوفى، وقد ضعف بعض الشىء عن الزبال بن حرملة عن جابر، فذكر الحديث إلى قوله «فإن أعرضوا» فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة-

(3/149)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إسْلَامُ حَمْزَةَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ إسْلَامَ حَمْزَةَ «1» ، وَأُمّهُ: هَالَةُ بِنْتُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَأُهَيْبُ: عَمّ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ تَزَوّجَهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ، وَتَزَوّجَ ابْنُهُ عَبْدِ اللهِ آمِنَةَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَوَلَدَتْ هَالَةُ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمْزَةَ. وَوَلَدَتْ آمِنَةُ لِعَبْدِ اللهِ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ أَرْضَعَتْهُمَا ثُوَيْبَةُ «2» كما تقدم، وزاد غير
__________
- أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه، فقال أبو جهل: يا عتبة ما حسبك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد، وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا. وقال: والله لقد علمتم أنى من أكثر قريش مالا، ولكنى أتيته، وقصصت عليه القصة، فأجابنى بشىء والله ما هو بشعر، ولا كهانة، ولا سحر. وقرأ السورة إلى قوله تعالى: (فإن أعرضوا..) فأمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب» وسياق ابن إسحاق أشبه.
(1) حمزة هو أخو النبى «ص» من الرضاعة أرضعتهما- كما سيذكر السهيلى- ثويبة مولاة أبى لهب، وقد ثبت هذا فى الصحيحين. وقد أسلم حمزة فى الثانية أو الثالثة- كما فى الإصابة والاستيعاب- أو فى السادسة كما ذكر ابن الجوزى.
(2) فى الإصابة أنه ولد قبل النبى بأربع، ولا يشكل هذا مع حديث الأخوة من الرضاعة إذ يمكن القول بأنها أرضعتهما فى زمنين مختلفين. وكنيته: أبو عمارة بابن له من امرأة من بنى النجار، وقيل: هى بنت له، وقيل: كنيته أبو يعلى الذى قيل إنه لم يعش له ولد سواه. وفى ابن هشام أن التى كلمته هى مولاة عبد الله بن جدعان. وعند غيره أن صفية أخته هى التى كلمته. ولا منافاة فعند ابن أبى حاتم: أخبرته امرأتان.

(3/150)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابْنِ إسْحَاقَ فِي إسْلَامِ حَمْزَةَ أَنّهُ قَالَ: لَمّا احْتَمَلَنِي الْغَضَبُ، وَقُلْت: أَنَا عَلَى قَوْلِهِ، أَدْرَكَنِي النّدَمُ عَلَى فِرَاقِ دِينِ آبَائِي وَقَوْمِي، وَبِتّ مِنْ الشّكّ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمِ، ثُمّ أَتَيْت الْكَعْبَةَ، وَتَضَرّعْت إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرِي لِلْحَقّ، وَيُذْهِبَ عَنّي الرّيْبَ «1» فَمَا اسْتَتْمَمْتُ دُعَائِي حَتّى زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ، وَامْتَلَأَ قَلْبِي يَقِينًا- أَوْ كَمَا قَالَ- فَغَدَوْت إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي، فَدَعَا لِي بِأَنْ يُثَبّتَنِي اللهُ، وَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حِينَ أَسْلَمَ:
حَمِدْت اللهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي ... إلَى الْإِسْلَامِ وَالدّينِ الْحَنِيفِ
الدّينُ جَاءَ مِنْ رَبّ عَزِيزٍ ... خَبِيرٍ بِالْعِبَادِ بِهِمْ لَطِيفِ
إذَا تُلِيَتْ رَسَائِلُهُ عَلَيْنَا ... تَحَدّرَ دَمْعُ ذِي اللّبّ الْحَصِيفِ
رَسَائِلُ جَاءَ أَحْمَدُ مِنْ هُدَاهَا ... بِآيَاتِ مُبَيّنَةِ الْحُرُوفِ
وَأَحْمَدُ مُصْطَفًى فِينَا «2» مُطَاعٌ ... فَلَا تَغْشَوْهُ بِالْقَوْلِ الْعَنِيفِ
فَلَا وَاَللهِ نُسْلِمُهُ لِقَوْمِ ... وَلَمّا نَقْضِ فِيهِمْ بِالسّيُوفِ
وَنَتْرُكْ مِنْهُمْ قَتْلَى بِقَاعٍ ... عَلَيْهَا الطّيْرُ كَالْوِرْدِ العكوف
__________
(1) وعند يونس بن بكير عن ابن إسحاق أنه قال لنفسه بعد رجوعه من شج أبى جهل: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابىء، وتركت دين آبائك. للموت خير لك مما صنعت. ثم قال: اللهم إن كان هذا رشدا، فاجعل تصديقه فى قلبى، وإلا فاجعل لى مما وقعت فيه مخرجا. ثم غدا إلى رسول الله يطلب نصيحته، فوعظه حتى ثبت إيمانه.
(2) فى الأصل: فينا مصطفى وهو خطأ بكسر البيت.

(3/151)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ خُبّرْت مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ ... بِهِ، فَجَزَى الْقَبَائِلَ مِنْ ثَقِيفِ
إلَهُ النّاسِ شَرّ جَزَاءِ قَوْمٍ ... وَلَا أَسْقَاهُمْ صَوْبَ الْخَرِيفِ
طَلَبُ الْآيَاتِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ مِنْ الْآيَاتِ وَإِزَالَةِ الْجِبَالِ عَنْهُمْ، وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي امْتِحَانِهِ الْخَلْقَ، وَتَعَبّدِهِمْ بِتَصْدِيقِ الرّسُلِ، وَأَنْ يَكُونَ إيمَانُهُمْ عَنْ نَظَرٍ وَفِكْرٍ فِي الْأَدِلّةِ، فَيَقَعُ الثّوَابُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ، وَحَصَلَ لَهُمْ الْعِلْمُ الضّرُورِيّ، بَطَلَتْ الْحِكْمَةُ الّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَكُونُ الثّوَابُ وَالْعِقَابُ، إذْ لَا يُؤْجَرُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ، كَمَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى مَا خُلِقَ فِيهِ مِنْ لَوْنٍ وَشَعْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ الدّلِيلِ مَا يَقْتَضِي النّظَرُ فِيهِ الْعِلْمَ الْكَسْبِيّ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلّا بِفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ، وَهُوَ النّظَرُ فِي الدّلِيلِ، وَفِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرّسُولِ، وَإِلّا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا سُبْحَانَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِكَلَامِ يَسْمَعُونَهُ، وَيُغْنِيَهُمْ عَنْ إرْسَالِ الرّسُلِ إلَيْهِمْ، وَلَكِنّهُ سُبْحَانَهُ قَسّمَ الْأَمْرَ بَيْنَ الدّارَيْنِ، فَجَعَلَ الْأَمْرَ يَعْلَمُ فِي الدّنْيَا بِنَظَرِ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَفَكّرٍ وَاعْتِبَارٍ؛ لِأَنّهَا دَارُ تَعَبّدٍ وَاخْتِبَارٍ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ يُعْلَمُ فِي الْآخِرَةِ بِمُعَايَنَةِ وَاضْطِرَارٍ، لَا يُسْتَحَقّ بِهِ ثَوَابٌ وَلَا جَزَاءٌ، وَإِنّمَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الدّارِ الْأُولَى، حِكْمَةً دَبّرَهَا، وَقَضِيّةً أَحْكَمَهَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ الْإِسْرَاءِ: 59. يُرِيدُ- فِيمَا قَالَ أَهْلُ التّأْوِيلِ- إنّ التّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ نَحْوَ مَا سَأَلُوهُ مِنْ إزَالَةِ الْجِبَالِ عَنْهُمْ وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ يُوجِبُ فِي حُكْمِ

(3/152)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللهِ، أَلّا يُلَبّثَ الْكَافِرِينَ بِهَا، وَأَنْ يُعَاجِلَهُمْ بِالنّقْمَةِ، كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ صَالِحٍ وَبِآلِ فِرْعَوْنَ، فَلَوْ أُعْطِيَتْ قُرَيْشٌ مَا سَأَلُوهُ مِنْ الْآيَاتِ، وَجَاءَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا ثُمّ كَذّبُوا لَمْ يَلْبَثُوا، وَلَكِنّ اللهَ أَكْرَمَ مُحَمّدًا فِي الْأُمّةِ الّتِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِمْ؛ إذْ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يُكَذّبَ بِهِ مَنْ يُكَذّبُ، وَيُصَدّقَ بِهِ مَنْ يُصَدّقُ، وَابْتَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بَرّ «1» وَفَاجِرٍ، أَمّا الْبَرّ فَرَحْمَتُهُ إيّاهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمّا الْفَاجِرُ، فَإِنّهُمْ أَمِنُوا مِنْ الْخَسْفِ وَالْغَرَقِ وَإِرْسَالِ حَاصِبٍ عَلَيْهِمْ مِنْ السّمَاءِ.
كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ الْأَنْبِيَاءِ: 107 مَعَ أَنّهُمْ لَمْ يسئلوا مَا سَأَلُوا مِنْ الْآيَاتِ إلّا تَعَنّتًا وَاسْتِهْزَاءً، لَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِرْشَادِ، وَدَفْعِ الشّكّ، فَقَدْ كَانُوا رَأَوْا مِنْ دَلَائِلِ النّبُوّةِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ لِمَنْ أَنْصَفَ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الْعَنْكَبُوتِ 51 الْآيَةَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ ... كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّهُمْ سَأَلُوا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ الصّفَا
__________
(1) يقول ابن كثير عن مجلس المشركين وسؤالهم ما سألوا: «وهذا المجلس الذى اجتمع هؤلاء له، لو علم الله منهم أنهم إنما يسألون ذلك استرشادا لأجيبوا إليه، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرا وعنادا فقيل لرسول الله «ص» : إن شئت أعطيناهم ما سألوا، فإن كفروا عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة. فقال: بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة» وختام كلام ابن كثير ورد فى حديث رواه أحمد عن ابن عباس.

(3/153)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَهَبًا، فَهَمّ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُمْ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ فَعَلْت مَا سَأَلْتُمْ، ثُمّ لَا نُلْبِثُكُمْ إنْ كَذّبْتُمْ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْآيَةِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا «1» .
عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ لَهُ، وَاسْمُ أَبِي أُمَيّةَ: حُذَيْفَةُ: وَاَللهِ لَا أُومِنُ بِك حَتّى تَتّخِذَ سُلّمًا «2» إلَى آخِرِ الْكَلَامِ، وَقَدْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ قَبْلَ فَتْحِ مَكّةَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ إسْلَامِهِ.
هَمّ أَبِي جَهْلٍ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ:
وَذَكَرَ خَبَرَ أَبِي جَهْلٍ، وَمَا هَمّ بِهِ مِنْ إلْقَاءِ الْحَجَرِ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ سَاجِدٌ، وَقَدْ رَوَاهُ النّسَوِيّ بِإِسْنَادِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ: فَنَكَصَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالُوا:
مَا لَك؟ فَقَالَ: إنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لودنا لا ختطفته الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا، وَخَرّجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ «3» وَذَكَرَ النّسَوِيّ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ أبا جهل قال له:
__________
(1) روى أحمد قريبا منه
(2) فى ابن كثير بعد حديثه فى السيرة: حتى تأتيها: «وتأتى معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة: الخ»
(3) وابن حنبل والنسائى وابن جرير وابن أبى حاتم، وسيأتى نص الأحاديث التى ذكرت حول هذا فى الصفحة الاتية.

(3/154)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ألم أنهك؟ فو الله مَا بِمَكّةَ نَادٍ أَعَزّ مِنْ نَادِيّ، فَأَنْزَلَ الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إلَى قَوْلِهِ: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «1» الْعَلَقِ.
__________
(1) روى البخارى عن ابن عباس قال: «قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن على عنقه، فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: لئن فعل، لأخذته الملائكة» وكذا رواه الترمذى والنسائى فى تفسيرهما، وهكذا رواه ابن جرير. وروى أحمد والترمذى والنسائى وابن جرير- وهذا لفظه من طريق داود ابن أبى هند- عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلى عند المقام، فمر به أبو جهل بن هشام، فقال: يا محمد! ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده، فأغلظ له رسول الله- صلّى عليه وسلم، وانتهره، فقال: يا محمد بأى شىء تهددنى؟! أما والله إنى لأكثر هذا الوادى ناديا فأنزل الله: (فليدع ناديه، سندع الزبانية) وقال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته، وقال الترمذى: حسن صحيح. وعن أبى هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم، قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلى كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه فى التراب، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو يصلى ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال إن بينى وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا، قال: وأنزل الله لا أدرى فى حديث أبى هريرة أم لا: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) إلى آخر السورة، رواه مسلم وابن حنبل والنسائى وابن جرير وابن أبى حاتم، وهكذا تؤكد هذه الأحاديث فرضية الصلاة قبل الإسراء.

(3/155)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَفْسِيرُ أَرَأَيْت:
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ يَزِيدَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذا صلّى، أمصيب هو أو مخطىء؟ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى الْعَلَقِ كَأَنّهُ قَالَ: أَلَيْسَ مَنْ يَنْهَاهُ بضال؟ وقوله لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ الْعَلَقِ أَيْ لَنَأْخُذَنّ بِهَا إلَى النّارِ، وَقِيلَ مَعْنَى السّفْعِ هَهُنَا: إذْلَالُهُ وَقَهْرُهُ، وَالنّادِي وَالنّدِيّ وَالْمُنْتَدَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ: مَجْلِسُ الْقَوْمِ الّذِينَ يَتَنَادَوْنَ إلَيْهِ، وَقَالَ أَهْلُ التّفْسِيرِ فِيهِ أَقْوَالًا مُتَقَارِبَةً، قَالَ بَعْضُهُمْ: فَلْيَدْعُ حَيّهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَشِيرَتَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَجْلِسَهُ، وَفِي أَرَأَيْت مَعْنَى: أَخْبِرْنِي، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَمْ يَجُزْ إلْغَاؤُهَا، كَمَا تُلْغَى: عَلِمْت إذَا قُلْت: عَلِمْت أَزَيْدٌ عِنْدَك أَمْ عَمْرٌو، وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي: أَرَأَيْت، وَلَا بُدّ مِنْ النّصْبِ إذَا قُلْت: أَرَأَيْت زَيْدًا، أَبُو مَنْ هُوَ؟
قَالَ سِيبَوَيْهِ: لِأَنّ دُخُولَ مَعْنَى أَخْبِرْنِي فِيهَا لَا يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ: أَخْبِرْنِي فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْضِي بِخِلَافِ مَا قَالَ سِيبَوَيْهِ إلّا بَعْدَ الْبَيَانِ، وَذَلِكَ أَنّهَا فِي الْقُرْآنِ مُلْغَاةٌ؛ لِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ هُوَ مَطْلُوبُهَا، وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ، إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ الْعَلَقِ: فَقَوْلُهُ:
ألم يعلم: استفهام، وعليه وقعت: أرأيت، وكذلك: أرأيتم، وأ رأيتكم فِي الْأَنْعَامِ، فَإِنّ الِاسْتِفْهَامَ وَاقِعٌ بَعْدَهَا نَحْوَ: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الْأَنْعَامِ: 47. وَهَذَا هُوَ الّذِي مَنَعَ سِيبَوَيْهِ فِي: أَرَأَيْت وَأَرَأَيْتُكَ أَبُو مَنْ أَنْتَ؟
وَأَمّا الْبَيَانُ فَاَلّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ إذَا وَلّى الِاسْتِفْهَامَ: أَرَأَيْت، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَفْعُولٌ سِوَى الْجُمْلَةِ، وَأَمّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الّتِي فِي التّنْزِيلِ، فَلَيْسَتْ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا هِيَ مَفْعُولُ: أَرَأَيْت، إنّمَا مَفْعُولُهَا مَحْذُوفٌ يَدُلّ عَلَيْهِ

(3/156)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشّرْطُ، وَلَا بُدّ مِنْ الشّرْطِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ الصّوَرِ؛ لِأَنّ الْمَعْنَى: أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ إنْ كَانَ كَذَا، وَكَذَا، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: أَرَأَيْت إنْ لَقِيت الْعَدُوّ أَتُقَاتِلُهُ أَمْ لَا؟
تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرَأَيْت رَأْيَك أَوْ صَنِيعَك إنْ لَقِيت الْعَدُوّ فَحَرْفُ الشّرْطِ، وَهُوَ: إنْ دَالّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَمُرْتَبِطٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُنْقَطِعٌ، إلّا أَنّ فِيهِ زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَلَوْ زَالَ الشّرْطُ، وَوَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ لَقَبُحَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَيَحْسُنُ فِي: عَلِمْت، وَهَلْ عَلِمْت وَهَلْ رَأَيْت، وَإِنّمَا قُبْحُهُ مَعَ أَرَأَيْت خَاصّةً، وَهِيَ الّتِي دَخَلَهَا مَعْنَى: أَخْبِرْنِي فَتَدَبّرْهُ.
الْأَسَاطِيرُ وَشَيْءٌ عَنْ الْفُرْسِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَمَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:
قالُوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَاحِدُ الْأَسَاطِيرِ: أُسْطُورَةٌ كَأُحْدُوثَةِ وَأَحَادِيثَ، وَهُوَ مَا سَطّرَهُ الْأَوّلُونَ، وَقِيلَ: أَسَاطِيرُ: جَمْعُ أَسْطَارٍ، وَأَسْطَارُ جَمْعٍ: سَطَرٍ بِفَتْحِ الطّاءِ، وَأَمّا سَطْرٌ بِسُكُونِ الطّاءِ، فَجَمْعُهُ: أَسْطُرٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ: أَسَاطِرُ بِغَيْرِ يَاءٍ، وَذَكَرَ أَنّ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَ يحدّث قريشا بأحاديث رستم وأسقندياذ، وَمَا تَعَلّمَ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قوله، وقد قيل فيه نزلت: وَمَنْ قالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْأَنْعَامِ:
93. وَأَمّا أَحَادِيثُ رُسْتُمَ، فَفِي تَارِيخِ الطّبَرِيّ أَنّ رُسْتُمَ بْنَ رِيسَانِ «1» كَانَ يُحَارِبُ كَيْ يستاسب بْنِ كى لهراسب، بعد ما قَتَلَ أَبَاهُ لطراسب ابْنِ كَيْ أَجَوّ. وَكَيْ
__________
(1) فى الطبرى ص 504 ج 1 «رستم الشديد بن دستان بن بريمان»

(3/157)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي أَوَائِلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَهَاءِ، وَيُقَالُ: عِبَارَةٌ عَنْ إدْرَاكِ الثّأْرِ، وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ: الْكِينِيّةُ مِنْ أَجْلِ هَذَا، وَكَانَ رُسْتُمُ الّذِي يُقَالُ لَهُ: رُسْتُمُ سَيّدُ بَنِي رِيسَانِ مِنْ مُلُوكِ التّرْكِ، وَكَانَ كَيْ يستاسب قَدْ غَضِبَ عَلَى ابْنِهِ، فَسَجَنَهُ حَسَدًا لَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ وَقَائِعِهِ فِي التّرْكِ، حَتّى صَارَ الذّكْرُ لَهُ، فَعِنْدَهَا ظَهَرَتْ التّرْكُ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ، وَسَبَوْا بِنْتَيْنِ: ليستاسب، اسْمُ إحْدَاهُمَا: خَمّانَة، أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَلَمّا رَأَى يستاسب أَلّا يَدِينَ لَهُ بِقِتَالِهِمْ أَطْلَقَ ابْنَهُ مِنْ السّجْنِ، وَهُوَ إسفندياذ، وَرَضِيَ عَنْهُ وَوَلّاهُ أَمْرَ الْجُيُوشِ، فَنَهَدَ إلَى رُسْتُمَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مَلَاحِمُ يَطُولُ ذِكْرُهَا، لَكِنّهُ قَتَلَ رُسْتُمَ، وَاسْتَبَاحَ عَسَاكِرَهُ، وَدَوّخَ فِي بِلَادِ التّرْكِ، وَاسْتَخْرَجَ أُخْتَيْهِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمّ مَاتَ إسفندياذ قَبْلَ أَبِيهِ، وَكَانَ مُلْكُ أَبِيهِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ عَامٍ، ثُمّ عَهِدَ إلَى بهمن بْنِ إسفندياذ، فَوَلّاهُ الْأَمْرَ بَعْدَ مَوْتِهِ وبهمن بِلُغَتِهِمْ: الْحَسَنُ النّيّةُ، وَدَامَ مُلْكُهُ نَيّفًا عَلَى مِائَةِ عَامٍ، وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ:
سَاسَانِ وَدَارَا، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ سَاسَانِ وَبَنِيهِ، وَهُمْ السّاسَانِيّةُ الّذِينَ قَامَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ، وَرُسْتُمُ آخِرُ مَذْكُورٍ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ كَيْ قباذ، وَكَانَ قَبْلَ عَهْدِ سُلَيْمَانَ، ثُمّ كَانَ رُسْتُمُ وَزِيرًا بَعْدَ كَيْ قباذ لِابْنِهِ كَيْ قاووس، وَكَانَتْ الْجِنّ قَدْ سُخّرَتْ لَهُ. يُقَالُ إنّ سُلَيْمَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَبَلَغَ مُلْكُهُ مِنْ الْعَجَائِبِ مَا لَا يَكَادُ أَنْ يُصَدّقَهُ ذَوُو الْعُقُولِ لِخُرُوجِهَا عَنْ الْمُعْتَادِ لَكِنّ مُحَمّدَ بْنَ جرير الطبرى ذكر منها أخبارا عجيبة «1» .
__________
(1) إنما سخر الجن بأمر الله لسليمان، لا بأمر سليمان. وانظر ما قصه السهيلى فى الطبرى ج 1 من ص 504 ط المعارف، وفيه: سياوخش بدلا من شاوخش، وفيه بعض ما يخالف ما هنا، ففى ص 564 ج 1 يذكر الطبرى أن-

(3/158)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ أَنّهُ هَمّ بِمَا هَمّ بِهِ نمروذ مِنْ الصّعُودِ إلَى السّمَاءِ، فَطَرَحَتْهُ الرّيحُ، وَضَعْضَعَتْ أَرْكَانَهُ، وَهَدَمَتْ بُنْيَانَهُ «1» ، ثُمّ ثَابَ إلَيْهِ بَعْضُ جُنُودِهِ، فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُلُوكِ يَغْلِبُ تَارَةً، وَيُغْلَبُ بِخِلَافِ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَسَارَ بِجُنُودِهِ إلَى الْيَمَنِ فَنَهَدَ إلَيْهِ عَمْرُو ذُو الْأَذْعَارِ، فَهَزَمَهُ عَمْرٌو، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا، وَحَبَسَهُ فِي مَحْبِسٍ حَتّى جَاءَ رُسْتُمُ، وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِ، فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ عَمْرٍو، إمّا بِطَوْعِ، وَإِمّا بِإِكْرَاهِ، وَرَدّهُ إلَى بِلَادِ فَارِسَ. وَلِابْنِهِ شاوخش مَعَ قراسيات مَلِكِ التّرْكِ خَبَرٌ عَجِيبٌ، وَكَانَ رُسْتُمُ هُوَ الْقَيّمُ عَلَى شاوخش وَالْكَافِلُ لَهُ فِي صِغَرِهِ، وَكَانَ آخِرُ أَمْرِ شاوخش بَعْدُ عَجَائِبَ أَنْ قَتَلَهُ قراسيات، وَقَامَ ابْنُهُ كَيْ خُسْرُو يَطْلُبُ بِثَأْرِهِ، فَدَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التّرْكِ وَقَائِعُ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَكَانَ الظّفَرُ لَهُ، فَلَمّا ظَفِرُوا رَأَى أَمَلَهُ فِي أَعْدَائِهِ مَا مَلَأَ عَيْنَهُ قُرّةً، وَقَلْبَهُ سُرُورًا زَهِدَ فِي الدّنْيَا، وَأَرَادَ السّيَاحَةَ فِي الْأَرْضِ، فَتَعَاتّ بِهِ أَبْنَاءُ فَارِسَ، وَحَذّرَتْهُ مِنْ شَتَاتِ الشّمْلِ بَعْدَهُ، وَشَمَاتَةِ الْعَدُوّ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ: كَيْ لهراسب، بْنِ كَيْ اجو، بْنِ كَيْ كِينَةَ، بْنِ كَيْ قاووس الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ «2» ، وَلَا أَدْرِي: هَلْ رُسْتُمُ الّذِي قَتَلَهُ أسفندياذ هو رستم
__________
- مقتل اسفنديار كان على يد رستم، وأما الذى قتل رستم وأباه دستان فهو أزدشير بهمن ابن بشتاسب ص 568.
(1) فى الطبرى ص 507 ج 1 ويذكر الطبرى عن كى قاوسى: «أن الله أعطاه قوة ارتفع بها، ومن معه فى الهواء، حتى انتهو إلى السحاب، ثم إن الله سلبهم تلك، القوة، فسقطوا، فهلكوا، وأفلت كى قاوس بنفسه» أكانت لديهم معرفة بغزو الفضاء؟ وقد ظهر الترك على بلاد فارس فى عهد ملك الترك خزاسف. واسم ابنة ليستنسب الأخرى: باذفراه
(2) نسبه فى الطبرى هكذا: كيلهراسب بن كيوجى بن كيمنوش بن كيفارشين ابن كيبيه بن كيقباذ الأكبر ص 515، وتستطيع فصل كى عن كل اسم مما سبق،

(3/159)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَاحِبُ كَيْ قاووس، أَمْ غَيْرُهُ، وَالظّاهِرُ أَنّهُ لَيْسَ بِهِ، لِأَنّ مُدّةَ مَا بَيْنَ كَيْ قاووس وَكَيْ يستاسب بَعِيدَةٌ جِدّا، وَأَحْسَبُهُ كَمَا قَدّمْنَا أَنّهُ كَانَ مِنْ التّرْكِ، وَهَذَا كُلّهُ كَانَ فِي مُدّةِ الْكِينِيّةِ، وَعِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِقِتَالِ الترك استعملوا بخت نصّر الْبَابِلِيّ عَلَى الْعِرَاقِ، فَكَانَ مِنْ أُمُورِهِ مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَإِثْخَانِهِ فِيهِمْ، وَهَدْمِهِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِحْرَاقِهِ لِلتّوْرَاةِ وَقَتْلِهِ لِأَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاسْتِرْقَاقِهِ لِنِسَاءِ مُلُوكِهِمْ وَلِذَرَارِيّهِمْ مَعَ عَيْشِهِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ حِينَ جَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التّفَاسِيرِ، وَمَعْلُومٌ عِنْدَ أَصْحَابِ التّوَارِيخِ «1» .
فَهَذِهِ جُمْلَةُ مُخْتَصَرَةٍ تَشْرَحُ لَك مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ ذِكْرِ رُسْتُمَ واسفندياذ، وكانت الكينية قبل مدة عيسى بن مَرْيَمَ، أَوّلُهُمْ فِي عَهْدِ أفريدون قَبْلَ مُوسَى عليه السلام بمثين من السنين، وآخرهم فى مدة الاسكندر
__________
(1) أخبار بختنصر فى الجزء الأول من تاريخ الطبرى ص 538، وكان فى ايام لهراسب أحد ملوك الفرس، ويذكر الطبرى أن بختنصر وجد فى سجن بنى إسرائيل إرميا النبى، فسأله: ما خطبك: فأخبره أن الله بعثه إلى قومه- بنى إسرائيل؛ ليحذرهم الذى حل بهم- يعنى: من بختنصر- فكذبوه، وحبسوه؛ فقال بختنصر: يئس القوم قوم عصوا رسول ربهم. ثم أطلق سراحه، وأحسن إليه ص 538 ج 1 وفى سفر أرميا إصحاح 26 أن بنى إسرائيل هموا بقتل آرميا لأنه قال لهم: «ارجعوا كل واحد عن طريقه الردىء وعن شر أعمالكم.. ولا تسلكوا وراء آلهة أخرى لتعبدوها وتسجدوا لها» إصحاح 25، وفيه أيضا أنه حذرهم من «نبوخذ راصر» أي: بختنصر فإن الله سيسلطه عليهم إن لم يرجعوا. ويقع سفر أرميا هذا فى أكثر من ستين صفحة، وكله حول هذا. وبعده سفر آخر اسمه: مراثى أرميا، وهى منسوبة إليه فى رثاء أورشليم بعد تخريب بختنصر لها.

(3/160)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن قَلِيسٍ «1» وَالْإِسْكَنْدَرُ هُوَ الّذِي سَلَبَ مُلْكَهُمْ، وَقَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا، وَهُوَ آخِرُهُمْ، ثُمّ كَانَتْ الْأَشْغَانِيّةُ مَعَ مُلُوكِ الطّوَائِفِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ عَامًا، وَقِيلَ:
أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ، وَقَوْلُ الْمَسْعُودِيّ: خَمْسِمِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ فِي خِلَالِ أمرهم بعث عيسى بن مَرْيَمَ، ثُمّ كَانَتْ السّاسَانِيّةُ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ مُلْكًا حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ، فَفَضّ خِدْمَتَهُمْ. وَخَضّدَ شَوْكَتَهُمْ، وَهَدَمَ هَيَاكِلَهُمْ، وَأَطْفَأَ نِيرَانَهُمْ الّتِي كَانُوا يعبدون، وذلك كله فى خلافة عمر.
عَنْ سُورَتَيْ الْكَهْفِ وَالْفُرْقَانِ- سَبَبُ نُزُولِ الْكَهْفِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ إرْسَالَ قُرَيْشٍ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى يَهُودَ، وَمَا رَجَعَا بِهِ مِنْ عِنْدِهِمْ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الْأُمُورِ الثّلَاثَةِ الّتِي قَالَتْ الْيَهُودُ: إنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَا فَهُوَ نَبِيّ وَإِلّا فَهُوَ مُتَقَوّلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا، وَلَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللهُ، فَأَبْطَأَ عَنْهُ الْوَحْيُ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا «2» ، وفى سير التّيمى وموسى بن عقبة
__________
(1) يعنى اسكندر المقدونى بن فليبس.
(2) جاء فى حديث روى بعضه فى كتب الصحاح ما يخالف ما ذهب إليه ابن إسحاق فى شأن إرسال النضر وعقبة، وإليك ما روى فى هذا الشأن. روى البخارى ومسلم وأحمد والترمذى وقال: إنه صحيح- عن ابن مسعود؛ «كنت أمشى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حرث المدينة، وهو متوكىء على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، قال: فسألوه عن الروح، فقالوا: يا محمد: ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب، قال: فظننت أنه-

(3/161)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنّ الْوَحْيَ إنّمَا أَبْطَأَ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ، ثُمّ جَاءَ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الْكَهْفِ
لِمَ قَدّمَ الْحَمْدَ عَلَى الْكِتَابِ؟! وَذَكَرَ افْتِتَاحَ الرّبّ سُبْحَانَهُ بِحَمْدِ نَفْسِهِ، وَذَكَرَ نُبُوّةَ نَبِيّهِ حَمْدُهُ لِنَفْسِهِ تَعَالَى خَبَرٌ بَاطِنُهُ الْأَمْرُ وَالتّعْلِيمُ لِعَبْدِهِ كَيْفَ يَحْمَدُهُ، إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَضَتْ الْحَالُ الْوُقُوفَ عَنْ تَسْمِيَتِهِ، وَالْعِبَارَاتُ عَنْ جَلَالِهِ، لِقُصُورِ كُلّ عبارة عما هنا لك مِنْ الْجَلَالِ، وَأَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَلَمَا كَانَ الْحَمْدُ وَاجِبًا عَلَى الْعَبْدِ قُدّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْتَرِنَ فِي اللّفْظِ بِالْحَمْدِ الّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلِيَسْتَشْعِرَ الْعَبْدُ وُجُوبَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ، وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ قَالَ: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ» وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْفُرْقَانِ الّذِي هُوَ الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ. قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ «1»
__________
- يوحى إليه، فقال: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) قَالَ: فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم: لا تسألوه» وفى رواية البخارى: «فلم يرد عليهم شيئا، فعلت أنه يوحى إليه، فقمت مقامى فلما نزل الوحى، قال: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) والمشكل هنا أن سورة الإسراء: مكية وظاهر القصة يوحى بان الاية مدنية. ولو كان الأمر قاصرا على الرواية الأولى: «فظننت أنه يوحى إليه» لقلنا إن الرسول انما سكت ليتذكر الاية التى يرد بها عليهم، فظن ابن مسعود أنه يوحى إليه، إما ابن كثير فيقول: «وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحى بأنه يجيبهم عما سألوه بالاية المتقدم إنزالها عليه. والذى يدل على نزول هذه الاية بمكة ما رواه أحمد أن قريشا قالت ليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل. فقالوا: سلوه عن الروح، فنزلت الاية» وإجابة ابن كثير غير مقنعة والعسيب: عصن من جريد النخلة.
(1) هذا جزء من آية رقم 92 و 155 من سورة الأنعام. والذى ذكره-

(3/162)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُبارَكٌ فلما افتتح السورة بتبارك الّذِي، بَدَأَ بِذِكْرِ الْفُرْقَانِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ، ثُمّ قَالَ: عَلَى عَبْدِهِ، فَانْظُرْ إلَى تَقْدِيمِ ذِكْرِ عَبْدِهِ عَلَى الْكِتَابِ، وَتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَشَاكُلِ اللّفْظِ وَالْتِئَامِ الْكَلَامِ نَرَى الْإِعْجَازَ ظَاهِرًا، وَالْحِكْمَةَ بَاهِرَةً، وَالْبُرْهَانَ وَاضِحًا:
وَأَنْشَدَ لِذِي الرّمّةِ.
شَرْحُ شَوَاهِدَ شِعْرِيّةٍ:
كَأَنّهُ بِالضّحَى تَرْمِي الصّعِيدَ بِهِ ... دَبّابَةٌ فِي عِظَامِ الرّأْسِ خُرْطُومُ
يَصِفُ وَلَدَ الظّبْيَةِ: وَالْخُرْطُومُ: مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ، أَيْ: كَأَنّهُ مِنْ نَشَاطِهِ دَبّتْ الْخَمْرُ فِي رَأْسِهِ. وَأَنْشَدَ لَهُ أَيْضًا:
طَوَى النّحْزُ وَالْأَجْرَازُ. الْبَيْتَ. وَالنّحْزُ: النّخْسُ، وَالنّحَازُ: دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ وَالنّحِيزَةُ: الْغَرِيزَةُ، وَالنّحِيزَةُ «1» : نَسِيجَةٌ كَالْحِزَامِ: وَالضّلُوعُ الْجَرَاشِعُ. هُوَ جَمْعُ جُرْشُعٍ. قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ. الْجُرْشُعُ: الْعَظِيمُ الصّدْرُ، فَمَعْنَاهُ إذًا فِي الْبَيْتِ عَلَى هَذَا: الضّلُوعُ مِنْ الْهُزَالِ قَدْ نَتَأَتْ، وَبَرَزَتْ كالصدر البارز.
__________
- ابن إسحاق فى أسباب نزول «وما نتنزل إلا بأمر ربك» روى فيه الإمام أحمد بسنده عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «ص» لجبرائيل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟! قال: فنزلت هذه الاية، انفرد بإخراجه البخارى فرواه عند تفسير هذه الاية عن أبى نعيم عن عمر بن ذربة
(1) فى اللسان أيضا: النحز: الضرب والدفع والسعال عامة، والنحاز: داء يأخذ الإبل والدواب، والنحيزة: الطريق بعينه. وشىء ينسج أعرض من الحزام يخاط على طرف شقة البيت، وفى القاموس: تكون على الفساطيط والبيوت، والأجراز: جميع جرز: السنة أو الأرض المجدبة.

(3/163)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرّقِيمُ وَأَهْلُ الْكَهْفِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الرّقِيمَ وَفِيهِ سِوَى مَا قَالَهُ أَقْوَالٌ. رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنّهُ قَالَ: الرّقِيمُ:
الْكَلْبُ، وَعَنْ كَعْبٍ أَنّهُ قَالَ: هُوَ اسْمُ الْقَرْيَةِ الّتِي خَرَجُوا مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْوَادِي وَقِيلَ: هُوَ صَخْرَةٌ، وَيُقَالُ: لَوْحٌ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَدِينُهُمْ وَقِصّتُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُ إلّا الرّقِيمَ وَالْغِسْلِينَ وَحَنَانًا وَالْأَوّاهَ «1» ، وَقَدْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا وَهِيَ: مَلِيخًا، كسليما، مرطوش ابن أَنَسٍ، أريطانس، أَيُونُسُ، شاطيطوش «2» . وَقِيلَ فِي اسْمِ مَدِينَتِهِمْ:
أفوس، وَاخْتُلِفَ فِي بَقَائِهِمْ إلَى الْآنِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُمْ، بَلْ صَارُوا تُرَابًا قَبْلَ مَبْعَثِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ غَيْرَ هَذَا، وَأَنّ الْأَرْضَ لَمْ تَأْكُلْهُمْ، وَلَمْ تُغَيّرْهُمْ، وَأَنّهُمْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ القسطنطينية، فَاَللهُ أَعْلَمُ. رُوِيَ أَنّهُمْ سيحجون البيت إذا نزل عيسى بن مَرْيَمَ. أَلْفَيْت هَذَا الْخَبَرَ فِي كِتَابِ الْبَدْءِ لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ «3» .
إعْرَابُ أَحْصَى:
وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً الْكَهْفِ: 12 قَدْ أَمْلَيْنَا فِي إعْرَابِ هَذِهِ الْآيَةِ نَحْوًا مِنْ كُرّاسَةٍ، وَذَكَرْنَا مَا وَهَمَ فِيهِ الزّجّاجُ مِنْ إعْرَابِهَا؛ حَيْثُ جَعَلَ أَحْصَى اسْمًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ،، وَأَمَدًا: تَمْيِيزٌ وَهَذَا لَا يَصِحّ؛ لِأَنّ التّمْيِيزَ هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى، فَإِذَا قُلْت: أَيّهُمْ أَعْلَمُ أَبًا، فَالْأَبُ هُوَ الْعَالِمُ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت أَيّهُمْ أَفْرَهُ عَبْدًا، فَالْعَبْدُ هُوَ الفاره،
__________
(1) لا شك فى أنه نقل غير صحيح عن ابن عباس يراد به غرض خبيث.
(2) رجم بالغيب فالسند فى معرفتها ضعيف جدا
(3) الحق فيما نقل عن ابن عباس، وما قيل بعده فأساطير.

(3/164)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ إذًا أَنْ يَكُونَ الْأَمَدُ فَاعِلًا بِالْإِحْصَاءِ، وَهَذَا مُحَالٌ، بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ، وَأَحْصَى: فِعْلٌ مَاضٍ، وَهُوَ النّاصِبُ لَهُ، وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ الْإِمْلَاءِ أَنّ أَيّهمْ، قَدْ يَجُوزُ فِيهِ النّصْبُ بِمَا قَبْلَهُ إذَا جَعَلْته خَبَرًا، وَذَلِكَ عَلَى شُرُوطٍ بَيّنّاهَا هُنَالِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَتِهَا، أَيْ: وَمَوَاضِعَهَا، وَكَشَفْنَا أَسْرَارَهَا.
عَنْ الضّرْبِ وَتَزَاوُرِ الشّمْسِ وَفَائِدَةِ الْقِصّةِ:
وَقَوْلِهِ سبحانه: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أَيْ: أَنِمْنَاهُمْ، وَإِنّمَا قِيلَ فِي النّائِمِ:
ضُرِبَ عَلَى أُذُنِهِ؛ لِأَنّ النّائِمَ يَنْتَبِهُ مِنْ جِهَةِ السّمْعِ، وَالضّرْبُ هُنَا مُسْتَعَارٌ مِنْ ضَرَبْت الْقُفْلَ على الباب، وذكر قوله تعالى: تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ الْآيَةَ. وَقِيلَ فِي تَقْرِضُهُمْ: تُحَاذِيهِمْ، وَقِيلَ: تَتَجَاوَزُهُمْ شيئا شيئا مِنْ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، أَيْ: تَقْطَعُ مَا هُنَالِكَ مِنْ الْأَرْضِ، وَهَذَا كُلّهُ شَرْحُ اللّفْظِ، وَأَمّا فَائِدَةُ الْمَعْنَى، فَإِنّهُ بَيّنٌ أَنّهُمْ فِي مَقْنُوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ، لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ الشّمْسُ، فَتُحْرِقُهُمْ، وَتُبْلِي ثِيَابَهُمْ، وَيُقَلّبُونَ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ.
لِئَلّا تَأْكُلَهُمْ الْأَرْضُ، وَالْفَائِدَةُ الْعُظْمَى فِي هَذِهِ الصّفَةِ بَيَانُ كَيْفِيّةِ حَالِهِمْ فِي الْكَهْفِ، وَحَالِ كَلْبِهِمْ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ الْكَهْفِ، وَأَنّهُ بِالْوَصِيدِ مِنْهُ، وَأَنّ بَابَ الْكَهْفِ إلَى جِهَةِ الشّمَالِ لِلْحِكْمَةِ الّتِي تَقَدّمَتْ، وَأَنّ هَذَا الْبَيَانَ لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ مَنْ رَآهُمْ، فَإِنّ الْمُطَلّعَ عَلَيْهِمْ يُمْلَأُ مِنْهُمْ رُعْبًا، فَلَا يُمْكِنُهُ تَأَمّلُ هَذِهِ الدّقَائِقِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَالنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَرَهُمْ قَطّ، وَلَا سَمِعَ بِهِمْ، وَلَا قَرَأَ كِتَابًا فِيهِ صِفَتُهُمْ؛ لِأَنّهُ أُمّيّ فِي أُمّةٍ أُمَيّةٍ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِبَيَانِ لَا يَأْتِي بِهِ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ حَتّى إنّ كَلْبَهُمْ قَدْ ذُكِرَ، وَذُكِرَ مَوْضِعُهُ وَبَسْطُهُ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، وهم فى

(3/165)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَجْوَةِ، وَفِي هَذَا كُلّهِ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ عَلَى نُبُوّتِهِ، وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَنّهُ غَيْرُ مُتَقَوّلٍ، كَمَا زَعَمُوا، فَقِفْ بِقَلْبِك عَلَى مَضْمُونِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَالْمُرَادُ بِهَا تُعْصَمْ إنْ شَاءَ اللهُ مِمّا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُلْحِدَةُ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَقَوْلِهِمْ: أَيّ فَائِدَةٍ فِي أَنْ تَكُونَ الشّمْسُ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ، وَهَكَذَا هُوَ كُلّ بَيْتٍ يَكُونُ فِي مَقْنُوَةٍ، أَيْ: بَابُهُ لِجِهَةِ الشّمَالِ، فَنَبّهَ أَهْلُ الْمَعَانِي عَلَى الْفَائِدَةِ الْأُولَى الْمُنْبِئَةِ عَنْ لُطْفِ اللهِ بِهِمْ، حَيْثُ جَعَلَهُمْ فِي مَقْنُوَةٍ تَزَاوَرُ عنهم الشمس فلا تؤذيهم، فيقال: لِمَنْ اقْتَصَرَ مِنْ أَهْلِ التّأْوِيلِ عَلَى هَذَا: فَمَا فِي ذِكْرِ الْكَلْبِ وَبَسْطِ ذِرَاعَيْهِ مِنْ الْفَائِدَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى اللّطْفِ بِهِمْ؟ فَالْجَوَابُ: مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَتْرُكْ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ شَيْئًا، حَتّى ذَكَرَ حَالَ كَلْبِهِمْ مَعَ أَنّ تَأَمّلَهُمْ مُتَعَذّرٌ عَلَى مَنْ اطّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ الرّعْبِ، فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَرَهُمْ، وَلَا سَمِعَ بِهِمْ، لَوْلَا الْوَحْيُ الّذِي جَاءَهُ مِنْ اللهِ سُبْحَانَهُ بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ الشّافِي، وَالْبُرْهَانِ الْكَافِي، وَالرّعْبِ الّذِي كَانَ يَلْحَقُ الْمُطَلّعَ عَلَيْهِمْ، قِيلَ: كَانَ مِمّا طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ. وَمِنْ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ القصة قوله سبحانه: فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أَيْ: فِي فَضَاءٍ، وَمَعَ أَنّهُمْ فِي فَضَاءٍ مِنْهُ، فَلَا تُصِيبُهُمْ الشّمْسُ. قَالَ ابْنُ سَلّامٍ:
فهذه آية. قال: وكانوا يقلّبون فى السنة مَرّتَيْنِ «1» ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ: أَنّهُ أَخْرَجَ الْكَلْبَ عَنْ التّقْلِيبِ، فَقَالَ: بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ، وَمَعَ أَنّهُ كَانَ لَا يُقَلّبُ لَمْ تَأْكُلْهُ الْأَرْضُ؛ لِأَنّ التّقْلِيبَ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ بِهِمْ، وَالْمَلَائِكَةُ أَوْلِيَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَالْكَلْبُ خَارِجٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. أَلَا تَرَاهُ
__________
(1) قوله: مرتين رجم بالغيب أيضا، واللفظ يفيد أكثر من مرتين.

(3/166)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَيْفَ قَالَ: بِالْوَصِيدِ، أَيْ: بِفَنَاءِ الْغَارِ لَا دَاخِلًا مَعَهُمْ؛ لِأَنّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ «1» فَهَذِهِ فَوَائِدُ جُمّةٌ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا هَذَا الْكَلَامُ. قَالَ ابْنُ سَلّامٍ:
وَإِنّمَا كَانُوا يُقَلّبُونَ فِي الرّقْدَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثُوا.
الْمُتَنَازِعُونَ فِي أَمْرِهِمْ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ سُبْحَانَهُ: (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) الْكَهْفِ: 21 وَقَالَ: يَعْنِي أَصْحَابَ السّلْطَانِ، فَاسْتَدَلّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا «2» . وَذَكَرَ الطبرى أن أهل
__________
(1) البخارى ومسلم والترمذى وأحمد والنسائى وابن ماجة. ولكن الله لم يذكر كلب أهل الكهف بما يفيد لعنه، وقد أباح الله فى القرآن لنا تربية الجوارح، وأكل ما صادته، يقول ابن كثير فى تفسير قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح) : «وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح وهى من الكلاب والفهود والصقور وأشباهها، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة. وقد ثبت فى الصحيحين عن عدى بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إنى أرسل الكلاب المعلمة، وأذكر اسم الله، فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره فأصيب. قلت له: فإنى أرمى بالمعراض الصيد، فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرض، فإنه وقيذ، فلا تأكله، خزق السهم وخسق: إذا أصاب الرمية ونفذ فيها. والمعراض بالكسر: سهم بلا ريش ولا نصل، وإنما يصيب بعرضه دون حده، وشاة وقيذ: قتلت بالخشب. فلعل المراد: كلب الزبنة لا كلب الصيد والحرث.
(2) ذكرت مرارا أن دين رسل الله جميعا من لدن نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم- هو دين الإسلام. ويقال عن أتباعهم إنهم مسلمون، والذين-

(3/167)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تِلْكَ الْمَدِينَةِ تَنَازَعُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِمْ فِي الْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ: كَيْفَ تَكُونُ إعَادَتُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: تُعَادُ الْأَجْسَادُ كَمَا كَانَتْ بِأَرْوَاحِهَا، كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ، وَقَالُوا: تُبْعَثُ الْأَرْوَاحُ دُونَ الْأَجْسَادِ، كَمَا يَقُولُهُ النّصَارَى، وَشَرِيَ بَيْنَهُمْ الشّرّ، وَاشْتَدّ الْخِلَافُ، وَاشْتَدّ عَلَى مَلِكِهِمْ مَا نَزَلَ بِقَوْمِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَافْتَرَشَ الرّمَادَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْبُكَاءِ وَالتّضَرّعِ إلَى اللهِ أَنْ يُرِيَهُ الْفَصْلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَأَحْيَا اللهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ مَا عُرِفَ وَشُهِرَ، فَقَالَ الْمَلِكُ لِقَوْمِهِ: هَذِهِ آيَةٌ أَظْهَرَهَا اللهُ لَكُمْ لِتَتّفِقُوا، وَتَعْلَمُوا أَنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ كَمَا أَحْيَا هَؤُلَاءِ، وَأَعَادَ أَرْوَاحَهُمْ إلَى أَجْسَادِهِمْ، فَكَذَلِكَ يُعِيدُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا بَدَأَهُمْ، فَرَجَعَ الْكُلّ إلَى مَا قَالَهُ الْمَلِكُ، وَعَلِمُوا أَنّهُ الْحَقّ.
__________
- تنازعوا فى أمر الفتية طائفتان. إحداهما: قالت ما يقوله المسلم الذى يكل الأمر إلى الله، ولا يعدو على الغيب. إذ قالت: «ابنوا عليهم بنيانا» وعللت الأمر بكلمة مؤمنة، لا تصدر إلا عن مؤمن، وهى قولهم: «ربهم أعلم بهم» وفى كل لفظة هنا إشراقة من نور الإيمان القوى بالله. أما الاخرون، فقد وصفوا بغير ما يوصف به المؤمن التقى الخاشع، إذ وصفوا بأنهم: «غلبوا على أمرهم» فهم إذا أخذوا الأمر بالقهر والغلبة دون ترو أو نزوع إلى معرفة أمر الله، أو انعطاف إلى خشوع. ثم اقترحوا مصممين على ما اقترحوا: «لنتخذن عليهم مسجدا» هكذا بالتوكيد والقهر المستعلى. ووازن بين اقتراح الأولين وهو بناء بنيان عليهم، أى: سد باب الكهف تجده عملا إسلاميا، وبين اقتراح الاخرين، وهو اتخاذ مسجد، واتخاذ المساجد على القبور أمر لعنه الله ورسوله، وهو أشمل من إقامة مسجد

(3/168)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ وَاوِ الثّمَانِيَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ سبحانه وَيَقُولُونَ: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قَدْ أَفْرَدْنَا لِلْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْوَاوِ الّتِي يسميها بعض الناس: واو الثمانية «1» بابا
__________
(1) أى الواو التى تأتى بعد استيفاء سبعة أشياء، ثم تذكر قبل الثامن، وقد استشهد أصحابها بقوله سبحانه: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ» التوبة: 112 فقالوا: إن الواو جاءت بعد استيفاء الأوصاف السبعة. واستدلوا أيضا بقوله سبحانه: (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ، عابِداتٍ، سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) التحريم: 5 فجاءت بعد استيفاء الأوصاف السبعة. واستشهدوا بالاية التى سيتكلم عنها السهيلى: «سبعة وثامنهم» . واستشهدوا أيضا بقوله سبحانه: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» الزمر: 3- 7. فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية. وقال فى النار: «حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها» لما كانت سبعة. وقد رد الإمام اين القيم على هذا ردا طيبا. فقال عن آية التوبة باختصار: إن كل صفة لم تعطف على ما قبلها فيها كان فيه تنبيه على أنهما فى اجتماعهما كالوصف الواحد لموصوف واحد، فلم يحتج إلى عطف. فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة، حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته. مطلوب تعيينه، لا يكتفى فيه حصول الوصف الاخر، بل لابد أن يظهر أمره بالمعروف بصريحه، ونهيه عن المنكر بصريحه، وأيضا فحسن العطف ههنا ما تقدم من التضاد، فلما كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ضدين أحدهما: طلب الإيجاد، والاخر: طلب الإعدام، كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين. وقال: عن آية التحريم: إن دخول الواو قبل أبكار متعين؛ لأن الأوصاف التى قبلها المراد اجتماعها فى النساء. وأما وصفا البكارة والثيوبة، فلا يمكن اجتماعهما، فتعين العطف؛ لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين: الثيبات والأبكار، وسيأتى الكلام عن آية الكهف. أما آية الزمر عن الجنة والنار، فقال: لا دلالة فى اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها، بل هذا من باب حذف-

(3/169)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طَوِيلًا، وَاَلّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ تَعْلَمَ: أن هذا الْوَاوَ تَدُلّ عَلَى تَصْدِيقِ الْقَائِلِينَ لِأَنّهَا عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ: نَعَمْ، وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَذَلِكَ أَنّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: إنّ زَيْدًا شَاعِرٌ، فَقُلْت لَهُ: وَفَقِيهٌ، كُنْت قَدْ صَدّقْته، كَأَنّك قُلْت: نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ، وَفَقِيهٌ أَيْضًا، وَفِي الْحَدِيثِ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:
أيتوضأ بما أفضلت الخمر، فَقَالَ: وَبِمَا أَفْضَلَتْ السّبَاعُ. يُرِيدُ: نَعَمْ، وَبِمَا أَفْضَلَتْ السّبَاعُ. خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ. وَفِي التّنْزِيلِ: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، قالَ: وَمَنْ كَفَرَ) الْبَقَرَةِ: 126 هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
فَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَيَقُولُونَ: سَبْعَةٌ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «وَثَامِنُهُمْ كلبهم» وَلَيْسَ كَذَلِكَ: سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَرَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ؛ لِأَنّهُ فى موضع النعت لما
__________
- الجواب لنكتة بديعة، وهى أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها، ففتحت فى وجوههم؛ لأنه أبلغ فى مفاجأة المكروه، وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة، وهى مائدة الله، وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره، شرع لهم أبوابها، ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب، أتى بالواو العاطفة هكذا، الد الة على أنهم جاؤها بعد ما فتحت أبوابها، وحذف الجواب تفخيما لشأنه، وتعظيما لقدره كعادتهم فى حذف الأجوبة» ويقول عن دعوى واو الثمانية فى مسألة أبواب الجنة فى مكان آخر: «إن هذا لو صح، فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة فى اللفظ واحدا بعد واحد، فينتهون إلى السبعة، ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو، وهنا لا ذكر للفظ الثمانية فى الاية ولا عدها» انظر ص 52 وما بعدها ج 3 بدائع الفرائد وص 174 ج 2 من نفس الكتاب وفيه قال: «على أن فى كون الواو تجىء للثمانية كلاما آخر قد ذكرناه فى الفتح المكى، وبينا المواضع التى ادعى فيها أن الواو للثمانية، وأين يمكن دعوى ذلك، وأين يستحيل» .

(3/170)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْلَهُ، فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (رَجْمًا بِالْغَيْبِ) وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْقِصّةِ «1» .
آيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) وَفَسّرَهُ، فَقَالَ: أَيْ اسْتَثْنِ شِيئَةَ اللهِ. الشّيئَةُ: مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ، كَمَا أَنّ الْخِيفَةَ مَصْدَرُ خَافَ يَخَافُ، وَلَكِنّ هَذَا التّفْسِيرَ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الْمَعْنَى، فَلَفْظُ الْآيَةِ مشكل جدّا؛ لأن قوله: (لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) الْكَهْفِ: 23 نَهَى عَنْ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ أَنْ يَصِلَهُ بِإِلّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ الْمَنْهِيّ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ مَنْهِيّا أَيْضًا عَنْ أَنْ يَصِلَهُ بِقَوْلِهِ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ. هَذَا مُحَالٌ: فَقَوْلُهُ إذًا:
إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ اللهِ، رَاجِعٌ إلَى أَوّلِ الْكَلَامِ، وَهَذَا أَيْضًا إذَا تَأَمّلْته نَقْضٌ لِعَزِيمَةِ النّهْيِ، وَإِبْطَالٌ لِحُكْمِهِ، فَإِنّ السّيّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: لَا تَقُمْ إلّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ أَنْ تَقُومَ، فَقَدْ حَلّ عُقْدَةَ النّهْيِ؛ لِأَنّ مَشِيئَةَ اللهِ لِلْفِعْلِ لَا تُعْلَمُ إلّا بِالْفِعْلِ، فَلِلْعَبْدِ إذًا أَنْ يَقُومَ، وَيَقُولَ: قَدْ شَاءَ اللهُ أَنْ نَقُومَ، فَلَا يَكُونُ لِلنّهْيِ مَعْنًى عَلَى هَذَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَدّ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى النّهْيِ، وَلَا هو من
__________
(1) يقول الإمام ابن القيم عن كلام السهيلى هذا «واستنباطه حسن، غير أنه إنما يفيد «يعنى أن الواو تقتضى تقرير الجملة الأولى» اذا كان المعطوف بالواو ليس داخلا فى جملة قولهم: بل يكون قد حكى سبحانه أنهم قالوا: سبعة، ثم أخبر تعالى أن ثامنهم الكلب، فحينئذ يكون ذلك تقريرا لما قالوه، وإخبارا بكون الكلب ثامنا، وأما إذا كان الإخبار عن الكلب من جملة قولهم، وأنهم قالوا هذا، وهذا، لم يظهر ما قاله، ولا تقتضى الواو فى ذلك تقريرا ولا تصديقا فتأمله «ص 176 ج 2 بدائع الفوائد وانظر أيضا ج 3 ص 54.

(3/171)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكَلَامِ الّذِي نَهَى الْعَبْدَ عَنْهُ، فَقَدْ تَبَيّنَ إشْكَالُهُ، وَالْجَوَابُ: أَنّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا وَإِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَقُولَن: إنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلّا ذَاكِرًا إلّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ، أَوْ نَاطِقًا بِأَنْ يَشَاءَ اللهُ، وَمَعْنَاهُ: إلّا ذَاكِرًا شِيئَةَ اللهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ؛ لِأَنّ الشّيئَةَ مَصْدَرٌ، وَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ، فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَإِعْرَابُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ مَفْعُولٌ بِالْقَوْلِ الْمُضْمَرِ، وَالْعَرَبُ تَحْذِفُ الْقَوْلَ، وَتَكْتَفِي بِالْمَقُولِ فَفِي التّنْزِيلِ: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ) آلِ عِمْرَانَ: 106 أَيْ:
يُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ، فَحُذِفَ الْقَوْلُ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ الْمَقُولُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ الرّعْدِ: 24 أَيْ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ إذًا قَوْلُهُ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هِيَ مِنْ كَلَامِ النّاهِي لَهُ سُبْحَانَهُ، ثُمّ أَضْمَرَ الْقَوْلَ، وَهُوَ الذّكْرُ الّذِي قَدّمْنَاهُ، وَبَقِيَ الْمَقُولُ، وَهُوَ:
أَنْ يَشَاءَ اللهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مِنْ الْبَسْطِ وَالتّفْتِيشِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.
ولبثوا فى كهفهم:
فصل: وقد فسر قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَيْ:
سَيَقُولُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ التّأْوِيلَاتِ فِيهَا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَرَأَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ:
وَقَالُوا: لَبِثُوا، بِزِيَادَةِ قَالُوا. ثُمّ قَالَ ابن إسحق: قُلْ: رَبّي أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ الْمُؤَلّفِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنّمَا التّلَاوَةُ: قُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا «1»
__________
(1) فى النسخة التى معى: هى كما فى المصحف. وتأويل ابن هشام قوله تعالى: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ» تأويل رائع، إذ يجعل هذا القول من قول أهل الكتاب، وبهذا يستقيم ضمنا للاية. ويتفق هذا مع ما بعده، وهو قوله سبحانه: (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) -

(3/172)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ قِيلَ: إنّهُ إخْبَارٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى عَنْ مِقْدَارِ لُبْثِهِمْ، وَلَكِنْ لَمّا عَلِمَ اسْتِبْعَادَ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ لِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَعَلِمَ أَنّ فِيهِ تَنَازُعًا بَيْنَ النّاسِ، فَمِنْ ثَمّ قَالَ: قُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وَقَوْلِهِ: ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ، وَازْدَادُوا تِسْعاً أَيْ: إنّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ بِحِسَابِ الْعَجَمِ، وَإِنْ حُسِبَتْ الْأَهِلّةُ، فَقَدْ زَادَ الْعَدَدُ تِسْعًا، لِأَنّ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ بِحِسَابِ الشّمْسِ تَزِيدُ تِسْعَ سِنِينَ بِحِسَابِ الْقَمَرِ «1» فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ قَالَ ثَلَاثِمِائَةٍ سِنِينَ، وَلَمْ يَقُلْ: سَنَةً، وَهُوَ قِيَاسُ الْعَدَدِ فِي الْعَرَبِيّةِ «2» ، لِأَنّ الْمِائَةَ تُضَافُ إلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ، فَالْجَوَابُ أَنّ سِنِينَ فِي الْآيَةِ بَدَلٌ مِمّا قَبْلَهُ، لَيْسَ عَلَى حَدّ الْإِضَافَةِ وَلَا التّمْيِيزِ، وَلِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ عُدِلَ بِاللّفْظِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْبَدَلِ، وَذَلِكَ أَنّهُ لَوْ قَالَ: ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، لَكَانَ الْكَلَامُ كَأَنّهُ جَوَابٌ لِطَائِفَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ النّاسِ، وَالنّاسُ فِيهِمْ طَائِفَتَانِ: طَائِفَةٌ عَرَفُوا طُولَ لُبْثِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا كَمّيّةَ السّنِينَ، فَعَرّفَهُمْ أَنّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ، وَطَائِفَةٌ لَمْ يَعْرِفُوا طُولَ لُبْثِهِمْ، وَلَا شَيْئًا مِنْ خَبَرِهِمْ، فَلَمّا قَالَ: ثَلَاثَمِائَةِ مُعَرّفًا لِلْأَوّلِينَ بِالْكَمّيّةِ الّتِي شَكّوا فِيهَا، مُبَيّنًا لِلْآخَرِينَ أَنّ هَذِهِ الثّلَاثَمِائَةِ سُنُونَ، وَلَيْسَتْ أَيّامًا وَلَا شهورا، فانتظم البيان للطائفتين
__________
- اذ لو كان: «ولبثوا» من كلام الله نفسه ما كان لقوله: قل الله أعلم معنى. وقراءة ابن مسعود قراءة شاذة ورواية قتادة لها منقطعة.
(1) بل تزيد عن هذا. وهذا تأويل لا يليق بكتاب الله، ولا بكلام الله إنما يضطرون إليه، لأنهم يرون أن قوله تعالى: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ» هو من قول الله نفسه، وليس قولا يقصه الله عن غيره، وليس فى الاية ما يشير مطلقا إلى هذا التأويل،
(2) وقد أعرب سنين بدلا؛ لأن تمييز العدد مائة وما بعدها يكون مفردا مجرورا بالإضافة كقوله تعالى. فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكقوله: «كألف سنه مما تعدون» .

(3/173)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ، وَجَمْعِ الْمَعْدُودِ، وَتَبَيّنَ أَنّهُ بَدَلٌ؛ إذْ الْبَدَلُ يُرَادُ بِهِ: تَبْيِينُ مَا قَبْلَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنّ الْيَهُودَ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا أَنّ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ نَبَأً عَجِيبًا، وَلَمْ يَكُنْ الْعَجَبُ إلّا مِنْ طُولِ لُبْثِهِمْ غَيْرَ أَنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ أَوْ أَقَلّ، فَأَخْبَرَ أَنّ تِلْكَ السّنِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ، ثُمّ لَوْ وَقَفَ الْكَلَامُ هَهُنَا لَقَالَتْ الْعَرَبُ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِخَبَرِهِمْ: مَا هَذِهِ الثّلَاثُمِائَةِ؟ فَقَالَ كَالْمُبَيّنِ لَهُمْ: سِنِينَ، وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَى هَذَا التّفْسِيرِ عَنْ الضّحّاكِ، ذَكَرَهُ النّحّاسُ.
السّنَةُ وَالْعَامُ:
فَصْلٌ: وَقَالَ: سِنِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أَعْوَامًا، وَالسّنَةُ وَالْعَامُ، وَإِنْ اتّسَعَتْ الْعَرَبُ فِيهِمَا، وَاسْتَعْمَلَتْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ اتّسَاعًا، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَالْعِلْمِ بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ فَرْقًا، فَخُذْهُ أَوّلًا مِنْ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنّ السّنَةَ مِنْ سَنَا يَسْنُو إذَا دَارَ حَوْلَ الْبِئْرِ، وَالدّابّةُ: هِيَ السّانِيَةُ، فَكَذَلِكَ السّنَةُ دَوْرَةٌ من دورات الشمس، وقد تُسَمّى السّنَةُ: دَارًا، فَفِي الْخَبَرِ: إنّ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أَلْفَ دَارٍ، أَيْ: أَلْفَ سَنَةٍ، هَذَا أَصْلُ الِاسْمِ، وَمِنْ ثَمّ قَالُوا: أَكَلَتْهُمْ السّنَةُ، فَسَمّوْا شِدّةَ الْقَحْطِ سَنَةً، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الْأَعْرَافِ: 13 وَمِنْ ثَمّ قِيلَ: أَسْنَتَ الْقَوْمُ إذَا أَقْحَطُوا، وَكَأَنّ وَزْنَهُ أَفْعَتُوا، لَا أَفْعَلُوا، كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ، وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ التّاءَ بَدَلًا مِنْ الْوَاوِ، فَهِيَ عِنْدَهُ:
أَفْعَلُوا، لِأَنّ الْجُدُوبَةَ وَالْخِصْبَ مُعْتَبَرٌ بِالشّتَاءِ وَالصّيْفِ، وَحِسَابُ الْعَجَمِ إنّمَا هُوَ بِالسّنِينَ الشّمْسِيّةِ بِهَا يُؤَرّخُونَ، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ مِنْ أُمّةٍ عَجَمِيّةٍ، وَالنّصَارَى يَعْرِفُونَ حَدِيثَهُمْ، وَيُؤَرّخُونَ بِهِ، فَجَاءَ اللّفْظُ فِي الْقُرْآنِ بِذِكْرِ السّنِينَ الْمُوَافِقَةِ لِحِسَابِهِمْ، وَتَمّمَ الْفَائِدَةَ بِقَوْلِهِ: وَازْدَادُوا تِسْعًا لِيُوَافِقَ حِسَابَ العرب، فإن

(3/174)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حِسَابَهُمْ بِالشّهُورِ الْقَمَرِيّةِ كَالْمُحَرّمِ وَصَفَرٍ وَنَحْوِهِمَا «1» وَانْظُرْ بَعْدَ هَذَا إلَى قَوْلِهِ:
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً يُوسُفَ: 47 الْآيَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَعْوَامًا، نَفْيُهُ شَاهِدٌ لِمَا تَقَدّمَ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: (ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ) ، وَلَمْ يَقُلْ: سَنَةٌ عُدُولًا عَنْ اللّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنّ السّنَةَ قَدْ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ الشّدّةِ وَالْأَزْمَةِ «2» كَمَا تَقَدّمَ، فَلَوْ قَالَ: سَنَةً لَذَهَبَ الْوَهْمُ إلَيْهَا؛ لِأَنّ الْعَامَ أَقَلّ أَيّامًا مِنْ السّنَةِ، وَإِنّمَا دَلّتْ الرّؤْيَا عَلَى سَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ، وَإِذَا انْقَضَى الْعَدَدُ، فَلَيْسَ بَعْدَ الشّدّةِ إلّا رَخَاءٌ، وَلَيْسَ فِي الرّؤْيَا مَا يَدُلّ عَلَى مُدّةِ ذَلِكَ الرّخَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَقَلّ مِنْ عَامٍ، وَالزّيَادَةُ عَلَى الْعَامِ مَشْكُوكٌ فِيهَا، لَا تَقْتَضِيهَا الرّؤْيَا، فَحَكَمَ بِالْأَقَلّ، وَتَرَكَ مَا يَقَعُ فِيهِ الشّكّ مِنْ الزّيَادَةِ عَلَى الْعَامِ، فَهَاتَانِ فَائِدَتَانِ فِي اللّفْظِ بِالْعَامِ فِي هَذَا الموطن، وأما قوله:
(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) فَإِنّمَا ذَكَرَ السّنِينَ، وَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ الْأَعْوَامِ، لِأَنّهُ مُخْبِرٌ عَنْ اكْتِهَالِ الْإِنْسَانِ، وَتَمَامِ قُوّتِهِ وَاسْتِوَائِهِ، فَلَفْظُ السّنِينَ أَوْلَى بِهَذَا الْمَوْطِنِ؛ لِأَنّهَا أَكْمَلُ مِنْ الْأَعْوَامِ، وَفَائِدَةٌ أُخْرَى: أَنّهُ خَبَرٌ عَنْ السّنّ، وَالسّنّ مُعْتَبَرٌ بِالسّنِينَ، لِأَنّ أَصْلَ السّنّ فِي الْحَيَوَانِ لَا يُعْتَبَرُ إلّا بِالسّنَةِ الشّمْسِيّةِ، لِأَنّ النّتَاجَ، وَالْحَمْلَ يَكُونُ بِالرّبِيعِ وَالصّيْفِ، حَتّى قِيلَ رِبْعِيّ لِلْبَكِيرِ وَصَيْفِيّ «3» لِلْمُؤَخّرِ، قَالَ الراجز:
__________
(1) رأى يحتاج إلى دليل أقوى مما ذكر.
(2) فى الراغب: أكثر ما تستعمل السنة فى الحول الذى فيه الحرب.
(3) فى القاموس: «وجمع الربيع: ربع بضمتين، وكصرد: الفصيل ينتج فى الربيع، وهو أول النتاج.. فإذا نتج فى آخر النتاج فهبع، وهى هبعة»

(3/175)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنّ بَنِيّ صِبْيَةٌ صَيْفِيّونْ ... أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ رِبْعِيّونْ «1»
فَاسْتَعْمَلَهُ فِي الْآدَمِيّينَ، فَلَمّا قِيلَ فِي الْفَصِيلِ وَنَحْوِهِ: ابْنُ سَنَةٍ وَابْنُ سَنَتَيْنِ، قِيلَ ذَلِكَ فِي الْآدَمِيّينَ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ فى الماشية لما قدمنا، وأما قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ فلأنه قال سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ الْبَقَرَةِ: 189 فَالرّضَاعُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ، وَقَدْ قَصَرْنَا فِيهَا عَلَى الْحِسَابِ بِالْأَهِلّةِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً وَلَمْ يَقُلْ:
سَنَةً؛ لِأَنّهُ يَعْنِي شَهْرَ الْمُحَرّمِ وَرَبِيعَ إلَى آخِرِ الْعَامِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَحْسِبُونَ بِأَيْلُول وَلَا بِتِشْرِين وَلَا بينير «2» ، وَهِيَ الشّهُورُ الشّمْسِيّةُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ إخْبَارٌ مِنْهُ لِمُحَمّدِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأُمّتِهِ وَحِسَابُهُمْ بِالْأَعْوَامِ وَالْأَهِلّةِ كَمَا وَقّتَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصّةِ نُوحٍ: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا الْعَنْكَبُوتِ: 140 قِيلَ: إنّمَا ذَكَرَ أَوّلًا السّنِينَ؛ لِأَنّهُ كَانَ فى شدائد
__________
(1) البيت لسعد بن مالك بن ضبيعة، وقيل: هى لأكثم بن صيفى «اللسان مادة ربع، وصيف» ونسبه أبو زيد الأنصارى فى نوادره إلى أكثم بن صيفى. وقال: «يقال: أصاف الرجل فهو مصيف إذا ترك النساء شابا لم يتزوج، ثم تزوج بعد ما أسن، ويقال لولده: صيفيون» ثم استشهد بهذا البيت ثم قال: «الربعيون الذين ولدوا وآباؤهم شباب فهم رجال» ص 87 طبع لبنان. وفى إصلاح المنطق ص 470: «يقال للرجل إذا ولد له فى فتاء السن: قد أربع، وهو مربع وولده: ربعيون، وإذا تأخر ولده إلى آخر عمره قيل: أصاف فلان، وهو مصيف، وولده: صيفيون»
(2) ثم استشهد بهذا البيت «2» يعنى يناير.

(3/176)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُدّتِهِ كُلّهَا إلّا خَمْسِينَ عَامًا مُنْذُ جَاءَهُ الْفَرَجُ، وَأَتَاهُ الْغَوْثُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ- سُبْحَانَهُ- عَلِمَ أَنّ عُمْرَهُ كَانَ أَلْفًا، إلّا أَنّ الْخَمْسِينَ مِنْهَا، كَانَتْ أَعْوَامًا، فَيَكُونُ عُمُرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ، تَنْقُصُ مِنْهَا مَا بَيْنَ السّنِينَ الشّمْسِيّةِ وَالْقَمَرِيّةِ فِي الْخَمْسِينَ خَاصّةً؛ لِأَنّ خَمْسِينَ عاما بحساب الأهلة أفل مِنْ خَمْسِينَ سَنَةٍ شَمْسِيّةٍ بِنَحْوِ عَامٍ وَنِصْفٍ، فَإِنْ كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ هَذَا مِنْ عُمُرِهِ، فَاللّفْظُ مُوَافِقٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِلّا فَفِي الْقَوْلِ الْأَوّلِ مَقْنَعٌ، وَاَللهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ، فَتَأَمّلْ هَذَا، فَإِنّ الْعِلْمَ بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ، وَوَضْعَ الْأَلْفَاظِ فِي مَوَاضِعِهَا اللّائِقَةِ بِهَا يَفْتَحُ لَك بَابًا مِنْ الْعِلْمِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَابْنِ هَذَا الْأَصْلَ تَعْرِفُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الْمَعَارِجِ: 4. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: [وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ] كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ الْحِجْرِ: 47 وَأَنّهُ كَلَامٌ وَرَدَ فِي مَعْرِضِ التّكْثِيرِ وَالتّفْخِيمِ، لَطُولُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَالسّنَةِ أَطْوَلُ مِنْ الْعَامِ، كَمَا تَقَدّمَ، فَلَفْظُهَا أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَقَامِ.
ذِكْرُ قِصّةِ الرّجُلِ الطّوّافِ ذِي الْقَرْنَيْنِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قِصّةَ الرّجُلِ الطّوّافِ، وَالْحَدِيثَ الّذِي جَاءَ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ كَانَ مَلِكًا مَسَحَ الْأَرْضَ بِالْأَسْبَابِ، وَلَمْ يَشْرَحْ مَعْنَى الْأَسْبَابِ. وَلِأَهْلِ التّفْسِيرِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً الْكَهْفِ: 84: أَيْ: عِلْمًا يَتْبَعُهُ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَ سَبَباً الْكَهْفِ: 85 أَيْ: طَرِيقًا مُوَصّلَةً، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ السّبَبُ: حَبْلٌ مِنْ نُورٍ، كَانَ مَلَكٌ يَمْشِي بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَتْبَعُهُ، وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِ ذَلِكَ الْمَلِكِ: زياقيل، وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: سَبَبًا أَيْ: طَرِيقًا، وَيَقْرُبُ

(3/177)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يكون تفسيرا لقول النبى صلّى الله عليه وسلم: مَسَحَ الْأَرْضَ بِالْأَسْبَابِ «1» ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِذِي الْقَرْنَيْنِ، كَمَا اُخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، وَاسْمِ أَبِيهِ، فَأَصَحّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ الْكَوّاءِ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَرَأَيْت ذَا الْقَرْنَيْنِ، أَنَبِيّا كَانَ أَمْ ملكا؟ فقال: لَا نَبِيّا كَانَ، وَلَا مَلِكًا، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا دَعَا قَوْمَهُ إلَى عِبَادَةِ اللهِ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنَيْ رَأْسِهِ ضَرْبَتَيْنِ، وَفِيكُمْ مِثْلُهُ. يَعْنِي: نَفْسَهُ، وَقِيلَ: كَانَتْ لَهُ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعَرٍ، وَالْعَرَبُ تُسَمّي الْخُصْلَةَ مِنْ الشّعَرِ: قَرْنًا، وَقِيلَ: إنّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا طَوِيلَةً أَنّهُ أَخَذَ بِقَرْنَيْ الشّمْسِ، فَكَانَ التّأْوِيلُ أَنّهُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ عَلِيّ بْنُ أبى طالب لقيروانى الْعَابِدُ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ لَهُ، قَالَ:
وَبِهَذَا سُمّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ، وَأَمّا اسْمُهُ، فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ: اسْمُهُ مَرْزَبَى «2» بْنُ مَرْذَبَةَ بِذَالٍ مَفْتُوحَةٍ فِي اسْمِ أَبِيهِ، وَزَايٍ فى اسمه، وقيل فيه:
__________
(1) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدى وقنادة والضحاك وغيرهم عن السبب: العلم. وقال قتادة أيضا: منازل الأرض وأعلامها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: تعليم الألسنة. أما كعب الأحبار، فيروى عنه ابن لهيعة أنه قال: كان يربط خيله بالثريا. وقد أنكر معاوية على كعب قوله هذا وكان يقول عن كعب: وإن كنا لتبلو عليه الكذب. وما أحسن ما يقول ابن كثير: «قال الله فى حق بلقيس «وأوتيت من كل شىء» أى: مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، أى: الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضى وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض. وإذلال أهل الشرك قد أوتى من كل شىء مما يحتاج اليه مثله سببا، والله أعلم. خلاصة هذا أن الله من عليه. فعلمه أسباب ما سخره له، ومسألة الملاك يهودية صارخة.
(2) فى السيرة: مرزبان.

(3/178)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَرْمَسَ «1» ، وَقِيلَ: هرديس. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ «2» اسْمُهُ الصّعْبُ بْنُ ذِي مَرَاثِدَ، وَهُوَ أَوّلُ التّبَابِعَةِ، وَهُوَ الّذِي حَكَمَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي بِئْرِ السّبْعِ حِينَ حَاكَمَ إلَيْهِ فِيهَا، وَقِيلَ: إنّهُ أفريدون بْنُ أَثَفَيَانِ الّذِي قَتَلَ الضّحّاكَ «3» ، وَيُرْوَى فِي خُطْبَةِ قَيْسِ بْنِ سَاعِدَةَ الّتِي خَطَبَهَا بِسُوقِ عُكَاظٍ، أنه قال فيها: يا معشر إياد! أَيْنَ الصّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، مَلِكُ الْخَافِقَيْنِ، وَأَذَلّ الثّقَلَيْنِ، وَعَمّرَ أَلْفَيْنِ، ثُمّ كَانَ ذَلِكَ كَلَحْظَةِ عَيْنٍ، وَأَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِلْأَعْشَى:
وَالصّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا ... بِالْحِنْوِ فِي جَدَثٍ أُمَيْمٍ مقيم «4»
__________
(1) هو رأى ابن ماكولا والدارقطنى.
(2) ذكره فى كتاب «التيجان» فى ملوك حمير وروايته عن وهب بن منبه
(3) تقرأ أخبار الضحاك وأفريدون فى الطبرى ص 194 ح 1 المعارف
(4) هو فى اللسان والمحبر: للبيد. ورواه ابن كثير فى البداية نقلا عن السهيلى فى الروض الأنف «أشم مقيما» بدلا من «أميم مقيم» كما فى نسخة الروض التى بين أيدينا انظر ص 105 ج 2 البداية. وفى فتح البارى: والذى يقوى أن ذا القرنين من العرب أنهم ذكروه كثيرا فى أشعارهم. قال أعشى بن ثعلبة.
والصعب ذو القرنين أمسى ثاويا ... بالحنوفى جدث هناك مقيم
والحنو بكسر المهملة وسكون النون فى ناحية المشرق، وقال الربيع بن ضبيع:
والصعب ذو القرنين عمر ملكه ... ألفين أمسى بعد ذاك رميما
وقال قيس بن ساعدة.
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا ... باللحد بين ملاعب الأرياح
وقال النعمان بن بشير الأنصارى الصحابى ابن الصحابى:
ومن ذا يعادينا من الناس معشر ... كرام، وذو القرنين منا وحاتم
ووقع ذكر ذى القرنين فى شعر امرىء القيس وأوس بن حجر وطرفة وغيرهم ص 261 ج 6 فتح البارى للحافظ بن حجر ط 1338

(3/179)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ بِالْحِنْوِ يُرِيدُ: حِنْوَ قَرَاقِرَ الّذِي مَاتَ فِيهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِالْعِرَاقِ، وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ فى السيرة: إنه من أهل مصر، وإنه الْإِسْكَنْدَرُ الّذِي بَنَى الإسكندرية، فَعُرِفَتْ بِهِ: قَوْلٌ بَعِيدٌ مِمّا تَقَدّمَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْكَنْدَرُ سُمّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ أَيْضًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأَوّلِ، لِأَنّهُ مَلَكَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِيمَا ذكروا أيضا، وأذلّ ملوك فارس، وقتل دار ابن دَارَا، وَأَذَلّ مُلُوكَ الرّومِ وَغَيْرَهُمْ، وَقَالَ الطّبَرِيّ فِي الْإِسْكَنْدَرِ: وَهُوَ اسكندروس بْنُ قليقوس، وَيُقَالُ فِيهِ: ابْنُ قَلِيسٍ، وَكَانَتْ أُمّهُ زِنْجِيّةً، وَكَانَتْ أهديت لدارا الأكبر أَوْ سَبَاهَا، فَوَجَدَ مِنْهَا نَكْهَةً اسْتَثْقَلَهَا، فَعُولِجَتْ بِبَقْلَةِ، يُقَالُ لَهَا: أندروس، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِدَارَا الْأَصْغَرِ، فَلَمّا وَضَعَتْهُ رَدّهَا، فَتَزَوّجَهَا وَالِدُ الْإِسْكَنْدَرِ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بالإسكندروس، فَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ مُشْتَقّ مِنْ تِلْكَ الْبَقْلَةِ الّتِي طَهُرَتْ أُمّهُ بِهَا فِيمَا ذَكَرُوا، وَذَكَرَ عَنْ الزّبَيْرِ:
أَنّهُ قَالَ: ذُو الْقَرْنَيْنِ هُوَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ الضّحّاكِ بْنِ مَعَدّ [وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي] الْمُحَبّرِ فِي ذِكْرِ مُلُوكِ الْحِيرَةِ، قَالَ: الصّعْبُ بْنُ قَرِينِ [بْنِ الْهُمّالِ] «2» : هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا مُلُوكًا فِي أَوْقَاتٍ شَتّى، يُسَمّى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: ذَا الْقَرْنَيْنِ وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَالْأَوّلُ كَانَ عَلَى عَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْخَضِرِ حِينَ طَلَبَ عَيْنَ الْحَيَاةِ فَوَجَدَهَا الْخَضِرُ، وَلَمْ يَجِدْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ، حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الظّلُمَاتُ الّتِي وَقَعَ فِيهَا هُوَ وَأَجْنَادُهُ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ مَذْكُورٍ فِي بَعْضِ التّفَاسِيرِ مشهور عند الأخباريين «1» .
__________
(1) وهى أخبار ترضى عشاق الأساطير. وأسارى العبودية الوثنية للمجهول، وقد اخترع المفترون عين الحياة؛ لكى بنسبوا إلى الخضر الخلود والبقاء حتى الان. وهى فرية لا يصدقها مسلم؛ لأنها أسطورة.
(2) الزيادة من المحبر.

(3/180)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُكْمُ التّسَمّي بِأَسْمَاءِ النّبِيّينَ وَأَمّا قَوْلُ عُمَرَ لِرَجُلِ سَمِعَهُ يَقُولُ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ: لَمْ يَكْفِكُمْ أَنْ تَتَسَمّوْا بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تَسَمّيْتُمْ بِالْمَلَائِكَةِ، إنْ كَانَ عُمَرُ قَالَهُ بِتَوْقِيفِ مِنْ الرّسُولِ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَهُوَ مَلَكٌ، لَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلّا الْحَقّ، وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بِتَأْوِيلِ تَأَوّلَهُ [فَقَدْ] خَالَفَهُ عَلِيّ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدّمِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ الْخَبَرَيْنِ أَصَحّ نَقْلًا، غَيْرَ أَنّ الرّوَايَةَ الْمُتَقَدّمَةَ عَنْ عَلِيّ يُقَوّيهَا مَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ «1» . وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللهُ كَرَاهِيَةُ التّسَمّي بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُغِيرَةِ تَكْنِيَتُهُ بِأَبِي عِيسَى، وَأَنْكَرَ عَلَى صُهَيْبٍ تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي يَحْيَى، فَأَخْبَرَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَنّاهُ بِذَلِكَ، فَسَكَتَ، وَكَانَ عُمَرُ إنّمَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ الْإِكْثَارَ، وَأَنْ يَظُنّ أَنّ لِلْمُسْلِمِينَ شَرَفًا فِي الِاسْمِ إذَا سُمّيَ بِاسْمِ نَبِيّ، أَوْ أَنّهُ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، فَكَأَنّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْ رَعِيّتِهِ هَذَا الْغَرَضَ أَوْ نَحْوَهُ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ «2» . وَإِلّا فَقَدْ سَمّى بِمُحَمّدِ طَائِفَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيّ وطلحة وأبو حذيفة وأبو جهم ابن حُذَيْفَةَ، وَخَاطِبٌ وَخَطّابٌ ابْنَا الْحَارِثِ، كُلّ هَؤُلَاءِ الْمُحَمّدِينَ كَانُوا يُكَنّونَ بِأَبِي الْقَاسِمِ إلّا مُحَمّدَ بْنَ خَطّابٍ، وَسَمّى أَبُو مُوسَى ابْنًا لَهُ بِمُوسَى، فَكَانَ يُكَنّى بِهِ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ سَمّى ابْنَهُ بِيَحْيَى، وَعَلِمَ بِهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَكَانَ لِطَلْحَةِ عَشَرَةٌ مِنْ الْوَلَدِ، كُلّهُمْ يُسَمّى بِاسْمِ نَبِيّ، مِنْهُمْ:
مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عِيسَى، وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَإِبْرَاهِيمُ، ومحمد، وكان للزبير
__________
(1) نستطيع الجزم بأن الخبر المنسوب إلى عمر خبر غير صحيح، لأنه يخالف هدى القرآن، ويخالف المعروف من سيرة عمر وعلمه وفقهه.
(2) هذا تعليل طيب من السهيلى.

(3/181)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عشرة، كُلّهُمْ يُسَمّى بِاسْمِ شَهِيدٍ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: أَنَا أُسَمّيهِمْ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْتَ تُسَمّيهِمْ بِأَسْمَاءِ الشّهَدَاءِ، فَقَالَ لَهُ الزّبَيْرُ: فَإِنّي أَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ بَنِيّ شُهَدَاءَ، وَلَا تَطْمَعْ أَنْتَ أَنْ يكون بنوك أنبياء، ذكره بن أَبِي خَيْثَمَةَ، وَسَمّى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَهُ إبْرَاهِيمَ، وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَفِي السّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ أَنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: سَمّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَأَمّا التّسَمّي بِمُحَمّدِ، فَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: من كَانَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ، وَلَمْ يُسَمّ أَحَدَهُمْ بِمُحَمّدِ، فَقَدْ جَهِلَ، وَفِي الْمُعَيْطِيّ عَنْ مَالِك أَنّهُ سُئِلَ عَمّنْ اسْمُهُ مُحَمّدٌ، وَيُكَنّى أَبَا الْقَاسِمِ، فَلَمْ يربه بَأْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَكَنّيْت ابْنَك أَبَا الْقَاسِمِ، وَاسْمُهُ مُحَمّدٌ؟ فَقَالَ: مَا كَنّيْته بِهَا وَلَكِنّ أَهْلَهُ يُكَنّونَهُ بِهَا، وَلَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ نَهْيًا، وَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ، أَوْ لَمْ يَصِحّ عِنْدَهُ حَدِيثُ النّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رواه أهل الصحيح «1»
__________
(1) عن جابر «رضى الله عنه» قال: ولد لرجل منا غلام فسماه القاسم، فقالوا لا نكنيه حتى نسأل النبى- صلّى الله عليه وسلم- فقال: سموا باسمى، ولا تكنوا يكنيتى» رواه الأربعة، ولعل المقصود- والله أعلم- العمل بمقتضاه طول مدة حياته- صلّى الله عليه وسلم- فقط. وسيأتى رأى ابن سيرين. وعن الأسماء ورد حديث رواه ابن عمر رضى الله عنها: «إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» مسلم وأبو داود والترمذى. وعن أبى هريرة عن النبى «ص» : «أخنع الأسماء يوم القيامة عند الله رجل تسمى ملك الأملاك» رواه الأربعة «وزاد مسلم «لا مالك إلا الله تعالى» وعن ابن عمر قال: «إن ابنة لعمر كانت تسمى عاصية، فسماها رسول الله «ص» جميلة» مسلم وأبو داود والترمذى ونستطيع بتدبر هذه الأحاديث تبين الهدى فى الأسماء. وأخنع- أوضع

(3/182)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَاَللهُ أَعْلَمُ- وَلَعَلّهُ بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ- قَالَ: مَا الّذِي أَحَلّ اسْمِي وَحَرّمَ كُنْيَتِي، وَهَذَا هُوَ النّاسِخُ لِحَدِيثِ النّهْيِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ لِكُلّ أَحَدٍ أَنْ يَتَكَنّى بِأَبِي الْقَاسِمِ، كَانَ اسْمُهُ مُحَمّدًا، أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَطَائِفَةٌ إنّمَا يَكْرَهُونَهُ لِمَنْ اسْمُهُ مُحَمّدٌ، وَفِي الْمُعَيْطِيّ أَيْضًا أَنّهُ سُئِلَ عَنْ التّسْمِيَةِ بِمَهْدِيّ فَكَرِهَهُ، وَقَالَ: وَمَا عِلْمُهُ بِأَنّهُ مَهْدِيّ، وَأَبَاحَ التّسْمِيَةَ بِالْهَادِي، وَقَالَ: لِأَنّ الْهَادِيَ هُوَ الّذِي يَهْدِي إلَى الطّرِيقِ، وقد قدمنا كراهية مالك للتسمّى بِجِبْرِيلَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ كَرَاهِيَةَ عُمَرَ لِلتّسَمّي بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ التّسَمّيَ بِيَاسِينَ «1» .
الرّوحُ وَالنّفْسُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ سُؤَالَهُمْ عَنْ الرّوحِ، وَمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «2» الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبَكّائِيّ أَنّهُ قَالَ فِي هَذَا الْخَبَرِ: فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
هُوَ جِبْرِيلُ، وَهَذِهِ الرّوَايَةُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ تَدُلّ عَلَى خِلَافِ مَا رَوَى غَيْرُهُ أَنّ يهود قالت لقريش: اسئلوه عَنْ الرّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَلَيْسَ بِنَبِيّ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ نَبِيّ، وَقَالَ ابْنُ إسحاق فيما تقدم من الحديث: اسئلوه عن الرجل
__________
(1) ليس ياسين اسما للرسول «ص» كما يظن بعض المفسرين، إنما هى مثل: حم، وطس وطه ونون فهى مركبة من حرفين: الياء والسين.
(2) سبق ذكر الأحاديث حول هذا

(3/183)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطّوّافِ، وَعَنْ الْفِتْيَةِ، وَعَنْ الرّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ وَإِلّا فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ فَسَوّى فِي الْخَبَرِ بَيْنَ الرّوحِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التّأْوِيلِ فِي الرّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جِبْرِيلُ؛ لِأَنّهُ الرّوحُ الْأَمِينُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَعَلَى هَذَا رِوَايَةُ ابن إسحاق أن رسول الله- صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِقُرَيْشِ حِينَ سَأَلُوهُ: هُوَ جِبْرِيلُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الرّوحُ خَلْقٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدَمَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الرّوحُ خَلْقٌ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، وَلَا تَرَاهُمْ، فَهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ كَالْمَلَائِكَةِ لِبَنِي آدَمَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ: الرّوحُ مَلَكٌ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ رَأْسٍ، لِكُلّ رَأْسٍ مِائَةُ أَلْفِ وَجْهٍ، فِي كُلّ وَجْهٍ مِائَةُ أَلْفِ فَمٍ، فِي كُلّ فَمٍ مِائَةُ أَلْفِ لِسَانٍ، يُسَبّحُ اللهَ بِلُغَاتِ مُخْتَلِفَةٍ «1» ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الرّوحُ الّذِي سَأَلَتْ عَنْهُ يَهُودُ هُوَ: رُوحُ الْإِنْسَانِ، ثُمّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يُجِبْهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ سُؤَالِهِمْ، لِأَنّهُمْ سَأَلُوهُ تَعَنّتًا وَاسْتِهْزَاءً، فَقَالَ اللهُ لَهُ: قُلْ: الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي، وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُبَيّنَهُ لَهُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ قَدْ أَخْبَرَهُمْ اللهُ بِهِ، وَأَجَابَهُمْ عَمّا سَأَلُوا؛ لِأَنّهُ قَالَ لِنَبِيّهِ: قُلْ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي، وَأَمْرُ الرّبّ هُوَ الشّرْعُ، وَالْكِتَابُ الّذِي جَاءَ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ فِي الشّرْعِ وَتَفَقّهَ فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ عَرَفَ الرّوحَ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: ادخلوا فى الدين تعرفوا ما سألتم عنه، فَإِنّهُ مِنْ أَمْرِ رَبّي، أَيْ: مِنْ الْأَمْرِ الّذِي جِئْت بِهِ مُبَلّغًا عَنْ رَبّي، وَذَلِكَ أَنّ الرّوحَ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ جِهَةِ الطّبِيعَةِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْفَلْسَفَةِ، وَلَا من جهة الرأى
__________
(1) إنما هى مفتريات على منها برىء.

(3/184)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْقِيَاسِ، وَإِنّمَا يُعْرَفُ مِنْ جِهَةِ الشّرْعِ، فَإِذَا نَظَرْت إلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ مِنْ ذِكْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ السّجْدَةِ: 9 أَيْ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَالنّفْخُ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إلَى مَلَكٍ يَنْفُخُ فِيهِ بِأَمْرِ رَبّهِ، وَتَنْظُرُ إلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّ الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ، وَأَنّهَا تَتَعَارَفُ «1» وَتَتَشَامّ فِي الْهَوَاءِ، وَأَنّهَا تُقْبَضُ من الأجساد بعد الموت، وأنها تسئل فِي الْقَبْرِ، فَتَفْهَمُ السّؤَالَ وَتَسْمَعُ وَتَرَى، وَتُنَعّمُ وَتُعَذّبُ وَتَلْتَذّ وَتَأْلَمُ، وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، فَتَعْرِفُ أَنّهَا أَجْسَامٌ بِهَذِهِ الدّلَائِلِ، لَكِنّهَا لَيْسَتْ كَالْأَجْسَادِ فِي كَثَافَتِهَا وَثِقَلِهَا وَإِظْلَامِهَا، إذْ الْأَجْسَادُ خُلِقَتْ مِنْ مَاءٍ وَطِينٍ وَحَمَإِ مَسْنُونٍ، فَهُوَ أَصْلُهَا، وَالْأَرْوَاحُ خُلِقَتْ مِمّا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ النّفْخُ الْمُتَقَدّمُ الْمُضَافُ إلَى الْمَلَكِ.
وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقَتْ مِنْ نُورٍ كَمَا جَاءَ فِي الصّحِيحِ «2» ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَضَافَ النّفْخَ إلَى نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ أَضَافَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الزّمَرِ: 42 وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْمَلَكِ أَيْضًا فَقَالَ: قُلْ:
يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ السّجْدَةِ: 11 وَالْفِعْلُ مُضَافٌ إلَى الْمَلَكِ مَجَازًا، وَإِلَى الرّبّ حَقِيقَةً، فَهُوَ أَيْضًا جِسْمٌ، وَلَكِنّهُ مِنْ جِنْسِ الرّيحِ، وَلِذَلِكَ سُمّيَ رُوحًا مِنْ لَفْظِ الرّيحِ، وَنَفْخُ الْمَلَكِ فِي مَعْنَى الرّيحِ غَيْرَ أَنّهُ ضُمّ أَوّلُهُ؛ لِأَنّهُ نورانى،
__________
(1) «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها اختلف. وما تناكر منها اختلف» مسلم والبخارى فى الأدب وغيرهما.
(2) فى مسلم عن عائشة: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»

(3/185)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالرّيحُ هَوَاءٌ مُتَحَرّكٌ، وَإِذَا كَانَ الشّرْعُ قَدْ عَرَفْنَا مِنْ مَعَانِي الرّوحِ وَصِفَاتِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ، فَقَدْ عَرَفَ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ سبحانه: قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَقَوْلُهُ: مِنْ أَمْرِ رَبّي أَيْضًا، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وَلَا مِنْ أَمْرِ رَبّكُمْ يَدُلّ عَلَى خُصُوصٍ، وَعَلَى مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلّا مَنْ أَخَذَ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَقَوْلِ رَسُولِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَقِينِ الصّادِقِ وَالْفِقْهِ فِي الدّينِ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْبِرْ الْيَهُودَ حِينَ سَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَدْ أَحَالَهُمْ عَلَى مَوْضِعِ الْعِلْمِ بِهِ «1» .
الْفَرْقُ بَيْنَ الرّوحِ وَالنّفْسِ:
فَصْلٌ: وَمِمّا يَتّصِلُ بِمَعْنَى الرّوحِ وَحَقِيقَتِهِ أَنْ تَعْرِفَ: هَلْ هِيَ النّفْسُ أَوْ غَيْرُهَا، وَقَدْ كَثُرَتْ فِي ذلك الأقوال، واضطربت المذاهب، فتعلق قوم
__________
(1) وأحسن ما قيل: إن المقصود بالروح هو القرآن نفسه، وقد كان الكلام قبل هذا فى شأنه، وقد وصف كلام الله بأنه روح فى القرآن: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) النحل: 2 (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) غافر: 15 (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الشورى: 52 وهذا الرأى قريب مما ذكره السهيلى حول أمر الله. وليت السهيلى سكت عند الصحيح المنقول!! فقد بلغت الأقوال فى حقيقة النفس والروح بلغت المائة أو الألف كما نقل الزرقانى فى شرح المواهب عن ابن جماعة: ويقول ابن بطال شارح البخارى ومن شيوخ ابن عبد البر عن الروح الإنسانى: «معرفة حقيقتها مما استأثر الله بعلمه» وقال القرطبى عن الحكمة فى إبهام حقيقة الروح: «إظهار عجز المرء لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق «أى الله» من باب أولى»

(3/186)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِظَوَاهِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ، لِأَنّهَا نَقْلُ آحَادٍ «1» ، وَأَيْضًا فَإِنّ أَلْفَاظَهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلتّأْوِيلِ، وَمَجَازَاتُ الْعُرْفِ وَاتّسَاعَاتُهَا فِي الْكَلَامِ كَثِيرَةٌ، فَمِمّا تَعَلّقُوا بِهِ فِي أَنّ الرّوحَ هِيَ النّفْسُ قول بلال: «أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك» «2» مَعَ قَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا، وَقَوْلِهِ- عَزّ وَجَلّ- اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ وَالْمَقْبُوضَةُ هِيَ الْأَرْوَاحُ، وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ الْقَبْضِ وَالتّوَفّي، وَلَا بَيْنَ الْأَخْذِ فِي قَوْلِ بِلَالٍ: «أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك» وَبَيْنَ قَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: «قَبَضَ أَرْوَاحَنَا» ، وَتَنْقِيحُ الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحُهَا يَطُولُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو عُمَرَ فِي التّمْهِيدِ حَدِيثًا يَدُلّ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ فِي أَنّ النّفْسَ هِيَ الرّوحُ، لَكِنْ عَلّلَهُ فِيهِ أَنّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ، وَجَعَلَ فِيهِ نَفْسًا وَرُوحًا، فَمِنْ الرّوحِ: عَفَافُهُ، وَفَهْمُهُ وَحِلْمُهُ وَسَخَاؤُهُ، وَوَفَاؤُهُ، وَمِنْ النّفْسِ: شَهْوَتُهُ وَطَيْشُهُ وَسَفَهُهُ وَغَضَبُهُ، وَنَحْوُ هَذَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ إذَا تُؤُمّلَ صَحّ نَقْلُهُ أَوْ لَمْ يَصِحّ، وَسَبِيلُك أَنْ تَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللهِ أَوّلًا، لَا إلَى الْأَحَادِيثِ الّتِي تُنْقَلُ مَرّةً عَلَى اللّفْظِ، وَمَرّةً عَلَى الْمَعْنَى، وَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَلْفَاظُ الْمُحَدّثِينَ «3» ، فَنَقُولُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «4» وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ نَفْسِي وَكَذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ السّجْدَةِ: 9 وَلَمْ يقل من
__________
(1) لماذا إذا يأخذ بأضعف الأحاديث؟
(2) من حديث فى البخارى ومسلم وغيرهما
(3) هذا مبدأ عظيم، غير أن السهيلى لم يأخذ به فى كثير من الأحيان، فاعتمد على أضعف الأحاديث.
(4) ذكرت مرة فى سورة الحجر رقم 29 وفى ص رقم 72.

(3/187)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ هَذَا، وَلَا خَفَاءَ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ فِي الْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِي الْمَعْنَى، وَبِعَكْسِ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ وَلَمْ يَقُلْ: تَعْلَمُ مَا فِي رُوحِي، وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي رُوحِك، وَلَا يَحْسُنُ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَهُ غَيْرُ عِيسَى «1» ، وَلَوْ كَانَتْ النّفْسُ وَالرّوحُ اسْمَيْنِ لِمَعْنَى وَاحِدٍ، كَاللّيْثِ وَالْأَسَدِ لَصَحّ وُقُوعُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ صاحبه، وكذلك قوله تعالى: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ: يَقُولُونَ فِي أَرْوَاحِهِمْ، وقال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ وَلَمْ يَقُلْ:
أَنْ تَقُولَ رُوحٌ، وَلَا يَقُولُهُ أَعْرَابِيّ، فَأَيْنَ إذًا كَوْنُ النّفْسِ وَالرّوحِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَوْلَا الْغَفْلَةُ عَنْ تَدَبّرِ كَلَامِ اللهِ تعالى؟! ولكن بقيت دقيقة يعرف منها السّرّ وَالْحَقِيقَةُ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافٌ مُتَبَايِنٌ إنْ شَاءَ اللهُ، فَنَقُولُ وَبِاَللهِ التّوْفِيقُ: الرّوحُ مُشْتَقّ مِنْ الرّيحِ، وَهُوَ جِسْمٌ هَوَائِيّ لَطِيفٌ، بِهِ تَكُونُ حَيَاةُ الْجَسَدِ عَادَةً، أَجْرَاهَا اللهُ تَعَالَى؛ لِأَنّ الْعَقْلَ يُوجِبُ أَلّا يَكُونَ لِلْجِسْمِ حَيَاةٌ، حَتّى يُنْفَخَ فِيهِ ذَلِكَ الرّوحُ الّذِي هُوَ فِي تَجَاوِيفِ الْجَسَدِ، كَمَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَأَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو بَكْرٍ الْمُرَادِيّ، وَسَبَقَهُمْ إلَى نَحْوٍ مِنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيّ، وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ وَاحِدٌ أَوْ مُتَقَارِبٌ.
الرّوحُ سَبَبُ الْحَيَاةِ:
فَصْلٌ: فَإِذَا ثَبَتَ أَنّ الرّوحَ سَبَبُ الحياة عادة، أجراها الله تعالى، فهو
__________
(1) قول النبوة أزكى الأقوال وأهداها. فلم لا يقولها غير عيسى؟!

(3/188)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَالْمَاءِ الْجَارِي فِي عُرُوقِ الشّجَرَةِ صُعُدًا، حَتّى تَحْيَا بِهِ عَادَةً، فَنُسَمّيهِ مَاءً بِاعْتِبَارِ أَوّلِيّتِهِ، وَنُسَمّي أَيْضًا هَذَا رُوحًا بِاعْتِبَارِ أَوّلِيّتِهِ، وَاعْتِبَارِ النّفْخَةِ الّتِي هِيَ رِيحٌ، فَمَا دَامَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمّهِ حَيّا، فَهُوَ ذُو رُوحٍ، فإذا نشأوا كتب ذلك الروح أخلافا وَأَوْصَافًا لَمْ تَكُنْ فِيهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَصَالِحِ الْجِسْمِ كَلَفًا بِهِ، وَعَشِقَ مَصَالِحَ الْجَسَدِ وَلَذّاتِهِ، وَدَفَعَ الْمَضَارّ عَنْهُ سُمّيَ: نَفْسًا، كَمَا يَكْتَسِبُ الْمَاءُ الصّاعِدُ فِي الشّجَرَةِ مِنْ الشّجَرَةِ أَوْصَافًا لَمْ تَكُنْ فِيهِ، فَالْمَاءُ فِي الْعِنَبَةِ مَثَلًا هُوَ: مَاءٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالْبَدْأَةِ، فَفِيهِ مِنْ الْمَاءِ الْمُيُوعَةُ وَالرّطُوبَةُ، وَفِيهِ مِنْ الْعِنَبَةِ الْحَلَاوَةُ، وَأَوْصَافٌ أُخَرَ، فَتُسَمّيهِ مِصْطَارًا «1» إنْ شِئْت، أَوْ خَمْرًا إنْ شِئْت، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمّا أَوْجَبَهُ الِاكْتِسَابُ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَمَنْ قَالَ: إنّ النّفْسَ هِيَ الرّوحُ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَلَمْ يُحْسِنْ الْعِبَارَةَ، وَإِنّمَا فِيهَا مِنْ الرّوحِ الْأَوْصَافُ الّتِي تَقْتَضِيهَا نَفْخَةُ الْمَلَكِ، وَالْمَلَكُ مَوْصُوفٌ بِكُلّ خُلُقٍ كَرِيمٍ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَمِنْ الرّوحِ عَفَافُهُ وَحِلْمُهُ وَوَفَاؤُهُ وَفَهْمُهُ، وَمِنْ النّفْسِ شَهْوَتُهُ وَغَضَبُهُ وَطَيْشُهُ، وَذَلِكَ أَنّ الرّوحَ كَمَا قَدّمْنَا مَازِجُ الْجَسَدِ الّذِي فِيهِ الدّمُ، وَيُسَمّى الدّمُ:
نَفْسًا، وَهُوَ مَجْرَى الشّيْطَانِ، وَقَدْ حَكَمَتْ الشّرِيعَةُ بِنَجَاسَةِ الدّمِ لِسِرّ لَعَلّهُ أَنْ يُفْهَمَ مِمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، فَمَنْ يَعْرِفُ جَوْهَرَ الْكَلَامِ، وَيُنْزِلُ الْأَلْفَاظَ مَنَازِلَهَا، لَا يُسَمّي رُوحًا إلّا مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمَادِ وَالْحَيّ، وَاَلّذِي كَانَ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ، كَمَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِنْدَ ذِكْرِ إحْيَاءِ النّطْفَةِ، وَنَفْخِ الرّوحِ فِيهَا، وَلَا يُقَالُ:
نَفْخُ النّفْسِ فِيهَا إلّا عِنْدَ الِاتّسَاعِ فِي الْكَلَامِ، وَتَسْمِيَةُ الشىء بما يؤول إليه،
__________
(1) مصطار بضم الميم: الخمر، ومسطار بكسر الميم وبالسين: الخمرة الصارعة لشاربها أو الحامضة أو الحديثة.

(3/189)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ هَهُنَا سُمّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ: رُوحًا، وَالْوَحْيُ: رُوحًا، لِأَنّ بِهِ تَكُونُ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً [فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها] الْأَنْعَامِ: 122 وَقَالَ فِي الْكُفّارِ: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ النّحْلِ: 21 وَقَالَ فِي النّفْسِ مَا تَقَدّمَ، وَقَالَ: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ يُوسُفَ: 53 وَلَمْ يَقُلْ إنّ الرّوحَ لَأَمّارَةٌ؛ لِأَنّ الرّوحَ الّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ لَا يَأْمُرُ بِسُوءِ، وَلَا يُسَمّى أَيْضًا نَفْسًا، كَمَا قَدّمْنَا حَتّى يَكْتَسِبَ مِنْ الْجَسَدِ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، وَالْمَاءُ النّازِلُ مِنْ السّمَاءِ جِنْس وَاحِدٌ، فَإِذَا مَازَجَ أَجْسَادَ الشّجَرِ كَالتّفّاحِ وَالْفِرْسِكِ «1» وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشُرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ، كَذَلِكَ الرّوحُ الْبَاطِنَةُ الّتِي هِيَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ أَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا لَهَا حِينَ قال: ونفخ فيه من روحه، ثُمّ يُخَالِطُ الْأَجْسَادَ الّتِي خُلِقَتْ مِنْ طِينٍ، وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطّينِ طَيّبٌ وَخَبِيثٌ، فَيَنْزِعُ كُلّ فَرْعٍ إلَى أَصْلِهِ، وَيَنْزِعُ ذَلِكَ الْأَصْلُ إلَى مَا سَبَقَ فِي أُمّ الْكِتَابِ، وَإِلَى مَا دَبّرَهُ وَأَحْكَمَهُ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَنَافَرُ النّفُوسُ، أَوْ تَتَقَارَبُ، وَتَتَحَابّ أَوْ تَتَبَاغَضُ عَلَى حَسَبِ التّشَاكُلِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ. وَقَدْ كَتَبَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إلَى صَدِيقٍ لَهُ: «إنّ نَفْسِي غَيْرُ مَشْكُورَةٍ عَلَى الِانْقِيَادِ إلَيْك بِغَيْرِ زِمَامٍ؛ فَإِنّهَا صَادَفَتْ عِنْدَك بعض جواهرها، والشىء يتبع بعضه بعضا» .
__________
(1) الفرسك، الخوخ أو ضرب منه أجرد أحمر، أو ما يتفلق عن نواه والعشر شجر يخرج من زهره وشعبه سكر.

(3/190)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ:
فَصْلٌ: وَقَدْ يُعَبّرُ بِالنّفْسِ عَنْ جُمْلَةِ الْإِنْسَانِ رُوحُهُ وَجَسَدُهُ، فَتَقُولُ: عِنْدِي ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ، وَلَا تَقُولُ: عِنْدِي ثَلَاثَةُ أَرْوَاحٍ، لَا يُعَبّرُ بِالرّوحِ إلّا عَنْ الْمَعْنَى الْمُتَقَدّمِ ذِكْرُهُ، وَإِنّمَا اتّسَعَ فِي النّفْسِ، وَعَبّرَ بِهَا عَنْ الْجُمْلَةِ لِغَلَبَةِ أَوْصَافِ الْجَسَدِ عَلَى الرّوحِ، حَتّى صَارَ يُسَمّى نَفْسًا، وَطَرَأَ هَذَا الِاسْمُ بِسَبَبِ الْجَسَدِ، كَمَا يَطْرَأُ عَلَى الْمَاءِ فِي الشّجَرِ أَسْمَاءٌ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الشّجَرِ مِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَمُرّ وَحِرّيفٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتَحَصّلَ مِنْ مَضْمُونِ مَا ذَكَرْنَا أَلّا يُقَالَ فِي النّفْسِ: هِيَ الرّوحُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَتّى تُقَيّدَ بِمَا تَقَدّمَ، وَلَا يُقَالُ فِي الرّوحِ: هُوَ النّفْسُ إلّا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَنِيّ هُوَ الْإِنْسَانُ، أَوْ كَمَا يُقَالُ لِلْمَاءِ الْمُغَذّي لِلْكَرْمَةِ هُوَ: الْخَمْرُ، أَوْ الْخَلّ، عَلَى مَعْنَى أَنّهُ سَتَنْضَافُ إلَيْهِ أَوْصَافٌ يُسَمّى بِهَا خَمْرًا أَوْ خَلّا، فَتَقْيِيدُ الْأَلْفَاظِ هُوَ: مَعْنَى الْكَلَامِ، وَتَنْزِيلُ كُلّ لَفْظٍ فِي مَوْضِعِهِ، هُوَ مَعْنَى الْبَلَاغَةِ فَافْهَمْهُ.
النّفْسُ فَصْلٌ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَمْ يَبْقَ إلّا قَوْلُ بِلَالٍ: أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك، فَذَكَرَ النّفْسَ؛ لِأَنّهُ مُعْتَذِرٌ مِنْ تَرْكِ عَمَلٍ أُمِرَ بِهِ، وَالْأَعْمَالُ مُضَافَةٌ إلَى النّفْسِ: لِأَنّ الْأَعْمَالَ جَسَدَانِيّةٌ، وَقَوْلُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا، فَذَكَرَ الرّوحَ الّذِي هُوَ الْأَصْلُ، لِأَنّهُ أَنِسَهُمْ مِنْ فَزَعِهِمْ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنّ خَالِقَ الْأَرْوَاحِ يَقْبِضُهَا إذَا شَاءَ، فَلَا تَنْبَسِطُ انْبِسَاطَهَا فِي الْيَقَظَةِ وَرُوحُ النّائِمِ وَإِنْ وُصِفَ بِالْقَبْضِ، فَلَا يَدُلّ لَفْظُ الْقَبْضِ عَلَى انْتِزَاعِهِ بِالْكُلّيّةِ

(3/191)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَمَا لَا يَدُلّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي الظّلّ: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً الْفُرْقَانِ:
46. عَلَى إعْدَامِ الظّلّ بِالْكُلّيّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ فَلَمْ يَقُلْ: الْأَرْوَاحَ، لِأَنّهُ وَعَظَ الْعِبَادَ الْغَافِلِينَ عَنْهُ، فَأَخْبَرَ أَنّهُ يَتَوَفّى أَنْفُسَهُمْ، ثُمّ يُعِيدُهَا حَتّى يَتَوَفّاهَا، فَلَا يُعِيدُهَا إلَى الْحَشْرِ لِتَزْدَجِرَ النّفُوسُ بِهَذِهِ الْعِظَةِ عَنْ سُوءِ أَعْمَالِهَا؛ إذْ الْآيَةُ مَكّيّةٌ، وَالْخِطَابُ لِلْكُفّارِ، وَقَدْ تَنَزّلَتْ الْأَلْفَاظُ مَنَازِلَهَا فِي الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ، وَذَلِكَ مَعْنَى الْفَصَاحَةِ وَسِرّ الْبَلَاغَةِ.
ابْنُ هَرْمَةَ:
فَصْلٌ: وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ بِقَوْلِ ابْنِ هَرْمَةَ وَنَسَبُهُ فَقَالَ: فِهْرِيّ، وإنما هو خلجىّ، والخلج «1» اسمه: قيس ابن الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ بَنِي
__________
(1) فى الاشتقاق: والخلج بطن يزعمون أنهم من قريش منهم ابن هرمة الشاعر، وفيه أيضا: الخلج يفتح فكسر الشاعر، واسمه: عبد الله، وسمى الخلج لقوله:
كأن تخالج الأشطان فيها ... شابيب تجود من الغوادى
وفى حاشية الاشتقاق للأستاذ عبد السلام هارون: وأما خلج بكسر الخاء وتخفيف اللام وسكونها فهو عبد الله بن الحارث بن عمرو بن وهب ابن الحارث، بن سعد الجعفى، وقيل: الخلج بفتح الخاء وكسر اللام. وفى الطبقات لابن قتيبة عنه: «هو من الخلج من قيس عيلان، ويقال: إنهم من قريش» وفى الأغانى أن نسبه ينتهى إلى قيس بن الحارث، وقيس: هم الخلج.. فلما تولى عثمان أثبتهم فى بنى الحارث بن فهر، وجعل لهم ديوانا، فسموا الخلج، لأنهم اختلجوا عما كانوا عليه من عدوان، وورد عن ابن هرمة فى سمط اللالى للبكرى ما نصه: «إبراهيم بن على بن سلمة من هرمة من خلج

(3/192)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْخُلْجِ، فَقِيلَ: لِأَنّهُمْ اخْتَلَجُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَسُكّانِ مَكّةَ، وَقِيلَ: لِأَنّهُمْ نَزَلُوا بِمَوْضِعِ فِيهِ خُلْجٌ مِنْ مَاءٍ، وَنَسَبُوا إلَيْهِ، وَابْنُ هَرْمَةَ وَاسْمُهُ:
إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيّ بْنِ هَرْمَةَ، وَهُوَ شَاعِرٌ مِنْ شُعَرَاءِ الدّوْلَةِ الْعَبّاسِيّةِ، وَبَيْتُهُ:
وَإِذَا هَرَقْت بِكُلّ دَارٍ عِبْرَةً ... نَزَفَ الشّئُونُ ودمعك الينبوع
والشئون: مَجَارِي الدّمْعِ، وَهِيَ أَطْبَاقُ الرّأْسِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ لِلرّجُلِ، وَثَلَاثَةٌ لِلْمَرْأَةِ، كَذَلِكَ ذَكَرُوا عَنْ أَهْلِ التّشْرِيحِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ.
مِنْ شَرْحِ الْآيَاتِ:
وَكُلّ مَا شَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ الْآيَاتِ الّتِي تَلَاهَا ابْنُ إسْحَاقَ، فَقَدْ تَقَدّمَ مَا يَحْتَاجُ بَيَانُهُ مِنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْبَيْتَ يُرَادُ بِهِ: الْقَصْرُ وَالْمَنْزِلُ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، فَإِنّهُ يُسَمّى بَيْتًا كَمَا قَدّمْنَا فِي شَرْحِ بَيْتِ الْقَصَبِ فِي حديث خديجة.
__________
- قريش- بزيادة: ابن سلمة قبل ابن هرمة- والخلج هو: قيس بن الحارث بن فهر، سموا بذلك لأنهم كانوا فى عدوان، ثم فى هوازن، فلما استخلف عمر أتوه ليفرض لهم، فأنكر نسبهم، فلما استخلف عثمان أتوه، فأثبتهم فى بنى الحارث ابن فهر، فسموا بذلك: الخلج، لأنهم اختلجوا ممن كانوا معه» ثم ذكر أن الموضع الذى نزلوا فيه كان على خلج بالمدينة. وأن ابن هرمة من متقدمى الشعراء وممن أدرك الدولتين الأموية والهاشمية يكنى أبا إسحاق.. وفى السيرة: إبراهيم بن عبد الله، وعند مصعب الزبيرى عن الكلبى ورد نسبه: سلمة بن عامر بن هرمة بن الهذيل بن ربيع بن عامر بن صبيح بن كنانة بن عدى بن قيس بن الحارث بن فهر انظر 298 سمط اللالى، والذهبى يضبط الخلج بضم فسكون

(3/193)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حزنة جهنم وأبو الأشد بن:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ مُسْتَهْزِئًا: يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّ جُنُودَ رَبّهِ الّتِي يُخَوّفُكُمْ بِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَأَنْتُمْ النّاسُ، إلَى آخِرِ الْقِصّةِ. وَأَهْلُ التّفْسِيرِ يَعْزُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلى أبى الأشدّ بن الْجُمَحِيّ «1» ، وَاسْمُهُ: كَلَدَةُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ خَلَفٍ، وَأَبُو دَهْبَلٍ الشّاعِرُ هُوَ ابْنُ أَخِيهِ، وَاسْمُهُ: وَهْبُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ خَلَفِ ابن وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي دَهْبَلٍ التّوْأَمَةُ الّتِي يَعْرِفُ بِهَا صَالِحٌ مَوْلَى التّوْأَمَةِ، وَهِيَ أُخْتُ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ، وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَأَنّهُ قَالَ: اكْفُونِي مِنْهُمْ اثْنَيْنِ، وَأَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ إعْجَابًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ بَلَغَ مِنْ شِدّتِهِ- فِيمَا زَعَمُوا- أنه كان يقف على
__________
(1) وقيل كما ذكر ابن أبى حاتم: إن رهطا من اليهود سألوا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء رجل، فأخبر النبى- صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذ: (عليها تسعة عشر) الخ. وهناك رواية أخرى للترمذى وأحمد والبزار أن رجلا جاء إلى النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: غلب أصحابك اليوم، فقال: بأى شىء، قال: سألتهم يهود: هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار-؟ قالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا- صلّى الله عليه وآله وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفغلب قوم يسئلون عما لا يعلمون، فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا صلّى الله عليه وسلم- على بأعداء الله، لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة، فأرسل إليهم محمد فدعاهم، قالوا: يا أبا القاسم: كم عدة خزنة أهل النار: قال: هكذا، وطبق كفين ثم طبق كفيه مرتين، وعقد واحدة الخ.

(3/194)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جِلْدِ الْبَقَرَةِ، وَيُجَاذِبُهُ عَشْرَةٌ، لِيَنْتَزِعُوهُ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ، فَيَتَمَزّقُ الْجِلْدُ، وَلَا يَتَزَحْزَحُ عَنْهُ، وَقَدْ دَعَا النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى الْمُصَارَعَةِ، وَقَالَ:
إنْ صَرَعْتنِي آمَنْت بِك، فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، فلم يُؤْمِنْ، وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ خَبَرَ الْمُصَارَعَةِ إلَى رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ ابن الْمُطّلِبِ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَأَمّا مَا قَالَ أَهْلُ التّأْوِيلِ فِي خَزَنَةِ جَهَنّمَ التّسْعَةَ عَشَرَ، فَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنّهُ قَالَ: بِيَدِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمُودٌ لَهُ شُعْبَتَانِ، وَإِنّهُ لَيَدْفَعُ بِالشّعْبَةِ تِسْعِينَ أَلْفًا إلَى النّارِ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي مَعْنَى أَبْوَابِ الْجَنّةِ وَأَبْوَابِ النّارِ فَائِدَةَ عَدَدِهَا وَتَسْمِيَتِهَا، وَذَكَرَ الزّبَانِيَةَ، وَالْحِكْمَةَ فى كونهم عددا قليلا مسئلة فِي قَرِيبٍ مِنْ جُزْءٍ، فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ.
بَهْتُ الرسول «ص» بأن بَشَرًا يُعَلّمُهُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ: إنّمَا يُعَلّمُهُ رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ: الرّحْمَنُ، وَإِنّا لَا نُؤْمِنُ بِالرّحْمَنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ: هُوَ رَبِّي كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْحَنَفِيّ، ثُمّ أَحَدُ بنى الدّول قد تسمى: بالرحمن فِي الْجَاهِلِيّةِ، وَكَانَ مِنْ الْمُعَمّرِينَ، ذَكَرَ وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى أَنّ مُسَيْلِمَةَ تَسَمّى بِالرّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ عَبْدُ اللهِ أَوْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَبِيرٌ:
وَأَنْشَدَ فِي تفسير الزّبانية:

(3/195)


[الذين استمعوا إلى قراءة النبى (ص) ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ حُدّثَ: أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ، خَرَجُوا لَيْلَةً؛ لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يصلى من الليل مِنْ اللّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ، وَكُلّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا.
فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمّ انْصَرَفُوا، حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّانِيَةُ، عَادَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوّلَ مرّة، ثم انصرفوا. حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ كَبِيرٍ نَفَرٌ زَبَانِيَهْ «1» وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ: كَبِيرٌ: حَيّ مِنْ هُذَيْلٍ قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَفِي أَسَدٍ أَيْضًا: كَبِيرُ بْنُ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ، وَمِنْ ذُرّيّتِهِ:
بَنُو جَحْشِ بْنُ رَيّانَ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبْوَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرٍ «2» وَلَعَلّ الرّاجِزَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ هَؤُلَاءِ، فَإِنّهُمْ أَشْهَرُ، وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَبَنُو كَبِيرٍ أَيْضًا: بَطْنٌ مِنْ بَنِي غَامِدٍ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ، وَاَلّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هُذَيْلٍ هُوَ: كَبِيرُ بْنُ طابخة بن لحيان ابن سعد بن هذيل.
__________
(1) سبق ذكر الأحاديث التى وردت فى هذا الشان، والذى نقله السهيلى عن كعب الأحبار فى أمر خزنة جهنم لا سند له
(2) من شعراء هذيل من كنيته أبو كبير، وفى اللسان: كبير بن هند: حى من هذيل.

(3/196)


إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّالِثَةُ أَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا نَبْرَحُ حَتّى نَتَعَاهَدَ أَلَا نَعُودَ، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرّقوا.
فَلَمّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِك فِيمَا سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللهِ لَقَدْ سَمِعْت أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا، وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذى حلفت به.
قَالَ: ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ:
يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُك فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمّدٍ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا عَلَى الرّكْبِ، وَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنّا نَبِيّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ السّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ، وَاَللهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدّقُهُ.
قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إذَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، ودعاهم إلى الله، قالوا يهزؤن بِهِ: (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) لَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ: (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) لَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ: (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك (فَاعْمَلْ) بِمَا أَنْت عَلَيْهِ (إِنَّنا عامِلُونَ) بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ، إنّا لَا نَفْقَهُ عَنْك شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَإِذا قَرَأْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/197)


الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً إلَى قَوْلِهِ: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً الإسراء: 45، 46 أَيْ: كَيْفَ فَهِمُوا تَوْحِيدَك رَبّك إنْ كُنْتُ جَعَلْتُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا بِزَعْمِهِمْ؛ أَيْ:
إنّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ، إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ:
وَإِذْ هُمْ نَجْوى، إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً الإسراء: 47 أَيْ: ذَلِكَ مَا تَوَاصَوْا بِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَعَثْتُك بِهِ إلَيْهِمْ. انْظُرْ:
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا الإسراء: 48 أى: أخطئوا المثل الذى ضربوا لك، فلا يصيبون به هدى، ولا يعتدل لهم فيه قول وَقالُوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَيْ: قَدْ جِئْت تُخْبِرُنَا: أَنّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِنَا إذَا كُنّا عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَذَلِك مَا لَا يَكُونُ. قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ: الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ الإسراء: 49- 51: أَيْ: الّذِي خَلَقَكُمْ مِمّا تَعْرِفُونَ، فَلَيْسَ خَلْقُكُمْ مِنْ تُرَابٍ بِأَعَزّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ مَا الّذِي أَرَادَ اللهُ بِهِ؟ فَقَالَ: الْمَوْت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/198)