الروض
الأنف ت الوكيل [ذكر إسْلَامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا قَدِمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ
اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُدْرِكُوا مَا
طَلَبُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
وَرَدّهُمَا النجاشىّ بما يكرهونه، وَأَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ-
وَكَانَ رَجُلًا ذَا شَكِيمَةٍ لَا يُرَامُ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ-
امْتَنَعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
وَبِحَمْزَةِ حَتّى عَازُوا قُرَيْشًا، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ
مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا كُنّا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُصَلّيَ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ، حَتّى أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَلَمّا أَسْلَمَ
قَاتَلَ قُرَيْشًا، حَتّى صَلّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَصَلّيْنَا مَعَهُ،
وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إلَى الْحَبَشَةِ.
قَالَ الْبُكَائِيّ: قَالَ: حَدّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ إبْرَاهِيمَ، قَالَ:
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنّ إسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا،
وَإِنّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنّ إمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً،
وَلَقَدْ كُنّا مَا نُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتّى أَسْلَمَ عُمَرُ،
فَلَمّا أَسْلَمَ، قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتّى صَلّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ،
وصلّينا معه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أُمّهِ أُمّ عَبْدِ
اللهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَتْ:
وَاَللهِ إنّا لَنَتَرَحّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذهب عامر فى
بعض حاجاتنا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/264)
إذ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، حَتّى
وَقَفَ عَلَيّ، وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ- قَالَتْ: وَكُنّا نَلْقَى مِنْهُ
الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا، وَشِدّةً عَلَيْنَا- قَالَتْ: فَقَالَ: إنّهُ
لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمّ عَبْدِ اللهِ. قَالَتْ: فَقُلْت: نَعَمْ وَاَللهِ،
لَنَخْرُجَنّ فِي أَرْضِ اللهِ، آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا، حَتّى
يَجْعَلَ اللهُ مَخْرَجًا. قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمْ اللهُ، وَرَأَيْت
لَهُ رِقّةً، لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ-
فِيمَا أَرَى- خُرُوجُنَا.
قَالَتْ: فَجَاءَ عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ، فقالت لَهُ: يَا أَبَا
عَبْدِ اللهِ، لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقّتَهُ وَحُزْنَهُ
عَلَيْنَا! قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إسْلَامِهِ؟ قَالَتْ: قُلْت: نَعَمْ،
قَالَ:
فَلَا يُسْلِمُ الّذِي رَأَيْتِ، حَتّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطّابِ؛
قَالَتْ: يَأْسًا مِنْهُ، لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غلظته وقسوته عن الإسلام.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ فِيمَا بَلَغَنِي أَنّ
أُخْتَه فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطّابِ، وَكَانَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ
بَعْلُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُمَا مُسْتَخْفِيَانِ بِإِسْلَامِهِمَا
مِنْ عُمَرَ، وكان نعيم بن عبد الله النحّام من مكة، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ،
مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَانَ أَيْضًا يَسْتَخْفِي
بِإِسْلَامِهِ فَرَقًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ
يَخْتَلِفُ إلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطّابِ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ،
فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ رَسُولَ اللهِ-
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَرَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ، قَدْ ذُكِرُوا
لَهُ أَنّهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصّفَا، وَهُمْ قَرِيبٌ
مِنْ أَرْبَعِينَ مَا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَمَعَ رَسُولِ الله- صلّى
الله عليه وسلم- عمّه حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَأَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصّدّيقُ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فِي رِجَالٍ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، ممن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/265)
أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ، وَلَمْ يَخْرَجْ فِيمَنْ خَرَجَ إلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ، فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ
تُرِيدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أريد محمدا هذا الصابىء، الّذِي فَرّقَ
أَمْرَ قُرَيْشٍ، وَسَفّهُ أَحْلَامَهَا، وَعَابَ دِينَهَا، وَسَبّ
آلِهَتَهَا، فَأَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ: وَاَللهِ لَقَدْ غَرّتْك
نَفْسُك مِنْ نَفْسِك يَا عُمَرُ، أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيك
تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْت مُحَمّدًا! أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى
أَهْلِ بَيْتِك فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ؟ قَالَ: وَأَيّ أَهْلِ بَيْتِي؟
قَالَ: خَتَنُك وَابْنُ عَمّك سَعِيدُ ابن زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَأُخْتُك:
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ، فَقَدْ وَاَللهِ أَسْلَمَا، وَتَابَعَا
مُحَمّدًا عَلَى دِينِهِ، فَعَلَيْك بِهِمَا، قَالَ: فَرَجَعَ عُمَرُ
عَامِدًا إلَى أُخْتِهِ وَخَتَنِهِ، وَعِنْدَهُمَا خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ
مَعَهُ صَحِيفَةٌ، فِيهَا: «طَه» يُقْرِئُهُمَا إيّاهَا، فَلَمّا سَمِعُوا
حِسّ عُمَرَ تَغَيّبْ خَبّابٌ فِي مِخْدَعٍ لَهُمْ- أَوْ فِي بَعْضِ
الْبَيْتِ- وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ الصّحِيفَةَ،
فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا، وَقْدَ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا إلَى
الْبَيْتِ قِرَاءَةَ خَبّابٍ عَلَيْهِمَا، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ: مَا
هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الّتِي سَمِعْتُ؟ قَالَا لَهُ: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا،
قَالَ: بَلَى وَاَللهِ لَقَدْ أُخْبِرْت أَنّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمّدًا
عَلَى دِينِهِ، وَبَطَشَ بِخَتَنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَامَتْ
إلَيْهِ أُخْتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ لَتَكُفّهُ عَنْ زَوْجِهَا،
فَضَرَبَهَا فَشَجّهَا، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ
وَخَتَنُهُ: نَعَمْ قَدْ أَسْلَمْنَا، وَآمَنّا بِاَللهِ وَرَسُولِهِ،
فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك: فَلَمّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنْ الدّمِ
نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ، فَاِرْعَوى، وَقَالَ لأخته: أعطينى هذه الصحيفة
التى سمعتكم تقرؤن آنِفًا أَنْظُرْ مَا هَذَا الّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ،
وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا، فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ:
إنّا نَخْشَاك عَلَيْهَا، قَالَ: لَا تَخَافِي، وَحَلَفَ لَهَا بِآلِهَتِهِ
لَيَرُدّنّهَا إذَا قَرَأَهَا إلَيْهَا، فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ، طَمِعَتْ
فِي إسْلَامِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، إنّكَ نَجِسٌ، على
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/266)
شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر،
فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها: «طَه» فَقَرَأَهَا، فَلَمّا قَرَأَ مِنْهَا
صَدْرًا، قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَكْرَمَهُ! فَلَمّا
سَمِعَ ذلك خبّاب خرج طليه، فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، وَاَللهِ إنّي
لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ خَصّك بِدَعْوَةِ نَبِيّهُ، فَإِنّي
سَمِعْته أَمْسِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمّ أَيّدْ الْإِسْلَامَ بِأَبِي
الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، أَوْ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ، فَاَللهَ اللهَ
يَا عُمَرُ: فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ عُمَرُ: فَدُلّنِي يَا خَبّابُ
عَلَى مُحَمّدٍ حَتّى آتِيَهُ، فَأُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ خَبّابٌ:
هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصّفَا، مَعَهُ فِيهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ فَتَوَشّحَهُ، ثُمّ عَمَدَ إلَى رَسُولِ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ
الْبَابَ، فلما سمعوا صوته، قام رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَنَظَرَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ، فَرَآهُ
مُتَوَشّحًا السّيْفَ، فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فَزِعٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مُتَوَشّحًا السّيْفَ، فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ: فَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا
بَذَلْنَاهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرّا قَتَلْنَاهُ
بِسَيْفِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ائْذَنْ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ الرّجُلُ، وَنَهَضَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتّى لَقِيَهُ فِي الْحُجْرَةِ،
فَأَخَذَ حُجْزَتَهُ، أَوْ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ، ثُمّ جَبَذَهُ بِهِ
جَبْذَةً شَدِيدَةً، وقال: ما جاء بك يابن الخطّاب؟ فو الله مَا أَرَى أَنْ
تَنْتَهِيَ حَتّى يُنْزِلَ اللهُ بِك قَارِعَةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا
رَسُولَ اللهِ، جِئْتُك لِأُومِنَ بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ
مِنْ عِنْدِ اللهِ، قَالَ: فَكَبّرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ تَكْبِيرَةً عَرَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/267)
فَتَفَرّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ- صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مِنْ مَكَانِهِمْ، وَقَدْ عَزّوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ مَعَ إسْلَامِ حَمْزَةَ، وَعَرَفُوا
أَنّهُمَا سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوّهِمْ. فَهَذَا حَدِيثُ الرّوَاةِ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ بن الخطّاب حين أسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أَبِي نَجِيحٍ الْمَكّيّ، عَنْ
أَصْحَابِهِ:
عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، أَوْ عَمّنْ رَوَى ذَلِكَ: أَنّ إسْلَامَ عُمَرَ
فِيمَا تَحَدّثُوا بِهِ عَنْهُ، أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: كُنْت لِلْإِسْلَامِ
مُبَاعِدًا، وَكُنْت صَاحِبَ خَمْرٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ، أُحِبّهَا
وَأُسِرّ بِهَا، وَكَانَ لَنَا مَجْلِسٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ
قُرَيْشٍ بِالْحَزْوَرَةِ، عِنْدَ دور آلِ عُمَر بْنِ عَبْدِ بْنِ
عِمْرَانَ الْمَخْزُومِيّ، قَالَ: فَخَرَجْت لَيْلَةً أُرِيدُ جُلَسَائِي
أُولَئِكَ فِي مَجْلِسِهِمْ ذَلِكَ، قَالَ: فَجِئْتهمْ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ
مِنْهُمْ أَحَدًا. قَالَ: فَقُلْت: لَوْ أَنّي جِئْتُ فُلَانًا الْخَمّارَ،
وَكَانَ بِمَكّةَ يَبِيعُ الْخَمْرَ، لَعَلّي أَجِدُ عِنْدَهُ خَمْرًا
فَأَشْرَبَ مِنْهَا.
قَالَ: فَخَرَجْتُ فَجِئْته فَلَمْ أَجِدْهُ. قَالَ: فَقُلْت: فَلَوْ أَنّي
جِئْتُ الْكَعْبَةَ، فَطُفْت بِهَا سَبْعًا أَوْ سَبْعِينَ. قَالَ:
فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ أُرِيدُ أَنْ أَطُوّفَ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا
رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَائِمٌ يُصَلّي، وَكَانَ
إذَا صَلّى اسْتَقْبَلَ الشّامَ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الشّامِ، وَكَانَ مُصَلّاهُ بَيْنَ الرّكْنَيْنِ: الرّكْنِ الْأَسْوَدِ،
وَالرّكْنِ الْيَمَانِيّ. قَالَ: فَقُلْت حِينَ رَأَيْتُهُ: وَاَللهِ لَوْ
أَنّي اسْتَمَعْت لِمُحَمّدٍ اللّيْلَةَ حَتّى أَسْمَعَ مَا يَقُولُ!
قَالَ: فَقُلْت: لَئِنْ دَنَوْتُ مِنْهُ أَسْتَمِعُ مِنْهُ لَأُرَوّعَنّهُ،
فَجِئْت مِنْ قِبَلِ الْحِجْرِ، فَدَخَلْت تَحْتَ ثِيَابِهَا، فَجَعَلْتُ
أَمْشِي رُوَيْدًا، وَرَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَائِمٌ يُصَلّي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، حَتّى قُمْت فِي قِبْلَتِهِ
مُسْتَقْبِلَهُ، مَا بَيْنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/268)
وَبَيْنَهُ إلّا ثِيَابُ الْكَعْبَةِ.
قَالَ: فَلَمّا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ رَقّ لَهُ قَلْبِي، فَبَكَيْتُ
وَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ، فَلَمْ أَزَلْ قَائِمًا فِي مَكَانِي ذَلِكَ،
حَتّى قَضَى رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- صَلَاتَهُ،
ثُمّ انْصَرَفَ، وَكَانَ إذَا انْصَرَفَ خَرَجَ عَلَى دَارِ ابْنِ أَبِي
حُسَيْنٍ، وَكَانَتْ طَرِيقَهُ، حَتّى يَجْزَعَ الْمَسْعَى، ثُمّ يَسْلُكُ
بَيْنَ دَارِ عبّاس ابن الْمُطّلِبِ، وَبَيْنَ دَارِ ابْنِ أَزْهَرَ بْنِ
عَبْدِ عوف الزّهرى، ثم على دار الأخنس ابن شَرِيقٍ، حَتّى يَدْخُلَ
بَيْتَهُ، وَكَانَ مَسْكَنُهُ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي الدّارِ
الرّقْطَاءِ، الّتِي كَانَتْ بِيَدَيْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
فَتَبِعْتُهُ حَتّى إذَا دخل بين دار عبّاس، ودار ابن أَزْهَرَ،
أَدْرَكْتُهُ، فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حسّى عرفنى، فَظَنّ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنّي إنّمَا تَبِعْته لِأُوذِيَهُ، فَنَهَمَنِي، ثُمّ قَالَ:
ما جاء بك يابن الْخَطّابِ هَذِهِ السّاعَةَ؟ قَالَ: قُلْت: جِئْت
لِأُومِنَ بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ،
قَالَ: فَحَمِدَ اللهِ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ثُمّ قَالَ: قَدْ هَدَاك اللهُ يَا عُمَرُ، ثُمّ مَسَحَ صَدْرِي، وَدَعَا
لِي بِالثّبَاتِ، ثُمّ انْصَرَفْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَيْتَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: والله أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ
عُمَرَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ، قَالَ:
أَيّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ له: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ
الْجُمَحِيّ. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ، قال عبد الله بن عمر: فعدوت
أَتْبَعُ أَثَرَهُ، وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ، وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ
كُلّ مَا رَأَيْتُ، حَتّى جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/269)
أَنّي قَدْ أَسْلَمْت: وَدَخَلْت فِي دِينِ
مُحَمّدٍ؟ قال: فو الله مَا رَاجَعَهُ حَتّى قَامَ يَجُرّ رِدَاءَهُ
وَاتّبَعَهُ عُمَرُ، وَاتّبَعْت أَبِي، حَتّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
يَا مَعْشَرَ قريش، وهم فى أنديتهم حول باب الْكَعْبَةِ، أَلَا إنّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطّابِ قَدْ صبأ، قال: يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ،
وَلَكِنّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَه إلّا اللهُ، وَأَنّ
مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَثَارُوا إلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ
يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتّى قَامَتْ الشّمْسُ عَلَى رؤسهم. قال:
وطلح، فتعد وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا
لَكُمْ، فَأَحْلِفُ بِاَللهِ أَنْ لَوْ قَدْ كنّا ثلثمائة رجل لتركناها
لكم، أو لتركتموها لَنَا، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إذْ
أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِ حُلّةٌ حِبْرَةٌ، وَقَمِيصٌ
مُوَشّى، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟
قَالُوا: صَبَا عُمَرُ، فَقَالَ: فَمَهْ، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ
أَمْرًا، فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ
يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا؟! خلّوا عن الرجل. قال: فو الله
لَكَأَنّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْت لِأَبِي بَعْدَ
أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ:
يَا أَبَتْ، مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك بمكة يوم أسلمت،
وهم يقاتلونك؟
فقال: ذلك، أَيْ بُنَيّ، الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنّهُ قَالَ:
يَا أَبَتْ، مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ القوم عنك يَوْمَ أَسْلَمْتَ،
وَهُمْ يُقَاتِلُونَك، جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا؟ قَالَ:
يَا بُنَيّ ذَاكَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ، لَا جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ
بَعْضِ آلِ عُمَرَ، أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ. قَالَ عُمَرُ: لَمّا
أَسْلَمْتُ تِلْكَ اللّيْلَةَ، تَذَكّرْت أَيّ أهل مكّة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/270)
أَشَدّ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَدَاوَةً حَتّى آتِيَهُ، فَأُخْبِرَهُ أَنّي قَدْ
أَسْلَمْتُ، قال: قلت: أبو جهل- وكان عمر لختمة بِنْتِ هِشَامِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ- قَالَ: فَأَقْبَلْت حِينَ أَصْبَحْتُ، حَتّى ضَرَبْتُ
عَلَيْهِ بَابَهُ. قَالَ: فَخَرَجَ إلَيّ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ:
مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ أُخْتِي، مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ: جِئْتُ
لِأُخْبِرَك أَنّي قَدْ آمَنْت بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمّدٍ، وَصَدّقْت
بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَ: فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي، وَقَالَ:
قَبّحَك اللهُ، وَقَبّحَ مَا جِئْت به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إسْلَامُ عُمَرَ وَحَدِيثُ خَبّابٍ:
فَصْلٌ: فِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ. ذَكَرَهُ إلَى آخِرِهِ، وَلَيْسَ
فِيهِ إشْكَالٌ، وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ وَالْمُسْلِمُونَ إذْ ذَاكَ بضعة
وأربعون رجلا، وإحدى عشرة «1» امرأة.
__________
(1) فى رواية ابن أبى خيثمة عن عمر نفسه: «لقد رأيتنى، وما أسلم مع رسول
الله إلا تسعة وثلاثون رجلا، فكملتهم أربعين، فأظهر الله دينه، وأعز
الإسلام. وروى البزار نحوا من حديث ابن عباس، ولقد قيل: إنه أسلم فى ذى
الحجة سنة ست من المبعث، وحكى ابن الجوزى فى بعض كتبه الاتفاق عليه، ولكنه
فى التلقيح قال: سنة ست أو خمس، وروى أبو نعيم فى الدلائل أن إسلامه كان
بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام، وحديث ابن مسعود عن أثر إسلامه فى البخارى:
فقد روى بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: «مازلنا أعزة منذ أسلم عمر»
، والحديث الاخر من رواية البكائى عن ابن مسعود رواه ابن أبى شيبة،
والطبرانى من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود، وفيه:
«والله ما استطعنا أن نصلى حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر» وروى ابن سعد من
حديث صهيب، قال: لما أسلم عمر قال المشركون: انصف القوم منا. وروى البزار-
(3/271)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِيهِ: أَنّ خَبّابًا وَهُوَ ابْنُ الْأَرَتّ كَانَ يُقْرِئُ فَاطِمَةَ
بِنْتَ الْخَطّابِ الْقُرْآنَ، وَخَبّابٌ تَمِيمِيّ بِالنّسَبِ، وَهُوَ
خُزَاعِي بِالْوَلَاءِ لِأُمّ أَنْمَارٍ بِنْتِ سِبَاعٍ الْخُزَاعِيّ،
وَكَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ سِبَاءٌ، فاشترته وأعتقته، فولاؤه لها، وكان
أبوها؟؟؟ ح
__________
- والطبرانى من حديث ابن عباس نحوه، وفى حديث إسلام عمر أن أخته هى فاطمة،
وهذا على الأكثر، وقيل- كما حكى الدارقطنى- اسمها: أميمة، وقال الحافظ فى
الإصابة كان اسمها: فاطمة ولقبها: أميمة، وكنيتها: أم جميل، وفى نسب قريش
لا توجد أخت لعمر اسمها فاطمة، وإنما صفية وأميمة فقط ص 347. وفى بعض
روايات حديث إسلامه أن عمر قال بعد أن أخبر بإسلام أخته «وقد كان- صلّى
الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة، فيكونان
معه ويصيبان من طعامه وقد ضم إلى زوج أختى رجلين» . وحديث: اللهم أيد
الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب، روايته عند الترمذى: «اللهم
أعز الإسلام بأحب الرجلين، بأبى جهل أو يعمر، فكان أحبهما إليه عمر» . قال
الترمذى: حسن صحيح، وصححه ابن حبان، وفى إسناده خارجة بن عبد الله صدوق فيه
مقال، ولكن له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الترمذى أيضا، ومن حديث أنس،
وروى أحمد نحوه، ورواه الحاكم بلفظ: أيد، بدل: أعز. وأخرجه الحاكم، وصححه
عن نافع عن ابن عمر عن ابن عباس رفعه: اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب
خاصة، وأخرجه ابن ماجة وابن حبان، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين وأقره
الذهبى من حديث عائشة. والرواية الجارية على الألسنة، بأحب العمرين: لا أصل
لها فى شىء من طرق الحديث وهناك رواية طيبة المعنى عن عائشة: قالت: إنما
قال صلّى الله عليه وسلم: اللهم أعز بالإسلام، لأن الاسلام يعز ولا يعز»
وقد قال أبو بكر التاريخى أن عمر سئل عن قوله اللهم أيد الإسلام، فقال:
معاذ الله. هذا وقد ولد عمر بعد الفجار بثلاث عشرة سنة.
(3/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِعَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ
«1» ، فَهُوَ زُهْرِيّ بِالْحِلْفِ، وَهُوَ ابْنُ الْأَرَتّ بْنُ
جَنْدَلَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، كَانَ قَيْنًا يَعْمَلُ السّيُوفَ فِي
الْجَاهِلِيّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إنّ أُمّهُ كَانَتْ أُمّ سِبَاعٍ
الْخُزَاعِيّة، وَلَمْ يَلْحَقْهُ سِبَاءٌ، وَلَكِنّهُ انْتَمَى إلَى
حُلَفَاءِ أُمّهِ بَنِي زُهْرَةَ، يُكَنّى: أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَقِيلَ:
أَبَا يَحْيَى، وَقِيلَ أَبَا مُحَمّدٍ مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ بعد ما شَهِدَ مَعَ عَلِيّ صِفّينَ وَالنّهْرَوَان، وَقِيلَ:
بَلْ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ. ذَكَرَ أَنّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ سَأَلَهُ عَمّا لَقِيَ فِي ذَاتِ اللهِ، فَكَشَفَ ظَهْرَهُ،
فَقَالَ عُمَرُ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ أُوقِدَتْ لِي نَارٌ، فَمَا أَطَفْأَهَا إلّا
شَحْمِي.
تَطْهِيرُ عُمَرَ لِيَمَسّ الْقُرْآنَ:
فَصْلٌ: وَفِيهِ ذَكَرَ تَطْهِيرَ عُمَرَ لِيَمَسّ الْقُرْآنَ، وَقَوْلُ
أُخْتِهِ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَالْمُطَهّرُونَ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي
الْمُوَطّأِ، وَاحْتَجّ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ،
وَلَكِنّهُمْ وَإِنْ كَانُوا الْمَلَائِكَةَ، فَفِي وَصْفِهِمْ
بِالطّهَارَةِ مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْمَسّ مَا يَقْتَضِي أَلّا يَمَسّهُ
إلّا طَاهِرٌ اقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ الْمُطَهّرِينَ، فَقَدْ تَعَلّقَ
الْحُكْمُ بِصِفّةِ التّطْهِيرِ، وَلَكِنّهُ حُكْمٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ،
وَلَيْسَ مَحْمُولًا عَلَى الفرض، وكذلك ما كتب به رسول
__________
(1) النسب هكذا فى كتاب نسب قريش ص 265 أما فى جمهرة ابن حزم ص 121 وما
بعدها: فعوف بن عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ، وفى
الإصابة كما فى نسب قريش، لكن سقطت كلمة ابن بين عبد وبين الحارث.
(3/273)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «1» :
«وَأَلّا يَمَسّ الْقُرْآنَ إلّا طَاهِرٌ» لَيْسَ عَلَى الْفَرْضِ، وَإِنْ
كَانَ الْفَرْضُ فِيهِ أَبْيَنَ مِنْهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنّهُ جَاءَ
بِلَفْظِ النّهْيِ عَنْ مَسّهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَلَكِنْ فِي كتابه
إلى هرقل بهذه الاية:
يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ آل عِمْرَانَ: 64 دَلِيلٌ
عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَقَدْ ذَهَبَ دَاوُدَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَطَائِفَةٌ
مِمّنْ سَلَفَ، مِنْهُمْ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَحَمّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ إلَى إبَاحَةِ مَسّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ،
وَاحْتَجّوا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِهِ إلَى هِرَقْلَ، وَقَالُوا:
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مُرْسَلٌ، فَلَمْ يروه حجة، والدار قطنى قد
أسنده من طرق حسان، أقواها: رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ عَنْ
الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ، وَمِمّا يُقَوّي أَنّ الْمُطَهّرِينَ فِي
الْآيَةِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ، أَنّهُ لَمْ يَقُلْ: الْمُتَطَهّرُونَ،
وَإِنّمَا قَالَ الْمُطَهّرُونَ، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمُتَطَهّرِ
وَالْمُطَهّرِ: أَنّ الْمُتَطَهّرَ مِنْ فِعْلِ الطّهُورِ «2» ، وَأَدْخَلَ
نَفْسَهُ فِيهِ كَالْمُتَفَقّهِ مَنْ يُدْخِلُ نَفْسَهُ فِي الْفِقْهِ،
وَكَذَلِكَ الْمُتَفَعّلُ فِي أكثر الكلام، وأنشد سيبويه:
__________
(1) هو فى الموطأ، وعند أبى داود فى المراسيل من حديث الزهرى، قال: قرأت فى
صحيفة عند أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال: «ولا يمس القرآن إلا طاهر» ويعلق ابن كثير على
هذا بقوله: ومثل هذا لا ينبغى الأخذ به. وقال عن سندى الدارقطنى للحديث:
وفى إسناد كل منهما نظر. أقول: والضمير فى الاية يرجع الى الكتاب المكنون
لا إلى القرآن
(2) الطهور- بضم الطاء- التطهر، وبفتحها الماء، وإن كان سيبويه يرى أن
الطهور- بفتح الطاء يقع على الماء والمصدر معا.
(3/274)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَيْسُ عَيْلَانَ وَمَنْ تَقَيّسَا «1»
فَالْآدَمِيّونَ مُتَطَهّرُونَ إذَا تَطَهّرُوا، وَالْمَلَائِكَةُ
مُطَهّرُونَ خِلْقَةً، وَالْآدَمِيّاتُ إذَا تَطَهّرْنَ: مُتَطَهّرَاتٌ،
وَفِي التّنْزِيلِ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ الْبَقَرَةُ: 222 وَالْحُورُ الْعِينِ مُطَهّرَاتٌ،
وَفِي التّنْزِيلِ: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ النّسَاءُ: 57
وَهَذَا فَرْقٌ بَيّنٌ وَقُوّةٌ لِتَأْوِيلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ الله، والقول
عندى
__________
(1) فى خزانة الأدب للبغدادى: وقيس عيلان تركيب إضافى، لأن عيلان اسم فرس
قيس لا أبيه كما ظنه بعض الناس- كذا فى القاموس وغيره- وليس عيلان فى لغة
العرب غيره. وما عداه غيلان. وفى شرح أدب الكاتب للجواليقى: قيس عيلان بن
مضر، ويقال: قيس بن عيلان، وكان الناس متلافا، وكان إذا نفد ماله أتى أخاه
الياس، فيناصفه ماله أحيانا، ويواسيه أحيانا، فلما طال ذلك عليه وأتاه قال
له الياس: غلبت عليك العيلة، فأنت عيلان، فسمى لذلك عيلان، ومن قال قيس بن
عيلان، فإن عيلان: كان عبد المضر حضن ابنه الناس، فغلب على نسبه ومثله فى
الأنساب للكلبى. قال: كان عيلان عبد المضر، فحضن ابنه الناس ص 96 ج- 1
خزانة الأدب للبغدادى ط دار العصور، وانظر ص 457 أدب الكاتب لابن قتيبة، وص
222 شرح أدب الكاتب للجواليقى، وفى اللسان فى مادة قيس: أبو قبيلة من مضر
وهو قيس عيلان، واسمه: الناس بن مضر بن نزار، وقيس لقبه، يقال: تقيّس فلان
إذا تشبه بهم، أو تمسك منهم بسبب إما بحلف أو جوار أو ولاء. وقد نسب سيبويه
البيت إلى رؤبة مع رفع السين من قيس. ولكن ابن برى يقول: الرجز للعجاج وليس
لرؤبة، وصواب إنشاده:
وقيس بنصب السين لأن قبله: ... وإن دعوت من تميم أرؤسا
وجواب إن فى البيت الثالث:
تقاعس العزّ بنا فاقعنسسا
(3/275)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الرّسُولِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ مُتَطَهّرٌ وَمُطَهّرٌ، أَمّا
مُتَطَهّرٌ؛ فَلِأَنّهُ بَشَرٌ آدَمِي يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ،
وَيَتَوَضّأُ مِنْ الْحَدَثِ، وَأَمّا مُطَهّرٌ؛ فَلِأَنّهُ قَدْ غَسَلَ
بَاطِنَهُ، وَشُقّ عَنْ قَلْبِهِ، وَمُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَهُوَ
مُطَهّرٌ وَمُتَطَهّرٌ، وَاضْمُمْ هَذَا الْفَصْلَ إلَى مَا تَقَدّمَ فِي
ذِكْرِ مَوْلِدِهِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنّهُ تَكْمِلَةٌ وَالْحَمْدُ
لِلّهِ.
وَفِي تَطَهّرِ عُمَرَ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ الْإِسْلَامَ قُوّةٌ لِقَوْلِ
ابْنِ الْقَاسِمِ: إنّ الْكَافِرَ إذَا تَطَهّرَ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ
إسْلَامَهُ، وَيَشْهَدَ الشّهَادَتَيْنِ أنه مجزىء لَهُ، وَقَدْ عَابَ
قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ فِي
خَبَرِ إسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ،
وَقَدْ سَأَلَهُ: كَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ يُرِيدُ الدّخُولَ فِي هَذَا
الدّينِ، فَقَالَ: يَتَطَهّرُ، ثُمّ يَشْهَدُ بِشَهَادَةِ الْحَقّ،
فَفَعَلَ ذَلِكَ هُوَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ «1» ، وَحَدِيثُ إسْلَامِ
عُمَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَادِيثِ السّيَرِ، فَقَدْ خَرّجَهُ
الدّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ، غَيْرَ أَنّهُ خَرّجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ
أَنَسٍ أَنّ أُخْتَ عُمَرَ قَالَتْ لَهُ: إنّك رِجْسٌ، وَلَا يَمَسّهُ إلّا
الْمُطَهّرُونَ، فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضّأْ، فَقَامَ فَتَوَضّأَ،
ثُمّ أَخَذَ الصّحِيفَةَ وَفِيهَا سُورَةُ طَه، فَفِي هَذِهِ الرّوَايَةِ
أَنّهُ كان وضوآ، وَلَمْ يَكُنْ اغْتِسَالًا، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ:
أَنّ عُمَرَ حِين قَرَأَ فِي الصّحِيفَةِ سُورَةَ طَه انتهى منها إلى قوله:
__________
(1) فى الأصل: حصين وهو خطأ صوابه ما أثبته. وفى القاموس عن أسيد: «وكأمير
سبعة صحابيون، وخمسة تابعيون، وكزبير: ابن حضير وابن ثعلبة وابن يربوع وابن
ساعدة وابن ظهير وابن أبى الجدعاء وابن أخى رافع بن خديج وابن سعية، أو هو
كأمير صحابيون» أما ابن حبيب فى كتابه متشابه القبائل، فيقول: «كل شىء فى
العرب أسيد- كأمير- فهو على فعيل سوى أسيد بن عمرو فى بنى تميم فإنه على
مثال التصغير» انظر القاموس وص 451 المزهر ج 2
(3/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى: 15 فَقَالَ: مَا أَطْيَبَ هَذَا
الْكَلَامَ وَأَحْسَنَهُ، وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ
أَنّ الصّحِيفَةَ كَانَ فيها مع سورة طه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَأَنّ
عُمَرَ انْتَهَى فِي قِرَاءَتِهَا إلَى قَوْلِهِ: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ.
زِيَادَةٌ فِي إسْلَامِ عُمَرَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ سُنْجُر زِيَادَةً فِي إسْلَامِ عُمَرَ، قَالَ:
حَدّثْنَا أبو المغيرة قال: نا صفوان ابن عَمْرٍو، قَالَ: حَدّثَنِي
شُرَيْح بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: خَرَجْت
أُتَعَرّضُ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ
أُسْلِمَ، فَوَجَدْته قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْت خَلْفَهُ،
فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقّةِ، فَجَعَلْت أَتَعَجّبُ مِنْ تَأْلِيفِ
الْقُرْآنِ قَالَ: قُلْت: هَذَا وَاَللهِ شَاعِرٌ، كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ،
فَقَرَأَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ،
قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ قَالَ: قُلْت: كَاهِنٌ عَلِمَ مَا فِي نَفْسِي،
فَقَالَ: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ إلَى آخِرِ
السّورَةِ «1» قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلّ مَوْقِعٍ،
وَقَالَ عُمَرُ حِينَ أَسْلَمَ:
الْحَمْدُ لِلّهِ ذِي الْمَنّ الّذِي وَجَبَتْ ... لَهُ علينا أياد مالها
غِيَرُ
وَقَدْ بَدَأْنَا فَكَذّبْنَا، فَقَالَ لَنَا ... صَدَقَ الحديث نبىّ عند
الْخَبَرُ
وَقَدْ ظَلَمْت ابْنَةَ الْخَطّابِ ثُمّ هَدَى ... رَبّي عَشِيّةً قَالُوا:
قَدْ صَبَا عُمَرُ
وَقَدْ نَدِمْت عَلَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلٍ ... بِظُلْمِهَا حين تتلى
عندها السّور
__________
(1) رواه أحمد، ولعل الرواية التى ذكر فيها أنه سمع القرآن والرسول يصلى
جوار الكعبة هى أقرب الروايات اتساقا مع حال عمر.
(3/277)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَمّا دَعَتْ رَبّهَا ذَا الْعَرْشِ جَاهِدَةً ... وَالدّمْعُ مِنْ
عَيْنِهَا عَجْلَانُ يَبْتَدِرُ
أَيْقَنْت أَنّ الّذِي تَدْعُوهُ خَالِقُهَا ... فَكَادَ تَسْبِقُنِي مِنْ
عِبْرَةٍ دِرَرُ
فَقُلْت: أَشْهَدُ أَنّ اللهَ خَالِقُنَا ... وَأَنّ أَحْمَدَ فِينَا
الْيَوْمَ مُشْتَهِرُ
نَبِيّ صدق أتى بالحق مِنْ ثِقَةٍ ... وَافَى الْأَمَانَةَ مَا فِي عُودِهِ
خَوَرُ
رَوَاهُ يُونُسُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ. وَذَكَرَ الْبَزّارُ فِي إسْلَامِ
عُمَرَ أَنّهُ قَالَ:
فَلَمّا أَخَذْت الصّحِيفَةَ، فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ، فَجَعَلْت أُفَكّرُ: مِنْ أَيّ شَيْءٍ اُشْتُقّ «1» ، ثُمّ
قَرَأْت فِيهَا: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] أَوّلُ الْحَدِيدِ. وَجَعَلْت أَقْرَأُ وَأُفَكّرُ
حَتّى بَلَغْت:
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ «2» الْحَدِيدُ: 7. فَقُلْت: أَشْهَدُ أَنْ
لَا إلَه إلّا اللهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ.
مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ:
فَصْلٌ: وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ: قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ،
وَالْهَيْنَمَةُ: كَلَامٌ لا يفهم، واسم الفاعل منه مهينم، كأنه تصغير،
وَلَيْسَ بِتَصْغِيرِ، وَمِثْلُهُ الْمُبَيْطِرُ، وَالْمُهَيْمِنُ،
وَالْمُبَيْقِرُ بِالْقَافِ، وَهُوَ الْمُهَاجِرُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ،
وَالْمُسَيْطِرُ، وَلَوْ صَغّرْت وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ
لَحَذَفْت الْيَاءَ الزّائِدَةَ، كَمَا تَحْذِفُ الْأَلِفَ مِنْ مُفَاعِل،
وَتُلْحِقُ يَاءَ التّصْغِيرِ فِي مَوْضِعِهَا، فَيَعُودُ اللّفْظُ إلَى
مَا كَانَ، فَيُقَالُ فِي تَصْغِيرِ مُهَيْنِمٍ وَمُبَيْطِرٍ: مُهَيْنِمٌ
وَمُبَيْطِرٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلّا قُلْتُمْ: إنه لا يصغّر؛ إذ لا يعقل
__________
(1) فى الأصل: فى أى شىء. والتصويب من شرح المواهب ص 274 ج 1
(2) ولكن سورة الحديد مدنية. وقصة عمر مكية.
(3/278)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَصْغِيرٌ عَلَى لَفْظِ التّكْبِيرِ، وَإِلّا فَمَا الْفَرْقُ؟
فَالْجَوَابُ أَنّهُ قَدْ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ،
مِنْهَا: الْجَمْعُ، فَإِنّك تَجْمَعُ مُبَيْطِرًا: مُبَاطِر بِحَذْفِ
الْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ مُصَغّرًا لَا يُجْمَعُ إلّا بِالْوَاوِ
وَالنّونِ، فَتَقُولُ: مُبَيْطِرُونَ، وَذَلِك أَنّ التّصْغِيرَ لَا
يُكْسَرُ؛ لِأَنّ تَكْسِيرَهُ يُؤَدّي إلَى حَذْفِ الْيَاءِ فِي
الْخُمَاسِيّ؛ لِأَنّهَا زَائِدَةٌ كَالْأَلِفِ، فَيَذْهَبُ مَعْنَى
التّصْغِيرِ «1» ، وَأَمّا الثّلَاثِيّ الْمُصَغّرُ فَيُؤَدّي تَكْسِيرَهُ
إلَى تَحْرِيكِ يَاءِ التّصْغِيرِ أَوْ هَمْزِهَا، وَذَلِك أَنْ يُقَالَ
فِي فُلَيْسٍ فَلَائِسُ، فَيَذْهَبُ أَيْضًا مَعْنَى التّصْغِيرِ
لِتَصْغِيرِ لَفْظِ الْيَاءِ الّتِي هِيَ دَالّةٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَنَيْت
اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ: بِيَأْسِ لَقُلْت فِيهِ مُبَيْئِسٌ، وَلَوْ سُهّلَتْ
الْهَمْزَةُ حَرّكْت الْيَاءَ فَقُلْت فِيهِ: مُبَيّيسٌ، وَتَقُولُ فِي
تَصْغِيرِهِ إذَا صَغّرْته: مُبَيّسٌ بِالْإِدْغَامِ، كَمَا تَقُولُ [فِي]
أَبَوْس: أَبِيس، وَلَا تُنْقَلُ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إلَى الْيَاءِ إذَا
سُهّلَتْ، كَمَا تَنْقُلُهَا فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ بِيَأْسِ
وَنَحْوِهِ، إذَا سهلت الهمزة، وهذه مسئلة مِنْ التّصْغِيرِ بَدِيعَةٌ
يَقُومُ عَلَى تَصْحِيحِهَا الْبُرْهَانُ.
حَوْلَ النّهِيمِ وَهَكَذَا:
فَصْلٌ: وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ: فَنَهَمَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-
__________
(1) نقل الصبان فى حاشيته على شرح الأشمونى هذه الفقرة عن السهيلى هكذا:
«لو كسر حذفت ياؤه؛ لأنه خماسى ثالثه زائد فيزول علم التصغير، هذا وقد أنكر
الأشمونى تصغير هذه الأسماء التى ذكرها السهيلى وفى شرح الشافية للرضى «جرت
عادتهم ألا يجمعوا المصغر إلا جمع السلامة إما بالواو والنون أو بالألف
والتاء، قيل: وذلك لمضارعة التصغير للجمع الأقصى بزيادة حرف لين ثالثة، ولا
يجمع الجمع الأقصى إلا جمع السلامة كالصرادين والصواجبات» ص 281 ثم يقول:
«وإذا صغرت مبيطرا ومسيطرا كان التصغير بلفظ المكبر، لأنك تحذف الياء كما
تحذف النون فى منطلق، وتجىء بياء التصغير، فى مكانه، ولو صغرتهما تصغير
الترخيم لقلت: بطير، وسطير» ص 283 ج 1
(3/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: زَجَرَهُ، وَالنّهِيمُ: زَجْرُ الْأَسَدِ، وَالنّهَامِيّ: الْحَدّادُ
وَالنّهَامُ: طَائِرٌ «1» ، وَفِيهِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ قَالَ:
هَكَذَا [خَلّوا] عَنْ الرّجُلِ «2» وَهِيَ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا: الْأَمْرُ
بِالتّنَحّي، فَلَيْسَ يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا، كَمَا يَعْمَلُ إذَا
قُلْت: اجْلِسْ هَكَذَا، أَيْ: عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ لَا
بُدّ مِنْ عَامِلٍ فِيهَا إذَا جَعَلْتهَا لِلْأَمْرِ، لِأَنّهَا كَافُ
التّشْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى ذَا، وَهَا: تَنْبِيهٌ، فَيُقَدّرُ الْعَامِلُ
إذًا مُضْمَرًا، كَأَنّك قُلْت: ارْجِعُوا هَكَذَا، وَتَأَخّرُوا هَكَذَا،
وَاسْتُغْنِيَ بِقَوْلِك: هَكَذَا عَنْ الْفِعْلِ، كَمَا اُسْتُغْنِيَ
بِرُوَيْدًا عَنْ اُرْفُقْ.
جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ لِجَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ: إنّي
قَدْ أَسْلَمْت، وَبَايَعْت مُحَمّدًا، فَصَرَخَ جَمِيلٌ بِأَعْلَى
صَوْتِهِ: أَلَا إنّ عُمَرَ قَدْ صَبَأَ. جَمِيلٌ هَذَا هُوَ الّذِي كَانَ
يُقَالُ لَهُ: ذُو الْقَلْبَيْنِ «3» ، وَفِيهِ نَزَلَتْ فِي أَحَدِ
الْأَقْوَالِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
الْأَحْزَابُ. 40، وَفِيهِ قيل.
__________
(1) نهامى: بضم النون أو كسرها وكسر الميم وتشديد الياء: صاحب الدير
والطريق السهل، وبفتح النون وكسرها حداد ونجار، وبفتحها وكسرها من غير ياء
فى الاخر: حداد ونجار، ونهام بضم النون: طائر، بوم، راهب فى دير، نهام بفتح
النون وتشديد الهاء: أسد.
(2) فى السيرة: هكذا خلوا عن الرجل وقد أضفتها عنها إلى الروض. ويجوز أن
نجعل هكذا مع ما قبلها، فيكون الكلام: «يسلمون لكم صاحبكم هكذا» ثم يبدأ
الكلام الاخر: خلوا عن الرجل.
(3) فى الاشتقاق لابن دريد أنه وهب بن عمير وكان من أحفظ الناس، وكانوا
(3/280)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكيف ثوائى بالمدينة بعد ما ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ بْنُ
مَعْمَرٍ
وَهُوَ الْبَيْتُ الّذِي تَغَنّى بِهِ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي
مَنْزِلِهِ، وَاسْتَأْذَنَ عُمَرَ فَسَمِعَهُ، وَهُوَ يَتَغَنّى،
وَيُنْشِدُ بالركبانية، وَهُوَ غِنَاءٌ يُحْدَى بِهِ الرّكّابُ، فَلَمّا
دَخَلَ عُمَرُ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ: إنّا إذَا خَلَوْنَا، قُلْنَا
مَا يَقُولُ النّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَقَلَبَ الْمُبَرّدُ هَذَا
الْحَدِيثَ، وَجَعَلَ الْمُنْشِدُ عُمَرَ، وَالْمُسْتَأْذَنَ عَبْدَ
الرّحْمَنِ، وَرَوَاهُ الزّبَيْرُ «1» كَمَا تَقَدّمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ
بِهَذَا الشّأْنِ.
__________
- يقولون له قلبان من حفظه، فأنزل الله عز وجل: (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ
مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جوفه) . أما جميل فقال عنه فى الاشتقاق: كان من أنم
قريش لا يكتم شيئا، ص 130، وفى نسب قريش ورد كما قال السهيلى، وأنه قيل له
ذو القلبين لعقله، وأنه شهد مع النبى حنينا، فقتل زهير بن الأغر الهذلى ص
395، ولا نسب بينه وبين جميل صاحب بثينة. وفى ابن كثير أنها نزلت فى رجل من
قريش، يقال له: ذو القلبين، وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر.
فأنزل الله هذه الاية ردا عليه. هكذا روى العوفى عن ابن عباس، وقاله مجاهد
وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير، بينما يروى أحمد فى مسنده بسنده،
عن ابن أبى ظبيان أن أباه حدثه قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله تعالى:
(ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ما عنى بذلك؟
قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما يصلى فخطر خطرة، فقال
المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين. قلبا معكم، وقلبا معهم،
فأنزلها الله، وهكذا رواه الترمذى، ثم قال: وهذا حديث حسن، وكذا رواه ابن
جرير وابن أبى حاتم. وروى عبد الرازق بسنده عن الزهرى أنه بلغه أن ذلك كان
فى زيد بن حارثة ضرب له مثل. يقول: ليس ابن رجل آخر ابنك، وكذا قال مجاهد
وقتادة وابن زيد ... أقول. وهذا أليق وأنسب، فسياق الكلام فى التبنى وزيد
بن حارثة.
(1) الذى فى نسب قريش لمصعب الزبيرى أن عمر مر بابن عوف ورباح بن عمرو
يغنيهم غناء الركبان: فقال عمر: ما هذا؟ فقال عبد الرحمن: لا بأس نلهو
ونقصر السفر عنا، فقال لهم عمر رضى الله عنه: فعليكم إذا بشعر ضرار بن
الخطاب ابن مرداس ص 448
(3/281)
|