الروض الأنف ت الوكيل

 [الهجرة إلَى الْمَدِينَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّهَا قَالَتْ: كَانَ لَا يخطىء رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النّهَارِ، إمّا بُكْرَةً، وَإِمّا عَشِيّةً، حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي أُذِنَ فِيهِ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْهَاجِرَةِ، فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا. قَالَتْ: فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ السّاعَةَ إلّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمّا دَخَلَ، تَأَخّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إلّا أَنَا وَأُخْتِي أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجْ عَنّي مَنْ عِنْدَك: فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، وَمَا ذَاكَ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي! فَقَالَ: إنّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ. قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، الصّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَالَ:
الصحبة. قالت: فو الله مَا شَعُرْت قَطّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ، حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي يَوْمئِذٍ، ثُمّ قَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ، إنّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ قَدْ كُنْت أَعْدَدْتهمَا لِهَذَا. فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللهِ بْنَ أَرْقَطِ- رَجُلًا من بنى الدّيل بن بكر [وهو من بنى عبد بن عدى- هاديا خرّيتا- والخريت: الماهر بالهداية قد غمس حلفا فى آل العاصى بن وائل السّهمى- عن البخارى] ، وَكَانَتْ أُمّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا- يَدُلّهُمَا عَلَى الطّرِيقِ، فَدَفَعَا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/181)


[الذين كانوا يعلمون بالهجرة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمْ يَعْلَمْ فِيمَا بَلَغَنِي، بِخُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُ، حَيْنَ خَرَجَ، إلّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ.
أَمَا عَلِيّ فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلّفَ بَعْدَهُ بِمَكّةَ، حَتّى يُؤَدّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ، الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ بِمَكّة أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُخْشَى عَلَيْهِ إلّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يُعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم.
[الرّسُولُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْغَارِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُرُوجَ، أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ، ثم عمدا إلَى غَارٍ بِثَوْرٍ- جَبَلٍ بِأَسْفَلِ مَكّةَ- فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَسَمّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمّ يُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا، يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ. وَكَانَتْ أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا مِنْ الطّعَامِ إذَا أَمْسَتْ بِمَا يصلحهما.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/182)


الْبَصْرِيّ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إلَى الْغَارِ لَيْلًا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتلمس الْغَارَ، لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيّةٌ، يَقِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ.
[الذين قاموا بشئون الرسول فى الغار]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حين فقدوه مائة نَاقَةٍ، لِمَنْ يَرُدّهُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ، يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فيخبرهما الخير. وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رضى الله عنه، يرعى فى رعيان أَهْلِ مَكّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ، فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَدَا مِنْ عِنْدِهِمَا إلَى مَكّةَ، اتّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ حَتّى يُعَفّي عَلَيْهِ، حَتّى إذَا مَضَتْ الثّلَاثُ، وَسَكَنَ عَنْهُمَا النّاسُ أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسَمَاءُ بِنْتُ أَبِي بكر رضى الله عنهما بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا فَلَمّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلّقَ السّفْرَةَ، فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ، فَتَحِلّ نِطَاقَهَا فَتَجْعَلُهُ عِصَامًا، ثُمّ عَلّقَتْهَا به.
[لم سميت أسماء بذات النطاقين]
فَكَانَ يُقَالُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: ذَاتُ النّطَاقِ، لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: ذَاتُ النّطَاقَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/183)


وَتَفْسِيرُهُ: أَنّهَا لَمّا أَرَادَتْ أَنْ تُعَلّقَ السّفْرَةَ شقّت نطاقهما باثنين، فعلّقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر.
[راحلة النبى صلى الله عليه وسلم]
قال ابن إسْحَاقَ: فَلَمّا قَرّبَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الرّاحِلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدّمَ لَهُ أَفَضْلَهُمَا، ثُمّ قَالَ: اركب، فداك أبى وأمى؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي، قَالَ:
فَهِيَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ مَا الثّمَنُ الّذِي ابْتَعْتهَا بِهِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ أَخَذْتهَا بِهِ، قَالَ: هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ. فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا. وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خلفه، ليخدمهما فى الطريق.
[أبو جهل يضرب أسماء بنت أبى بكر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدّثْت عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا قَالَتْ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ؛ فَقَالُوا:
أَيْنَ أَبُوك يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْت: لَا أَدْرِي وَاَللهِ أَيْنَ أَبِي. قَالَتْ:
فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ، وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خدّى لطمة طرح منها قرطى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/184)


[خبر الجنى الذى تغنى بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم]
قَالَتْ: ثُمّ انْصَرَفُوا. فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَمَا نَدْرِي أَيْنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَتّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ، يَتَغَنّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شَعَرِ غِنَاءِ الْعَرَبِ، وَإِنّ النّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتّى خَرَجَ مِنْ أَعَلَى مَكّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَوّحَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
[نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُمّ مَعْبَدٍ بِنْتُ كَعْبٍ، امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ، من خزاعة.
وقوله «حَلّا خَيْمَتَيْ» و «هُمَا نَزَلَا بِالْبَرّ ثُمّ تَرَوّحَا» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَلَمّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَأَنّ وَجْهَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَرْبَعَةً: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَرْقَطَ دليلهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/185)


قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ أريقط.
[آل أبى بكر بعد هجرته]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّ أَبَاهُ عَبّادًا حَدّثَهُ عَنْ جَدّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلَافٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ، وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ:
قُلْت: كَلّا يَا أَبَتِ! إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ، فَقُلْت: يَا أَبَتِ، ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ. إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ. وَلَا وَاَللهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنّي أردت أن أسكن الشيخ بذلك.
[خبر سراقة بن مالك]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حَدّثَهُ. عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمّهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ. لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكّةَ مُهَاجِرًا إلَى المدينة، جعلت قريش فيه مائة نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي نَادِي قَوْمِي إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/186)


مِنّا، حَتّى وَقَفَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: وَاَللهِ لَقَدْ رَأَيْت رَكْبَهُ ثَلَاثَةً مَرّوا عَلَيّ آنِفًا، إنّي لَأَرَاهُمْ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ: فَأَوْمَأْت إلَيْهِ بِعَيْنِي: أن اسكت ثم قلت قليلا، إنّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ، يَبْتَغُونَ ضَالّةً لَهُمْ، قَالَ: لَعَلّهُ: ثُمّ سَكَتَ. قَالَ ثُمّ مَكَثْت ثُمّ قُمْت فَدَخَلْت بَيْتِي، ثُمّ أَمَرْت بِفَرَسِي، فَقُيّدَ لِي إلَى بَطْنِ الْوَادِي، وَأَمَرْت بِسِلَاحِي، فَأُخْرِجَ لِي مِنْ دُبُرِ حُجْرَتِي، ثُمّ أَخَذْت قداحى التى أستقسم بها، ثم انقطلقت، فَلَبِسْت لَأْمَتِي ثُمّ أَخَرَجْت قِدَاحِي، فَاسْتَقْسَمْت بِهَا؛ فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرّهُ» قَالَ: وَكُنْت أَرْجُو أَنْ أَرُدّهُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَآخُذَ المائة النّاقَةِ. قَالَ: فَرَكِبْت عَلَى أَثَرِهِ، فَبَيْنَمَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي عَثَرَ بِي، فَسَقَطْت عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْت: مَا هَذَا؟ قَالَ ثُمّ أَخَرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرّهُ» . قَالَ: فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ. قَالَ: فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ، فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي، عَثَرَ بِي، فَسَقَطْت عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْت: مَا هَذَا؟، قَالَ: ثُمّ أَخَرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ «لَا يَضُرّهُ» قَالَ: فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ، فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ.
فَلَمّا بَدَا لِي الْقَوْمُ وَرَأَيْتهمْ، عَثَرَ بِي فَرَسِي، فَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الْأَرْضِ، وَسَقَطْت عَنْهُ، ثُمّ انْتَزَعَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ، وَتَبِعَهُمَا دُخَانٌ كَالْإِعْصَارِ. قَالَ: فَعَرَفْت حَيْنَ رَأَيْت ذَلِكَ أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّي، وَأَنّهُ ظَاهِرٌ. قَالَ: فَنَادَيْت الْقَوْمَ: فَقُلْت: أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ: اُنْظُرُونِي أكلمكم، فو الله لا أريبكم، ولا يأتيكم منى شىء تكرهونه. قال: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: قُلْ لَهُ:
وَمَا تَبْتَغِي مِنّا؟ قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: قُلْت: تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَك. قَالَ: اُكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/187)


فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ، أَوْ فِي رُقْعَةٍ، أَوْ فِي خَزَفَةٍ، ثُمّ أَلْقَاهُ إلَيّ، فَأَخَذَتْهُ، فَجَعَلْته فِي كِنَانَتِي، ثُمّ رَجَعْت، فَسَكَتّ فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمّا كَانَ حَتّى إذَا كَانَ فَتْحُ مَكّةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ، خَرَجْت وَمَعِي الْكِتَابَ لَأَلْقَاهُ، فَلَقِيته بِالْجِعْرَانَةِ. قَالَ: فدخلت فى كتيبة من مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَنِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إلَيْك إلَيْك، مَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: فَدَنَوْت مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاَللهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ. قَالَ: فَرَفَعْت يَدِي بِالْكِتَابِ، ثُمّ قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا كِتَابُك لِي، أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ؛ قال: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرّ، ادْنُهْ. قَالَ:
فَدَنَوْت مِنْهُ، فَأَسْلَمْت. ثُمّ تَذَكّرْت شَيْئًا أَسْأَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَمَا أَذْكُرُهُ، إلّا أَنّي قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، الضّالّةُ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي، وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي أَنْ أَسْقِيَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فِي كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرّى أَجْرٌ. قَالَ: ثُمّ رَجَعْت إلَى قَوْمِي، فَسُقْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقتى. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بن مالك بن جعشم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هِجْرَةُ عُمَرَ وَعَيّاشٍ ذَكَرَ فِيهَا تَوَاعُدَهُمْ التّنَاضِبَ بِكَسْرِ الضّادِ، كَأَنّهُ جَمْعُ تَنْضُبٍ [وَاحِدَتُهُ تَنْضُبَةٌ] وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الشّجَرِ، تَأْلَفُهُ الْحِرْبَاءُ. قَالَ الشّاعِرُ:
إنّي أُتِيحَ لَهُ حِرْبَاءُ تَنْضُبَةٍ ... لَا يُرْسِلُ السّاقَ إلّا مُمْسِكًا سَاقَا

(4/188)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُقَالُ لِثَمَرِهِ الْمُمَتّعُ وَهُوَ فُنَعْلِلٌ أُدْغِمَتْ النّونُ فِي الْمِيمِ وَظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ:
أَنّهُ فَعْلُلٌ وَأَنّهُ مِمّا لَحِقَتْهُ الزّيَادَةُ بِالتّضْعِيفِ، وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ يُقَوّيهِ أَنّ مِثْلَهُ الْهُنْدَلِعُ»
، وَهُوَ نَبْتٌ وَتُتّخَذُ مِنْ هَذَا الشّجَرِ الْقِسِيّ كَمَا تُتّخَذُ مِنْ النّبْعِ وَالشّوْطِ وَالشّرْيَانِ وَالسّرَاءِ وَالْأَشْكَلِ، وَدُخَانِ التّنْضُبِ، ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ.
وَقَالَ الْجَعْدِيّ:
كَأَنّ الْغُبَارَ الّذِي غَادَرَتْ ... ضُحَيّا دَوَاخِنُ مِنْ تَنْضُبِ
شَبّهَ الْغُبَارَ بِدُخَانِ التّنْضُبِ لِبَيَاضِهِ. وَقَالَ آخر [عقيل بن علقة المرّى] :
__________
(1) اسم بقلة، ويقول ابن جنى فى المنصف إن الأسماء الخماسية تجىء على أربعة أمثلة وخامس لم يذكره سيبويه «فعلل وفعلل وفعللل وفعلل ... والخامس الذى لم يذكره سيبويه فعللل، وهو هندلع، وقالوا: هو اسم بقلة، ومن ادعى ذلك احتاج أن يدل على أن النون من الأصل» ص 30 ح 1. وفى شرح الشافية عن أوزان الاسم الخماسى: «وزاد محمد بن السرى فى الخماسى خامسا، وهو الهندلع لبقلة، والحق: الحكم بزيادة النون لأنه إذا تردد الحرف بين الأصالة والزيادة والوزنان باعتبارهما نادران فالأولى: الحكم بالزيادة لكثرة ذى الزيادة كما يجىء، ولو جاز أن يكون هندلع فعلللا لجاز أن يكون كنهبل فعلا وذلك خرق لا يرقع فتكثر الأصول» ص 49 ح 1.. والكنهبل بفتح الباء وضمها: شجر عظام وهو من العضاه ويقول سيبويه إن النون فيه زائدة لأنه ليس فى الكلام على مثال سفرجل بضم الجيم. ويقول الخشنى: «التناضب بضم الضاد. يقال: هو اسم موضع، ومن رواه بالكسر، فهو جمع تنضب، وهو شجر واحدته: تنضبة، وقيده الوقشى؛ التناضب بكسر الضاد» .

(4/189)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَلْ أَشْهَدَنْ خَيْلًا كَأَنّ غُبَارَهَا ... بِأَسْفَلَ عَلْكَدّ دَوَاخِنُ تَنْضُبِ
وَأَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ، وَالْأَضَاةُ الْغَدِيرُ، كَأَنّهَا مَقْلُوبٌ مِنْ وَضْأَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْوَضَاءَةِ بِالْمَدّ وَهِيَ النّظَافَةُ، لِأَنّ الْمَاءَ يُنَظّفُ، وَجَمْعُ الْأَضَاةِ إضَاءٌ وَقَالَ النّابِغَةُ [فِي صِفَةِ الدّرُوعِ] :
عُلِينَ بِكَدْيَوْنٍ وَأُبْطِنّ كُرّةً ... وَهُنّ إضَاءٌ صَافِيَاتُ الْغَلَائِلِ
[وَأَضَيَاتٌ، وَأَضَوَاتٌ وَأَضًا وَإِضُونَ] . وَهَذَا الْجَمْعُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْلُوبٍ، فَتَكُونَ الْهَمْزَةُ بَدَلًا مِنْ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ فِي وِضَاءٍ، وَقِيَاسُ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ تَقْتَضِي الْهَمْزَ عَلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ مَقْلُوبًا لِأَنّ الْوَاوَ الْمَفْتُوحَةَ لَا تُهْمَزُ، مَعَ أَنّ لَامَ الْفِعْلِ غَيْرُ هَمْزَةٍ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ مَحْمُولًا عَلَى الْوَاحِدِ فَيَكُونَ مَقْلُوبًا مِثْلَهُ «1» ، وَيُقَالُ أَضَاءَةٌ بِالْمَدّ، وَقَدْ يُجْمَعُ أَضَاةٌ عَلَى إضِينَ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنْشَدَ:
مَحَافِرُ كَأَسْرِيَةِ الْإِضِينَا
الْأَسْرِيَةُ: جَمْعُ سَرِيّ، وَهُوَ الْجَدْوَلُ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: السّعيد.
__________
(1) ومثلها: إساد فى: وساد وإشاح، فى وشاح. وإعاء فى وعاء. وفى اللسان: «قال أبو الحسن: هذا الذى حكيته من حمل أضاء على الواو بدليل: أضوات حكاية جميع أهل اللغة، وقد حمله سيبويه على الياء، قال: ولا وجه له عندى البتة لقولهم أضوات وعدم ما يستدل به على أنه من الياء. قال والذى أوجه كلامه عليه أن تكون أضاه قلعة من قولهم: آض يئيض على القلب، لأن بعض الغدير يرجع إلى بعض، ولا سيما إذا صفقته الريح.

(4/190)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ نُزُولَ الْآيَةِ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الزّمَرَ 53 الآية فى المستضعفين بمكة، وقول هشام ابن الْعَاصِ: فَفَاجَأَتْنِي وَأَنَا بِذِي طُوَى. طُوَى «1» : مَقْصُورٌ مَوْضِعٌ بِأَسْفَلَ مَكّةَ، ذُكِرَ أَنّ آدَمَ لَمّا أُهْبِطَ إلَى الْهِنْدِ، وَمَشَى إلَى مَكّةَ، وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةُ، تَنْتَظِرُهُ بِذِي طُوَى، وَأَنّهُمْ قَالُوا لَهُ: يا آدم مازلنا نَنْتَظِرُك هَاهُنَا مُنْذُ أَلْفَيْ سَنَةٍ «2» ، وَرُوِيَ أَنّ آدَمَ كَانَ إذَا أَتَى الْبَيْتَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ بِذِي طُوَى، وَأَمّا ذُو طُوَاءٍ بِالْمَدّ، فَمَوْضِعٌ آخَرُ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ، وَأَمّا طُوَى بِضَمّ الطّاءِ وَالْقَصْرِ الْمَذْكُورُ فِي التّنْزِيلِ، فَهُوَ بِالشّامِ اسْمٌ لِلْوَادِي الْمُقَدّسِ، وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ بِاسْمِ لَهُ، وَإِنّمَا هُوَ مِنْ صِفَةِ التّقْدِيسِ، أَيْ: الْمُقَدّسِ مَرّتَيْنِ.
نُزُولُ طَلْحَةَ وَصُهَيْبٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ نزول طلحة وصهيب على خبيب بن إساف وَيُقَالُ فِيهِ يَسَافٌ بِيَاءِ مَفْتُوحَةٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ، وَهُوَ إسَافُ بْنُ عِنَبَةَ، وَلَمْ يكن
__________
(1) مثلثلة الطاء وتنون ولا تنون. فمن نونه فهو اسم للوادى أو الجبل، وهو مذكر اسمى بمذكر على فعل كحطم وصرد ومن لم ينونه جعله معدولا عن طاو، أو باعتباره اسما للبقعة. وقرأ بن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب الحضرمى: طوى غير منون، وقرأها الكسائى وعاصم وحمزة وابن عامر: طوى منونا فى السورتين. ويقول ابن الأثير: وذو طوى: موضع عند باب مكة.
(2) كلامه لا مسند له.

(4/191)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حِينَ نُزُولِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي قَوْلُ الْوَاقِدِيّ بَلْ تَأَخّرَ إسْلَامُهُ، حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى بَدْرٍ، قَالَ خُبَيْبٌ: فَخَرَجْت مَعَهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، وَقُلْنَا لَهُ: نَكْرَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ:
أَسْلَمْتُمَا؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: ارْجِعَا، فَإِنّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكِ.
وَخُبَيْبٌ هُوَ الّذِي خُلّفَ عَلَى بِنْتِ خَارِجَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ، وَاسْمُهَا:
حَبِيبَةُ، وَهِيَ الّتِي يَقُولُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ: ذُو بَطْنٍ بِنْتُ خَارِجَةَ أَرَاهَا جَارِيَةً «1» ، وَهِيَ: بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ «2» ، وَالْجَارِيَةُ: أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، مَاتَ خُبَيْبٌ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَهُوَ جَدّ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، الّذِي يَرْوِي عَنْهُ مَالِكٌ فِي مُوَطّئِهِ.
أَبُو كَبْشَةَ وَذَكَرَ أَنَسَةَ وَأَبَا كَبْشَةَ فِي الّذِينَ نَزَلُوا عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ، فَأَمّا أَنَسَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مِنْ مَوْلِدِي السّرَاةِ، وَيُكَنّى:
أَبَا مَسْرُوحٍ، وَقِيلَ: أَبَا مِشْرَحٍ شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كلّها مع رسول الله
__________
(1) فى الإصابة: ما أظنها إلا أنثى. غير أن إيمان أبى بكر، وتدبره العظيم للقرآن يمنعان من أن نظن بأبى بكر مثل هذا فالقرآن يقول عن الله سبحانه فى أمور الغيب التى يعلمها: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ.
(2) فى الإصابة: بنت خارجة بن زيد أو بنت زيد بن خارجة. وفى ترجمته هو ذكر: زيد بن خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مالك بن امرىء القيس ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج.

(4/192)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو كَبْشَةَ اسْمُهُ: سُلَيْمٌ يُقَالُ إنّهُ مِنْ فَارِسَ، وَيُقَالُ: مِنْ مَوْلِدِي أَرْضِ دَوْسٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الّذِي وُلِدَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ، وَأَمّا الّذِي كَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ تَذْكُرُهُ وَتَنْسُبُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَيْهِ، وَتَقُولُ: قَالَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ وَفَعَلَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ: قِيلَ: إنّهَا كُنْيَةُ أَبِيهِ لِأُمّهِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وقيل: كنية أبيه من مِنْ الرّضَاعَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى، وَقِيلَ: إنّ سَلْمَى أُخْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ كَانَ يُكَنّى أَبُوهَا أَبَا كَبْشَةَ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لَبِيَدٍ، وَأَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلّهَا عِنْدَ النّاسِ أَنّهُمْ شَبّهُوهُ بِرَجُلِ كَانَ يَعْبُدُ الشّعْرَى وَحْدَهُ دُونَ الْعَرَبِ، فَنَسَبُوهُ إلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ دِينِ قَوْمِهِ «1» .
وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ اسْمَ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا فى المؤتلف والمختلف، فقال: اسمه وجز ابن غَالِبٍ، وَهُوَ خُزَاعِيّ «2» ، وَهُوَ مِنْ بَنِي غُبْشَانَ «3» .
__________
(1) سبق هذا، وقد نقلته عن صاحب نسب قريش، وقد ذكر ابن حيب فى كتابه المحبر أن وهبا جد النبى «ص» لأمه كان يكنى أبا كبشة، وكذلك عمرو ابن زيد البخارى، وهو أبو سلمى أم عبد المطلب، وكذلك وجز بن غالب، وهو جد النبى «ص» من قبل أمه أم وهب بن عبد مناف، وكذلك غبشان بن عمرو ابن لؤى وهو الذى كان يعبد الشعرى، وكذلك حاضن الرسول «ص» الحارث ابن عبد العزى ص 129.
(2) يقول ابن دريد، فى الاشتقاق وهو يتحدث عن خزاعة «ومنهم: أبو قيلة، وهو وجز بن غالب، وفد إلى النبى صلى الله عليه وسلم» ص 480.
(3) فى الأصل: وغمشان، وهو خطأ. أبو غبشان: خزاعى كان يلى سدانة

(4/193)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ نُزُولَهُمْ بِقُبَاءَ، وَهُوَ مَسْكَنُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُمَدّ وَيُقْصَرُ وَيُؤَنّثُ وَيُذَكّرُ، وَيُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ، وَأَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَرْفِهِ:
وَلَأَبْغِيَنّكُمْ قُبًا [وَ] عَوَارِضًا ... وَلَأُقْبِلَنّ الْخَيْلَ لَابَةَ ضَرْغَدِ «1»
وَكَذَلِكَ أَنْشَدَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ قُبًا بِضَمّ الْقَافِ و [فَتْحِ] الْبَاءِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ تَصْحِيفٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَإِنّمَا هُوَ كَمَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ: قُنًا وَعَوَارِضَا، لِأَنّ قُنًا جَبَلٌ عِنْدَ عَوَارِضَ يُقَالُ لَهُ، وَلِجَبَلِ آخر معه قنوان «2» ،
__________
الكعبة قبل قريش، فاجتمع مع قصى فى شرب بالطائف، فأسكره قصى ثم اشترى المفاتيح منه بزق خمر، وأشهد عليه، ودفعها لابنه عبد الدار وطير به إلى مكة، فأفاق أبو غبشان أندم من الكسعى، فضربت به الأمثال فى الحمق والندم، وخسارة الصفقة «القاموس» وقد سبق رأى ابن هشام فيه.
(1) أنشده سيبويه مرتين فى صفحتى 82، 109 من الجزء الأول من كتابه، ونسبه لعامر بن الطفيل ورواه مرة بالفاء ومرة بالواو فى لأبغينكم. وقد اشتشهد به على نصب قنا وعوارض مع إسقاط حرف الجر ضرورة لأنهما مكانان مختصان لا ينتصبان انتصاب الظرف، وهما بمنزلة ذهبت الشام فى الشذوذ والحذف. والشاعر يريد: بقنا وعوارض ولكنه شبهه بدخلت البيت، وقلب الظهر والبطن.
(2) فى المراصد عن عوارض: جبل ببلاد طىء وقيل: هو لبنى أسد، وقيل: قنا وعوارض جبلان لبنى فزارة وقيل: جبل أسود فى أعلى دار طىء وناحية دار فزارة. وقيل عن قنوين إنهما جبلان تلقاء الحاجر لبنى مرة. وقيل وهما عوارض وقنا، سميا قنوين كعادتهم فى تثنية الشىء ومقارنه كالعمرين والقمرين.

(4/194)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قُبَاءَ مَسَافَاتٌ وَبِلَادٌ، فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقْرَنَ قُبَاءٌ الّذِي عِنْدَ الْمَدِينَةِ مَعَ عَوَارِضَ وَقِنْوَيْنِ، وَكَذَا قَالَ الْبَكْرِيّ فِي مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ وَأَنْشَدَ:
[لِمَعْقِلِ بْنِ ضِرَارِ بْنِ سِنَانٍ الْمُلَقّبِ بِالشّمّاخِ] .
كَأَنّهَا لَمّا بَدَا عُوَارِضُ ... وَاللّيْلُ بَيْنَ قَنَوَيْنِ رَابِضُ «1»
وَقُبَاءُ: مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَبْوِ، وَهُوَ الضّمّ وَالْجَمْعُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ:
الْقَوَابِي: هُنّ اللّوَاتِي يَجْمَعْنَ الْعُصْفُرَ وَاحِدَتُهُنّ: قَابِيَةٌ. قَالَ: وَأَهْلُ الْعَرَبِيّةِ يُسَمّونَ الضّمّةَ مِنْ الْحَرَكَاتِ قَبْوًا «2» ، وَأَمّا قَوْلُهُمْ: لَا وَاَلّذِي أَخْرَجَ قوبا من مِنْ قَابِيَةٍ يَعْنُونَ: الْفَرْخَ مِنْ الْبَيْضَةِ «3» فَمَنْ قال فيه: قابية بتقديم الباء، فهو
__________
(1) ذكره اللسان فى مادة ربض، وفى مادة جله ونسبه فى هذه إلى الشماخ. ورواه فى جله هكذا:
كأنها وقد بدا عوارض ... بجلة الوادى قطا نواهض
ورواه فى ربض كما فى الروض وزاد ما وصفته بين قوسين والجلة: ما استقبلك من حروف الوادى.
(2) فى اللسان: «أهل المدينة يقولون للضمة: قبوة ... والقبوة: الضم، قال الخليل: نبرة مقبوة أى: مضمومة» .
(3) فى اللسان: «قاب الطائر بيضته، أى: فلقها، فانقابت البيضة وتقويت بمعنى، والقائبة والقابة: البيضة، والقوب بالضم الفرخ.. وسمى الفرخ: قوبا لانقياب البيضة عنه. ويقال قابة وقوب بمعنى: قائبة وقوب» قال: وفى حديث عمر: أنه نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج، وقال: إنكم إن اعتمرتم فى أشهر الحج رأيتموها مجزئة من حجكم، ففرغ حجكم، وكانت قائبة من قوب. ضرب هذا مثلا لجلاء مكة من المعتمرين سائر السنة، والمعنى: أن الفرخ إذا فارق بيضته لم يعد إليها، وكذا إذا اعتمروا فى أشهر الحج لم يعودوا إلى مكة.

(4/195)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَبْوُ الّذِي يُقَدّمُ، وَمَنْ قَالَ فِيهِ: قَابِيَةٌ، فَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْقُوبِ لِأَنّهَا تَتَقَوّبُ عَنْهُ، أَيْ تَتَقَشّرُ قَالَ الْكُمَيْتُ يَصِفُ النّسَاءَ:
لَهُنّ وَلِلْمَشِيبِ وَمَنْ عَلَاهُ ... مِنْ الْأَمْثَالِ قَابِيَةٌ وُقُوبٌ «1»
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ: فَكَانَتْ قَابِيَةَ قُوبٍ «2» عَامَهَا، يَعْنِي: الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ قُبَاءَ اسْمُ بِئْرٍ عُرِفَتْ الْقَرْيَةُ بِهَا.
سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَصْلٌ: وَذَكَرَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ الّذِي كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ قَدْ تَبَنّاهُ كَمَا تَبَنّى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدًا، وَكَانَ سَائِبَةً أَيْ: لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدِ، وَذَكَرَ الْمَرْأَةَ الّتِي أَعْتَقَتْهُ سَائِبَةً، وَهِيَ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارٍ، وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهَا بُثَيْنَةُ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ، وَذَكَرَ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا: بِنْتُ تَعَارٍ «3» ، وَقَالَ ابْنُ شَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ: اسْمُهَا سَلْمَى [وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ: يُقَالُ لَهَا: لَيْلَمَةُ] وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا أَيْضًا: عَمْرَةُ، وَقَدْ أبطل التّسييب فِي الْعِتْقِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَجَعَلُوا الْوَلَاءَ لِكُلّ مَنْ أَعْتَقَ أَخْذًا بِحَدِيثِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ وَحَمْلًا لَهُ على العموم، ولما روى أيضا عن مَسْعُودٍ أَنّهُ قَالَ: لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ،
__________
(1) رواه اللسان فى مادة قوب ولم يروه فى قبو. وفيه: قائبة وقوب» . مثل هرب النساء من الشيوخ بهرب القوب- وهو الفرخ- من القائبة، وهى البيضة، فقال: لا ترجع الحسناء إلى الشيخ كما لا يرجع الفرخ إلى البيضة»
(2) فى النهاية لابن الأثير: فكانت قائبة قوب عامها» ثم فسره بما نقله اللسان عنه.
(3) وقيل: فاطمة بنت يعار، وفى اسم سالم خلاف.

(4/196)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرَأَى مَالِكٌ مِيرَاثَ السّائِبَةِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَرَ وَلَاءَهُ لِمَنْ سَيّبَهُ، فَكَانَ لِلتّسْيِيبِ وَالْعِتْقِ عِنْدَهُ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَسَالِمٌ هَذَا هُوَ الّذِي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَهُ لِيَحْرُمَ عَلَيْهَا، فأرضعته وهود ذُو لِحْيَةٍ «1» :
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ثَدْيِهَا، فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنّهَا حَلَبَتْ لَهُ فِي مِسْعَطٍ «2» وَشَرِبَ اللبن، ذكر ذلك محمد بن حبيب.
__________
(1) عند مسلم من طريق القاسم عن عائشة أن سالما كان مع أبى حذيفة، فأتت سهلة بنت سهيل بن عمرو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن سالما بلغ ما يبلغ الرجال، وأنه يدخل على، وأظن فى نفس أبى حذيفة من ذلك شيئا، فقال: أرضعيه تحرمى عليه، ورواه مالك فى الموطأ عن الزهرى عن عروة: وأخرجه البخارى من طريق الليث عن الزهرى موصولا. لكن أيصدق حكم الرضاعة على من هو فى مثل سنه، والقرآن يقول: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ويخبر أن حمل الطفل وفصاله ثلاثون شهرا؟ فهل يمكن أن يسمى رضيعا رجل فى مثل من أبى حذيفة وله لحية؟ هذا وقد روى البخارى ومسلم والنسائى والترمذى من طريق مسروق عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رفعه خذوا القرآن من أربعة من ابن مسعود وسالم مولى أبى حذيفة، وأبى بن كعب، ومعاذ بن جبل. وكان أبو حذيفة يرى أنه ابنه، فأنكحه ابنة أخته فاطمة بنت الوليد بن عتبة. فلما أنزل الله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ رد كل أحد تبنى ابنا من أولئك إلى أبيه ومن لم يعرف أبوه رد إلى مواليه. أخرجه مالك فى الموطأ عن الزهرى عن عروة بهذا، وفيه قصة إرضاعه.
(2) ويحكى أيضا بضم الميم والعين وسكون السين وهو آنية السعوط تعليق على منازل المهاجرين: يقول الخشنى عن خباب مولى عتبة أى يروى

(4/197)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اجْتِمَاعُ قُرَيْشٍ لِلتّشَاوُرِ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِيهِ تَمَثّلَ إبْلِيسَ- حِينَ أَتَاهُمْ- فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ وَانْتِسَابِهِ إلَى أَهْلِ نَجْدٍ.
قَوْلُهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ يَقُولُ: جَلّ الرّجُلُ وَجَلّتْ الْمَرْأَةُ إذَا أَسَنّتْ، قَالَ الشّاعِرُ:
وَمَا حَظّهَا أَنْ قِيلَ عَزّتْ وَجَلّتْ
وَيُقَالُ مِنْهُ: جَلَلْت يَا رَجُلُ بِفَتْحِ اللّامِ، وَقِيَاسُهُ جَلَلْت لِأَنّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْهُ:
جَلِيلٌ، وَلَكِنْ تَرَكُوا الضّمّ فِي الْمُضَاعَفِ كُلّهِ اسْتِثْقَالًا لَهُ مَعَ التّضْعِيفِ إلّا فِي لَبُبْت، فَأَنْت لَبِيبٌ، حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ بِالضّمّ عَلَى الأصل «1» .
__________
أيضا بحاء مهملة مضمومة وباء مخففة وقول ابن هشام: ونزل الأعزاب. صوابه: كما قال الوقشى: الأعراب، ص 125 شرح السيرة لأبى ذر الخشنى ولعلها: الأعزاب، لأن جمع عزب أعزاب «القاموس» .
(1) فى مسند قصة الهجرة ذكر مجاهد بن جبر فى خلاصة تذهيب الكمال للحافظ صفى الدين أحمد بن عبد الله الخزرجى الأنصارى ط أولى: مجاهد بن جبر بإسكان الموحدة. للخشنى وفى بعض نسخ السيرة: جبير، وخبير، ويقول الخشنى والصحيح: جبير ص 126. وفى اللسان عن لبب وقد لببت- بضم الباء الأولى- ألب- بفتح اللام- ولببت بكسر الباء الأولى تلب بفتح اللام. وفى التهذيب حكى: لببت بالضم، وهو نادر لا نظير له فى المضاعف الحديث أخرجه البخارى فى أبواب الاستسقاء. باب ما قيل فى الزلازل والآيات بسنده عن نافع عن ابن عمر قال: قال: اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا، قال: قالوا: وفى نجدنا، فقال: قال: اللهم بارك لنا فى شامنا وفى يمننا. قال: قالوا: وفى نجدنا. قال: قال: هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان» . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال القابسى: سقط ذكر النبى «ص» من النسخ، ولا بد منه، لأن مثله لا يقال بالرأى: وأخرجه البخارى فى كتاب الفتن. وقد صرح فيه بذكر النبى «ص» وقوله: فأظنه قال فى الثالثة: هنالك الزلازل الخ وأخرجه الترمذى. وفى مجمع الزوائد. فقال رجل: وفى شرقنا يا رسول الله بدلا من: وفى نجدنا وأنه قال فى المرة الثانية: اللهم بارك لنا فى شامنا، وفى يمننا إن من هناك يطلع قرن الشيطان، وبه تسعة أعشار الكفر، وبه الداء العضال» رواه الطبرانى فى الأوسط واللفظ له: وأحمد ولفظه أن رسول الله «ص» قال اللهم بارك لنا فى شامنا ويمننا مرتين، فقال رجل وفى مشرقنا يا رسول الله، فقال رسول الله «ص» من هناك يطلع قرن الشيطان، وبه تسعة أعشار الشرك ... ويقول الخطابى فى بيان المراد من نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجد بادية العراق ونواحيها، وهى مشرق أهل المدينة، وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها وتهامة. كلها من الغور، ومكة من تهامة» أقول. ومثل هذه الأحاديث لا يجوز أخذها على إطلاقها بل لا يجوز مطلقا أن نستعملها استعمال أولئك الذين أوغروا فى الصدور الأحقاد، وأرثوا العصبية المقيتة الحمقاء بسببها. فسبوا كل نجد، وذموا كل عراقى. وما أجمل ما يقول العلامة الهندى الشيخ محمد بشير السهسوانى «ومن عاب الساكن بالسكنى والإقامة فى مثل تلك البلاد، فقد عاب جمهور الأمة وسبهم وآذاهم بغير ما اكتسبوا، وقد داول الله تعالى الأيام بين البقاع والبلاد كما داولها بين الناس والعباد.. قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وكم من بلد قد فتحت، وصارت من خير بلاد المسلمين بعد أن كانت فى أيدى الفراعنة والمشركين والفلاسفة والصابئين والكفرة من المجوس، وأهل الكتابين، بل الخربة التى كانت بها قبور المشركين صارت مسجدا هو أفضل مساجد المسلمين بعد المسجد الحرام ودفن بها أفضل المرسلين، وسادات المؤمنين» ص 544 ط صيانة الإنسان. ولو حملنا ما روى على هوى الحاملين للأحقاد لقلنا عن المدينة بحماقة العصبية إنها دار فتنة فقد ورد فى حديث متفق عليه: أنه «ص» أشرف على

(4/198)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنّمَا قَالَ لَهُمْ: إنّي مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السّيرَةِ، لِأَنّهُمْ قَالُوا: لَا يَدْخُلَنّ مَعَكُمْ فِي الْمُشَاوَرَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ لِأَنّ هَوَاهُمْ مَعَ مُحَمّدٍ، فَلِذَلِكَ تَمَثّلَ لَهُمْ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ تَمَثّلَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ أَيْضًا، حِينَ حَكّمُوا رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- في أَمْرِ الرّكْنِ: مَنْ يَرْفَعُهُ، فَصَاحَ الشّيْخُ النّجْدِيّ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: أَقَدْ رَضِيتُمْ أَنْ يَلِيَهُ هَذَا الْغُلَامُ دُونَ أَشْرَافِكُمْ وَذَوِي أَسْنَانِكُمْ، فَإِنْ صَحّ هَذَا الْخَبَرُ فَلِمَعْنًى آخَرَ تَمَثّلَ نَجْدِيّا، وَذَلِكَ أَنّ نَجْدًا مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قِيلَ لَهُ: وَفِي نَجْدِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: هُنَالِكَ الزّلَازِلُ وَالْفِتَنُ، وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَان، فَلَمْ يُبَارِكْ عَلَيْهَا، كَمَا بَارَكَ عَلَى الْيَمَنِ وَالشّامِ وَغَيْرِهَا، وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّهُ نَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ، فَقَالَ: إنّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّهُ حِينَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ، وَوَقَفَ عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ، وَنَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَهُ، وَفِي وُقُوفُهُ عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ نَاظِرًا إلَى الْمَشْرِقِ يُحَذّرُ مِنْ الْفِتَنِ، وَفَكّرَ فِي خُرُوجِهَا إلَى الْمَشْرِقِ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ تُفْهَمُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَاضْمُمْ إلَى هَذَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ ذَكَرَ نُزُولَ الْفِتَنِ: أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ تَشَاوُرَهُمْ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنّ بعضهم أشار بأن
__________
أطم «حصن عال أو بناء مرتفع» من آطام المدينة، فقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا. قال فإنى لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع المطر. فلنحذر هوى الشيطان، وفتنة العصبية!!.

(4/200)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُحْبَسَ فِي بَيْتٍ، وَبَعْضَهُمْ بِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ من بين أظهرهم ونفيه، ولم يسمّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: الّذِي أشار بحبسه هو أبو البخترىّ ابن هِشَامٍ، وَاَلّذِي أَشَارَ بِإِخْرَاجِهِ وَنَفْيِهِ هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ رَبِيعَةُ بْنُ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، وَقَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: نَسِيبًا وَسِيطًا، هُوَ مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي بَابِ تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ مَعْنَى الْوَسِيطِ، وَأَيْنَ يَكُونُ مَدْحًا.
وَأَمّا قَوْلُهُ عَلَى بَابِهِ يَتَطَلّعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيّا وَعَلَيْهِ بُرْدُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَظُنّونَهُ إيّاهُ، فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتّى أَصْبَحُوا، فَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ السّبَبَ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ التّقَحّمِ عَلَيْهِ فِي الدار مع قصر الجدار، وأنهم إنما جاؤا لِقَتْلِهِ، فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ أَنّهُمْ هَمّوا بِالْوُلُوجِ عَلَيْهِ، فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الدّارِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: وَاَللهِ إنّهَا لَلسّبّةُ فِي الْعَرَبِ أَنْ يُتَحَدّثَ عَنّا أَنّا تَسَوّرْنَا الْحِيطَانَ عَلَى بَنَاتِ الْعَمّ، وَهَتَكْنَا سِتْرَ حُرْمَتِنَا، فَهَذَا هُوَ الّذِي أَقَامَهُمْ بِالْبَابِ حَتّى أَصْبَحُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ، ثُمّ طُمِسَتْ أَبْصَارُهُمْ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ، وَفِي قِرَاءَةِ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ: يس «1» مِنْ الْفِقْهِ التّذْكِرَةُ بِقِرَاءَةِ الْخَائِفِينَ لَهَا اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ فَضْلِ يس أَنّهَا إنْ قَرَأَهَا خَائِفٌ أَمِنَ، أَوْ جَائِعٌ شَبِعَ أَوْ عَارٍ كُسِيَ، أَوْ عَاطِشٌ سُقِيَ حَتّى ذَكَرَ خلالا كثيرة «2» .
__________
(1) تقرأ هكذا: ياسين وهى مثل حم «حاميم» وطه «وطاها» ، فهى ليست اسما للنبى «ص» وإنما هى مثل غيرها مما ذكرت من أوائل السور.
(2) لم يرو هذا أحد من أصحاب الصحيح. ولو أن التلاوة لهذه السورة تعطى

(4/201)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ، وَشَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ:
أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَفَجّعُ
وَالْمَنُونُ يُذَكّرُ وَيُؤَنّثُ، فَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الْمَنِيّةِ أَوْ حَوَادِثِ الدّهْرِ أَنّثَ، وَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الدّهْرِ ذَكّرَ، وَرَيْبُ الْمَنُونِ مَا يَرِيبُك مِنْ تَغَيّرِ الْأَحْوَالِ فِيهِ، سُمّيَتْ الْمَنُونَ لِنَزْعِهَا مِنَنَ الْأَشْيَاءِ أَيْ: قُوَاهَا، وَقِيلَ: بَلْ سُمّيَتْ مَنُونًا لِقَطْعِهَا دُونَ الْآمَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ: حبل مُنَيْنٌ أَيْ: مَقْطُوعٌ، وَفِي التّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ.
إذْنُ اللهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيّهِ بِالْهِجْرَةِ ذَكَرَ فِيهِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فِي الظّهِيرَةِ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَفِي الْبَيْتِ أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ فَقَالَ أَخْرِجْ مَنْ مَعَك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنّمَا هُمَا بِنْتَايَ يَا رَسُولَ اللهِ.
وَقَالَ فِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ: إنّمَا هُمْ أَهْلُك يَا رَسُولَ اللهِ، وَذَلِكَ أَنّ عَائِشَةَ قد كان أبوها أنكحها منه قَبْلِ «1» ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أُمّهَا أُمّ رومان
__________
كل هذا الذى ذكر لكان باعة القرآن على المقابر أولى الناس فى الدنيا والآخرة هناء ورخاء وعزة وكرامة. إن التلاوة بلا تدبر لا تغنى شيئا.
(1) أخرج البخارى بسنده عن هشام عن أبيه قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبى «ص» إلى المدينة بثلاث سنين فلبث سنتين، أو قريبا من ذلك،

(4/202)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِنْتِ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ، وَيُقَالُ فِي اسْمِ أَبِيهَا: رَوْمَانُ بِفَتْحِ الرّاءِ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ثَابِتٍ اخْتَصَرْته: إنّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ هَاجَرَ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلّفَ بَنَاتِهِ بِمَكّةَ، فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ، وَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدَ الله بْنَ أُرَيْقِطٍ [الدّيلِيّ] «1» ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَوْا بِهَا ظَفَرًا بِقُدَيْدٍ، ثُمّ قَدِمُوا مَكّةَ فَخَرَجُوا بِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ، وَبِفَاطِمَةَ وَبِأُمّ كُلْثُومٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وخرجت أمى معهم ومع طلحة ابن عُبَيْدِ اللهِ مُصْطَحِبِينَ، فَلَمّا كُنّا بِقُدَيْدٍ نَفَرَ الْبَعِيرُ الّذِي كُنْت عَلَيْهِ أَنَا وَأُمّي:
أُمّ رُومَانَ فِي مِحَفّةٍ، فَجَعَلَتْ أُمّي تُنَادِي: وَابُنَيّتَاهُ واعروساه!! وفى رواية
__________
ونكح عائشة، وهى بنت ست سنين؛ ثم بنى بها وهى بنت تسع سنين» وفى الحديث إشكال. وقد ذكر الحافظ فى الفتح رفعا لهذا الإشكال إذ قال: إن مراده من قوله فى الحديث: فلبث سنتين أو قريبا من ذلك.. المراد أنه لم يدخل على أحد من النساء، ثم دخل على سودة قبل أن يهاجر، ثم بنى بعائشة بعد أن هاجر، فكأن ذكر سودة سقط على بعض رواته. ويقول الماوردى: الفقهاء يقولون: تزوج عائشة قبل سودة، والمحدثون يقولون: تزوج سودة قبل عائشة. وقد يجمع بينهما بأنه عقد على عائشة، ولم يدخل بها، ودخل بسودة ص 179 ح 7 فتح البارى.
(1) هكذا ضبطه الحافظ فى الفتح. وقال: وقيل بضم الدال وكسر ثانيه مهموز، وهو ابن الديل بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وقيل: من بنى عدى ابن عمرو بن خزاعة. وفى رواية الأموى عن ابن إسحاق: ابن أريقد، وعند موسى بن عقبة: أريقه لكن بالطاء وعند ابن سعد: أريقط وعن مالك اسمه: أرقيط. وفى شرح السيرة لأبى ذر أنه الليثى عبد الله بن أريقط

(4/203)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَفِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ- وَلَا أَرَى أَحَدًا- أَلْقَى خِطَامَهُ، فَأَلْقَيْته مِنْ يَدِي، فَقَامَ الْبَعِيرُ يَسْتَدِيرُ بِهِ، كَأَنّ إنْسَانًا تَحْتَهُ يُمْسِكُهُ، حَتّى هَبَطَ الْبَعِيرُ مِنْ الثّنِيّةِ، فَسَلّمَ اللهُ، فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- وهو يا بنى الْمَسْجِدَ وَأَبْيَاتًا لَهُ، فَنَزَلْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَنَزَلَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ فِي بَيْتِهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَلَا تَبْنِي بِأَهْلِك يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لَوْلَا الصّدَاقُ، قَالَتْ: فَدَفَعَ إلَيْهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً، وَنَشّا، وَالنّشّ:
عُشْرُونَ دِرْهَمًا وَذَكَرْت الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
لِمَ اشْتَرَيْت الرّاحِلَةَ:
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ أن أبا بكر كان قَدْ أَعَدّ رَاحِلَتَيْنِ، فَقَدّمَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً، وَهِيَ أَفَضْلُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالثّمَنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
بِالثّمَنِ يَا رَسُولَ اللهِ فَرَكِبَهَا، فَسُئِلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. لِمَ لَمْ يَقْبَلْهَا إلّا بِالثّمَنِ، وَقَدْ أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَقَبِلَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ:
لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ أَمَنّ عَلَيّ فِي أَهْلٍ وَمَالٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ «1» ، وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ حِينَ بنى
__________
(1) فى رواية للبخارى: إن من أمن الناس على فى صحبته وماله أبا بكر وفى رواية أخرى إن أمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر. وقد قيل: إن الرفع خطأ لأنه اسم إن. وقيل: إن وجه الرفع بتقدير ضمير الشأن أى أنه الجار والمجرور بعده خبر مقدم، وأبو بكر مبتدأ مؤخر، أو على أن مجموع الكنية

(4/204)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِعَائِشَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّا، فَلَمْ يَأْبَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَسْئُولُ إنّمَا ذَلِكَ لِتَكُونَ هِجْرَتُهُ إلَى اللهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ رَغْبَةً مِنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي اسْتِكْمَالِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَلَى أَتَمّ أَحْوَالِهِمَا، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ حَدّثَنِي بِهَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْفَقِيهِ الزّاهِدِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ اللّوّانِ رَحِمَهُ اللهُ.
ذَكَرَ ابْنُ إسحاق في غير رواية ابن هشام وذكر ابن إسحاق في غير رواية ابن هشام: أَنّ النّاقَةَ الّتِي ابْتَاعَهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ هِيَ: نَاقَتُهُ الّتِي تُسَمّى بِالْجَدْعَاءِ، وَهِيَ غَيْرُ الْعَضْبَاءِ الّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةَ صَالِحٍ، وَأَنّهَا تُحْشَرُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْعَضْبَاءِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: لَا. ابْنَتِي فَاطِمَةُ تُحْشَرُ عَلَى الْعَضْبَاءِ، وَأُحْشَرُ أَنَا عَلَى الْبُرَاقِ، وَيُحْشَرُ هذا على ناقة من نوق
__________
اسم فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة أو إن بمعنى نعم، أو إن من زائدة على رأى الكسائى. وأمن أفعل تفضيل من المن بمعنى العطاء والبذل، بمعنى أن أبذل الناس لنفسه وماله. لا من المنة التى تفسد الصنيحة، ولكن يشرحه الداودى على أنه من المنة وتقديره لو كان يتجه لأحد الامتنان على نبى الله، لتوجه له. وفى رواية ابن عباس: ليس أحد من الناس آمن على فى نفسه وماله من أبى بكر. ووجود من باعتبارها غير زائده يفيد أن لغيره مشاركة ما فى الأفضلية، ولكنه المقدم. ويؤيد هذا ما وراه الترمذى: «ما لأحد عندنا يد إلا كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة» وهذا يدل على ثبوت منة للغير، إلا أن لأبى بكر رجحانا.

(4/205)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْجَنّةِ وَأَشَارَ إلَى بِلَالٍ «1» .
وَذَكَرَ أَذَانَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَرْوِيهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ الْحَمِيدِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ.
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَضْبَاءِ، وَلَيْسَتْ بِالْجَدْعَاءِ، فَهَذَا مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ: إنّهَا غَيْرُ الْجَدْعَاءِ، وَهُوَ الصّحِيحُ، لِأَنّهَا غُنِمَتْ، وَأُخِذَ صَاحِبُهَا الْعَقِيلِيّ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتنِي يَا مُحَمّدُ، وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجّ، يَعْنِي: الْعَضْبَاءَ، فَقَالَ: أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك.
بكاء الفرح مِنْ أَبِي بَكْرٍ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ. قَالَتْ ذَلِكَ لِصِغَرِ سِنّهَا، وَأَنّهَا لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ قَبْلُ، وَقَدْ تَطَرّقَتْ الشّعَرَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى،
__________
(1) الروايات الصحيحة فى كتب السنة المعتبرة تخالف ما ذكر هنا عن هذا النوع من الحشر. هذا وقد ذكر الواقدى أن الناقة التى أخذها رسول الله «ص» هى القصواء، وأنها كانت من نعم بنى قشير. ويذكر ابن إسحاق أنها الجدعاء، وأنها من إبل بنى الحريش وكذلك روى ابن حبان من طريق هشام عن أبيه. هذا وما رواه ابن إسحاق عن الهجرة عمن لا يتهم عن عروة قد ورد فى البخارى ما هو قريب منه. ولم يرد فى البخارى وغيره قصة الندوة. ولا رمى التراب فى الوجوه. ورواية البخارى هنا هى الرواية التى تسكن إليها النفس، ولا يتوجه بها سؤال لماذا لم يقتحم الراغبون فى قتله عليه الباب؟، وليس فيها خرافة تشكل الشيطان بصورة شيخ نجدى.

(4/206)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَخَذَتْهُ اسْتِحْسَانًا لَهُ، فَقَالَ الطّائِيّ يَصِفُ السّحَابَ:
دُهْمٌ إذَا وَكَفَتْ فِي رَوْضِهِ طَفِقَتْ ... عُيُونُ أَزْهَارِهَا تَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ
وَقَالَ أَبُو الطّيّبِ، وَزَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى:
فَلَا تُنْكِرْنَ لَهَا صَرْعَةً ... فَمِنْ فَرَحِ النّفْسِ مَا يَقْتُلُ
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ:
وَرَدَ الْكِتَابُ مِنْ الْحَبِيبِ بِأَنّهُ ... سَيَزُورُنِي فَاسْتَعْبَرَتْ أَجْفَانِي
غَلَبَ السّرُورُ عَلَيّ حَتّى إنّهُ ... مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرّنِي أَبْكَانِي
يَا عَيْنُ صَارَ الدّمْعُ عِنْدَك عَادَةً ... تَبْكِينَ فِي فَرَحٍ وَفِي أَحْزَانِ
مَكّةُ وَالْمَدِينَةُ:
فَصْلٌ: وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ، وَوَقَفَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ «1» ، وَنَظَرَ إلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ: وَاَللهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللهِ إلَيّ، وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللهِ إلَى اللهِ، وَلَوْلَا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت «2» برويه الزّهرىّ عن أبى سلمة
__________
(1) الحزورة كانت سوق مكة، وأدخلت فى المسجد لما زيد، وباب الحزورة معروف من أبواب المسجد الحرام. وعن ابن الأثير فى النهاية أنها موضع بمكة عند باب الخياطين، وهو بوزن قسورة. وعن الشافى: الناس يشددون الحزورة، والحديبية، وهما مخففتان.
(2) أخرجه أحمد والنسائى والترمذى، وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه أبو حاتم بن حبان فى التقاسيم والأنواع، وسعيد بن منصور فى سننه وذكره رزين عن الموطأ، ولكنه ليس فى موطأ يحى بن يحيى، وأخرجه أحمد فى المسند

(4/207)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ يَرْفَعُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ: عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصَحّ مَا يُحْتَجّ بِهِ فِي تَفْضِيلِ مَكّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ مَرْفُوعًا: إنّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ «1» فَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ تَبَعًا لِلصّلَاةِ، فَكُلّ حَسَنَةٍ تعمل فى الحرام، فَهِيَ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَنْصُوصًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عليه وسلم قال: من حَجّ مَاشِيًا كُتِبَ لَهُ بِكُلّ خُطْوَةٍ سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَالَ:
الْحَسَنَةُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ [قَالَ عَطَاءٌ: وَلَا أَحْسَبُ السّيّئَةَ إلّا مِثْلَهَا] أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ «2» .
حَدِيثُ الْغَارِ وَهُوَ غَارٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي ذَكَرَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، وَأَنّهَا حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ، وَهُوَ وَهْمٌ فِي الْحَدِيثِ، لِأَنّ ثَوْرًا مِنْ جِبَالِ مَكّةَ، وَإِنّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى كَذَا، كَانَ الْمُحَدّثُ قَدْ نَسِيَ اسْمَ الْمَكَانِ، فَكَنّى عنه بكذا «3» .
__________
(1) فى رواية لابن ماجة، والعدد مختلف فى روايات الحديث المختلفة.
(2) لا يتعلق ثواب الحج بمشى أو ركوب وإنما يتعلق بما وقر فى القلب المؤمن. وهو يأتى بأركانه، فكم من رجل حج ماشيا، ولم ينل غير مشقة مشيه، وكم من رجل حج راكبا له بكل نامة حسنة وحسنات.
(3) الحديث أخرجه الشيخان، وقد رواه مسلم بلفظ: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، والبخارى بلفظ: المدينة حرم ما بين عاير إلى كذا. وأبو داود. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بلفظ: المدينة حرام ما بين عاير إلى ثور.. وعاير جبل كبير مشهور فى قبلة لمدينة بقرب ذى الحليفة ميقات المدينة وقيل غير ذلك. وأما ثور فليس المقصود به جبل ثور الذى هو من جبال مكة، وإنما هو جبل صغير خلف أحد وقد استشكل العلماء الحديث ظنا منهم أنه ليس بالمدينة ثور، ولهذا ذكر فى أكثر الروايات عند البخارى: من عاير إلى كذا، وفى بعضها: من عير إلى كذا، ولم يبين النهاية، فكأنه يرى أن ذكر ثور وهم، فأسقطه، وترك بعض الرواة موضع ثور بياضا، ليتبين الوهم، وضرب آخرون عليه، وقال المازرى نقل بعض أهل العلم: أن ذكر ثور هنا، وهم من الراوى، لأن ثورا بمكة، والصحيح: إلى أحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: إن الحديث أصله من عير إلى أحد. وقد روى الطبرانى الحديث: ما بين عير وأحد حرام حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وقال الحازمى: الرواية الصحيحة: ما بين عير إلى أحد. وقيل إلى ثور، وليس له معنى. وقال ابن قدامة: يحتمل أن المراد تحريم قدر ما بين ثور وعير اللذين بمكة.. وقد قال البيهقى: بلغنى عن أبى عبيد أنه قال فى كتاب الجبال: بلغنى أن بالمدينة جبلا يقال له: ثور. ونقل المجد فى ترجمة عير عن نصر أن ثورا جبل عند أحد. وقدرد الجمال المطرى فى تاريخه على من أنكر وجود ثور، وقال: إنه خلف أحد من شماليه صغير مدور. وقال الأقشهرى: وقد استقصينا من أهل المدينة خبر جبل يقال له: ثور عندهم. فوجدنا ذلك اسم جبل صغير خلف جبل أحد يعرفه القدماء دون المحدثين من أهل المدينة. وقال أبو العباس بن تيمية: ثور جبل فى ناحية أحد، وهو غير جبل ثور الذى بمكة. ويقول المحب الطبرى إن المحدث ابن مزروع البصرى أخبرء أن حذاء أحد عن يساره جبلا صغيرا يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه، لطوائف من العرب العارفين تلك المواضع ... وتواردت أخبارهم على تصديق بعضهم بعضا. أنظر ص 64 ح 1 وفاء الوفا للسمهودى ص 1326 وص 620 وما بعدها القرى للمحب الطبرى ص 1948.

(4/208)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ فِيمَا شَرَحَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمّا دَخَلَهُ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ أَنْبَتَ اللهُ عَلَى بَابِهِ الرّاءَةَ: قَالَ قَاسِمٌ: وَهِيَ شَجَرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَحَجَبَتْ عَنْ الْغَارِ أَعْيُنَ الْكُفّارِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الرّاءَةُ: مِنْ أَغْلَاثِ الشّجَرِ، وَتَكُونُ مِثْلَ قَامَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَهَا خِيطَانٌ، وَزَهْرٌ أَبْيَضُ تُحْشَى بِهِ الْمَخَادّ، فَيَكُونُ كَالرّيشِ لِخِفّتِهِ وَلِينِهِ، لِأَنّهُ كَالْقُطْنِ أَنْشَدَ:
تَرَى وَدَكَ الشّرِيفِ عَلَى لِحَاهُمْ ... كَمِثْلِ الرّاءِ لَبّدَهُ الصّقِيعُ
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ: أَنّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَى وَجْهِ الْغَارِ، وأرسل حمامتين وحشيتين، فَوَقَعَتَا عَلَى وَجْهِ الْغَارِ، وَأَنّ ذَلِكَ مِمّا صَدّ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ، وَأَنّ حَمَامَ الْحَرَمِ مِنْ نَسْلِ تَيْنِك الْحَمَامَتَيْنِ، وَرُوِيَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَهُ وَتَقَدّمَ إلَى دُخُولِهِ- قَبْلَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَقِيَهُ بِنَفْسِهِ، رَأَى فِيهِ جُحْرًا فَأَلْقَمَهُ عَقِبَهُ، لِئَلّا يَخْرُجَ مِنْهُ مَا يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الصّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ: قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى قَدَمِهِ لَرَآنَا، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ، اللهُ ثَالِثُهُما «1» ، وَرُوِيَ أَيْضًا أنهم لما عمى عليهم الأثر جاؤا بالقافة، فجعلوا
__________
(1) أخرجه البخارى فى صحيحه ومسلم والترمذى وأحمد. أورد هنا كلمة موجزة عن الهجرة: قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت فى المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلى إلى أنها اليمامة، أو. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هجر، فإذا هى المدينة» رواه الشيخان ولكن ورد فى البيهقى أنها هجر أو يثرب، ولم يذكر اليمامة. كما أخرج الترمذى والحاكم أنه «ص» قال: إن الله أوحى إلى: أى هؤلاء الثلاثة نزلت هى دار هجرتك: المدينة. أو البحرين، أو قنسرين. وزاد الحاكم: فاختار المدينة. وصححه الحاكم، وأقره الذهبى فى التلخيص. أما فى الميزان، فورد أنه حديث منكر ما أقدم الترمذى على تحسينه، بل قال: غريب. متى خرج النبى من مكة: يحزم بعض الرواة ومنهم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول وأنه قدم المدينة لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول. أى بعد بيعة العقبة بشهرين وبضعة عشر يوما، أما الحاكم فيذكر أن خروجه كان بعدها بثلاثة أشهر أو قريبا منها. كما يؤكد تواتر الأخبار أنه خرج يوم الإثنين وأن دخوله المدينة كان يوم الإثنين. وقيل إنه خرج فى صفر، وقدم المدينة فى ربيع. وقبل. كان خروجه من مكة يوم الخميس. وقول ابن إسحاق هو المشهور مدة مقامه بمكة: فى البخارى عن ابن عباس أنه مكث بها ثلاث عشرة سنة. وفى مسلم وعن ابن عباس أيضا خمس عشرة سنة، وابن حجر يصحح رواية البخارى. وعن عروة أنه مكث بمكة عشر سنين، ورواه أحمد عن ابن عباس والبخارى فى باب الوفاة عنه وعن عائشة أيضا. وقد ورد فى بعض نسخ مسلم بيت أبى قيس صرمة: ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً يُذَكّرُ لو يلقى صديقا مواتيا وهذا يخالف ذاك. العنكبوت والحمامتان والشجرة: لم يرد لها ذكر فيما روى من حديث صحيح ولهذا لم ترد فى واحد من الكتب الستة وتدبر هذه الآية الكريمة إِلَّا تَنْصُرُوهُ، فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ، إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أهنا حمامة أو عنكبوت، أو شجرة، أم هنا سكينة وجنود لم يروا؟ الآية الكبرى هنا هى أن الله صرف قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، ... تدبرها جيدا

(4/210)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يققون الْأَثَرَ، حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَابِ الْغَارِ، وَقَدْ أَنْبَتَ اللهُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ قبل هذا، فعند ما رَأَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْقَافَةَ اشتد حزنه
__________
القاصون الأثر أولو خبرة ودراية تامة بقص الأثر، ولقد أدت بهم الأدلة إلى المثول أمام باب الغار، ويشعر بهم النبى «ص» وأبو بكر. ويقول أبو بكر لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. وتدبر قوله تحت قدميه لنرى أنهم كانوا قيد خطوة أو نصفها من باب الغار.. ويقول الرسول «ص» مجيبا صاحبه مذكرا يحفظ الله سبحانه: ما ظنك يا أبا بكر باثنين، الله ثالثهما. كما روى البخارى- وتدبر مع الحديث قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ. هذا هو القهر الأعظم الذى لا يغلبه قهر آخر، ولا تقف أمام سلطانه الأعظم قوى ولا قدر فلماذا تصرف القلب عن تدبر جلال الآية الكبرى هنا من صرف الله عنه قلوبهم وأعينهم وأسماعهم وإحساساتهم، إلى رواية واهية تصور حمامة وعنكبوتا. سل نفسك.. كيف لم يبصروه والواقع المحسوس الملموس المشهود يؤكد أنه هنا؟ لم لم ينظر أحدهم تحت قدميه، وكل شىء يؤكد أن المنشود العظيم فى الغار؟ والرغبة الملحة فى النفس تدفع الى استنباء الرمل والحصى والصخر والجبل عن منشودهم. والرمل والحصى وكل شىء تحت العين وصوبها يملأ حتى عقل الغبى؟؟؟ بفهم هذه الدلالة البينة الواضحة المستمدة من أدلة لا يمكن أن يصرف الإنسان عنها نزعة من شك. الدلالة التى تشبه فى وضوحها وضوح أن الواحد نصف الإثنين كانت الدلالة، وكانت الأدلة حينئذ لا نحتمل سوى شىء واحد هو أن محمدا «ص» فى الغار. فلم لم ينظروا؟ ليست الحمامتان ولا العنكبوت ... إنما هو هذا السلطان الأعظم الذى يصرف القلوب، ويصرف الأبصار والأسماع عما تريد وتحب وإن كان منها قيد شعرة. إنما هو القهر الإلهى الأكبر والجبروت الأسمى الذى لا يدع لأحد قدرة تقف لحظة أمامه، وهو جل شأنه يريد ذلك. ولو أن نصا ثابتا تحدث عن الحمامتين والعنكبوت ما انصرف عنه الفكر ولا القلم، فالله قادر سبحانه على أعظم وأعظم.

(4/212)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: إنْ قُتِلْت فَإِنّمَا، أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْت أَنْت هَلَكَتْ الْأُمّةُ، فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم:
لَا تَحْزَنْ إنّ اللهَ مَعَنَا، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ: لَا تَحْزَنْ، وَلَمْ يَقُلْ لَا تَخَفْ؟! لِأَنّ حُزْنَهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَغَلَهُ عَنْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنّهُ أَيْضًا رَأَى مَا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النّصَبِ، وَكَوْنَهُ فِي ضِيقَةِ الْغَارِ مَعَ فُرْقَةِ الْأَهْلِ، وَوَحْشَةِ الْغُرْبَةِ، وَكَانَ أَرَقّ النّاسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْفَقَهُمْ عَلَيْهِ، فَحَزِنَ لِذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ قَالَ: نَظَرْت إلَى قَدَمَيْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، وَقَدْ تَفَطّرَتَا دَمًا، فَاسْتَبْكَيْت، وَعَلِمْت أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَكُنْ تَعَوّدَ الْحِفَاءَ وَالْجَفْوَةَ «1» ، وَأَمّا الْخَوْفُ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ بِالنّصْرِ لِنَبِيّهِ. مَا يُسَكّنُ خَوْفَهُ، وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التّفْسِيرِ: يُرِيدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَأَمّا الرّسُولُ فَقَدْ كَانَتْ السّكِينَةُ عَلَيْهِ «2» ، وقوله: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الْهَاءُ فِي أَيّدَهُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ، وَالْجُنُودُ: الملائكة أنزلهم عَلَيْهِ فِي الْغَارِ، فَبَشّرُوهُ بِالنّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ، فَأَيّدَهُ ذَلِكَ، وَقَوّاهُ عَلَى الصّبْرِ [و] قِيلَ أيده
__________
(1) ليس لهذا من سند صحيح. وعند ابن حبان أنهما ركبا حتى أتيا الغار، فتواريا.
(2) يقول ابن كثير فى تفسير الآية: «أى تأييده ونصره عليه. أى على الرسول «ص» فى أشهر القولين. وقيل على أبى بكر، وروى عن ابن عباس وغيره، قالوا: لأن الرسول «ص» لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافى تجدد سكينة خاصة بتلك الحال، ولهذا قال: وأيده بجنود لم تروها» يقصد ابن كثير أن عود الضمير فى قوله «أيده» يؤكد عود الضمير على النبى «ص» فى قوله «عليه»

(4/213)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِجُنُودِ لَمْ تَرَوْهَا، يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مَشَاهِدِهِ، وَقَدْ قِيلَ:
الْهَاءُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا وأبو بكر تبع له، فَدَخَلَ فِي حُكْمِ السّكِينَةِ بِالْمَعْنَى، وَكَانَ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ «1» : فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمَا، وَقِيلَ: إن حزن أبى بكر كان عند ما رأى بعض الكفار يبول عند الغار،
__________
(1) لا يصح أبدا إطلاق مثل هذه التعبيرات، فالقرآن الذى نزله الله على محمد «ص» هو هو الذى نتلوه الآن فى المصحف، وكل حديث يوحى بأن المصحف فيه نقص يجب رفضه، واعتباره فرية لعينة. والذين يؤمنون بأن فى المصحف نقصا كبيرا هم الرافضة، وقد حاجنى أحد قضاة الشيعة فى قطر عربى، فبهت أهل السنة بأن كتبهم هى التى تروى أن فى القرآن نقصا، وذكرنى ببعض ما جاء فى بعض الأحاديث!! وأهل السنة بالمعنى الخاص الذين يؤكدون بسلوكهم ومعتقدهم أنهم أهل السنة لا يمكن أن ينسبوا إلى المصحف هذا الزور، ولا أن بصموه بهذا البهتان. أما الرافضة، فإليك ما رووه فى كتابهم الكافى للكلينى- وهو يعادل البخارى عند غيرهم «عن جابر- أى الجعفى- قال: سمعت أبا جعفر يقول: ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه- كما أنزله الله- إلا على بن أبى طالب، والأئمة من بعده، وعن أبى بصير قال: دخلت على أبى عبد الله ... إلى أن قال له أبو عبد الله: وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام.. قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات. والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد» ص 54، 57 من كتاب الكافى للكلينى ط 1278. ولقد كان أحبار النصارى من الأسبانيين يحتجون على ابن حزم بدعوى الرافضة تحريف القرآن، فكان يقول: «إن الروافض ليسوا من المسلمين» ح 2 ص 78 الفصل «وانظر ص 8 من مقدمة محب الدين الخطيب للمنتقى للذهبى وهو مختصر منهاج السنة النبوية للامام ابن تيمية.

(4/214)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَشْفَقَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُمَا، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحْزَنْ، فَإِنّهُمْ لَوْ رَأَوْنَا لَمْ يَسْتَقْبِلُونَا بِفُرُوجِهِمْ عِنْدَ الْبَوْلِ، وَلَا تَشَاغَلُوا بِشَيْءِ عَنْ أَخْذِنَا، وَاَللهُ أَعْلَمُ «1» .
الرّدّ عَلَى الرّافِضَةِ فِيمَا بَهَتُوا بِهِ أَبَا بَكْرٍ:
فَصْلٌ: وَزَعَمَتْ الرّافِضَةُ «2» أَنّ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ غَضّا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَذَمّا لَهُ؛ فَإِنّ حُزْنَهُ ذَلِكَ: إنْ كَانَ طَاعَةً فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَنْهَى عَنْ الطّاعَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أَنّهُ مَعْصِيَةٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْجَدَلِ:
قَدْ قَالَ اللهُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يس: 76 وَقَالَ:
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ آلُ عِمْرَانَ: 176 وَقَالَ لِمُوسَى:
خُذْها وَلا تَخَفْ طَه: 21 وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لِلُوطِ. لَا تَخَفْ، وَلَا تَحْزَنْ، فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا كَانُوا فِي حَالِ مَعْصِيَةٍ، فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَنَقَضْتُمْ أَصْلَكُمْ فِي وُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِلْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فِي زَعْمِكُمْ، فَإِنّ الْأَنْبِيَاءَ هُمْ الْأَئِمّةُ الْمَعْصُومُونَ بِإِجْمَاعِ، وَإِنّمَا قَوْلُهُ: لَا تَحْزَنْ، وَقَوْلُ اللهِ لِمُحَمّدِ: لَا يحزنك،
__________
(1) هذا بعض ما يقال، والله أعلم بحقيقته، والمفروض تدبر ما ذكر فى القرآن عن النبى «ص» وعن صاحبه، وهما فى الغار وكيف أن الكفر الغليظ الكنود، وتحت إمرته المال والسلاح والسلطة والقدرة لم تستطع الوصول الى من فى الغار وهى تعربد كالأبالسة على بابه؟!
(2) هم الشيعة الدين رفضوا إمامة زيد بن يحيى.

(4/215)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ لِأَنْبِيَائِهِ مِثْلَ هَذَا تَسْكِينٌ لِجَأْشِهِمْ «1» وَتَبْشِيرٌ لَهُمْ وَتَأْنِيسٌ عَلَى جِهَةِ النّهْيِ الّذِي زَعَمُوا، ولكن كما قال سبحانه: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا «2» فُصّلَتْ: 30 وَهَذَا الْقَوْلُ إنّمَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَلَيْسَ إذْ ذَاكَ أَمْرٌ بِطَاعَةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مَعْصِيَةٍ.
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ التّحْقِيقِ، وهو أن النهى عن الفعل لا يقضى كَوْنَ الْمَنْهِيّ فِيهِ، فَقَدْ نَهَى اللهُ نَبِيّهُ عَنْ أَشْيَاءَ، وَنَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنّهُمْ كَانُوا فَاعِلِينَ لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي حَالِ النّهْيِ، لِأَنّ فِعْلَ النّهْيِ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لِأَبِي بَكْرٍ: لَا تَحْزَنْ، لَوْ كَانَ الْحُزْنُ كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا ادّعَوْا مِنْ الْغَضّ، وَأَمّا مَا ذَكَرْنَاهُ نَحْنُ مِنْ حُزْنِهِ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ طَاعَةً، فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلّا رِفْقًا بِهِ وَتَبْشِيرًا له لا كراهية لعمله، وَإِذَا نَظَرْت الْمَعَانِيَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ لَا بِعَيْنِ الشّهْوَةِ وَالتّعَصّبِ لِلْمَذَاهِبِ لَاحَتْ الْحَقَائِقُ، وَاتّضَحَتْ الطّرَائِقُ وَاَللهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ.
مَعِيّةُ اللهِ مَعَ رَسُولِهِ وَصَاحِبِهِ:
وَانْتَبِهْ أَيّهَا الْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِتَدَبّرِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا التّوْبَةُ: 40 كَيْفَ كَانَ معهما بالمعنى، وباللفظ، أما المعنى
__________
(1) الجأش: رواع القلب اذا اضطرت عند الفزع، ونفس الإنسان جمعه، جشوش «القاموس» .
(2) والآية فى حق الذين قالوا ربنا الله، ثم استقاموا. فهى فى حق خير فئة مؤمنة.

(4/216)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَكَانَ مَعَهُمَا بِالنّصْرِ وَالْإِرْفَادِ «1» وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَأَمّا اللّفْظُ فَإِنّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى كَانَ يُذْكَرُ إذَا ذُكِرَ رَسُولُهُ، وَإِذَا دُعِيَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ فَعَلَ رَسُولُ اللهِ، ثُمّ كَانَ لِصَاحِبِهِ كَذَلِكَ يُقَالُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ، وَفَعَلَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ، فَكَانَ يَذْكُرُ مَعَهُمَا، بِالرّسَالَةِ وَبِالْخِلَافَةِ، ثُمّ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ.
حَدِيثُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِي ثُمّ الْمُدْلِجِيّ أَحَدِ بَنِي مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ بْنِ نميم بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَهُ حِينَ بَذَلَتْ قُرَيْشٌ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ مُحَمّدًا عَلَيْهِ السّلَامُ، وأن سرافة اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ، فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي يَكْرَهُ، وَهُوَ الّذِي كَانَ فِيهِ مَكْتُوبًا لَا تَضُرّهُ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَأَنّ قَوَائِمَ فَرَسِهِ حِينَ قَرُبَ مِنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ، وَتَبِعَهَا عُثَانٌ، وَهُوَ: الدّخَانُ وَجَمْعُهُ: عَوَاثِنُ. وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا جَهْلٍ لَامَهُ حِينَ رَجَعَ بِلَا شَيْءٍ، فَقَالَ وَكَانَ شَاعِرًا:
أَبَا حَكَمٍ وَاَللهِ لَوْ كُنْت شَاهِدًا ... لِأَمْرِ جَوَادِي إذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ
عَلِمْت وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولٌ بِبُرْهَانِ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ؟!
عَلَيْك بِكَفّ الْقَوْمِ عَنْهُ، فَإِنّنِي ... أَرَى أَمْرَهُ يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ
بِأَمْرِ يَوَدّ النّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ ... بِأَنّ جَمِيعَ النّاسِ طرّا يسالمه
__________
(1) الإعانة والإعطاء.

(4/217)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ قَدّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ كِسْرَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حِينَ أُتِيَ بِتَاجِ كِسْرَى، وَسِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتِهِ، وَأَنّهُ دَعَا بِسُرَاقَةَ، وَكَانَ أَزَبّ الذّرَاعَيْنِ «1» ، فَحَلّاهُ حِلْيَةَ كِسْرَى، وَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ يَدَيْك، وَقُلْ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَلَبَ هَذَا كِسْرَى الْمَلِكَ الّذِي كَانَ يَزْعُمُ أَنّهُ رَبّ النّاسِ وَكَسَاهَا أَعْرَابِيّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ «2» . فَقَالَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ، وَإِنّمَا فَعَلَهَا عُمَرُ لِأَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ قَدْ بَشّرَ بِهَا سُرَاقَةَ حِينَ أَسْلَمَ، وَأَخْبَرَهُ أَنّ اللهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بِلَادَ فَارِسٍ، وَيُغَنّمُهُ مُلْكَ كِسْرَى، فَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ:
أَكِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ؟! فَأَخْبَرَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّ حِلْيَتَهُ سَتُجْعَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ، وَإِنْ كَانَ أَعْرَابِيّا بَوّالًا عَلَى عَقِبَيْهِ، وَلَكِنّ اللهَ يُعِزّ بِالْإِسْلَامِ أَهْلَهُ، وَيُسْبِغُ عَلَى مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ نِعْمَتَهُ وَفَضْلَهُ.
وَفِي السّيَرِ مِنْ رِوَايَةُ يُونُسَ شِعْرٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قِصّةِ الْغَارِ:
قَالَ النّبِيّ وَلَمْ يَزَلْ يُوَقّرُنِي ... وَنَحْنُ فِي سدف من ظلمة الغار «3»
__________
(1) التزبب فى الإنسان: كثرة الشعر وطوله.
(2) فى رواية: كسرى بن هرمز. وقصة سراقة فى البخارى. ولكن ليس فى روايته مسألة السوارين، إنما فيها أنه قال بعد أن حدث لفرسه ما حدث والتقى برسول اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- «فَقُلْتُ لَهُ: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآنى، ولم يسألانى إلا أن قال: اخف عنا، فسألته أن يكتب لى كتاب أمن. فأمر عامر بن فهيرة، فكتب فى رقعة من أديم» .
(3) سدف بفتح السين: الظلمة والليل وسواده، وبضمها: جمع سدفة: الظلمة والقطعة من الليل.

(4/218)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا تَخْشَ شَيْئًا؛ فَإِنّ اللهَ ثَالِثُنَا ... وَقَدْ تَوَكّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ
وَإِنّمَا كَيْدُ مَنْ تَخْشَى بَوَادِرَهُ ... كَيْدُ الشّيَاطِينَ كَادَتْهُ لِكُفّارِ
وَاَللهُ مُهْلِكُهُمْ طَرّا بِمَا كَسَبُوا ... وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إلَى النّارِ
وَأَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُمْ وَتَارِكُهُمْ ... إمّا غدوّا وَإِمّا مُدْلِجٌ سَارِي
وَهَاجِرٌ أَرْضَهُمْ حَتّى يَكُونَ لَنَا ... قَوْمٌ عَلَيْهِمْ ذَوُو عِزّ وَأَنْصَارِ
حَتّى إذَا اللّيْلُ وَارَتْنَا جَوَانِبُهُ ... وَسَدّ مِنْ دُونِ مَنْ تَخْشَى بِأَسْتَارِ
سَارَ الْأُرَيْقِطُ يَهْدِينَا وَأَيْنُقُهُ ... يَنْعَبْنَ بِالْقَرْمِ نَعْبًا تَحْتَ أَكْوَارِ
يَعْسِفْنَ عَرْضَ الثّنايا بعد أطولها ... وكلّ سهب رقاق التّراب مَوّارِ
حَتّى إذَا قُلْت: قَدْ أَنْجَدْنَ عَارِضَهَا ... مِنْ مُدْلِجٍ فَارِسٍ فِي مَنْصِبٍ وَارِ
يُرْدِي بِهِ مُشْرِفَ الْأَقْطَارِ مُعْتَزَمٌ ... كَالسّيدِ ذِي اللّبْدَةِ الْمُسْتَأْسِدِ الضّارِي
فَقَالَ: كُرّوا فَقُلْت: إنّ كَرّتَنَا ... من دونهالك نَصْرُ الْخَالِقِ الْبَارِي
أَنْ يَخْسِفَ الْأَرْضَ بِالْأَحْوَى وَفَارِسِهِ ... فَانْظُرْ إلَى أَرْبُعٍ فِي الْأَرْضِ غُوّارِ
فَهِيلَ لَمّا رَأَى أَرْسَاغَ مَقْرَبِهِ ... قَدْ سُخْنَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَحْفِرْ بِمِحْفَارِ
فَقَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تُطْلِقُوا فَرَسِي ... وَتَأْخُذُوا مَوْثِقِي فِي نُصْحِ أَسْرَارِ
وَأَصْرِفُ الْحَيّ عَنْكُمْ إنْ لَقِيتُهُمْ ... وَأَنْ أُعَوّرَ مِنْهُمْ عَيْنَ عُوّارِ
فَادْعُوَا الّذِي هُوَ عَنْكُمْ كَفّ عَوْرَتَنَا ... يُطْلِقْ جَوَادِي وَأَنْتُمْ خير أبرار

(4/219)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالَ قَوْلًا رَسُولُ اللهِ مُبْتَهِلًا ... يَا رَبّ إنْ كَانَ مِنْهُ غَيْرُ إخْفَارِ
فَنَجّهِ سَالِمًا مِنْ شَرّ دَعْوَتِنَا ... وَمُهْرَهُ مُطْلَقًا مِنْ كَلْمِ آثَارِ
فَأَظْهَرَ اللهُ إذْ يَدْعُو حَوَافِرَهُ ... وَفَازَ فَارِسُهُ مِنْ هَوْلِ أَخْطَارِ «1»
حَدِيثُ أُمّ مَعْبَدٍ وَذَكَرَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حِينَ خَفِيَ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَنْ مَعَهَا أَمْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْرُوا أين توجه، حتى أنى رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ، وَلَا يَرَوْنَهُ، فَمَرّ عَلَى مَكّةَ وَالنّاسُ يَتّبِعُونَهُ وَهُوَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
جَزَى اللهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَحّلَا «2» ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهِمْ ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
فيالقصىّ مازوى اللهُ عَنْكُمْ ... بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا يُجَازِي وَسُوْدُدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشّاةَ تَشْهَدْ
دَعَاهَا بِشَاةِ حَائِلٍ فَتَحَلّبَتْ ... لَهُ بِصَرِيحِ ضَرّةُ الشّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا بِحَالِبِ ... يُرَدّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمّ مورد
__________
(1) فى القصيدة صنعة لا تدل على العصر المنسوبة اليه. وليس فيها روح ايمان أبى بكر. ولهذا لم ترو فى كتب السنة المعتبرة.
(2) فى السيرة: تروحا

(4/220)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُرْوَى أَنّ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ لَمّا بَلَغَهُ شِعْرُ الْجِنّيّ، وَمَا هَتَفَ بِهِ فِي مَكّةَ قال يجيبه:
لقد خاب قوم غاب عَنّهُمْ نَبِيّهُمْ ... وَقَدْ سُرّ مَنْ يَسْرِي إلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
تَرَحّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلّتْ عُقُولُهُمْ ... وَحَلّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورِ مُجَدّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ رَبّهُمْ ... وَأَرْشَدَهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْحَقّ يَرْشُدْ
وهل يستوى ضلّال قوم تسفّهوا ... عما يتهم هاد بها كل مهتد «1»
__________
(1) قصة أم معبد ضعيفة السند، وقد أخرجها البغوى وابن شاهين وابن السكن وابن مندة والطبرانى والحاكم والبيهقى وأبو نعيم من طريق حزام بن هشام ابن حبيش بن خالد عن أبيه عن جده، وبعضها فى تاريخ الطبرى «أنظر ص 466 ح 1 الخصائص للسيوطى دار الكتب الحديثة وص 380 ح 2 الطبرى ط دار المعارف» . والقصيدة مروية بروايات مختلفة فمنها:
جزى الله خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتى أم معبد
هما رحلا بالحق وانتزلا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرّ وَأَوْفَى ذمة من محمد
وأكسى لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السانح المتجدد
ولم يصرح فى رواية البغوى ومن ذكرتهم بعده بذكر الجنى وإنما قيل فى روايتهم «فأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه» ولكن غرام الرواة بالجن جعلهم يغرمون بذكرهم وراء كل شأن عجيب!! رواية البيت فى وفاء الوفا وفى الاكتفاء للكلاعى هكذا:
وهل يستوى ضلال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدون يمهتد
وفى شرح السيرة للخشنى:
وهل يستوى ضلال قوم تشفهوا ... وهاد به نال الهدى كل مهتدى
وفى المواهب: الشطرة الثانية هكذا: عمى وهداة يهتدون بمهتدى.

(4/221)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ إلَى أَهْلِ يَثْرِبِ ... رِكَابُ هُدًى حَلّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِ
نَبِيّ يَرَى مَا لَا يَرَى النّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ فى كل مشهد «1»
__________
(1) وفى رواية أخرى: مسجد. ولما فى حديث أم معبد من أسلوب أدبى ممتاز أحببت نقله وقد ذكر السهيلى باختصار «روى ابن حبيش بن خالد عن أبيه عن جده أن رسول الله «ص» حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبى بكر: عامر ابن فهيرة، ودليلهما الليثى: عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتى أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبى بفناء القبة، ثم تسقى، وتطعم، فسألوها لحما وتمرا، ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئا وكان القوم مرملين مشتين- ويروى: مسنتين فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى شاة فى كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. فقال: هل بها من لبن؟ قالت هى أجهد من ذلك. قال أتأذنين لى أن أحلبها، قالت: بأبى أنت وأمى إن رأيت بها فاحلبها، فدعا بها رسول الله- ص- فمسح بيده ضرعها، وسمى الله ودعالها فى شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرمط، فحلب فيه ثجا حتى علاه لبنها- وفى رواية: حتى علته الرغوة، أو حتى علاه البهاء- ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم- صلى الله عليه وسلم- ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانية بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها ثم بايعها- يعنى على الإسلام، ثم ارتحلوا عنها، فما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلى، لا نقى يهن، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا يا أم معبد، والشاة عازب حيال، ولا حلوب فى البيت؟، قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، وقال: صفيه لى يا أم معبد، قالت: رأيته رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه حسن الخلق، لم تعبد ثجلة- أو نحلة- ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره عطف أو غطف- والشك من أبى محمد بن مسلم- ويروى: وطف، وفى صورته صحل، وفى عنقه

(4/222)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
سطع، وفى لحيته كثاثة أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، إن صمت، فعليه الوقار، وإن تكلم سما، وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر، ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن- أو، ربعة خرزات نظم تحدرن لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال: أنصتوا له، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد. قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، نقلت الحديث من شرح السيرة لأبى ذر الخشنى ص 126 وما بعدها، مراجعا على ص 466 ح 1 الخصائص للسيوطى ط دار الكتب الحديثة وص 139 ح 2 زاد المعاد لأبن القيم إليك شرح أبى ذر لمفردات الحديث: برزة المرأة التى طعنت فى السن فهى تبرز للرجال، ولا تحتجب عنهم، جلدة: جزلة وصفها بالجزالة. مرملين: أرمل الرجل: إذا نفذ زاده فى سفر أو حضر. مشتين: أى داخلين فى زمن الشتاء، ومن رواه: مسنتين، فمعناه: دخلوا فى سنة الجدب والقحط. وكسر البيت جانبه، يقال بكسر الكاف وفتحها. والجهد: المشقة والضعف. تفاجت: أى فتحت رجليها للحلب. يربض الرهط: يبالغ فى ربهم ويثقلهم حتى يلصقهم بالأرض، يقال ربضت الدابة وغيرها، وأربضتها أى جعلنها تلصق بالأرض، والرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة. ثجا: أى سائلا، والماء الثجاج: السائل. علاه البهاء: بريق الرغوة ولمعانها أراضوا: كرروا الشرب حتى بالغوا فى الرى يقال: أراض الوادى: إذا كثر ماؤه، واستنقع. وكذلك الحوض، وفى بعض الروايات: ثم أراضوا عللا بعد نهل. ذكر ذلك ابن قتيبة، والنهل: الشرب الثانى. غادره: تركه، ومنه سمى الغدير، لأن السيل غادره، أى تركه. عجاف: ضعاف. تشاركن هزلا، أى تساوين فى الضعف و (يتساوكن هزلى) : يتمايلن من شدة ضعفهن. غارب: بعيد المرعى. حيال: جمع حائل، وهى التى لم تحمل، ولا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حلوب: يعنى: شاة تحلب، وقد تكون الحلوب واحدا، وقد يكون جمعا. ظاهر الوضاءة: الوضاءة: حسن الوجه. ونظافته، ومنه اشتقاق الوضوء. أبلج للوجه: مشرق الوجه، يقال تبلج الصبح إذا أشرق وأنار. لم يعبه نحله: يعنى: ضعفه وصغره، وهو من الجسم الناحل، وهو القليل اللحم. ولم يزر: لم يقصر، والصقل والصقلة: جلدة الخاصرة، تريد: أنه ناعم الجسم، ضاهر الخاصرة، وهو من الأوصاف الحسنة. وفى بعض روايات هذا الحديث: لم تعبه ثجلة. ولم يزر به صعلة، فالثجلة: عظم البطن، يقال: بطن أثجل إذا كان عظيما، والصعلة صغر الرأس، ومنه يقال للنعام: صعل. وسيم «الحسن والوضاءة الثابتة. وقسيم: كأن كل عضو من وجهه أخذ قسمة من الجمال» . الدعج: شدة سواد العين. «الأشفار: أهداب العين» فى أشفاره عطف أو غطف، ويروى: وطف الوطف: طول شعر أشفار العين، وقال صاحب كتاب العين: الغطف بالغين المعجمة مثل الوطف، وأما العطف بالعين المهملة، فلا معنى له هنا، وقد فسره بعضهم، فقال: هو أن تطول أشفار العين حتى تنعطف. صحل: الصحل: البحح، يريد: أنه ليس بحاد الصوت. فى عنقه سطع: أى: إشراف وطول، يقال: عنق سطعاء إذا أشرفت وطالت، فى لحيته كثاثة: الكثاثة: دقة نبات شعر اللحية مع استدارة فيها. أزج أقرن: الزجج: دقة شعر الحاجبين مع طولها، والقرن: أن يتصل ما بينهما بالشعر علاه البهاء: البهاء هنا: حسن الظاهر. فصل لا نزر ولا هذر: الفصل: الكلام البين، والنزر: الكلام القليل، والهذر: الكلام الكثير. وأرادت أن كلامه ليس بقليل، فينسب إلى العى، ولا بكثير فينسب إلى التزيد. لا بائن من طول: طوله ليس بمفرط لا تقتحمه عين: أى: لا تحتقره، يقال رأيت فلانا فاقتحمته عينى، أى: احتقرته أنضر الثلاثة: أى: أنعم الثلاثة من النضرة، وهو النعيم. محفود: مخدوم، والحفدة: الخدمة، ويقال: حفدت الرجل: إذا خدمته، محشود: محفوف به. قال ابن طريف: يقال: حشدت الرجل إذا أطفت به، واستشهد بلفظة محشود من هذا الحديث، ولا معتد: أى غير ظالم «أحورا أكحل: الحور بياض العين الواضح، والكحل: سواد أشفار

(4/223)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهُ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدُ اللهَ يَسْعَدْ
وَزَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ أَنّ قُرَيْشًا لَمّا سَمِعَتْ الْهَاتِفَ مِنْ الْجِنّ أَرْسَلُوا إلَى أُمّ مَعْبَدٍ، وَهِيَ بِخَيْمَتِهَا، فَقَالُوا: هَلْ مَرّ بِك مُحَمّدٌ الّذِي مِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا، فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ، وَإِنّمَا ضَافَنِي حَالِبُ الشّاةِ الْحَائِلِ، وَكَانُوا أَرْبَعَةً رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهِ وَطَرَفٌ مِنْ ذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، وَالرّابِعُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللّيْثِيّ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مُسْلِمًا، وَلَا وَجَدْنَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ أَنّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنّهُمْ اسْتَأْجَرُوهُ، وَكَانَ هَادِيًا خِرّيتًا، وَالْخِرّيتُ:
الْمَاهِرُ بِالطّرِيقِ الّذِي يَهْتَدِي بِمِثْلِ خَرْتِ الْإِبْرَةِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْخَوْتَعُ أَيْضًا قَالَ الرّاجِزُ:
يَضِلّ فِيهَا الْخَوْتَعُ الْمُشَهّرُ
نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ وَزَوْجِهَا:
وَأَمّا أُمّ مَعْبَدٍ الّتِي مَرّ بِخَيْمَتِهَا، فَاسْمُهَا: عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدٍ إحْدَى بنى
__________
العين كأنها مكحلة. خرزات: حبات اللؤلؤ ونحوه. النظم: العقد المنظوم. يتحدرن: إذا انفرط العقد فى العنق، فأخذت الحبات تنزل واحدة بعد واحدة أربعة: وسط فى الطول. وقد وردت عدة أحاديث فى صفاته الجسمية متفق عليها بين البخارى ومسلم، فانظرها.

(4/225)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ، وَهِيَ أُخْتُ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ، وَلَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَيُقَالُ لَهُ الْأَشْعَرُ، وَأَخُوهَا: حُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَالْخِلَافُ فِي اسْمِهِ وَخَالِدٌ الْأَشْعَرُ أَبُوهُمَا، هُوَ: ابْنُ خنيف بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَم بْنِ ضُبَيْسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيّةِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ أَبُو خُزَاعَةَ «1» .
وَزَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يُقَالُ إنّ لَهُ رِوَايَةً أَيْضًا عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم- توفي فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» ، وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ، وَكَانَ مَنْزِلُ أُمّ مَعْبَدٍ بِقُدَيْدٍ، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُهَا بِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ مُتَقَارِبَةِ الْمَعَانِي، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَتَقَصّى شَرْحَ أَلْفَاظِهِ، وَفِيهِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم قال لِأُمّ مَعْبَدٍ: وَكَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ، فَطَلَبُوا لَبَنًا أَوْ لَحْمًا يَشْتَرُونَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا، فَنَظَرَ إلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ خَلّفَهَا الْجَهْدُ عَنْ الْغَنَمِ، فَسَأَلَهَا: هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟ فَقَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا، فَقَالَتْ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي، إنْ رَأَيْت بِهَا حَلْبًا فَاحْلِبْهَا، فَدَعَا بِالشّاةِ، فَاعْتَقَلَهَا، وَمَسَحَ ضَرْعَهَا، فَتَفَاجّتْ وَدَرّتْ وَاجْتَرّتْ، وَدَعَا بِإِنَاءِ يُرْبِضُ الرّهْطَ أَيْ: يُشْبِعُ الْجَمَاعَةَ حَتّى يُرْبَضُوا، فَحَلَبَ فِيهِ حَتّى مَلَأَهُ، وَسَقَى الْقَوْمَ حَتّى رُوُوا ثُمّ شَرِبَ آخِرُهُمْ، ثُمّ حَلَبَ فِيهِ مَرّةً أُخْرَى عَلَلًا بَعْدَ نَهْلٍ، ثُمّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا، وَذَهَبُوا، فَجَاءَ أَبُو معبد، وكان غائبا
__________
(1) نسب أبيهما فى الإصابة: خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة فانظرها بن أصرم بن خبيس بمعجمة ثم مثناة ثم موحدة ثم مهملة ابن حرام الخ.
(2) أنظر الإصابة ترجمة رقم 1050

(4/226)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَمّا رَأَى اللّبَنَ قَالَ: مَا هَذَا يَا أُمّ مَعْبَدٍ أَنّى لَك هَذَا وَالشّاءُ عَازِبٌ حِيَالٌ، وَلَا حَلُوبَةَ بِالْبَيْتِ، فَقَالَتْ: لَا وَاَللهِ، إلّا أَنّهُ مَرّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ، فَقَالَ:
صِفِيهِ يَا أُمّ مَعْبَدٍ، فَوَصَفَتْهُ بِمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ، وَمِمّا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ:
فَشَرِبُوا حَتّى أَرَاضُوا جَعَلَهُ الْقُتَبِيّ مِنْ اسْتَرَاضَ الْوَادِي: إذَا اسْتَنْقَعَ وَمِنْ الرّوْضَةِ وَهِيَ بَقِيّةُ الماء فى الحوض وأنشد:
وروضة سقيت فيها نِضْوِي «1»
وَرَوَاهُ الْهَرَوِيّ حَتّى آرَضُوا عَلَى وَزْنِ آمَنُوا، أَيْ ضَرَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الرّيّ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ آلَ أَبِي مَعْبَدٍ كَانُوا يُؤَرّخُونَ بِذَلِكَ، الْيَوْمَ، وَيُسَمّونَهُ: يَوْمَ الرّجُلِ الْمُبَارَكِ، يَقُولُونَ فَعَلْنَا كَيْتُ وَكَيْتُ قَبْلَ أن يأتينا الرجل المبارك، أو بعد ما جَاءَ الرّجُلُ الْمُبَارَكُ، ثُمّ إنّهَا أَتَتْ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا شَاءَ اللهُ، وَمَعَهَا ابْنٌ صَغِيرٌ قَدْ بَلَغَ السّعْيَ فَمَرّ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُكَلّمُ النّاسَ. عَلَى الْمِنْبَرِ فَانْطَلَقَ إلَى أُمّهِ يَشْتَدّ، فَقَالَ لَهَا يَا أُمّتَاهُ إنّي رَأَيْت الْيَوْمَ الرّجُلَ الْمُبَارَكَ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بُنَيّ وَيْحَك هُوَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
__________
(1) في اللسان: نضوتى وهى أنثى البعير المهزول. قال ابن برى: وأنشد أبو عمرو فى نوادره وذكر أنه لهمان السعدى:
وروضة فى الحوض قد سقيتها ... نضوى وأرض قد أبت طويتها
وأراض الحوض غطى أسفله الماء، استراض تبطح فيه الماء على وجهه، واستراض الوادى استنقع فيه الماء، قال: وكأن الروضة سميت روضة لاستراضة الماء فيها.

(4/227)


[طريق الهجرة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَرْقَطَ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكّةَ، ثُمّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السّاحِلِ، حَتّى عَارَضَ الطّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ، ثُمّ اسْتَجَازَ بِهِمَا، حَتّى عَارَضَ بِهِمَا الطّرِيقَ، بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا، ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرّارَ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْمَرّةِ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا لِقْفا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: لَفْتَا. قَالَ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الهذلى:
نزيما محلبا من أهل لفت ... لخىّ بين أثلة والنّجام
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ. أَجَازَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ لقف ثم استبطن بهما مدلجة مجاج- وَيُقَالُ: مِجَاجٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- ثُمّ سلك بهما مرجح مجاج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يقال: هل استمرت تلك القبركة فِي شَاةِ أُمّ مَعْبَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَمْ عَادَتْ إلَى حَالِهَا؟ وَفِي الْخَبَرِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشٍ الْكَعْبِيّ، قَالَ: أَنَا رَأَيْت تِلْكَ الشّاةَ وَإِنّهَا لَتَأْدِمُ أُمّ مَعْبَدٍ وَجَمِيعَ صِرْمِهَا، أَيْ:
أَهْلِ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مِنْ الْغَرِيبِ فِي وَصْفِ الشّاةِ: قَالَ مَا كَانَ فِيهَا بُصْرَةٌ وَهِيَ النّقَطُ مِنْ اللبن تبصر بالعين.

(4/228)


ثُمّ تَبَطّنَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضْوَيْنِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: الْعُضْوَيْنِ- ثُمّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ، ثُمّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجَدَاجِدِ، ثم على الأجرد، ثم سلك بهماذا سَلَمٍ، مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلِجَة تِعْهِنِ، ثُمّ عَلَى الْعَبَابِيدِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَيُقَالُ: الْعَبَابِيبُ، وَيُقَالُ: الْعِثْيَانَةَ. يُرِيدُ: الْعَبَابِيبَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا الْفَاجّةَ، وَيُقَالُ: الْقَاحّةُ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمَا بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ، عَلَى جَمَلٍ لَهُ- يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرّدّاءِ- إلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ غُلَامًا له، يقال له: مسعود بن هنيدة، ثم خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا مِنْ الْعَرَجِ، فَسَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْعَائِرِ، عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةٍ- وَيُقَالُ: ثَنِيّةُ الْغَائِرِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- حَتّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِئْمٍ، ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءٍ، عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ يَوْمَ الاثنين، حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل.
[النزول بقباء]
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: حَدّثَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالُوا: لَمّا سَمِعْنَا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/229)


وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ، وَتَوَكّفْنَا قُدُومَهُ، كُنّا نَخْرُجُ إذَا صَلّيْنَا الصّبْحَ، إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا نَنْتَظِرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله مَا نَبْرَحُ حَتّى تَغْلِبَنَا الشّمْسُ عَلَى الظّلَالِ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلّا دَخَلْنَا، وَذَلِكَ فِي أَيّامٍ حَارّةٍ. حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَلَسْنَا كَمَا كُنّا نَجْلِسُ، حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ ظِلّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْنَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ، فَكَانَ أَوّلُ مَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَى مَا كُنّا نَصْنَعُ، وَأَنّا نَنْتَظِرُ قُدُومَ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَلَيْنَا، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قيبلة، هَذَا جَدّكُمْ قَدْ جَاءَ. قَالَ: فَخَرَجْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو فِي ظِلّ نَخْلَةٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ سِنّهِ، وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَكِبَهُ النّاسُ وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتّى زَالَ الظّلّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ.
[المنازل التى نزلت بقباء]
قال ابْنُ إسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا يَذْكُرُونَ- عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ، أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ أَحَدِ بَنِي عُبَيْدٍ: وَيُقَالُ:
بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ. وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ:
إنّمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ جَلَسَ لِلنّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ. وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ لَهُ، وَكَانَ منزل العزّاب مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَمِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/230)


هُنَالِكَ يُقَالُ: نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثمةَ:
بَيْتُ العزّاب. فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ، كُلّا قَدْ سمعنا.
وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ، أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بن الْخَزْرَجَ بِالسّنْحِ. وَيَقُولُ قَائِلٌ: كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَخِي بنى الحارث بن الخزرج.
وَأَقَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَكّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيّامِهَا، حَتّى أَدّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ، حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْهَا لَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ.
[سهيل بن حنيف وامرأة مسلمة]
فَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَإِنّمَا كَانَتْ إقَامَتُهُ بقُباءٍ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ يَقُولُ:
كَانَتْ بقُباءٍ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، مُسْلِمَةٌ. قَالَ: فَرَأَيْت إنْسَانًا يَأْتِيهَا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ، فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَتَخْرَجُ إلَيْهِ فَيُعْطِيَهَا شَيْئًا مَعَهُ فتأخذه. قال:
فاستربت بشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الرجل الذى يضرب عليك بابك كلّ ليلة، فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أَدْرِي مَا هُوَ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَك؟ قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبٍ، قد عَرَفَ أَنّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فَكَسّرَهَا، ثُمّ جَاءَنِي بِهَا، فَقَالَ: احْتَطِبِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، حَتّى هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/231)


قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي هَذَا، مِنْ حَدِيثِ علىّ رضى الله عنه، هند ابن سَعْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، رَضِيَ اللهُ عنه.
[بِنَاءُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بقُباءٍ، فى بنى عمرو ابن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعام ويوم الخميس وأسّس مسجده.
ثُمّ أَخْرَجَهُ اللهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يُزْعِمُونَ أَنّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ. فَأَدْرَكَتْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَادِي رَانُونَاءَ، فَكَانَتْ أَوّلَ جُمُعَةٍ صلاها بالمدينة.
[القبائل تعترضه لينزل عِنْدَهَا]
فَأَتَاهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سالم ابن عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ. أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ:
خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، لِنَاقَتِهِ: فَخَلّوا سَبِيلهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيّاضَةَ، تَلَقّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فِي رِجَالٍ من بنى بياضة فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: هَلُمّ إلَيْنَا، إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا. فَانْطَلَقَتْ، حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي ساعدة، فقالوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/232)


يَا رَسُولَ اللهِ، هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فخلوا سبيلها، فانطلقت، حتى إذا وازنت دار بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رواحة، فى رجال من بنى الحارث ابن الْخَزْرَجِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ، قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا. فَانْطَلَقَتْ، حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ دِنْيَا- أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو، إحْدَى نِسَائِهِمْ- اعْتَرَضَهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وأبو سليط أسيرة ابن أَبِي خَارِجَةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلُمّ إلَى أَخْوَالِك، إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ قَالَ: خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ.
[مبرك الناقة بِدَارِ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ]
حَتّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ، وَهُمَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو.
فَلَمّا بَرَكَتْ- وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهَا- لَمْ يَنْزِلْ، وَثَبَتَ فَسَارَتْ غَيْرَ بِعِيدٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لَا يَثْنِيهَا بِهِ، ثُمّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوّلَ مَرّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ، ثُمّ تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ رَحْلَهُ، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/233)


عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَسَأَلَ عَنْ الْمِرْبَدِ لِمَنْ هُوَ؟ فَقَالَ لَهُ مَعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ: هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَهُمَا يتيمان لى، وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا.
[المسجد والمسكن]
قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم أن يا بنى مَسْجِدًا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَبِي أَيّوبَ حَتّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَغّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ، فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَدَأَبُوا فِيهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنّبِيّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنّا الْعَمَلُ الْمُضَلّلُ
وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ:
لَا عَيْشَ إلّا عَيْشَ الْآخِرَهْ ... اللهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا كَلَامٌ وَلَيْسَ بِرَجَزٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عيش إلا عيش الآخره، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار.
[عمار والفئة الباغية]
قَالَ: فَدَخَلَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَدْ أَثْقَلُوهُ باللّبن، فقال: يا رسول الله، قتلونى، يحملون علىّ ما لا يحملون. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عليه وسلم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/234)


فَرَأَيْت رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ينفض وفرته بيده، كان رَجُلًا جَعْدًا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْحَ ابْنَ سُمَيّةَ، لَيْسُوا بِاَلّذِينَ يَقْتُلُونَك، إنّمَا تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
[ارتجاز على]
وَارْتَجَزَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمئِذٍ:
لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ الْمَسَاجِدَا ... يَدْأَبُ فِيهِ قَائِمًا وَقَاعِدًا
وَمَنْ يُرَى عَنْ الْغُبَارِ حَائِدًا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ، عَنْ هَذَا الرّجَزِ، فَقَالُوا: بَلَغَنَا أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ارْتَجَزَ بِهِ، فَلَا يُدْرَى: أَهُوَ قَائِلُهُ أم غيره.
[مشادة عمار]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَخَذَهَا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ بِهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمّا أَكْثَرَ، ظَنّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إنّمَا يُعَرّضُ بِهِ، فِيمَا حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَكّائِي، عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسحاق الرجل.
[الرسول صلى الله عليه وسلم يوصى بِعَمّارٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ ما تقول منذ اليوم يابن سُمَيّةَ، وَاَللهِ إنّي لَأُرَانِي سَأَعْرِضُ هَذِهِ الْعَصَا لِأَنْفِك. قَالَ: وَفِي يَدِهِ عَصًا. قَالَ: فَغَضِبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/235)


رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ: مَا لَهُمْ وَلِعَمّارٍ، يَدْعُوهُمْ إلَى الْجَنّةِ، وَيَدْعُونَهُ إلَى النّارِ، إنّ عَمّارًا جِلْدَةٌ مَا بَيْنَ عَيْنِيّ وَأَنْفِي، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه.
[إضافة بناء أول مسجد إلى عمار]
قال ابن هشام: وذكر سفيان بن عيينة عَنْ زَكَرِيّا، عَنْ الشّعْبِيّ، قَالَ:
إنّ أَوّلَ من بنى مسجدا عمّار بن ياسر.
[الرسول صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أيوب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ، حَتّى بُنِيَ لَهُ مَسْجِدُهُ وَمَسَاكِنُهُ، ثُمّ انْتَقَلَ إلَى مَسَاكِنِهِ مِنْ بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ، رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ اليَزَنيّ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ السّمَاعِيّ، قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ، قَالَ: لَمّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي، نَزَلَ فِي السّفْلِ، وَأَنَا وَأُمّ أَيّوبَ فِي الْعُلْوِ، فَقُلْت لَهُ: يَا نَبِيّ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، إنّي لَأَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَك، وَتَكُونَ تَحْتِي، فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلْوِ، وَنَنْزِلَ نَحْنُ فَنَكُونَ فِي السّفْلِ، فَقَالَ: يَا أَبَا أَيّوبَ، إنّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا، أَنْ نَكُونَ فِي سُفْلِ البيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/236)


قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفْلِهِ، وَكُنّا فَوْقَهُ فِي الْمَسْكَنِ، فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء فقمت أنا وأمّ أيوب بقطيفة لنا، مالنا لِحَافٌ غَيْرَهَا، نُنَشّفُ بِهَا الْمَاءَ، تَخَوّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهُ.
قَالَ: وَكُنّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ، ثُمّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ، فَإِذَا رَدّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، حَتّى بَعَثْنَا إلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ بَصَلًا أَوْ ثُومًا، فَرَدّهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ أرليده فِيهِ أَثَرًا قَالَ: فَجِئْتُهُ فَزِعًا، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي رَدَدْتَ عَشَاءَك، وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِك، وَكُنْتَ إذَا رَدَدْته عَلَيْنَا، تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِك، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ؛ قَالَ: إنّي وَجَدْت فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشّجَرَةِ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي، فَأَمّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ. قَالَ: فَأَكَلْنَاهُ، وَلَمْ نَصْنَعْ له تلك الشجرة بعد.
[تلاحق المهاجرين]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَلَاحَقَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، إلّا مَفْتُونٌ أَوْ مَحْبُوسٌ، وَلَمْ يُوعَبْ أَهْلُ هِجْرَةٍ مِنْ مَكّةَ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِلَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَهْلُ دور مسمّون: بنو مظعون من جُمَحٍ؛ وَبَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيّةَ؛ وَبَنُو الْبُكَيْرِ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنّ دُورَهُمْ غُلّقَتْ بِمَكّةَ هِجْرَةً، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/237)


[قصة أبى سفيان مع بنى جحش]
وَلَمّا خَرَجَ بَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ مِنْ دَارِهِمْ، عَدَا عَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَبَاعَهَا مِنْ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ؛ فَلَمّا بَلَغَ بَنِي جَحْشٍ.
مَا صَنَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِدَارِهِمْ، ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ يُعْطِيَك اللهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ؟ قَالَ: بَلَى؛ قَالَ: فذلك لك. فَلَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكّةَ كَلّمَهُ أَبُو أَحْمَدَ فِي دَارِهِمْ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ؛ فَقَالَ النّاسُ لِأَبِي أَحْمَدَ: يَا أَبَا أَحْمَدَ، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْرَهُ أَنْ تَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أُصِيبَ مِنْكُمْ فِي اللهِ عَزّ وَجَلّ، فَأَمْسَكَ عَنْ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ:
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ ... أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ بِاَللهِ رَبّ ... النّاسِ مُجْتَهَدُ الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا، اذهب بها ... طوّفتها طَوْقَ الْحَمَامَهْ
[انْتِشَار الْإِسْلَامَ وَمَنْ بَقِيَ عَلَى شِرْكِهِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ إذْ قَدِمَهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، إلَى صَفَرٍ مِنْ السّنَةِ الدّاخِلَةِ، حَتّى بُنِيَ لَهُ فِيهَا مَسْجِدُهُ وَمَسَاكِنُهُ وَاسْتَجْمَعَ لَهُ إسْلَامُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/238)


الْأَنْصَارِ إلّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا، إلّا مَا كَانَ مِنْ خَطْمَةَ، وَوَاقِفٍ، وَوَائِلٍ، وَأُمَيّةَ، وَتِلْكَ أَوْسُ اللهِ، وَهُمْ حَيّ مِنْ الْأَوْسِ، فَإِنّهُمْ أَقَامُوا على شركهم.
[الخطبة الأولى]
وَكَانَتْ أَوّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ- نَعُوذُ بِاَللهِ أَنْ نَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ- أَنّهُ قَامَ فِيهِمْ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ قَالَ: أَمّا بَعْدُ، أَيّهَا النّاسُ، فَقَدّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَعَلّمُنّ وَاَللهِ لَيُصْعَقَنّ أَحَدُكُمْ، ثُمّ لَيَدَعَنّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمّ لَيَقُولَنّ لَهُ رَبّهُ، وَلَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ: أَلَمْ يَأْتِك رَسُولِي فَبَلّغَك، وَآتَيْتُك مَالًا وأفضلت عليك؟ فما قدّمت لنفسك؟ فلينظرنّ يمينالا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشقّ من تمرة فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ، فَإِنّ بها تجزى الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[الخطبة الثانية]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ مَرّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ، أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاَللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. إنّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَبَارَكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/239)


وَتَعَالَى، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيّنَهُ اللهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النّاسِ، إنّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبّوا، مَا أَحَبّ اللهُ، أَحِبّوا اللهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ، وَلَا تَمَلّوا كَلَامَ اللهِ وَذِكْرَهُ، وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قَدْ سَمّاهُ اللهُ خِيرَتَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ، ومصطفاه من العباد، الصالح الحديث، ومن كلّ ما أوتى الناس من الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا اللهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابّوا بِرُوحِ اللهِ بَيْنَكُمْ، إنّ اللهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ، وَالسّلَامُ عليكم.
[كتاب الموادعة لليهود]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ، وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ:
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ على ربعتهم يتعاقلون، بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين؛ وبنو عوف عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ المؤمنين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/240)


وَبَنُو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلِهِمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمُفْرَحُ: الْمُثْقَلُ بِالدّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ. قَالَ الشّاعِرُ:
إذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ؛ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ، أَوْ إثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَإِنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ؛ وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنّ ذِمّةَ اللهِ وَاحِدَةٌ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دُونَ النّاسِ، وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ؛ وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/241)


وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ، وَإِنّ كُلّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هدى وأقومه؛ وإنه لا يجير مشرك ما لا لقريش، ولا نفسا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنّهُ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قَوَدٌ بِهِ إلّا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّةٌ، وَلَا يَحِلّ لَهُمْ إلّا قِيَامٌ عَلَيْهِ، وَإِنّهُ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ، وَآمَنَ بِاَللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا، وَلَا يُؤْوِيهِ؛ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا مُحَارَبِينَ، وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ، وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وإن ليهود بنى ساعدة مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بنى عوف، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ البّرّدون الإثم، وإن موالى ثعلبة كأنفسهم؛ إن بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ؛ وَإِنّهُ لَا يَخْرَجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَإِنّهُ لَا يُنْحَجَزُ عَلَى ثَأْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/242)


جُرْحٌ، وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ، إلّا مِنْ ظَلَمَ، وَإِنّ اللهَ عَلَى أبرّ هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبرّدون الْإِثْمِ، وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ماداموا مُحَارَبِينَ، وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ، وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرَ مُضَارّ وَلَا آثِمٌ، وَإِنّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ، وَإِلَى محمد رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنّ اللهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ، وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ ويلبسونه، فانهم يصلحونه وَيَلْبَسُونَهُ، وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ، عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قِبَلَهُمْ، وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ، مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ، مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: مَعَ الْبِرّ الْمُحْسِنُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ، لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنّ اللهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ، وَإِنّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ، وَإِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ، إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ، وَإِنّ اللهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى، وَمُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/243)


[الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أصحابه من المهاجرين وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ- فِيمَا بَلَغَنَا، وَنَعُوذُ بِاَللهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُقَلْ:
تَآخَوْا فِي اللهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ، ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَذَا أَخِي فَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامَ الْمُتّقِينَ، وَرَسُولَ رَبّ الْعَالَمِينَ، الّذِي لَيْسَ لَهُ خَطِيرٌ وَلَا نَظِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَخَوَيْنِ، وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَعَمّ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وزيد ابن حَارِثَةَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخَوَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ حَيْنَ حَضَرَهُ الْقِتَالُ إنْ حَدَثَ بِهِ حَادِثُ الْمَوْتِ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ، الطّيّارُ فِي الْجَنّةِ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمئِذٍ غَائِبًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زُهَيْرٍ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، أَخَوَيْنِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ أَخَوَيْنِ؛ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْجَرّاحِ، وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، أَخَوَيْنِ. وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، أَخَوَيْنِ. والزبير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/244)


ابن الْعَوّامِ، وَسَلَامَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، أَخَوَيْنِ.
وَيُقَالُ: بَلْ الزّبَيْرُ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، حَلِيفُ، بَنِي زُهْرَةَ، أحوين، وعثمان ابن عَفّانَ، وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَخُو بَنِي النّجّارِ، أَخَوَيْنِ. وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وكعب بن مالك، أخو بنى سلمة، أحوين. وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبىّ بن كعب، أَخُو بَنِي النّجّارِ: أَخَوَيْنِ؛ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، وَأَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، أَخُو بَنِي النّجّارِ: أَخَوَيْنِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ:
أَخَوَيْنِ. وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، أَخُو بَنِي عَبْدِ عَبْسٍ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: أَخَوَيْنِ وَيُقَالُ: ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، خَطِيبُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ: أَخَوَيْنِ. وَأَبُو ذَرّ، وَهُوَ بُرَيْرُ بن جنادة الغفارىّ والمنذر ابن عَمْرٍو، الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ: أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: أَبُو ذرّ: جندب ابن جُنَادَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ، حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَخَوَيْنِ، وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيّ، وَأَبُو الدّرْدَاءِ، عُوَيْمِرُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ، وَيُقَالُ: عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/245)


قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَبِلَالٌ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مُؤَذّنُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو رُوَيْحَةَ، عَبْدُ اللهِ بن عبد الرحمن الخثعمى، ثم أحد الفزع، أخوين. فهؤلاء من سُمّيَ لَنَا، مِمّنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ.
[بِلَالٌ يُوصِي بِدِيوَانِهِ لِأَبِي رُوَيْحَةَ]
فَلَمّا دَوّنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الدّوَاوِينَ بِالشّامِ، وَكَانَ بِلَالٌ قَدْ خَرَجَ إلَى الشّامِ، فَأَقَامَ بِهَا مُجَاهِدًا، فَقَالَ عُمَرُ لِبِلَالٍ: إلَى مَنْ تَجْعَلُ دِيوَانَك يَا بِلَالُ؟
قَالَ: مَعَ أَبِي رُوَيْحَةَ، لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا، لِلْأُخُوّةِ الّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنِي، فَضَمّ إلَيْهِ، وَضُمّ دِيوَانُ الْحَبَشَةِ إلَى خَثْعَمَ، لِمَكَانِ بِلَالٍ مِنْهُمْ، فَهُوَ فِي خَثْعَمَ إلَى هذا اليوم بالشام.
[أبو أمامة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَهَلَكَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ أبو أمامة، أسعد بن زرارة، والمسجد يا بنى، أخذته الذبحة أو الشهقة.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: بئس الميت أبو أمامة، ليهود ومنافقوا الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلَا لِصَاحِبِي مِنْ الله شيئا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(4/246)


قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ: أَنّهُ لَمّا مَاتَ أَبُو أُمَامَةَ، أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، اجْتَمَعَتْ بَنُو النّجّارِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ نَقِيبَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنّ هَذَا قَدْ كَانَ مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، فَاجْعَلْ مِنّا رَجُلًا مَكَانَهُ يُقِيمُ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ يُقِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم: أَنْتُمْ أَخْوَالِي، وَأَنَا بِمَا فِيكُمْ، وَأَنَا نَقِيبُكُمْ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَخُصّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ. فَكَانَ مِنْ فَضْلِ بَنِي النّجّارِ الّذِي يَعُدّونَ عَلَى قَوْمِهِمْ، أَنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقيبهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِلَادٌ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ:
وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمَا سَلَكَ بِهِمَا عُسْفَانَ. قَالَ الْمُؤَلّفُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ أَنّهُ قَالَ: سُمّيَ عُسْفَانَ لِتَعَسّفِ السّيُولِ فِيهِ، وَسُئِلَ عَنْ الْأَبْوَاءِ «1» الّذِي فِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ أُمّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ سُمّيَ الْأَبْوَاءَ؟ فقال:
لأن السيول تتبوّءه أَيْ: تَحِلّ بِهِ، وَبِعُسْفَانَ فِيمَا رُوِيَ كَانَ مَسْكَنُ الْجُذَمَاءِ، وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرّ بِعْسْفَانَ وَبِهِ الْجُذَمَاءُ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ وَلَمْ يَنْظُرْ الْيَهَم، وَقَالَ: إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْعِلَلِ يعدى
__________
(1) عسفان: قيل منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة، وقيل: عسفان بين المسجدين، وهى من مكة على مرحلتين، وقيل: هو قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة، وهى حد تهامة. والأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلى المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، وقيل: جبل عن يمين آوه ويمين المصعد إلى مكة من المدينة «المراصد» .

(4/247)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَهُوَ هَذَا، وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ رِوَايَتِي، لِأَنّهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْن أَبِي أُسَامَةَ، وَقَدْ تَقَدّمَ اتّصَالُ سَنَدِي بِهِ، وَكُنْت رَأَيْته قَبْلُ فِي مُسْنَدِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ، وَلَيْسَ لى فِيهِ إسْنَادٌ.
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمْ سَلَكَ بهم أمجا ثُمّ ثَنِيّةَ الْمُرّةِ، كَذَا وَجَدْته مُخَفّفَ الرّاءِ مُقَيّدًا، كَأَنّهُ مُسَهّلُ الْهَمْزَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ.
وَذَكَرَ لَقْفًا بِفَتْحِ اللّامِ مُقَيّدًا فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ:
لَفْتًا، وَاسْتَشْهَدَ ابن هشام يقول مَعْقِلِ [بْنِ خُوَيْلِدٍ] الْهُذَلِيّ:
نَزِيعًا مُحْلَبًا مِنْ أهل لفت ... لحىّ بين أثلة فالنّجام «1»
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ: لِفْتٌ بِكَسْرِ اللّامِ أَلْفَيْته فِي شِعْرِ مَعْقِلٍ هَذَا فِي أَشْعَارِ هُذَيْلٍ فِي نُسْخَتِي، وَهِيَ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ جِدّا، وَكَذَلِكَ أَلْفَاهُ مَنْ وَثِقْته وَكَلّفْته أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِي فِي شعر معقل هذا فى أشعار
__________
(1) النزيع: الغريب والبعيد أو من أمه سبية أو الشريف. والمحلب: المعين من غير قومك. وقد رواه اللسان فى مادة حلب: صريح محلب من أهل نجد ... إلخ. وفى المراصد عن لفت: قيده القاضى عياض على ثلاثة أوجه: بفتح اللام وسكون الفاء ولفت بالتحريك، وبكسر اللام وسكون الفاء وهى ثنية بين مكة والمدينة قيل: هى ثنية جبل قديد وستأتى والبيت والذى بعده فى معجم البكرى فى مادة لفت «صريخا محليا» وقد ضبطها بكسر اللام وفتحها فقط مع سكون الفاء.

(4/248)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُذَيْلٍ مَكْسُورُ اللّامِ فِي نُسْخَةِ أَبِي عَلِيّ الْقَالِيّ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الزّيَادِيّ، ثُمّ عَلَى الْأَحْوَلِ، ثُمّ قَرَأْتهَا عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ رَحِمَهُ اللهُ، وَفِيهَا صَرِيحًا مُحْلِبًا، وَكَذَلِكَ كَانَ الضّبْطُ فِي هذا الكتاب قديما، حتى ضبطته بِالْفَتْحِ عَنْ الْقَاضِي، وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا. انْتَهَى كَلَامُ أَبِي بَحْرٍ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ: لَفْتًا، فَقَيّدَهُ بِكَسْرِ اللّامِ كما ذكر أبو بحر وأنشد قبله:
لغمرك مَا خَشِيت، وَقَدْ بَلَغْنَا ... جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
صَرِيحًا مُحْلِبًا الْبَيْتُ.
وَذَكَرَ الْمَوَاضِعَ التى سلك عليها، وذكر فيها مجاج بِكَسْرِ الْمِيمِ وَجِيمَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ فِيهَا: مَجَاجٌ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ أَلْفَيْت شَاهِدًا لِرِوَايَةِ ابن إسحاق فى لقف، وفيه ذكر مجاح بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْجِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمّدِ ابن عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ:
لَعَنَ اللهُ بَطْنَ لقف مسيلا ... ومجاحا وَمَا أُحِبّ مَجَاحًا
لَقِيت نَاقَتِي بِهِ، وَبِلِقْفٍ ... بَلَدًا مُجْدِبًا وَأَرْضًا شَحَاحًا
هَكَذَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَلِقْفٌ آخَرُ غَيْرُ لَفْتٍ فِيمَا قَالَ الْبَكْرِيّ.
وَذَكَرَ مُرَجّحَ بتقديم الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ، وَذَكَرَ مُدْلِجَةَ تِعْهِنَ «1» بِكَسْرِ التاء
__________
(1) فى النهاية لابن الأثير: قال أبو عبيد: إنما هو الجد وهو البئر الجيدة المواضع من الكلأ.

(4/249)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْهَاءِ، وَالتّاءُ فِيهِ أَصْلِيّةٌ عَلَى قِيَاسِ النّحْوِ فَوَزْنُهُ فِعْلِلٌ إلّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ اشْتِقَاقٍ عَلَى زِيَادَةِ التّاءِ، أَوْ تَصِحّ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ تُعْهِنُ بِضَمّ التّاءِ، فَإِنْ صَحّتْ فَالتّاءُ زَائِدَةٌ، كُسِرَتْ أَوْ ضُمّتْ «1» وَبِتِعْهِنَ صَخْرَةٌ، يُقَالُ لَهَا: أُمّ عِقْيٍ عُرِفَتْ بِامْرَأَةِ كَانَتْ تَسْكُنُ هُنَاكَ، فَمَرّ بِهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَسْقَاهَا فَلَمْ تَسْقِهِ، فَدَعَا عَلَيْهَا فَمُسِخَتْ صَخْرَةً، فَهِيَ تِلْكَ الصّخْرَةُ فِيمَا يَذْكُرُونَ.
وَذَكَرَ الْجَدَاجِدَ بِجِيمَيْنِ وَدَالَيْنِ كَأَنّهَا جَمْعُ جُدْجُدٍ، وَأَحْسَبُهَا آبَارًا فَفِي، الْحَدِيثِ: أَتَيْنَا عَلَى بِئْرِ جُدْجُدٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصّوَابُ: بِئْرٌ جُدّ أَيْ قَدِيمَةٌ، وَقَالَ الْهَرَوِيّ عَنْ الْيَزِيدِيّ: وَقَدْ يُقَالُ: بِئْرٌ جُدْجُدٍ قَالَ: وَهُوَ كَمَا يُقَالُ فِي الْكُمّ كُمْكُمٌ وَفِي الرّفّ رَفْرَفٌ.
وَذَكَرَ الْعَبَابِيدَ كَأَنّهُ جَمْعُ عَبّادٍ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ الْعَبَابِيبُ، كَأَنّهَا جَمْعُ: عُبَابٍ مِنْ عَبَبْت الْمَاءَ عَبّا، فَكَأَنّهَا- وَاَللهُ أَعْلَمُ- مِيَاهٌ تُعَبّ عُبَابًا أَوْ تُعَبّ عَبّا.
وَذَكَرَ الْفَاجّةَ بِفَاءِ وَجِيمٍ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ: الْقَاحّةُ بِالْقَافِ والحاء «2» .
__________
(1) فى المراصد: ضبط تعهن: بكسر أوله وهائه وتسكين العين وآخره نون اسم عين ماء على ثلاثة أميال من السقيا بين مكة والمدينة. وفى معجم البلدان روى بفتح أوله كسر هائه وبضم أوله.
(2) هى- كما قال ابن هشام- فى المراصد، وأنها على ثلاث مراحل من المدينة قبل السقيا، وقيل: موضع بين الجحفة وقديد.

(4/250)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قِصّةُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
وَذَكَرَ قُدُومَهُمْ عَلَى أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ، وَهُوَ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسْلَمِيّ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ: ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الدّارَقُطْنِيّ، وَالْمَعْرُوفُ، ابْنُ حُجْرٍ بِضَمّ الْحَاءِ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْمَبْعَثِ ذِكْرُ مَنْ اسْمُهُ حُجْرٌ «1» فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ، وَمَنْ يُسَمّى: حُجْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ بِسُكُونِ الْجِيمِ، وَمَنْ يُسَمّى الْحِجْرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ، فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ عِنْدَ ذِكْرِ خَدِيجَةَ وَأُمّهَا، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي أوس بن ابن حُجْرٍ أَنّهُ بِفَتْحَتَيْنِ.
وَذَكَرَ أَنّ أَوْسًا حَمَلَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حمل لَهُ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرّدّاءِ، وَفِي رِوَايَةِ يونس بن بكير عن ابن إسحق يُقَالُ لَهُ:
الرّدّاحُ، وَفِي الْخَطّابِيّ أَنّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ: اُسْلُكْ بِهِمْ الْمَخَارِقَ بِالْقَافِ، قَالَ: وَالصّحِيحُ الْمَخَارِمَ، يَعْنِي: مَخَارِمَ الطّرِيقِ، وَفِي النّسَوِيّ أَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَالَ: فَكُنْت آخُذُ بِهِمْ أَخْفَاءَ الطّرِيقِ. وَفِقْهُ هَذَا أَنّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ بهم إخفاء الطريق ومخارقه، وذكر
__________
(1) فى الاشتقاق: أوس بن حجر بفتح الحاء والجيم، وفيه أيضا: «وقد سمت العرب حجرا وحجرا، وحجيرا» ص 207. وفى القاموس: «حجر بالضم وبضمتين: والد امرىء القيس وجده الأعلى وابن ربيعة، وابن عدى وابن النعمان وابن يزيد صحابيون، وابن العنبس: تابعى وبالتحريك والد أوس الصحابى، ووالد الجاهل الشاعر، ووالد أنس المحدث، أوهما بالفتح.

(4/251)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّسَوِيّ فِي حَدِيثِ مَسْعُودٍ هَذَا: أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ: ائْتِ أَبَا تَمِيمٍ، فَقُلْ لَهُ:
يَحْمِلُنِي عَلَى بَعِيرٍ وَيَبْعَثُ إلَيْنَا بِزَادِ، وَدَلِيلٍ يَدُلّنَا، فَفِي هَذَا أَنّ أَوْسًا كَانَ يُكَنّى أَبَا تَمِيمٍ، وَأَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَفِظَ عَنْهُ حَدِيثًا فِي الْخَمْسِ وَحَدِيثًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ ذَكَرَهُ النّسَوِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ فِي مَسْعُودٍ هَذَا: غُلَامُ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيّ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ قِيلَ فِي أَوْسٍ هَذَا إنّ اسْمَهُ تَمِيمٌ، وَيُكَنّى أَبَا أَوْسٍ فَاَللهُ أَعْلَمُ «1» .
وَرُوِيَ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِمَسْعُودِ حِينَ انْصَرَفَ إلَى سَيّدِهِ مرسيدك أَنْ يَسِمَ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا قَيْدَ الْفَرَسِ «2» ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ سِمَتُهُمْ فِي إبِلِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ قَصِيدَةِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَسْمَاءَ السّمَاتِ كَالْعِرَاضِ وَالْخِبَاطِ وَالْهِلَالِ، وَذَكَرْنَا قَيْدَ الْفَرَسِ، وَأَنّهُ سِمَةٌ فِي أعناقها، وقول الراجز:
__________
(1) قصة أوس لم يروها أحد من أصحاب الكتب السنة، فالذين رووها هم البغوى وابن السكن وابن مندة أو الطبرانى. وقصة مسعود بن هنيدة عند الحاكم فى الأكليل. واسم أوس يتردد فى الإصابة تميم بن أوس بن حجر أنى أوس الأسلمى وبين أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسْلَمِيّ ويكنى: أبا تميم وربما ينسب إلى جده فقيل: أوس بن حجر وفيه عمن روى عنهم أنه لقى النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وهما متوجهان إلى المدينة بقحد وات بين الجحفة وهرشى، وهما على جمل، فحملهما على فحل له من إبله. وأوس من أهل العرج. وقال ابن حبان والطبرانى: له صحبة، ولم يخرج حديثه.
(2) صورة هذه السمة: حلقتان بينهما مدة «مفردات ابن الأثير واللسان» وذكر الجوهرى أنها سمة تكون فى عنق البعير على صورة القيد.

(4/252)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كُومٌ عَلَى أَعْنَاقِهَا قَيْدُ الْفَرَسْ ... تَنْجُو إذَا اللّيْلُ تَدَانَى وَالْتَبَسْ
مَتَى قَدِمَ الرّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ؟
كَانَ قُدُومُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَفِي شَهْرِ أَيْلُولَ مِنْ شُهُورِ الْعَجَمِ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ قَدِمَهَا لِثَمَانِ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيّ: خَرَجَ مِنْ الْغَارِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتى عشرة منه، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ أَوْسَطَ أَيّامِ التّشْرِيقِ «1» .
كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نُزُولَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ، وَكُلْثُومٌ هَذَا كُنْيَتُهُ أَبُو قيس، وهو كلثوم بن الهدم ابن امرىء الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ «2» ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مَاتَ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ بِيَسِيرِ، هُوَ أَوّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْصَارِ بَعْدَ قُدُومِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ مَاتَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِأَيّامِ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَأَنّهُ كَانَ يُقَالُ لِبَيْتِهِ: بَيْتُ الْعُزّابِ هَكَذَا رُوِيَ، وَصَوَابُهُ: الأعزب؛ لأنه
__________
(1) فى الفتح: ليلة وحول تاريخ دخوله المدينة يدور خلاف شديد. انظر ص 350 وما بعدها ح 1 شرح المواهب للزرقانى.
(2) فى جمهرة ابن حزم يرد بعد الحارث بن زيد ما يأتى: بن عبيد بن زيد إلخ.

(4/253)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمْعُ عَزَبٍ، يُقَالُ: رَجُلٌ عَزَبٌ، وَامْرَأَةٌ عَزَبّ، وَقَدْ قِيلَ: امْرَأَةٌ عَزَبَةٌ بِالتّاءِ «1» .
تَأْسِيسُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ تَأْسِيسَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسّسَهُ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمّ انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَسّسَهُ، كَانَ هُوَ أَوّلَ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي قِبْلَتِهِ، ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ، ثُمّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ إلَى حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمّ أَخَذَ النّاسُ فِي الْبُنْيَانِ. فِي الْخَطّابِيّ عَنْ الشّمُوسِ بِنْتِ النّعْمَانِ [بْنِ عامر ابن مُجْمِعٍ الْأَنْصَارِيّةِ] قَالَتْ: كَانَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ يَأْتِي بِالْحَجَرِ قَدْ صَهَرَهُ إلَى بَطْنِهِ، فَيَضَعُهُ فَيَأْتِي الرّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُقِلّهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ حَتّى يَأْمُرَهُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَأْخُذَ غَيْرَهُ. يُقَالُ: صَهَرَهُ وَأَصْهَرَهُ إذَا أَلْصَقَهُ بِالشّيْءِ، وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الصّهْرِ فِي الْقَرَابَةِ «2» ، وَهَذَا الْمَسْجِدُ أَوّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي أَهْلِهِ نَزَلَتْ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا التّوْبَةُ: 108 فَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى، فَقَالَ: هُوَ
__________
(1) فى اللسان: رجل عزب ومعذابة لا أهل له، ونظيره: مطرابة. ومطواعة. وامرأة عزبة وعزب: لا زوج لها ... والجمع أعزاب والعزاب الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء.
(2) فى رواية أخرى: فبصره إلى بطنه: أى أضافه وأماله.

(4/254)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَسْجِدِي هَذَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: وَفِي الْآخَرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ قَالَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ حِينَ نَزَلَتْ: «لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقوى» مَا الطّهُورُ الّذِي أَثْنَى اللهُ بِهِ عَلَيْكُمْ؟ فَذَكَرُوا لَهُ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ، فقال: هوذا كم فَعَلَيْكُمُوهُ» «1» وَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ كِلَاهُمَا أُسّسَ عَلَى التّقْوَى، غَيْرَ أَنّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: مِنْ أول يوم يَقْتَضِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ لِأَنّ تَأْسِيسَهُ كَانَ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ حُلُولِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَارُ مُعْجِزَتِهِ وَالْبَلَدُ الّذِي هُوَ مُهَاجَرُهُ.
التّارِيخُ الْعَرَبِيّ:
وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنّهُ لَيْسَ أَوّلَ الْأَيّامِ كُلّهَا، وَلَا أَضَافَهُ إلَى شَيْءٍ فِي اللّفْظِ الظّاهِرِ [فَتَعَيّنَ أَنّهُ أُضِيفَ إلَى شَيْءٍ مُضْمَرٍ] فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ صِحّةُ مَا اتّفَقَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التّارِيخِ، فَاتّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ لِأَنّهُ الْوَقْتُ الّذِي عَزّ فِيهِ الْإِسْلَامُ، وَاَلّذِي أُمّرَ فِيهِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَسّسَ الْمَسَاجِدَ. وَعَبَدَ اللهَ آمِنًا كَمَا يُحِبّ «2» ، فَوَافَقَ رَأْيَهُمْ هَذَا ظَاهِرُ التّنْزِيلِ، وَفَهِمْنَا الْآنَ بفعلهم أن قوله
__________
(1) ورد هذا فى روايات بينها وبين بعضها خلاف فى الطبرانى وأحمد وابن خزيمة. وقد أخرج عبد الرزاق والبخارى عن عروة وابن عائذ عن ابن عباس: الذى بنى فيهم المسجد الذى أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف. ولكن ورد فى مسلم وأحمد والترمذى عن أبى سعيد الخدرى أنه مسجد المدينة، وبهذا جرم الإمام مالك.
(2) نقل الحافظ فى الفتح عبارة السهيلى، فقال: «وأفاد السهيلى أن الصحابة اخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ لأن من. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا، فتبين أنه أضيف إلى شىء مضمر، وهو أول الزمن الذى عز فيه الإسلام، وعبد فيه النبى «ص» ربه آمنا، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأى الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى من أول يوم أنه أول أيام التاريخ الإسلامى. كذا قال- يعنى السهيلى» ويعقب الحافظ على هذا بقوله: «والمتبادر أن معنى قوله من أول يوم أى دخل فيه النبى «ص» وأصحابه المدينة، والله أعلم» . ويقول ابن المنير: «كلام السهيلى تكلف وتعسف وخروج عن تقدير الأقدمين، فإنهم قدروه: من تأسيس أول يوم فكأنه قيل: من أول يوم وقع فيه التأسيس وهذا تقدير تقتضيه العربية» ص 353 ج 1 المواهب. وعن أمر التاريخ روى الحاكم فى الإكليل عن الزهرى أن النبى «ص» هو الذى أمر بالتاريخ وهو بقباء. والحديث معضل والمشهور خلافه. وأخرج أبو نعيم الفضل بن دكين فى تاريخه ومن طريقه الحاكم من طريق الشعبى أن أبا موسى كتب إلى عمر إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم، أرخ بالمبعث، وبعضهم: بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها أو بالمحرم، لأنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه، وذلك سنة سبع عشرة، وقيل كما روى ابن خيثمة عن ابن سيرين سنة سبع عشرة. وقيل: ست عشرة فى ربيع الأول ... والذى يفهم من مجموع الآثار أن الذى أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلى ... وقيل: إن أول من أرخ يعلى بن أمية حين كان باليمن حكاه مغلطاى، ورواه أحمد بإسناد صحيح عن يعلى لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى. ويقول الزرقانى: «ولم يؤرخوا بالمولد ولا بالمبعث، لأن وقتهما لا يخلو من نزاع من حيث الاختلاف فيهما، ولا بالوفاة النبوية لما يقع فى تذكره من الأسف والتألم على فراقه ص 214 ح 7 فتح البارى وص 352 ح 1 شرح المواهب وأقول من يتدبر كلمة عمر رضى الله عنه فى وصف الهجرة يعرف لماذا اختاروا التاريخ بالهجرة دون غيره، وعن التاريخ العربى انظر كتاب المحبر لمحمد بن حيلب ص 5 ط الهند.

(4/255)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُبْحَانَهُ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هو أول أيام التاريخ الذى يورّخ بِهِ الْآنَ، فَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذُوا هَذَا مِنْ الْآيَةِ، فَهُوَ الظّنّ بِأَفْهَامِهِمْ، فَهُمْ أَعْلَمُ النّاسِ بِكِتَابِ اللهِ وَتَأْوِيلِهِ، وَأَفْهَمُهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إشَارَاتٍ وَإِفْصَاحٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ، فَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا وَأَشَارَ إلَى صِحّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ، إذْ لَا يُعْقَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
فَعَلْته أَوّلَ يَوْمٍ إلّا بِإِضَافَةِ إلَى عَامٍ مَعْلُومٍ أَوْ شَهْرٍ مَعْلُومٍ، أَوْ تَارِيخٍ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا إضَافَةٌ فِي الْمَعْنَى إلّا إلَى هَذَا التّارِيخِ الْمَعْلُومِ لِعَدَمِ الْقَرَائِنِ الدّالّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ قَرِينَةِ لَفْظٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ فَتَدَبّرْهُ فَفِيهِ مُعْتَبَرٌ لِمَنْ اذّكّرَ وَعِلْمٌ لِمَنْ رَأَى بِعَيْنِ فُؤَادِهِ وَاسْتَبْصَرَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ.
مِنْ وَدُخُولُهَا عَلَى الزّمَانِ:
وَلَيْسَ يَحْتَاجُ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ إلَى إضْمَارٍ كَمَا قَرّرَهُ بَعْضُ النّحَاةِ: مِنْ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ، فِرَارًا مِنْ دُخُولِ مِنْ عَلَى الزّمَانِ، وَلَوْ لَفَظَ بِالتّأْسِيسِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مِنْ وَقْتِ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ، فَإِضْمَارُهُ لِلتّأْسِيسِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَمِنْ تَدْخُلُ عَلَى الزّمَانِ، وَغَيْرِهِ، فَفِي التّنْزِيلِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَالْقَبْلُ وَالْبَعْدُ زَمَانٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَا مِنْ دَابّةٍ إلّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ «1» يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشّمْسُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ، وَفِي شعر النابغة [فى وصف سيوف] :
__________
(1) يروى: مسيخة أى مصغية.

(4/257)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُوُرّثْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةَ ... إلَى الْيَوْمِ قد جرّ بن كلّ التّجارب «1»
__________
(1) جاء فى مغنى اللبيب عن من ما يأتى تأتى على خمسة عشر وجها أحدها: ابتداء الغاية، وهو الغالب عليها حتى ادعى جماعة أن سائر معانيها راجعة إليه، وتقع لهذا المعنى فى غير الزمان نحو: من المسجد الحرام. إنه من سليمان قال الكوفيون والأخفش والمبرد وابن درستويه: وفى الزمان أيضا بدليل: من أول يوم، وفى الحديث: فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة. وقال النابغة:
تخيرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب
وقيل: التقدير من مضى أزمان يوم حليمة، ومن تأسيس أول يوم، ورده السهيلى بأنه لو قيل هكذا لاحتيج إلى تقدير الزمان» وعلق الأمير فى حاشيته على هذا بقوله: «الظاهر أنه لا رد وأنه لا مانع من جعله نفس المضى» والتأسيس مبدأ كما تجعل الدار مبدأ للخروج، ولا حاجة لتقدير زمن، ثم معنى ابتداء الخروج مثلا من الدار أنه أول ما تحقق نشأ منها وكذا ابتداء العلم من زيد فى قولك أخذت العلم من زيد، وليس بلازم أن الخروج مثلا أمر ممتد له مبدأ لما أنه يقال: خرجت من الدار بمجرد مفارقته لها، وكذلك الابتداء فى إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة أى نداء ناشئا من يوم الجمعة، وأما من أول يوم، فالمراد بالتأسيس فيه: الوضع والبناء لا خصوص وضع الأساس الذى لا يمتد، وتوقف الرضى فى معنى الابتداء فى الآيتين، وقال: الظاهر أنها بمعنى فى، ونيابة حروف الجر بعضها عن بعض غير عزيزة، ثم قال: الظاهر مذهب الكوفيين، وأنها تأتى للابتداء فى الزمان إذ لا مانع من قولك صمت من أول الشهره إلى آخره. ونمت من أول الليل إلى آخره» وأقول إن من تفيد ابتداء الغاية المكانية باتفاق من البصريين والكوفيين، بدليل أن الغاية تنتهى بعدها. ويرى الكوفيون والأخفش والمبرد وابن درستويه وبعض البصريين أنها تفيد أيضا ابتداء الغاية الزمانية. والشاهد ما ذكر والحديث المروى فى البخارى: فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، وقول بعض العرب الذى رواه الأخفش فى المعانى: من الآن إلى الغد:

(4/258)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[تقد السّلوقىّ المضاعف نسجه ... ويوقدون بِالصّفّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ]
وَبَيْنَ مِنْ الدّاخِلَةِ عَلَى الزّمَانِ، وَبَيْنَ مُنْذُ فَرْقٌ بَدِيعٌ قَدْ بَيّنّاهُ فى شرح آية الوصية «1» .
__________
والبيت للنابغة الذبيانى كما قال من قصيدته التى مدح بها النعمان وأولها:
كلينى لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطىء الكواكب
والرواية المشهورة: تخيرن بدلا من تورثن. والشاهد فى البيت قوله: من أزمان حيث جاءت من هنا لابتداء الغاية أى المسافة فى الزمان، وقد أجاب البصريون القائلون بأنها لابتدء الغاية فى المكان فقط عن هذا بقولهم إن فى البيت حذف مضاف: أى من استقرار زمان يوم حليمة ورد عليهم بأن الأصل عدم الحذف. ويوم حليمة نسبة إلى حليمة بنت الحارث بن أبى شمر ملك غسان ولخم، وكان أبوها وجه جيشا إلى المنذر بن ماء السماء، فأخرجت لهم طيبا فطيبتهم، فقالوا ما يوم حليمة بسر. يضرب مثلا فى كل أمر متعالم مشهور. وقال المبرد: هو أشهر أيام العرب. وفى هذا اليوم قتل المنذر، وقيل قتل فى يوم عين أباغ وهو يوم وقعة بين غسان ولخم أيضا «أنظر مجمع الأمثال رقم 3814 ح 1 السنة المحمدية والتصريح على التوضيح لابن هشام والأزهرى ص 7 ح 2 ط مصطفى محمد، ص 205 شرح شواهد ابن عقيل للشيخ عبد المنعم الجرجاوى ص 1914 م ص 13 ح 2 من مغنى اللبيب لأبى محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن عبد الله بن هشام ط 1328 هـ» .
(1) أنظر معنى منذ ومذ فى مغنى اللبيب تحت المادة، وفى نوادر أبى زيد: «منذ ومذ لابتداء الغاية فى الزمان، ومن لابتداء الغاية فى سائر الأشياء والزمان وإن انفرد بمنذ ومذ، فالأصل فيه أن تدخل عليه من» ص 21»

(4/259)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَحَلْحَلَ وَتَلَحْلَحَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ لِقَاءَ كُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُ يَقُولُونَ: هَلُمّ إلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ، فَيَقُولُ: خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ حَتّى بَرَكَتْ بِمَوْضِعِ مَسْجِدِهِ، وَقَالَ تَحَلْحَلَتْ وَرَزَمَتْ وَأَلْقَتْ بِجِرَانِهَا أَيْ: بِعُنُقِهَا، وَفَسّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى تَلَحْلَحَ أَيْ: لَزِمَ مَكَانَهُ، وَلَمْ يَبْرَحْ، وَأَنْشَدَ:
أُنَاسٌ إذَا قِيلَ انْفِرُوا قَدْ أَتَيْتُمْ ... أَقَامُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَتَلَحْلَحُوا
قَالَ: وَأَمّا تَحَلْحَلَ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ فَمَعْنَاهُ: زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَهَذَا الّذِي قَالَهُ قَوِيّ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنّ التّلَحْلُحَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ لَحِحَتْ عَيْنُهُ: إذَا الْتَصَقَتْ، وهو ابن عمّى لحّا «1» .
__________
(1) فى اللسان «لححت عينه تلحح لححا بإظهار التضعيف، وهو أحد الأحرف التى أخرجت على الأصل من هذا الضرب منبهة على أصلها ودليلا على أولية حالها، والإدغام لغة» وفى إصلاح المنطق لابن السكيت: «كل ما كان على فعلت ساكنة التاء من ذوات التضعيف، فهو مدغم نحو: صمت المرأة وأشباهه إلا أحرفا جاءت نوادر فى إظهار التضعيف، وهى: لححت عينه: إذا النصقت، ومنه قيل: هو ابن عمى لحا، وهو ابن عم لح ولح. وقد مششت الدابة وصككت، وقد ضبب البلد: إذا كثر ضبابه، وقد ألل السقاء: إذا تغيرت ريحه، وقد قطط شعره» ص 242 إصلاح المنطق لابن السكيت ط المعارف وفى اللسان: «وهو ابن عم لح فى النكرة بالكسرة لأنه نعت للعم، وابن عمى لحا فى المعرفة أى: لازق النسب من ذلك، ونصب لحا على الحال، لأن ما قبله معرفة، والواحد والاثنان والجميع والمؤنث فى هذا سواء بمنزلة الواحد. وقال اللحيانى: هما ابنا عم لح ولحا وهما ابنا خالة، ولا يقال: هما ابنا خال لحا، ولا ابنا عمة لحا لأنهما

(4/260)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمّا التّحَلْحُلُ: فَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْحَلّ وَالِانْحِلَالِ بَيّنٌ، لِأَنّهُ انْفِكَاكُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنّ الرّوَايَةَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ: تَحَلْحَلَتْ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْنَى إلّا أَنْ يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ تَلَحْلَحَتْ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: لُصِقَتْ بِمَوْضِعِهَا، وَأَقَامَتْ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي فَسّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَلَحْلَحَتْ.
وَأَمّا قَوْلُهُ: وَرَزَمَتْ فَيُقَالُ: رَزَمَتْ النّاقَةُ رُزُومًا إذَا أَقَامَتْ مِنْ الْكَلَالِ وَنُوقٌ رَزْمَى، وَأَمّا أَرْزَمَتْ بِالْأَلِفِ، فَمَعْنَاهُ: رَغَتْ، وَرَجَعَتْ فِي رُغَائِهَا، وَيُقَالُ مِنْهُ: أَرْزَمَ الرّعْدُ، وَأَرْزَمْت الرّيحُ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ السّيرَةِ: أَنّهَا لَمّا أَلْقَتْ بِجِرَانِهَا فِي دَارِ بَنِي النّجّارِ جَعَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، وَهُوَ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ يَنْخُسُهَا رَجَاءَ أَنْ تَقُومَ فَتَبْرُكَ فِي دَارِ بَنِي سَلِمَةَ، فَلَمْ تَفْعَلْ.
الْمِرْبَدُ وَصَاحِبَاهُ:
وَقَوْلُهُ كَانَ الْمَسْجِدُ مِرْبَدًا. الْمِرْبَدُ وَالْجَرِينُ [وَالْجُرْنُ وَالْمِجْرَنُ] وَالْمِسْطَحُ «1» وَهُوَ بِالْفَارِسِيّةِ: مِشْطَاحٌ وَالْجُوخَارُ وَالْبَيْدَرُ وَالْأَنْدَرُ لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلْمَوْضِعِ الّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الزّرْعُ وَالتّمْرُ لِلتّيْبِيسِ، وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمِسْطَحِ [لِتَمِيمِ بن مقبل] :
__________
مفترقان، إذ هما رجل وامرأة، وإذا لم يكن ابن العم لحا، وكان رجلا من العشيرة قلت: هو ابن عم الكلالة، وابن عم كلالة، هذا والبيت الذى أنشده بن قتيبة هو لابن مقبل وروايته فى اللسان: بحى إذا قيل: اظعنوا ... إلخ.
(1) المسطح تكسر ميمه وتفتح.

(4/261)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَرَى الْأَمْعَزَ الْمَحْزُوّ فِيهِ كَأَنّهُ ... مِنْ الْحَرّ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ مِسْطَحُ «1»
قَالَ: وَالْمَحْزُوّ مِنْ: حزؤت الشّيْءَ: إذَا أَظْهَرْته. وَالْمِسْطَحُ هُوَ بِالْفَارِسِيّةِ: مِشْطَحٌ، وَأَمّا الْمِسْطَحُ الّذِي، هُوَ عُودُ الْخِبَاءِ فَعَرَبِيّةٌ.
وَذَكَرَ أَنّ ذَلِكَ الْمِرْبَدَ كَانَ لِسَهْلِ وَسُهَيْلٍ ابنى عمرو يتيمين فى حجر معاذ بن عَفْرَاءَ وَلَمْ يَعْرِفْهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَا يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ «2» وَهُمَا ابْنَا رَافِعِ بْنِ عمرو بن أبى عمرو بن عبيد ابن ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ شَهِدَ سُهَيْلٌ مِنْهُمَا بَدْرًا، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ يَشْهَدُ سَهْلٌ بَدْرًا، وَشَهِدَ غَيْرَهَا وَمَاتَ قَبْلَ أَخِيهِ سُهَيْلٍ.
حَوْلَ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ: يَا بَنِي النّجّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ «3» [هَذَا] حِينَ أَرَادَ أَنْ يتخذه مسجدا، [فقالوا: لا، والله
__________
(1) روايته فى اللسان:
إذا الأمعز المحزو آض كأنه ... من الحر فى حد الظهيرة مسطح
وقد ذكره اللسان لبيان أن المسطح معناه: حصير يسف من خوص الدوم لا أن المسطح هو البيدر. والأمعز: الأرض الحزنة الغليظة ذات الحجارة أو المكان الصلب الكثير الحصى وقد فسر الأصمعى المربد بقوله: كل شىء حبست فيه الإبل أو الغنم، وبه سمى مربد البصرة، لأنه كان موضع سوق الإبل.
(2) فى رواية أبى ذر وحده: سعد بن زرارة، وفى رواية الباقين: أسعد، وهو الوجه: لأن أخاه سعدا تأخر إسلامه. وحكى الزبير أنهما كانا فى حجر أبى أيوب.
(3) فى رواية للبخارى: ثامنونى حائطكم.

(4/262)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلّا إلَى اللهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصّحِيحِ أَيْضًا: «ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَك يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمّ بَنَاهُ مَسْجِدًا] ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِفِقْهِ، وَهُوَ أَنّ الْبَائِعَ أَوْلَى بِتَسْمِيَةِ الثّمَنِ الّذِي يَطْلُبُهُ، قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ نَخْلٌ وَخِرَبٌ وَمَقَابِرُ مُشْرِكِينَ، فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ «1» فَسُوّيَتْ، وَبِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ.
وَيُرْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ مَكَانَ قَوْلِهِ: وَخِرَبٌ، وَرُوِيَ عَنْ الشّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ: كَانَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَنَى الْمَسْجِدَ يَؤُمّهُ جِبْرِيلُ إلَى الْكَعْبَةِ وَيُقِيمُ له القبلة.
__________
(1) بكسر الخاء وفتح الراء، وقال الخطابى: أكثر الرواة بالفتح، ثم الكسر، وحدثناه الخيام بالكسر ثم الفتح، ثم حكى احتمالات منها: الخرب: بضم أوله وسكون ثانيه، وهى الخروق المستديرة فى الأرض، والجرف بكسر الجيم وفتح الراء: ما تجرفه السيول وتأكله من الأرض، والحدب: المرتفع من الأرض بفتح الحاء والدال. قال: وهذا لائق بقوله: فسويت لأنه إنما يسوى المكان المحدوب وكذا الذى جرفته السيول، وأما الخراب، فيا بنى ويعمر دون أن يصلح ويسوى ... ورد الحافظ فى الفتح عليه: وما المانع من تسوية الخراب بأن يزال ما بقى منه، ويسوى أرضه، ولا ينبغى الالتفات إلى هذه الاحتمالات مع توجيه الرواية الصحيحة. «ص 203 ح 7 فتح البارى ط 1348. وفى بعض الروايات عن معمر عن الزّهْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم أمر أبا بكر أن يعطيهما ثمنه وقال غير معمر: أعطاهما عشرة دنانير، وعند الزبير أن أبا أيوب أرضاهما عن ثمنه.

(4/263)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الرّجُلِ لِعَمّارِ: قَدْ سَمِعْت ما تقول يابن سُمَيّةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ الرّجُلَ، وَكَرِهَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ يُسَمّيَهُ كَيْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكْرُوهِ، فَلَا يَنْبَغِي إذًا الْبَحْثُ عَلَى اسْمِهِ.
سُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ:
وَسُمَيّةُ: أُمّ عَمّارٍ وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهَا فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى وَنَبّهْنَا عَلَى غَلَطِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِيهَا فَإِنّهُ جَعَلَهَا وَسُمَيّةَ أُمّ زِيَادٍ وَاحِدَةً وَسُمَيّةُ أُمّ زِيَادٍ كَانَتْ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبِ، وَالْأُولَى: مَوْلَاةٌ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَهِيَ سُمَيّةُ بِنْتُ خِبَاط «1» ، كَمَا تَقَدّمَ، وَكَانَ أَهْدَى سُمَيّةَ إلَى الْحَرْثِ رَجُلٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ: يُقَالُ لَهُ أَبُو جَبْرٍ، وَذَلِكَ أَنّهُ عَالَجَهُ مِنْ دَاءٍ كَانَ بِهِ فَبَرِئَ، فَوَهَبَهَا لَهُ، وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي جَبْرٍ لِمَلِكِ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَفَدَ عَلَيْهِ أَبُو جَبْرٍ، فَأَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمَلِكُ ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ «2» ، وَفِي جَامِعِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ أَنّ عَمّارًا كَانَ يَنْقُلُ فى بنيان المسجد لبنتين، لبنة
__________
(1) فى الإصابة: سمية بنت خباط بمعجمة مضمومة، وموحدة ثقيلة، ويقال: بمثناة- أى ياء- تحتانية، وعند الفاكهى: سمية بنت خبط بفتح أوله بغير ألف كانت سابعة سبعة فى الإسلام. وما يذكره السهيلى ذكره أبو عمر. أما سمية أم زياد فذكرها ابن حجر فى القسم الثالث، او قال: ولم يرد ما يدل على أنها رأت النبى «ص» وأنها ولدت للحارث بن كلدة التى كان يطؤها بملك اليمين: نافعا ونفيعا. فانتفى منه لأنه رآه أسود، ثم وهبها لزوجته، فزوجتها عبدا روميا لها، فولدت له زيادا فأعتقته صفية زوجة الحارث.
(2) فى الإصابة أن الكوى اليشكرى سبى سمية من الروم، ثم وهبها للحارث ابن كلدة ووهم ابن قتيبة هذا هو فى كتابه المعارف ص 76 ط 1300 هـ.

(4/264)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهُ، وَلَبِنَةً عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنّاسُ يَنْقُلُونَ لَبِنَةً وَاحِدَةً، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلنّاسِ أَجْرٌ وَلَك، أَجْرَانِ، وَآخِرُ زَادِك مِنْ الدّنْيَا شَرْبَةُ لَبَنٍ، وَتَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَلَمّا قُتِلَ يَوْمَ صِفّينَ دَخَلَ عَمْرٌو عَلَى مُعَاوِيَةَ فَزِعًا، فَقَالَ: قُتِلَ عَمّارٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَاذَا؟ فَقَالَ عَمْرٌو:
سَمِعْت رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ دُحِضْت فِي بَوْلِك «1» ، أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ؟ إنّمَا قَتَلَهُ من أخرجه «2» ؟!
__________
(1) زلقت.
(2) وروى البيهقى فى الدلائل هذا الحديث عن عبد الرحمن السلمى أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ما قال، قال: أى رجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَسْجِدَ فكنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين إلخ وهذا يقتضى أن هذا البناء كان فى الخامسة من الهجرة أو بعدها، لأن عمرا أسلم فى الخامسة!! ويقول الإمام ابن تيمية تعليقا على حديث: تقتلك الفئة الباغية «تكلم فيه بعضهم، وبعضا تأوله على أن الباغى: الطالب، وهذا لا شىء، وأما السلف كأبى حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، فيقولون لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية، فإن الله لم يأمر بقتالها ابتداء، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما، ثم: إن بغت إحداهما قوتلت، ولهذا كان هذا القتال عند أحمد ومالك قتال فتنة؛ وأبو حنيفة يقول: لا يجوز قتال البغاة حتى يبدؤا بقتال الإمام، وهؤلاء لم يبدؤا» وفى مكان آخر يقول: «كان على ومعاوية رضى الله عنهما أطلب لكب الدماء من أكثر المقتتلين، لكن غلبا فيما وقع، والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها، وكان فى العسكرين مثل الأشتر النخعى، وهاشم بن عتبة المرقال، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبى الأعور السلمى، ونحوهم من المحرضين على القتال. قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار، وقوم ينفرون عنه، وقوم ينتصرون لعلى، وقوم ينفرون عنه،

(4/265)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إضَافَةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ إلَى عَمّارٍ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي عَمّارٍ، وَهُوَ: أَوّلُ مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَيُقَالُ: كَيْفَ أَضَافَ إلَى عَمّارٍ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ بَنَاهُ مَعَهُ النّاسُ؟ فَيَقُولُ إنّمَا عَنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، لِأَنّ عَمّارًا هُوَ الّذِي أَشَارَ عَلَى النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبُنْيَانِهِ، وَهُوَ جَمَعَ الْحِجَارَةَ لَهُ، فَلَمّا أَسّسَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَتَمّ بُنْيَانَهُ عَمّارٌ.
أَطْوَارُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ:
كَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ: وَبُنِيَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسُقِفَ بِالْجَرِيدِ وَجُعِلَتْ قِبْلَتُهُ مِنْ اللّبِنِ، وَيُقَالُ: بَلْ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْضُودَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَجُعِلَتْ عمده من جذوع
__________
وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم» ص 263 ولقد حاول ملك الروم استغلال معركة صفين، فحشد جيوشا كثيرة وحاول الاقتراب من الحدود الإسلامية، فكتب إليه معاوية رضى الله عنه: «والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، لأصطلحن أنا وابن عمى عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت» فجبن ملك الروم ح 8 ص 189 البداية والنهاية لابن كثير. ويقول الأستاذ محب الخطيب: «وكان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغى فى حرب صفين لأنه لم يردها، ولم يبتدئها، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج على من الكوفة، وضرب معسكره فى النخيلة ليسير إلى الشام، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية: إنما قتله من أخرجه» انظر ص 251. ص 263 من كتاب المنتقى للامام الذهبى الذى اختصر فيه كتاب منهاج السنة للامام ابن تيمية.

(4/266)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّخْلِ، فَنُخِرَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَجَرّدَهَا، فَلَمّا كَانَ عُثْمَانُ بَنَاهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ بِالْقَصّةِ وَسَقَفَهُ بِالسّاجِ «1» ، وَجَعَلَ قِبْلَتَهُ مِنْ الْحِجَارَةِ، فَلَمّا كَانَتْ أَيّامُ بَنِي الْعَبّاسِ بَنَاهُ مُحَمّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُتَسَمّي بِالْمَهْدِيّ، وَوَسّعَهُ وَزَادَ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتّينَ وَمِائَةٍ، ثُمّ زَادَ فِيهِ الْمَأْمُونُ بْنُ الرّشِيدِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وأثقن بُنْيَانَهُ، وَنَقَشَ فِيهِ: هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ الْمَأْمُونُ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهِ، ثُمّ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ أَحَدًا غَيّرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا أَحْدَثَ فِيهِ عَمَلًا.
بُيُوتُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَأَمّا بُيُوتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَكَانَتْ تِسْعَةً، بَعْضُهَا مِنْ جَرِيدٍ مُطَيّنٍ «2» بِالطّينِ وَسَقْفُهَا جَرِيدٌ، وَبَعْضُهَا مِنْ حِجَارَةٍ مَرْضُومَةٍ، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، مُسَقّفَةٌ بِالْجَرِيدِ أَيْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ «3» : كُنْت أدخل بيوت النبى
__________
(1) القصة: الجص لغة حجازية، وتقصيص الدار: تجصيصها والساج: ضرب من الشجر يعظم جدا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير، يتغطى الرجل بورقة منه فيقيه المطر، واحدته: ساجة «المعجم الوسيط» ورواية الصحيحين عن القبلة: «فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة» وعضادتا الباب: خشبتان منصوبتان مثبتتان فى الحائط على جانبيه ويقال إن معنى صف للنخل قبلة له: جعلها سوارى فى جهة القبلة، ليسقف عليها، كما فى الصحيح من أن عمده كانت خشب النخل.
(2) ينكر بعضهم هذه اللغة، ويقول، طانه من باب باع، فهو مطين بفتح فكسر.
(3) ذكر فى إعلام الساجد لمحمد بن عبد الله الزركشى أنه: الحسن البصرى وذكر أنه نقله عن السهيلى. انظر ص 224.

(4/267)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ السّلَامُ، وَأَنَا غُلَامٌ مُرَاهِقٌ، فَأَنَالُ السّقْفَ بِيَدِي، وَكَانَتْ حُجَرُهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- أَكْسِيَةٌ مِنْ شَعْرٍ مَرْبُوطَةٌ فِي خَشَبٍ عَرْعَرٍ «1» وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيّ أَنّ بَابَهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- كَانَ يُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ، أَيْ لَا حِلَقَ لَهُ، وَلَمّا تُوُفّيَ أَزْوَاجُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ خُلِطَتْ الْبُيُوتُ وَالْحُجَرُ بِالْمَسْجِدِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمّا وَرَدَ كِتَابُهُ بِذَلِكَ ضَجّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالْبُكَاءِ، كَيَوْمِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَكَانَ سَرِيرُهُ خَشَبَاتٌ مَشْدُودَةٌ بِاللّيفِ، بِيعَتْ زَمَنَ بَنِي أُمَيّةَ، فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ بُيُوتَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ، فَهِيَ إضَافَةُ مِلْكٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى أَزْوَاجِهِ كَقَوْلِهِ: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فَلَيْسَتْ بِإِضَافَةِ مِلْكٍ، وَذَلِكَ أَنّ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَلَيْسَ بِمَوْرُوثِ عَنْهُ «2» .
__________
(1) جنس أشجار وجنبات من فصيلة الصنوبريات. فيه أنواع تصلح للأخراج وللنزبين أنواعه كثيرة «المعجم الوسيط» وفى القاموس أنه شجر السرو فارسية.
(2) وعن المسجد والبيوت روى عن النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله «ص» يصلى بالناس الصلوات الخمس، ويجمع بهم فى مسجد بناه فى مربد سهل وسهيل ابنى رافع ابن أبى عمرو بن عايد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النجار قالت: فأنظر إلى رسول الله «ص» لما قدم صلى بهم فى ذلك المسجد وبناه، فهو مسجده اليوم. ووقع فى رواية عطاف بن خالد عند ابن عايد أنه «ص» صلى فيه- وهو عريش- اثنى عشر يوما، ثم بناه، وسقفه وسيأتى ما يشهد له. وروى أحمد عن طلحة بن على قال: جئت إلى النبى «ص» وأصحابه يبنون. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المسجد، قال: فكأنه لم يعجبه عملهم، قال: فأخذت المسحات، فخلطت بها الطين، فكأنه أعجبه أخذى المسحاة وعملى، فقال: دعوا الحنفى والطين، فإنه من أصنعكم للطين. وفى كتاب رزين أن الصحابة لما كثروا قالوا: يا رسول الله لو زيد فيه، ففعل، فرفعوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة وجعلوا طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وكذا فى العرض. وكان مربعا. وفى حديث حصار عثمان يأتى قول عثمان: أنشدكم بالله الذى لا إله إلا هو. أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يبتاع مربد بنى فلان غفر الله له، فابتعته بعشرين ألفا، أو خمسة وعشرين ألفا، فأتيت النبى «ص» فقلت: قد ابتعته، فقال: جعله فى مسجدنا، وأجره لك؟ قالوا: اللهم نعم، هذا وقد ورد فى ذرع المسجد هذا عدة روايات: فهو سبعون ذراعا فى ستين أو يزيد «الذراع المقصود ذراع الآدمى» ، أو هو مائة ذراع فى مائة وأنه مربع، أو هو: أقل من مائة، وقيل إنه بناه أو لا أقل من مائة فى مائه ثم بناه وزاد عليه مثله فى الدور، وليس المراد هنا فى هذه الرواية مثله فى الأذرع لأنه كان حتى نهاية القرن التاسع الهجرى لا يبلغ مائة وخمسين ذراعا والرواية الأولى بالقبول أنه كان سبعين فى ستين. الصفة: هى- كما قال ابن حجر- مكان فى مؤخر المسجد مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له، ولا أهل، وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر. وعن ابن سعد أن أهل الصفة كانوا أناسا فقراء لا منازل لهم. فكانوا ينامون فى المسجد لا مأوى لهم غيره، وقريب من هذا فى البخارى. الزيادات فى المسجد: روى البخارى وأبو داود عن نافع أن عبد الله ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه فى عهد رسول الله «ص» باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا، ثم غيره عثمان، فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جداره. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. زيادة عمر: فى الحديث السابق ورد أن عمر زاد فيه، وقد روى أحمد عن نافع أن عمر «رض» زاد فى المسجد من الأسطوانة إلى المقصورة، وقال عمر: لولا أنى سمعت رسول الله «ص» يقول: ينبغى أن نزيد فى المسجد ما زدت فى المسجد شيئا. وذكر ابن سعد أنه لما كثر المسلمون فى عهد عمر رضى الله عنه- وضاق بهم المسجد، اشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين. ولكن العباس تصدق بداره، فقبلها عمر، وأدخلها فى المسجد- وروى البيهقى نحوه فى كتاب الرجعة عن أبى هريرة. وحسبنا هذا زيادة عثمان: لما ولى عثمان كلمه الناس أن يزيد فى مسجدهم، وشكوا إليه صفة يوم الجمعة حتى إنهم ليصلون فى الرحاب. فشاور عثمان أهل الرأى، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه وفى البخارى ومسلم عن عبيد الله الخولانى أنه سمع عثمان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول «ص» إنكم قد أكثر ثم، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بنى مسجد الله بنى الله له فى الجنة مثله، وفى مسلم أنه أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك، وأحبوا أن يدعه على هيئته. وقد روى أن عثمان بدأ بهذا فى شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين وأنه فرع منه حين دخلت السنة لهلال المحرم سنة ثلاثين، أو قبل أن يقتل بأربع سنين ويروى أن القصة «الجص» كانت تحمل إلى عثمان، وهو يا بنى مسجد رسول الله- ص- من بطن نخل، وأنه كان يقوم على رجليه، والعمال يعملون فيه، حتى تأتى الصلاة، فيصلى بهم، وربما نام ثم رجع، وربما نام فى المسجد. وعن خارجة بن زيد قال: هدم عثمان بن عفان المسجد، وزاد فى قبلته، ولم يزد فى شرقيه، وزاد فى غربيه قدر أسطوانه، وبناه بالحجارة المنقوشة والقصة وعسب النخل والجريد وبيضه بالقصة، وقدر زيد بن ثابت أساطينه، فجعلها على قدر

(4/268)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
النخل، وجعل فيه طبقانا مما يلى المشرق والمغرب، وزاد فيه إلى الشام خمسين ذراعا.. وهناك عدة روايات أخرى بعضها يقارب هذه والآخر يباعدها زيادة الوليد بن عبد الملك: نقل رزين أن المسجد بعد أن زاد فيه عثمان «رضى الله عنه لم يزد فيه على ولا معاوية رضى الله عنهما، ولا يزيد ولا مروان ولا ابنه عبد الملك شيئا، حتى كان الوليد بن عبد الملك وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة، ومكة، فبعث الوليد إلى عمر بن عبد العزيز بمال، وقال له: من باعك، فأعطه ثمنه، ومن أبى فاهدم عليه، وأعطه المال، فان أبى أن يأخذه فاصرفه إلى الفقراء. وقد روى أن عمر اشترى ما حول المسجد من المشرق والمغرب والشام، وأنه أراد ابتياع بيت حفصة رضى الله عنها، فأرسل إلى رجال من آل عمر، وانتهى الأمر إلى هدم البيت لإدخاله فى المسجد، وإلى إعطائهم طريقا إلى المسجد تنتهى إلى الأسطوانة، مع توسعتها. وكانت قبل ذلك ضيقة قدر ما يمر الرجل منحرفا. هذا وتجمع أخبار المؤرخين على أن حجر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أدخلت فى المسجد بأمر الوليد، ويقول عطاء الخراسانى: حضرت كتاب الوليد يقرأ يأمر بإدخال حجر أزواج النبى «ص» فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم. قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها. ويقول عبد الله بن زيد الهذلى أنه رأى بيوت أزواج النبى «ص» حين هدمها عمر كانت باللبن ولها حجر من جريد مطرود بالطين عددت تسعة أبيات بحجراتها. وكانت الحجرات شرقى المسجد وقبليه، خارجة من المسجد مديرة به إلا من الغرب، وهذا الرأى يخالف ما ذكر السهيلى من أنها أدخلت فى زمن عبد الملك. كما أدخل فيه عمر دور عبد الرحمن بن عوف الثلاث التى يقال لها: القرابين ويقال إن الوليد طلب من ملك الروم أن يعينه بعمال وفسيفساء، فبعث إليه بأحمال منها، وبعدد من العمال. قيل كانوا ثمانين: أربعين من الروم وأربعين من القبط.، كما قيل إنه بعث إليه بعدة ألوف من الذهب، وبأحمال من سلاسل القناديل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال إن عمر هدمه سنة إحدى وتسعين هـ وأن البناء كان بالحجارة المنقوشة، وقصة بطن نخل وعمله بالفسيفساء وهى ألوان من الخرز يركب فى حيطان الببوت والمرمر، وعمل سقفه بالساج، وماء الذهب، وجعل عمد المسجد من حجارة حشوها عمد الحديد والرصاص، ويقال إن عمر لما صار إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالى، فجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، فكانت زيادة الوليد من المشرق إلى المغرب ست أساطين، وزاد إلى الشام من الأسطوانة المربعة التى فى القبر أربع عشرة أسطوانة. ومكث فى بنائه ثلاث سنين. كما روى أن عمل القبط كان مقدم المسجد، وكانت الروم تعمل ما خرج من المسجد جوانبه ومؤخره، فقال سعيد بن المسيب عن القبط: عمل هؤلاء أحكم. ويروى أن عثمان مات وليس فى المسجد شرفات ولا محراب، وأن أول من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز، وأنه هو الذى عمل الميازيب التى من الرصاص، ولكن روى من طريق آخر أن الذى عمل الشرفات هو عبد الواحد بن عبد الله وهو وال على المدينة سنة أربع ومائة. وعمر توفى سنة 101 ولما احترق المسجد جددت له شرفات سنة 767 فى أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد صاحب مصر. أما مناراته «مآذنه» فأحدثها عمر أيضا ويشهد لهذا ما رواه ابن إسحاق وأبو داود والبيهقى أن امرأة من بنى النجار قالت: كانت بيتى من أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة، فيأتى بسحر، فيجلس على البيت، لينظر إلى الفجر، فإذا رأى تمطى، ثم قال: اللهم إنى أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك، قالت: ثم يؤذن. القبر: حين رزىء المسلمون بموت النبى عليه الصلاة والسلام اختلفوا فى مكان دفنه، ثم روى لهم أنه يدفن حيث مات، فاهتدوا، وكان أبو عبيدة يضرح- والضرح هو الشق فى وسطه القبر- وأبو طلحة يلحد- واللحد: الشق يعمل فى جانب القبر، فيميل عن وسطه- فقال الصحابة: نستخير ربنا، ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما، فسبق أبو طلحة، فلحدوا للنبى كما ورد فى مسند أحمد وسنن ابن ماجة وغيرهما.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلما دفن فى حجرة السيدة عائشة حيث مات قالت ابنته فاطمة: أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله «ص» التراب، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلا لأنا قهرنا على فعله امتثالا لأمره. وقد روى البخارى فى موضعين من الجنائز، وفى المغازى، ومسلم فى الصلاة أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى لم يقم منه- أو توفى فيه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشى- أو خشى- أن يتخذ قبره مسجدا» ولم يجلس أحد على قبره صلى الله عليه وسلم ولم يصل إليه، ولا عليه، لأنه قال- كما روى مسلم: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها أو عليها، وروى مسلم أنه قال هذا فى مرضه الذى مات منه قبل موته بخمس وأنه قال: «فلا تتخذوا القبور مساجد، فانى أنهاكم عن ذلك» ولم يزره رجل ولا امرأة، ولم يعلق عليه قنديل ولا غيره، لأن الواقع كان يمنع الرجال من ذلك، أفكان يستطيع أحد أن يقتحم على عائشة بيتها؟ ثم إن ابن عباس روى لهم ما يأتى: «لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج «رواه الخمسة إلا بن ماجة، كما روى لهم أبو هريرة ما يأتى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر» ، ولم يجصص قبره عليه الصلاة والسلام، ولم يكتب عليه شىء، لأن جابرا روى لهم: «نهى النبى صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يا بنى عليه، رواه أحمد ومسلم والنسائى وأبو داود والترمذى وصححه، ولفظه: «نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يا بنى عليها، وأن توطأ» وفى لفظ النسائى: «ونهى أن يا بنى على القبر، أو يزاد عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه» . ولم يستطع أحد أن يقيم له ضريحا، أو يعلى من قبره، لأنهم كانوا يعلمون
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ما قاله على لأبى الهياج الأسدى «أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا تدع تمثالا إلا طمسته. ولا قبرا مشرفا إلا سويته» رواه الجماعة إلا البخارى وابن ماجة. وكان هديهم هذا، فقد روى مسلم أن فضالة بن عبيد أمر بقبر فسوى، ثم قال: سمعت رسول الله «ص» يأمر بتسويتها. ولقد روى ابن سعد فى طبقاته بسنده عن مالك بن أنس: قسم بيت عائشة بأثنين: «قسم كان فيه القبر، وقسم كان تكون فيه عائشة، وبينهما حائط فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلا، فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهى جامعة عليها ثيابها» كما روى أن عمر هو أول من بنى جدارا على بيت النبى «ص» . وورد أن هذا الجدار كان قصيرا ثم بناه عبد الله بن الزبير. وروى البخارى فى صحيحه من حديث هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عنهم الحائط- يعنى حائط حجرة النبى «ص» فى زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان أخذوا فى بنائه فقيدت لهم قدم، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبى «ص» فما وجدوا أحدا يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هى قدم النبى «ص» ما هى إلا قدم عمر ولما أدخل عمر بن عبد العزيز حجرات أزواج النبى «ص» فى المسجد نازله عروة منازلة شديدة كيلا يجعل قبر النبى «ص» فى المسجد، فأبى وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه، ولكنه جعل حجرة السيدة عائشة مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلى إلى جهة القبر الكريم مع استقبال القبلة.. ثم جدث ما جدث، واقترف الناس ما اقترفوا من عبادة للقبر. لهذا يجب العمل على إفراد القبر عن المسجد اهتداء بهدى الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم- فليس من تكريم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يعبد قبره من دون الله، أو أن يتمسح به، أو يستجار به، أو. أو ... مما يحاول اقترافه عبدة الشياطين. وما أجمل ما قاله الإمام الشوكانى وهو يشرح حديث النهى عن رفع القبور. «ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولا أوليا: القبب والمشاهد المعمورة على القبور. وأيضا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبى «ص» فاعل ذلك ... وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكى لها الإسلام. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك، قظنوا أنها قادرة على جلب النفع، ودفع الضر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله، ويغار حمية للدين الحنيف لا عالما، ولا متعلما، ولا أميرا، ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرا، فاذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولى الفلانى تلعثم وتلكلأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثانى اثنين أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين: أى رزء للاسلام أشد من الكفر؟! وأى بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأى مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟ وأى منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟!
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو نارا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ فى رماد
أفيسمع المسلمون من رجل لا يستطيع أحد أن ينال من علمه وفقهه وإخلاصه؟؟ وإنه ليروى أن الوليد لما قدم حاجا جعل يطوف فى المسجد، وينظر إليه. ويصيح بعمر هاهنا، ومعه أبان بن عثمان: فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد التفت إلى أبان، وقال: أين بناؤنا من بنائكم؟ قال أبان: إنا بنيناه بنيان المساجد وبنيثموه بناء الكنائس ص 370 السمهودى ح 1 وصف المسجد فى القرن السادس: وقد ورد للمسجد وصف دقيق من كاتب مراكشى عاش فى القرن السادس الهجرى ننقله بنصه عن كتابه «الاستبصار. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فى عجائب الأمصار» : «ومسجد النبى «ص» مستطيل غير مربع يزيد طوله على عرضه مائة ذراع، وسماء المسجد منقوشة مدهونة محفورة مذهبة كلها على عتب منقوشة على أعمدة خرز أسود بعضه على بعض ملبسة بالجيار، وهو ليس على أقواس إلا ما كان إلى الصحن، فانه أقواس معقودة وجوهها منزولة بالفسيفساء على أعمدة من خرز ملبسة بالجيار والأعمدة التى إلى صحن المسجد هى أقصر من التى عليها سماء المسجد، وتلك الأقواس التى إلى صحن المسجد مغلقة بشرا جيب الساج، مقدم المسجد خمس بلاطات معترضة، ومؤخره مثل ذلك، ومجنبة المسجد الشرقية فيها ثلاث بلاطات معترضة، ومجنبته الغربية أربع بلاطات، ومن مقدم المسجد إلى الصحن أحد عشر قوسا، وكذلك من مجنبته الآخرى. وطول المسجد من ركن منار بلال- رضى الله عنه- وهو الذى بإزاء قبر النبى «ص» إلى ركن مؤخره، وعرضه من باب جبريل عليه السلام، وهو الذى بإزاء قبر النبى «ص» إلى باب الرحمة التى بجنب دار السيدة مائة وسبعون ذراعا» ص 37 ط 1958 نشر وتعليق الدكتور سعد زغلول عبد الحميد. حجرات أزواج النبى «ص» : يقول الذهبى فى بلبل الروض: لم يبلغنا أنه عليه السلام بنى له تسعة أبيات حين بنى المسجد، ولا أحسبه بعد ذلك. إنما كان يريد بيتا واحدا حينئذ لسودة أم المؤمنين، ثم لم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى بعائشة فى شوال سنة اثنتين، وكأنه عليه السلام بناها فى أزمان مختلفة» ص 224 أعلام الساجد. وفى رواية أنه لما انصرف النبى «ص» من خيبر وزاد فى مسجده البنية الثانية ضرب الحجرات ما بين القبلة إلى الشام، ولم يضربها غربية، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من الغرب. وكانت لها أبواب فى المسجد. وسائر الروايات غير ما ذكر السهيلى تقرر أن أبواب بيوت زوجات النبى كانت مستورة بالمسوح، وقال ابن عطاء عن أبيه: وكانت بيوت أزواج النبى «ص» يقوم الرجل فيمس سقف البيت، والحجرات سقف عليها المسوح، وقد وصف عطاء الخراسانى حجرات أزواج النبى بأنها كانت من جريد على أبوابها المسوح. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
من شعر أسود. كما يروى أن أحدهم قال حين هدمت: ليتها تركت حتى يقصر الناس عن البناء، ويرى الناس ما رضى الله لنبيه، وخزائن الدنيا بيده. هذا ولفظ الحجرة فى هذه الآثار لا يراد به جملة البيت كما فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ: بل يراد ما يتخذ حجرة للبيت عند بابه مثل الحريم للبيت، وكانت هذه من جريد النخل، بخلاف الحجر التى هى المساكن فانها كانت من اللبن، كما يروى أن بعضهن كانت له حجرة، وبعضهن لم يكن له حجرة، وكان بيت فاطمة مع على خلف حجرة عائشة لم يزل حتى أدخله الوليد فى المسجد، وكان بيت عائشة مما يلى الشام، وكان ذا مصراع واحد. ومما يوضح مسمى الحجرة التى قدام البيت ما فى سنن أبى داود وغيره عن ابن عمر: قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاة المرأة فى بيتها أفضل من صلاتها فى حجرتها، وصلاتها فى مخدعها أفضل من صلاتها فى بيتها» فالمخدع أستر من البيت الذى يقعد فيه، والبيت أستر من الحجرة التى هى أقرب إلى الباب والطريق، وكانت حجر عائشة وسودة وحفصة- رضى الله عنهن- لاصقة بالمسجد لأنه بنى بهن قبل غيرهن، وآخر من تزوجها صفية لما فتح خيبر سنة تسع من الهجرة، وحينئذ اتخذ لها بيتا، وكان أبعد عن المسجد من غيره كما يستفاد من حديث ورد فى الصحيحين، وفيه أنه خرج مع صفية من المسجد ليوصلها إلى سكنها، ولو كان بيتها متصلا بالمسجد لم يفعل. وحين دخلت حجرة عائشة فى المسجد سد عمر بن عبد العزيز باب الحجرة، وبنى حائطا آخر عليها غير الحائط القديم. فالواجب- كما بينا من قبل- أن يعود كل شىء إلى مكانه، وأن يفصل بين القبر والمسجد، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، «انظر كتابى الرد على البكرى والرد على الإخنائى للامام ابن تيمية المطبوعين معا سنة 1346 هـ ولا سيما من ص 184 من كتاب الرد على الإخنائى، وانظر ص 292 وما بعدها ح 8 شرح المواهب اللدنية، وكتاب وفاء الوفاء ح 1 من ص 229 إلى 379 ط 1326 هـ ونيل الأوطار ح 4 ص 83 ط عثمان خليفة 1357 وكتاب الخصائص للسيوطى ص 396 ح 3 بتحقيق فضيلة الشيخ هراس.

(4/271)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُبّ حَبّابٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ، وَقَوْلَهَا: انْكَسَرَ حُبّ لَنَا. الْحُبّ جَرّةٌ كَبِيرَةٌ، جَمْعُهُ [أُحْبٌ وَحِبَابٌ] حِبَبَةٌ مِثْلُ جُحْرٍ وَجِحَرَةٌ [وَأَجْحَارٌ وَجُحْرٌ] وَكَأَنّهُ أَخَذَ لَفْظَهُ مِنْ حِبَابِ الماأ أَوْ مِنْ حَبَبِهِ، وَحَبَابِهِ بِالْأَلِفِ:
تَرَافُعُهُ. قَالَ الشّاعِرُ:
كَأَنّ صَلَا جَهِيزَةَ حِينَ تَمْشِي ... حَبَابَ الماء يتّبع الحبابا «1»
__________
نشر دار الكتاب الحديثة، والنصوص التى نقلتها عن الحجرات نقل أكثرها الإمام ابن تيمية عن كتاب أخبار المدينة لأبى زيد عمر بن شبة النميرى، وانظر كتاب القرى للمحب الطبرى ص 629 ط الحلبى. وأما السرير الذى تحدث عنه السهيلى، فقد ورد فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها: إنما كان فراش رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي ينام عليه أدما- أى: جلدا- حشوه: ليف» وكذلك رواه الترمذى. وورد أنه نام على حصير أثر فى جنبه «أحمد وابن ماجة والترمذى، والحاكم» وروى ابن حبان أنه كان لرسول الله «ص» سرير مرمل- بضم الميم وفتح الراء وتشديد الميم المفتوحة- بالبردى، وعليه كساأ أسود محشو بالبردى والبردى نبات يعمل منه الحصر. والمعنى: أن قوائم السرير موصولة مغطاة بما نسج من نبات البردى. وفى حديث عمر أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو جالس على رمال سرير وفى روآية: على رمال حصير. والرمال: ما رمل أى نسج.
(1) البيت فى اللسان فى مادة حبب غير منسوب إلى أحد وفيه قامت بدلا من. تمشى، وفيه الحبب: حبب الماء وهو تكسره وهو الحباب ... وقبل حباب الماء موجه الذى يتبع بعضه بعضا ... وقال الأصمعى: حباب الماء الطرائق التى فى الماء كأنها الوشى» والصلا: العجيزة.

(4/278)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْحَبَبُ بِغَيْرِ أَلِفٍ نُفّاخَاتٌ بِيضٌ صِغَارٌ تَكُونُ عَلَى وَجْهِ الشّرَابِ قَالَهُ ابْنُ ثَابِتٍ «1» .
الثّومُ:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّ أَيّوبَ- حِينَ رَدّ عَلَيْهَا الثّرِيدَ مِنْ أَجْلِ الثّومِ: أَنَا رجل أناحى، وَرَوَى غَيْرُهُ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ، وَقَالَ فِيهِ: إن الملائكة تتأذى بما يتأذى به الإنس «2» . وَرُوِيَ أَنّ خُصَيْفَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْمَنَامِ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ: الْحَدِيثُ الّذِي تَرْوِيهِ عَنْك أُمّ أَيّوبَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذّى بِمَا يَتَأَذّى بِهِ الْإِنْسُ أَصَحِيحٌ هُوَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
مَصِيرُ مَنْزِلِ أَبِي أَيّوبَ وَمَنْزِلُ أَبِي أَيّوبَ الّذِي نَزَلَ فِيهِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَصِيرُ بَعْدَهُ إلَى أَفْلَحَ مَوْلَى أبى أيوب، فاشتراه منه بعد ما خرب، وتثلّمت حيطانه
__________
(1) فى اللسان عن الحباب- بالألف- أنها النفاخات والفقاقيع التى تطفو على وجه الماء كأنها القوارير. وحبب الأسنان: تنضدها.
(2) ورد حديث أبى أيوب فى مسلم وفيه أن أبا أيوب سأل رسول الله «ص» : أحرام هو؟ قال: لا، ولكن أكرهه من أجل ريحه. قال أبو أيوب: فانى أكره ما كرهت. وعن جابر أن النبى «ص» قال: من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو قال: فليعتزل مسجدنا، أو ليقعد فى بيته، وإن النبى «ص» أتى بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحا، فقال قربوها إلى بعض أصحابه وقال: كل فانى أناجى من لا تناجى» متفق عليه.

(4/279)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ بَعْدَ حِيلَةٍ احْتَالَهَا عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ ذَكَرَهَا الزّبَيْرُ، ثُمّ أَصْلَحَ الْمُغِيرَةُ مَا وَهَى مِنْهُ، وَتَصَدّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ أَفْلَحَ يَقُولُ لِلْمُغِيرَةِ: خَدَعْتنِي، فَيَقُولُ لَهُ الْمُغِيرَةُ: لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ. هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ «1»
مِنْ قِصّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ بَنِي جَحْشٍ وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ:
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
أَبُو أَحْمَدَ هَذَا اسْمُهُ عَبْدٌ، وَقِيلَ: ثُمَامَةُ، وَالْأَوّلُ أَصَحّ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَبِهَذَا السّبَبِ تَطَرّقَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى بَيْعِ دَارِ بَنِي جَحْشٍ إذْ كَانَتْ بِنْتُهُ فِيهِمْ. مَاتَ أَبُو أَحْمَدَ بَعْدَ أُخْتِهِ زَيْنَبَ أم المؤمنين فى خلافة عمر.
وَقَوْلُهُ لِأَبِي سُفْيَانَ طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ مُنْتَزَعٌ من قول النبى- صلى الله
__________
(1) ذكر ابن إسحاق أن بيت أبى أيوب بناه تبع الأول لما مر بالمدينة للنبى «ص» ينزله إذا قدم المدينة!! فتداول البيت الملاك إلى أن صار لأبى أيوب!! وهى ولا شك خرافة حين يقال إن تبعا بناها للنبى «ص» فما كان تبع إلها حتى يعرف الغيب، أو ما كان تبع يعرف ما لم يعرفه النبى نفسه حتى ليلة الوحى.. ويقال إن الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل سيف الدين بكر بن أيوب بن شادى اشترى عرصة دار أبى أيوب، وبناها مدرسة لتدريس المذاهب الأربعة.

(4/280)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ «1» وَقَالَ طَوْقَ الْحَمَامَهْ، لِأَنّ طَوْقَهَا لَا يُفَارِقُهَا، وَلَا تُلْقِيهِ عَنْ نَفْسِهَا أَبَدًا، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَبِسَ طَوْقًا مِنْ الْآدَمِيّينَ، فَفِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ السّمَانَةِ وَحَلَاوَةِ الْإِشَارَةِ وَمَلَاحَةِ الِاسْتِعَارَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: طَوْقَ الْحَمَامَةِ رَدّ عَلَى مَنْ تَأَوّلَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: طُوّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ أَنّهُ مِنْ الطّاقَةِ، لَا مِنْ الطّوْقِ فِي الْعُنُقِ، وَقَالَهُ الْخَطّابِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، مَعَ أَنّ الْبُخَارِيّ قَدْ رَوَاهُ، فَقَالَ فِي بَعْضِ رِوَايَتِهِ لَهُ: خُسِفَ بِهِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ «2» ، وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ جَاءَ بِهِ إسْطَامًا فِي عُنُقِهِ، وَالْأَسْطَامُ كَالْحِلَقِ مِنْ الْحَدِيدِ، وَسِطَامُ السّيْفِ. حَدّهُ «3» .
الْخُطْبَةُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِيهَا يَقُولُ اللهُ عَزّ وَجَلّ لِعَبْدِهِ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْك، فَمَاذَا قَدّمْت، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ زِيَادَةٌ، وَهِيَ: أَلَمْ أوتك مالا، وجعلتك ترباع وَتَدْسَعُ؟
وَفَسّرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ، فَقَالَ: هُوَ مَثَلٌ، وأصله: أن الرئيس من العرب كان
__________
(1) متفق عليه.
(2) فسرها ابن الأثير فى النهاية بما يأتى: أى يخسف الله به الأرض فتصير القطعة المغصوبة فى عنقه كالطوق، وقيل: هو أن يطوق حملها يوم القيامة، أى يكلف، فيكون من طوق التكليف لا من طوق التقليد.
(3) سطام أو إسطام: الحديدة التى تحرك بها النار وتسعر «النهاية لابن الأثير» .

(4/281)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرباع قَوْمَهُ أَيْ: يَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ إذَا غَزَا وَيَدْسَعُ: أى يعطى ويدافع مِنْ الْمَالِ لِمَنْ شَاءَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ ضَخْمُ الدّسِيعَةِ «1» .
الْحُبّ:
وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثّانِيَةَ، وَفِيهَا: أَحِبّوا اللهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ، يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ حُبّ اللهِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْقَلْبِ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُ وَعَمَلُهُ خَارِجًا مِنْ قَلْبِهِ خَالِصًا لِلّهِ، وَإِضَافَةُ الْحُبّ إلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ مَجَازٌ حَسَنٌ لِأَنّ حَقِيقَةَ الْمَحَبّةِ: إرَادَةٌ يُقَارِنُهَا اسْتِدْعَاءٌ لِلْمَحْبُوبِ إمّا بِالطّبْعِ، وَإِمّا بِالشّرْعِ، وَقَدْ كَشَفْنَا مَعْنَاهَا بِغَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّ اللهَ [تَعَالَى] جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ «2» ونبهنا هنا لك عَلَى تَقْصِيرِ أَبِي الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللهُ فِي شَرْحِ الْمَحَبّةِ فِي كِتَابِ الْإِرَادَةِ مِنْ كِتَابِ الشامل فلتنظر هنا لك «3» .
__________
(1) أصل الدسع: الدفع. وضخم الدسيعة: واسع العطية، ومعنى ألم أجعلك إلخ- كما فى النهاية لابن الأثير: ألم أجعلك رئيسا مطاعا، لأن الملك كان يأخذ الرباع من الغنيمة فى الجاهلية دون أصحابه.
(2) رواه مسلم والترمذى والطبرانى فى الكبير والحاكم فى مستدركه.
(3) أحسن من تكلم عن الحب هو الإمام ابن القيم فى كتابيه «روضة المحبين» وكتاب «مدارج السالكين» وفى هذا الأخير يقول الإمام الجليل إن الكلام عن الحب معلق بطرفين: «محبة العبد لربه، وطرف محبة الرب لعبده. والناس فى إثبات ذلك ونفيه أربعة أقسام: فأهل يحبهم الله ويحبونه على إثبات الطرفين، وأن محبة العبد لربه فوق كل محبة تقدر، ولا نسبة لسائر المحاب إليها، وهى حقيقة: لا إله إلا الله، وكذلك عندهم محبة الرب لأوليائه وأنبيائه ورسله صفة زائدة على رحمته وإحسانه، وعطائه، فإن ذلك أثر المحبة وموجبها،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنه لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وبره أتم نصيب. والجهمية المعطلة عكس هؤلاء، فانه عندهم لا يحب ولا يحب، ولم يمكناهم تكذيب النصوص، فأولوا نصوص محبة العباد له على محبة طاعته وعبادته. والازدياد من الأعمال؛ لينالوا بها الثواب، وإن أطلقوا عليهم بها لفظ المحبة، فلما ينالون به من الثواب والأجر والثواب المنفصل عندهم: هو المحبوب لذاته، والرب تعالى محبوب لغيره حب الوسائل. وأولوا نصوص محبته لهم باحسانه إليهم، وإعطائهم الثواب، وربما أولوها بثنائه عليهم، ومدحه لهم، ونحو ذلك. وربما أولوها بارادته لذلك. فتارة يؤلونها بالمفعول المنفصل، وتارة يؤلونها بنفس الإرادة. ويقولون: الإرادة إن تعلقت بتخصيص العبد بالأحوال والمقامات العلية، سميت محبة، وإن تعلقت بالعقوبة والانتقام سميت غضبا. وإن تعلقت بعموم الإحسان والإنعام الخاص سميت برا، وإن تعلقت بايصاله فى خفاء من حيث لا يشعر أولا يحتسب سميت: لطفا، وهى واحدة، ولها أسماء وأحكام باعتبار متعلقاتها. ومن جعل محبته للعبد ثناءه عليه ومدحه له. ردها إلى صفة الكلام، فهى عنده من صفات الذات، لا من صفات الأفعال، والفعل عنده نفس المفعول، فلم يقم بذات الرب محبة لعبده ولا لأنبيائه، ورسله ألبتة. ومن ردها إلى صفة الإرادة جعلها من صفات الذات باعتبار أصل الإرادة، ومن صفات الأفعال باعتبار تعلقها. ولما رأى هؤلاأ أن المحبة إرادة، وأن الإرادة لا تتعلق إلا بالمحدث المقدور. والقديم ويستحيل أن يراد أنكروا محبة العباد، والملائكة والأنبياء والرسل له. وقالوا: لا معنى إلا إرادة التقرب إليه، والتعظيم له، وإرادة عبادته، فأنكروا خاصة الإلهية، وخاصة العبودية، واعتقدوا أن هذا من موجبات التوحيد والتنزيه، فعندهم لا يتم التوحيد والتنزيه، إلا بجحد حقيقة الإلهية، وجحد حقيقة العبودية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجميع طرق الأدلة: عقلا، ونقلا، وفطرت وقياسا واعتبارا ... تدل على إثبات محبة العبد لربه، والرب لعبده.. ثم قال إن من أنكروا المحبة: «قد أنكروا خاصة الخلق والأمر، والغاية التى وجدوا لأجلها، فان الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة، ولأجلها، وهى الحق الذى به خلقت السماوات والأرض، وهى الحق الذى تضمنه الأمر والنهى، وهى سر التأليه، وتوحيدها، هو: شهادة أن لا إله إلا الله ... والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه، من عباده المؤمنين. وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم كقوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ آل عمران: 146 وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ آل عمران 134، 148. وكم فى السنة: أحب الأعمال إلى الله كذا كذا فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله، فانها روح مقام ومنزلة وعمل، والمحبة حقيقة العبودية ... فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب معطل لذلك كله، وحجابه أكشف الحجب، وقلبه أقسى القلوب، وأبعدها عن الله، وهو منكر لخلة إبراهيم عليه السلام، فان الخلة كمال المحبة» ص 18 إلى ص 27 باختصار ح 3 ط السنة المحمدية. وبالنصوص القرآنية يثبت لنا أن الحب ليس هو الإرادة، وإنما هو صفة أخرى. والذين ينكرون حب الله لعباده. وحب العباد لله. قوم عيونهم وأفكارهم مشدودة إلى صفات البشر بكل ما لهذه الصفات البشرية من خصائص، وظنوا- خاضعين فى هذا لأفكار غير عربية وغير إسلامية أنهم إن وصفوا الله بهذه الصفات التى بها وصف الله نفسه. أو أضافوا إليه من الأفعال والأسماء ما أضافه إلى نفسه.. ظنوا أنهم إن فعلوا ذلك أسندوا إلى الله ما يسندونه من لوازم هذه الصفات فى بشريتها إلى البشر، زعموا أن من لوازم الحب اللهف والقلق والخوف والشوق والفقر، والشعور بالنقص فنفوا عن الله صفة أنه يحب أو أنه استوى، أو ... لأن هذه الصفات تستلزم ما يستحيل إطلاقه على الله. وهذا الظن قصور وتقصير. وإفراط فى المادية، واستغراق فى الذهول عن الحقيقة، فان الصفة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تستمد قيمتها من موصوفها. بل إن الصفات تتغير وتتباين لوازمها تبعا لتباين الموصوفات فى الخلق أنفسهم، فغضبى ليس عين غضبك وحبى ليس عين حبك. وحبنا ليس حب الآخرين. فما بالنا بصفات الخالق؟؟ فكيف نسند إلى صفات الخلاق ما نسنده إلى صفات البشر من الوازم وخصائص؟ وكيف نظن أن حب الله مثل حب خلقه! حتى نحمل عليه ما نحمله عليهم؟ وكيف نجرؤ على أن نجرد صفات الله من معانيها، أو ننفيها عنه ونحن مستعبدون لظنون وأوهام ضرب الشيطان بها أفكار غيرنا وقلوبهم فأعماهم وأضلهم عن سواء السبيل؟ وكيف نسوى بين صفتين، لم يجعل الله إحداهما عين الأخرى، كيف نسوى بين الإرادة والمحبة، والله يقول: قُلْ: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً الأحزاب: 17 قُلْ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً الفتح: 11 إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ الزمر: 38 وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً الإسراء: 16 وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً المائدة: 41 إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً يس: 23 أو يمكن أن نضع الحب مكان الإرادة فى هذه الآية؟ لقد تكرر إسناد الحب إلى الله فى القرآن إثباتا قرابة عشرين مرة، وفى كل مرة يتعلق الحب بصفة فى العيد تجعله من خير العباد الذين يستحقون هذه المحبة الإلهية، فهو جل شأنه يحب المحسنين، والتوابين والمتطهرين، والمتقين والصابرين، والمتوكلين، والمقسطين والمطهرين والذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، والأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين، والذين يحبونه، ويتبعون نبيه، وهو لا يحب المعتدين، ولا يحب الفساد ولا المفسدين، ولا يحب الكفار الأثيم ولا يحب الظالمين، ولا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب المسرفين، ولا يحب الخائنين، ولا يحب المستكبرين، ولا يحب كل خوان فخور، ولا يحب الفرحين، ولا يحب الكافرين، هكذا يثبت الله حبه

(4/282)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ شَرْحِ الْخُطْبَةِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا تَمَلّوا كَلَامَ اللهِ وَذِكْرَهُ، فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي. الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً عَلَى كَلَامِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِنّهَا ضَمِيرُ الْأَمْرِ وَالْحَدِيثِ، فَكَأَنّهُ قَالَ: إنّ الْحَدِيثَ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللهُ يَخْتَارُ، فَالْأَعْمَالُ إذًا كُلّهَا مِنْ خَلْقِ اللهِ قَدْ اخْتَارَ مِنْهَا مَا شَاءَ قَالَ سُبْحَانَهُ: [وَرَبُّكَ] يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ الْقَصَصُ: 68، وَقَوْلُهُ: قَدْ سَمّاهُ خِيرَتَهُ من الأعمال، يعنى: الذّكْرَ، وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَيَخْتَارُ، فَقَدْ اخْتَارَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِه، أَيْ: وَسُمّيَ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ:
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ الْحَجّ: 75 وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ أَيْ: الْعَمَلُ الّذِي اصْطَفَاهُ مِنْهُمْ وَاخْتَارَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، فَلَا تَكُونُ مِنْ عَلَى هَذَا لِلتّبْعِيضِ، إنّمَا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لِأَنّهُ عَمَلٌ اسْتَخْرَجَهُ مِنْهُمْ بِتَوْفِيقِهِ إيّاهُمْ. وَالتّأْوِيلُ الْأَوّلُ أَقْرَبُ مَأْخَذًا والله أعلم بما أراد رسوله.
__________
لقوم، وينفيه عن آخرين، وبهذا الإثبات والنفى، تأكد ثبوت هذه الصفة الإلهية له سبحانه. فلنؤمن بأن الله يحب، ولنقل إن الله يحب، ولنسعد بأن الله يحب، ولنشعر بروح وريحان حين نذكر ونقرأ ونقول: إن الله يحب، ولن تلمس خاطرة من فكرة مهما كان شأنها فى الصغر أو الكبر أن حب الله يشبه حب خلقه. إلا إذا كان ثمة إنسان يجعل الله بعض خلقه!! وجل جلال الله سبحانه أن نشبهه بشى، أو ننفى عنه ما أثبته لنفسه.

(4/286)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ فِي أَوّلِ الْخُطْبَةِ «1» إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ أَحْمَدُهُ هَكَذَا بِرَفْعِ الدّالِ مِنْ قَوْلِهِ:
الْحَمْدُ لِلّهِ وَجَدْته مُقَيّدًا مُصَحّحًا عَلَيْهِ، وَإِعْرَابُهُ لَيْسَ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَلَكِنْ عَلَى إضْمَارِ الْأَمْرِ كَأَنّهُ قَالَ: إنّ الْأَمْرَ الّذِي أَذْكُرُهُ، وَحَذَفَ الْهَاءَ الْعَائِدَةَ عَلَى الْأَمْرِ كَيْ لَا يُقَدّمَ شَيْئًا فِي اللّفْظِ مِنْ الْأَسْمَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلّهِ، وَلَيْسَ تَقْدِيمُ إنّ فِي اللّفْظِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَسْمَاءِ، لِأَنّهَا حَرْفٌ مُؤَكّدٌ لِمَا بَعْدَهُ مَعَ مَا فِي اللّفْظِ مِنْ التّحَرّي لِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَالتّيَمّنِ بِهِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ عَلَى جِذْعٍ، فَلَمّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ «2» ، وَصَنَعَهُ لَهُ عَبْدٌ لِامْرَأَةِ مِنْ الْأَنْصَارِ اسْمُهُ بَاقُومٌ «3» خار الجذع خوار
__________
(1) روى أبو داود عن الخطبة الثانية ما يأتى: عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى إذا تشهد قال: الحمد لله ... الحديث إلى قوله لا شريك له. وقد صحح النووى إسناد هذا الحديث فى شرحه لمسلم. هذا ويرى الحسن البصرى، وداود الظاهرى، والجوينى والشوكانى أن الخطبة مندوبة، وليست بواجبة.
(2) شجر، الواحدة: طرفة، وقال سيبويه: الطرفاء واحد وجمع. ويصفها المعجم الوسيط بقوله جنس جنبات وجنيبات للتزيين من الفصيلة الطرفاوية، ومنها: الأثل، وفى الصحيحين عن سهل بن سعد أنه صنع له من أثل الغابة، ويقول الزرقانى فى المواهب: وهو شجر كالطرفاء لا شوك له، وخشبه جيد، يعمل منه القصاع والأوانى، والغابة: موضع بالعوالى
(3) واختلف فى اسم صانعه، ففى الصحيح أنه ميمون مولى امرأة من الأنصار، وقيل: مولى سعد بن عبادة، فكأنه فى الأصل مولى امرأته، ونسب إلى سعد مجازا- وقد اختلف أيضا فى اسم امرأة سعد- وروى أبو نعيم أن صانعه باقوم الرومى مولى سعيد بن العاص، أو باقول، أو صباح، أو قبيصة، أو مينا، أو صالح أو كلاب، وكلاهما مولى العباس، أو إبراهيم، أو تميم الدارى

(4/287)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّاقَةِ الْخَلُوجِ، حَتّى نَزَلَ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَالْتَزَمَهُ، وَقَالَ: لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ مَا زَالَ يَخُورُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمّ دَفَنَهُ، وَإِنّمَا دَفَنَهُ، لِأَنّهُ قَدْ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُؤْمِنِ لَحُبّهِ وَحَنِينِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ الْآيَةُ، وَإِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي النّخْلَةِ: مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُؤْمِنِ، وَحَدِيثُ خُوَارِ الْجِذْعِ وَحَنِينِهِ مَنْقُولٌ نَقْلَ التّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ مَنْ شَاهَدَ خُوَارَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَكُلّهُمْ نَقَلَ ذَلِكَ، أَوْ سَمِعَهُ من غيره فلم ينكره «1» .
__________
كما ورد فى أبى داود. ويقول الحافظ فى الفتح: وليس فى جميع الروايات التى سمى فيها النجار شىء قوى السند سوى الحديث الذى رواه أبو داود عن ابن عمر لكن لم يصرح فيه بأن صانعه تميم. وأشبه الأقوال بالصواب بأنه ميمون لكونه من طريق سهل بن سعد ... وكان المنبر ذا ثلاث درجات، وزاد فيه مروان ست درجات لما كثر الناس، ولما احترق المسجد سنة 654 جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا، فأزيل منبر المظفر، ولم يزل منبر بيبرس إلى سنة 820، ثم أرسل المؤيد شيخ منبرا، فبقى سنة 867، فأرسل الظاهر خشقدم منبرا.
(1) يقول القاضى عياض فى الشفاء عن حديث حنين الجذع: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم أبى بن كعب وجابر وأنس وابن عمر وابن عباس وسهل بن سعد وأبو سعيد الخدرى وبريدة وأم سلمة والمطلب بن أبى وداعة» وقد أخرج البخارى الحديث فى علامات النبوة، والترمذى فى الصلاة عن عن نافع عن ابن عمر، ورواه أحمد من رواية أبى جناب وهو ضعيف عن أبيه أبى حية عن ابن عمر، ورواه ابن ماجة وأبو يعلى الموصلى وغيرهما من رواية حماد بن مسلمه عن ثابت عن أنس، ورواه الترمذى وصححه وأبو يعلى وابن خزيمة والطبرانى والحاكم وصححه، وقال على شرط مسلم يلزمه إخراجه من رواية

(4/288)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ شَرَطَ لَهُمْ فِيهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ، وَأَمّنَهُمْ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكَانَتْ أَرْضُ يَثْرِبَ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْأَنْصَارِ بِهَا، فَلَمّا كَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ، وَتَفَرّقَتْ سَبَأٌ نَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِأَمْرِ طَرِيفَةَ الْكَاهِنَةِ، وأمر
__________
إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عن أنس، ورواه الطبرانى من رواية الحسن عن أنس، ورواه أحمد بن منيع والطبرانى وغيرهما من رواية حماد ابن سلمة عن عمار بن أبى عامر عن ابن عباس. ورواه أحمد والدارمى وأبو يعلى وابن ماجة وغيرهم من رواية الطفيل بن أبى بن كعب عن أبيه، ورواه الدارمى من رواية أبى حازم عن سهل بن سعد، ورواه أبو محمد الحسن بن على الجوهرى من رواية عبد العزيز بن رواد عن نافع عن تميم الدارى. وقال الحافظ فى الفتح: «حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة فى الله، والله أعلم» وقال البيهقى: «قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التى حملها الخلف ورووها عن السلف رواية الأخبار الخاصة كالتكليف» أقول: زالت آية الجذع، وبقيت آية الله الكبرى التى من بها على محمد صلى الله عليه وسلم، وهى القرآن، ومن يتدبر القرآن يجده هاديا إلى الأدلة التى بها تثبت نبوة عبده وخاتم أنبيائه، وذكر فيه من آياته الكبرى ما ذكر. والله يمن على عبده بما شاء. والناقة الخلوج: التى اختلج ولدها أى انتزع منها. وحديث النخلة فى الجامع الصغير: «مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شىء نفعك» وقال عنه رواه الطبرانى عن ابن عمر!!

(4/289)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِمْرَانَ بْنِ عَامِرٍ، فَإِنّهُ كَانَ كَاهِنًا أَيْضًا وَبِمَا سَجَعَتْ بِهِ لِكُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ سَبَأٍ، فَسَجَعَتْ لِبَنِي حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَهُمْ الْأَوْسُ والخزرج أن ينزلوا بثرب ذَاتَ النّخْلِ فَنَزَلُوهَا عَلَى يَهُودَ وَحَالَفُوهُمْ وَأَقَامُوا مَعَهُمْ، فَكَانَتْ الدّارُ وَاحِدَةً.
مَتَى دَخَلَ الْيَهُودُ يَثْرِبَ؟:
وَالسّبَبُ فِي كَوْنِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ وَسَطَ أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ أَنّ الْيَهُودَ أَصْلُهُمْ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ أَنّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ تُغِيرُ عَلَيْهِمْ الْعَمَالِيقُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ يَثْرِبَ وَالْجُحْفَةَ إلَى مَكّةَ، فَشَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ذَلِكَ إلَى مُوسَى، فَوَجّهَ إلَيْهِمْ جَيْشًا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ، وَلَا يُبْقُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَفَعَلُوا وَتَرَكُوا مِنْهُمْ ابْنَ مَلِكٍ لَهُمْ كَانَ غُلَامًا حَسَنًا، فَرَقّوا لَهُ، وَيُقَالُ لِلْمَلِكِ: الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ فِيمَا ذَكَرَ الزّبَيْرُ ثُمّ رجعوا إلى الشام وموسى قدمات، فَقَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لَهُمْ: قَدْ عَصَيْتُمْ وَخَالَفْتُمْ، فلا نؤويكم، فَقَالُوا:
نَرْجِعُ إلَى الْبِلَادِ الّتِي غَلَبْنَا عَلَيْهَا فَنَكُونُ بِهَا، فَرَجَعُوا إلَى يَثْرِبَ، فَاسْتَوْطَنُوهَا وَتَنَاسَلُوا بِهَا إلَى أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ. هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الْمَعْرُوفِ: بِكِتَابِ الْأَغَانِي، وَإِنْ كَانَ الزّبَيْرُ قَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا صَحِيحًا لِبُعْدِ عُمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، وَاَلّذِي قَالَ غَيْرُهُ إنّ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَحِقَتْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ حِينَ دَوّخَ بُخْتُ نَصّرَ الْبَابِلِيّ فِي بِلَادهمْ، وَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، فَحِينَئِذٍ لَحِقَ مَنْ لَحِقَ مِنْهُمْ بِالْحِجَازِ كَقُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ، وَسَكَنُوا خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةَ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ وَاَللهُ أَعْلَمُ.

(4/290)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسْمُ يَثْرِبَ وَأَمّا يَثْرِبُ فَاسْمُ رَجُلٍ نَزَلَ بِهَا أَوّلَ مِنْ الْعَمَالِيقِ فَعُرِفَتْ بِاسْمِهِ، وَهُوَ يَثْرِبُ بْنُ قاين بْن عِبِيلِ بْنِ مهلايل بْنِ عَوَصِ بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذِ بْنِ إرَمَ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ وَبَنُو عِبِيلٍ هُمْ الّذِينَ سَكَنُوا الْجُحْفَةَ فَأَجْحَفَتْ بِهِمْ السّيُولُ وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ الْجُحْفَةَ «1» ، فَلَمّا احْتَلّهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَرِهَ لَهَا هَذَا الِاسْمَ أَعْنِي: يَثْرِبَ لِمَا فِيهِ مِنْ لَفْظِ التّثْرِيبِ، وَسَمّاهَا طِيبَةَ وَالْمَدِينَةَ.
فَإِنْ قُلْت: وَكَيْفَ كَرِهَ اسْمًا ذَكَرَهَا اللهُ فِي الْقُرْآنِ بِهِ، وَهُوَ الْمُقْتَدِي بِكِتَابِ اللهِ، وَأَهْلٌ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ تَسْمِيَةِ اللهِ؟ قُلْنَا إنّ اللهَ- سُبْحَانَهُ- إنّمَا ذَكَرَهَا بِهَذَا الِاسْمِ حَاكِيًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ؛ إذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ؟ فَنَبّهَهُ بِمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنّهُمْ قَدْ رَغِبُوا عَنْ اسْمٍ سَمّاهَا اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَبَوْا إلّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ، وَاَللهُ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمّاهَا:
الْمَدِينَةَ، فَقَالَ غَيْرَ حَاكٍ عَنْ أَحَدٍ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ [يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ] التوبة 120، وفى الخبر عن كعب الأخبار قَالَ: إنّا نَجِدُ فِي التّوْرَاةِ يَقُولُ اللهُ لِلْمَدِينَةِ يَا طَابَةُ يَا طَيْبَةُ يَا مِسْكِينَةُ لَا تَقْبَلِي الْكُنُوزَ أَرْفَعْ أَجَاجِيرَكِ عَلَى أَجَاجِيرِ «2» القرى، وقد روى هذا الحديث عن
__________
(1) أجحف به: ذهب به، وكان اسم الجحفة: مهيعة «معجم البكرى، المراصد، القاموس»
(2) أجاجير: جمع إجار، وهو السطح الذى ليس حواليه ما يرد الساقط عنه، والأناجير جمع أيضا

(4/291)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَرْفَعُهُ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ لَهَا فِي التّوْرَاةِ أَحَدَ عَشَرَ اسْمًا:
الْمَدِينَةُ وَطَابَةُ وَطِيبَةُ وَالْمِسْكِينَةُ وَالْجَابِرَةُ وَالْمُحِبّةُ وَالْمَحْبُوبَةُ وَالْقَاصِمَةُ وَالْمَجْبُورَةُ وَالْعَذْرَاءُ وَالْمَرْحُومَةُ «1» ، وَرُوِيَ فِي مَعْنَى قوله: وَقُلْ رَبِ
__________
(1) فى تسميتها روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: كان الناس يقولون: يثرب والمدينة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن الله عز وجل سماها: طابة. وعن زيد بن ثابت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إنها طيبة، وإنها تنفى الخبت، كما تنفى النار خبث الفضة «مسلم أيضا» وعن أحمد: من سمى المدينة، فليستغفر الله عز وجل، هى طابة، هى طابة وقال الأزهرى: كره ذكر الثرب، لأنه فساد فى لسان العرب ويرى ابن فارس وقطرب أن المدينة من دان إذا أطاع، فتكون الميم زائدة، وقيل من مدن بالمكان إذا أقام به، فتكون الميم أصلية وجمعها مدن بضم الدال وإسكانها ومدائن وترك الهمزة أفصح، والنسب إلى المدينة مدنى، وإلى مدينة المنصور مدينى، وإلى مدائن كسرى: مدائنى وقيل: مدنى إذا نسبت الرجل والثوب. أما الطير فمدينى. والطاب والطيب لغتان بمعنى. وحديث كعب رواه ابن زبالة وما أضعفه. وقد ذكرت لها أسماء أخرى منهما: طيبة بتشديد الياء، والمطيبة بتشديد الياء مع فتحها، والدار والهذراء- لشدة حرارتها-، والحبيية، ومدخل صدق، ودار السنة، ودار الهجرة، والبلاط، والإيمان، ويندر، ويندد والبحرة والبحيرة. وقد غالى السمهودى فذكر لها أكثر من تسعين اسما «راجع ص 232 إعلام الساجد ص 7 وفاء الوفا للسمهودى، ص 620 القرى للمحب الطبرى. وقد اختلف فى يثرب- كما قال ابن دقيق العيد فى شرح الإمام-: هل هو اسم يرادف المدينة، أو هو اسم لقطر محدود، والمدينة فى ناحية منه؟ وعن

(4/292)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ] الْإِسْرَاءُ: 80 أنها المدينة، وأن مُخْرَجَ صِدْقٍ مكّة وسُلْطاناً نَصِيراً الْأَنْصَارُ.
تَفْسِيرُ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ:
وَفِي الْكِتَابِ: بَنُو فُلَانٍ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ. هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خالد [بن عُقَيْلٍ الْأَبْلِيّ] عَنْ الزّهْرِيّ وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الله ابن صَالِحٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فَقَالَ: رِبَاعَتِهِمْ. الْأَلِفُ بَعْدَ الْبَاءِ، ثُمّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى رِبَاعِهِ قَوْمُهُ إذَا كَانَ نَقِيبَهُمْ وَوَافِدَهُمْ.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَكَسْرُ الرّاءِ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنّهَا وِلَايَةٌ، وَإِنْ جَعَلَ الرّبَاعَةَ مَصْدَرًا فَالْقِيَاسُ فَتْحُ الرّاءِ، أَيْ عَلَى شَأْنِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الدّيَاتِ وَالدّمَاءِ «1» يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الأولى: جمع: معقلة ومعقلة من العقل
__________
أبى عبيد: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول فى ناحية منها،. وقيل: أرض وقعت المدينة فى ناحية منها أو أن يثرب اسم للمدينة، هكذا ورد فى الكشاف. وقال ابن عطية: يثرب قطر محدود، والمدينة فى طرف منه، وقد غالى السمهودى، فجمع لها أكثر من تسعين اسما. وانظر ص 109 وما بعدها ح 1 وفاء الوفاء فى سكناها وما ذكر فى سبب نزول اليهود بها وبيان منازلهم.
(1) فى النهاية لابن الأثير: يقال القوم على رباعتهم، ورباعهم أى: على استقامتهم، يريد: أنهم على أمرهم الذى كانوا عليه، ورباعة الرجل: شأنه وحاله التى هو رابع عليها، أى: ثابت مقيم. وعند الخشنى: الربعة والرباعه الحال التى جاء الإسلام، وهم عليها، ويقال: فلان يقوم برباعة أهله، إذا كان يقوم بأمرهم وشأنهم ص 125

(4/293)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ الدّيَةُ «1» .
مِنْ كَلِمَاتِ الْكِتَابِ:
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ: وَأَلّا يُتْرَكَ مُفْرَحٌ، وَفَسّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ كَمَا فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّهُ الّذِي أَثْقَلَهُ الدّيْنُ، وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ «2» .
إذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً ... وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
أَيْ: أَثْقَلَتْك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفْعَالِ السّلْبِ، أَيْ سَلَبَتْك الْفَرَحَ، كَمَا قِيلَ: أَقْسَطَ الرّجُلُ إذَا عَدَلَ، أَيْ: أَزَالَ الْقِسْطَ، وَهُوَ الِاعْوِجَاجُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ بَاءٍ، فَيَكُونُ مِنْ الْبَرْحِ وَهُوَ الشّدّةُ، تَقُولُ: لَقِيت مِنْ فُلَانٍ بَرْحًا أَيْ: شِدّةً، وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ رِوَايَةً أُخْرَى مُفْرَجٌ بِالْجِيمِ، وَذَكَرَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالًا، مِنْهَا أَنّهُ الّذِي لَا دِيوَانَ لَهُ، وَمِنْهَا: أَنّهُ الْقَتِيلُ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ، وَمِنْهَا أَنّهُ فِي مَعْنَى الْمُقْرَحِ بِالْحَاءِ أَيْ:
__________
(1) يقال: بنو فلان على معاقلهم التى كانوا عليها، أى: مراتبهم وحالاتهم، وسميت دية القتيل: عقلا، لإن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء أولياء المقتول، أى شدها فى عقلها، ليسلمها إليهم، ويقبضوها منه، فسميت الدية: عقلا بالمصدر، يقال. عقل البعير يعقله عقلا، وجمعها عقول، والعاقلة: هى العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ. وهى صفة جماعة عاقلة، وأصلها اسم فاعلة من العقل، وهى من الصفات الغالبة انظر مادة عقل فى النهاية لابن الأثير.
(2) فى اللسان أبو عبيدة، ونسبه لبيهسى العذرى، وقبله:
إذا أنت أكثرت الأخلاء صادفت ... بهم حاجة بعض الذى أنت مانع

(4/294)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَقَدْ أَثْقَلَهُ الدّيْنُ، أَوْ نَحْوَ «1» هَذَا فَيُقْضَى عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَفِيهِ: وَلَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ، أَيْ: لَا يُوبِقُ، وَيُهْلِكُ إلّا نَفْسَهُ، يُقَالُ وَتِغَ الرّجُلُ، وَأَوْتَغَهُ غَيْرُهُ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُبِيءُ هُوَ مِنْ الْبَوَاءِ، أَيْ: الْمُسَاوَاةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ حِينَ قَتَلَ ابْنًا لِلْحَارِثِ بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب «2» .
وقوله: إن البرّدون الْإِثْمِ، أَيْ: إنّ الْبِرّ وَالْوَفَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَاجِزًا عَنْ الْإِثْمِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنّ اللهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ، أَيْ: إنّ اللهَ وَحِزْبَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرّضَى بِهِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: إنّمَا كَتَبَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْجِزْيَةُ،
__________
(1) وفى اللسان عن أبى عبيد: أن المفرج هو الذى يسلم، ولا يوالى أحدا فاذا جنى جناية، كانت جنايته على بيت المال، لأنه لا عاقلة له.
(2) حين نشب الشر استعرت الحرب بين بكر وتغلب أربعين سنة، وكان الحارث ابن عباد البكرى قد اعتزل القوم، فلما استحر القتل فى بكر، اجتمعوا إليه وقالوا: قد فنى قومك فأرسل الحارث إلى مهلهل أخى كليب بجيرا ابنه يناشده السلام، فقد أدرك وتره من بكر، فلما عرف المهلهل أن بجيرا هو ابن الحارث ابن عباد قتله قائلا: بؤ بشسع نعل كليب، فلما علم أبوه الحارث بهذا خرج يقاتل المهلهل وبنى تغلب ثائرا ببجير ابنه، وأنشأ يقول:
قربا مربط النعامة منى ... إن بيع الكريم بالشسع غالى
قربا مربط النعامة منى ... لقحت حرب وائل عن حيال
لم أكن من جناتها. علم الله ... وإنى بشرها اليوم صالى
ويروى: بحرها. والنعامة: فرس الحارث، وكانت هزيمة تغلب على يد الحارث.

(4/295)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ ضَعِيفًا. قَالَ: وَكَانَ لِلْيَهُودِ إذْ ذَاكَ نَصِيبٌ فِي الْمَغْنَمِ إذَا قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ النّفَقَةَ مَعَهُمْ فِي الْحُرُوبِ.
الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الصّحَابَةِ فَصْلٌ الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الصّحَابَةِ: آخَى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَصْحَابِهِ حِينَ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ، لِيُذْهِبَ عَنْهُمْ وَحْشَةَ الْغُرْبَةِ وَيُؤْنِسَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ، وَيَشُدّ أَزْرَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ، فَلَمّا عَزّ الْإِسْلَامُ وَاجْتَمَعَ الشّمْلُ، وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الْأَنْفَالُ 75 أَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ «1» ، ثُمّ جعل المؤمنين كلهم إخوة
__________
(1) من أين جاء بهذا، وليس فى آيات الميراث شىء من هذا؟، هذا وقد أنكر الإمام ابن تيمية رضى الله عنه فى منهاج السنة النبوية المؤاخاة بين المهاجرين والمهاجرين. وأقول: إنه ينكر هذه المؤاخاة بمعناها الخاص المعروف، وإلا فالمسلم من أول يوم هو أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. ولنتدبر ما ذكر الله فى أول سورة الحشر عما فعل الأنصار باخوتهم المهاجرين، ففى هدى الله هداية الحق والنور المبين لا فى كلام السهيلى أو غيره ويقول الإمام ابن القيم: «وقد قيل: إنه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه. والثابت الأول. يعنى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار- والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام، وأخوة الدار، وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى بين المهاجرين، كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه، ورفيقه فى الهجرة، وأنيسه فى الغار، وأفضل الصحابة، وأكرمهم عليه: أبو بكر الصديق، وقد قال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل، «الصحيحان

(4/296)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ يعنى فى التّوادّ وشمول الدعوة.
وذكر مؤاخاة بَيْنَ أَبِي ذَرّ وَالسّنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَدْ ذَكَرْنَا إنْكَارَ الْوَاقِدِيّ لِذَلِكَ فِي آخِرِ حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ.
نَسَبَ أَبِي الدّرْدَاءِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدّرْدَاءِ، وَأَبُو الدّرْدَاءِ اسْمُهُ عويمر ابن عَامِرٍ، وَقِيلَ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَقِيلَ: عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ أُمَيّةَ مِنْ بَلْحَارِثِ «1» بن الخزرج، أمه: تحبّة بنت واقد بْنِ عَمْرِو بْنِ الْإِطَنَابَةِ، وَامْرَأَتُهُ: أُمّ الدّرْدَاءِ، اسْمُهَا: خَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ، وَأُمّ الدّرْدَاءِ الصّغْرَى، اسْمُهَا: جُمَانَةُ، مَاتَ أَبُو الدّرْدَاءِ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ «2» .
__________
من حديث أنس» وفى لفظ «ولكن أخى وصاحبى» وهذه الأخوة فى الإسلام وإن كانت عامة كما قال: وددت أن قد رأينا إخواننا؟ قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابى، وإخوانى: قوم يأتون من بعدى يؤمنون بى، ولم يرونى رواه مسلم. فللصديق من هذه الأخوة أعلى مراتبها، كما له من الصحبة أعلى مراتبها، فالصحابة لهم الأخوة ومزية الصحبة ولأتباعهم الأخوة والصحبة. ص 176 ح 2 زاد المعاد ط السنة المحمدية.
(1) «اختلف فى اسم أبيه، فقيل: عامر أو مالك أو ثعلبة أو عبد الله أو زيد، وأبوه: ابن قيس بن أمية بن عامر بن عدى بن كعب بن الخزرج الأنصارى الخزرجى» الإصابة
(2) قيل مات لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقال ابن عبد البر إنه مات بعد صفين، والأصح عند أصحاب الحديث أنه مات فى خلافة عثمان.

(4/297)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَسَبُ الْفَزَعِ فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ أَبِي رُوَيْحَةَ وَبِلَالٍ، وَسَمّاهُ: عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَقَالَ: هُوَ أَحَدُ الْفَزَعِ «1» ، لَمْ يُبَيّنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَالْفَزَعُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ، هُوَ ابْنُ شَهْرَانَ بْنِ عِفْرِسِ بْنِ حُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ، وَأَفْتَلُ هُوَ خَثْعَمٌ. وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أول الكتاب: لم سمى خثعم وَهُوَ ابْنُ أَنْمَارٍ، وَقَدْ تَقَدّمَ خِلَافُ النّسّابِينَ فِيمَا بَعْدَ أَنْمَارٍ.
وَالْفَزَعُ هَذَا بِفَتْحِ الزّايِ، وَأَمّا الْفَزْعُ بِسُكُونِهَا، فَهُوَ الْفَزْعُ بْنُ عَبْدِ الله ابن رَبِيعَةَ [بْنِ جَنْدَلٍ] ، وَكَذَلِكَ الْفَزْعُ فِي خُزَاعَةَ، وَفِي كَلْبٍ هُمَا سَاكِنَانِ أَيْضًا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ: الْفَزَعُ بِفَتْحِ الزّايِ: رَجُلٌ يَرْوِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَذُكِرَ آخَرُ فِي الرّوَاةِ أَيْضًا بِفَتْحِ الزّايِ يَرْوِي حَدِيثًا فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْوِي أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ لِأَبِي رُوَيْحَةَ الْخَثْعَمِيّ لِوَاءً عَامَ الْفَتْحِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ دَخَلَ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي رُوَيْحَةَ، فَهُوَ آمِنٌ.
مُؤَاخَاةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ فَصْلٌ: وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ «2» وَعُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ،
__________
(1) ويروى بالقاف كما ذكر الخشنى.
(2) نسب حاطب فى الإصابة: حاطب بن أبى بلتعة بن عمر بن عمير بن سلمة ابن صعب بن سهل اللخمى.

(4/298)