الروض
الأنف ت الوكيل [غزوة بدر
الكبرى]
[عير أبى سفيان]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ. ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَمِعَ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ مُقْبِلًا مِنْ الشّأْمِ
فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ، فِيهَا أَمْوَالٌ لِقُرَيْشِ وَتِجَارَةٌ
مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلِيَأْمَنَ الْحُجّاجُ وَارِدِينَ إلَى مَكّةَ، وَصَادِرِينِ عَنْهَا
شَهْرًا قَبْلَ شَهْرِ الْحَجّ، وَشَهْرًا بَعْدَهُ قَدْرَ مَا يَصِلُ
الرّاكِبُ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ الْعَرَبِ، ثُمّ يَرْجِعُ، حِكْمَةً مِنْ
اللهِ، وَأَمّا رَجَبٌ فَلِلْعُمّارِ يَأْمَنُونَ فِيهِ مُقْبِلِينَ
وَرَاجِعِينَ نِصْفُ الشّهْرِ لِلْإِقْبَالِ، وَنِصْفُهُ لِلْإِيَابِ، إذْ
لَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ مِنْ أَقَاصِي بِلَادِ الْعَرَبِ كَمَا يَكُونُ
الْحَجّ، أَلَا تَرَى أَنّا لَا نَعْتَمِرُ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ،
فَإِذَا أَرَدْنَا عُمْرَةً فَإِنّمَا تَكُونُ مَعَ الْحَجّ، وَأَقْصَى
مَنَازِلِ الْمُعْتَمِرِينَ بَيْنَ مَسِيرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا،
فَكَانَتْ الْأَقْوَاتُ تَأْتِيهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ، وَفِي سَائِرِ
الْعَامِ تَنْقَطِعُ عَنْهُمْ ذُؤْبَانُ الْعَرَبِ وَقُطّاعُ السّبُلِ،
فَكَانَ فِي رَجَبٍ أَمَانٌ لِلسّالِكِينَ إلَيْهَا مَصْلَحَةً لِأَهْلِهَا
وَنَظَرًا مِنْ اللهِ لَهُمْ دَبّرَهُ وَأَبْقَاهُ مِنْ مِلّةِ إبْرَاهِيمَ
لَمْ يُغَيّرْ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، فَكَانَ الْقِتَالُ فِيهِ
مُحَرّمًا كَذَلِكَ صَدْرًا مِنْ الْإِسْلَامِ، ثُمّ أَبَاحَتْهُ آيَةُ
السّيْفِ، وَبَقِيَتْ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَمْ تُنْسَخْ، قَالَ
اللهُ سُبْحَانَهُ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ التّوْبَةُ: 36، فَتَعْظِيمُ
حُرْمَتِهَا بَاقٍ، وَإِنْ أُبِيحَ الْقِتَالُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ
أَنّ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِيهَا حُكْمٌ ثَابِتٌ لَمْ يُنْسَخْ، وَقَدْ
تَقَدّمَ فِي بَابِ نَسَبِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ذكر سعد رجب، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ سَنّهُ لِلْعَرَبِ فِيمَا زَعَمُوا.
(5/81)
تِجَارَاتِهِمْ وَفِيهَا ثَلَاثُونَ
رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ أربعون، منهم مخرمة بن نوفل ابن أُهَيْبِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ
هِشَامٍ.
[نَدْبُ الْمُسْلِمِينَ لِلْعِيرِ وَحَذَرُ أَبِي سُفْيَانَ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ
هَاشِمِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ،
وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن
عروة بن الزبير وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، كُلّ
قَدْ حَدّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا
سُقْت مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ، قَالُوا: لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبى سفيان مقبلا من الشّامِ، نَدَبَ
الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ وَقَالَ هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا
أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلّ اللهَ يُنْفِلُكُمُوهَا.
فَانْتَدَبَ النّاسُ فَخَفّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ
أَنّهُمْ لَمْ يَظُنّوا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ
يُتَحَسّسُ الْأَخْبَارَ وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرّكْبَانِ
تَخَوّفًا عَلَى أَمْرِ النّاسِ. حَتّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ
الرّكْبَانِ: أَنّ مُحَمّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَك وَلِعِيرِك
فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ. فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بن عمرو الغفارىّ، فبعثه
إلى مكة، وأمره أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إلَى
أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي
أَصْحَابِهِ. فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إلَى مَكّةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/82)
[ذِكْرُ رُؤْيَا عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، وَيَزِيدُ ابْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزّبَيْرِ، قَالَا: وَقَدْ رَأَتْ عاتكة بنت عبد المطلب، قَبْلَ قُدُومِ
ضَمْضَمٍ مَكّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ، رُؤْيَا أفزعتها. فبعثت إلى أخيها
العباس ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، وَاَللهِ لَقَدْ
رَأَيْت اللّيْلَةَ رُؤْيَا أَفْظَعَتْنِي، وَتَخَوّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ
عَلَى قَوْمِك مِنْهَا شَرّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَنّي مَا أُحَدّثُك
بِهِ؛ فَقَالَ لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ
عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، حَتّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى
صوته: ألا انفروا يا آل غدر لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَأَرَى النّاسَ
اجْتَمَعُوا إلَيْهِ: ثم دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنّاسُ يَتْبَعُونَهُ،
فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ
الْكَعْبَةِ، ثُمّ صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لِمَصَارِعِكُمْ فِي
ثَلَاثٍ: ثُمّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ فَصَرَخَ
بِمِثْلِهَا.
ثُمّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتّى إذَا
كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضّتْ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ
مَكّةَ، وَلَا دَارٌ إلّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فَلِقَةٌ؛ قَالَ الْعَبّاسُ:
وَاَللهِ إنّ هَذِهِ لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.
[ذيوع الرؤيا وما أحدثت بين أبى جهل والعباس]
ثُمّ خَرَجَ الْعَبّاسُ، فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ، وَكَانَ لَهُ صِدّيقًا، فَذَكَرَهَا لَهُ، وَاسْتَكْتَمَهُ
إيّاهَا. فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ
بِمَكّةَ، حَتّى تَحَدّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ فِي أنديتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/83)
قَالَ الْعَبّاسُ: فَغَدَوْت لِأَطُوفَ
بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٌ
يَتَحَدّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ:
يَا أَبَا الْفَضْلِ إذَا فَرَغْت مِنْ طَوَافِك فَأَقْبِلْ إلَيْنَا،
فَلَمّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ حَتّى جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لِي أَبُو
جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، مَتَى حَدَثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ
النّبِيّةَ؟ قَالَ:
قُلْت: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تِلْكَ الرّؤْيَا الّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ؛
قَالَ: فَقُلْت: وَمَا رَأَتْ؟
قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبّأَ
رِجَالُكُمْ حَتّى تَتَنَبّأَ نِسَاؤُكُمْ، قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي
رُؤْيَاهَا أَنّهُ قَالَ: انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ، فَسَنَتَرَبّصُ بِكُمْ
هَذِهِ الثّلَاثَ، فَإِنْ يَكُ حَقّا مَا تَقُولُ فَسَيَكُونُ، وَإِنْ
تَمْضِ الثّلَاثُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، نكتب عليكم كتابا أنكم
أكذب أهل بيت فى العرب. قال العبّاس:
فو الله مَا كَانَ مِنّي إلَيْهِ كَبِيرٌ، إلّا أَنّي جَحَدْتُ ذَلِكَ،
وَأَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا: قال. ثم تفرّفنا.
فَلَمّا أَمْسَيْتُ، لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عبد المطلب إلا
أتتنى، فقالت:
أفررتم لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمّ
قَدْ تَنَاوَلَ النّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَك
غِيَرٌ لِشَيْءِ مِمّا سَمِعْت، قَالَ: قُلْت: قَدْ وَاَللهِ فَعَلْتُ، مَا
كَانَ مِنّي إلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ. وَاَيْمُ اللهِ لَأَتَعَرّضَنّ له، فإن
عاد لأكفينّكنّه.
قالت: فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَأَنَا
حَدِيدٌ مُغْضَبٌ أُرَى أَنّي قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبّ أَنْ
أُدْرِكَهُ مِنْهُ. قَالَ: فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إنّي لَأَمْشِي
نَحْوَهُ أَتَعَرّضُهُ، لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعَ بِهِ،
وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا، حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللّسَانِ، حَدِيدَ
النّظَرِ. قَالَ: إذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/84)
الْمَسْجِدِ يَشْتَدّ. قَالَ: فَقُلْت فِي
نَفْسِي: مَا لَهُ لَعَنَهُ اللهُ، أَكُلّ هَذَا فَرَقٌ مِنّي أَنْ
أُشَاتِمَهُ! قَالَ: وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ: صَوْتَ
ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ، وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي
وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ جَدّعَ بَعِيرَهُ، وَحَوّلَ رَحْلَهُ،
وَشَقّ قَمِيصَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللّطِيمَةَ
اللّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا
مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ
الْغَوْثَ. قَالَ: فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عنى ما جاء من الأمر.
[قريش تتجهز لِلْخُرُوجِ]
فَتَجَهّزَ النّاسُ سِرَاعًا، وَقَالُوا: أَيَظُنّ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ
أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيّ، كَلّا وَاَللهِ لِيَعْلَمُنّ
غَيْرَ ذَلِكَ. فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ، إمّا خَارِجٍ وَإِمّا بَاعِثٍ
مَكَانَهُ رَجُلًا. وَأَوْعَبَتْ قريش، فلم يتخلّف من أشرافها أحد.
إلا أن أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَخَلّفَ، وَبَعَثَ مكانه
العاصى بن هشام ابن الْمُغِيرَةِ وَكَانَ قَدْ لَاطَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ، أَفْلَسَ بِهَا، فَاسْتَأْجَرَهُ
بها على أن يجزىء عَنْهُ، بَعَثَهُ فَخَرَجَ عَنْهُ، وَتَخَلّفَ أَبُو
لَهَبٍ.
[خروج عقبة]
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أَبِي نَجِيحٍ: أَنّ أُمَيّةَ بْنَ
خَلَفٍ كَانَ أَجْمَعَ الْقُعُودَ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا
ثَقِيلًا، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي
الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ، بِمَجْمَرَةٍ يَحْمِلُهَا،
فِيهَا نَارٌ وَمَجْمَرٌ حَتّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/85)
وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ قَالَ:
يَا أَبَا عَلِيّ اسْتَجْمِرْ، فَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ النّسَاءِ؛ قَالَ:
قَبّحَك اللهُ وَقَبّحَ مَا جِئْتَ بِهِ، قَالَ: ثم تجهز فخرج مع الناس.
[ما وقع بين قريش وكنانة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا فَرَغُوا مِنْ جَهَازِهِمْ، وَأَجْمَعُوا
الْمَسِيرَ، ذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنْ الْحَرْبِ، فَقَالُوا: إنّا نَخْشَى
أَنْ يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَتْ الْحَرْبُ الّتِي كَانَتْ
بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ- كَمَا حَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ- فِي
ابْنٍ لِحَفْصِ بْنِ الأخيف، أحد بني معيص بن عامر بن لُؤَيّ، خَرَجَ
يَبْتَغِي ضَالّةً لَهُ بِضَجْنَانَ، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثَ فِي رَأْسِهِ
ذُؤَابَةٌ، وَعَلَيْهِ حُلّةٌ لَهُ، وَكَانَ غُلَامًا وَضِيئًا نَظِيفًا،
فَمَرّ بِعَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُلَوّحِ، أَحَدِ
بَنِي يَعْمُرَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَهُوَ بِضَجْنَانَ، وَهُوَ
سَيّدُ بنى بكر يَوْمَئِذٍ، فَرَآهُ فَأَعْجَبَهُ؛ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ
يَا غُلَامُ؟ قَالَ: أَنَا ابْنٌ لِحَفْصِ ابْنِ الْأَخْيَفِ الْقُرَشِيّ.
فَلَمّا وَلّى الْغُلَامُ، قَالَ عَامِرُ بْنُ زَيْدٍ: يَا بَنِي بَكْرٍ،
مَا لَكُمْ فِي فريش مِنْ دَمٍ؟ قَالُوا: بَلَى وَاَللهِ، إنّ لَنَا
فِيهِمْ لَدِمَاءً؛ قَالَ مَا كَانَ رَجُلٌ لِيَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ
بِرَجُلِهِ إلّا كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى دَمَهُ: قَالَ: فَتَبِعْهُ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي بَكْرٍ فقتله بدم كَانَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ؛ فَتَكَلّمَتْ فِيهِ
قُرَيْشٌ، فَقَالَ عَامِرُ بْنُ يَزِيدَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَدْ كَانَتْ لَنَا فِيكُمْ دِمَاءٌ، فَمَا
شِئْتُمْ. إن شئتم فأدّوا علينا مالنا قبلكم، ونؤدّى مالكم قِبَلَنَا،
وَإِنْ شِئْتُمْ فَإِنّمَا هِيَ الدّمَاءُ: رَجُلٌ بِرَجُلِ، فَتَجَافَوْا
عَمّا لَكُمْ قِبَلَنَا، وَنَتَجَافَى عَمّا لَنَا قِبَلَكُمْ، فَهَانَ
ذَلِكَ الْغُلَامُ عَلَى هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/86)
الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: صَدَقَ،
رَجُلٌ بِرَجُلِ. فَلَهَوْا عَنْهُ، فَلَمْ يُطْلِبُوا بِهِ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا أَخُوهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَف يَسِيرُ
بِمَرّ الظّهْرَانِ، إذْ نَظَرَ إلَى عَامِرِ بْنِ يزيد بن عامر
الْمُلَوّحِ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَلَمّا رَآهُ أَقْبَلَ إلَيْهِ حَتّى
أَنَاخَ بِهِ، وَعَامِرٌ مُتَوَشّحٌ سَيْفَهُ، فَعَلَاهُ مِكْرَزٌ
بِسَيْفِهِ حَتّى قَتَلَهُ، ثُمّ خَاضَ بَطْنَهُ بِسَيْفِهِ، ثُمّ أَتَى
بِهِ مَكّةَ، فَعَلّقَهُ مِنْ اللّيْلِ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَلَمّا
أَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ رَأَوْا سَيْفَ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ
مُعَلّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَعَرَفُوهُ، فَقَالُوا:
إنّ هَذَا لَسَيْفُ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ، عَدَا عَلَيْهِ مِكْرَزُ بْنُ
حَفْصٍ فَقَتَلَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ. فبينماهم فِي ذَلِكَ
مِنْ حَرْبِهِمْ، حَجَزَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ النّاسِ؛ فَتَشَاغَلُوا بِهِ،
حَتّى أَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ إلَى بَدْرٍ، فَذَكَرُوا الّذِي
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بكر فخافوهم.
[وَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فِي قَتْلِهِ عَامِرًا:]
لَمّا رَأَيْتُ أَنّهُ هُوَ عَامِرٌ ... تَذَكّرْتُ أَشْلَاءَ الْحَبِيبِ
الْمُلَحّبِ
وَقُلْتُ لِنَفْسِي: إنّهُ هُوَ عَامِرٌ ... فَلَا تَرْهَبِيهِ، وَانْظُرِي
أَيّ مَرْكَبِ
وَأَيْقَنْتُ أَنّي إنْ أُجَلّلَهُ ضَرْبَةً ... مَتَى مَا أُصِبْهُ
بِالْفَرَافِرِ يَعْطَبْ
خَفَضْتُ لَهُ جَأْشِي وَأَلْقَيْتُ كَلْكَلِي ... عَلَى بَطَلٍ شَاكّي
السّلَاحِ مُجَرّبِ
وَلَمْ أَكُ لَمّا الْتَفّ رُوعِي وَرُوعُهُ ... عُصَارَةَ هُجُنٍ مِنْ
نِسَاءٍ وَلَا أَبِ
حَلَلْتُ بِهِ وِتْرِي وَلَمْ أَنْسَ ذَحْلَهُ ... إذَا مَا تَنَاسَى
ذَحْلَهُ كُلّ عَيْهَبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفَرَافِرُ في غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: الرّجُلُ
الْأَضْبَطُ، وَفِي هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/87)
الْمَوْضِعِ: السّيْفُ. وَالْعَيْهَبُ:
الّذِي لَا عَقْلَ لَهُ، ويقال: تيس الظباء وفحل النعام قَالَ الْخَلِيلُ:
الْعَيْهَبُ: الرّجُلُ الضّعِيفُ عَنْ إدْرَاكِ وتره.
[الشيطان وقريش]
وقال ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَ لَمّا أَجَمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ ذَكَرَتْ
الّذِي كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ، فَكَادَ ذَلِكَ
يُثْنِيهِمْ، فَتَبَدّى لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ
مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي
كِنَانَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَكُمْ جَارٌ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ
كِنَانَةُ مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا.
[خروجه صلى الله عليه وسلم]
قال ابن إسحاق: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
لَيَالٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أَصْحَابِهِ- قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ: خَرَجَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ- وَاسْتَعْمَلَ عَمْرُو بْنُ أُمّ مَكْتُومٍ- وَيُقَالُ
اسْمُهُ: عَبْدُ الله ابن أُمّ مَكْتُومٍ أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ،
عَلَى الصّلَاةِ بِالنّاسِ، ثُمّ رَدّ أَبَا لُبَابَةَ من الرّوحاء،
واستعمله على المدينة.
[اللواء والرايتان]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى مُصْعَبِ بن عمير بن هاشم
بن عبد مناف ابن عَبْدِ الدّارِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ أَبْيَضَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/88)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَمَامَ
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع عَلِيّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، يُقَالُ لَهَا: الْعُقَابُ، والأخرى مع بعض الأنصار.
[إبل المسلمين إلى بدر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَتْ إبِلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بَعِيرًا، فَاعْتَقَبُوهَا،
فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلىّ ابن أَبِي
طَالِبٍ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ يعتقبون بعيرا، وكان
حمزة ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو كَبْشَةَ،
وَأَنَسَةُ، مَوْلَيَا رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وعبد الرحمن ابن
عَوْفٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَجَعَلَ عَلَى السّاقَةِ قَيْسَ بْنَ أَبِي
صَعْصَعَةَ أَخَا بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ. وَكَانَتْ رَايَةُ
الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هشام.
[الطريق إلَى بَدْرٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَسَلَكَ طَرِيقَهُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ،
عَلَى نَقْبِ الْمَدِينَةِ، ثُمّ عَلَى الْعَقِيقِ، ثُمّ عَلَى ذِي
الْحُلَيْفَةِ، ثُمّ عَلَى أُولَاتِ الْجَيْشِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ذات الجيش.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ مَرّ عَلَى تُرْبَانَ ثم على ملل، ثم على غميس
الحمام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/89)
مِنْ مَرَيَيْنِ، ثُمّ عَلَى صُخَيْرَاتِ
الْيَمَامِ، ثُمّ عَلَى السّيّالَةِ، ثُمّ عَلَى فَجّ الرّوْحَاءِ، ثُمّ
عَلَى شَنُوكَةَ، وَهِيَ الطّرِيقُ الْمُعْتَدِلَةُ، حَتّى إذَا كَانَ
بِعِرْقِ الظّبْيَةِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الظّبْيَةُ: عَنْ غَيْرِ ابْنِ
إسْحَاقَ- لَقُوا رَجُلًا مِنْ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ النّاسِ،
فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، فَقَالَ لَهُ النّاسُ: سَلّمْ عَلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: أفيكم رَسُولُ
اللهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَسَلّمَ عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ:
إنْ كُنْتَ رَسُولَ اللهِ فَأَخْبِرْنِي عَمّا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ
قَالَ لَهُ سَلَمَةُ بن سلامة ابن وَقَشٍ: لَا تَسْأَلْ رَسُولَ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَأَقْبِلْ عَلَيّ فَأَنَا أُخْبِرُك عَنْ
ذَلِكَ. نَزَوْتَ عَلَيْهَا، فَفِي بَطْنِهَا مِنْك سَخْلَةٌ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَهْ، أَفْحَشْت عَلَى
الرّجُلِ، ثُمّ أَعَرَضَ عَنْ سلمة.
وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سجسج، وهى بئر
الرّوحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كَانَ بِالْمُنْصَرَفِ، تَرَكَ طَرِيقَ
مَكّةَ بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى النّازِيَةِ، يُرِيدُ
بَدْرًا، فَسَلَكَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا، حَتّى جَزَعَ وَادِيًا، يُقَالُ
لَهُ رُحْقَانُ، بَيْنَ النّازِيَةِ وَبَيْنَ مَضِيقِ الصّفْرَاءِ، ثُمّ
عَلَى الْمَضِيقِ، ثُمّ انْصَبّ مِنْهُ، حَتّى إذا كان قريبا من الصفراء،
بعث بسبسس بن عمرو الْجُهَنِيّ، حَلِيفَ بَنِي سَاعِدَةَ، وَعَدِيّ بْنَ
أَبِي الزّغْبَاءِ الْجُهَنِيّ، حَلِيفَ بَنِي النّجّارِ، إلَى بَدْرٍ
يَتَحَسّسَانِ لَهُ الْأَخْبَارَ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ
وَغَيْرِهِ.
ثُمّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَقَدْ
قَدِمَهَا. فَلَمّا اسْتَقْبَلَ الصّفْرَاءَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ
جَبَلَيْنِ، سَأَلَ عَنْ جَبَلَيْهِمَا مَا اسْمَاهُمَا؟ فَقَالُوا:
يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا، هَذَا مُسْلِحٌ، وَلِلْآخَرِ: هَذَا مُخْرِئٌ
وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِهِمَا، فَقِيلَ: بَنُو النّارِ وَبَنُو
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/90)
حُرَاقٍ، بَطْنَانِ مِنْ بَنِي غِفَارٍ
فَكَرِهَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُرُورُ
بَيْنَهُمَا، وَتَفَاءَلَ بِأَسْمَائِهِمَا وَأَسْمَاءِ أَهْلِهِمَا.
فَتَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالصّفْرَاءَ
بِيَسَارِ، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى وَادٍ يُقَالُ لَهُ:
ذَفِرَانَ، فجزع فيه، ثم نزل.
[قول أبى بكر وعمر والمقداد فى الجهاد]
وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ ليمنعوا عيرهم، فاستشار
الناس، وأخبرهم عن قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، فَقَالَ
وَأَحْسَنُ. ثُمّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ وَأَحْسَنُ، ثُمّ
قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، امْضِ لِمَا
أَرَاك اللهُ فَنَحْنُ مَعَك، وَاَللهِ لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بنو
إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا
قاعِدُونَ. وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّك فَقَاتِلَا إنّا معكما
مقاتلون، فو الذى بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ سِرْت بِنَا إلَى بِرْكِ
الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ، حَتّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خيرا، ودعا له به.
[الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير الأنصار]
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشِيرُوا
عَلَيّ أَيّهَا النّاس. وَإِنّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنّهُمْ
عَدَدُ النّاسِ، وَأَنّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ، قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ: إنّا بُرَاءٌ مِنْ ذِمَامِك حَتّى تَصِلَ إلَى
دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك
مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/91)
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَخَوّفُ
أَلّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إلّا مِمّنْ دَهَمَهُ
بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ
بِهِمْ إلَى عَدُوّ مِنْ بِلَادِهِمْ.
فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاَللهِ لَكَأَنّك تُرِيدُنَا يَا
رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ أَجَلْ، قال: لقد آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك،
وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقّ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى
ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ، فَامْضِ
يَا رَسُولَ الله لما أردت فنحن معك، فو الذى بَعَثَك بِالْحَقّ، لَوْ
اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك، مَا
تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا
عَدُوّنَا غَدًا، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ.
لَعَلّ اللهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك، فَسِرْ بِنَا عَلَى
بَرَكَةِ اللهِ. فَسُرّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشّطَهُ ذَلِكَ؛ ثُمّ قَالَ: سِيرُوا وَأَبْشِرُوا،
فَإِنّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ، وَاَللهِ
لَكَأَنّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ القوم.
[تفرق أَخْبَارَ قُرَيْشٍ]
ثُمّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
ذَفِرَانَ، فَسَلَكَ عَلَى ثنايا.
يقال لها الْأَصَافِرُ؛ ثُمّ انْحَطّ مِنْهَا إلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ:
الدّبّةُ، وَتَرَكَ الْحَنّانَ بِيَمِينٍ، وَهُوَ كَثِيبٌ عَظِيمٌ
كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، ثُمّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ
وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الرّجُلُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/92)
قال ابن إسحاق كَمَا حَدّثَنِي مُحَمّدُ
بْنُ يَحْيَى بْن حِبّانَ: حَتّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ الْعَرَبِ،
فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ
عَنْهُمْ، فَقَالَ الشّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتّى تُخْبِرَانِي مِمّنْ
أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا
أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاك، قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ
الشّيْخُ فَإِنّهُ بَلَغَنِي أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ
كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الّذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمْ الْيَوْمَ
بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الّذِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَبَلَغَنِي أَنّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ
كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ
الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمَكَانِ الّذِي فِيهِ قُرَيْشٌ.
فَلَمّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ، قَالَ: مِمّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ، ثُمّ
انْصَرَفَ عَنْهُ. قَالَ يَقُولُ الشّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ، أَمِنْ مَاءِ
الْعِرَاقِ؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: ذَلِكَ الشّيْخُ سُفْيَانُ الضّمَرِيّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ، وَالزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ، فِي
نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، إلَى مَاءِ بَدْرٍ، يَلْتَمِسُونَ الخبر له عليه-
كما حدثنى يزيد ابن رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ- فَأَصَابُوا
رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمَ غُلَامُ بَنِي الْحَجّاجِ، وَعَرِيضٌ
أَبُو يَسَارٍ، غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوْا بِهِمَا
فَسَأَلُوهُمَا، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَائِمٌ
يُصَلّي، فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنْ
الْمَاءِ. فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا
لِأَبِي سُفْيَانَ، فَضَرَبُوهُمَا. فلما أذنقوهما قَالَا: نَحْنُ لِأَبِي
سُفْيَانَ، فَتَرَكُوهُمَا. وَرَكَعَ رَسُولُ الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/93)
صلى الله عليه وسلم وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ،
ثُمّ سَلّمَ، وَقَالَ إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا
كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا وَاَللهِ إنّهُمَا لِقُرَيْشِ،
أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ؟
قَالَا: هُمْ وَاَللهِ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الّذِي تَرَى
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى- وَالْكَثِيبُ:
الْعَقَنْقَلُ- فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ: كَمْ الْقَوْمُ؟ قَالَا: كَثِيرٌ، قَالَ: مَا عِدّتُهُمْ؟
قَالَا: لَا نَدْرِي، قَالَ كم ينحرون كلّ يوم؟ قال: يَوْمًا تِسْعًا،
وَيَوْمًا عَشْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَ التسعمائة وَالْأَلْفِ. ثُمّ قَالَ
لَهُمَا: فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أشراف قريش؟ قالا: عتبة ابن رَبِيعَةَ،
وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ
بْنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنّضْرُ بْنِ
الْحَارِثِ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ،
وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهُ، وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ،
وَسُهَيْلُ بن عمرو، وعمرو بن عبدودّ.
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى النّاسِ،
فَقَالَ هَذِهِ مَكّةُ قَدْ أَلْقَتْ إليكم أفلاذ كبدها.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَدِيّ بْنُ أَبِي
الزّغْبَاءِ قَدْ مَضَيَا حَتّى نَزَلَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا إلَى تَلّ
قَرِيبٍ مِنْ الْمَاءِ، ثُمّ أَخَذَا شَنّا لَهُمَا يَسْتَقِيَانِ فِيهِ،
ومَجْدِيّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيّ عَلَى الْمَاءِ. فَسَمِعَ عَدِيّ
وَبَسْبَسُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ جِوَارِي الْحَاضِرِ وَهُمَا يَتَلَازَمَانِ
عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَلْزُومَةُ تَقُولُ لِصَاحِبَتِهَا: إنّمَا تَأْتِي
الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَأَعْمَلُ لهم، ثم أفضيك الّذِي لَك.
قَالَ مَجْدِيّ: صَدَقْتِ ثُمّ خَلّصَ بَيْنَهُمَا. وَسَمِعَ ذَلِكَ عَدِيّ
وَبَسْبَسُ، فَجَلَسَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/94)
عَلَى بَعِيرَيْهِمَا، ثُمّ انْطَلَقَا
حَتّى أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. فَأَخْبَرَاهُ
بِمَا سمعا.
[نجاة أبى سفيان بِالْعِيرِ]
وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، حَتّى تَقَدّمَ الْعِيرَ حَذَرًا،
حَتّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَقَالَ لِمَجْدِيّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْت
أَحَدًا، فَقَالَ: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَنْكَرَهُ، إلّا أَنّي قَدْ
رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ قَدْ أَنَاخَا إلَى هَذَا التّلّ، ثُمّ اسْتَقَيَا
فِي شَنّ لَهُمَا، ثُمّ انْطَلَقَا. فأتى أبو سفيان مناخها، فَأَخَذَ مِنْ
أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا، فَفَتّهُ، فَإِذَا فِيهِ النّوَى، فَقَالَ:
هَذِهِ وَاَللهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ. فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا،
فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنْ الطّرِيقِ فَسَاحَلَ بِهَا، وَتَرَكَ بَدْرًا
بِيَسَارِ، وَانْطَلَقَ حتى أسرع.
[رؤيا جهيم بن الصلت]
وأقبلت قُرَيْشٌ، فَلَمّا نَزَلُوا الْجُحْفَةَ، رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصلت
ابن مخرمة ابن الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا، فَقَالَ: إنّي
رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النّائِمُ، وَإِنّي لَبَيْنَ النّائِمِ
وَالْيَقِظَانِ. إذْ نَظَرْت إلَى رَجُلٍ قَدْ أَقْبَلَ على قرس حَتّى
وَقَفَ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ؛ ثُمّ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ،
وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَعَدّدَ رِجَالًا مِمّنْ
قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ثُمّ رَأَيْتُهُ ضَرَبَ
فِي لَبّةِ بَعِيرِهِ، ثُمّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ
خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إلّا أَصَابَهُ نَضْحٌ مِنْ دَمِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/95)
قَالَ: فَبَلّغْت أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ:
وَهَذَا أَيْضًا نَبِيّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا من
المقتول إن نحن التقينا.
[كان أبو سفيان لا يريد حربا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنّهُ قَدْ أَحْرَزَ
عِيرَهُ، أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ: إنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا
عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجّاهَا اللهُ،
فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاَللهِ لَا نَرْجِعُ
حَتّى نَرِدَ بَدْرًا- وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ،
يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ سُوقٌ كُلّ عَامٍ- فَنُقِيمُ عليه ثلاثا، فننحر
الجزر ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا الْعَرَبُ
وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا
بعدها، فامضوا.
[رجوع بنى زُهْرَةَ]
وَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ الثّقَفِيّ،
وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ: يَا بَنِي
زُهْرَةَ، قَدْ نَجّى اللهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَخَلّصَ لَكُمْ
صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ
وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا لِي جُبْنَهَا وَارْجِعُوا، فَإِنّهُ لَا حَاجَةَ
لَكُمْ بِأَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ، لَا مَا يَقُولُ هَذَا،
يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ: فَرَجَعُوا، فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيّ وَاحِدٌ،
أَطَاعُوهُ وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا.
وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ بَطْنٌ إلّا وَقَدْ نَفَرَ مِنْهُمْ
نَاسٌ، إلّا بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ
وَاحِدٌ، فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، فَلَمْ
يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ، وَمَشَى
الْقَوْمُ. وَكَانَ بَيْنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/96)
طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- وَكَانَ فِي
الْقَوْمِ- وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ، فَقَالُوا:
وَاَللهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ، وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا،
أَنّ هَوَاكُمْ لَمَعَ. مُحَمّدٍ فَرَجَعَ طَالِبٌ إلَى مكة مع من رجع.
وقال طالب بن أبى طالب:
لاهمّ إمّا يَغْزُوَنّ طَالِبْ ... فِي عُصْبَةٍ مُحَالِفٌ مُحَارِبْ
فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبِ ... فَلْيَكُنْ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ
السّالِبِ
وَلْيَكُنْ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ
قَالَ ابن هشام: قوله فليكن المسلوب، وقوله: ولكن الْمَغْلُوبُ عَنْ غَيْرِ
وَاحِدٍ مِنْ الرّوَاةِ لِلشّعْرِ.
[منزل المسلمين ومنزل قريش]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ
الْقُصْوَى مِنْ الْوَادِي، خَلْفَ الْعَقَنْقَلِ وَبَطْنِ الْوَادِي،
وَهُوَ يَلَيْلُ، بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ الْعَقَنْقَلِ، الكثيب الذى خلفه
قُرَيْشٌ، وَالْقُلُبُ بِبَدْرِ فِي الْعُدْوَةِ الدّنْيَا مِنْ بَطْنِ
يَلَيْلَ إلَى الْمَدِينَةِ. وَبَعَثَ اللهُ السّمَاءَ، وَكَانَ الْوَدْيُ
دَهْسًا، فَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَصْحَابُهُ مِنْهَا مَا لَبّدَ لَهُمْ الْأَرْضَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ
عَنْ السّيْرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم
يبادرهم إلى الماء، حَتّى إذَا جَاءَ أَدُنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نزل به.
[مشورة الحباب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدّثْت عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ،
أَنّهُمْ ذَكَرُوا: أَنّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/97)
الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ
الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ،
أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ، وَلَا
نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ:
بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى
نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فننزله، ثم نعوّر مَا وَرَاءَهُ
مِنْ الْقُلُبِ، ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ
نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ. فَنَهَضَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْ مَعَهُ مِنْ
النّاسِ، فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ
عَلَيْهِ، ثُمّ أَمَرَ بالقلب فعورت، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ
الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فملىء مَاءً، ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ.
[بِنَاءُ الْعَرِيشِ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ
حُدّثَ: أَنّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ، أَلَا نَبْنِي
لَك عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ، وَنُعِدّ عِنْدَك رَكَائِبَك، ثُمّ نَلْقَى
عَدُوّنَا، فَإِنْ أَعَزّنَا اللهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوّنَا، كَانَ
ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى، جَلَسْت عَلَى
رَكَائِبِك، فَلَحِقْت بِمَنْ وَرَاءَنَا، فَقَدْ تَخَلّفَ عَنْك
أَقْوَامٌ، يَا نَبِيّ اللهِ، مَا نَحْنُ بِأَشَدّ لَك حُبّا مِنْهُمْ،
وَلَوْ ظَنّوا أَنّك تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلّفُوا عَنْك، يَمْنَعُك
اللهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَك: فَأَثْنَى عَلَيْهِ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ
بِخَيْرِ. ثُمّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عريش، فكان فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/98)
[ارْتِحَالُ قُرَيْشٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ،
فَأَقْبَلَتْ، فَلَمّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَصَوّبَ مِنْ العقنقل- وهو الكثيب الذى جاؤا مِنْهُ إلَى الْوَادِي-
قَالَ: اللهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا
وَفَخْرِهَا، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك، اللهُمّ فَنَصْرَك الّذِي
وَعَدْتنِي، اللهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وَقَدْ)
رَأَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ-
إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ
الْأَحْمَرِ إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا.
وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ أَيْمَاءَ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيّ، أَوْ
أَبُوهُ أَيْمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيّ، بَعَثَ إلَى قُرَيْشٍ،
حِينَ مَرّوا بِهِ، ابْنَا لَهُ بِجَزَائِرِهِ أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ:
إنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نُمِدّكُمْ بِسِلَاحِ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا. قَالَ:
فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ: أَنْ وَصَلَتْك رَحِمٌ، قَدْ قَضَيْت
الّذِي عَلَيْك، فَلَعَمْرِي لَئِنْ كُنّا إنّمَا نُقَاتِلُ النّاسَ فَمَا
بِنَا مِنْ ضَعْفٍ عَنْهُمْ، وَلَئِنْ كُنّا إنّمَا نُقَاتِلُ اللهَ، كَمَا
يَزْعُمُ مُحَمّدٌ، فَمَا لأحد بالله من طاقة.
فلما نَزَلَ النّاسُ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتّى وَرَدُوا حَوْضَ
رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ
حِزَامٍ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
دَعُوهُمْ.
فَمَا شَرِبَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ إلّا قُتِلَ، إلّا مَا كَانَ مِنْ
حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَإِنّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/99)
لَمْ يُقْتَلْ، ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدَ
ذَلِكَ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُ. فَكَانَ إذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ،
قَالَ: لا والذى نجّانى من يوم بدر.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يَسَارٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: لَمّا اطْمَأَنّ
الْقَوْمُ، بَعَثُوا عمير بن وهب الجمحىّ فقالوا: احزر، لَنَا أَصْحَابَ
مُحَمّدٍ، قَالَ: فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ العسكر ثم رجع إليهم،
فقال ثلاث مائة رَجُلٍ، يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَلَكِنْ
أَمْهِلُونِي حَتّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ؟ قَالَ:
فَضَرَبَ فِي الْوَادِي حَتّى أَبْعَدَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ
إلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلَكِنّي قَدْ رَأَيْتُ، يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ
تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا
مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ، وَاَللهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ، حَتّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ
أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَرُوا رَأْيَكُمْ.
فَلَمّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي النّاسِ، فَأَتَى
عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَقَالَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، إنّك كَبِيرُ
قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا، وَالْمُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَك إلَى أَنْ لَا
تَزَالَ تُذْكَرُ فِيهَا بِخَيْرِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ
يَا حَكِيمُ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنّاسِ، وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِك
عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، أَنْتَ عَلَيّ
بِذَلِكَ، إنّمَا هُوَ حَلِيفِي، فَعَلَيّ عَقْلُهُ وَمَا أصيب من ماله،
فأت ابن الحنظيّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/100)
[نسب الحنظلية]
قال ابن هشام: وَالْحَنْظَلِيّةُ أُمّ أَبِي جَهْلٍ، وَهِيَ أَسَمَاءُ
بِنْتُ مُخَرّبَةَ، أَحَدُ بَنِي نَهْشِلْ بْنِ دَارِمِ بْنِ مالك بن حنظلة
بن مالك بن زيد مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ- فَإِنّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ
أَمْرَ النّاسِ غَيْرُهُ، يَعْنِي أَبَا جَهْلِ بن هشام. ثم قام عتبة ابن
رَبِيعَةَ خَطِيبًا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّكُمْ وَاَللهِ مَا
تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلَقّوْا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَاَللهِ
لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرّجُلُ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَجُلٍ
يَكْرَهُ النّظَرَ إلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمّهِ أَوْ ابْنَ خَالِهِ، أَوْ
رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَارْجِعُوا وَخَلّوا بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ
سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوهُ فَذَاكَ الّذِي أَرَدْتُمْ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَلْفَاكُمْ وَلَمْ تَعَرّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ.
قَالَ حَكِيمٌ: فَانْطَلَقْتُ حتى جئت أبا جهل، فَوَجَدْته قَدْ نَثَلَ
دِرْعًا لَهُ مِنْ جِرَابِهَا، فَهُوَ يُهَنّئُهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
يُهَيّئُهَا- فَقُلْتُ له: يا أبا الحكم إنّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي إلَيْك
بِكَذَا وَكَذَا، لِلّذِي قَالَ، فَقَالَ: انْتَفَخَ وَاَللهِ سَحْرُهُ
حِينَ رَأَى مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، كَلّا وَاَللهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى
يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ،
وَلَكِنّهُ قَدْ رَأَى أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ،
وَفِيهِمْ ابْنُهُ، فَقَدْ تَخَوّفَكُمْ عَلَيْهِ. ثُمّ بَعَثَ إلَى
عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ، فَقَالَ: هَذَا حَلِيفُك يُرِيدُ أَنْ
يَرْجِعَ بِالنّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَك بِعَيْنِك، فَقُمْ فَانْشُدْ
خُفْرَتَكَ، وَمَقْتَلَ أَخِيك.
فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَاكْتَشَفَ ثُمّ صَرَخَ: وَاعَمْرَاه،
وَاعَمْرَاه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/101)
فَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَحَقِبَ النّاسُ،
وَاسْتَوْسَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشّرّ، وَأُفْسِدَ عَلَى
النّاسِ الرأى الذى دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عُتْبَةَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ «انْتَفَخَ وَاَللهِ سَحْرُهُ» ،
قَالَ: سَيَعْلَمُ مُصَفّرُ اسْتِهِ مَنْ انْتَفَخَ سَحْرُهُ، أَنَا أَمْ
هُوَ؟.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: السّحْرُ: الرّئَةُ وَمَا حَوْلَهَا مِمّا يَعْلَقُ
بِالْحُلْقُومِ مِنْ فَوْقِ السّرّةِ. وَمَا كَانَ تَحْتَ السّرّةِ، فَهُوَ
الْقُصْبُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ يَجُرّ
قُصْبَهُ فِي النّارِ: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي بِذَلِكَ أَبُو
عُبَيْدَةَ.
ثُمّ الْتَمَسَ عُتْبَةُ بَيْضَةً لِيُدْخِلَهَا فِي رَأْسِهِ، فَمَا
وَجَدَ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعُهُ مِنْ عِظَمِ هَامَتِهِ، فَلَمّا
رَأَى ذَلِكَ اعْتَجَرَ عَلَى رَأْسِهِ بِبُرْدٍ لَهُ.
[مَقْتَلُ الْأَسْوَدِ الْمَخْزُومِيّ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ خَرَجَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ
الْمَخْزُومِيّ، وَكَانَ رَجُلًا شَرِسًا سَيّئَ الْخُلُقِ، فَقَالَ:
أُعَاهِدُ اللهَ لأشربن من حوضهم، أو لأهد منّه، أَوْ لَأَمُوتَنّ دُونَهُ،
فَلَمّا خَرَجَ خَرَجَ إلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَلَمّا
الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، وَهُوَ
دُونَ الْحَوْضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخَبُ رِجْلُهُ دَمًا نَحْوَ
أَصْحَابِهِ، ثُمّ حَبَا إلَى الْحَوْضِ حَتّى اقتحم فيه، يريد (زَعَمَ) -
أَنْ يُبِرّ يَمِينَهُ، وَأَتْبَعَهُ حَمْزَةُ فَضَرَبَهُ حَتّى قَتَلَهُ
فِي الْحَوْضِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/102)
[دُعَاءُ عُتْبَةَ إلَى الْمُبَارَزَةِ]
قَالَ: ثُمّ خَرَجَ بَعْدَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، بَيْنَ أَخِيهِ
شَيْبَةَ بن ربيعة وابنه الوليد ابن عُتْبَةَ، حَتّى إذَا فَصَلَ مِنْ
الصّفّ دَعَا إلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ: عَوْفٌ، وَمُعَوّذٌ، ابْنَا الْحَارِثِ-
وَأُمّهُمَا عَفْرَاءُ- وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ: هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ
رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ،
قَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا
مُحَمّدُ، أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ
الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا على، فلما قاموا دنوا
مِنْهُمْ، قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ:
عُبَيْدَةُ، وَقَالَ حَمْزَةُ: حَمْزَةُ، وَقَالَ عَلِيّ: عَلِيّ، قَالُوا:
نَعَمْ، أَكْفَاءٌ كِرَامٌ.
فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ، وَكَانَ أَسَنّ الْقَوْمِ، عُتْبَةَ (بْنَ)
رَبِيعَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ ابن رَبِيعَةَ، وَبَارَزَ عَلِيّ
الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ. فَأَمّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ
قَتَلَهُ؛ وَأَمّا عَلِيّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ؛
وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ، كِلَاهُمَا
أَثْبَتَ صَاحِبَهُ؛ وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى
عُتْبَةَ فَذَفّفَا عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى
أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ: أَنّ عُتْبَةَ بْنَ
رَبِيعَةَ قَالَ لِلْفِتْيَةِ من الْأَنْصَارُ، حِينَ انْتَسَبُوا:
أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، إنّمَا نُرِيدُ قومنا.
[الْتِقَاءُ الْفَرِيقَيْنِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ تَزَاحَفَ النّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ، وَقَدْ أَمَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/103)
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتّى يَأْمُرَهُمْ، وَقَالَ:
إنْ اكْتَنَفَكُمْ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنّبْلِ،
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ، مَعَهُ
أبو بكر الصدّيق.
فَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ
مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَمَا حَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ
عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ.
[ابْنُ غَزِيّةَ وَضَرْبُ الرّسُولِ لَهُ فِي بَطْنِهِ بِالْقَدَحِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حِبّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حِبّانَ عَنْ
أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَدّلَ صُفُوفَ
أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ يُعَدّلُ بِهِ الْقَوْمَ،
فَمَرّ بِسَوَادِ بْنِ غزية، حليف بنى عدىّ ابن النّجّارِ- قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ: يُقَالُ، سَوّادٌ؛ مُثَقّلَةٌ، وَسَوَادٌ فِي الْأَنْصَارِ غَيْرُ
هَذَا، مُخَفّفٌ- وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ مِنْ الصّفّ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَيُقَالُ: مُسْتَنْصِلٌ مِنْ الصّفّ- فَطُعِنَ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ،
وقال: استو ياسوّاد، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْجَعْتنِي وَقَدْ
بَعَثَك اللهُ بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ، قَالَ: فَأَقِدْنِي. فَكَشَفَ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَطْنِهِ، وَقَالَ:
اسْتَقِدْ، قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ فَقَبّلَ بَطْنَهُ: فَقَالَ:
مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا يَا سَوّادُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهَ، حَضَرَ
مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَهْدِ بِك أَنْ يَمَسّ
جِلْدِي جِلْدَك. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عليه وسلم بخير
وقال له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/104)
[مُنَاشَدَةُ الرّسُولِ رَبّهُ النّصْرَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ عَدّلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وسلم الصفوف، ورجع إلى العريش فَدَخَلَهُ، وَمَعَهُ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ
الصّدّيقُ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَرَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُنَاشِدُ رَبّهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ النّصْرِ، وَيَقُولُ
فِيمَا يَقُولُ: اللهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا
تُعْبَدْ، وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيّ اللهِ: بَعْضَ مُنَاشَدَتُك
رَبّك، فَإِنّ اللهَ مُنَجّزٌ لَك مَا وَعَدَك. وَقَدْ خَفَقَ رَسُولُ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خففة وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ، ثُمّ
انْتَبَهَ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاك نَصْرُ اللهِ. هَذَا
جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسٍ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النّقع.
[أول قتيل]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ رُمِيَ مِهْجَعٌ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطّاب بِسَهْمِ فَقُتِلَ، فَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ،
ثُمّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سراقة، أحد بنى عدىّ ابن النّجّارِ، وَهُوَ
يَشْرَبُ مِنْ الْحَوْضِ، بِسَهْمِ فَأَصَابَ نحره، فقتل.
[تَحْرِيضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ]
قَالَ: ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى
النّاسِ فَحَرّضَهُمْ، وَقَالَ:
وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رَجُلٌ
فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إلّا
أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنّةَ. فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ، أَخُو
بَنِي سَلَمَةَ، وفى يده ثمرات يَأْكُلُهُنّ: بَخْ بَخْ، أَفَمَا بَيْنِي
وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنّةَ إلّا أَنْ يَقْتُلَنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/105)
هَؤُلَاءِ؟ ثُمّ قَذَفَ التّمَرَاتِ مِنْ
يَدِهِ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتّى قُتِلَ.
قَالَ ابْنُ إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أَن عَوْفَ بْنَ
الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا
يُضْحِكُ الرّبّ مِنْ عَبْدِهِ، قَالَ: غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوّ
حَاسِرًا. فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَهَا، ثُمّ أخذ سيفه
فقاتل حتى قتل.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهرىّ، عن عبد الله ابن
ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيّ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، أَنّهُ
حَدّثَهُ: أَنّهُ لَمّا الْتَقَى النّاسُ وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ،
قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: اللهُمّ أَقْطَعَنَا لِلرّحِمِ،
وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ. فَكَانَ هُوَ
الْمُسْتَفْتِحَ.
[رَمْيُ الرّسُولِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ الْحَصْبَاءِ فَاسْتَقْبَلَ قُرَيْشًا
بِهَا، ثُمّ قَالَ: شَاهَتْ الْوُجُوهُ، ثُمّ نَفَحَهُمْ بِهَا، وَأَمَرَ
أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: شِدّوا، فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللهُ
تَعَالَى مَنْ قُتِلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ
أَشْرَافِهِمْ. فَلَمّا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ
وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ،
وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَائِمٌ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، الّذِي فِيهِ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، متوشّحا السّيْفِ، فِي
نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، يَخَافُونَ عَلَيْهِ كَرّةَ الْعَدُوّ، وَرَأَى رَسُولُ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا ذُكِرَ لِي- فِي وَجْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/106)
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا
يَصْنَعُ النّاسَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ: وَاَللهِ لَكَأَنّك يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ الْقَوْمَ،
قَالَ: أَجَلْ وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَتْ أَوّلَ وَقْعَةٍ
أَوْقَعَهَا اللهُ بِأَهْلِ الشّرْكِ. فَكَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ
بِأَهْلِ الشّرْكِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرّجَالِ.
[نَهْيُ النّبِيّ أَصْحَابَهُ عَنْ قَتْلِ نَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: إنّي قَدْ
عَرَفْت أَنّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أَخْرَجُوا
كُرْهًا، لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا
مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ
بْنَ هِشَامِ ابن الْحَارِثِ ابْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ
الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، عَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنّهُ إنّمَا أُخْرِجَ
مُسْتَكْرَهًا. قَالَ:
فَقَالَ: أَبُو حُذَيْفَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا
وَإِخْوَتَنَا وَعَشِيرَتَنَا. وَنَتْرُكُ الْعَبّاسَ، وَاَللهِ لَئِنْ
لَقِيتُهُ لَأُلْحِمَنّهُ السّيْفَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ:
لَأُلْجِمَنّهُ (السّيْفَ) - قَالَ: فَبَلَغَتْ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَقَالَ لِعُمَرِ ابن الْخَطّابِ: يَا أَبَا حَفْصٍ-
قَالَ عُمَرُ: وَاَللهِ إنّهُ لَأَوّلُ يَوْمٍ كَنّانِي فِيهِ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي حَفْصٍ- أَيُضْرَبُ
وَجْهُ عَمّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسّيْفِ؟
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله
لَقَدْ نَافَقَ. فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ: مَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ
تِلْكَ الْكَلِمَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/107)
الّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا أَزَالُ
مِنْهَا خَائِفًا، إلّا أَنْ تُكَفّرَهَا عَنّي الشّهَادَةُ.
فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَإِنّمَا نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيّ لِأَنّهُ كَانَ أَكَفّ
الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
بِمَكّةَ، وَكَانَ لَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَبْلُغُهُ عَنْهُ شَيْءٌ
يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمّنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبَتْ
قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ. فَلَقِيَهُ
الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيّ، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، ثُمّ مِنْ
بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ الْمُجَذّرُ لِأَبِي الْبَخْتَرِيّ:
إنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد نَهَانَا عَنْ قَتْلِك- وَمَعَ
أَبِي الْبَخْتَرِيّ زَمِيلٌ لَهُ قَدْ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكّةَ، وَهُوَ
جُنَادَةُ بْنُ مُلَيْحَةَ بِنْتِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بن أسد؛
وَجُنَادَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ. وَاسْمُ أَبِي الْبَخْتَرِيّ:
الْعَاصِ- قَالَ: وَزَمِيلِي؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجَذّرُ: لَا وَاَللهِ، مَا
نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِك، مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا بِك وَحْدَك؛ فَقَالَ: لَا وَاَللهِ، إذَنْ
لَأَمُوتَن أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لَا تَتَحَدّثُ عَنّي نِسَاءُ مَكّةَ
أَنّي تَرَكْت زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ. فَقَالَ أَبُو
الْبَخْتَرِيّ حِينَ نَازَلَهُ الْمُجَذّرُ، وَأَبَى إلّا الْقِتَالَ،
يَرْتَجِزُ:
لَنْ يُسْلِمَ ابْنُ حُرّةَ زَمِيلَهُ ... حَتّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى
سَبِيلَهُ
فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ. وَقَالَ الْمُجَذّرُ
بْنُ ذِيَادٍ فِي قَتْلِهِ أَبَا الْبَخْتَرِيّ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/108)
إمّا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبِي ...
فَأَثْبِتْ النّسْبَةَ أَنّي مَنْ بَلِيَ
الطّاعِنِينَ بِرِمَاحِ الْيَزْنِيّ ... وَالضّارِبِينَ الْكَبْشَ حَتّى
يَنْحَنِيَ
بَشّرْ بِيُتْمِ مَنْ أَبُوهُ الْبَخْتَرِيّ ... أَوْ بَشّرْنَ بِمِثْلِهَا
مِنّي بَنِي
أَنَا الّذِي يُقَالُ أَصْلِي مَنْ بَلِيَ ... أَطْعَنُ بِالصّعْدَةِ حَتّى
تَنْثَنِيَ
وَأَعْبِطْ الْقِرْنَ بِعَضْبِ مَشْرَفِيّ ... أُرْزِمُ لِلْمَوْتِ
كَإِرْزَامِ الْمَرِيّ
فَلَا تَرَى مُجَذّرًا يَفْرِي فَرِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: «الْمَرِيّ» عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
وَالْمَرِيّ: النّاقَةُ الّتِي يُسْتَنْزَلُ لَبَنُهَا عَلَى عُسْرٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ الْمُجَذّرَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَقَالَ:
وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَقَدْ جَهَدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ
فَآتِيك بِهِ، (فَأَبَى) إلّا أن يقاتلنى، فقاتلته فقتلته.
قال ابن هشام: أبو البختري: العاص بن هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ.
[مَقْتَلُ أُمَيّةَ بن خلف]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِيهِ
أَيْضًا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وغيرهما، عن عبد الرحمن ابن عَوْفٍ
قَالَ: كَانَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكّةَ، وَكَانَ اسْمِي
عَبْدَ عَمْرٍو، فَتَسَمّيْت، حِينَ أَسْلَمْتُ، عَبْدَ الرّحْمَنِ،
وَنَحْنُ بِمَكّةَ، فَكَانَ يَلْقَانِي إذْ نَحْنُ بِمَكّةَ فَيَقُولُ: يَا
عَبْدَ عَمْرٍو، أَرَغِبْتَ عَنْ اسْمٍ سَمّاكَهُ أَبَوَاك؟ فَأَقُولُ:
نعم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/109)
فَيَقُولُ: فَإِنّي لَا أَعْرِفُ
الرّحْمَنَ، فَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَك شَيْئًا أَدْعُوك بِهِ، أَمّا
أَنْتَ فَلَا تجيا بنى بِاسْمِك الْأَوّلِ، وَأَمّا أَنَا فَلَا أَدْعُوك
بِمَا لا أعرف، قال: فكان إذا دعائى: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، لَمْ أُجِبْهُ.
قَالَ: فَقُلْت لَهُ: يَا أَبَا عَلِيّ، اجْعَلْ مَا شِئْت، قَالَ:
فَأَنْتَ عَبْدُ الْإِلَهِ؛ قَالَ: فَقُلْت: نَعَمْ، قَالَ: فَكُنْت إذَا
مَرَرْتُ بِهِ قَالَ:
يَا عَبْدَ الْإِلَهِ فَأُجِيبُهُ، فَأَتَحَدّثُ مَعَهُ. حَتّى إذَا كَانَ
يَوْمَ بَدْرٍ، مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ، عَلِيّ بْنُ
أُمَيّةَ، آخُذُ بِيَدِهِ، وَمَعِي أَدْرَاعٌ، قَدْ اسْتَلَبْتُهَا،
فَأَنَا أَحْمِلُهَا. فَلَمّا رَآنِي قَالَ لِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو،
فَلَمْ أُجِبْهُ؛ فَقَالَ: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ؟ فَقُلْت:
نَعَمْ، قَالَ: هَلْ لَك فِيّ، فَأَنَا خَيْرٌ لَك مِنْ هَذِهِ
الْأَدْرَاعِ الّتِي مَعَك؟ قَالَ: قُلْت:
نَعَمْ، هَا اللهِ ذَا، قَالَ: فَطَرَحْتُ الْأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي،
وَأَخَذْت بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْت
كَالْيَوْمِ قَطّ، أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللّبَنِ؟ (قَالَ) :
ثُمّ خَرَجْت أَمْشِي بِهِمَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُرِيدُ بِاللّبَنِ، أَنّ مَنْ أَسَرَنِي افْتَدَيْتُ
مِنْهُ بِإِبِلِ كَثِيرَةِ اللّبَنِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ،
عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،
قَالَ: قَالَ لِي أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
ابْنِهِ، آخِذٌ بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ، مَنْ الرّجُلُ
مِنْكُمْ الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟
قَالَ: قُلْت: ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؛ قَالَ: ذَاكَ
الّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ؛ قَالَ عبد الرحمن: فو الله إنّي
لَأَقُودُهُمَا إذْ رَآهُ بِلَالٌ مِعَى- وَكَانَ هُوَ الّذِي يُعَذّبُ
بِلَالًا بِمَكّةَ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ، فَيُخْرِجُهُ إلَى رَمْضَاءَ
مَكّةَ إذَا حَمَيْت، فيضجعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/110)
عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمّ يَأْمُرُ
بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمّ يَقُولُ: لَا
تَزَالُ هَكَذَا أَوْ تُفَارِقَ دِينَ مُحَمّدٍ، فَيَقُولُ بِلَالٌ: أَحَدٌ
أَحَدٌ. قَالَ: فَلَمّا رَآهُ، قَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيّةُ بْنُ
خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا. قَالَ: قُلْت: أَيْ بِلَالٌ،
أَبِأَسِيرَيّ قَالَ: لَا نجوت إن نجا. قال: قلت: أتسمع يابن السّوْدَاءِ،
قَالَ:
لَا نَجَوْت إنْ نَجَا. قَالَ: ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا
أَنْصَارَ اللهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إنْ
نَجَا. قَالَ: فَأَحَاطُوا بِنَا حَتّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمُسْكَةِ
وَأَنَا أَذُبّ عَنْهُ. قَالَ: فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السّيْفَ، فَضَرَبَ
رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، وَصَاحَ أُمَيّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ
مِثْلَهَا قَطّ: قَالَ: فَقُلْت اُنْجُ بِنَفْسِك، وَلَا نُجَاءَ بِك فو
الله مَا أُغْنِي عَنْك شَيْئًا. قَالَ: فَهَبِرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ،
حَتّى فَرَغُوا مِنْهُمَا. قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يَقُولُ:
يَرْحَمُ اللهُ بِلَالًا، ذَهَبَتْ أَدْرَاعِي وَفَجَعَنِي بأسيرىّ.
[شهود الملائكة وقعة بدر]
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ قَالَ: حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ أَقْبَلْت
أَنَا وَابْنُ عَمّ لِي حَتّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ يُشْرِفُ بِنَا عَلَى
بَدْرٍ، وَنَحْنُ مُشْرِكَانِ، نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ
الدّبْرَةُ، فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ
فِي الْجَبَلِ، إذْ دَنَتْ مِنّا سَحَابَةٌ، فَسَمِعْنَا فيها حمحمة الخيل،
فسمعت قائلا يقول: أفدم حَيْزُومُ، فَأَمّا ابْنُ عَمّي فَانْكَشَفَ
قِنَاعُ قَلْبِهِ، فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأَمّا أَنَا فَكِدْت أَهْلَكَ،
ثُمّ تماسكت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/111)
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أَبِي
بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ
رَبِيعَةَ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ، بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ:
لَوْ كُنْت الْيَوْمَ بِبَدْرِ وَمَعِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكُمْ الشّعْبَ
الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكّ فِيهِ وَلَا
أَتَمَارَى.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ
رِجَالٍ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ، عَنْ أَبِي دَاوُد
الْمَازِنِيّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ: إنّي لَأَتّبِعُ رَجُلًا
مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَضْرِبَهُ، إذْ وَقَعَ رَأْسُهُ
قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنّهُ قَدْ قَتَلَهُ
غَيْرِي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ،
مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ،
قَالَ: كَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ
أَرْسَلُوهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنّ عَلِيّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
الْعَمَائِمُ: تِيجَانُ الْعَرَبِ، وَكَانَتْ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ
بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْخَوْهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ، إلّا
جِبْرِيلُ فَإِنّهُ كَانَتْ عليه عمامة صفراء.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ
ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: وَلَمْ تُقَاتِلْ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى
بَدْرٍ مِنْ الْأَيّامِ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ
الْأَيّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/112)
[مقتل أبى جهل]
قال ابن إسحاق: وأفبل أَبُو جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ يَرْتَجِزُ، وَهُوَ
يُقَاتِلُ وَيَقُولُ:
مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ مِنّي ... بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ
سنى
لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمّي
[شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ بِبَدْرِ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وَسَلّمَ
يَوْمَ بَدْرٍ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
[عَوْدٌ إلَى مقتل أبى جهل]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ عَدُوّهِ، أَمَرَ بِأَبِي جَهْلٍ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي
الْقَتْلَى.
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ، كَمَا حَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ
يَزِيدَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ أَيْضًا قَدْ حَدّثَنِي ذلك، قالا: قال معاذ بن عَمْرِو بْنِ
الْجَمُوحِ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ وَأَبُو جَهْلٍ فِي
مِثْلِ الْحَرَجَةِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْحَرَجَةُ: الشّجَرُ
الْمُلْتَفّ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ:
أَنّهُ سَأَلَ أَعْرَابِيّا عَنْ الْحَرَجَةِ؛ فَقَالَ: هِيَ شَجَرَةٌ مِنْ
الْأَشْجَارِ لا يوصل إليها- وهم يقولون: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُخْلَصُ
إلَيْهِ. قَالَ: فَلَمّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْت
نَحْوَهُ، فَلَمّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبْته ضَرْبَةً
أَطَنّتْ قَدَمَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/113)
بنصف ساقه، فو الله مَا شَبّهْتهَا حِينَ
طَاحَتْ إلّا بِالنّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النّوَى حِينَ
يُضْرَبُ بِهَا. قَالَ: وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي،
فَطَرَح يَدِي فَتَعَلّقَتْ بِجَلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي
الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامّةَ يَوْمِي، وَإِنّي
لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي، ثُمّ
تَمَطّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتّى طَرَحْتُهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتّى كَانَ زَمَانُ
عُثْمَانَ.
ثُمّ مَرّ بِأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ عَقِيرٌ، مُعَوّذُ بْنُ عَفْرَاءَ،
فَضَرَبَهُ حَتّى أَثْبَتَهُ، فَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ. وَقَاتَلَ
مُعَوّذٌ حَتّى قُتِلَ، فَمَرّ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي
جَهْلٍ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وَسَلّمَ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي
الْقَتْلَى، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم- فِيمَا بَلَغَنِي- اُنْظُرُوا، إنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي
الْقَتْلَى، إلَى أَثَرِ جُرْحٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَإِنّي ازْدَحَمْتُ
يَوْمًا أَنَا وَهُوَ عَلَى مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ،
وَنَحْنُ غُلَامَانِ، وَكُنْتُ أَشَفّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ
فَوَقَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَجُحِشَ فِي إحْدَاهُمَا جَحْشًا لَمْ
يَزَلْ أَثَرُهُ بِهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْته
بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ- قَالَ:
وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي مَرّةً بِمَكّةَ، فَآذَانِي وَلَكَزَنِي، ثُمّ
قُلْت لَهُ: هَلْ أَخْزَاك اللهُ يَا عَدُوّ اللهِ؟ قَالَ:
وَبِمَاذَا أَخْزَانِي، أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَخْبِرْنِي
لِمَنْ الدّائِرَةُ الْيَوْمَ؟ قال:
قلت: لله ولرسوله.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ضَبَثَ: قَبَضَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ. قال ضابىء بْنُ
الْحَارِثِ الْبُرْجُمِيّ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/114)
فَأَصْبَحْتُ مِمّا كَانَ بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ ... مِنْ الْوُدّ مِثْلَ الضّابِثِ الْمَاءَ بِالْيَدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَعَارٌ عَلَى رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ،
أَخْبِرْنِي لِمَنْ الدّائِرَةُ الْيَوْمَ؟
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنّ ابْنَ
مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ:
قَالَ لِي: لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِي الْغَنَمِ،
قال: ثم احتززت رَأْسَهُ ثُمّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوّ اللهِ
أَبِي جَهْلٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: آللهِ الّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ- قَالَ: وَكَانَتْ يَمِينَ
رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ:
قُلْت نَعَمْ، وَاَللهِ الّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ، ثُمّ أَلْقَيْتُ
رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَحَمِدَ اللهَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ من أهل
العلم بالمغازى: أن عمر بن الْخَطّابِ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ،
وَمَرّ بِهِ: إنّي أَرَاك كَأَنّ فِي نَفْسِك شَيْئًا، أَرَاك تَظُنّ أَنّي
قَتَلْتُ أَبَاك، إنّي لَوْ قَتَلْته لَمْ أَعْتَذِرْ إلَيْك مِنْ
قَتْلِهِ، وَلَكِنّي قَتَلْتُ خَالِي الْعَاصِ بْنَ هِشَامِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، فَأَمّا أبوك فإنى مررت وهو يبحث بحث الثور بروته فَحُدْتُ
عَنْهُ، وَقَصَدَ لَهُ ابْنُ عَمّهِ عَلِيّ فقتله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/115)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
غَزْوَةُ بَدْر وَبَدْرٌ: اسْمُ بِئْرٍ حَفَرَهَا رَجُلٌ مِنْ غِفَارٍ،
ثُمّ مِنْ بَنِي النّارِ مِنْهُمْ، اسْمُهُ:
بَدْرٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: هُوَ
بَدْرُ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ يَخْلُدَ الّذِي سُمّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ أَبِي زَكَرِيّا عَنْ الشّعْبِيّ قَالَ:
بَدْرٌ: اسْمُ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ بَدْرٌ.
نحسس الْأَخْبَارِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَبَا سُفْيَانَ، وَأَنّهُ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ،
كَانَ يَتَحَسّسُ الْأَخْبَارَ. التّحَسّسُ بِالْحَاءِ: أَنْ تَتَسَمّعَ
الْأَخْبَارَ بِنَفْسِك، وَالتّجَسّسُ بِالْجِيمِ: هُوَ أَنْ تَفْحَصَ
عَنْهَا بِغَيْرِك، وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَجَسّسُوا، وَلَا تَحَسّسُوا
«1» .
رُؤْيَا عَاتِكَةَ:
وَذَكَرَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ وَالصّارِخَ الّذِي رَأَتْهُ يَصْرُخُ
بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا لَغُدُرِ!! هَكَذَا هُوَ بِضَمّ الْغَيْنِ
وَالدّالِ جَمْعُ غَدُورٍ، وَلَا تَصِحّ رِوَايَةُ مَنْ رواه: يا لغدر بفتح
الدال مع كسرى الرّاءِ، وَلَا فَتْحِهَا، لِأَنّهُ لَا يُنَادِي وَاحِدًا،
وَلِأَنّ لَامَ الِاسْتِغَاثَةِ لَا تَدْخُلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا
الْبِنَاءِ فِي النّدَاءِ، وَإِنّمَا يَقُولُ: يَا لَغُدُرُ انْفِرُوا
وَتَحْرِيضًا لَهُمْ، أَيْ: إنْ تَخَلّفْتُمْ، فَأَنْتُمْ غُدُرٌ
لِقَوْمِكُمْ وَفُتِحَتْ لَامُ الِاسْتِغَاثَةِ، لِأَنّ الْمُنَادِيَ قَدْ
وَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْمِ الْمُضْمَرِ، وَلِذَلِكَ بَنَى، فَلَمّا دَخَلَتْ
عَلَيْهِ لَامُ الِاسْتِغَاثَةِ وَهِيَ لَامُ جَرّ فُتِحَتْ كَمَا تُفْتَحُ
لَامُ الْجَرّ إذا دخلت على المضمرات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) من حديث رواه البخارى ومسلم وأبو داود ومالك.
(5/116)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
هَذَا قَوْلُ ابْنِ السّرَاجِ، وَلِأَبِي سَعِيدٍ السّيرَافِيّ فِيهَا
تَعْلِيلٌ غَيْرُ هَذَا كَرِهْنَا الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهِ، وَهَذَا
الْقَوْلُ مَبْنِيّ فِي شَرْحِ يَا لَغُدُرِ إنّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ
الشّيْخِ، وَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِهِ، وَأَمّا أَبُو عُبَيْدَةَ، فَقَالَ
فِي الْمُصَنّفِ: تَقُولُ يَا غُدُرُ، أَيْ:
يَا غَادِرُ، فَإِذَا جَمَعْت قُلْت يَا آلَ غُدَرِ «1» ، وَهَكَذَا
وَاَللهُ أَعْلَمُ. كَانَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَاَلّذِي
تَقَدّمَ تَغْيِيرٌ.
وَقَوْلُهُ، ثُمّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، سُمّيَ
هَذَا الْجَبَلُ أَبَا قُبَيْسٍ بِرَجُلِ هَلَكَ فِيهِ مِنْ جُرْهُمَ
اسْمُهُ قُبَيْسِ بْنِ شَالِخَ، وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
مُضَاضٍ، كَمَا سُمّيَ حُنَيْنٌ الّذِي كَانَتْ فِيهِ حُنَيْنٌ بِحُنَيْنِ
بْنِ قَالِيَةَ بْنِ مِهْلَايِلَ «2» ، أَظُنّهُ كَانَ مِنْ الْعَمَالِيقِ،
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ.
مَعْنَى اللّيَاطِ:
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي لَهَبٍ، وَبَعْثَهُ الْعَاصِيَ بْنَ هِشَامٍ،
وَكَانَ لَاطَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. لَاطَ لَهُ: أَيْ
أَرْبَى لَهُ، وَكَذَلِكَ جَاءَ اللّيَاطُ مُفَسّرًا فِي غَرِيبِ
الْحَدِيثِ لِلْخَطّابِيّ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي
الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَهُ لِثَقِيفِ:
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دِينٍ لَا رَهْنَ فِيهِ فَهُوَ لِيَاطٌ مُبَرّأٌ
من الله. وقال أبو عبيد:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) فى اللسان: «يقال فى الجمع: يال غدر» .
(2) هو فى سفر النكوين: مهللئيل وضبطوه فيه بفتح الميم وسكون الهاء، وفتح
اللام الأولى وسكون الثانية، وهو ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم كما ذكر
فى السفر، وفى معجم البكرى عن حنين: سمى بحنين بن قاينة بن مهلايئل.
(5/117)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَسُمّيَ الرّبَا لِيَاطًا، لِأَنّهُ مُلْصَقٌ بِالْبَيْعِ، وَلَيْسَ
بِبَيْعِ، وَقِيلَ لِلرّبَا لِيَاطًا لِأَنّهُ، لَاصِقٌ بِصَاحِبِهِ لَا
يَقْضِيهِ، وَلَا يُوضَعُ عَنْهُ، وَأَصْلُ هَذَا اللفظ من اللّصوق.
المجحرة وَالْأُلُوّةُ:
وَعَزَمَ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ عَلَى الْقُعُودِ، وأنّ عقبة بن أبى مغيط
جَاءَهُ بِمِجْمَرَةِ فِيهَا نَارٌ وَمِجْمَرٌ، وَقَالَ: اسْتَجْمِرْ
فَإِنّمَا أَنْتَ مِنْ النّسَاءِ. الْمِجْمَرَةُ: هِيَ الْأَدَاةُ الّتِي
يُجْعَلُ فِيهَا الْبَخُورُ، وَالْمِجْمَرُ هُوَ الْبَخُورُ نَفْسُهُ،
وَفِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنّةِ مَجَامِرُهُمْ الْأُلُوّةُ
«1» ، فَهَذَا جَمْعُ مِجْمَرٍ لَا مِجْمَرَةٍ، وَالْأُلُوّةُ: هِيَ
الْعُودُ الرّطْبُ، وَفِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ أُلُوّةٌ وَأَلُوّةٌ،
وَلُوّةٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلِيّةٌ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَذَكَرَ فِي شِعْرِ مِكْرَزٍ:
تَذَكّرْت أشلاء الحيب الْمُلَحّبِ
شَرْحُ شِعْرِ مِكْرَزٍ:
الْأَشْلَاءُ: أَعْضَاءٌ مُقَطّعَةٌ، وَالْمُلَحّبُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
لَحّبْت اللّحْمَ إذَا قَطَعْته طُولًا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ.
وَذَكَرَ فِي شِعْرِ مكرز:
__________
(1) ورد هذا فى حديث متفق عليه، ويراها الأصمعى كلمة فارسية، وأبو منصور
يراها هندية. وجمع ألوة: ألاوية.
(5/118)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَتَى مَا أُجَلّلْهُ الْفُرَافِرَ يَعْطَبْ «1»
وَقَدْ فَسّرَ ابْنُ هِشَامٍ الْفُرَافِرَ، وَقَالَ: هُوَ اسْمُ سَيْفٍ،
وَهُوَ عِنْدِي مِنْ فَرْفَرَ اللّحْمَ إذَا قَطَعَهُ أَنْشَدَ أَبُو
عُبَيْدٍ:
كَكَلْبِ طَسْمٍ وَقَدْ تَرَبّبَه ... يَعُلْهُ بِالْحَلِيبِ فِي الْغَلَس
أَنْحَى عَلَيْهِ يَوْمًا يُفَرْفِرُه ... إنْ يَلِغْ فِي الدّمَاءِ
يَنْتَهِسُ
وَيَرْوِي: يشرشره. والعيهب الذى لا سقل لَهُ، وَيُقَالُ لِذَكْرِ النّعَمِ
عَيْهَبُ «2» .
مَوَاضِعُ نَزَلَ فِيهَا الرّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَذَكَرَ عِرْقَ الظّبْيَةِ، وَالظّبْيَةُ: شَجَرَةٌ شِبْهُ الْقَتَادَةَ
يُسْتَظَلّ بِهَا، وَجَمْعُهَا. ظُبْيَانٌ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ السّيَالَة
فِي طَرِيقِ بَدْرٍ، وَالسّيَالُ شَجَرٌ، وَيُقَالُ: هُوَ عِظَامُ
السّلَمِ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَذَكَرَ النّازِيَةَ، وَهِيَ رحسبة وَاسِعَةٌ فِيهَا عِضَاةٌ وَمُرُوجٌ
«3» .
وَذَكَرَ سَجْسَجًا، وَهِيَ بالرّوحاء، وسميت سجسجا، لأنها بين جبلين،
__________
(1) هى فى نسخ السيرة التى بين يدى: متى ما أصبه.
(2) فى شرح السيرة للخشنى: والغيهب بالغين المعجمة الغافل الناسى وبالعين
الرجل الضعيف عن طلب وتره، ويروى هنا بالوجهين ص 154.
(3) العضاة جمع عضاهة: أعظم الشجر أو كل ذات شوك. ومروج: جمع مرج: الموضع
ترعى فيه الدواب.
(5/119)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكُلّ شَيْءٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَهُوَ: سَجْسَجٌ. وَفِي الْحَدِيثِ: إنّ
هَوَاءَ الْجَنّةِ سَجْسَجٌ، أَيْ. لَا حَرّ وَلَا بَرْدٌ، وَهُوَ عِنْدِي
مِنْ لَفْظِ السّجَاجِ، وَهُوَ لَبَنٌ غَيْرُ خَالِصٍ، وَذَلِكَ إذَا أكثر
مرجه بِالْمَاءِ، قَالَ الشّاعِرُ:
وَيَشْرَبُهَا مَزْجًا وَيَسْقِي عِيَالَهُ ... سَجَاجًا كَأَقْرَابِ
الثّعَالِبِ أَوْرَقَا
وَهَذَا الْقَوْلُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ مَنْ يَقُولُ: إنّ الثّرْثَارَةَ
مِنْ لفظ: الثّرّة، ورفرقت مِنْ لَفْظِ: رَقَقْت إلَى آخِرِ الْبَابِ.
وَذَكَرَ الصّفْرَاءَ، وَهِيَ وَادٍ كَبِيرٌ.
أَنْسَابٌ:
وَذَكَرَ بَسْبَسَ بن عمرو الجهنىّ، وعدىّ بن أبى الزّغباء حِينَ
بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُتَحَسّسَانِ الْأَخْبَارَ عَنْ عِيرِ قُرَيْشٍ، وَفِي مُصَنّفِ أَبِي
دَاوُدَ: بَسْبَسَةُ مَكَان بَسْبَسٍ وَبَعْضُ رُوَاةِ أَبِي دَاوُدَ
يَقُولُ بُسْبُسَةٌ بِضَمّ الْبَاءِ: وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي كِتَابِ
مُسْلِمٍ «1» وَنَسَبَهُ ابْنُ إسحاق إلى جهينة، ونسبه
__________
(1) فى الإصابة عن بسبسة «وهو بموحدتين مفتوحتين بينهما مهملة ساكنة ثم
مهملة مفتوحة، ويقال له: بسبس بغير هاء وهو قول ابن إسحاق وغيره، شهد بدرا
بأتفاق، ووقع ذكره فى صحيح مسلم من حديث أنس، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم بسبسة عينا ينظر ما صنعت عير أبى سفيان،
فذكر الحديث فى وقعة بدر، وهو بموحدتين وزن فعلله، وحكى عياض أنه فى مسلم
بموحدة مصغرة، ورواه أبو داود ووقع عنده بسيبسة بصيغة التصغير، وكذا قال
ابن الأثير أنه رآه فى أصل ابن مندة. لكن بغير هاء، والصواب الأول» . وفى
جمهرة ابن حزم: بسبس ص 415
(5/120)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرُهُ إلَى ذُبْيَانَ، وَقَالَ: هُوَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ خَرَشَةَ بْنِ عَمْرِو ابن سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ «1» ،
وَأَمّا عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغباء، واسم أبى الزغباء: سنان ابن سبيع بن
ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ بُذَيْلٍ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ بُذَيْلٌ
بِالذّالِ الْمَنْقُوطَةِ غَيْرُ هَذَا، قَالَهُ الدّار قطنى، وَهُوَ
بُذَيْلُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كاهل بن نصر ابن مَلَكِ بْنِ
غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةُ: وَهُوَ ابْنُ سُودِ
بْنِ أَسْلُمَ بِضَمّ اللام بن الحاف بن فضاعة، قَالَ مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ: عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ حَلِيفِ بَنِي مَالِكِ بْنِ
النّجّارِ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا
وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
التّطَيّرُ وَكَرَاهِيَةُ الِاسْمِ الْقَبِيحِ:
وَذَكَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ مَرّ بِجَبَلَيْنِ، فَسَأَلَ عَلَى
اسميهما، فقيل له: أحدهما مسلح والآخر مخرىء، فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمَا،
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الطّيَرَةِ «2» ، الّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنْ مِنْ بَابِ
كَرَاهِيَةِ
__________
(1) زاد فى الإصابة بعد خرشة: «بن زيد» وبعد ذبيان: بن رشدان ابن غطفان، بن
قيس بن جهينة، وفى جمهرة ابن حزم كما فى الروض، ثم ذكر بعد رشدان: ابن قيس
بن جهينة، فأسقط غطفان ص 415.
(2) الطيرة: ما يتشاءم به من الفأل الردىء، وقد روى أبو داود والترمذى وابن
حبان فى صحيحه، وقال الترمذى: حسن صحيح: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة
شرك، ومامنا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» . ومعنى: ومامنا إلا أى: ومامنا
إلا وقد وقع فى قلبه شىء من ذلك، ولكن الله يذهب ذلك عن قلب كل من يتوكل
عليه. وذكر البخارى أن قوله: ومامنا إلى آخره من كلام ابن مسعود مدج غير
مرفوع.
(5/121)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاسْمِ الْقَبِيحِ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَكْتُبُ إلَى
أُمَرَائِهِ إذَا أَبَرَدْتُمْ إلَيّ بَرِيدًا فَاجْعَلُوهُ حَسَنَ
الْوَجْهِ حَسَنَ الِاسْمِ، ذَكَرَهُ الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ،
وَقَدْ قَالَ فِي لِقْحَةٍ: مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ
أَنَا، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسْمُك؟ فَقَالَ: مُرّةُ،
فَقَالَ: اُقْعُدْ، حَتّى قَالَ آخِرُهُمْ: اسْمِي: يَعِيشُ، قَالَ:
اُحْلُبْ. اخْتَصَرْت الْحَدِيثَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ رَوَاهَا ابْنُ وَهْبٍ،
قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ: فَقَالَ: لَا أَدْرِي أَقُولُ أَمْ أَسْكُتُ؛
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قُلْ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْت نَهَيْتنَا عَنْ التّطَيّرِ، فَقَالَ
عَلَيْهِ السّلَامُ: مَا تَطَيّرْت، وَلَكِنّي آثَرْت الِاسْمَ الْحَسَنَ،
أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ. وَقَدْ أَمْلَيْت فِي شَرْحِ حَدِيثِ
الْمُوَطّإِ فِي الشّؤْمِ، وَأَنّهُ إنْ كَانَ فَفِي الْمَرْأَةِ
وَالْفَرَسِ وَالدّارِ تَحْقِيقًا وَبَيَانًا شَافِيًا لِمَعْنَاهُ،
وَكَشَفَا عَنْ فِقْهِهِ لَمْ أَرَ أَحَدًا- وَالْحَمْدُ لله- سبقنى إلى
مثله.
جبلا مسلح ومخرىء وهذان الْجَبَلَانِ لِتَسْمِيَتِهِمَا بِهَذَيْنِ
الِاسْمَيْنِ سَبَب، وَهُوَ أَنّ عَبْدًا لِبَنِي غِفَارٍ كَانَ يَرْعَى
بِهِمَا غَنَمًا لِسَيّدِهِ، فَرَجَعَ ذَاتَ يَوْمٍ عَنْ الْمَرْعَى،
فَقَالَ لَهُ سَيّدُهُ:
لِمَ رَجَعْت؟ فَقَالَ: إنّ هَذَا الجبل مسلح للغنم، وإن هذا الآخر مخرىء
«1» ، فَسُمّيَا بِذَلِكَ. وَجَدْت ذَلِكَ بِخَطّ الشّيْخِ الْحَافِظِ فيما
نقل عن الوقشىّ.
__________
(1) ولكن موضع الخرء يقال له مخرأة- بفتح الميم والراء، ومخراة بدون همزة،
ومخرأة- بفتح الميم وضم الراء.
(5/122)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَرْكُ الْغُمَادِ:
وَذَكَرَ قَوْلَ الْمِقْدَادِ: وَلَوْ بَلَغْت بِنَا بَرْكَ الْغُمَادِ،
وَجَدْت فِي بَعْضِ كُتُبِ التّفْسِيرِ أَنّهَا مَدِينَةُ الْحَبَشَةِ «1»
.
تَعْوِيرُ قُلَبِ الْمُشْرِكِينَ وَذَكَرَ الْقُلَبَ الّتِي احْتَفَرَهَا
الْمُشْرِكُونَ لِيَشْرَبُوا مِنْهَا، قَالَ: فَأَمَرَ بِتِلْكَ الْقُلُبِ
فَعُوّرَتْ، وَهِيَ كَلِمَةٌ نَبِيلَةٌ، وَذَلِكَ أَنّ الْقَلْبَ لَمّا
كَانَ عَيْنًا جَعَلَهَا كَعَيْنِ الْإِنْسَانِ، وَيُقَالُ فِي عَيْنِ
الْإِنْسَانِ: عرتها فعارت، ولا يقال: غوّرتها، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي
الْقُلُبِ عُوّرَتْ بِسُكُونِ الْوَاوِ وَلَكِنْ لَمَا رَدّ الْفِعْلَ
لِمَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ ضُمّتْ الْعَيْنُ، فَجَاءَ عَلَى لُغَةِ مَنْ
يقول: قول القول وبوع المتاع «2» ، وهى
__________
(1) ضبطها البكرى فى معجمه فقال: «برك بكسر أوله وإسكان ثانيه، وهو فى
أقاصى هجر إلا أنه منضاف إليها. هو برك الغماد الذى ورد فى الحديث الغماد
بالغين المعجمة تضم وتكسر لغتان بعد ميم وألف ودال مهملة» وقال الهمدانى فى
صفة جزيرة العرب ص 204 ط 1953 «وهو أقصى حجر باليمن» وقال ياقوت فى المشترك
وضعا والمفترق صقعا «باب برك ثمانية مواضع بكسر الباء وسكون الراء وكاف.
الأول موضع بناحية اليمن فى نصف الطريق بين مكة وزبيد» ثم ذكر باقى
المواضع. وفى المراصد موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلى البحر، وقيل: بلد
باليمن، وهو أقصى حجر باليمن»
(2) يستشهد النحاة على هذه اللغة ببيت رؤية:
ليت، وهل ينفع شيئا ليت ... ليت شبابا بوع فاشتريت
وقد ورد فى كتب النحاة هكذا على حين يروى فى ديوان رؤبة باللغة الفصحى، أى:
بيع بدلا من بوع-
(5/123)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لُغَةُ هُذَيْلِ وَبَنِيّ دُبَيْرٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَبَنِيّ فَقُعِسَ،
وَبَنُو دُبَيْرٍ هُوَ تَصْغِيرُ أَدْبَرَ عَلَى التّرْخِيمِ، وَإِنْ
كَانَتْ لُغَةً رَدِيئَةً، فَقَدْ حَسُنَتْ هُنَا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى
لَفْظِ الْوَاوِ، إذْ لَوْ قَالُوا: عِيرَتْ فَأُمِيتَتْ الْوَاو، لَمْ
يُعْرَفْ أَنّهُ مِنْ الْعَوَرِ إلّا بَعْدَ نَظَرٍ، كَمَا حَافَظُوا فِي
جَمْعِ عِيدٍ عَلَى لَفْظِ الْيَاءِ فِي عِيدٍ فَقَالُوا: أَعْيَادٌ،
وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ الّذِي فِي رِيحٍ وَأَرْوَاحٍ عَلَى أَنّ أَرْيَاحًا
لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ كَيْ لَا تَذْهَبَ مِنْ اللّفْظِ الدّلَالَةُ عَلَى
مَعْنَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَوْدَةِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ، وَصِحّةِ الْوَاوِ فِيهِ، وَكَمَا حَافَظُوا عَلَى الضّمّةِ فِي
سُبّوحٍ وَقُدّوسٍ، وَقِيَاسُهُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى فَعّولٍ بِفَتْحِ
الْفَاءِ كَتَنّومِ وَشَبّوطٍ «1» وَبَابِهِ، وَلَكِنْ حَافِظُوا عَلَى
الضّمّتَيْنِ، لِيَسْلَمَ لَفْظُ الْقُدُسِ وَالسّبُحَاتِ وَسُبْحَانَ
اللهِ يَسْتَشْعِرُ الْمُتَكَلّمُ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مَعْنَى
الْقُدُسِ، وَمَعْنَى سُبْحَانَ مِنْ أَوّلِ وَهْلَةٍ، وَلَمّا ذَكَرْنَاهُ
كَثِيرَةٌ نظائر يخرجنا إيرادها عن الغرض.
__________
- كما استشهد الأشمونى بقول الراجز:
حوكت على نيرين إذ تحاك ... تختبط الشوك، ولا تشاك
على حين يروى باللغة الفصحى: حيكت. والفعل الثلاثى المعل الوسط يجوز فى
فائه ثلاثة أشياء: الكسر، الإشمام، الضم بشرط أمن اللبس. والإشمام هو
الإتيان بحركة بين الضم والكسر على الفاء، بأن يؤتى بجزء من الضم قليل
سابق، وجزء من الكسرة كثير لاحق. ويسمى القراء هذا: روحا، وقد قدى فى
السبعة بالإشمام. قيل وغيض. وأفصح اللغات الكسر، ثم الإشمام، والضم:
أردؤها. وقد أورد ابن مالك اللغات الثلاث فى ألفيته.
(1) تنوم: شجرة أو حبة، والشبوط: نوع من السمك.
(5/124)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَفْسِيرُ كَلِمَاتٍ وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ: قُمْ فَانْشُدْ
خُفْرَتَكَ، أَيْ: اُطْلُبْ مِنْ قُرَيْشٍ الْوَفَاءَ بِخُفْرَتِهِمْ لَك،
لِأَنّهُ كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ وَجَارًا، يُقَال: خَفَرْت الرّجُلَ
خُفْرَةً إذَا أَجَرْته، وَالْخَفِيرُ. الْمُجِيرُ. قَالَ [عَدِيّ بْنُ
زَيْدٍ] الْعِبَادِيّ.
مَنْ رَأَيْت الْأَيّامَ خَلّدْنَ أَمْ مَنْ ... ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ
يُضَامَ خَفِيرُ «1»
وَقَوْلُهُ: حَقِبَتْ الْحَرْبُ، يُقَالُ: حَقِبَ الْأَمْرُ إذَا اشْتَدّ،
وَضَاقَتْ فِيهِ الْمَسَالِكُ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ حَقِبَ الْبَعِيرُ
إذَا اشتدّ عليه الحقب وهو الحرام الْأَسْفَلُ، وَرَاغَ حَتّى يَبْلُغَ
ثِيلَهُ «2» ، فَضَاقَ عَلَيْهِ مَسْلَكُ الْبَوْلِ.
وَقَوْلُ عُتْبَةَ فِي أَبِي جَهْلٍ: سَيَعْلَمُ مُصَفّرُ اسْتِهِ مَنْ
انْتَفَخَ سَحْرُهُ. السّحْرُ وَالسّحْرُ الرّئَةُ، وَالسّحَرُ أَيْضًا
بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَهُوَ قياس فى كُلّ اسْمٍ عَلَى فَعْلٍ إذَا كَانَ
عَيْنُ الْفِعْلِ حَرْفَ حَلْقٍ «3» ، أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْفَتْحُ،
فَيُقَالُ فِي الدّهْرِ:
الدّهَرُ، وَفِي اللّحْمِ: اللّحَمُ، حَتّى قَالُوا فِي النّحْوِ النّحَوُ،
ذَكَرَهَا ابْنُ جِنّي، وَلَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى هَذَا التّحْرِيكِ
الّذِي مِنْ أَجْلِ حَرْفِ الْحَلْقِ لَمَا كَانَ لِعِلّةِ،
__________
(1) سبقت قصيدته التى منها هذا البيت فى الجزء الأول. والبيت فى الأغانى:
«من رأيت المنون» ص 115 المجلد الثانى ط لبنان.
(2) بالكسر وبالفتح شىء بين رجلى البعير الخلفيتين يستحى من ذكره تستطيع
لمح معناه.
(3) هى حروف الهجاء التى تخرج عند النطق من الحلق، وهى الهمزة والهاء
والعين والحاء والغين والخاء
(5/125)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَمْ يَقْلِبُوا الْوَاوَ مِنْ أَجْلِهِ أَلِفًا حِينَ قَالُوا: النّحَوُ
وَالزّهَدُ، وَلَوْ اعْتَدّوا بِالْفَتْحَةِ، لَقَلَبُوا الْوَاو أَلِفًا،
كَمَا لَمْ يَعْتَدّوا بِهَا فِي: يَهَبُ وَيَضَعُ، إذْ كَانَ الْفَتْحُ
فِيهِ مِنْ أَجْلِ حَرْفِ الْحَلْقِ، وَلَوْ اعْتَدّوا بِهِ، لَرَدّوا
الواو فقالوا: بوضع وَيُوهَبُ، كَمَا قَالُوا: يَوْجَلُ.
مَنْ قَائِلٌ أَبِي عذرها وماداء أَبِي جَهْلٍ وَقَوْلُهُ مُصَفّرُ
اسْتِهِ: كَلِمَةٌ لَمْ يَخْتَرِعْهَا عُتْبَةُ، وَلَا هُوَ بِأَبِي
عُذْرِهَا، قَدْ قِيلَتْ قَبْلَهُ لِقَابُوسِ بْنِ النّعْمَانِ، أَوْ
لِقَابُوسِ بْنِ الْمُنْذِرِ، لِأَنّهُ كَانَ مُرَفّهًا لَا يَغْزُو فِي
الْحُرُوبِ، فَقِيلَ لَهُ: مُصَفّرُ اسْتِهِ، يُرِيدُونَ: صُفْرَةَ
الْخُلُوقِ وَالطّيبِ، وَقَدْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ قَيْسُ بْنُ
زُهَيْرٍ فِي حُذَيْفَةَ يَوْمَ الْهَبَاءَةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنّ
حُذَيْفَةَ كَانَ مَسْتُوهًا، فَإِذَا لَا يَصِحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي
أَبِي جَهْلٍ مِنْ قَوْلِ عُتْبَةَ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: إنّهُ كَانَ
مَسْتُوهًا وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَسَادَةُ الْعَرَبِ لَا تَسْتَعْمِلُ الْخُلُوقَ وَالطّيبَ إلّا فِي
الدّعَةِ وَالْخَفْضِ وَتَعِيبُهُ فِي الْحَرْبِ أَشَدّ الْعَيْبِ،
وَأَحْسِبُ أَنّ أَبَا جَهْلٍ لَمّا سَلِمَتْ الْعِيرُ، وَأَرَادَ أَنْ،
يَنْحَرَ الْجَزُورَ، وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ بِبَدْرِ، وَتَعْزِفَ عَلَيْهِ
الْقِيَانُ بِهَا اسْتَعْمَلَ الطّيبَ أَوْ هَمّ بِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ
لَهُ عُتْبَةُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الشّاعِرِ فِي
بَنِي مَخْزُومٍ:
وَمِنْ جَهْلٍ أَبُو جَهْلٍ أَخُوكُمْ ... غَزَا بَدْرًا بِمِجْمَرَةِ
وَتَوْرِ
يُرِيدُ: أَنّهُ تَبَخّرَ وَتَطَيّبَ فِي الْحَرْبِ.
(5/126)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: مُصَفّرُ اسْتِهِ «1» إنّمَا أَرَادَ مُصَفّرَ بَدَنِهِ، ولكنه
قصد المبالغة فى الذّمّ فحص منه بالذكر ما يسوؤه أَنْ يَذْكُرَ.
حَوْلَ سَوَادِ بَنِي غَزِيّةَ فَصْلٌ، وَذَكَرَ قِصّةَ سَوَادِ بْنِ
غَزِيّةَ حِينَ مَرّ به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ
مُسْتَنْتِلٌ أَمَامَ الصّفّ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ:
مُسْتَنْصِلٌ. قَوْلُهُ مُسْتَنْتِلٌ أَمَامَ الصّفّ، يُقَالُ استنتلت
واستنصلت وأبر نذعت وابر نتيت بِالرّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالزّايِ،
هَكَذَا تَقَيّدَ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ، كُلّ هَذَا إذَا تَقَدّمْت.
سَوَادٌ هَذَا بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ «2» ، وَكُلّ سَوَادٍ فِي الْعَرَبِ،
فَكَذَلِكَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَفَتْحِ السّينِ، إلّا عَمْرَو بْنَ
سَوَادٍ أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ مِنْ شُيُوخِ الْحَدِيثِ،
وَسُوَادٌ بِضَمّ السّينِ، وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ، هو ابن مرى بن إراشة ابن
قُضَاعَةَ ثُمّ مِنْ بَلِيّ حُلَفَاءِ الْأَنْصَارِ، وَوَقَعَ فِي
الْأَصْلِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ هِشَامٍ سَوّادٌ مثقلة ابن غزّية، وهو خطأ،
إنّمَا الصّوَابُ مَا تَقَدّمَ، وَسَوَادٌ هَذَا هُوَ عَامِلُ رَسُولِ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى خَيْبَرَ الّذِي جَاءَهُ
بِتَمْرِ جَنِيبٍ، ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطّأِ وَلَمْ يُسَمّهِ.
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ مُسْتَنْصِلٌ، مَعْنَاهُ: خَارِجٌ مِنْ الصّفّ مِنْ
قولك:
__________
(1) يقول أبو ذر الخشنى: «العرب تقول هذا القول للرجل الجبان، ولا تريد به
التأنيث» ص 157.
(2) وابن هشام يقول إن الواو مثقلة. وقد قيده بالتخفيف- كما ذكر أبو ذر
الخشنى- الدار قطنى وعبد الغنى ص 157. وقول ابن هشام خطأ كما سيبين
السهيلى.
(5/127)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نصّت الرّمْحَ إذَا أَخَرَجْت ثَعْلَبَةً «1» مِنْ السّنَانِ.
تَفْسِيرُ بعض مناشدتك:
وذكر قول أبى بكر بَعْضَ مُنَاشَدَتُك رَبّك، فَإِنّ اللهَ مُنَجّزٌ لَك
مَا وَعَدَك، رَوَاهُ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ كَذَلِكَ مُنَاشَدَتُك،
وَفَسّرَهُ قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ قَدْ يُرَادُ بِهَا
مَعْنَى الْإِغْرَاءِ وَالْأَمْرِ بِالْكَفّ عَنْ الْفِعْلِ، وَأُنْشِدَ
لِجَرِيرِ:
[تَقُولُ وَقَدْ تَرَامَحَتْ الْمَطَايَا] ... كَذَاكَ الْقَوْلُ إنّ
عَلَيْك عَيْنًا «2»
أَيْ: حَسْبُك مِنْ الْقَوْلِ، فَدَعْهُ، وَفِي الْبُخَارِيّ أَنّ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَنْجَشَةَ يَا أَنْجَشَةُ
رُوَيْدُك سَوْقَك بِالْقَوَارِيرِ، وَأَوْرَدَهُ مَرّةً أُخْرَى فَقَالَ
فِيهِ شَوْفَك «3» وَإِنّمَا دَخَلَهُ مَعْنَى النّصَبِ كَمَا دَخَلَ:
عَلَيْك زَيْدًا مَعْنَى النّصَبِ، وَفِي
__________
(1) الثعلب هنا: طرف الرمح الداخل فى جبة السنان. ونصل من الأضداد تدل على
الإخراج والإدخال فى هذا المعنى.
(2) فى الأصل لجهير والتصويب من المواهب وكذلك الشطر الأول ص 422 ح 1
المواهب: وقد خطأ الحافظ من زعم أن كذاك تصحيف لكفاك. ورواية كذاك وردت فى
رواية مسلم وسنن أبى داود والترمذى.
(3) روى أبو داود الطيالسى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان أنجشة
يحدر بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، فإذا أعقب الإبل قال
النبى صلى الله عليه وسلم: يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير. ورواه الشيخان
مختصرا عن طريق حماد بن زيد عن ثابت عن أنس. ورواه مسلم من طريق سليمان بن
طرخان التيمى عن أنس قال: كان للنبى «ص» حاد يقال له: -
(5/128)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دُونِك، لِأَنّك إذَا قُلْت دُونَك زَيْدًا وَهُوَ يَطْلُبُهُ فَقَدْ
أَعْلَمْته بِمَكَانِهِ فَكَأَنّك قُلْت: خُذْهُ، وَمَسْأَلَةُ كَذَاكَ
مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنّك إذَا قُلْت: كَذَاكَ الْقَوْلُ أَوْ السّيْرُ،
فَكَأَنّك قُلْت: كَذَاكَ أَمَرْت فَاكْفُفْ وَدَعْ، فَاصِلُ الْبَابَيْنِ
وَاحِدٌ وَهُوَ ظَرْفٌ بَعْدَهُ ابْتِدَاءٌ، وَهُوَ خَبَرٌ يَتَضَمّنُ
مَعْنَى الْأَمْرِ أَوْ الْإِغْرَاءِ بِالشّيْءِ، أَوْ تَرْكِهِ،
فَنَصَبُوا بِمَا فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ، وَحَسُنَ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ
يَعْدِلُوا عَنْ عَامِلٍ لَفْظِيّ إلَى مَعْنَوِيّ، وَإِنّمَا عَدَلُوا
عَنْ مَعْنَوِيّ إلَى مَعْنَوِيّ، وَلَوْ أَنّهُمْ حِينَ قَالُوا: دُونَك
زَيْدًا يَلْفِظُونَ بِالْفِعْلِ فَيَقُولُونَ اسْتَقَرّ دُونَك زَيْدٌ،
وَهُمْ يُرِيدُونَ الْإِغْرَاءَ بِهِ وَالْأَمْرَ بِأَخْذِهِ لَمَا جَازَ
النّصْبُ بِوَجْهِ، لِأَنّ الْفِعْلَ ظَاهِرٌ لَفْظِيّ، فَهُوَ أَقْوَى
مِنْ الْمَعْنَوِيّ.
مَعْنَى مُنَاشَدَةِ أَبِي بَكْرٍ فَصْلٌ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ
الْمَعَانِي أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ جَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَأْمُرُ رَسُولَ
اللهِ- صلى الله عليه وسلم- يالكفّ عَنْ الِاجْتِهَادِ فِي الدّعَاءِ،
وَيُقَوّي رَجَاءَهُ وَيُثَبّتُهُ، وَمَقَامُ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ المقام الأحمد
__________
- أنجشة، فقال له النبى «ص» رويدك سوقك بالقوارير. وهناك خلاف حول شخصية
أنجشة. وقد شبه النساء بالقوارير من الزجاج لأنه يسرع إليها الكسر، وكان
أنجشه يحدو وينشد القريض والرجز، فلم يأمن أن يصيبهن أو يقع فى قلوبهن
حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك. وقيل أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت فى
المشى واشتدت، فأزعجت الراكب، وأتعبته، فنهاه عن ذلك، لأن النساء يضعفن عن
شدة الحركة، وسميت القارورة بهذا لاستقرار الشراب فيها «ابن الأثير» .
(5/129)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيَقِينُهُ فَوْقَ يَقِينِ كُلّ أَحَدٍ، فَسَمِعْت شَيْخَنَا الْحَافِظَ
«1» - رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ فِي هَذَا: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ في مَقَامِ الْخَوْفِ، وَكَانَ صَاحِبُهُ فِي مَقَامِ
الرّجَاءِ، وَكِلَا، الْمَقَامَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْفَضْلِ، لَا يُرِيدُ
«2» أَنّ النّبِيّ وَالصّدّيقَ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ الرّجَاءُ وَالْخَوْفُ
مقامان لابد للإيمان منهما، فأبوبكر كَانَ فِي تِلْكَ السّاعَةِ فِي
مَقَامِ الرّجَاءِ لِلّهِ، وَالنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ فِي
مَقَامِ الْخَوْفِ مِنْ اللهِ، لِأَنّ لِلّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ،
فَخَافَ أَنْ لَا يَعْبُدَ اللهَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَهَا، فَخَوْفُهُ
ذَلِكَ عِبَادَةٌ. وَأَمّا قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ، فَذَهَبَ فِي مَعْنَى
الْحَدِيثِ إلَى غَيْرِ هَذَا، وَقَالَ: إنّمَا قَالَ ذَلِكَ الصّدّيقُ
مَأْوِيَةً لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَرِقّةً عَلَيْهِ، لِمَا رَأَى
مِنْ نَصَبِهِ فِي الدّعَاءِ وَالتّضَرّعِ حَتّى سَقَطَ الرّدَاءُ عَنْ
مَنْكِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: بَعْضَ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْ: لِمَ
تُتْعِبْ نَفْسَك هَذَا التّعَبَ، وَاَللهِ قَدْ وَعَدَك بِالنّصْرِ،
وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَى النبى صلى الله عليه
وسلم «3» .
__________
(1) يعنى القاضى أبا بكر بن العربى.
(2) يعنى شيخه ابن العربى، وهى فى الأصل: نريد، والتصويب من المواهب ص 420
ح 1.
(3) القول الأول قول الصوفية، والمقام عندهم كما عرفه القشيرى فى رسالته:
ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب مما يتوصل إليه بنوع تصرف، ويتحقق به
بضرب تطلب، ومقاساة تكلف، فمقام كل أحد: موضع إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل
بالرياضة له، وقد عرف أبو على الدقاق الخوف بقوله: الخوف ألا تعلل نفسك
بعسى وسوف. وعرفوا الرجاء بقولهم: ثفة الجود من الكريم الودود، ولهما
تعريفات أخرى غير هذا. وأقول: لا يمكن أن ينفصل الرجاء عن الخوف ولا الخوف
عن الرجاء أبدا فى قلب المسلم، والمسلم الحق يغمر قلبه الرجاء، والخوف
معانى كل أحواله. والصوفية يشترطون على «الدرويش» أو التابع-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- ألا يرتقى من مقام إلى آخر ما لم يستوف أحكام ذلك المقام!! ثم قالوا: ولا
يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود!! يعنون الشهود الإلهى!! أفيتفق هذا مع روح
الإسلام؟، وكيف يعيش الإنسان فى مقام الخوف وحده؟ ولا ينتقل إلى مقام
الرجاء إلا بشهود؟؟. وكيف نظن بالنبى العظيم صلى الله عليه وسلم مثل هذا
الظن؟ إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدرك تماما حقيقة الموقف، وكان على
بينة مما يترتب على الهزيمة والنصر، أكثر وأعظم من أبى بكر، فاتقدت مشاعره
بهذا الإدراك خوفا ورجاء، أما أبو بكر فقد هبط إدراكه للأمر عن الأفق
الرفيع الأسمى الذى تألق فوقة إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم، كما شغله
عن الموقف قليلا، أو شغله من الموقف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال ما قال رضى الله عنه وأرضاه. ولقد أبدع الحافظ فى الفتح، وهو يفسر
قوله «ص» إن تهلك هذه العصابة لا تعبد: «وإنما قال ذلك لأنه علم أنه خاتم
النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان،
ولاستمر المشركون يعبدون غير الله» وهو يبين تماما كيف كان الرسول «ص» ينظر
إلى الموقف.. وفى مسلم أن النبى قال هذا الكلام أيضا يوم أحد. أما
المناشدة. ففى البخارى فى المغازى أن أبا بكر قال: حسبك. وفى التفسير: وقد
ألححت على ربك. وفى مسلم: يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك فانه سينجز لك ما
وعدك. وقد فسر الخطابى المناشدة بقوله: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر
كان أوثق بربه من النبى «ص» فى تلك الحال، بل الحاصل للنبى على ذلك شفقته
على أصحابه، وتقوية قلوبهم، لانه كان أول مشهد شهده، فبالغ فى التوجه
والدعاء والابتهال، لتسكن نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته
مستجابة، فلما قال أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد
أبو بكر فى نفسه من القوة والطمأنينة ص 231 ح 7 فتح البارى ط عبد الرحمن
محمد.
(5/130)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جِهَادُ النّبِيّ فِي الْمَعْرَكَةِ:
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَأَمّا شِدّةُ اجْتِهَادِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَصَبُهُ فِي الدّعَاءِ فَإِنّهُ رَأَى
الْمَلَائِكَةَ تَنْصَبُ فِي الْقِتَالِ وَجِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ
الْغُبَارُ، وَأَنْصَارُ اللهِ يَخُوضُونَ غِمَارَ الْمَوْتِ. وَالْجِهَادُ
عَلَى ضَرْبَيْنِ: جِهَادٌ بِالسّيْفِ، وَجِهَادٌ بِالدّعَاءِ، وَمِنْ
سُنّةِ الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ الْجُنْدِ لَا يُقَاتِلُ
مَعَهُمْ، فَكَانَ الْكُلّ فِي اجْتِهَادٍ وُجِدَ، وَلَمْ يَكُنْ لِيُرِيحَ
نَفْسَهُ مِنْ أَحَدِ الْجِدّيْنِ وَالْجِهَادَيْنِ، وَأَنْصَارُ اللهِ
وَمَلَائِكَتُهُ يَجْتَهِدُونَ، وَلَا لِيُؤْثِرَ الدّعَةَ، وَحِزْبُ اللهِ
مَعَ أَعْدَائِهِ يَجْتَلِدُونَ.
الْمُفَاعَلَةُ:
وَقَوْلُهُ بعض مُنَاشَدَتُك رَبّك، وَالْمُفَاعَلَةُ لَا تَكُونُ إلّا
مِنْ اثْنَيْنِ وَالرّبّ لَا يَنْشُدُ عَبْدَهُ، فَإِنّمَا ذَلِكَ
لِأَنّهَا مُنَاجَاةٌ لِلرّبّ، وَمُحَاوَلَةٌ لِأَمْرِ يُرِيدُهُ،
فَلِذَلِكَ جَاءَتْ عَلَى بِنَاءِ الْمُفَاعَلَةِ، وَلَا بُدّ فِي هَذَا
الْبَابِ مِنْ فِعْلَيْنِ لِفَاعِلَيْنِ، إمّا مُتّفِقَيْنِ فِي اللّفْظِ،
وَإِمّا مُتّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَظَنّ أَكْثَرُ أَهْلِ اللّغَةِ
أَنّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ نَحْوَ: عَاقَبْت الْعَبْدَ وَطَارَقْتُ
النّعْلَ، وَسَافَرْت، وَعَافَاهُ اللهُ، فَنَقُولُ: أَمّا عَاقَبْت
الْعَبْدَ فَهِيَ مُعَامَلَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَهُ، عَامَلَك بِالذّنْبِ،
وَعَامَلْته بِالْعُقُوبَةِ، فَأُخِذَ لَفْظُهَا مِنْ الْعُقُوبَةِ،
وَوَزْنُهَا مِنْ الْمُعَاوَنَةِ، وَأَمّا طَارَقْت النّعْلَ، فَمِنْ
الطّرْقِ وَهُوَ الْفَوْهُ، فَقَدْ قَوّيْتهَا وَقَوّتْك عَلَى الْمَشْيِ،
فَلَفْظُهَا مِنْ الطّرْقِ، وَبِنَاؤُهَا عَلَى وَزْنِ الْمُعَاوَنَةِ
وَالْمُقَاوَاةِ، فَهَذَا اتّفَاقٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
اللّفْظِ، وَأَمّا سَافَرَ الرّجُلُ فَمِنْ سَفَرْت: إذَا كَشَفْت عَنْ
وَجْهِك، فَقَدْ
(5/132)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَفَرَ لِقَوْمِ، وَسَفَرُوا لَهُ، فَهَذِهِ مُوَافَقَةٌ فِي اللّفْظِ
وَالْمَعْنَى، وَأَمّا الْمُعَافَاةُ، فَإِنّ السّيّدَ يُعْفِي عَبْدَهُ
مِنْ بَلَاءٍ فَيُعْفِي الْعَبْدُ سَيّدَهُ مِنْ الشّكْوَى وَالْإِلْحَاحِ،
فَهَذِهِ مُوَافَقَةٌ فِي اللّفْظِ، ثُمّ تُضَافُ إلَى اللهِ سُبْحَانَهُ
اتّسَاعًا فِي الْكَلَامِ، وَمَجَازًا حَسَنًا.
عَصَبَ وَعَصَمَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ، وَهُوَ الْغُبَارُ، وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ قَالَ: رَأَيْته عَلَى فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ،
وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَدْ عَصَمَ بِثَنِيّتِهِ الْغُبَارَ؛
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: عَصَمَ وَعَصَبَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، يُقَالُ:
عَصَبَ الرّيقَ بِفِيهِ، إذَا يَبِسَ وَأَنْشَدَ «1» :
يَعْصِبُ فَاهُ الرّيقُ أَيّ عَصْبِ ... عَصْبَ الجباب بشفاه الوطب
__________
(1) الرجز لأبى محمد الفقعسى كما فى اللسان وشرح إصلاح المنطق للتبريزى..
وفى إصلاح المنطق لابن السكيت: العصب- بفتح فسكون مصدر عصب الريق بفيه يعصب
عصبا إذا يبس، وقد عصب فاه الريق. قال أبن أحمر:
حتى يعصب الريق بالفم
ثم روى بيت الفقعسى ثم قال: والجباب ما اجتمع على قم الوطب مثل الزبد من
لبن الإبل، فالجباب للابل مثل الزبد للغنم ص 46 ط دار المعارف وانظر
الأمالى ح 1 ص 27 ط 2 وسمط اللآلى ص 125 وفيه «وعصب الريق يكون من الجبن فى
مواطن الحرب ومن الحصر والعى فى مواطن الجدال» وانظر نوادر أبى زيد
الأنصارى ص 21 وزاد عن الجباب «وربما دهن به الأعراب» ولم ينسب البيت إلى
أحد. وعصب بفتح الصاد وكسرها كما فى اللسان.
(5/133)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَخَالَفَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَالَ: هُوَ عُصُمٌ مِنْ الْعَصِيمِ
وَالْعُصْمَ، وَهِيَ كَالْبَقِيّةِ تَبْقَى فِي الْيَدِ وَغَيْرِهَا مِنْ
لَطْخِ حِنّاءٍ أَوْ عَرَقٍ أَوْ شَيْءٍ يُلْصَقُ بِالْعَضُدِ، كَمَا
قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ لِأُخْرَى: أَعْطِنِي عُصُمَ حِنّائِك،
أَيْ ما سلتت من مِنْ حِنّائِهَا، وَقَشَرَتْهُ مِنْ يَدِهَا.
حَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ حِينَ أَلْقَى التّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: بَخٍ
بَخٍ، وَهِيَ كَلِمَةٌ، مَعْنَاهَا التّعَجّبُ، وَفِيهَا لُغَاتٌ بَخْ
بِسُكُونِ الْخَاءِ وَبِكَسْرِهَا مَعَ التّنْوِينِ، وَبِتَشْدِيدِهَا
مُنَوّنَةً، وَغَيْرَ مُنَوّنَةً، وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيّ:
أَنّ هَذِهِ الْقِصّةَ كَانَتْ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ لَكِنّهُ لَمْ يُسَمّ
فِيهَا عُمَيْرًا، وَلَا غَيْرَهُ فالله أعلم.
حديث عوف بن عفراء:
وقول عوف بن عَفْرَاءَ: مَا يُضْحِكُ الرّبّ مِنْ عَبْدِهِ يَا رَسُولَ
اللهِ؟ قَدْ قِيلَ فِي عَوْفٍ: عَوْذٌ بالذال المنقوطة، وبقوى هَذَا
الْقَوْلَ أَنّ أَخَوَيْهِ: مُعَاذٌ وَمُعَوّذٌ.
ضَحِكُ الرّبّ:
وَيُضْحِكُ الرّبّ، أَيْ يُرْضِيهِ غَايَةَ الرّضَى، وَحَقِيقَتُهُ أَنّهُ
رِضًى مَعَهُ تَبْشِيرٌ وَإِظْهَارُ كَرَامَةٍ، وَذَلِكَ أَنّ الضّحِكَ
مُضَادّ لِلْغَضَبِ، وَقَدْ يَغْضَبُ السّيّدُ، وَلَكِنّهُ يَعْفُو
وَيُبْقِي الْعَتَبَ، فَإِذَا رَضِيَ، فَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْعَفْوِ،
فَإِذَا ضَحِكَ فَذَلِكَ غَايَةُ الرّضَى؛ إذْ قَدْ يَرْضَى وَلَا يُظْهِرُ
مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الرّضَى، فَعَبّرَ عَنْ
(5/134)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرّضَى وَإِظْهَارِهِ بِالضّحِكِ فِي حَقّ الرّبّ سُبْحَانَهُ مَجَازًا
وَبَلَاغَةً، وَتَضْمِينًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي فِي لَفْظٍ وَجِيزٍ؛
وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي طَلْحَةَ بْنِ الْبَرَاءِ:
اللهُمّ الْقَ طَلْحَةَ يَضْحَكُ إلَيْك، وَتَضْحَكُ إلَيْهِ، فَمَعْنَى
هَذَا: الْقَهُ لِقَاءَ مُتَحَابّيْنِ مُظْهِرَيْنِ لِمَا فِي
أَنْفُسِهِمَا مِنْ رِضًى، وَمَحَبّةٍ، فَإِذَا قِيلَ: ضَحِكَ الرّبّ
لِفُلَانِ، فَهِيَ كَلِمَةٌ وَجِيزَةٌ تَتَضَمّنُ رِضًى مَعَ مَحَبّةٍ
وَإِظْهَارِ بِشْرٍ وَكَرَامَةٍ، لَا مَزِيدَ عَلَيْهِمَا، فَهِيَ مِنْ
جَوَامِعِ الكلم التى أوتيها عليه السلام «1» .
__________
(1) لا يمر بخاطر مسلم ولا فكره حين يسمع بالضحك منسوبا إلى الله سبحانه ما
يمر بخاطره أو فكره حين يسمع به منسوبا إلى البشر، ولا يتصور مسلم أن صورة
الضحك البشرى، وما يستلزم، وما يحدث حين يكون يمكن أن ينسب إلى الله
سبحانه، فهذا ضحك البشر، وذاك ضحك الله الذى ليس كمثله شىء، ولهذا نقف عن
تأويله بشىء آخر حين يصح نقلا نسبته إلى الله جل وعلا. وأصل الضحك لغة:
يفيد الانكشاف والبروز، وكل من أبدى عن أمر كان مستورا. قيل: قد ضحك. كما
تقول: ضحكت الأرض بالنبات إذا ظهر فيها، وانفتق عن زهره وهو لا يستلزم
انبساط الوجه وتكشر الأسنان إلا حين يكون منسوبا إلى البشر، أما حين ينسب
إلى الله سبحانه، فلا يستلزم شيئا مما نسب إلى الخلق، لأنه جل شأنه الخالق.
هذا ولم يرد نسبة الضحك فى القرآن إلى الله سبحانه. وإنما ورد فى الحديث
مثل: «يضحك الله إلى رجلين بقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقاتل هذا
فى سبيل الله، فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل، فيقاتل فى سبيل الله،
فيستشهد» البخارى ومسلم. وكقوله صلى الله عليه وسلم للأنصارى وامرأته
اللذين استضافا رجلا،: «لقد ضحك الله الليلة- أو عجب من فعالكما» من حديث
رواه البخارى ومسلم، وانظر ص 467 الأسماء والصفات لأبى بكر أحمد بن الحسين
بن على البيهقى، مطبعة السعادة.
(5/135)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَرْحُ كَلَامِ أَبِي الْبَخْتَرِيّ وَالْمُجَذّرُ فَصْلٌ: وَقَوْلُ أَبِي
الْبَخْتَرِيّ أَنَا وَزَمِيلٌ. الزّمِيلُ: الرّدِيفُ، وَمِنْهُ:
ازْدَمَلَ الرّجُلُ بِحَمْلِهِ إذَا أَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَفِي
مُسْنَدِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنّا نَتَعَاقَبُ
يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً عَلَى بَعِيرٍ، فَكَانَ عَلِيّ وَأَبُو لُبَابَةَ
زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا
كَانَتْ عُقْبَتُهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- قَالَا لَهُ ارْكَبْ؛ وَلْنَمْشِ
عَنْك يَا رَسُولَ اللهِ، فَيَقُولُ: مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى
الْمَشْيِ مِنّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا.
وَقَوْلُ الْمُجَذّرِ: كَإِرْزَامِ الْمَرِيّ. الْمَرِيّ: النّاقَةُ
تُمْرَى لِلْحَلَبِ، أَيْ تُمْسَحُ أَخْلَافُهَا. وَإِرْزَامُهَا:
صَوْتُهَا وَهَدْرُهَا، وَقَدْ تَقَدّمَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَرْزَمَتْ ورزمت
«1» .
__________
(1) فى اللسان: رزمت الناقة ترزم وترزم بضم الزاى أو كسرها رزوما ورزاما
بالضم: قامت من الإعياء والهزال فلم تتحرك فهى رازم، وأرزمت الناقة إرزاما:
وهو صوت تخرجه من حلقها لا يفتح به فم، وإليك بعض معانى قصيدة المجذر:
الرماح اليزنى: المنسوبة إلى ذى يزن، وهو ملك من ملوك اليمن. والكبش: رئيس
القوم. والصعدة: عصا الرمح، ثم يسمى الرمح: صعدة. وأعبط: أقتل والعبط:
القتل من غير سبب، والقرن: المقاوم فى الحرب. والعضب: السيف القاطع.
والمشرفى: منسوب إلى المشارف وهى قرى بالشام. وفى كتاب العين أن المرى هى
الناقة الغزيرة اللبن. يفرى فرى: أتى بأمر عجيب «عن أبى ذر الخشنى فى شرح
السيرة» .
(5/136)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تفسيرها اللهِ وَهَبّرُوهُ:
وَقَوْلُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِأُمَيّةِ: هَا اللهِ ذَا «1» .
هَا: تَنْبِيهٌ، وَذَا إشَارَةٌ إلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إلَى
الْقَسَمِ، أَيْ: هَذَا قَسْمِي، وَأُرَاهَا إشَارَةً إلَى الْمُقْسِمِ،
وَخَفْضُ اسْمِ اللهِ بِحَرْفِ الْقَسَمُ أَضْمَرَهُ، وَقَامَ التّنْبِيهُ
مَقَامَهُ، كَمَا يَقُومُ الِاسْتِفْهَامُ مَقَامَهُ، فَكَأَنّهُ قال:
هأنذا مُقْسِمٌ، وَفَصْلٌ بِالِاسْمِ الْمُقْسَمِ بِهِ، بَيْنَ هَا وَذَا،
فَعُلِمَ أَنّهُ هُوَ الْمُقْسِمُ فَاسْتُغْنِيَ عَنْ أنا، وكذلك قول أبى
بكر: لا ها الله ذا، وقول زهير:
تعلّمن ها لعمر الله ذا قسما «2»
__________
(1) هى فى النسخة المطبوعة مع الروض: ها الله ذا.
(2) بقيته. فاقصد بذرعك وانظر أين ينسلك. «وإذا دخلت ها على الله ففيه
أربعة أوجه أكثرها: إثبات ألف ها، وحذف همزة الوصل من الله فيلتقى ساكنان:
ألف ها، واللام الأولى من: الله، وكان القياس حذف الألف، لان مثل ذلك إنما
يغتفر فى كلمة واحدة كالضالين، أما فى كلمتين فالواجب الحذف، نحو ذا الله
وما الله، إلا أنه لم يحذف فى الأغلب ههنها ليكون كالتنبيه على كون ألف ها
من تمام ذا، فان «ها الله ذا» بحذف ألف ها ربما يوهم أن الهاء عوض عن همزة
الله كهرقت فى أرقت، وهياك فى إياك. والثانية وهى المتوسطة فى القلة
والكثرة- ها الله ذا «بحذف ألف ها للساكنين كما فى ذا الله، وما الله،
ولكونها حرفا كلا، وما وذا. والثالثة- وهى دون الثانية فى الكثرة- إثبات
ألف ها، وقطع همزة الله مع كونها فى الدرج. والرابعة: حكاها أبو على- وهى
أقل الجميع- هأ لله بحذف همزة الوصل وفتح ألف ها للساكنين بعد قلبها همزة،
كما فى الضألين، ودأبة. قال الخليل: -
(5/137)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَكّدَ بِالْمَصْدَرِ قَسَمَهُ الّذِي دل عليه لفظه المتقدم.
وَقَوْلُهُ: هَبَرُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ مِنْ الْهَبْرَةِ وَهِيَ القطعة
العظيمة من اللحم، أى فطعوه.
وَذَكَرَ قَوْلَ الْغِفَارِيّ حِينَ سَمِعَ حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ فى
السّحابة، وسمع قائلا يقول:
افدم حَيْزُومُ. اُقْدُمْ بِضَمّ الدّالِ، أَيْ اُقْدُمْ الْخَيْلَ، وهو
اسم فرس جبريل،
__________
- ذا من جملة جواب القسيم، وهو خبر مبتدأ محذوف، أى الأمر ذا، أو فاعل: أى
ليكونن ذا، أو لا يكون ذا، والجواب الذى يأتى بعد نفيا أو إثباتا نحو: ها
الله ذا لأفعلن، أولا أفعل بدل من الأول، ولا يقاس عليه، فلا يقال: ها الله
أخوك أى لأنا أخوك ونحوه. وقال الأخفش: ذا من تمام القسم، إما صفة لله، أى
الله الحاضر الناظر. أو مبتدأ محذوف الخبر، أى ذا قسمى، فبعد هذا إما أن
يجىء الجواب، أو يحذف مع القرينة» الرضى فى شرح كافية ابن الحاجب ج 2 ص 312
أما معنى التعبير، فقد ذكر الرضى أن معناها القسم، ثم ذكر الاختلاف حول
الهاء، فقال: «وإذا حذف حرف القسم الأصلى أعنى: الباء، فإن لم يبدل منها،
فالمختار النصب بفعل القسم، ويختص لفظة الله بجواز الجرمع حذف الجار بلا
عوض، نحو: الكعبة لأفعلن، وتختص لفظة الله بتعويض ها، أو همزة الاستفهام من
الجار وكذا يعوض من الجار فيها قطع همزة الله فى الدرج، فكأنها حذفت الدرج،
ثم ردت عوضا من الحرف، وجار الله جعل هذه الأحرف بدلا من الواو، ولعل ذلك
لاختصاصها بلفظة الله كالتاء، فاذا جئت بهاء التنبيه بدلا، فلا بد أن تجىء
بلفظة ذا بعد للقسم به، نحو: لاها الله ذا، وإى ها الله ذا.. والظاهر أن
حرف التنبيه من تمام اسم الاشارة.. قدم على لفظ المقسم به عند حذف الحرف
ليكون عوضا منه» ح 2 ص 311، 312 شرح الكافية وانظر ص 213 ج 2 شرح الشافية
للرضى. وقد نقلنا كلام الكافية من هامش الشافية للمحققين.
(5/138)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ فَيْعُولٌ مِنْ الْحَزْمِ، وَالْحَيْزُومُ أَيْضًا أَعْلَى
الصّدْرِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا سُمّيَ بِهِ؛ لِأَنّهُ صَدْرٌ
لِخَيْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَمُتَقَدّمٌ عَلَيْهَا، وَالْحَيَاةُ أَيْضًا
فَرَسٌ أُخْرَى لِجِبْرِيلَ لَا تَمَسّ شَيْئًا إلّا حَيِيَ، وَهِيَ الّتِي
قَبَضَ مِنْ أَثَرِهَا السّامِرِيّ، فَأَلْقَاهَا فِي الْعِجْلِ الّذِي
صَاغَهُ مِنْ ذهب، فكان له خوار، ذكره الزّجّاج «1» .
__________
(1) ليس لما نقله عن الزجاج حجة وقبض السامرى بتفسير المفسرين شىء لا يسنده
حديث ولا عقل.. والقرآن لم يأت بذكر لفرس: لا لجبريل فى الآية، وإنما أتى
بقوله سبحانه: (فقبضت قبضة من أثر الرسول) هكذا بأداة التعريف، التى تفهمنا
أنه رسول معروف، ولم يكن ثم غير هارون وموسى، كيف عرف السامرى جبريل؟ وكيف
قبض القبضة؟ وكيف ينسب إلى فرس أنه يحعل كل شىء يمر عليه حيا؟ والسامرى
نسبة إلى شامر. والشين فى العبرية يغلب أن تكون سينا فى العربية، وشامر
معناها: حارس. واليهود والنصارى يتهمون هارون عليه السلام بأنه هو الذى صنع
لهم لعجل، ففى الإصحاح الثانى والثلاثين من سفر الخروج ورد: ولما رأى الشعب
أن موسى أبطأ فى النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم
اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذى أصعدنا من أرض مصر لا
نعلم ماذا أصابه، فقال لهم هارون: لنزعوا أقراط الذهب التى فى آذان نسائكم
وبنيكم وبناتكم، وأتونى بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التى فى آذانهم،
وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم، وصوره بالإزميل، وصنعه عجلا
مسبوكا، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التى أصعدتك من أرض مصر، فلما نظر
هارون بنى مذبحا أمامه» هذه صورة من صور تحريف الكلم عن مواضعه، فقد رفع
اسم السامرى، ووضع مكانه اسم هارون. ولا يتصور إنسان سوى اليهود والنصارى
ومن فى قلبه مس يهودية أو نصرانية أن نبيا عظيما كهارون يتردى فى هذه
الوثنية التى أرسله الله بتدميرها!!. ولكنهم قوم يفترون على الله الكذب،
وقد بهتوا سليمان بعبادة الأصنام، وداود بالزنا والقتل غيلة. وقد يكون
العجل الذى جاء به السامرى عجلا حقيقيا، ويكون معنى «من» فى-
(5/139)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَسَبُ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيّ:
فَصَل: وَذَكَرَ أَبَا دَاوُدَ الْمَازِنِيّ وَقَوْلَهُ: لَقَدْ أَتْبَعْت
رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَسَقَطَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ أَصِلَ
إلَيْهِ. اسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا عَمْرٌو، وَقِيلَ: عُمَيْرُ بْنُ
عَامِرٍ «1» ، وَهَذَا هُوَ الّذِي قَتَلَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ
هِشَامٍ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ فِي قَوْلِ طائفة من أَهْلِ السّيَرِ غَيْرَ
ابْنِ إسْحَاقَ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ قَتَلَهُ الْمُجَذّرُ كَمَا
تَقَدّمَ.
لُغَوِيّاتٌ وَقَوْلُ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ: ما
شبّهت رجله حين طاحت
__________
- قوله سبحانه (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار) يكون
معناها على البدل. ويكون المعنى أن السامرى خدع بنى إسرائيل، فأخذ منهم
حليهم، ثم أخرج لهم عجلا حقيقيا بدلا من الحلى الذى أخفاه لنفسه، وهذا يتفق
مع التحريق والنسف، لأن الحلى تصهر، ولا تذرى، وتظل جسدا كما هى، أو يكون
السامرى قد صنع العجل بطريقة خاصة تجعله يحدث ذلك الخوار، ويكون الحلى نوعا
مما يحرق ويذرى. أما القبضة التى قبضها، فقد قال فيها الشيخ عبد الوهاب
النجار ما يأتى: «إنه قبض قبضة من أثر الرسول، أى تعليمه وأحكام التوحيد
التى جاء بها الرسول- وهو موسى- فنبذتها، أى ألقيتها، وأهملتها، وكذلك سولت
لى نفسى» وهو رأى يحق أن نفكر فيه، فكل آراء المفسرين حول هذا تعمتد على
خرافة قبض السامرى من فرس جبريل!! ورأى يا بنى على أسطورة يجب أن ينبذ
(1) عمير بن عامر بن مالك بن خنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن ابن
النجار «الإصابة عن ابن البرقى» وقد ذكره مسلم والنسائى والطبرى وابن
الجاورد وابن السكن وأبو أحمد، كلهم ذكروه بكنيته: أبى داود» وبعضهم كناه
بأبى دؤاد بتقديم الهمزة على الألف.
(5/140)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلّا بِالنّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ الْمِرْضَخَةِ. طَاحَتْ: ذَهَبَتْ،
وَلَا يَكُونُ إلّا ذَهَابَ هَلَاكٍ، وَالْمِرْضَخَةُ. كالإرزبّة «1» يدقّ
بها النوى للعلف، والرّضح بِالْحَاءِ مُهْمَلَةً: كَسْرُ الْيَابِسِ،
وَالرّضْخُ كَسْرُ الرّطَبِ، ووقع فى أصل الشيخ المرضحة بِالْحَاءِ
وَالْخَاءِ مَعًا، وَيَدُلّ عَلَى أَنّهُ كُسِرَ لَمّا صُلِبَ، وَأَنْشَدَ
قَوْلَ الطّائِيّ:
أَتَرْضَحُنِي رَضْحَ النّوَى وَهِيَ مُصْمَتٌ ... وَيَأْكُلُنِي أَكْلَ
الدّبَا وَهُوَ جائع
وإنما نحتجوا «2» بِقَوْلِ الطّائِيّ، وَهُوَ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ
لِعِلْمِهِ، لَا لِأَنّهُ عَرَبِيّ يُحْتَجّ بِلُغَتِهِ «3» .
الْغُلَامَانِ اللّذَانِ قَتَلَا أَبَا جَهْلٍ:
وَذَكَرَ الْغُلَامَيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَا أَبَا جَهْلٍ، وَأَنّهُمَا
مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الجموح
__________
(1) الإرزبة أو المرزبة: عصية من حديد.
(2) لعلها نحتج أو: احتجوا.
(3) قال أبو النجم:
بكل وأب للحصى رضاح ... ليس بمصطتر ولا فرشاح
الو أب: الشديد القوى والمصطتر: الضيق، والفرشاح: المنبطح. ومن رجز أبى جهل
وهو يقاتل: البازل: الذى خرج نابه وهو فى ذلك السن تكتمل قوته. والرجز يقال
إنه ليس لأبى جهل وإنما تمثل به. ومن معانى حديث قتل أبى جهل: أطنت قدمه:
أطارت قدمه. وأجهضنى القتال: غلبنى واشتد على.
(5/141)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومعوّذ بن عفراء، وفى صحيح مسلم أنهما معاذ بن عَفْرَاءَ وَمُعَاذُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَعَفْرَاء هِيَ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ عُبَيْد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ
عَرَفَ بِهَا بَنُو عَفْرَاءَ «1» وَأَبُوهُمْ الْحَارِثُ بْنُ رِفَاعَةَ
بْنِ سَوَادٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إدْرِيسَ
عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، كَمَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ، قَالَ أَبُو عُمَرَ:
وَأَصَحّ مِنْ هَذَا كُلّهِ حَدِيثُ أَنَسٍ حِينَ قَالَ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ أَبِي جَهْلٍ،
الْحَدِيثُ، وَفِيهِ أَنّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ قَتَلَاهُ.
وَقَوْلُ أَبِي جَهْلٌ: اعْمَدْ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، وَيُرْوَى
قَتَلَهُ قَوْمُهُ، أَيْ:
هَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ «2» ، وَهُوَ مَعْنَى تَفْسِيرِ
ابْنِ هِشَامٍ، حَيْثُ قَالَ: أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِ عَارٌ، وَالْأَوّلُ:
تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ [أَنْشَدَ]
شَاهِدًا عَلَيْهِ:
[تُقَدّمُ قَيْسٌ كُلّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ ... وَيُثْنَى عَلَيْهَا فِي
الرخاء ذنوبها]
__________
(1) فى جمهرة ابن حزم: ص 329 عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبد بن ثعلبة بن
غنم بن مالك. وفى الإصابة: عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن سواد بن غنم، ويقال:
ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْد بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنَمِ بن مالك بن النجار،
وذكرها ابن حبيب فى المبايعات، وهى والدة معاذ ومعوذ وعوف بنى الحارث يقال
لكل منهم ابن عفراء. وعفراء هذه لها خصيصة لا توجد لغيرها، وهى أنها تزوجت
بعد الحارث البكير بن ياليل الليثى، فولدت له أربعة: إياسا وعاقلا وخالدا
وعامرا، وكلهم شهدوا بدرا وكذلك إخوتهم لأمهم بنو الحارث، فالتظم من هذا
أنها امرأة صحابية لها سبعة أولاد شهدوا كلهم بدرا مع النبى صلى الله عليه
وآله وسلم.
(2) فى اللسان منسوبا إلى أبى عبيدة أن معناه: هل زاد على سيد قومه، هل كان
إلا هذا.. وقال شمر: هذا استفهام، أى: أعجب من رجل قتله قومه، قال الأزهرى:
كان الأصل: أأعمد من سيد فخففت إحدى الهمزتين.
(5/142)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَعْمَدُ مِنْ قَوْمٍ كَفَاهُمْ أَخُوهُمْ ... صِدَامَ الْأَعَادِي حِينَ
فُلّتْ نُيُوبُهَا «1»
قَالَ الْمُؤَلّفُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَهُوَ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِمْ
عَمِدَ الْبَعِيرُ يعمد:
إذا اتفسّخ سَنَامُهُ، فَهَلَكَ، أَيْ أَهْلَكُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ
قَوْمُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ هَذَا،
وَمَا ذَكَرُوهُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ لِابْنِ مَسْعُودٍ:
لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِي الْغَنَمِ. مُرْتَقًى
صَعْبًا يُعَارِضُ مَا وَقَعَ فِي سَيْرِ ابْنِ شِهَابٍ وَفِي مَغَازِي
ابْنِ عُقْبَةَ «2» أَنّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَجَدَهُ جَالِسًا لَا
يَتَحَرّكُ، وَلَا يَتَكَلّمُ فَسَلَبَهُ دِرْعَهُ، فَإِذَا فِي بَدَنِهِ
نُكَتٌ سُودٌ، فَحَلّ تَسْبَغَةَ الْبَيْضَةِ «3» ، وَهُوَ لَا يَتَكَلّمُ،
وَاخْتَرَطَ سَيْفُهُ يَعْنِي سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ فَضَرَبَ بِهِ عُنُقَهُ،
ثُمّ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- حين احْتَمَلَ
رَأْسَهُ إلَيْهِ عَنْ تِلْكَ النّكَتِ السّودِ الّتِي رَآهَا فِي
بَدَنِهِ، فَأَخْبَرَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّ الْمَلَائِكَةَ
قَتَلَتْهُ، وَأَنّ تِلْكَ آثَارُ ضَرْبَاتِ الْمَلَائِكَةِ، وَرَوَى
يُونُسُ عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، قَالَ:
أَرَانِي الْقَاسِم بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ سَيْفَ عَبْدِ الله بن مسعود،
قال: هذا سيف
__________
(1) البيت منسوب إلى ابن ميادة، ونسبه الأزهرى إلى ابن مقبل، وقد زدت البيت
من اللسان. ويفسره الخشنى بما يأتى منسوب إلى سراج ابن «يريد أكبر من رجل
قتلتموه على سبيل التحقير منه لفعلهم به» ص 160.
(2) قال عنها مالك: مغازى موسى بن عقبة أصح المغازى ص 182 ح 2 السيرة
الحلبية
(3) التسبغة بكسر الياء وفتحها: ما توصل به البيضة من حلق الدرع فتستر
العنق، وهى تسابغ وتسبغ أيضا. والبيضة الخوذة.
(5/143)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبِي جَهْلٍ حِينَ قَتَلَهُ فَأَخَذَهُ فَإِذَا سَيْفٌ قَصِيرٌ عَرِيضٌ
فِيهِ قَبَائِعُ فِضّةٍ «1» وَحَلَقُ فِضّةٍ قَالَ أَبُو عُمَيْسٍ،
فَضَرَبَ بِهِ الْقَاسِمُ عُنُقَ ثَوْرٍ فَقَطَعَهُ، وَثَلَمَ فِيهِ
ثَلْمًا، فَرَأَيْت الْقَاسِمَ جَزَعَ مِنْ ثَلْمِهِ جَزَعًا شَدِيدًا.
إضْمَارُ حَرْفِ الْجَرّ:
وَقَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ اللهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ،
بِالْخَفْضِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، لِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ عِوَضٌ
مِنْ الْخَافِضِ عِنْدَهُ، وإذا كنت مخبرا قُلْت:
اللهَ بِالنّصْبِ لَا يُجِيزُ الْمُبَرّدُ غَيْرَهُ، وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ
الْخَفْضَ أَيْضًا لِأَنّهُ قَسَمٌ، وَقَدْ عَرَفَ أَنّ الْمُقْسِمَ بِهِ
مَخْفُوضٌ بِالْبَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ، وَلَا يَجُوزُ إضْمَارُ حُرُوفِ
الْجَرّ إلّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ أَوْ مَا كَثُرَ
اسْتِعْمَالُهُ جِدّا كَمَا رُوِيَ أَنّ رُؤْبَةَ كَانَ يَقُولُ، إذَا
قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْت؟ خَيْرٌ عَافَاك اللهُ «2» .
وَقَوْلُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَبِي جَهْلٍ
حِينَ ذَكَرَ مُزَاحَمَتِهِ لَهُ فِي مَأْدُبَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ
جُدْعَانَ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْمَوْلِدِ التّعْرِيفُ بِعَبْدِ اللهِ
بْنِ جُدْعَانَ وَذَكَرْنَا خَبَر جَفْنَتِهِ، وَسَبَبَ غِنَاهُ بعد أن كان
صعلوكا بأتم بيان.
__________
(1) جمع قبيعة وهى التى تكون على رأس قائم السيف أو ما تحت شاربى السيف
(2) التقدير: على خير، أو بخير، ومثل هذا يقتصر فيه على السماع، ومنه قول
الفرزدق:
إذا قيل: أى الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع
أى إلى كليب، ومنه قول الشاعر:
وكريمة من آل قيس ألفته ... حتى تبندخ فارتقى الأعلام
أى: إلى الأعلام. ويطرد إضمار حرف الجر فى ثلاثة عشر موضعا تنظر فى كتب
النحو يقول ابن مالك فى ألفيته:
وقد يجر بسوى رب لدى ... حذف، وبعضه يرى مطردا
(5/144)
[خبر عكاشة بن
محصن]
قال ابن إسحاق: وقانل عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ الْأَسَدِيّ،
حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، يَوْمَ بَدْرٍ
بِسَيْفِهِ حَتّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْطَاهُ جِذْلًا مِنْ حَطَبٍ، فَقَالَ: قَاتِلْ
بِهَذَا يَا عُكّاشَةُ، فَلَمّا أَخَذَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَزّهُ، فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ طَوِيلَ
الْقَامَةِ، شَدِيدَ الْمَتْنِ، أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ، فَقَاتَلَ بِهِ
حَتّى فَتَحَ اللهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ
السّيْفُ يُسَمّى: الْعَوْنَ. ثُمّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ
الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى
قُتِلَ فِي الرّدّةِ، وَهُوَ عِنْدَهُ، قَتَلَهُ طُلَيْحَةُ بْنُ
خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيّ، فَقَالَ طُلَيْحَةُ فِي ذَلِكَ:
فَمَا ظَنّكُمْ بِالْقَوْمِ إذْ تَقْتُلُونَهُمْ ... أَلَيْسُوا وَإِنْ
لَمْ يُسْلِمُوا بِرِجَالِ
فَإِنْ تَكُ أَذَاوُدٌ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ ... فَلَنْ تَذْهَبُوا فِرْغًا
بِقَتْلِ حِبَالِ
نَصَبْتُ لَهُمْ صَدْرَ الْحِمَالَةِ إنّهَا ... مُعَاوِدَةٌ قِيلَ
الْكُمَاةُ نَزَال
فَيَوْمًا تَرَاهَا فِي الْجَلَالِ مَصُونَة ... وَيَوْمًا تَرَاهَا غَيْرَ
ذَاتِ جِلَالِ
عَشِيّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أقرم ثاويا ... وعكّاشة الغنمىّ عند حجال
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حِبَالُ: ابْنُ طُلَيْحَةَ بْنِ خويلد. وابن أقرم:
ثابت بن أفرم الْأَنْصَارِيّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَعُكّاشَةُ بْنُ مُحْصَنٍ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَدْخُلُ الْجَنّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ (م
10- لروض الأنف ج هـ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/145)
أُمّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي
مِنْهُمْ؛ قَالَ: إنّك مِنْهُمْ، أَوْ اللهُمّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ، فَقَامَ
رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:
سَبَقَك بِهَا عُكّاشَةُ وَبَرَدَتْ الدّعْوَةُ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما بَلَغَنَا
عَنْ أَهْلِهِ: مِنّا خَيْرُ فَارِسٍ فِي الْعَرَبِ؛ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ
يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ
الْأَزْوَرِ الْأَسَدِيّ: ذَاكَ رَجُلٌ مِنّا يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَالَ:
لَيْسَ مِنْكُمْ وَلَكِنّهُ مِنّا لِلْحِلْفِ.
حَدِيثٌ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ يَوْمَ بَدْرٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنَادَى أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ابْنَهُ عَبْدَ
الرّحْمَنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: أَيْنَ
مَالِي يَا خَبِيثُ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ:
لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شِكّةٍ ويَعْبُوبْ ... وَصَارِمٌ يَقْتُلُ ضُلّالِ
الشّيبْ
فِيمَا ذُكِرَ لِي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمّدٍ الدّرَاوَرْدِيّ.
[طَرْحُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقَلِيبِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمّا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي
الْقَلِيبِ طُرِحُوا فِيهِ، إلّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ،
فَإِنّهُ انْتَفَخَ فى درعه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/146)
فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُحَرّكُوهُ،
فَتَزَايَلَ لَحْمُهُ، فَأَقَرّوهُ، وَأَلْقَوْا عليه ما غيّبه من التراب
والحجارة. فلمّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ،
هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا؟ فإنى وَجَدْتُ مَا
وَعَدَنِي رَبّي حَقّا؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ
اللهِ، أَتُكَلّمُ قَوْمًا مَوْتَى؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ
مَا وَعَدَهُمْ رَبّهُمْ حَقّا.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنّاسُ يَقُولُونَ: لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْت
لَهُمْ، وَإِنّمَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم: لَقَدْ عَلِمُوا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حُمَيْدٌ الطّوِيلُ. عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، قَالَ:
سَمِعَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول الله صلى الله عليه وسلم
من جَوْفِ اللّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، يَا عُتْبَةُ
بْنُ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ
خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، فَعَدّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ
فِي الْقَلِيبِ:
هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا؛ فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا
وَعَدَنِي رَبّي حَقّا؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيّفُوا؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا
أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنُ يُجِيبُونِي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ:
يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النّبِيّ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ،
كَذّبْتُمُونِي وصدّقنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس، وقاتلتمونى نصرنى
النّاسُ؛ ثُمّ قَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا؟
لِلْمَقَالَةِ الّتِي قَالَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/147)
[شِعْرُ حَسّانَ فِيمَنْ أَلَقُوا فِي
الْقَلِيبِ]
قَالَ ابن إسحاق: وقال حسّان بن ثابت:
عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ ... كَخَطّ الْوَحْيِ فِي
الْوَرَقِ الْقَشِيبِ
تَدَاوَلُهَا الرّيَاحُ وَكُلّ جَوْنٍ ... مِنْ الْوَسْمِيّ مُنْهَمِرٍ
سَكُوبِ
فَأَمْسَى رَسْمُهَا خَلَقًا وَأَمْسَتْ ... يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا
الْحَبِيبِ
فَدَعْ عَنْك التّذَكّرَ كُلّ يَوْمٍ ... وَرُدّ حَرَارَةَ الصّدْرِ
الْكَئِيبِ
وَخَبّرَ بِاَلّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ ... بِصِدْقِ غَيْرِ إخْبَارِ
الْكَذُوبِ
بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ ... لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ
النّصِيبِ
غَدَاةَ كَأَنّ جَمْعَهُمْ حراء ... بدت أركانه جنح الغروب
فلا قيناهم مِنّا بِجَمْعٍ ... كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ
أَمَامَ مُحَمّدٍ قَدْ وَازَرُوه ... عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات ... وكلّ مجرّب خاطى الْكُعُوبِ
بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ وَازَرَتْهَا ... بَنُو النّجّارِ فِي
الدّينِ الصّلِيبِ
فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا ... وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا
بِالْجَبُوبِ
وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ ... ذَوِي حَسَبٍ إذَا نُسِبُوا
حَسِيبِ
يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللهِ لَمّا ... قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي
الْقَلِيبِ
أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقّا ... وَأَمْرُ اللهِ يَأْخُذُ
بِالْقُلُوبِ؟
فَمَا نَطَقُوا، وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا: ... صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا
رَأْيٍ مُصِيبِ!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/148)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا أَمَرَ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُلْقَوْا فِي القليب،
أخد عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَسُحِبَ إلَى الْقَلِيبِ، فَنَظَرَ رسول
الله صلى الله عليه وسلم- فيما بَلَغَنِي- فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ
بْنِ عُتْبَةَ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيّرَ لَوْنُهُ، فَقَالَ: يَا
أَبَا حُذَيْفَةَ، لَعَلّك قَدْ دَخَلَك مِنْ شَأْنِ أَبِيك شَيْءٌ؟
أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: لَا،
وَاَللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فى مصرعه،
ولكننى كُنْتُ أَعْرِفُ مَنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا، فَكُنْت
أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ، فلما رأيت ما أصابه،
وذكرت مامات عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ، بَعْدَ الّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ،
أَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خيرا.
[من نَزَلَ فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي
أَنْفُسِهِمْ]
وَكَانَ الْفِتْيَةُ الّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرِ، فَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ
الْقُرْآن، فِيمَا ذُكِرَ لَنَا:
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً» فتية مسمّين.
مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ: الْحَارِثُ بْنُ
زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ ابن عبد المطّلب بن أَسَدٍ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو قَيْسِ بْنُ الفاكه بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ابن مَخْزُومٍ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ
بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بن مخزوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/149)
وَمِنْ بَنِي جُمَحَ: عَلِيّ بْنُ أُمَيّةَ
بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جمح.
وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: الْعَاصِ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ ابْنِ سَهْمٍ.
وَذَلِكَ أَنّهُمْ كَانُوا أَسْلَمُوا، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ، فَلَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ آبَاؤُهُمْ
وَعَشَائِرُهُمْ بِمَكّةَ وَفَتَنُوهُمْ فَافْتَتَنُوا، ثُمّ سَارُوا مَعَ
قَوْمِهِمْ إلَى بَدْرٍ فأصيبوا به جميعا.
[ذكر الفىء ببدر]
ثُمّ إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِمَا فِي
الْعَسْكَرِ، مِمّا جَمَعَ النّاسُ، فَجَمَعَ، فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ
فِيهِ، فَقَالَ مَنْ جَمَعَهُ: هُوَ لَنَا، وَقَالَ الّذِينَ كَانُوا
يُقَاتِلُونَ الْعَدُوّ وَيَطْلُبُونَهُ: وَاَللهِ لَوْلَا نَحْنُ مَا
أَصَبْتُمُوهُ لَنَحْنُ شَغَلَنَا عَنْكُمْ الْقَوْمُ حَتّى أَصَبْتُمْ مَا
أَصَبْتُمْ؛ وَقَالَ الّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله
عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدوّ: والله ما أنتم بأحقّ به منا، والله
لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذ منحنا الله تعالى أكتافه، ولقد رأينا أن نأخذ
المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ولكنّا خِفْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرّةَ الْعَدُوّ، فَقُمْنَا دُونَهُ،
فَمَا أَنْتُمْ بِأَحَقّ بِهِ مِنّا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْد الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ
وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عن سليمان بن مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ- واسمه صدىّ ابن عَجْلَانَ فِيمَا قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ- قَالَ: سَأَلْت عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ عَنْ
الْأَنْفَالِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/150)
فَقَالَ: فِينَا أَصْحَابُ بَدْرٍ نَزَلَتْ
حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا،
فَنَزَعَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ، فَقَسَمَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
عَنْ بَوَاءٍ يَقُولُ: عَلَى السّوَاءِ.
قَالَ ابْنُ إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قَالَ: حَدّثَنِي بَعْضُ
بَنِي سَاعِدَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السّاعِدِيّ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ،
قَالَ: أَصَبْتُ سَيْفَ بَنِي عَائِذٍ الْمَخْزُومِيّينَ الّذِي يُسَمّى
الْمَرْزُبَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمّا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ أَنْ يَرُدّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ
النّفَلِ، أَقْبَلْتُ حَتّى أَلْقَيْتُهُ فِي النّفَلِ.
قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا
يَمْنَعُ شَيْئًا سُئِلَهُ، فعرفه الأرقم ابن أَبِي الْأَرْقَمِ،
فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَاهُ
إيّاهُ.
[بَعْثُ ابْنِ رَوَاحَةَ وَزَيْدِ بَشِيرِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عِنْدَ الْفَتْحِ عَبْدَ اللهِ ابْنَ رَوَاحَةَ بَشِيرًا إلَى
أَهْلِ الْعَالِيَةِ، بِمَا فَتَحَ اللهُ عَزّ وَجَلّ عَلَى رَسُولِهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ زَيْدَ
بْنَ حَارِثَةَ إلَى أَهْلِ السّافِلَةِ. قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ:
فَأَتَانَا الْخَبَرُ- حِينَ سَوّيْنَا التّرَابَ عَلَى رقية ابنة رسول
الله صلى الله عليه وَسَلّمَ، الّتِي كَانَتْ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ
عَفّانَ. كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلّفنى
عليها مع عثمان- أن زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ قَدْ قَدِمَ. قَالَ:
فَجِئْته وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْمُصَلّى قَدْ غَشِيَهُ النّاسُ، وَهُوَ
يَقُولُ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ،
وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الأسود، وأبو البخترىّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/151)
والعاص بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيّةُ بْنُ
خَلَفٍ، وَنُبَيْهُ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ. قَالَ: قُلْت:
يَا أَبَتْ، أَحَقّ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاَللهِ يَا بُنَيّ.
[قُفُولُ رَسُولِ اللهِ مِنْ بَدْرٍ]
ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا إلَى
الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ الْأُسَارَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِمْ
عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَاحْتَمَلَ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ النّفَلَ الّذِي
أُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ عَلَى النّفَلِ عَبْدَ اللهِ بْنَ
كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْن غَنْمِ
بْنِ مَازِنِ بْنِ النّجّارِ؛ فَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ- قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: يُقَال: إنّهُ عَدِيّ بْنُ أَبِي الزّغْبَاءِ:
أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسْبَسُ ... لَيْسَ بِذِي الطّلْحِ لَهَا
مُعَرّسُ
وَلَا بِصَحْرَاءِ غُمَيرٍ مَحْبَسُ ... إنّ مَطَايَا الْقَوْمِ لَا
تُخَيّسُ
فَحَمْلُهَا عَلَى الطّرِيقِ أَكْيَسُ ... قَدْ نَصَرَ اللهُ وَفَرّ
الْأَخْنَسُ
ثُمّ أَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم- حتى إذَا خَرَجَ مِنْ مَضِيقِ
الصّفْرَاءِ نَزَلَ عَلَى كَثِيبٍ بَيْنَ الْمَضِيقِ وَبَيْنَ النّازِيَةِ-
يُقَالُ لَهُ: سَيْرٌ- إلَى سَرْحَةٍ بِهِ.
فَقَسَمَ هُنَالِكَ النّفَلَ الّذِي أَفَاءَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السّوَاءِ ثُمّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَتّى إذَا كَانَ بِالرّوْحَاءِ لفيه
الْمُسْلِمُونَ يُهَنّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ- كَمَا
حَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ:
مَا الّذِي تُهَنّئُونَنَا به؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/152)
فو الله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن
المعقّلة، فنحرناها، فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: أَيْ ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ وَالرّؤَسَاءُ.
[مَقْتَلُ النّضْرِ وَعُقْبَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتّى إذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصّفْرَاءِ قُتِلَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ،
قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ
قُتِلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عِرْقُ الظّبْيَةِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاَلّذِي أَسَرَ عُقْبَةَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ
سَلِمَةَ أَحَدُ بَنِي الْعَجْلَانِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ عُقْبَةُ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِ فَمَنْ لِلصّبْيَةِ يَا مُحَمّدُ؟
قَالَ: النّارُ. فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ
الْأَنْصَارِيّ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَمَا حَدّثَنِي أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامَ: وَيُقَالُ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيمَا
ذَكَرَ لِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/153)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَقِيَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَبُو
هِنْدٍ، مَوْلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْبَيّاضِي بِحَمِيتٍ مَمْلُوءٍ
حيسا.
وقال ابْنُ هِشَامٍ: الْحَمِيتُ: الزّقّ، وَكَانَ قَدْ تَخَلّفَ عَنْ
بَدْرٍ، ثُمّ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عليه وسلم، وهو كَانَ حَجّامَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: إنما هو أبو
هند امرؤ مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَنْكِحُوهُ، وَأَنْكِحُوا إلَيْهِ،
فَفَعَلُوا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الأسارى بيوم.
قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ أَنّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ
اللهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ابْنِ أَسَعْدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ:
قُدِمَ بِالْأُسَارَى حِينَ قُدِمَ بِهِمْ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ
زَوْجُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ آلِ عَفْرَاءَ، فِي
مَنَاحَتِهِمْ عَلَى عَوْفٍ وَمُعَوّذٍ ابْنَيْ عَفْرَاءَ، وَذَلِكَ قَبْلَ
أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنّ الْحِجَابُ.
قَالَ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاَللهِ إنى لعندهم إذ أنينا، فَقِيلَ:
هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى، قَدْ أُتِيَ بِهِمْ قَالَتْ: فَرَجَعْت إلَى
بَيْتِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ، وَإِذَا
أَبُو يَزِيدَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْحُجْرَةِ،
مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ قَالَتْ: فَلَا وَاَللهِ مَا
مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْت أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ أَنْ قُلْت: أَيْ
أَبَا يَزِيدَ: أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، ألا متّم كراما، فو الله مَا
أَنْبَهَنِي إلّا قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
الْبَيْتِ: يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ تُحَرّضِينَ؟ قَالَتْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/154)
قُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاَلّذِي
بَعَثَك بِالْحَقّ، ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مَجْمُوعَةً يَدَاهُ
إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت مَا قُلْت.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي نُبِيّهُ بْنُ وَهْبٍ، أَخُو بَنِي
عَبْدِ الدّارِ. أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ
أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ:
اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا. قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ بْنُ
عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمّهِ
فِي الْأُسَارَى.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ
وَرَجُلٌ من الأنصار يأسرنى، فقال: شدّيدك بِهِ، فَإِنّ أُمّهُ ذَاتُ
مَتَاعٍ، لَعَلّهَا تَفْدِيهِ مِنْك، قَالَ: وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إذَا قَدّمُوا
غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصّونِي بِالْخُبْزِ، وَأَكَلُوا التّمْرَ،
لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيّاهُمْ
بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إلّا
نَفَحَنِي بِهَا. قَالَ: فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ،
فَيَرُدّهَا عَلَيّ ما يمسها.
[بُلُوغُ مُصَابِ قُرَيْشٍ إلَى مَكّةَ]
قَالَ ابْنُ هشام: وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ
بِبَدْرِ بعد النّضر ابن الْحَارِثِ، فَلَمّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ
عُمَيْرٍ لِأَبِي الْيَسَرِ، وَهُوَ الّذِي أَسَرَهُ، مَا قَالَ قَالَ لَهُ
أَبُو عَزِيزٍ: يَا أَخِي، هَذِهِ وَصَاتُك بِي، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ:
إنّهُ أَخِي دُونَك. فَسَأَلَتْ أُمّهُ عَنْ أَغْلَى مَا فُدِيَ بِهِ
قُرَشِيّ، فَقِيلَ لَهَا: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فبعت بِأَرْبَعَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ، فَفَدَتْهُ بِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/155)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَوّلُ مَنْ
قَدِمَ مَكّةَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ الْحَيْسُمَانَ بْنُ عَبْدِ اللهِ
الْخُزَاعِيّ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ،
وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَنُبَيّهٌ
وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ،
فَلَمّا جَعَلَ يُعَدّدُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ؛ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ
أُمَيّةَ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الحجر: والله إن يعقل هذا فاسئلوه عنى؛
فقالوا: مَا فَعَلَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ؟ قَالَ: هَا هُوَ ذَاكَ
جَالِسًا فِي الْحِجْرِ، وَقَدْ وَاَللهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ
قُتِلَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ،
قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كنت غُلَامًا لِلْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَ
الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبّاسُ
وَأَسْلَمَتْ أمّ الفضل وأسلمت وكان العبّاس بهاب قَوْمَهُ وَيَكْرَهُ
خِلَافَهُمْ وَكَانَ يَكْتُمُ إسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ
مُتَفَرّقٍ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ تَخَلّفَ عَنْ بَدْرٍ،
فَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصِي بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَذَلِك
كَانُوا صَنَعُوا، لَمْ يَتَخَلّفْ رَجُلٌ إلّا بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلًا،
فَلَمّا جَاءَهُ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ،
كَبَتَهُ اللهُ وَأَخْزَاهُ، ووجدنا فى أنفسنا قوّة وعزّا. قَالَ: وَكُنْت
رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكُنْت أَعْمَلُ الْأَقْدَاحَ. أنحتها فى حجرة زمزم، فو
الله إنّي لَجَالِسٌ فِيهَا أنْحَتُ أَقْدَاحِي، وَعِنْدِي أُمّ الْفَضْلِ
جَالِسَةٌ، وَقَدْ سَرّنَا مَا جَاءَنَا مِنْ الْخَبَرِ، إذْ أَقْبَلَ
أَبُو لَهَبٍ يَجُرّ رِجْلَيْهِ بِشَرّ، حَتّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ
الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ إذْ
قال الناس: هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/156)
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ
الْمُغِيرَةُ- قَدْ قَدِمَ قَالَ: فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَلُمّ إلَيّ،
فَعِنْدَك لَعَمْرِي الْخَبَرُ، قَالَ:
فَجَلَسَ إلَيْهِ والناس قيام عليه، فقال: يابن أَخِي، أَخْبِرْنِي كَيْفَ
كَانَ أَمْرُ النّاسِ؟
قَالَ: وَاَللهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْمَ فمنحناهم أكتافنا
يقودوننا كيف شاؤا، ويأسروننا كيف شاؤا، وايم الله مع ذلك مالمت النّاسَ،
لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا، عَلَى خَيْلٍ بَلْقٍ، بَيْنَ السّمَاءِ
وَالْأَرْضِ، وَاَللهِ مَا تُلِيقُ شَيْئًا، وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ.
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْت طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدَيّ، ثُمّ قُلْتُ:
تِلْكَ وَاَللهِ الْمَلَائِكَةُ؛ قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فضرب
بها وجهى ضربة شديدة. قال:
وثاورته فَاحْتَمَلَنِي فَضَرَبَ بِي الْأَرْضَ، ثُمّ بَرَكَ عَلَيّ
يَضْرِبُنِي، وَكُنْت رَجُلًا ضَعِيفًا، فَقَامَتْ أُمّ الْفَضْلِ إلَى
عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ به ضربة فلعت
فِي رَأْسِهِ شَجّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: اسْتَضْعَفَتْهُ أَنْ غاب عنه
سيده فقام، مولّيا ذليلا، فو الله مَا عَاشَ إلّا سَبْعَ لَيَالٍ حَتّى
رَمَاهُ اللهُ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ.
[نُوَاحُ قُرَيْشٍ عَلَى قَتْلَاهُمْ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بن الزبير، عن أبيه عبّاد، قال: فاحت قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ، ثُمّ
قَالُوا: لَا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَيَشْمَتُوا
بِكُمْ؛ وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ حَتّى تَسْتَأْنُوا بِهِمْ لَا
يَأْرَبُ عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. قَالَ: وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ
الْمُطّلِبِ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ، زَمَعَةُ بْنُ
الْأَسْوَدِ، وَعَقِيلُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمَعَةَ،
وَكَانَ يُحِبّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ
إذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنْ اللّيْلِ، فَقَالَ لغلام له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/157)
وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: اُنْظُرْ هَلْ
أُحِلّ النّحْبُ؛ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا؟
لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ، يَعْنِي زَمَعَةَ، فَإِنّ جَوْفِي
قَدْ احْتَرَقَ قَالَ: فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ: إنّمَا
هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ. قَالَ: فَذَاكَ
حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ:
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ
السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ ... عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ
الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ ... وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي
الْوَلِيدِ
وَبَكّي إنْ بَكّيْتِ عَلَى عَقِيلٍ ... وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ
الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا ... وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ
نَدِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ ... وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ
يَسُودُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا إقْوَاءٌ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ مِنْ
أَشْعَارِهِمْ، وَهِيَ عِنْدَنَا إكْفَاءٌ. وَقَدْ أَسْقَطْنَا مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مَا هُوَ أَشْهَرُ مِنْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِي الْأُسَارَى أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ
ضُبَيْرَةَ السّهْمِيّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إنّ لَهُ بِمَكّةَ ابْنَا كَيّسًا تَاجِرًا ذَا مَالٍ،
وَكَأَنّكُمْ به قَدْ جَاءَكُمْ فِي طَلَبِ فِدَاءِ أَبِيهِ؛ فَلَمّا قالت
قريش لا تعجلوا بفداء أسرائكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قَالَ
الْمُطّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ- وَهُوَ الّذِي كَانَ رَسُولُ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنّي: صَدَقْتُمْ، لَا تَعْجَلُوا،
وَانْسَلّ مِنْ اللّيْلِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذَ أَبَاهُ
بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فانطلق به.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/158)
[أَمْرُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
وَفِدَاؤُهُ]
(قَالَ) : ثُمّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى، فَقَدِمَ
مِكْرَزُ بن حفص ابن الْأَخْيَفِ فِي فَدَاءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو،
وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ، أَخُو بَنِي سَالِمِ
بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ:
أَسَرْتُ سُهَيْلًا فَلَا أَبْتَغِي ... أَسِيرًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ
الْأُمَمِ
وَخِنْدَفُ تَعْلَمُ أَنّ الْفَتَى ... فَتَاهَا سُهَيْلٌ إذَا يُظّلَمْ
ضَرَبْتُ بِذِي الشّفْرِ حَتّى انْثَنَى ... وَأَكْرَهْت نَفْسِي عَلَى ذِي
الْعَلَمِ
وَكَانَ سُهَيْلٌ رَجُلًا أَعْلَمَ مِنْ شَفَتِهِ السّفْلَى.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا
الشّعْرَ لِمَالِكِ بْنِ الدّخْشُمِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ،
أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ: أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ
لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيّتَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَيَدْلَعُ لِسَانَهُ،
فَلَا يَقُومُ عَلَيْك خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا؛ قَالَ: فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُمَثّلُ بِهِ
فَيُمَثّلُ اللهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيّا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعُمَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: إنّهُ عَسَى أَنْ
يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمّهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَ ذَلِكَ الْمَقَامِ فِي
مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/159)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَلَمّا قَاوَلَهُمْ
فِيهِ مِكْرَزٌ وانتهى إلى رضاهم، قالوا: هات الذى لنا، قَالَ: اجْعَلُوا
رِجْلِي مَكَانَ رِجْلِهِ، وَخَلّوا سَبِيلَهُ حتى يبعث إليكم بفدائه،
فحلّوا سَبِيلَ سُهَيْلٍ، وَحَبَسُوا مِكْرِزًا مَكَانَهُ عِنْدَهُمْ،
فَقَالَ مكرز:
فديت بأذواد ثمان سبافتى ... يَنَالُ الصّمِيمَ غُرْمُهَا لَا
الْمُوَالَيَا
رَهَنْتُ يَدَيّ وَالْمَالُ أَيْسَرُ مِنْ يَدَيّ ... عَلَيّ، وَلَكِنّي
خَشِيت الْمَخَازِيَا
وَقُلْتُ سُهَيْلٌ خَيْرُنَا فَاذْهَبُوا بِهِ ... لِأَبْنَائِنَا حَتّى
نُدِيرُ الْأَمَانِيَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ هَذَا
لِمِكْرِزٍ.
[أَسْرُ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَإِطْلَاقُهُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ:
كَانَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَ لِبِنْتِ
عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
أُمّ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِنْتُ أَبِي عَمْرٍو، وَأُخْتُ أَبِي
مُعَيْطِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو- أَسِيرًا فِي يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أَسْرَى بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَسَرَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ:
فَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ:
افْدِ عَمْرًا ابْنَك، قَالَ: أَيُجْمَعُ عَلَيّ دَمِي وَمَالِي! قَتَلُوا
حَنْظَلَةَ، وَأَفْدِي عَمْرًا! دَعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ يُمْسِكُوهُ مَا
بَدَا لَهُمْ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، مَحْبُوسٌ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ رسول
الله صلى الله عليه وسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/160)
إذْ خَرَجَ سَعْدُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ
أَكّالٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمّ أَحَدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ
مُعْتَمِرًا وَمَعَهُ مُرَيّةٌ لَهُ، وَكَانَ شيخا مسلما، فى غنم له
النّقيع: فحرج من هنالك معتمرا، ولا يخشى الذى صنع به، لم يظنّ أنه يحبس
بمكة، إنما جاء معتمرا: وقد كَانَ عَهِدَ قُرَيْشًا لَا يَعْرِضُونَ
لِأَحَدٍ جَاءَ حَاجّا، أَوْ مُعْتَمِرًا إلّا بِخَيْرٍ، فَعَدَا عَلَيْهِ
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِمَكّةَ فَحَبَسَهُ بِابْنِهِ عَمْرٍو، ثُمّ
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
أَرَهْطَ ابْنِ أَكّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ ... تَعَاقَدْتُمْ لَا
تُسْلِمُوا السّيّدَ الْكَهْلَا
فَإِنّ بَنِي عَمْرٍو لِئَامٌ أَذِلّةٌ ... لَئِنْ لَمْ يَفُكّوا عَنْ
أَسِيرِهِمْ الْكَبْلَا
فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ:
لَوْ كَانَ سَعْدٌ يَوْمَ مَكّةَ مُطْلَقًا ... لَأَكْثَرَ فِيكُمْ قَبْلَ
أَنْ يُؤْسَرَ الْقَتْلَا
بِعَضْبِ حُسَامٍ أَوْ بِصَفْرَاءَ نَبْعَةٍ ... تَحِنّ إذا ما أنبضت تخفز
النّبْلَا
وَمَشَى بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ
عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَيَفُكّوا بِهِ صَاحِبَهُمْ، فَفَعَلَ
رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَبَعَثُوا بِهِ إلَى أَبِي
سُفْيَانَ، فَخَلّى سَبِيلَ سَعْدٍ.
[أَسْرُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ فِي الْأُسَارَى أَبُو الْعَاصِ بن
الربيع ابن عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، خَتَنُ رَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَزَوْجُ ابْنَتِهِ زينب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/161)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَسَرَهُ خِرَاشُ
بْنُ الصّمّةَ، أَحَدُ بَنِي حَرَامٍ.
[سَبَبُ زَوَاجِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ زَيْنَبَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ مِنْ رِجَالِ مَكّةَ
الْمَعْدُودِينَ: مَالًا، وَأَمَانَةً، وَتِجَارَةً، وَكَانَ لِهَالَةَ
بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ خَالَتَهُ. فَسَأَلَتْ خَدِيجَةَ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يُزَوّجَهُ، وَكَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُخَالِفُهَا، وَذَلِكَ
قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَزَوّجَهُ، وَكَانَتْ تَعُدّهُ
بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا. فلما أَكْرَمَ اللهُ رَسُولَهُ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بنبوّته آمنت به خديجة وبناته، فصدّقنه، وَشَهِدْنَ أَنّ
مَا جَاءَ بِهِ الْحَقّ، وَدِنّ بِدِينِهِ، وَثَبَتَ أَبُو الْعَاصِ عَلَى
شِرْكِهِ.
[سَعْيُ قُرَيْشٍ فِي تَطْلِيقِ بَنَاتِ الرّسُولِ مِنْ أَزْوَاجِهِنّ]
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ زَوّجَ عُتْبَةَ
بْنَ أَبِي لَهَبٍ رُقَيّةَ، أَوْ أُمّ كُلْثُومٍ. فَلَمّا بَادَى
قُرَيْشًا بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَبِالْعَدَاوَةِ، قَالُوا: إنّكُمْ
قَدْ فرّغتم مُحَمّدًا مِنْ هَمّهِ، فَرُدّوا عَلَيْهِ بَنَاتِهِ،
فَاشْغَلُوهُ بِهِنّ. فَمَشَوْا إلَى أَبِي الْعَاصِ فَقَالُوا لَهُ:
فَارِقْ صَاحِبَتَك وَنَحْنُ نُزَوّجُك أَيّ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ
شِئْتَ، قَالَ: لَا وَاَللهِ، إنّي لَا أُفَارِقُ صَاحِبَتِي، وَمَا أُحِبّ
أَنّ لِي بِامْرَأَتِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُثْنِي عَلَيْهِ فِي صِهْرِهِ خَيْرًا،
فِيمَا بَلَغَنِي. ثُمّ مَشَوْا إلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ،
فَقَالُوا لَهُ: طَلّقْ بِنْتَ مُحَمّدٍ وَنَحْنُ نُنْكِحُك أَيّ امْرَأَةٍ
مِنْ قُرَيْشٍ شِئْت، فَقَالَ: إنْ زَوّجْتُمُونِي بِنْتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/162)
أَبَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَوْ
بِنْتَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَارَقْتُهَا. فَزَوّجُوهُ بِنْتَ سَعِيدِ
بْنِ الْعَاصِ وَفَارَقَهَا، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، فَأَخْرَجَهَا
اللهُ مِنْ يَدِهِ كَرَامَةً لَهَا، وَهَوَانًا لَهُ، وَخَلَفَ عَلَيْهَا
عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بَعْدَهُ.
[أَبُو الْعَاصِ عِنْدَ الرّسُولِ وَبَعْثُ زَيْنَبَ فِي فِدَائِهِ]
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُحِلّ بِمَكّةَ
وَلَا يُحَرّمُ، مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ
فَرّقَ بَيْنَ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وَسَلّمَ حِينَ أَسْلَمَتْ
وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ، إلّا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُمَا،
فَأَقَامَتْ مَعَهُ عَلَى إسْلَامِهَا وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، حَتّى
هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمّا صَارَتْ
قُرَيْشٌ إلَى بَدْرٍ، صار فيهم أبو العاص بن الربيع فَأُصِيبَ فِي
الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمّا
بَعَثَ أَهْلُ مَكّةَ فِي فِدَاءِ أُسَرَائِهِمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم في فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ
بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ
أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا، قَالَتْ:
فَلَمّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَقّ لَهَا
رِقّةً شَدِيدَةً وَقَالَ:
إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدّوا عَلَيْهَا
مَالَهَا، فَافْعَلُوا، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
فَأَطْلَقُوهُ، وَرَدّوا عَلَيْهَا الّذِي لَهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/163)
|