الروض
الأنف ت الوكيل [نزول سورة
الأنفال]
[ما نزل فى تقسيم الأنفال]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ. فَلَمّا انْقَضَى أَمْرُ بَدْرٍ، أَنْزَلَ اللهُ
عَزّ وَجَلّ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ الْأَنْفَالَ بِأَسْرِهَا، فَكَانَ
مِمّا نَزَلَ مِنْهَا فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي النّفَلِ حِينَ اخْتَلَفُوا
فِيهِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ
وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ،
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
فَكَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ- فِيمَا بَلَغَنِي- إذَا سُئِلَ عَنْ
الْأَنْفَالِ، قَالَ:
فِينَا مَعْشَرَ أَهْلِ بَدْرٍ نَزَلَتْ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النّفَلِ
يَوْمَ بَدْرٍ، فَانْتَزَعَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِينَا حِينَ سَاءَتْ فِيهِ
أَخْلَاقُنَا؛ فَرَدّهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَسَمَهُ بيننا عن بواء- يقول: على السّوَاءِ- وَكَانَ فِي
ذَلِكَ تَقْوَى اللهِ وَطَاعَتُهُ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ.
[مَا نَزَلَ فِي خُرُوجِ الْقَوْمِ مع الرسول لملاقاة قريش]
مَا نَزَلَ فِي خُرُوجِ الْقَوْمِ مَعَ الرّسُولِ لِمُلَاقَاةِ قُرَيْشٍ
ثُمّ ذَكَرَ الْقَوْمَ وَمَسِيرَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين عرف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/209)
الْقَوْمُ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ سَارُوا
إلَيْهِمْ، وَإِنّمَا خَرَجُوا يُرِيدُونَ الْعِيرَ طَمَعًا فِي
الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ،
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ. يُجادِلُونَكَ فِي
الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنْظُرُونَ: أَيْ كَرَاهِيَةً لِلِقَاءِ الْقَوْمِ، وَإِنْكَارًا
لِمَسِيرِ قُرَيْشٍ، حِين ذُكِرُوا لَهُمْ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ
إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ: أَيْ الْغَنِيمَةَ دُونَ الْحَرْبِ وَيُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ
الْكافِرِينَ: أَيّ بِالْوَقْعَةِ الّتِي أَوْقَعَ بِصَنَادِيدِ قُرَيْشٍ
وَقَادَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أَيْ
لِدُعَائِهِمْ حِينَ نَظَرُوا إلَى كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ، وَقِلّةِ
عَدَدِهِمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ بِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدُعَائِكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ
الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ:
أَيْ أَنْزَلْت عَلَيْكُمْ الْأَمَنَةَ حِينَ نِمْتُمْ لَا تَخَافُونَ
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً للمطر الذى أصلبهم تِلْكَ
اللّيْلَةَ، فَحَبَسَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَسْبِقُوا إلَى الْمَاءِ،
وَخَلّى سَبِيلَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ
عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ
بِهِ الْأَقْدامَ: أَيّ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ شَكّ الشّيْطَانِ،
لِتَخْوِيفِهِ إيّاهُمْ عَدُوّهُمْ، وَاسْتِجْلَادِ الْأَرْضِ لَهُمْ،
حَتّى انْتَهَوْا إلَى مَنْزِلِهِمْ الّذِي سَبَقُوا إلَيْهِ عَدُوّهُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي تَبْشِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُسَاعَدَةِ وَالنّصْرِ،
وَتَحْرِيضِهِمْ]
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/210)
آمَنُوا: أى آزروا الذين آمنوا سَأُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْناقِ، وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، ثُمّ قَالَ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً
فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَأْواهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: أَيْ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى عَدُوّهِمْ
لِئَلّا يَنْكُلُوا عَنْهُمْ إذَا لَقُوهُمْ، وَقَدْ وَعَدَهُمْ اللهُ
فِيهِمْ مَا وَعَدَهُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي رَمْيِ الرّسُولِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ]
ثُمّ قَالَ تَعَالَى فِي رَمْيِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إيّاهُمْ بِالْحَصْبَاءِ مِنْ يَدِهِ، حِينَ رَمَاهُمْ: وَما
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى: أَيْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
برمينك، لَوْلَا الّذِي جَعَلَ اللهُ فِيهَا مِنْ نَصْرِك، وَمَا أَلْقَى
فِي صُدُورِ عَدُوّك مِنْهَا حِينَ هَزَمَهُمْ اللهُ وَلِيُبْلِيَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً: أَيْ لِيُعَرّفَ الْمُؤْمِنِينَ
مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي إظهارهم على عدوّهم، وفلّة عَدَدِهِمْ،
لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ حَقّهُ، وَيَشْكُرُوا بِذَلِكَ نِعْمَتَهُ.
[مَا نَزَلَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ]
ثُمّ قَالَ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ: أَيْ لِقَوْلِ
أَبِي جَهْلٍ:
اللهُمّ أَقْطَعَنَا لِلرّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ، فَأَحِنْهُ
الْغَدَاةَ. وَالِاسْتِفْتَاحُ:
الْإِنْصَافُ فِي الدّعَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/211)
يَقُولُ اللهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ
تَنْتَهُوا: أَيْ لِقُرَيْشِ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا
نَعُدْ: أَيْ بِمِثْلِ الْوَقْعَةِ الّتِي أَصَبْنَاكُمْ بِهَا يَوْمَ
بَدْرٍ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ
وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ: أَيْ أَنّ عَدَدَكُمْ وَكَثْرَتَكُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ شَيْئًا، وَإِنّي مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَنْصُرهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي حَضّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طاعة الرسول]
ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ: أَيْ لَا
تُخَالِفُوا أَمْرَهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لِقَوْلِهِ، وَتَزْعُمُونَ
أَنّكُمْ مِنْهُ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لَا
يَسْمَعُونَ: أَيْ كَالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ يُظْهِرُونَ لَهُ الطّاعَةَ،
وَيُسِرّونَ لَهُ الْمَعْصِيَةَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ
الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ: أَيْ الْمُنَافِقُونَ
الّذِينَ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ، بُكْمٌ عَنْ الْخَيْرِ،
صُمّ عَنْ الْحَقّ، لَا يَعْقِلُونَ: لَا يَعْرِفُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي
ذَلِكَ مِنْ النّقْمَةِ وَالتّبَاعَةِ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ
خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ، أى لأنفذ لهم الّذِي قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ،
وَلَكِنّ الْقُلُوبَ خَالَفَتْ ذَلِكَ منهم، ولو خرجوا معكم لَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ مَا وَفَوْا لَكُمْ بِشَيْءٍ مِمّا خَرَجُوا عَلَيْهِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا
دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ: أَيْ لِلْحَرْبِ الّتِي أَعَزّكُمْ اللهُ بِهَا
بَعْدَ الذلّ، وقوّا كم بِهَا بَعْدَ الضّعْفِ، وَمَنَعَكُمْ بِهَا مِنْ
عَدُوّكُمْ بَعْدَ الْقَهْرِ مِنْهُمْ لَكُمْ، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ
قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ، فَآواكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/212)
وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيْ لَا تُظْهِرُوا لَهُ
مِنْ الْحَقّ مَا يَرْضَى بِهِ مِنْكُمْ، ثُمّ تُخَالِفُوهُ فِي السّرّ
إلَى غَيْرِهِ، فَإِنّ ذَلِكَ هَلَاكٌ لِأَمَانَاتِكُمْ، وَخِيَانَةٌ
لِأَنْفُسِكُمْ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ،
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: أَيْ فَصْلًا
بَيْنَ الحقّ والباطل، ليظهر الله به حقّكم، ويطفىء بِهِ بَاطِلَ مَنْ
خَالَفَكُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي ذِكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى الرّسُولِ]
ثُمّ ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِعْمَتِهِ
عَلَيْهِ، حِينَ مَكَرَ بِهِ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ أَوْ يُثْبِتُوهُ
أَوْ يُخْرِجُوهُ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ: أَيْ فَمَكَرْتُ بِهِمْ بِكَيْدِي الْمَتِينِ حَتّى
خَلّصْتُك مِنْهُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي غِرّةِ قُرَيْشٍ وَاسْتِفْتَاحِهِمْ]
ثُمّ ذكر غرّة قريش واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ
كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ أَيْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ كَمَا أَمْطَرْتهَا عَلَى
قَوْمِ لُوطٍ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أَيْ بَعْضِ مَا عَذّبْت بِهِ
الْأُمَمَ قَبْلَنَا، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إنّ اللهَ لَا يُعَذّبُنَا
وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُهُ، وَلَمْ يُعَذّبْ أُمّةً وَنَبِيّهَا مَعَهَا
حَتّى يُخْرِجَهُ عَنْهَا. وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَرَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، يَذْكُرُ جَهَالَتَهُمْ وَغِرّتَهُمْ
وَاسْتِفْتَاحَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حِينَ نَعَى سوء أعمالهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/213)
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
أَيْ لِقَوْلِهِمْ: إنّا نَسْتَغْفِرُ وَمُحَمّدٌ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، ثُمّ
قَالَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتَ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ كَمَا يَقُولُونَ وَهُمْ
يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: أَيْ مَنْ آمَنَ بِاَللهِ
وَعَبْدَهُ: أَيْ أَنْتَ وَمَنْ اتّبَعَك، وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ
أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ الّذِينَ يُحَرّمُونَ حُرْمَتَهُ
وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ عِنْدَهُ: أَيْ أَنْتَ وَمَنْ آمَنَ بِك وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ
الّتِي يَزْعُمُونَ أَنّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْهُمْ إِلَّا مُكاءً
وَتَصْدِيَةً.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الْمُكَاءُ: الصّفِيرُ. وَالتّصْدِيَةُ: التّصْفِيقُ.
قَالَ عَنْتَرَةُ بْنُ عَمْرٍو (ابْنُ شَدّادٍ) الْعَبْسِيّ:
وَلَرُبّ قِرْنٍ قَدْ تَرَكْتُ مُجَدّلًا ... تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ
الْأَعْلَمِ
يَعْنِي: صَوْتَ خُرُوجِ الدّمِ مِنْ الطّعْنَةِ، كَأَنّهُ الصّفِيرُ.
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ الطّرماح بن حكيم الطائى:
لَهَا كُلّمَا رِيعَتْ صَدَاةٌ وَرَكْدَةٌ ... بِمُصْدَانَ أَعْلَى ابْنَيْ
شَمَامِ الْبَوَائِنِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. يَعْنِي الْأُرْوِيّةَ، يَقُولُ:
إذَا فَزِعَتْ قَرَعَتْ بِيَدِهَا الصّفَاةَ ثُمّ رَكَدَتْ تَسْمَعُ صَدَى
قَرْعِهَا بِيَدِهَا الصّفَاةَ مِثْلُ التّصْفِيقِ.
وَالْمُصْدَانَ: الْحِرْزُ. وَابْنَا شمام: جبلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/214)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَلِكَ مَا لَا
يُرْضِي اللَّه عَزّ وَجَلّ وَلَا يُحِبّهُ، وَلَا مَا افْتَرَضَ
عَلَيْهِمْ، وَلَا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ: أَيْ لِمَا أَوْقَعَ بِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْقَتْلِ.
[الْمُدّةُ بَيْنَ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) وَبَدْرٌ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ
اللَّه بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
مَا كَانَ بَيْنَ نُزُولِ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، وَقَوْلِ اللهِ
تَعَالَى فِيهَا: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً
ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً إلّا يَسِيرٌ، حَتّى أَصَابَ اللهُ
قُرَيْشًا بِالْوَقْعَةِ يَوْمَ بَدْرٍ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الْأَنْكَالُ: الْقُيُودُ؛ وَاحِدُهَا: نِكْلٌ. قَالَ
رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ:
يَكْفِيك نِكْلِي بَغْيَ كُلّ نِكْلِ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ
لَهُ.
[مَا نَزَلَ فِيمَنْ عَاوَنُوا أَبَا سُفْيَانَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَالَ اللَّه عَزّ وَجَلّ: إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يَعْنِي النّفَرَ
الّذِينَ مَشَوْا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/215)
إلَى أَبِي سُفْيَانَ، وَإِلَى مَنْ كَانَ
لَهُ مَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِلْكَ التّجَارَةِ، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ
يُقَوّوهُمْ بِهَا عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ففعلوا.
ثم قَالَ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا
قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا لِحَرْبِك فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ
الْأَوَّلِينَ أَيْ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
[الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْكُفّارِ]
ثُمّ قَالَ تَعَالَى وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ: أَيْ حَتّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ،
وَيَكُونَ التّوْحِيدُ لِلّهِ خَالِصًا لَيْسَ لَهُ فيه شريك، ويخلع مادونه
مِنْ الْأَنْدَادِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ.
وَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ أَمْرِك إلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ الّذِي أَعَزّكُمْ وَنَصَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِكُمْ
نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
[مَا نَزَلَ فِي تَقْسِيمِ الْفَيْءِ]
ثُمّ أَعْلَمَهُمْ مَقَاسِمَ الْفَيْءِ وَحُكْمَهُ فِيهِ، حِينَ أَحَلّهُ
لَهُمْ، فَقَالَ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما
أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ يَوْمَ فَرّقْتُ فِيهِ بَيْنَ
الْحَقّ وَالْبَاطِلِ بِقُدْرَتِي يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ مِنْكُمْ
وَمِنْهُمْ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/216)
الدُّنْيا مِنْ الْوَادِي وَهُمْ
بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى مِنْ الْوَادِي إلَى مَكّةَ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ: أَيْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ الّتِي خَرَجْتُمْ لِتَأْخُذُوهَا
وَخَرَجُوا لِيَمْنَعُوهَا عَنْ غَيْرِ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ
وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أَيْ وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ عَنْ مِيعَادٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ ثُمّ بَلَغَكُمْ كَثْرَةُ
عَدَدِهِمْ، وَقِلّةُ عَدَدِكُمْ مَا لَقِيتُمُوهُمْ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أَيْ لِيَقْضِيَ مَا أَرَادَ بِقُدْرَتِهِ
مِنْ إعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ
عَنْ غَيْرِ بَلَاءٍ مِنْكُمْ، فَفَعَلَ مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ
بِلُطْفِهِ، ثُمّ قَالَ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى
مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أى ليكفر من
كَفَرَ بَعْدَ الْحُجّةِ لِمَا رَأَى مِنْ الْآيَةِ وَالْعِبْرَةِ،
وَيُؤْمِنُ مَنْ آمَنَ عَلَى مِثْلِ ذلك.
[مَا نَزَلَ فِي لُطْفِ اللهِ بِالرّسُولِ]
ثُمّ ذَكَرَ لُطْفَهُ بِهِ وَكَيْدَهُ لَهُ، ثُمّ قَالَ: إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ، فَكَانَ مَا أَرَاك مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ
عَلَيْهِمْ، شَجّعَهُمْ بِهَا عَلَى عَدُوّهِمْ، وَكَفّ بِهَا عَنْهُمْ مَا
تُخُوّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَعْفِهِمْ، لِعِلْمِهِ بِمَا فِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تُخُوّفَ: مُبَدّلَةٌ مِنْ كَلِمَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ
إسْحَاقَ وَلَمْ أَذْكُرْهَا وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي
أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ
اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا: أَيْ لِيُؤَلّفَ بَيْنَهُمْ عَلَى
الْحَرْبِ لِلنّقْمَةِ مِمّنْ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ،
وَالْإِنْعَامَ عَلَى مَنْ أَرَادَ إتْمَامَ النّعْمَةِ عَلَيْهِ، مِنْ
أَهْلِ وِلَايَتِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/217)
[مَا نَزَلَ فِي وَعْظِ الْمُسْلِمِينَ
وَتَعْلِيمِهِمْ خُطَطَ الحرب]
ثُمّ وَعَظَهُمْ وَفَهّمَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ الّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ
يَسِيرُوا بِهِ فِي حَرْبِهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً تُقَاتِلُونَهُمْ فِي سَبِيل اللهِ عَزّ
وَجَلّ فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً الذى له مذلتم
أَنْفُسَكُمْ، وَالْوَفَاءَ لَهُ بِمَا أَعْطَيْتُمُوهُ مِنْ بَيْعَتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا: أَيْ لَا تَخْتَلِفُوا فَيَتَفَرّقَ أَمْرُكُمْ وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ أَيْ وَتَذْهَبَ حِدّتُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ أَيْ إنّي مَعَكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ:
أَيْ لَا تَكُونُوا كَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، الّذِينَ قَالُوا: لَا
نَرْجِعُ حَتّى نأتى بدرا فننحر بها الجزر وتسقى بها الخمر، وتعزف علينا
فيها القيان، وتسمع الْعَرَبُ:
أَيْ لَا يَكُونُ أَمْرُكُمْ رِيَاءً، وَلَا سُمْعَةً، وَلَا الْتِمَاسَ
مَا عِنْدَ النّاسِ وَأَخْلِصُوا لِلّهِ النّيّةَ وَالْحِسْبَةَ فِي نَصْرِ
دِينِكُمْ، وَمُوَازَرَةِ نَبِيّكُمْ، لَا تَعْمَلُوا إلّا لِذَلِك وَلَا
تَطْلُبُوا غَيْرَهُ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
وَقالَ لَا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ. مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ مَضَى تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الْكُفْرِ، وَمَا
يَلْقَوْنَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ، وَوَصَفَهُمْ بِصِفَتِهِمْ، وَأَخْبَرَ
نَبِيّهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُمْ، حتى انتهى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/218)
إلَى أَنْ قَالَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ
فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
أَيْ فَنَكّلْ بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ لَعَلّهُمْ يَعْقِلُونَ وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ،
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ: أَيْ لَا يَضِيعُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَعَاجِلٌ خِلَفَهُ فِي الدّنْيَا. ثُمّ قَالَ
تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها: أَيْ إنْ دَعَوْك
إلَى السّلْمِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَصَالِحْهُمْ عَلَيْهِ وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ إنّ اللهَ كَافِيك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: جَنَحُوا لِلسّلْمِ: مَالُوا إلَيْك لِلسّلْمِ.
الْجُنُوحُ: الْمَيْلُ. قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
جُنُوحَ الْهَالِكِيّ عَلَى يَدَيْهِ ... مُكِبّا يَجْتَلِي نُقَبَ
النّصَالِ
وَهَذَا البيت فى قصيدة له، وَالسّلْمُ أَيْضًا: الصّلْحُ، وَفِي كِتَابِ
اللهِ عَزّ وَجَلّ:
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ،
وَيُقْرَأُ إِلَى السَّلْمِ، وَهُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى. قال زهير بن أبى
سلمى:
وقد قلتما إن ندرك السّلم واسعا ... جمال وَمَعْرُوفٍ مِنْ الْقَوْلِ
نَسْلَمْ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ
الْبَصْرِيّ، أَنّهُ كَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/219)
يَقُولُ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
لِلْإِسْلَام. وَفِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَيُقْرَأُ فِي السِّلْمِ،
وَهُوَ الْإِسْلَامُ.
قَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ:
فَمَا أَنَابُوا لِسَلْمٍ حِينَ تُنْذِرُهُمْ ... رُسْلَ الْإِلَهِ وَمَا
كَانُوا لَهُ عَضُدَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِدَلْوٍ
تُعْمَلُ مُسْتَطِيلَةً: السّلْمُ.
قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ، أَحَدُ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ،
يَصِفُ نَاقَةً لَهُ:
لَهَا مِرْفَقَانِ أفتلان كأنما ... تمرّ بسلمى دالح متشدد
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ مِنْ
وَرَاءِ ذَلِكَ.
هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ بَعْدَ الضّعْفِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ عَلَى الْهُدَى الّذِي بَعَثَك اللهُ بِهِ
إلَيْهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِدِينِهِ الّذِي
جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
ثُمّ قَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ: أَيْ لَا يُقَاتِلُونَ عَلَى نِيّةٍ
وَلَا حَقّ وَلَا مَعْرِفَةٍ بِخَيْرٍ وَلَا شَرّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/220)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ
اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عن عَبْدِ
اللهِ بْنِ عَبّاسٍ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هذه الْآيَةُ اشْتَدّ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمُوا أَنْ يُقَاتِلَ عشرون مائتين، ومائة أَلْفًا،
فَخَفّفَ اللهُ عَنْهُمْ، فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَقَالَ:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ. قَالَ: فَكَانُوا إذَا كَانُوا عَلَى الشّطْرِ مِنْ
عَدُوّهِمْ لَمْ يَنْبَغِ لَهُمْ أَنْ يَفِرّوا مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانُوا
دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ وَجَازَ لَهُمْ أَنْ
يَتَحَوّزُوا عَنْهُمْ.
[مَا نَزَلَ فِي الْأُسَارَى وَالْمَغَانِمِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْأُسَارَى،
وَأَخْذِ الْمَغَانِمِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
يَأْكُلُ مَغْنَمًا مِنْ عَدُوّ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي مُحَمّدٌ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَلِيّ بْنِ
الْحُسَيْنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ: نُصِرْت بِالرّعْبِ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا
وَطَهُورًا، وَأُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَأُحِلّتْ لِي الْمَغَانِمُ
وَلَمْ تُحْلَلْ لِنَبِيّ كَانَ قبلى، وأعطيت الشّفاعة، خمس لم يؤتهنّ نيى
قَبْلِي.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ: (مَا كَانَ لِنَبِيّ) : أَيْ قَبْلَك (أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) مِنْ عَدُوّهِ (حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ
يُثْخِنَ عَدُوّهُ، حَتّى يَنْفِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا: أَيْ الْمَتَاعَ، الْفِدَاءَ بِأَخْذِ الرّجَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/221)
وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ: أَيْ
قَتْلَهُمْ لِظُهُورِ الدّينِ الّذِي يُرِيدُ إظْهَارَهُ، وَاَلّذِي
تُدْرَكُ بِهِ الْآخِرَةُ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ
فِيما أَخَذْتُمْ: أَيْ مِنْ الْأُسَارَى وَالْمَغَانِمِ عَذابٌ عَظِيمٌ
أَيْ لَوْلَا أَنّهُ سَبَقَ مِنّي أَنّي لَا أُعَذّبُ إلّا بَعْدَ النّهْيِ
وَلَمْ يَكُ نَهَاهُمْ، لعذّبتكم فيما صنعتم، ثم أحنّها لَهُ وَلَهُمْ
رَحْمَةً مِنْهُ، وَعَائِدَةٌ مِنْ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. فَقَالَ فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ. ثم قال يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً
يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[مَا نَزَلَ فِي التّوَاصُلِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ]
وَحَضّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التّوَاصُلِ، وَجَعَلَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارَ أَهْلَ وِلَايَةٍ فِي الدّينِ دُونَ مَنْ سِوَاهُمْ،
وَجَعَلَ الْكُفّارَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، ثُمّ قَالَ إِلَّا
تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أى يُوَالِ
الْمُؤْمِنُ الْمُؤْمِنَ مِنْ دُونِ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ
بِهِ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ أَيْ شُبْهَةٌ فِي الْحَقّ
وَالْبَاطِلِ، وَظُهُورِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَوَلّي الْمُؤْمِنِ
الْكَافِرَ دُونَ الْمُؤْمِنِ.
ثُمّ رَدّ الْمَوَارِيثَ إلَى الْأَرْحَامِ مِمّنْ أَسْلَمَ بَعْدَ
الْوَلَايَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَهُمْ إلَى
الْأَرْحَامِ الّتِي بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أَيْ
بِالْمِيرَاثِ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(5/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إسْلَامُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ إسْلَامَ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ إلَى آخِرِهِ، وَلَيْسَ
فِيهِ ما يشكل هل تجد إبْلِيسُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ؟:
وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَنّ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ هُوَ الّذِي
رَأَى إبْلِيسَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَذَكَرَ
غَيْرُهُ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ تَشَبّثَ بِهِ، وَهُوَ يَرَى أَنّهُ
سُرَاقَةُ بْنُ مالك، فقال: إلىّ أبن سُرّاقُ أَيْنَ تَفِرّ فَلَكَمَهُ
لَكْمَةً طَرَحَهُ عَلَى قَفَاهُ، ثُمّ قَالَ إنّي أَخَافُ اللهَ رَبّ
الْعَالَمِينَ، وَإِنّمَا كَانَ تَمَثّلَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ
الْمُدْلِجِيّ، لِأَنّهُمْ خَافُوا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ أَنْ يَعْرِضُوا
لَهُمْ، فَيَشْغَلُوهُمْ مِنْ أَجْلِ الدّمَاءِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ،
فَتَمَثّلَ لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ الْمُدْلِجِيّ، وَقَالَ
إنّي جَارٌ لَكُمْ مِنْ النّاسِ، أَيْ: مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَيُرْوَى
أَنّهُمْ رَأَوْا سُرَاقَةَ بِمَكّةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالُوا لَهُ: يا
سرافة أَخَرَمْت الصّفّ، وَأَوْقَعْت فِينَا الْهَزِيمَةَ؟ فَقَالَ:
وَاَللهِ مَا عَلِمْت بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِكُمْ، حَتّى كَانَتْ
هَزِيمَتَكُمْ، وَمَا شَهِدْت، وَمَا عَلِمْت فَمَا صَدّقُوهُ، حَتّى
أَسْلَمُوا وَسَمِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَعَلِمُوا أَنّهُ كَانَ
إبْلِيسُ تَمَثّلَ لَهُمْ.
وَقَوْلُ اللّعِينِ: إنّي أَخَافُ اللهَ رَبّ الْعَالَمِينَ، لِأَهْلِ
التّأْوِيلِ فِيهِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنّهُ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ: إنّي
أَخَافُ اللهَ، لِأَنّ الْكَافِرَ لَا يَخَافُ اللهَ، الثّانِي:
أَنّهُ رَأَى جُنُودَ اللهِ تَنْزِلُ مِنْ السّمَاءِ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ
الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ الّذِي قَالَ اللهُ فِيهِ: يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وقيل أيضا:
(5/223)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنّمَا خَافَ أَنْ تُدْرِكَهُ الْمَلَائِكَةُ لَمّا رَأَى مِنْ فِعْلِهَا
بِحِزْبِهِ الْكَافِرِينَ، وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ
أَنّ قُرَيْشًا حِينَ تَوَجّهَتْ إلَى بَدْرٍ مَرّ هَاتِفٌ مِنْ الْجِنّ
عَلَى مَكّةَ فِي الْيَوْمِ الّذِي أَوْقَعَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ
يَنْشُدُ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ، وَلَا يُرَى شَخْصُهُ «1» :
أَزَارَ الْحَنِيفِيّونَ بَدْرًا وَقِيعَةً ... سَيَنْقَضّ مِنْهَا رُكْنُ
كسرى وقيصرا
__________
(1) لم يخرج قصة تمثل إبليس فى صورة سراقة أحد من أصحاب الصحيح فهى إما من
رواية الكلبى عن ابن عباس، وهى أوهن من بيت العنكبوت، فإذا انضم إليها
رواية محمد بن مروان السدى الصغير، فهى سلسلة الكذب. وأما على بن أبى طلحة،
فقد أجمعوا على أنه لم يسمع من ابن عباس، وإنما أخذ عن مجاهد أو سعيد بن
جبير، ولا خلاف فى كونهما من الثقات، ولكن ابن عباس كان ابن خمس سنين يوم
بدر، فروايته لأخبارها منقطعة. كما روى الواقدى، وهو غير ثقة فى الرواية.
انظر تفسير المنار للآية. أقول واللَّه تعالى يقول عن إبليس (إنه يراكم هو
وقبيله من حيث لا ترونهم) ويقول: (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر، فلما
كفر قال إنى برىء منك، إنى أخاف الله) الأولى تثبت أننا لا نرى إبليس
وقبيله وهو يرانا، والأخرى تشبه آية الأنفال. فهل يتمثل الشيطان جسدا لكل
كافر ويقول له هذا؟ كما أن الله يقول (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين
الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) فلم لا يكون الشيطان هنا
شيطانا من الإنس؟ أو يكون هو الشيطان بوسوسته هو وقبيله لا بجسده؟ واقرأ
سورة الناس، ولهذا لم يخرج القصة أحد من أصحاب الكتب الستة.
(5/224)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبَادَتْ رِجَالًا مِنْ لُؤَيّ، وَأَبْرَزَتْ ... خَرَائِدَ يَضْرِبْنَ
التّرائب حسّرا
فياويح مَنْ أَمْسَى عَدُوّ مُحَمّدٍ ... لَقَدْ جَارَ عَنْ قَصْدِ
الْهُدَى وَتَحَيّرَا
فَقَالَ قَائِلُهُمْ: مَنْ الْحَنِيفِيّونَ؟ فَقَالُوا: هُمْ مُحَمّدٌ
وَأَصْحَابُهُ، يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ،
ثُمّ لَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَهُمْ الْخَبَرُ الْيَقِينُ «1» .
ذِكْرُ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي بَدْرٍ أَنْزَلَ سُورَةَ الْأَنْفَالِ
بِأَسْرِهَا، وَالْأَنْفَالُ هِيَ الْغَنَائِمُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ
فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: النّفَلُ: إحْسَانٌ وَتَفَضّلٌ مِنْ الْمُنْعِمِ
فَسُمّيَتْ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا، لِأَنّ اللهَ تَعَالَى تَفَضّلَ بِهَا
عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ، وَلَمْ يُحِلّهَا لِأَحَدِ قَبْلَهُمْ. قَالَ
الْمُؤَلّفُ:
أَمّا قَوْلُهُ: إنّ اللَّه تَفَضّلَ بها فصحيح، فقد قَالَ عَلَيْهِ
السّلَامُ: مَا أُحِلّتْ الْغَنَائِمُ لِأَحَدِ سود الرّموس قَبْلَكُمْ،
إنّمَا كَانَتْ نَارٌ تَنْزِلُ مِنْ السّمَاءِ فتأكلها «2» ،
__________
(1) لولا وحى الله ما عرف النبى صلى الله عليه وسلم ما قاله الجن. فكيف
نصدق مثل هذا؟ ملحوظة: عن المطعمين يوم بدر ذكر محمد بن حبيب النسابة معهم
شيبة ابن ربيعة، ولم يذكر أبا البخترى، ولا النضر بن الحارث بن كلدة، كما
روى عن محمد بن عمر المزنى قوله إن قريشا كفأت قدور العباس، ولم تطعمها
لعلمها بميله إلى رسول اللَّه «ص» . ثم قال: قتلوا بأسرهم يوم بدر، وأسلم
العباس وسهيل، فكان من كبار المسلمين ص 182 المحبر.
(2) فى حديث متفق عليه عن نبى وقومه «فجاؤا برأس مثل رأس بقرة من الذهب،
فوضعها، فجاءت النار، فأكلتها» زاد فى رواية: فلم تحل الغنائم لأحد قبلنا،
ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا» متفق عليه.
(م 15- الروض الأنف ج هـ)
(5/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمّا قَوْلُهُ: فَسُمّيَتْ الْغَنَائِمُ أَنْفَالًا لِهَذَا، فَلَا
أَحْسَبُهُ صَحِيحًا، فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيّةِ
الْجَهْلَاءِ تُسَمّيهَا أَنْفَالًا.
وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسِيدِيّ، وَهُوَ
جَاهِلِيّ قَدِيمٌ «1» :
نَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ يَوْمَ جِئْتُمْ ... تُزَجّونَ أَنْفَالَ
الْخَمِيسِ الْعَرَمْرَمِ «2»
فَفِي هَذَا الْبَيْتِ أَنّهَا كَانَتْ تُسَمّى أَنْفَالًا قَبْلَ أَنْ
يُحِلّهَا اللهُ لِمُحَمّدِ وَأُمّتِهِ، فَأَصْلُ اشْتِقَاقِهَا إذًا مِنْ
النّفَلِ، وَهُوَ الزّيَادَةُ لِأَنّهَا زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ
الْغَانِمِينَ، وَفِي بَيْتِ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ أَيْضًا شَاهِدٌ آخَرُ
عَلَى أَنّ الْجَيْشَ كَانَ يُسَمّى: خَمِيسًا، فِي الْجَاهِلِيّةِ «3» ،
لِأَنّ قَوْمًا زَعَمُوا أَنّ اسْمَ الْخَمِيسِ مِنْ الْخُمُسِ الّذِي
يُؤْخَذُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ،
وَإِنّمَا كَانَ لِصَاحِبِ الْجَيْشِ الرّبُعُ، وَهُوَ الْمِرْبَاعُ،
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي اشْتِقَاقِهِ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللهُ.
قرأ ابن مسعود وعطاء يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وقرأت الجماعة:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وَالْمَعْنَى صَحِيحٌ فِي
الْقِرَاءَتَيْنِ؛ لأنهم سألوها وسألوا عَنْهَا لِمَنْ هِيَ.
وَقَوْلُ عُبَادَةَ بن الصّامت: نزلت فينا أهل بدر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَنْفالِ لأنا منازعنا فِي النّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا،
كَذَلِكَ جَاءَ فى التفسير لعبد بن
__________
(1) كان شاعر مضر حتى أسقطه زهير
(2) تروى ترجون. أما تزجون، فمعناه: تساقون سوقا رقيقا.
(3) قيل: سمى كذلك لأنه خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة
والساقة.
(5/226)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُمَيْدٍ، وَغَيْرِهِ أَنّ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ مَعَ الذين كانوا معه،
وأبا اليسر كعب ابن عَمْرٍو فِي طَائِفَةٍ مَعَهُ، وَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ
قَدْ قَتَلَ قَتِيلَيْنِ، وَأَسَرَ أَسِيرَيْنِ تَنَازَعُوا، فَقَالَ
الّذِينَ حَوَوْا الْمَغْنَمَ: نَحْنُ أَحَقّ بِهِ، وَقَالَ الّذِينَ
شُغِلُوا بِالْقِتَالِ، وَاتّبَاعِ الْقَوْمِ نَحْنُ أَحَقّ بِهِ،
فَانْتَزَعَهُ اللهُ مِنْهُمْ وَرَدّهُ إلَى نَبِيّهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ،
حِينَ جَاءَ بِالسّيْفِ، فَأُمِرَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْقَبَضِ، فَشَقّ
ذَلِكَ عليه، وكان السيف للعاصى بْنِ سَعِيدٍ، يُقَالُ لَهُ ذُو
الْكَنِيفَةِ، فَلَمّا نَزَلَتْ الْآيَةُ أَعْطَى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السّيْفَ لِسَعْدِ، وَقَسَمَ الْغَنِيمَةَ
عَنْ بَوَاءٍ أَيْ: عَلَى سَوَاءٍ، وَقَدْ قَدّمْنَا الْحَدِيثَ الّذِي
ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَفِيهِ أَنّهُ قَسَمَهَا عَلَى فَوَاقٍ،
فَأَنْزَلَ اللهُ بَعْدُ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
الآية فنسخت قُلِ: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَهُوَ أَصَحّ
الْأَقْوَالِ أَنّهَا مَنْسُوخَةٌ «1» . وَأَمّا مَنْ زَعَمَ أَنّ
الْأَنْفَالَ مَا شَذّ مِنْ الْعَدُوّ إلى المسلمين من مِنْ دَابّةٍ، أَوْ
نَحْوِهَا، فَلَيْسَتْ مَنْسُوخَةً عِنْدَهُ، وَكَذَلِك قَوْلُ مُجَاهِدٍ
أَنّ الْأَنْفَالَ، هُوَ الْخُمُسُ نَفْسُهُ، وَإِنّمَا تَكُونُ
مَنْسُوخَةً إذَا قُلْنَا إنّهَا جملة الغنائم، وهو
__________
(1) قال ابن زيد: الآية محكمة وليست منسوخة. وقد سبق الرأى فى النسخ وبيان
أنه ليس فى كتاب الله الذى بين أيدينا آية منسوخة، أو يبطل العمل بها ويقول
ابن كثير عن رأى الذى قال بالنسخ: «وهذا الذى قاله بعيد، لأن هذه الآية
نزلت بعد وقعة بدر، وتلك نزلت فى بنى النضير، ولا خلاف بين علماء السير
والمغازى قاطبة أن بنى النضير بعد بدر، وهذا أمر لا شك فيه، ولا يرتاب، فمن
يفرق بين معنى الفىء والغنيمة يقول: تلك نزلت فى أموال الفىء، وهذه فى
الغنائم، ومن يجعل أمر الغنائم والفىء راجعا إلى رأى الإمام يقول: لامنافاة
بين آية الحشر، وبين التخميس إذا رآه الإمام والله أعلم» .
(5/227)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَوْلُ الّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْآثَارُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
وَالْأَنْفَالُ تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ نَفَلٌ لَا يُخَمّسُ،
وَنَفَلٌ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ، وَنَفَلٌ مِنْ الْخُمُسِ، وَنَفَلُ
السّرَايَا وَهُوَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَنَفَلٌ مِنْ خُمُسِ
الْخُمُسِ، فَأَمّا الّذِي لَيْسَ فِيهِ خُمُسٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ
الْغَنِيمَةِ، وَلَا مِنْ الْخُمُسِ، فَهُوَ سَلَبُ الْقَتِيلِ يُقْتَلُ
فِي غَيْرِ مَعْمَعَةِ الْحَرْبِ، وَفِي غَيْرِ الزّحْفِ، فَهُوَ مِلْكٌ
لِلْقَاتِلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيّ، وَأَهْلِ
الشّامِ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ،
وَهُوَ أَنّ السّلَبَ مِنْ جُمْلَةِ النّفَلِ يُخَمّسُ مَعَ الْغَنِيمَةِ،
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ الّذِي فِي
الْمُوَطّأِ حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ:
الْفَرَسُ مِنْ النّفَلِ وَالدّرْعُ مِنْ النّفَلِ، وَقَالَ فِي غَيْرِ
الْمُوَطّأِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ:
الْفَرَسُ مِنْ النّفَلِ وَفِي النّفَلِ الْخُمُسُ أَنّ الْوَلِيدَ بْنَ
مُسْلِمٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ فِي آخِرِهِ: يُرِيدُ أَنّ
السّلَبَ لِلْقَاتِلِ، فَفَسّرَهُ عَلَى مَذْهَبِ شَيْخِهِ، وَمِنْ
حُجّتِهِمْ أَيْضًا أَنّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ خَمّسَ سَلَبَ
الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ قَتَلَ مَرْزُبَانَ الزّأْرَةِ فَسَلَبَهُ
سِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتَهُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ، فَبَلَغَ ثَمَنُهُ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ لَا حُجّةَ فِي
حَدِيثِ عُمَرَ، لِأَنّهُ إنّمَا خَمّسَ الْمَرْزُبَانَ، لِأَنّهُ
اسْتَكْثَرَهُ، وَقَالَ: قَدْ كَانَ السّلب لَا يُخَمّسُ، وَإِنّ سَلَبَ
الْبَرَاءِ بَلَغَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَنَا خَامِسُهُ، وَاحْتَجّوا
بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأكوع، إذْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ. وَمِنْ
حُجّةِ مَالِكٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: عُمُومُ آيَةِ الْخُمُسِ،
فَإِنّهُ قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ: وَلِلرَّسُولِ وَحَدِيثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الّذِي
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ أَنّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَتَلَ
رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوّ
(5/228)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ،
فَأَخْبَرَ عَوْفٌ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ لِخَالِدِ: مَا مَنَعَك أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟ فَقَالَ:
اسْتَكْثَرْته يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ادْفَعْهُ إلَيْهِ، فَلَقِيَ
عَوْفٌ خَالِدًا فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ، وَقَالَ:
هَلْ أَنْجَزْت لَك مَا ذَكَرْت لَك مِنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ] فاستغضب، فقال: لا تعطه يا يَا خَالِدُ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو
إلَيّ أُمَرَائِي [إنّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ
اسْتَرْعَى إبِلًا وغنما، فرماها، ثُمّ تَحَيّنَ سَقْيَهَا، فَأَوْرَدَهَا
حَوْضًا فَشَرَعَتْ فِيهِ، فَشَرِبَتْ صَفْوَةً وَتَرَكَتْ كَدَرَهُ
فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدَرُهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ] .
وَلَوْ كَانَ السّلَبُ حَقّا لَهُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ لَمَا رَدّهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ
الْوَاحِدُ مِنْ النّفَلِ.
وَالْقِسْمُ الثّانِي: هُوَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ تَخْمِيسِهَا،
وَهُوَ ما يعطى الأدلّاء الذين يَدُلّونَ عَلَى عَوْرَةِ الْعَدُوّ،
وَيَدُلّونَ [عَلَى] الطّرُقِ، وَمَا يُعْطَى الدّعَاةُ وَغَيْرُهُ مِمّا
يَنْتَفِعُ أَهْلُ الْجَيْشِ بِهِ عَامّةً.
وَالْقِسْمُ الثّالِثُ مَا تُنَفّلُهُ السّرَايَا، فَقَدْ كَانَتْ تُنَفّلُ
فِي الْبَدْأَةِ الرّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وَفِي الْعَوْدَةِ الثّلُثَ
مِمّا غَنِمُوهُ، كَذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ مَكْحُولٌ عَنْ
حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ «1» ، وَأَخَذَتْ بِهِ طَائِفَةٌ.
وَالْقِسْمُ الرّابِعُ مِنْ النّفَلِ: مَا يُنَفّلُهُ الْإِمَامُ مِنْ
الْخُمُسِ لِأَهْلِ الْغِنَاءِ وَالْمَنْفَعَةِ، لِأَنّ مَا كَانَ
لِلرّسُولِ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَهُوَ لِلْإِمَامِ بعده
يصرفه فيما
__________
(1) أخرج أحمد وأبو داود عن حبيب بن سلمة أن النبى «ص» نفل الربع بعد الخمس
فى بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس فى رجعته.
(5/229)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَانَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ يَصْرِفُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ «1» ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى
الْأَصْنَافِ الّتِي ذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ، وَهُمْ ذُو الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ السّبِيلِ، وَقَدْ أُعْطِيَ
الْمِقْدَادُ حِمَارًا مِنْ الْخُمُسِ أَعْطَاهُ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ،
فَرَدّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ،
وَأَمّا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَإِنّهُ فَعَلَ خِلَافَ هَذَا، أَعْطَاهُ
مُعَاوِيَةُ ثَلَاثِينَ رَأْسًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَأَبَى أَنْ
يَقْبَلَهَا، إلّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْخُمُسِ، وَأَصَحّ الْقَوْلَيْنِ:
أَنّ الْإِمَامَ لَهُ النّظَرُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَأَى صَرْفَ الْخُمُسِ
إلَى مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ تَكُنْ بِالْأَصْنَافِ
الْأَرْبَعَةِ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ إلَيْهِ صَرَفَهُ؛ وَإِلّا بَدَأَ بِهِمْ،
وَصَرَفَ بَقِيّتَهُ فِيمَا يَرَى، وَاخْتُلِفَ فِي ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ
هُمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُنّا نَرَى أَنّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ، فَأَبَى
ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَقَالُوا هُمْ قُرَيْشٌ كُلّهُمْ، كَذَلِكَ
قَالَ فِي الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَهُ إلَى نَجْدَةَ الْحَرُورِيّ «2» ،
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قَرَابَةِ الْإِمَامِ بَعْدَ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهُمْ داخلون فى الآية أم لا؟ «3» والصحيح:
__________
(1) يقول ابن كثير: وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية: وهذا قول مالك،
وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذى والنسائى. وفى حديث لمسلم «إنما بنو هاشم
وبنو المطلب شىء واحد» . وفى بعض رواياته «إنهم لم يفارقونا فى جاهلية ولا
إسلام» .
(3) اختلف فى الخمس الذى كان للرسول «ص» ماذا يصنع به بعده، فقال قائلون:
يكون لمن يلى الأمر بعده، وقد روى هذا عن أبى بكر وعلى وقتادة وجماعة وروى
فيه حديث مرفوع، وقال آخرون: يصرف فى مصالح المسلمين، وقال غيرهم: بل هو
مردود على بقية الأصناف ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. ولعل
الرأى الثانى هو الأصوب.
(5/230)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دخولهم فى ذَوِي الْقُرْبَى، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: إذَا أَطْعَمَ
اللَّه نَبِيّا طُعْمَةً، فَهِيَ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ، أَوْ قَالَ:
لِلْقَائِمِ بَعْدَهُ. وَمِمّا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ مَعْنَى آيَةِ
الْخُمُسِ:
قِسْمُ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ:
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أَيْ: لِلْكَعْبَةِ، يَخْرُجُ لَهَا نَصِيبٌ مِنْ
الْخُمُسِ، وَلِلرّسُولِ نَصِيبٌ، وَبَاقِي الْخُمُسِ لِلْأَرْبَعَةِ
الْأَصْنَافِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: خُمُسُ الْخُمُسِ لِلرّسُولِ، وَبَاقِيهِ
لِلْأَرْبَعَةِ الْأَصْنَافِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْخُمُسُ كُلّهُ
لِلرّسُولِ يَصْرِفُهُ فِي تِلْكَ الْأَصْنَافِ وَغَيْرِهَا، وَإِنّمَا
قَالَ اللهُ:
وَلِلرَّسُولِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِ الْمَكْسَبِ وَطِيبِ الْمَغْنَمِ،
كَذَلِكَ قال فى الفىء، وهو ما أَفَاءَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ
الْأَرْضِينَ الّتِي كانت لأهل الكفر فقال فيه:
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْآيَةَ، وَلَمْ يَقُلْ فِي آيَاتِ الصّدَقَاتِ
مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا أَضَافَهَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِلرّسُولِ، لِأَنّ
الصدقة أو ساخ النّاسِ، فَلَا تَطِيبُ لِمُحَمّدِ، وَلَا لِآلِ مُحَمّدٍ،
فقال فيها: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الْآيَةَ،
أَيْ: لَيْسَتْ لِأَحَدِ إلّا لِهَؤُلَاءِ، وَهَذَا كُلّهُ قَوْلُ
سُفْيَانَ الثّوْرِيّ، وَتَفْسِيرُهُ، وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي غَزْوَةِ
حُنَيْنٍ فِيمَا أَعْطَى النّبِيّ- صَلَّى الله عليه وسلم للمؤلّفة
قُلُوبُهُمْ، هَلْ كَانَ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ أَمْ من الخمس أَمْ مِنْ
خُمُسِ الْخُمُسِ إنْ شَاءَ اللهُ.
عَنْ قِتَالِ الْمَلَائِكَةِ: فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ
بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَقَدْ قَالَ فِي أُخْرَى:
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ فَقِيلَ فِي مَعْنَاهُ:
إنّ الْأَلْفَ أَرْدَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَكَانَ الْأَكْثَرُ
مَدَدًا لِلْأَقَلّ، وَكَانَ الْأَلْفُ مُرْدِفِينَ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ
بِكَسْرِ الدّالِ مِنْ مُرْدِفِينَ، وَكَانُوا أَيْضًا مُرْدَفِينَ بِهِمْ
بِفَتْحِ الدّالِ،
(5/231)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْأَلْفُ هُمْ الّذِينَ قَاتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ الّذِينَ
قَالَ اللهُ لَهُمْ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا فِي صُوَرِ
الرّجَالِ، وَيَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ اُثْبُتُوا، فَإِنّ عَدُوّكُمْ
قَلِيلٌ، وَإِنّ اللهَ مَعَكُمْ وَنَحْوَ هَذَا، وَقَوْلُ اللهِ
سُبْحَانَهُ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ جَاءَ فِي التّفْسِيرِ
أَنّهُ مَا وَقَعَتْ ضَرْبَةٌ يَوْمَ بَدْرٍ إلّا فِي رَأْسٍ أَوْ
مِفْصَلٍ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ قَتْلَاهُمْ،
بِآثَارِ سُودٍ فِي الْأَعْنَاقِ وَفِي الْبَنَانِ، كَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ «1» ، وَيُقَالُ لمفاصل الأصابع
وغيرها بنان
__________
(1) يقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله- فى تفسير المنار: «مقتضى السياق أن وحى
الله الملائكة قد تم بأمره إياهم بتثبيت المؤمنين كما يدل عليه الحصر فى فى
قوله عن إمداد الملائكة: (وما جعله الله إلا بشرى) إلخ وقوله تعالى: (سألقى
فى قلوب الذين كفروا الرعب) الخ: بده كلام خوطب به النبى صلى الله عليه
وسلم والمؤمنون تتمة للبشرى فيكون الأمر بالضرب موجها إلى المؤمنين قطعا،
وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعا لما قبله
من الآيات، وقيل إن هذا مما أوحى إلى الملائكة، وتأوله هؤلاء بأنه تعالى
أمرهم بأن يلقوا هذا المعنى فى قلوب المؤمنين بالإلهام كما كان الشيطان
يخوفهم، ويلقى فى قلوبهم ضده بالوسواس، ولا يرد على الأول ما قيل من أنه لا
يصح إلا إذا كان الخطاب قد وجه إلى المؤمنين قبل القتال، والسورة قد نزلت
بعده، لأن نزول السورة بنظمها وترتيبها بعده لا ينافى حصول معانيها قبله،
وفى أثنائه فان البشارة بالإمداد بالملائكة، وما وليه قد حصل قبل القتال،
وأخبر به النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه، ثم ذكرهم الله تعالى به بانزال
السورة برمتها تذكيرا بمننه، ولولا هذا لم تكن للبشارة تلك الفائدة،
والخطاب فى السياق كله موجه إلى المؤمنين، إنما ذكر فيها وحيه تعالى
للملائكة بما ذكر عرضا،.. وقد وردت روايات ضعيفة تدل على قتال الملائكة لم
يعبأ الإمام ابن جرير بشىء منها. -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- وإذا كان تأييد الله للمؤمنين بالتأييدات الروحانية التى تضاعف القوة
المعنوية، وتسهيله لهم الأسباب الحسية كانزال المطر، وما كان له من الفوائد
لم يكن كافيا لنصره إياهم على المشركين بقتل سبعين وأسر سبعين حتى كان ألف-
وقيل آلاف- من الملائكة يقاتلون معهم.. فأى مزية لأهل بدر فضلوا بها على
سائر المؤمنين ممن غزوا بعدهم، وأذلوا المشركين، وقتلوا منهم الألوف،
وبماذا استحقوا قول الرسول «ص» لعمر: «وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على
أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
وفى كتب السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا،
فهل تعارض هذه البينات النقلية والعقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين ابن
جرير بأن تنقل، ولم يذكر ابن كثير منها إلا قول الربيع ابن أنس: كان الناس
يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان مثل
سمة النار قد أحرق به.. ومن أين جاء للربيع بهذه الدعوى، ومن الذى رؤى من
القتلى بهذه الصفة؟ وكم عدد من قتل الملائكة من السبعين؟، وعدد من قتل أهل
بدر غير من سموا وقالوا: قتلهم فلان وفلان كفانا الله شر هذه الروايات
الباطلة التى شوهت التفسير، وقلبت الحقائق حتى إنها خالفت نص القرآن نفسه،
فالله تعالى يقول فى إمداد الملائكة (وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به
قلوبكم) وهذه الروايات تقول: بل جعلها مقاتلة، وأن هؤلاء السبعين الذين
قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة
عليهم مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصر المتعددة. ألا
إن فى هذا من شأن تعظيم المشركين ورفع شأنهم وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن
أفضل أصحاب الرسول «ص» وأشجعهم ما لا يصدر عن عاقل إلا وقد سلب عقله لتصحيح
روايات باطلة لا يصح لها سند، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس
ذكره الألوسى وغيره بغير سند، وابن عباس لم يحضر غزوة بدر لأنه كان صغيرا،
رواياته عنها حتى فى الصحيح مرسلة، وقد-
(5/232)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاحِدَتُهَا بَنَانَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَبَنّ بِالْمَكَانِ «1» إذَا أَقَامَ
فِيهِ وَثَبَتَ، قَالَهُ الزّجّاجُ.
وَقَوْلُهُ لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ
الْآيَةَ، كَانَ الْعَدُوّ قَدْ أَحْرَزُوا الْمَاءَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَحَفَرُوا الْقُلُبَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ
أَحْدَثُوا وَأَجْنَبَ بَعْضُهُمْ، وَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَى الْمَاءِ،
فَوَسْوَسَ الشّيْطَانُ لَهُمْ أَوْ لِبَعْضِهِمْ، وَقَالَ: تَزْعُمُونَ
أَنّكُمْ عَلَى الْحَقّ، وَقَدْ سَبَقَكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ إلَى الْمَاءِ،
وَأَنْتُمْ عِطَاشٌ وَتُصَلّونَ بِلَا وُضُوءٍ، وَمَا يَنْتَظِرُ
أَعْدَاؤُكُمْ إلّا أَنْ يَقْطَعَ الْعَطَشُ رقابكم، ويذهب قواكم فيتحكّموا
فيكم كيف شاؤا، فَأَرْسَلَ اللهُ تَعَالَى السّمَاءَ فَحَلّتْ عَزَالِيهَا
«2» فَتَطَهّرُوا وَرَوَوْا وَتَلَبّدَتْ الْأَرْضُ لِأَقْدَامِهِمْ
وَكَانَتْ رِمَالًا وَسَبَخَاتٍ، فَثَبَتَتْ فِيهَا أَقْدَامُهُمْ وَذَهَبَ
عَنْهُمْ رِجْزُ الشّيْطَانِ، ثُمّ نَهَضُوا إلَى أَعْدَائِهِمْ
فَغَلَبُوهُمْ عَلَى الْمَاءِ، وعاروا القلب التى كانت قلى الْعَدُوّ
فَعَطِشَ الْكُفّار، وَجَاءَ النّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَقَبَضَ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْضَةً مِنْ الْبَطْحَاءِ
وَرَمَاهُمْ بِهَا، فَمَلَأَتْ عُيُونَ جميع العسكر،
__________
- روى عن غير الصحابة حتى عن كعب الأحبار وأمثاله» وأقول: الحقيقة القرآنية
تؤكد أن الملائكة لم تقاتل مع أهل بدر، وإنما كانوا- كما وصفهم الله- بشرى
للمؤمنين. وتؤكد أن قوله تعالى (فاضربوا فوق الأعناق) الخ إنما هو موجه إلى
المؤمنين لا إلى الملائكة. والدليل: تدبر الآيات، لا الخنوع لواهى
الروايات.
(1) يقال: أبننت بالمكان إبنانا إذا أقت به، وبن يبن- بكسر الباء- بنأ،
وأبن أقام به أيضا.
(2) جمع عزلاء: مصب الماء من الرواية ونحوها.
(5/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلكِنَّ
اللَّهَ رَمى أَيْ:
عَمّ جَمِيعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قَبْضَتِك إلّا مَا يَبْلُغُ
بَعْضَهُمْ، فَاَللهُ هُوَ الّذِي رَمَى سَائِرَهُمْ إذْ رَمَيْت أَنْتَ
الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، فَهَذَا قَوْلٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى:
مَعْنَاهُ: وَمَا رَمَيْت قُلُوبَهُمْ بِالرّعْبِ حِينَ رَمَيْت
الْحَصْبَاءَ، وَلَكِنّ اللهَ رَمَى وَقَالَ هِبَةُ اللهِ بْنُ سَلَامَةَ:
الرّمْيُ أَخْذٌ وَإِرْسَالٌ وَإِصَابَةٌ وَتَبْلِيغٌ، فَاَلّذِي أَثْبَتَ
اللهُ لِنَبِيّهِ هُوَ الْأَخَذُ وَالْإِرْسَالُ، وَاَلّذِي نَفَى عَنْهُ
هُوَ الْإِصَابَةُ وَالتّبْلِيغُ، وَأَثْبَتَهُمَا لِنَفْسِهِ.
حول النولى يوم الزعف وَالِانْتِصَارَاتِ الْإِسْلَامِيّةِ الْبَاهِرَةِ:
وَقَوْلُهُ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الْآيَةَ قَالَ الْحَسَنُ:
لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ الزّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ إلّا يَوْمَ بَدْرٍ
وَفِي الْمَلْحَمَةِ الْكُبْرَى الّتِي تَأْتِي آخِرَ الزّمَانِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: هُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ إذَا حَضَرَ الْإِمَامُ وَلَمْ
يَتَحَيّزْ إلَى فِئَةٍ فَأَمّا إذَا كَانَ الْفِرَارُ إلَى الْإِمَامِ،
فَهُوَ مُتَحَيّزٌ إلَى فِئَةٍ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حِينَ
بَلَغَهُ قَتْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمَا أَوْقَعَ الْفُرْسُ
بِالْمُسْلِمِينَ: هَلّا تَحَيّزَ إلَيّ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ،
فَإِنّي فِئَةٌ لِكُلّ مُسْلِمٍ، وَرُوِيَ مِثْلُ هَذَا عَنْ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ الّذِينَ
رَجَعُوا مِنْ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ «1» ، ذَلِكَ أَنّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ
الْفَرّارُونَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ الْعَكّارُونَ
«2» ، وَأَنَا فئتكم،
__________
(1) مؤتة قرية من قرى البلقاء فى حدود الشام.
(2) الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها، يقال للرجل يولى عن الحرب ثم يكر
راجعا إليها: عكر واعتكر وقد ورد هذا فى حديث رواه أحمد وأبو داود والترمذى
وابن ماجة من طرق عن يزيد بن أبى زياد، وقال-
(5/235)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ اخْتَصَرْته، وَالْقَدْرُ الّذِي يَحْرُمُ مَعَهُ
الْفِرَارُ الْوَاحِدُ مَعَ الْوَاحِدِ، وَالْوَاحِدُ مَعَ الِاثْنَيْنِ،
فَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ لِلثّلَاثَةِ، لَمْ يُعَبْ عَلَى الْفَارّ
فِرَارُهُ، كَانَ مُتَحَيّزًا إلَى فِئَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَذَكَرَ
أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رشد «1» فى مقدماته عن
__________
- الترمذى: حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن أبى زياد. هذا وقد روى البخارى
ومسلم قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجتنبوا
السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر،
وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى
يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وفى سنن أبى داود والنسائى
ومستدرك الحاكم وتفسير ابن جرير وابن مردويه من حديث داود بن أبى هند عن
أبى نضرة عن أبى سعيد أنه قال فى هذه الآية «إنما أنزلت فى أهل بدر» هذا
وما أجمل ما قاله ابن كثير- بعد أن أورد الذى سبق وغيره ما يفيد أن الآية
خاصة بأهل بدر «وهذا كله لا ينفى أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير
أهل بدر، وإن كان سبب نزول الآية فيهم، كما دل عليه حديث أبى هريرة المتقدم
من أن الفرار من الزحف من الموبقات، كما هو مذهب الجماهير والله أعلم» .
(1) فى بداية المجتهد ص 313 ح 1 ط 1333 هـ لأبى الوليد محمد بن أحمد بن
محمد بن أحمد بن رشد القرطبى «وأما معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار منهم
فهم الضعف وذلك مجمع عليه لقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم
ضعفا) الآية وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك أن الضعف إنما يعتبر فى القوة
لا فى العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن واحد إذا كان أعتق جوادا منه
وأجود سلاحا وأشد قوة» ويقول الشافعى: «إذا غزا المسلمون، فلقوا ضعفهم من
العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان
المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا، ولا يستوجبوا السخط عندى من
الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة» ص 144 ج 2
الزواجر لابن حجر الهيتمى ط 1356 وانظر الأحكام السلطانية-
(5/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ: إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَا عَشَرَ
أَلْفًا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ الْفِرَارُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِمْ،
وَلَا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَنْ
تُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلّةٍ، وَقَدْ كَانَ وُقُوفُ
الْوَاحِدِ إلَى الْعَشَرَةِ حَتْمًا فِي أَوّلِ الْأَمْرِ، ثُمّ خفف الله
ذلك وَنَسَخَهُ بِقَوْلِهِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً الْآيَةَ، كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ،
وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَتَبَيّنُ فِيهِ النّسْخُ،
لِأَنّ قَوْلَهُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ إلَى آخِرِ
الْآيَةِ خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ لَا يَدْخُلُهُ النّسْخُ، وَقَوْلُهُ: الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ يَدُلّ عَلَى أَنّ ثَمّ حُكْمًا مَنْسُوخًا،
وَهُوَ الثّبُوتُ للعشرة، فإذا للآية ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، فَظَاهِرُهَا
خَبَرٌ، وَوَعْدٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى أَنْ تَغْلِبَ الْعَشَرَةُ
الْمِائَةَ، وَبَاطِنُهَا وُجُوبُ الثّبُوتِ لِلْمِائَةِ، وَيَدُلّ عَلَى
هَذَا الْحُكْمِ قَوْلُهُ: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ
فَتَعَلّقَ النّسْخُ بِهَذَا الْحُكْمِ الْبَاطِنِ، وَبَقِيَ الْخَبَرُ
وَعْدًا حَقّا قَدْ أَبْصَرَهُ الْمُؤْمِنُونَ- عِيَانًا فِي زَمَنِ عُمَرَ
بْنِ الْخَطّابِ، وَفِي بَقِيّةِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي مُحَارَبَةِ
الرّومِ وَفَارِسٍ بِالْعِرَاقِ وبالشام، فَفِي تِلْكَ الْمَلَاحِمِ
هَزَمَتْ الْمِئُونُ الْآلَافَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ هَزَمَ خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ مِائَةَ ألف حين إفباله مِنْ الْعِرَاقِ إلَى الشّامِ
وَلَمْ يَبْلُغْ عَسْكَرُهُ خَمْسَةَ آلَافٍ، بَلْ قَدْ رَأَيْت فِي بَعْضِ
فُتُوحِ الشّامِ أَنّهُ كَانَ يَوْمَئِذٍ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، وَكَانَ قَدْ
أَقْبَلَ مِنْ الْعِرَاقِ مَدَدًا لِلْمُسْلِمِينَ الّذِينَ بِالشّامِ،
وَكَانَ الرّومُ فِي أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَقِيَ مِنْهُمْ خَالِدٌ
مِائَةَ أَلْفٍ فَفَضّ جمعهم
__________
- لأبى يعلى والماوردى. وقد قال الخرقى «لا يجوز للمسلم أن يههرب من
كافرين، ومباح له أن يهرب من ثلاثة فإن خشى الأسر قاتل حتى يقتل» ص 30
الأحكام السلطانية لأبى يعلى ط 1356 هـ.
(5/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَزَمَهُمْ «1» ، وَقَدْ هَزَمَ أَهْلُ الْقَادِسِيّةِ جُيُوشَ رُسْتُمَ
وَقَتَلُوهُ وَكَانَ رُسْتُمُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ «2» ،
وَلَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ فِي عُشْرِ ذَلِكَ العدد وجاؤا مَعَهُمْ
بِالْفِيَلَةِ أَمْثَالَ الْحُصُونِ عَلَيْهَا الرّجَالُ فَفَرّتْ
الْفِيَلَةُ، وَأَطَاحَتْ مَا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرُدّهَا شَيْءٌ دُونَ
الْبَلَدِ الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ فَتْحِ
اللهِ وَنَصْرِهِ عَلَى يَدَيْ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ بِإِفْرِيقِيّةَ،
وَالْأَنْدَلُسِ «3» ، فَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ أَعْجَبُ الْعَجَبِ،
فَكَانَ وَعْدُ اللهِ مفعولا ونصره للمسلمين ناجزا، والحمد لله.
__________
(1) أظنه يقصد رقعة أجنادين. فقد شهدها من الروم مائة ألف. وقد كانت فى سنة
13 هـ.
(2) القادسية: قرية قرب الكوفة من جهة البر بينها وبين الكوفة خمسة عشر
فرسخا، وقد كانت معركتها العظيمة سنة 14 أو 15 هـ، وقيل كان فى آخر سنة 16
هو كان عدد الفيلة فيها ثلاثة وثلاثين وفيها كتب عمر إلى سعد: «لا يكر بنك
ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به. واستعن بالله، وتوكل عليه، وابعث إليهم
رجالا من أهل النظر والرأى والجلد يدعونه، فان الله جاعل دعاءهم توهينا
لهم، وفلجا عليهم، واكتب إلى فى كل يوم» . وقد ذكر ابن إسحاق أن المسلمين
كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأر رستما كان فى ستين ألفا.
(3) لإفريقية فى العربية قديما مفهوم غير مالها الآن. فهى- كما فى مراصد
الاطلاع- بلاد واسعة ومملكة كبيرة قبالة جزيرة صقلية، وينتهى آخرها إلى
قبالة جزيرة الأندلس ... وحد إفريقية من طرابلس المغرب من جهة برقة
والإسكندرية وإلى بحاية- بحاية على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب- وقيل
إلى مليانة. وقيل: طولها من برقة شرقا إلى طنجة الخضراء غربا وعرضها من
البحر إلى الرمال التى أولها بلاد السودان. وقد بدأ غزو إفريقية فى عهد
عثمان بن عفان على يد واليه على مصر أعبد لله بن سعد بن أبى سرح، وذلك فى
سنة 27 هـ- 647 م أو بعد هذا بعام-
(5/238)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ النّقّاشُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ معناه: إن يصيروا يَغْلِبُوا،
وَغَلَبَتُهُمْ لَيْسَ بِأَنْ يُسْلِمُوا كُلّهُمْ، وَلَكِنْ مَنْ سَلِمَ
مِنْهُمْ رَأَى غَلَبَةَ أَهْلِ دِينِهِ، وَظُهُورَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ،
وَلَا يَقْدَحُ فِي وَعْدِ اللهِ أَنْ يَسْتَشْهِدَ جُمْلَةٌ مِنْ
الصّابِرِينَ، وَإِنّمَا هذا كقوله: قاتِلُوا
__________
- أو عامين، وكانت تحت يد المسيحين وقد أتم فتح طرابلس المغرب، غير أنه
اكتفى آنذاك بفرض الجزية على أهلها، وفى عهد معاوية بن خديج أمير مصر من
قبل معاوية بن أبى سفيان سنة 47 هـ- 667 م أو بعدها استؤنف الحرب ضد الحكم
النصرانى فى إفريقية فأوغل حتى مشارف جزيرة صقلية. أما الذى يعتبر المؤسس
الحقيقى للحكم الإسلامى فى إفريقية فهو عقبة ابن نافع وهو ابن خالة عمرو بن
العاص فتح برقة، وفى سنة 50 هـ- 670 م استطاع القضاء على الحكم النصرانى فى
شمالى إفريقيا مرة واحدة بمعاونة البربر، وأنشأ مدينة عسكرية فى القيروان،
وجعلها معقلا وحصنا لعسكره، ومقرا لولاة إفريقية، ثم عزل، ثم أعاده يزيد بن
معاوية إلى عمله سنة 63 هـ- 682 م فأوغل حتى بلغ المحيط. ولكن البربر ولم
يكونوا قد خضعوا خضوعا كاملا انتزعوا تونس من سنة 64 هـ- 74 هـ- 683- 693 م
ثم استرده حسان بن النعمان من 74- 79 هـ- 793- 698 م وقد عين عبد الملك بن
مروان أخاه عبد العزيز واليا على مصر شمالى إفريقية وفى عهده قصى نهائيا
على المعارضة البربرية، وقد عين على إفريقية الشمالية موسى بن نصير ولما
تولى الوليد بن عبد الملك أقر ولاية موسى، وأرسل هذا مولاه طارقا بجيش
أكثره من البربر لاستطلاع أمر الأندلس فى سنة 92 هـ- 711 م ووجه طارق إلى
المملكة القوطية فى معركة وادى بكة ضربة قاضية قتل فيها علكهم لذريق.
واستطاع طارق وموسى الذى نزل إلى الأندلس أيضا بجيش عربى إخضاع أسبانية
الشمالية كلها من سرقسطة إلى نبرة. هكذا كان آباؤنا، فلنكن مثلهم فيما به
انتصروا، لا فيما به هزموا!!
(5/239)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ فَقَدْ نُجِزَ الْمَوْعُودُ
وَغَلَبُوا كَمَا وُعِدُوا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، وَاَلّذِي
قَدّمْنَاهُ أَبْيَنُ.
الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مرصد فِي بَدْرٍ: وَفِي هَذِهِ السّورَةِ
قَوْلُهُ: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا، ثُمّ
خَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ إلَى بَدْرٍ، فَلَمّا رَأَوْا قِلّةَ
الْمُسْلِمِينَ شَكّوا، وَقَالُوا غَرّ هؤلاء دينهم، منهم قيس ابن
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ وَجَمَاعَةٌ
سَمّاهُمْ أَبُو بَكْرٍ النّقّاشُ «1» ، وَهُمْ الّذِينَ قُتِلُوا
فَضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ.
رَأْيُ الْأَخْنَسِ وَأَبِي جَهْلٍ فِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَانْخَنَسَ يَوْمَئِذٍ أُبَيّ بْنِ شَرِيقٍ بِنَحْوِ مِنْ
ثَلَثِمِائَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسُمّيَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ عِلَاجِ بْنِ أبى سلمة بن عبد العزّى ابن غِيرَةَ
وَذَلِكَ أَنّهُ خَلَا بِأَبِي جَهْلٍ حِينَ تَرَاءَى الْجَمْعَانِ،
فَقَالَ: أَتَرَى أَنّ مُحَمّدًا يَكْذِبُ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: كَيْفَ
يَكْذِبُ عَلَى اللهِ، وَقَدْ كُنّا نُسَمّيهِ الْأَمِينَ، لِأَنّهُ مَا
كَذَبَ قَطّ، وَلَكِنْ إذَا اجْتَمَعَتْ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ
السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ وَالْمَشُورَةَ، ثُمّ تَكُونُ فِيهِمْ النّبوة،
فَأَيّ شَيْءٍ بَقِيَ لَنَا، فَحِينَئِذٍ انْخَنَسَ الْأَخْنَسُ بِبَنِي
زُهْرَةَ وَحَشَدَ إبْلِيسُ جَمِيعَ جُنُودِهِ، وَجَاءَ بنفسه، ونزل
__________
(1) ذكر مجاهد منهم أيضا. الحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلى بن
أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج «تفسير ابن كثير» .
(5/240)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جِبْرِيلُ بِأَلْفِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِي صُوَرِ الرّجَالِ، فكان فى
خمسمائة من الملائكة فى الْمَيْمَنَةِ، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ
مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِي الْمَيْسَرَةِ، وَوَرَاءَهُمْ مَدَدٌ لَمْ
يُقَاتِلُوا، وَهُمْ الْآلَافُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ،
وَكَانَ إسْرَافِيلُ وَسَطَ الصّفّ لَا يُقَاتِلُ، كَمَا يُقَاتِلُ
غَيْرُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ الرّجُلُ يَرَى الْمَلَكَ عَلَى
صُورَةِ رَجُلٍ يَعْرِفُهُ؛ وَهُوَ يُثَبّتُهُ وَيَقُولُ لَهُ: مَا هُمْ
بِشَيْءِ، فَكَرّ عَلَيْهِمْ «1» ، وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ذَكَرَهُ ابن إسحاق في غير
رواية ابن هشام، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ حَسّانٌ:
ميكال معك وجبرئيل كِلَاهُمَا ... مَدَدٌ لِنَصْرِك مِنْ عَزِيزٍ قَادِرِ
وَيُقَالُ: كَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ مِنْ الْجِنّ،
كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا.
مَنْ الْآخَرُونَ؟ وَذَكَرَ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى: تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ
الْآخَرِينَ مَنْ هُمْ، وَقِيلَ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ قِيلَ: هُمْ
الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: هُمْ الْيَهُودُ «2» وَأَصَحّ مَا فِي ذَلِكَ
أَنّهُمْ الْجِنّ، لِرِوَايَةِ ابْنِ الْمُلَيْكِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدّهِ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فى آخرين من
دونهم
__________
(1) قول لا سند له، وقد سبق الحديث عن هذا، ولم يكن المشركون فى القوة التى
تحتاج إلى جبريل ومعه خمسمائة فى الميمنة، وميكائيل فى خمسمائة منهم فى
الميسرة!!
(2) رأى مجاهد فى الآخرين أنهم بنو قريظة، ورأى السدى أنهم فارس
(5/241)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ هُمْ الْجِنّ ثُمّ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّ الشّيْطَانَ لَا
يَخْبِلُ أَحَدًا فِي دَارٍ فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ، ذَكَرَهُ الْحَارِثُ
فِي مُسْنَدِهِ «1» وَأَنْشَدَ:
جُنُوحَ الْهَالِكِيّ عَلَى يَدَيْهِ ... مُكِبّا يَجْتَلِي نُقَبَ
النّصَالِ
الْهَالِكِيّ: الصّيْقَلُ. وَنُقَبُ النّصَالِ: جَرَبُ الحديد، وصدوه،
وَهُوَ فِي مَعْنَى النّقَبِ، وَاحِدَتُهَا نُقْبَةٌ «2» .
حَوْلَ غَنَائِمِ بَدْر: فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِي السّورَةِ: لَوْلا كِتابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ يَعْنِي بِإِحْلَالِ الْغَنَائِمِ لِمُحَمّدِ
وَأُمّتِهِ لَمَسّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ
النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: - لَقَدْ عُرِضَ عَلَيّ
عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ «3» ، وَقَالَ: لَوْ نَزَلَ
عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلّا عُمَرُ، لِأَنّ عُمَرَ كان قد أشار عليه
بقتل الأسارى والإنخان فِي الْقَتْلِ، وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ
بِالْإِبْقَاءِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
__________
(1) أخرجه ابن أبى حاتم والطبرانى. ولكن قال عنه ابن كثير فى تفسيره: «وهذا
الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه» ثم قال: وقال عن رأى القائلين بأنهم
المنافقون: «وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله تَعَالَى: (وَمِمّنْ
حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ، وَمِنْ أهل المدينة مردوا على
للنفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم) ، وابن كثير استهدف فأصاب. وفى الآية دليل
آخر «لا تعلمونهم» أما اليهود وفارس، فكان المسلمون يعلمون بهم.
(2) الهالكى: الحداد وهو هنا الصيقل، ويجتلى: يحلو ويصقل، والنصال: جمع
نصل، وهو حديدة السهم.
(3) من حديث رواه أحمد ومسلم.
(5/242)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمّ نَزَلَتْ الْآيَةُ: فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَأَخَذَ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُسَارَى، فَقَالَ: مَاذَا تَرَوْنَ؟
فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَذّبُوك وَأَخْرَجُوك، اضْرِبْ
أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ
أَنْتَ بِوَادٍ كَثِيرِ الْحَطَبِ، فَأَضْرِمْهُ نَارًا، ثُمّ أَلْقِهِمْ
فِيهَا، فَقَالَ الْعَبّاسُ: قَطَعَ اللهُ رَحِمَك، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
يَا رَسُولَ اللهِ عِتْرَتُك، وَأَصْلُك وَقَوْمُك تَجَاوَزْ عَنْهُمْ،
يَسْتَنْقِذْهُمْ اللهُ بِك مِنْ النّارِ، ثُمّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ الْقَوْلُ مَا
قَالَ عُمَرُ، وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ الْقَوْلُ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ،
فَخَرَجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا
قَوْلُكُمْ فِي هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ، إنّ مَثَلَهُمَا كَمَثَلِ إخْوَةٍ
لَكُمْ، كَانُوا قَبْلَكُمْ، قَالَ نُوحٌ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ الْآيَةَ، وَقَالَ مُوسَى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ
الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ
الْآيَةَ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي
الْآيَةَ. وَإِنّ اللهَ يُشَدّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ، حَتّى تَكُونَ
كَالْحَجَرِ، وَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ، حَتّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ
اللّبَنِ، وَيُرْوَى مِنْ اللّينِ، وَإِنّ بِكُمْ عِيلَةً فَلَا يَفْلِتْ
مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِفِدَاءِ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ. قَالَ عَبْدُ اللهِ
[بن مسعود] :
فقلت إلّا سهل بن بَيْضَاءَ، وَقَدْ كُنْت سَمِعْته يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ،
قَالَ: فَجَعَلْت أَنْظُرُ إلَى السّمَاءِ مَتَى تَقَعُ عَلَيّ
الْحِجَارَةُ فَقُلْت: أُقَدّمُ الْقَوْلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ،
فَقَالَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلّا سهل بن بيضاء،
ففرحت بذلك «1» ،
__________
(1) رواه أحمد والترمذى والحاكم فى مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، ولم
يخرجاه.
(5/243)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَغَازِي، فإنهم
يقولون إنما هو سهل بن بَيْضَاءَ أَخُو سُهَيْلٍ، فَأَمّا، سُهَيْلٌ،
فَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَقَدْ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَدْرًا، ثُمّ إنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَفْدِ بَعْدَهَا بِمَالِ، إنّمَا كَانَ يَمُنّ
أَوْ يُفَادِي أَسِيرًا بِأَسِيرِ، كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
وَذَلِكَ وَاَللهُ أعلم لقوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا يَعْنِي
الْفِدَاءَ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَلّ ذَلِكَ وَطَيّبَهُ،
وَلَكِنْ مَا فَعَلَهُ الرّسُولُ بَعْدَ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَنّ أَوْ
الْمُفَادَاةِ بِالرّجَالِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً كَيْفَ قَدّمَ الْمَنّ عَلَى
الْفِدَاءِ، فَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدّمَهُ، وَأَمّا مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا،
فَالْأَوْزَاعِيّ وَسُفْيَانُ وَمَالِكٌ يَكْرَهُونَ أَخْذَ الْمَالِ فِي
الْأَسِيرِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَقْوِيَةِ الْعَدُوّ بِالرّجَالِ «1» ،
وَاخْتَلَفُوا فى
__________
(1) بسط الشيخ رشيد رضا القول فى تفسيره فى هذه المسألة، ثم قال- رحمه
الله-: «وجملة القول فى تفسير الآيات الثلاث أنه ليس من سنة الأنبياء، ولا
مما ينبغى لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم، أو يمن عليهم إلا بعد أن
يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين لئلا يفضى أخذه
الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم وعدوانهم عليهم، وأن ما فعله
المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض
الحياة الدنيا على ما كان من ذنب أخذهم لهم قبل الإثخان الذى تقتضيه الحكمة
باعلاء كلمة الله تعالى، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا ذلك لسألوا
الرسول «ص» كما سألوه عن الأنفال من قبله، وأنه لولا كتاب من الله سبق
مقتضاه عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى، وعلى خلاف سنته
وبالغ حكمته لمسهم عذاب عظيم فى أخذهم ذلك وأنه تعالى أحل لهم ما أخذوا
وغفر لهم ذنبهم، بأخذه قبل إحلاله، والله غفور رحيم» .
(5/244)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصّغِيرِ إذَا كَانَ مَعَهُ أُمّهُ، فَأَجَازَ فِدَاءَهُ بِالْمَالِ
أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ، وَالصّحِيحُ مَنْعُهُ،
وَكَانَ الْعَبّاسُ عَمّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْأَسْرَى، فَفَدَى نَفْسَهُ، وَفَدَى ابْنَيْ أَخِيهِ «1» ، فَقَالَ
لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَقَدْ تَرَكْتنِي أَتَكَفّفُ قُرَيْشًا فَقِيرًا مُعْدِمًا، فَقَالَ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيْنَ الذّهَبُ «2» الّتِي تَرَكْتهَا عِنْدَ أُمّ الْفَضْلِ وَعَدَدُهَا
كَذَا وَكَذَا، وَقُلْت لَهَا كَيْت وَكَيْت، فَقَالَ: مَنْ أَعْلَمَك
بِهَذَا يَا ابْنَ أَخِي؟ فَقَالَ: اللهُ، فَقَالَ: حَدِيثٌ مَا اطّلَعَ
عَلَيْهِ إلّا عَالِمُ الْأَسْرَارِ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ،
فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَ الْعَبّاسُ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى مَنْ يَكْتُبُ،
وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ أَحَدٌ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ فَكَانَ
مِنْهُمْ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، فَيَقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يُعَلّمَ عَشَرَةً
مِنْ الْغِلْمَانِ الْكِتَابَةَ، وَيُخَلّيَ سَبِيلَهُ، فَيَوْمَئِذٍ
تَعَلّمَ الْكِتَابَةَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَةِ
الْأَنْصَارِ، وَهَذِهِ عُيُونُ أَخْبَارٍ، وَصَلْتهَا بِمَا ذَكَرَهُ
ابْنُ إسْحَاقَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ جَمَعْتهَا مِنْ كُتُبِ التّفَاسِيرِ
وَالسّيَرِ وَلَخّصْتهَا.
خَيْلُ بَدْرٍ: فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ الْخَيْلَ الّتِي كَانَتْ
لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بدر، فذكر
__________
(1) هما نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبى طالب. وفى صحيح البخارى
عن ابن شهاب قال حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار قالوا يا رسول الله
ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، قال: لا والله لا تذرون منه درهما،
هذا وقد قيل إن العباس افتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب.
(2) يؤنث أحيانا.
(5/245)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعزجة فرس المقداد، واليعبوب فَرَسَ الزّبَيْرِ، وَفَرَسًا لِمَرْثَدِ
الْغَنَوِيّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَيْلٌ إلّا هَذِهِ، وَفِي
فَرَسِ الزّبَيْرِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ كَانَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْلٌ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، مِنْهَا: السّكْبُ
وَاللّزَازُ وَالْمُرْتَجِزُ وَاللّحِيفُ «1» ، وَقَدْ ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيثِ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
وَيُقَالُ فِيهِ: اللّخِيفُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ «2» ، وَقَالَ
الْقُتَبِيّ: كَانَ الْمُرْتَجِزُ فَرَسًا اشْتَرَاهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
مِنْ أَعْرَابِيّ، ثُمّ أَنْكَرَ الْأَعْرَابِيّ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ
مِنْهُ، فَشَهِدَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى الْأَعْرَابِيّ
بِالْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بِمَ تَشْهَدُ؟ قَالَ: أَشْهَدُ بِصِدْقِك يَا رَسُولَ اللهِ، فَجُعِلَتْ
شَهَادَتُهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ، غَيْرَ أَنّ
فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ زِيَادَةً فِيهِ، وَهِيَ أَنّهُ، عَلَيْهِ
السّلَامُ، رَدّ الْفَرَسَ عَلَى الْأَعْرَابِيّ، وَقَالَ: لَا بَارَكَ
اللهُ لَك فِيهَا، فَأَصْبَحَتْ مِنْ الْغَدِ شَائِلَةً بِرِجْلِهَا، أَيْ:
قَدْ مَاتَتْ. قَالَ الطّبَرِيّ: وَمِنْ خَيْلِهِ الضّرِسُ، وَمُلَاوِحٌ،
وَالْوَرَدُ «3» وَهُوَ الّذِي وَهَبَهُ لِعُمَرِ، فحمل عليه عمر رجلا فى
سبيل
__________
(1) سمى السكب بهذا لكثرة جريه، كأنما يصب جريه صبا، واللزاز لشدة تلززه
واجتماع خلقه، ولز به الشىء لزق به كأنه يلزق بالمطلوب لسرعته، والمرتجز:
لحسن صهيله، واللحيف لطول ذنبه، كأنه يلحف الأرض بذنبه أى يغطيها، ويروى
بالجيم، فإن صح، فانه من السرعة، لأن اللجيف سهم عريض النصل.
(2) يقول ابن الأثير: رواه البخارى هكذا ولم يتحققه، والمعروف بالحاء
المهملة والجيم.
(3) الضرس- بفتح فكسر- الصعب السىء الخلق وهى فى الأصل؛ الضريس وهو خطأ
صوبته من النهاية والطبرى والقاموس، وكان أول ما غزا عليه أحد. وملاوح- بضم
الميم وكسر الواو: الضامر الذى لا يسمن، والسريع العطش، -
(5/246)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللهِ، وَحَدِيثُهُ فِي الْمُوَطّأِ، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ
الدّرُوعِ: ذَاتُ الْفُضُولِ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا: فَضّةُ، وَرَايَةٌ
يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ، وَقَوْسَانِ أَحَدُهُمَا: الصّفْرَاءُ،
وَالْأُخْرَى: الزّوْرَاءُ وَسَيْفُهُ: ذُو الْفَقَارِ لِفِقْرَاتِ كَانَتْ
فِي وَسَطِهِ «1» ، وَكَانَ لِنُبَيْهٍ وَمُنَبّهِ ابْنَيْ الْحَجّاجِ
سُلِبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيُقَالُ: إنّ أَصْلَهُ كَانَ مِنْ حَدِيدَةٍ
وُجِدَتْ مَدْفُونَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَصُنِعَ مِنْهَا ذُو
الْفَقَارِ، وَصَمْصَامَةُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الّتِي وَهَبَهَا
لِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ الْعَرَبِ، وَكَانَ
لَهُ حَرْبَةٌ يُقَالُ لَهَا: النّبْعَةُ، وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيّ فِي
كِتَابِ الضّعَفَاءِ جُمْلَةً مِنْ آلَاتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي
حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ، فَمِنْهَا الْجَمْعُ اسْمُ كِنَانَتِهِ، والمدلة اسم
لمرآة كان ينظر
__________
- والعظيم الألواح. وزاد ابن الجوزى فى كتابه الوفا: الطرف، وهو الكريم
الطرفين. وقد ذكر الطبرى أن ملاوح كان لأبى بردة بن نيار، وذكر فيه الظرب
بدلا من الطرف عند ابن الجوزى. ويقول إن لزاز هدية من المقوقس ولحيف أهداه
ربيعة بن أبى البراء، والظرف أهداه له فروة بن عمر الجذامى، والورد أهداه
له تميم الدارى. كما ذكر له فرسا يسمى اليعسوب ص 174 ح 3 ط 1 المعارف. وذكر
ابن القيم له فرسا آخر اسمه: سبحة، وذكر أن الإمام أبا عبد الله محمد بن
إسحاق بن جماعة جمعها فى بيت شعر:
والخيل: سكب لخيف سبحة ظرب ... لزاز مرنجز ورد لها أسرار
ص 69 ج 1 زاد المعاد
(1) يقول ابن الأثير لأنه كان فيه حفر صغار حسان. وضبطه ابنى القيم ص 67 ح
1 زاد المعاد بفتح الفاء وكسرها، وذكر له صلى الله عليه وسلم ثمانية أسياف
آخرى كما ذكر له سبعة أدرع منها ما ذكر السهيلى، وست قمى منها أيضا ما ذكر
السهيلى، وأما حربته فاسمها النبعاء كما ورد فى حديث رواه الطبرانى
(5/247)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهَا، وَقَضِيبٌ يُسْمَى: الْمَمْشُوقُ، وَذَكَرَ الْجَلَمَيْنِ «1» ،
وَنَسِيت مَا قَالَ فِي اسْمِهِ، وَأَمّا بَغْلَتُهُ دُلْدُلُ وَحِمَارُهُ
عُفَيْرٌ «2» ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي كِتَابِ الْأَعْلَامِ،
وَذَكَرْنَا مَا كَانَ فِي أَمْرِ الْحِمَارِ مِنْ الآيات، وزدنا هنا لك
فِي اسْتِقْصَاءِ هَذَا الْبَابِ، وَرَأَيْنَا أَنْ لَا نخلى هذا الكتاب
مما ذكرنا هنا لك، أَوْ أَكْثَرَهُ، وَأَمّا دُلْدُلُ فَمَاتَتْ فِي زَمَنِ
مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ، وَأَمّا
الْيَعْفُورُ فَطَرَحَ نَفْسَهُ فِي بِئْرٍ يَوْمَ مَاتَ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَاتَ، وَذَكَرَ ابْنُ فَوْرَكٍ فِي كِتَابِ
الْفُصُولِ أَنّهُ كَانَ مِنْ مَغَانِمِ خَيْبَرَ، وَأَنّهُ كَلّمَ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ
اللهِ أَنَا زِيَادُ بْنُ شِهَابٍ، وَقَدْ كَانَ فِي آبَائِي سِتّونَ
حِمَارًا كُلّهُمْ رَكِبَهُ نَبِيّ، فَارْكَبْنِي أَنْتَ، وَزَادَ
الْجُوَيْنِيّ فِي كِتَابِ الشّامِلِ «3» أن النبي- صلى الله عليه وسلم-
كان إذَا أَرَادَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْسَلَ إلَيْهِ هَذَا
الْحِمَارَ، فَيَذْهَبُ حَتّى يَضْرِبَ بِرَأْسِهِ الْبَابَ، فَيَخْرُجُ
الرّجُلُ، فَيَعْلَمُ أَنّهُ قَدْ أُرْسِلَ إلَيْهِ، فَيَأْتِي النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَهُ تُرْسٌ فِيمَا ذَكَرَ
الطّبَرِيّ فِيهِ تِمْثَالٌ كَرَأْسِ الْكَبْشِ وَكَانَ يَكْرَهُهُ فِيهِ،
فَأَصْبَحَ ذَاتَ يوم قد
__________
(1) الجلم الذى يجز به الشعر والصوف، والجلمان شفرتاه، وهكذا يقال مثنى
كالمقص والمقصين.
(2) وفى رواية: يعفور. ويذكر الطبرى أنه قيل أيضا إن دلدل هدية من فرده بن
عمر الجذامى كما ذكر ابن القيم أنه كان له «ص» أربع بغلات منها دلدل.
(3) ص 178 ح 3 ط المعارف. ولا أدرى من أين جاء ابن فورك والجوينى بما ذكر
عن الحمارين؟؟.
(5/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
انمحى «1» ، ولم يبق منه أثر، وأمار داؤه عَلَيْهِ السّلَامُ، فَكَانَ
يُقَالُ لَهُ:
الْحَضْرَمِيّ، وَبِهِ كَانَ يَشْهَدُ الْعِيدَيْنِ، كَانَ طُولُهُ
أَرْبَعَ أَذْرُعٍ وَعَرْضُهُ ذِرَاعَانِ وَشِبْرٌ «2» ، وَكَانَ لَهُ
جَفْنَةٌ عَظِيمَةٌ يُقَالُ لَهَا الْغَرّاءُ يَحْمِلُهَا أَرْبَعَةُ
رِجَالٍ جَرَى ذِكْرُهَا فِي حَدِيثٍ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، فَهَذِهِ
جُمْلَةٌ تَشْرَئِبّ إلَى مَعْرِفَتِهَا أَنْفُسُ الطّالِبِينَ،
وَتَرْتَاحُ بِالْمُذَاكَرَةِ بِهَا قُلُوبُ الْمُتَأَدّبِينَ، وَكُلّ مَا
كَانَ مِنْ بَابِ الْمَعْرِفَةِ بِنَبِيّنَا عَلَيْهِ السّلَامُ،
وَمُتّصِلًا بِأَخْبَارِ سِيرَتِهِ مِمّا يُونِقُ الْأَسْمَاعَ، وَيَهُزّ
بِأَرْوَاحِ الْمَحَبّةِ الطّبَاعَ «3» ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى مَا
عُلِمَ من ذلك.
__________
(1) ذكر ابن القيم له اثنين آخرين، وأنه وضع يده على التمثال، فامحى ص 67 ح
1 زاد المعاد.
(2) فى زاد المعاد لابن القيم «قال الواقدى: كان رداؤه وبرده طول ستة أذرع
فى ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر، فى عرض ذراعين
وشبر» ص 71 ح 1 زاد المعاد وانظر فيه تفصيل ملابسه صلى الله عليه وسلم، وفى
ص 568 ح 2 الوفا بأحوال المصطفى والمواهب اللدنية بداية الجزء الخامس.
(3) لا ريب فى أن كل ما يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم يثير ما يثير فى
النفس من شوق وحنين قد تعبر عنها أحيانا الدموع أصدق الدموع، وتهفو بالروح
إلى حيث كانت تلك السيرة القدسية. غير أنا نقول دائما: إننا يجب أن نعنى
بسيرة النبى صلى الله عليه بعد البعثة، حيث فرض الله علينا أن يكون لنا
وحده- صلى الله عليه وسلم- هو الأسوة الحسنة. ولقد قوم القرآن لنا حياته
عليه الصلاة والسلام قبل البعثة وبعدها، فلنهتد بنور القرآن فى هذا التقويم
ليكون لنا نبراسا وفيصلا فيما يجب علينا أن نأتسى به. وهاهى ذى آيات من
القرآن بها نسترشد ونستهدى فى هذا. محمد قبل البعثة: ولا ريب فى أن النص من
القرآن يلغى كل وصف يعارضه، ويحكم ببطلانه. فلنتدبر معا. (ألم يحدك يتيما
فآوى. ووجدك ضالا فهدى. -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- ووجدك عائلا فأغنى) والمهم هنا الآية الثانية، ولنحذر أن تفتننا العاطفة
الساحرة عن حقيقة معناها ولنحذر أيضا من إلغاء معناها، وإلا كان الكفر
الصراح البواح، ولنحذر أيضا من أن نظن أن الإيمان بها ينال من مكانة النبى
صلى الله عليه وسلم، ولنتدبر معا أيضا: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت
طائفة منهم أن يضلوك، وما يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شىء، وأنزل الله
عليك الكتاب والحكمة، وعلمك ما لم تكر تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما)
النساء: 113 فما أضل الذين يزعمون أنه كان يعلم بالقرآن قبل نزوله. بداية
الآية تؤكد وجود بشرية فقيرة إلى عون الله وفضله، وختامها يؤكد أنه صلى
الله عليه وسلم لم يكن يعلم الكتاب، ولا الحكمة، وأنه علم من الله ما لم
يكن يعلم. ولنتدبر معا أيضا: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة
من ربك، فلا تكونن ظهيرا للكافرين) القصص: 86 (وما كنت تتلو من قبله من
كتاب، ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون) العنكبوت: 48 (وكذلك أرحينا
إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان. ولكن جعلناه نورا
نهدى به من نشاء من عبادنا. وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) الثورى: 52. (وإذا
تتلى عليهم آياتنا بينات. قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو
بدله، قل: ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى، إن أتبع إلا ما يوحى إلى إنى
أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم. قل لو شاء الله ما تلونه عليكم، ولا
أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله. أفلا تعقلون) يونس: 15، 16 هذا
تقويم لحياة النبى صلى الله عليه وسلم، يؤكد لنا ما يأتى بعضه: إنه صلى
الله عليه وسلم لم يكن يعرف الكتاب ولم يكن يعرف الإيمان، وأن الله وجده
ضالا، فهداه، وأنه لم يكن يرجو أن يلقى إليه الكتاب، ولهذ لم يفرض الله
علينا الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فى هذه الفترة، وإنما فرض علينا أن
نتخذه أسوة بعد أن صار رسولا تقويم لحياته بعد الرسالة: -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- يقول سبحانه فى سورة النجم (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ، وَما غَوى، وَما
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) جاءه الوحى، فكانت
هذه الصفات العظيمة التى بها زكى الله فكره وقلبه ولسانه. (فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَكَلِماتِهِ، وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الأعراف: 158. (كَما
أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ
ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة: 151. وهذا تقويم لرسالته وأثرها فى
البشرية (قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا،
فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) آل عمران: 32. (إِنَّ اللَّهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الأحزاب: 56 رأى تمجيد أعظم من
هذا لعبد اصطفاه الله ليختم به النبوة؟ (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ
إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) الفتح: 10.
هكذا تؤكد الآية أن من بايع محمدا- صلى الله عليه وسلم- فإنما بايع الله
سبحانه، أفترجو البشر فى تطلعها إلى الخلود مقاما أعظم؟ كلا. ثم تدبر هذا
التقويم الأعظم إذ يجعل الله طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- هى القاعدة
لطاعته، أو المعراج إلى طاعته جل شأنه، وهذا فى قوله سبحانه (من يطع
الرسول، فقد أطاع الله) النساء: 80. (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ، فَاتَّبِعُونِي، يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) . فليس ثمت وسيلة إلى محبة الله سوى طاعته صلى الله عليه وسلم
واتباعه. (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ
اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب: 40. (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ،
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) الأحزاب: 57. -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- هو الخاتم للنبوة، ومن يؤذه رجمته لعنة الله فى الدارين، وتجرع العذاب
المهين. (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ،
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللَّهَ
كَثِيراً) الأحزاب: 21. وتدبر قوله جل شأنه (رَسُولَ اللَّهِ) أتى بالوصف
الذى به فرض علينا أن نتخذه أسوة، وصف أنه رسول الله، لو وضع مكانها كان
لكم فى محمد، لفرض علينا اتخاذه أسوة فى حاليه قبل البعثة وبعدها. (إِنَّكَ
مَيِّتٌ، وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) فاحذر أن يهوم بك الخيال، فتظنه خالدا
فالله يقول (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَفَإِنْ
مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) ووضع إنك وإنهم هكذا متجاورين فى الآية التى
تؤكد أنه سيموت تؤكد لك أن موته هوموتنا، حتى لا يخدعنك بالتمويه دجال.
لهذا يجب علينا أن نذكر أنفسنا وأبناءنا وإخواننا دائما بما كان عليه النبى
صلى الله عليه وسلم بعد بعثته أكثر من التذكير بمولده صلى الله عليه وسلم.
ولتقارن بين القرآن وبين أسطورة هذى بها ابن عربى فأجت أجيج النار فى
الهشيم، وسلبت ألوف الألوف حسن اعتقادهم فى الله ورسوله، وقد ردد هذه
الأسطورة فى كتابه الكبير (الفتوحات المكية) وعنه نقلها الشعرانى فى
التمجيد والتعظيم وذلك فى كتابه «الكبريت الأحمر فى بيان علوم الشيخ
الأكبر» . وإليك ما قاله ابن عربى «إعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعطى القرآن مجملا قبل جبريل من غير تفصيل الآيات والسور، فقيل له: لا تعجل
بالقرآن الذى عندك قبل جبريل، فتلقيه على الأمة مجملا، فلا يفهم أحد عنك
لعدم تفصيله» ص 6 الكبريت الأحمر المطبوع على هامش اليواقيت والجواهر سنة
1307 هـ وتأمل قول عبد الكريم الجيلى- وهو من هو- عند الصوفية (اعلم أن
الله تعالى لما خلق النفس المحمدية من ذاته، وذات الحق جامعة للضدين، خلق
الملائكة العالين فى حيث صفات الجمال والنور والهدى من نفس محمد، وخلق
إبليس وأتباعه من حيث صفات الجلال والظلمة والضلال من نفس محمد، -
(5/249)
|