الروض
الأنف ت الوكيل [ذِكْرُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
يَوْمَ أُحُدٍ]
من بنى عبد الدار قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ
مِنْ أَصْحَابِ اللّوَاءِ: طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَاسْمُ أَبِي
طَلْحَةَ: عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الدّارِ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، (و) أَبُو سَعِيدِ بْنُ
أَبِي طَلْحَةَ، قَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ
بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَمُسَافِعُ بْنُ طَلْحَةَ، وَالْجُلّاسُ بْنُ
طَلْحَةَ، قَتَلَهُمَا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ.
وَكِلَابُ بْنُ طَلْحَةَ، وَالْحَارِثُ بْنُ طَلْحَةَ، قَتَلَهُمَا
قُزْمَانُ، حَلِيفٌ لِبَنِي ظَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: قَتَلَ كِلَابًا عَبْدُ الرحمن بن عوف.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَرْطَاةُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بن هاشم بن عبد
مناف ابن عَبْدِ الدّارِ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ،
وَأَبُو يَزِيدَ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
عَبْدِ الدّارِ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ، وَصُؤَابُ: غُلَامٌ لَهُ حَبَشِيّ،
قَتَلَهُ قُزْمَانُ.
قَالَ ابن هشام: ويقال: قتله علي بن أبي طَالِبٍ، وَيُقَالُ: سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقّاصٍ، وَيُقَالُ: أبو دجانة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/80)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْقَاسِطُ بْنُ
شُرَيْحِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ قتله
قزمان. أحد عشر رجلا.
مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ:
عَبْدِ اللهِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ.
قتلة علىّ بن أبى طالب. رجل.
مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: أَبُو الْحَكَمِ
بْنُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ الثّقَفِيّ،
حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسِبَاعُ بْنُ
عَبْدِ الْعُزّى- وَاسْمُ عَبْدِ الْعُزّى: عَمْرُو بْنُ نَضْلَةَ بْنِ
غُبْشَانَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَلَكَانِ بْنِ أَفْصَى- حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ
خُزَاعَةَ، قَتَلَهُ حمزة بن عبد المطلب. رجلان.
مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ، هِشَامُ بْنُ
أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قتله قُزْمَانُ، وَالْوَلِيدُ بْنُ
الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ، وَأَبُو
أُمَيّةَ بْنُ أَبِي حذيفة ابن الْمُغِيرَةِ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ، حَلِيفٌ لَهُمْ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ
أَرْبَعَةُ نفر.
مِنْ بَنِي جُمَحٍ وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو: عَمْرُو بْنُ عَبْدِ
اللهِ بْنِ عُمَيْرِ بن وهب بن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/81)
حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، وَهُوَ أَبُو
عَزّةَ، قَتَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَبْرًا،
وَأُبَيّ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، قَتَلَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ. رجلان.
مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ: عُبَيْدَةُ بْنُ
جَابِرٍ، وَشَيْبَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْمُضَرّبِ، قَتَلَهُمَا
قُزْمَانُ. رَجُلَانِ.
قَالَ ابْنُ هشام: ويقال: قتل عبيدة بن جابر بن عَبْدُ اللهِ بْنُ
مَسْعُودٍ.
عَدَدُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَمِيعُ مَنْ
قَتَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ،
اثْنَانِ وعشرون رجلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَفْسِيرُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أُحُدٍ بَعْضُ مَنْ آمَنَ رَغْمَ
الدّعَاءِ عَلَيْهِمْ:
قَدْ ذكر ابن إسحاق ما يحتاج إليه قارىء السّيرَةِ مِنْ تَفْسِيرِ ذَلِكَ،
وَذَكَرَ قَوْلَهُ سبحانه لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ الْآيَةَ لَمْ يُزِدْ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ مِنْهُ. وَفِي
تَفْسِيرِ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَنّ رسول الله- صلى الله عليه
وسلم- كان يَدْعُو عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِي، حَتّى أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَكَ
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال:
(6/82)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَتَابُوا وَأَسْلَمُوا، وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ، وَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ
فِي حُسْنِ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ غَيْرَ
ذَلِكَ، وَأَمّا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَلَا خِلَافَ فِي حُسْنِ
إسْلَامِهِ، وَفِي مَوْتِهِ شَهِيدًا بِالشّامِ، وَأَمّا عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِي، فَقَدْ قَالَ فِيهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَسْلَمَ
النّاسُ وَآمَنَ عَمْرٌو، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ جَرَى:
مَا كَانَتْ هِجْرَتِي لِلْمَالِ، وَإِنّمَا كَانَتْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ،
فَقَالَ لَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِعِمّا
بِالْمَالِ الصّالِحِ لِلرّجُلِ الصّالِحِ، فَسَمّاهُ: رَجُلًا صَالِحًا،
وَالْحَدِيثُ الّذِي جَرَى: أَنّهُ كَانَ قَالَ لَهُ: إنّي أُرِيدُ أَنْ
أَبْعَثَك «1» وَجْهًا يُسَلّمُك اللهُ فِيهِ، وَيُغَنّمُكَ، وَأَزْعَبُ
لَك زَعْبَةً مِنْ الْمَالِ «2» ، وَسَتَأْتِي نُكَتٌ وَعُيُونٌ مِنْ
أَخْبَارِ الْحَارِثِ، وَأَبِي سُفْيَانَ- فِيمَا بَعْدُ- إنْ شَاءَ اللهُ.
مَعْنَى اتّخَذَ:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَفِيهِ
فَضْلٌ عَظِيمٌ لِلشّهَدَاءِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى حُبّ اللهِ إيّاهُمْ حَيْثُ
قَالَ (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وَلَا يُقَالُ: اتّخَذْت وَلَا
اتّخَذَ إلّا فِي مُصْطَفًى مَحْبُوبٍ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وقال: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً
فالاتّخاذ إنما هو اقتناء واجتباء «3» ،
__________
(1) فى رواية: على جيش.
(2) أعطيك دفعة من المال. وفى الحديث: بعد هذا: فقلت يا رسول الله: ما
أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة فى الإسلام. وأخرجه أحمد بسند حسن عن
عمرو بن العاص.
(3) يقول الراغب فى معنى المادة: الآخذ: حوز بالقهر الشىء وتحصيله، وذلك
قارة بالتناول، وتارة بالقهر.
(6/83)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنْ الْأَخَذِ، فَإِذَا قُلْت: اتّخَذْت كَذَا،
فَمَعْنَاهُ: أَخَذْته لِنَفْسِي، وَاخْتَرْته لَهَا، فَالتّاءُ الْأُولَى
بَدَلٌ مِنْ يَاءٍ، وَتِلْكَ الْيَاءُ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ أَخَذَ،
فَقُلِبَتْ تَاءً إذْ كَانَتْ الْوَاوُ تَنْقَلِبُ تَاءً فِي مِثْلِ هَذَا
الْبِنَاءِ، نَحْوُ اُتّعِدَ وَاِتّزِرْ وَالْيَاءُ أُخْت الْوَاوِ،
فَقُلِبَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تَاءً، وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ
لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، حَتّى قَالُوا: تَخِذْت بِحَذْفِ إحْدَى التّاءَيْنِ
اكْتِفَاءً بِأَحَدَيْهِمَا عَنْ الْأُخْرَى، وَلَا يَكُونُ هَذَا
الْحَذْفُ إلّا فِي الْمَاضِي خَاصّةً، لَا يُقَالُ تَتّخِذُ كَمَا يُقَالُ
تَخِذَ، لِأَنّ الْمُسْتَقْبَلَ لَيْسَ فِيهِ هَمْزَةُ وَصْلٍ، وَإِنّمَا
فَرّوا فِي الْمَاضِي مِنْ ثِقَلِ الْهَمْزَةِ فِي الِابْتِدَاءِ،
وَاسْتَغْنَوْا بِحَرَكَةِ التّاءِ عَنْهَا، وَكَسَرُوا الْخَاءَ مِنْ
تَخِذْت لِأَنّهُ لَا مُسْتَقْبَلَ لَهُ مَعَ الْحَذْفِ، فَحَرّكُوا عَيْنَ
الْفِعْلِ بِالْحَرَكَةِ الّتِي كَانَتْ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَكَلَامُنَا هَذَا عَلَى اللّغَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِلّا فَقَدْ حُكِيَ
يَتّخِذُ فِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَذَكَرَهَا
النّحّاسُ فِي إعْرَابِ الْقُرْآنِ.
أَدِلّةٌ علي صحة خلافة أبي بكر:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ
عَلى أَعْقابِكُمْ إلى قوله:
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ظَهَرَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ حِينَ
انْقَلَبَ أَهْلُ الرّدّةِ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَلَمْ يَضُرّ ذَلِكَ
دِينَ اللهِ، وَلَا أُمّةَ نَبِيّهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُسَمّى:
أَمِير الشّاكِرِينَ لِذَلِكَ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحّةِ
خِلَافَتِهِ، لِأَنّهُ الّذِي قَاتَلَ الْمُنْقَلِبِينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ حِينَ رَدّهُمْ إلَى الدّينِ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ،
وَكَانَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ سَيَظْفَرُونَ بِمَنْ ارْتَدّ، وَتَكْمُلُ
عَلَيْهِمْ النّعْمَةُ، فَيَشْكُرُونَ، فَتَحْرِيضُهُ إيّاهُمْ عَلَى
الشّكْرِ
(6/84)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- وَالشّكْرُ لَا يَكُونُ إلّا عَلَى نِعْمَةٍ- دَلِيلٌ عَلَى أَنّ بَلَاءَ
الرّدّةِ لَا يَطُولُ، وَأَنّ الظّفَرَ بِهِمْ سَرِيعٌ، كَمَا كَانَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سبحانه: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ فِيهِ
أَيْضًا:
التّصْحِيحُ لِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنّهُ الّذِي دَعَا الْأَعْرَابَ
إلَى جِهَادِ حَنِيفَةَ، وَكَانُوا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، وَلَمْ
يُقَاتِلُوا لِجِزْيَةِ، وَإِنّمَا قُوتِلُوا لِيُسْلِمُوا، وَكَانَ
قِتَالُهُمْ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي سُلْطَانِهِ، ثُمّ قَالَ: فَإِنْ
تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ
الطّاعَةَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ فِي الْآيَةِ كَالنّصّ عَلَى
خِلَافَتِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ،
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وَقَدْ بَيّنَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ مَنْ
الصّادِقُونَ، وهم المهاجرون بقوله: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ فأمر
الذين تبوّؤا الدّارَ وَالْإِيمَانَ أَنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ، أَيْ:
تَبَعًا لَهُمْ، فَحَصَلَتْ الْخِلَافَةُ فِي الصّادِقِينَ بِهَذِهِ
الْآيَةِ، فَاسْتَحَقّوهَا بِهَذَا الِاسْمِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي
الصّادِقِينَ مَنْ سَمّاهُ اللهُ الصّدّيقَ إلّا أَبُو بَكْرٍ، فَكَانَتْ
لَهُ خَاصّةً، ثُمّ لِلصّادِقِينَ بَعْدَهُ.
رِبّيّونَ وَرَفْعُهَا فِي الْآيَةِ:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ارْتَفَعَ رِبّيّونَ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ إسْحَاقَ
بِالِابْتِدَاءِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الضّمِيرِ فِي
قُتِلَ، وَهَذَا أَصَحّ التّفْسِيرَيْنِ، لِأَنّهُ قَالَ: فَمَا وَهَنُوا
لِمَا أَصَابَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا هُمْ الْمَقْتُولِينَ مَا قَالَ
فِيهِمْ: مَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ أَيْ: مَا ضَعُفُوا، وَقَدْ
يُخَرّجُ
(6/85)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْضًا قَوْلُ مَنْ قَالَ: رِبّيّونَ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ
بِقُتِلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَمَا وَهَنُوا أَيْ مَا
وَهَنَ الْبَاقُونَ مِنْهُمْ، لِمَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ قَتْلِ
إخْوَانِهِمْ، وَهَذَا وَجْهٌ، وَلَكِنْ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ يَدُلّ
عَلَى صِحّةِ التّفْسِيرِ الْأَوّلِ «1» .
وَقَوْلُهُ: رِبّيّونَ، وَهُمْ الْجَمَاعَاتُ «2» فِي قَوْلِ أَهْلِ
اللّغَةِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
رِبّيّونَ أُلُوفٌ، وَقَالَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ: الرّبّيّ: عَشَرَةُ
آلَافٍ.
مِنْ تَفْسِيرِ آيَاتِ أُحُدٍ:
وقوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ وَعَلَى: تَفْسِيرِ ابْنِ
إسْحَاقَ غَمّا بَعْدَ غَمّ الْبَاءُ مُتَعَلّقَةٌ بِمَحْذُوفِ،
التّقْدِيرُ: غَمّ مَقْرُونٌ بِغَمّ، وَعَلَى تَفْسِيرٍ آخَرَ
مُتَعَلّقَةٌ:
بِأَثَابَكُمْ، أَيْ: أَثَابَكُمْ غَمّا بِمَا غَمَمْتُمْ نَبِيّهُ حِينَ
خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ.
وقوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُوَ
عَبْدُ اللهِ بْنُ جُبَيْرٍ الّذِي كَانَ أَمِيرًا عَلَى الرّمَاةِ،
وَكَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا مَكَانَهُمْ، وَأَلّا يُخَالِفُوا
أَمْرَ نَبِيّهِمْ، فَثَبَتَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، فَاسْتُشْهِدَ،
وَاسْتُشْهِدُوا، وَهُمْ الذين
__________
(1) التلاوة فى المصحف: قاتل بفتح القاف على البناء للفاعل. وهى قراءة
جماعة من قراء الحجاز والكوفة. أما قتل بضم القاف فقراءة جماعة من الحجاز
وللبصرة. ورأى السهيلى تلخيص لرأى ابن جرير الطبرى فى تفسيره. وقد اختار ما
قال عنه السهيلى إنه أصح التفسيرين. وقال: وأما الربيون فانهم مرفوعون
بقوله: معه لا بقوله: قتل.
(2) هذا رأى بعض نحويى الكوفة، ويرى بعض نحويى البصرة أن الربيين هم الذين
يعبدون الرب، ويرى بعض المفسرين أنهم العلماء، أو الفقهاء، أو الأتباع،
ويرى ابن زيد أن الربيين هم الأتباع والرعية وأن الربانيين هم الولاة.
(6/86)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرَادُوا الْآخِرَةَ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْمَغْنَمِ، وَأَخْذِ
السّلَبِ، فَكَرّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوّ، وَكَانَتْ الْمُصِيبَةُ، وَفِي
الْخَبَرِ: لَقَدْ رَأَيْت خَدَمَ هِنْدٍ وَصَوَاحِبَهَا، وَهُنّ
مُشَمّرَاتٌ فِي الْحَرْبِ. وَالْخَدَمُ: الْخَلَاخِيلُ «1» ، وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ حِينَ ذَكَرَ هِنْدًا، وَأَنّهَا اتّخَذَتْ مِنْ آذَانِ
الشّهَدَاءِ وَآنُفِهِمْ خَدَمًا وَقَلَائِدَ، وَأَعْطَتْ خَدَمَهَا
وَقَلَائِدَهَا وَقِرَطَتَهَا وَحْشِيّا، مَعْنَاهُ: الْخَلَاخِلُ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا
قُتِلْنا هاهُنا فِي صَحِيحِ التّفْسِيرِ أَنّ عَتّابَ بْنَ قُشَيْرٍ هُوَ
قَائِلٌ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَكَانَ مَنْبُوذًا بِالنّفَاقِ.
وقوله: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أَيْ: يَظُنّونَ أَنّ اللهَ
خَاذِلٌ دِينَهُ وَنَبِيّهُ.
وقوله: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أَيْ: أَهْلَ الْجَاهِلِيّةِ كَأَبِي
سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ.
وَذَكَرَ قوله: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وَفَسّرَهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ
ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أُمِرَ
بِمُشَاوَرَتِهِمَا «2» .
حُكْمُ الْغُلُولِ:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَفَسّرَهُ أَنْ
يَكْتُمَ مَا أَنَزَلَ اللهُ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ يَقُولُونَ:
نَزَلَتْ فِي الْغُلُولِ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنّهُمْ فَقَدُوا
قَطِيفَةً مِنْ الْمَغْنَمِ «3» ، فَقَالَ قَائِلٌ: لَعَلّ النّبِيّ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
__________
(1) مفردها: خدمة بفتح الخاء والدال، وتجمع أيضا على خدام.
(2) أخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(3) أخرجه ابن أبى حاتم بسنده عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر،
فقالوا: لعل رسول الله «ص» أخذها. -
(6/87)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَخَذَهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ، وَمَنْ قَرَأَ يُغَلّ بضم الياء
وفتح الغين فمعناه أن يلغى غَالّا، تَقُولُ: أَجْبَنْت الرّجُلَ إذَا
أَلْفَيْته جَبَانًا، وَكَذَلِكَ أَغَلَلْته: إذَا وَجَدْته غَالّا، وَقَدْ
قَالَ عمرو بن معد يكرب لِبَنِي سُلَيْمٍ: قَاتَلْنَاكُمْ، فَمَا
أَجْبَنّاكُمْ، وَسَأَلْنَاكُمْ فَمَا أَبْخَلْنَاكُمْ وَتَفْسِيرُ ابْنِ
إسْحَاقَ [غَيْرُ] «1» خَارِجٍ عَنْ مُقْتَضَى اللّغَةِ. فَمَنْ كَتَمَ
فَقَدْ غَلّ، أَيْ: سَتَرَ، وَكَذَلِكَ مَنْ خَانَ فِي شَيْءٍ وَأَخَذَهُ
خُفْيَةً، فَقَدْ سَتَرَهُ وَكَتَمَهُ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ: السّتْرُ
وَالْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ الْغِلَالَةُ وَالْغَلَلُ لِلْمَاءِ الّذِي
يُغَطّيهِ الشّجَرُ وَالنّبَاتُ، وَقَدْ أَمَرَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ الْمَغَازِي بِإِحْرَاقِ مَتَاعِ الْغَالّ،
وَأَخَذَتْ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ أحمد وإسحاق «2» .
__________
- وروى ابن جرير وأبو داود والترمذى أنها نزلت فى قطيفة حمراء فقدت يوم
بدر. الخ. وقال الترمذى: حسن غريب.. ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم مرسلا.
وروى ابن مردويه أن بعض المنافقين اتهم رسول الله «ص» بشىء، فنزلت. والغلول
هو الخيانة فى المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القسمة، وكل من خان فى شىء
خفية فقد غل. القراءة بفتح الياء هى قراءة المصحف، وهى قراءة ابن عباس وأبى
عبد الرحمن السلمى وجماعة من قراء الحجاز والعراق، والقراءة بضم الياء وفتح
الغين قراءة عظم قراء أهل المدينة والكوفة.
(1) سياق الكلام يفرضها، وهى محذوفة فى الأصل.
(2) قال البخارى: قد روى فى غير حديث عن النبى «ص» فى الغال، ولم يأمر بحرق
متاعه. وقد قال رسول الله «ص» عن رجل غل بردة، ثم مات فى المعركة فقيل عنه
إنه شهيد- كلا، إنى رأيته فى النار فى بردة غلها أو عبادة «من حديث رواه
أحمد ومسلم» وجاءه رجل بشراك كان قد. غله يوم خيبر فقال رسول الله «ص» .
شراك من نار «من حديث متفق عليه» .
(6/88)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشّهَادَةُ وَالشّهَدَاءُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَاتِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ الّذِينَ
سَمّاهُمْ اللهُ شُهَدَاءَ بقوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَهَذَا
الِاسْمُ مَأْخُوذٌ مِنْ الشّهَادَةِ أَوْ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنْ
كَانَ مِنْ الشّهَادَةِ فَهُوَ شَهِيدٌ بِمَعْنَى مَشْهُودٍ، أَيْ
مَشْهُودٌ عَلَيْهِ، وَمَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنّةِ، أَمّا مَشْهُودٌ
عَلَيْهِ، فَلِأَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ
وَقَفَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ، أَيْ: أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِالْوَفَاءِ، وَقَالَ: عَلَيْهِمْ،
وَلَمْ يَقُلْ: لَهُمْ، لِأَنّ الْمَعْنَى: أَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
شَهِيدًا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ وِلَايَةٌ وَقِيَادَةٌ، فَوُصِلَتْ بِحَرْفِ
عَلَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشّهَادَةِ وَتَكُونُ فَعِيلًا
بِمَعْنَى فَاعِلٍ، لِأَنّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ أَيْ: تَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ
عَامّا فِي جَمِيعِ أُمّةِ مُحَمّدٍ- عليه الصلاة السلام- فَالشّهَدَاءُ
أَوْلَى بِهَذَا الِاسْمِ، إذْ هُمْ تَبَعٌ لِلصّدّيقِينَ وَالنّبِيّينَ.
قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ فَهَذَانِ
وَجْهَانِ فِي مَعْنَى الشّهِيدِ، إذَا جَعَلْته مُشْتَقّا مِنْ
الشّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى:
فَاعِلٍ أَيْضًا، لِأَنّهُ يُشَاهِدُ من ملكوت الله، ويعاين من ملائكته
مالا يُشَاهِدُ غَيْرُهُ، وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ
مِنْ الْمُشَاهَدَةِ، أَيْ: إنّ الْمَلَائِكَةَ تُشَاهِدُ قَبْضَهُ،
وَالْعُرُوجَ بِرُوحِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنَى
مَفْعُولٍ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلّهَا بِالصّحّةِ أَنْ يَكُونَ
فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ. مَشْهُودًا لَهُ
بِالْجَنّةِ، أَوْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا
قَالَ: هَؤُلَاءِ أَنَا شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ، أَيْ: قَيّمٌ عَلَيْهِمْ
بِالشّهَادَةِ لَهُمْ، وَإِذَا حُشِرُوا تَحْتَ لِوَائِهِ، فَهُوَ وَالٍ
عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ
(6/89)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَاهِدًا لَهُمْ، فَمِنْ هَاهُنَا اتّصَلَ الْفِعْلُ بِعَلَى، فَتَقَوّى
هَذَا الْوَجْهُ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ
الْعَرَبِيّةِ، وَهُوَ أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حِينَ ذَكَرَ الشّهَدَاءَ قَالَ: وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعِ «1»
شَهِيدٍ، وَلَمْ يَقُلْ شَهِيدَةً، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ:
وَالنّفَسَاءُ شَهِيدٌ يَجُرّهَا جَنِينُهَا بِسَرَرِهِ إلَى الْجَنّةِ،
وَلَمْ يَقُلْ:
شَهِيدَةً وَفَعِيلٌ إذَا كَانَ صِفَةً لِمُؤَنّثِ كَانَ بِغَيْرِ هَاءٍ
إذَا كَانَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، نَحْوَ:
امْرَأَةٍ قَتِيلٍ وَجَرِيحٍ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، كَانَ
بِالْهَاءِ كَقَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ عَلِيمَةٌ وَرَحِيمَةٌ، وَنَحْوَ
ذَلِكَ، فَدَلّ عَلَى أَنّ الشّهِيدَ مَشْهُودٌ لَهُ، وَمَشْهُودٌ
عَلَيْهِ، وَهَذَا اسْتِقْرَاءٌ مِنْ اللّغَةِ صَحِيحٌ، واستنباط من الحديث
بديع، فقف عليه «2» .
__________
(1) أى: تموت وفى بطنها ولد. أو التى تموت بكرا، والجمع بالضم بمعنى
المجموع كالذخر بمعنى المذخور، وكسر الكسائى الجيم، والمعنى: أنها ماتت مع
شىء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة.
(2) «الشهداء جمع شهيد، وبين الرازى أنه لا يجوز أن يراد بالشهيد هنا من
قتله الكفار فى الحرب، لأن الشهادة مرتبة عالية عظيمة فى الدين وكون
الإنسان مقتول الكافر ليس فيه زيادة شرف. لأن هذا القتل قد يحصل فى الفساق،
ومن لا منزلة له عند الله تعالى، ولأن المؤمنين يدعون الله تعالى أن يرزقهم
الشهادة، ولا يجوز أن يطلبوا منه أن يسلط عليهم الكفار يقتلونهم، ولأنه ورد
إطلاق لفظ الشهيد على المبطون والمطعون والغريق، قال: أى الرازى: فعلمنا أن
الشهادة ليست عبارة عن القتل، بل نقول: الشهيد فعيل بمعنى الفاعل، وهو الذى
يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان،
فالشهداء هم القائمون بالقسط، وهم الذين ذكرهم الله فى قوله: (شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا
الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) آل عمران: 18-
(6/90)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ الْمَرْفُوعَ، وَفِيهِ أَنّ
اللهَ جَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ
قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنّ أَرْوَاحَ الشّهَدَاءَ تَتَعَارَفُ عِنْدَ
السّدْرَةِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ بِيضٍ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ
الرّوَايَةَ قَوْمٌ، وَقَالُوا: لَا يَكُونُ رَوْحَانِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ،
وَإِنّ ذَلِكَ مُحَالٌ، وَهَذَا جَهْلٌ بِالْحَقَائِقِ، فَإِنّ مَعْنَى
الْكَلَامِ بَيّنٌ، فَإِنّ رُوحَ الشّهِيدِ الّذِي كَانَ فِي جَسَدِهِ فِي
الدّنْيَا، يُجْعَلُ فِي جَسَدٍ آخَرَ كَأَنّهُ صُورَةُ طَائِرٍ، فَيَكُونُ
فِي هَذَا الْجَسَدِ الْآخَرِ، كَمَا كَانَ فِي الْأَوّلِ، إلَى أَنْ
يُعِيدَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُ، وَهَذِهِ الرّوَايَةُ
لَا تُعَارِضُ مَا رَوَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي صُوَرِ طَيْرٍ خُضْرٍ،
وَالشّهَدَاءُ طَيْرٌ خُضْرٌ، وَجَمِيعُ الرّوَايَاتِ كُلّهَا مُتّفِقَةُ
الْمَعْنَى، وَإِنّمَا الّذِي يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ قِيَامُ
حَيَاتَيْنِ بِجَوْهَرِ وَاحِدٍ، فَيَحْيَا الْجَوْهَرُ بِهِمَا جَمِيعًا،
وَأَمّا رَوْحَانِ فِي جَسَدٍ فَلَيْسَ بِمُحَالِ إذَا لَمْ نَقُلْ
بِتَدَاخُلِ الْأَجْسَامِ، فَهَذَا الْجَنِينُ فِي بطن أمّه وروحه
__________
- ويقال المقتول: شهيد من حيث إنه بذل نفسه فى نصرة دين الله وشهادته له
بأنه هو الحق، وما سواه باطل، وإذا كان من شهداء الله بهذا المعنى، كان من
شهداء الله فى الآخرة. كما قال (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً،
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) البقرة: 143. وقال الأستاذ الإمام:
الشهداء هم الذين أمرنا الله تعالى أن نكون منهم فى قوله: (لِتَكُونُوا
شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وهم أهل العدل والإنصاف الذين يؤيدون الحق
بالشهادة لأهله بأنهم محقون، ويشهدون على أهل الباطل أنهم مبطلون، ودرجتهم
تلى درجة الصديقين، والصديقون شهداء وزيادة. وأقول- أى الشيخ رشيد رضا- إن
الشهادة التى تقوم بها حجة أهل الحق على أهل الباطل، تكون بالقول والعمل
والأخلاق والأحوال، فالشهداء هم حجة الله تعالى على المبطلين فى الدنيا
والآخرة بحسن سيرتهم. تفسير المنار الآية رقم 69 أو 71 من سورة النساء.
(6/91)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرُ رُوحِهَا، وَقَدْ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمَا جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا
أَنْ لَوْ قِيلَ لَهُمْ: إنّ الطّائِرَ لَهُ رُوحٌ غَيْرُ رُوحِ الشّهِيدِ،
وَهُمَا فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ، وَإِنّمَا قَالَ:
فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، أَيْ: فِي صُورَةِ طَيْرٍ خُضْرٍ، كَمَا
تَقُولُ: رَأَيْت مَلَكًا فِي صُورَةِ إنْسَانٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ فِي
ثَمَرِ الْجَنّةِ «1» تَأَوّلَهُ بَعْضُهُمْ مَخْصُوصًا بِالشّهِيدِ،
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنّمَا الشّهِيدُ فِي الْجَنّةِ يَأْكُلُ مِنْهَا
حَيْثُ شَاءَ، ثُمّ يَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلّقَةٍ فِي الْعَرْشِ،
وَغَيْرُ الشّهِيدِ، مِنْ الْمُؤْمِنِينَ نَسَمَتُهُ، أَيْ: رُوحُهُ
طَائِرٌ، لَا أَنّ رُوحَهُ جُعِلَ فِي جَوْفِ طَائِرٍ، لِيَأْكُلَ
وَيَشْرَبَ، كَمَا فَعَلَ بِالشّهِيدِ لَكِنّ الرّوحَ نَفْسَهُ طَائِرٌ
يَعْلَقُ بِشَجَرِ الْجَنّةِ، يَعْلَقُ بِفَتْحِ اللّامِ يَنْشَبُ بِهَا،
وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْهَا، وَمَنْ رَوَاهُ: يعلق فمعناه يصيب العلقة، أى
ينال منها مَا هُوَ دُونَ نَيْلِ الشّهِيدِ، فَضَرَبَ الْعَلَقَةَ مَثَلًا،
لِأَنّ مَنْ أَصَابَ الْعَلَقَةَ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ فَقَدْ
أَصَابَ دُونَ مَا أَصَابَ غَيْرُهُ مِمّنْ أَدْرَكَ الرّغَدَ، فَهُوَ
مِثْلُ مَضْرُوبٍ يُفْهَمُ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِيَعْلَقُ «2» الأكل نفسه، فهو مخصوص بالشهيد، فتكون
__________
(1) رواه أحمد عن الشافعى عن مالك.
(2) العلقة بضم العين وسكون اللام: ما يتبلغ به من الطعام والمركب. وفى
اللسان: تعلق- بفتح- التاء وضم اللام- من ثمار الجنة: تناول بأفواهها وهو
تفسير الأصمعى، وفى النهاية لابن الأثير: تعلق بضم اللام أيضا، وقال: أى
تأكل، وهو فى الأصل للابل إذا أكلت العضاه، فنقل إلى الطير. وما أعد الله
للشهداء هو من علم الغيب الذى هو لله وحده فلنتحر فى حديثنا عنه الخبر
الصادق الذى لا ريب فيه. هذا وفى حديث الشهداء شىء من الاضطراب كما يقول
الشيخ رشيد- رضا فى تفسير المنار- ففى رواية مسلم والترمذى من حديث ابن
مسعود-
(6/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ بِالضّمّ لِلشّهَدَاءِ، وَرِوَايَةُ الْفَتْحِ
لِمَنْ دُونَهُمْ، فَاَللهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رَسُولُهُ من ذلك.
وقوله ثم تأوى إلى فناديل يُصَدّقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عَزّ وَجَلّ:
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ «1»
الْحَدِيدُ: 19. وَإِنّمَا تَأْوِي إلى تلك القناديل
__________
أنها فى حواصل طيور خضر تسرح من أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى قناديل
معلقة. تحت العرش» وفى رواية عبد الرازق من حديث عبد الله بن كعب ابن مالك:
«إن أرواح الشهداء فى صور طيور خضر معلقة فى قناديل الجنة حتى يرجعها الله
يوم القيامة» فهذا يدل على أنها محبوسة فى مكان خاص، والأول يفيد أنها
مطلقة تسرح حيث تشاء، ثم إن لها مأوى تأوى إليه حين تشاء، وفى رواية مالك
وأصحاب السنن ما عدا أبا داود أنها فى أجواف خضر تعلف من ثمر الجنة أو شجر
الجنة، وعبد الطاغوت والقبور يحرفون الكلم عن مواضعه فى هذه الآية الإلهية:
فيضعون مكان «أحياء عند ربهم» «أحياء فى قبورهم» بغية استهواء الناس إلى
عبادة الموتى بالدعاء والرجاء والخوف والحب والتوكل، زاعمين لهم أنهم
يسمعون لأنهم «أحياء فى قبورهم» وهذه الحياة الدقيقة السامية عند الله حياة
غيبية هو وحده جل شأنه العليم بحقيقتها، إنها حياة روحية لا جسدية، لأن
الأجساد أرمت وفنيت وكم من دود منها طعم، وسوس عاث «وشجر منها نبت، فأكلنا
ثمره، واصطلينا بناره. فإذا جاء يوم الفصل بعث الله كل أمرىء من مرقده،
كيف؟ أو ليس الذى. خلق السماوات والأرض بقادر على أن يحيى الموتى؟ بلى:
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون. ولا يأتى حين يتشعب القول
بين: كيف، ولم- وهذا هو رأيى- إلا بتشقق القلب بالقلق الأسود. ولنسكت عن
المراء فى شأن الغيب، فالمراء كفر.
(1) هم القائمون بالشهادة لله سبحانه، ولهم، وعلى الأمم يوم القيامة، ولم
لا يكون قوله سبحانه إخبارا عن الذين آمنوا بالله ورسوله؟ ثم هو بيان عن
النور الذى سيكون يوم القيامة. واقرأ من سورة الحديد من قوله سبحانه: -
(6/93)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَيْلًا، وَتَسْرَحُ نَهَارًا، فَتَعْلَمُ بِذَلِكَ اللّيْلَ مِنْ
النّهَارِ، وَبَعْدَ دُخُولِ الْجَنّةِ فِي الْآخِرَةِ، لَا تأوى إلى تلك
القناديل- ولله أَعْلَمُ- وَإِنّمَا ذَلِكَ مُدّةُ الْبَرْزَخِ هَذَا مَا
يَدُلّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشّهَدَاءُ
يَأْكُلُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنّةِ وَلَيْسُوا فِيهَا، وَقَدْ أَنْكَرَ
أَبُو عُمَرَ قَوْلَ مُجَاهِدٍ، وَرَدّهُ وَلَيْسَ بمنكر عددى، وَيَشْهَدُ
لَهُ مَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ
النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: الشّهَدَاءُ بِنَهَرِ
أَوْ عَلَى نَهَرٍ يُقَالُ: لَهُ: بَارِقٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنّةِ فِي
قِبَابٍ خُضْرٍ يَأْتِيهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْهَا بُكْرَةً وَعَشِيّا «1» ،
فَهَذَا يُبَيّنُ مَا أَرَادَ مُجَاهِدٌ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَمِمّا وَقَعَ السّيرَةُ أَيْضًا، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ هِشَامٍ
حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ، قَالَ:
حَدّثَنِي إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ:
حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه
وسلم- قال: الشّهَدَاءُ ثَلَاثَةٌ، فَأَدْنَى الشّهَدَاءُ عِنْدَ اللهِ
مَنْزِلَةً رجل
__________
- (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الحديد: 12 فالحديث عن القيامة والجزاء فيها.
(1) لفظ أحمد والطبرانى والحاكم كلهم عن ابن عباس «الشّهَدَاءُ عَلَى
بَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنّةِ فِي قُبّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ
عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنّةِ بكرة وعشيا» . وبهذا يتبين أن بعض
الروايات تدل على دخولهم الجنة وبعضها يدل على وقوفهم ببابها عند النهر.
ولقد حاول ابن كثير فى تفسيره الجمع، أو المصالحة بين الضدين فقال: كأن
الشهداء أقسام. وقد قال الزرقانى قولا طيبا هنا عن كلمة ابن كثير كأن: وعبر
بكأن، لأنه على سبيل الاحتمال لا القطع. لأن حقيقة الحال غيب عنا» وهى كلمة
حق.
(6/94)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَرَجَ مُسَوّدًا بِنَفْسِهِ وَرَحْلِهِ، لَا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَا
يُقْتَلَ «1» أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَأَصَابَهُ، قَالَ: فَأَوّلُ
قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهِ، يَغْفِرُ اللهُ بِهَا مَا تَقَدّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ، ثُمّ يُهْبِطُ اللهُ إلَيْهِ جَسَدًا مِنْ السّمَاءِ، فَيَجْعَلُ
فِيهِ رُوحَهُ، ثُمّ يُصْعَدُ بِهِ إلَى اللهِ، فما يمرّ بسماء من
السّماوات إلّا شَيّعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، حَتّى يَنْتَهِيَ بِهِ إلَى
اللهِ، فَإِذَا انْتَهَى بِهِ إلَيْهِ وَقَعَ سَاجِدًا، ثُمّ يُؤْمَرُ بِهِ
فَيُكْسَى سَبْعِينَ زَوْجًا مِنْ الْإِسْتَبْرَقِ، ثُمّ يَقُولُ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ
شَقَائِقِ النّعمان.
وحدّث كعب الأحبار عَنْ قَوْلِ- رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السّلَامُ- فَقَالَ
كعب الأحبار: أَجَلّ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ شَقَائِقِ
النّعْمَانِ، ثم يقول: اذهبوا به إلى إخوانه مِنْ الشّهَدَاءِ،
فَاجْعَلُوهُ مَعَهُمْ، فَيُؤْتَى بِهِ إلَيْهِمْ فى قُبّةٍ خَضْرَاءَ فِي
رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْجَنّةِ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ حُوتٌ
وَنُورٌ مِنْ الْجَنّةِ لِغَدَائِهِمْ، فَيَلْعَبَانِهِمْ «2» ، حَتّى إذَا
كَثُرَ عَجَبُهُمْ مِنْهَا طَعَنَ الثّوْرُ الْحُوتَ بِقَرْنِهِ،
فَبَقَرَهُ لَهُمْ عَمّا يَدْعُونَ. ثُمّ يَرُوحَانِ عَلَيْهِمْ
لِعَشَائِهِمْ، فَيُلَعّبَانِهِمْ، حَتّى إذَا كَثُرَ عَجَبُهُمْ مِنْهُمَا
ضَرَبَ الْحُوتُ الثّوْرَ بِذَنْبِهِ فَبَقَرَهُ لَهُمْ عَمّا يَدْعُونَ،
فَإِذَا انْتَهَى إلَى إخْوَانِهِ سَأَلُوهُ تَسْأَلُوا «3» الرّاكِبَ
يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ بِلَادَكُمْ، فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟
فَيَقُولُ: أَفْلَسَ، فَيَقُولُونَ: فَمَا أَهْلَكَ مَالَهُ فَوَاَللهِ إنْ
كَانَ لَكَيّسًا جَمُوعًا تَاجِرًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: إنّا لَا نَعُدّ
الْفَلَسَ مَا تَعُدّونَ، وَإِنّمَا نَعُدّ الْفَلَسَ مِنْ الْأَعْمَالِ،
فَمَا فَعَلَ فُلَانٌ وَامْرَأَتُهُ فُلَانَةُ؟ فيقول: طلّقها، فيقولون:
فما الذى
__________
(1) فى نسخة: يريد أن يقتل، ولا يقتل.
(2) فى نسخة: فيلعبا بهم.
(3) هكذا فى الأصل.
(6/95)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَزَلَ بَيْنَهُمَا، حَتّى طَلّقَهَا، فَوَاَللهِ إنْ كَانَ بِهَا
لَمُعْجَبًا؟ فَيَقُولُونَ: مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟
فَيَقُولُونَ: مَاتَ أيهات قَبْلُ بِزَمَانِ، فَيَقُولُونَ: هَلَكَ
وَاَللهِ مَا سَمِعْنَا لَهُ بِذِكْرِ، إنّ لِلّهِ طَرِيقَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: عَلَيْنَا، وَالْآخَرُ: يُخَالِفُ بِهَا عَنّا، فَإِذَا
أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِ خَيْرًا أَمَرّ بِهِ عَلَيْنَا، فعرفناه،
وَعَرَفْنَا مَتَى مَاتَ، وَاذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِ شَرّا خُولِفَ
بِهِ عَنّا، فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ بِذِكْرِ، هَلَكَ وَاَللهِ فُلَانٌ،
فَإِنّ هَذَا لِأَدْنَى الشهداء عند الله؟؟؟، وَإِنّ الْآخَرَ رَجُلٌ
خَرَجَ مُسَوّدًا بِنَفْسِهِ وَرَحْلِهِ يُحِبّ أَنْ يَقْتُلَ، وَلَا
يُقْتَلَ، أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَأَصَابَهُ، فَذَلِكَ رَفِيقُ
إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحُكّ رُكْبَتَاهُ
رُكْبَتَيْهِ، وَأَفْضَلُ الشّهَدَاءِ: رَجُلٌ خَرَجَ مُسَوّدًا بِنَفْسِهِ
وَرَحْلِهِ يُحِبّ أَنْ يَقْتُلَ وَأَنْ يُقْتَلَ، وَقَاتَلَ حَتّى قَتَلَ
قَعْصًا فَذَلِكَ يَبْعَثُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَاهِرًا سَيْفَهُ،
يَتَمَنّى عَلَى اللهِ، لَا يَسْأَلُهُ شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ إيّاهُ.
وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْحُوتِ وَلَعِبُهُ مَعَ الثّوْرِ
وَقَدْ خَرّجَهُ هَنّادُ بْنُ السّرِيّ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ فِي كِتَابِ
الرّقَاقِ له بأكثر مما وقع هاهنا، وَفِي الصّحِيحَيْنِ مِنْهُ ذَكَرَ
أَكْلَ أَهْلِ الْجَنّةِ من كبد الحوت أَوّلَ مَا يَأْكُلُونَ، ثُمّ
يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنّةِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ بَابِ
التّفَكّرِ وَالِاعْتِبَارِ أَنّ الْحُوتَ لَمّا كَانَ عَلَيْهِ قَرَرُ
هَذِهِ الْأَرْضِ «1» ، وَهُوَ حَيَوَانٌ سَابِحٌ لِيَسْتَشْعِرَ أَهْلُ
هَذِهِ الدّارِ أَنّهُمْ فِي مَنْزِلٍ قُلْعَةٍ، وَلَيْسَ بِدَارِ قَرَارٍ،
فَإِذَا نُحِرَ لَهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنّةَ، فَأَكَلُوا مِنْ
كَبِدِهِ، كَانَ فِي ذَلِكَ إشْعَارٌ لَهُمْ بِالرّاحَةِ مِنْ دَارِ
الزّوَالِ، وَأَنّهُمْ قَدْ صَارُوا إلَى دَارِ الْقَرَارِ، كَمَا يُذْبَحُ
لَهُمْ الْكَبْشُ الْأَمْلَحُ عَلَى الصّرَاطِ، وَهُوَ
__________
(1) ذلك كان مبلغ علم عصره عن الأرض، ولهذا يجب النظر فيما بناه عليه.
(6/96)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صُورَةُ الْمَوْتِ لِيَسْتَشْعِرُوا أَنْ لَا مَوْتَ، وَأَمّا الثّوْرُ
فَهُوَ آلَةُ الْحَرْثِ، وَأَهْلُ الدّنْيَا لَا يَخْلَوْنَ مِنْ أَحَدِ
الْحَرْثَيْنِ، حَرْثٍ لِدُنْيَاهُمْ، وَحَرْثٍ لأخراهم، ففى تحر الثّوْرِ
لَهُمْ هُنَالِكَ إشْعَارٌ بِإِرَاحَتِهِمْ مِنْ الْكَدّيْنِ
وَتَرْفِيهِهِمْ مِنْ نَصَبِ الْحَرْثَيْنِ، فَاعْتَبِرْ، وَاَللهُ
الْمُسْتَعَانُ.
إغْفَالُ ابْنِ إسْحَاقَ نَسَبَ عُبَيْدِ بْنِ التّيّهَانِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ
عُبَيْدَ بْنَ التّيّهَانِ. وَاسْمُ التّيّهَانِ: مَالِكٌ، وَلَمْ يَرْفَعْ
نَسَبَهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي هَذَا النّسَبِ حَيْثُ وَقَعَ فِي هَذَا
الْكِتَابِ، وَهُوَ نَسَبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدْ رَفَعْنَاهُ عِنْدَ
ذِكْرِ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ هُنَالِكَ.
وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
وَلَا مِثْلَ أَضْيَافِ الْأَرَاشِيّ مَعْشَرَا يَعْنِي: أَبَا
الْهَيْثَمِ، فَجَعَلَهُ إرَاشِيّا، وَلَيْسَتْ إرَاشَةً مِنْ
الْأَنْصَارِ، وَنَسَبَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ إلَى
بَلِيّ، وَقَالُوا هُوَ حليف الأنصار، وليس من من أنفسهم، وقال ابن إسحاق
والوافدى فِي الْمُسْتَشْهَدِ يَوْمَ أُحُدٍ: عُبَيْدُ بْنُ التّيّهَانِ،
وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَابْنُ عُمَارَةَ: هو عتيك بن
التّيّهان «1» .
__________
(1) ذكر ذلك ابن دريد فى الاشتقاق.
(6/97)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبُو حَنّةَ أَوْ حَبّةَ:
وَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا حَبّةٍ الْأَنْصَارِيّ الْبَدْرِيّ، وَقَالَ ابْنُ
هِشَامٍ أَبُو حَنّةَ بْنُ ثَابِتٍ بِالنّونِ، وَكَذَلِكَ قَالَ
الْوَاقِدِيّ، قَالَ: لَيْسَ فِيمَنْ شَهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ اسْمِهِ
أَبُو حَبّة بِالْبَاءِ، وَكَذَلِكَ رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ: أَبُو حَنّةَ بِالنّونِ شَهِدَ بَدْرًا، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ
أُحُدٍ، وَهُوَ مِنْ الْأَوْسِ، وَاسْمُهُ ثَابِتٍ، وَقِيلَ: عَمْرُو بْنُ
ثَابِتٍ، وَالِاخْتِلَافُ فِي اسْمِهِ، وَفِي كُنْيَتِهِ كَثِيرٌ. وَأَمّا
أَبُو حَبّةَ الْمُسْتَشْهَدُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَهُوَ أَبُو حَبّةَ
بْنُ غَزِيّةَ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةِ مِنْ أَسْفَلَ،
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلّا مَنْ لَا يُؤْبَهُ بِقَوْلِهِ،
وَاسْمُهُ: زَيْدُ بْنُ غَزِيّةَ بْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ مِنْ الْخَزْرَجِ،
وَالْأَوّلُ من الأوس، وقد قيل فى الأول:
أبو حَيّةُ «1» بِيَاءِ مُعْجَمَةٍ بِاثْنَتَيْنِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَحَنّةُ بِالنّونِ: دَيْرُ حَنّةَ مَعْرُوفٌ «2» بِالشّامِ، وَحَنّةُ أُمّ
مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَخَنّةُ بِخَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِنْتُ يَحْيَى
بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَهِيَ أُمّ مُحَمّدِ ابن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيّ
الْفَقِيهِ «3» وَجَنّةُ بِالْجِيمِ لَا يُعْرَفُ إلّا أَبُو جَنّةَ خَالُ
ذِي الرّمّةِ الشّاعِرِ، قاله ابن ماكولا.
__________
(1) هو فى السيره: أبو حية بالياء.
(2) فى معجم البكرى أنه دير قديم بناه بنو ساطع حى من تنوخ، وهو بالحيرة.
والحيرة بالعراق. ودير حنة آخر، وهو بالأكيراح، وقد ذكره أبو نواس فى شعره.
والأكيراح موضع بالحيرة.
(3) فى القاموس أنها أخت يحيى وزوجة محمد بن نصر.
(6/98)
|