الروض الأنف ت الوكيل

 [غَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ]
[خُرُوجُ الرّسُولِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ خَرَجَ فِي شَعْبَانَ إلَى بَدْرٍ، لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ، حَتّى نَزَلَهُ.

[اسْتِعْمَالُهُ ابْنِ أُبَيّ عَلَى الْمَدِينَةِ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ بْنِ سَلُولَ الْأَنْصَارِيّ.
[رجوع أبى سفيان فى رجاله]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَمَانِي لَيَالٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَهْلِ مَكّةَ حَتّى نَزَلَ مَجِنّةَ، مِنْ نَاحِيَةِ الظّهْرَانِ، وَبَعْضُ النّاسِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمّ بَدَا لَهُ فِي الرّجُوعِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّهُ لَا يُصْلِحُكُمْ إلّا عَامٌ خصيب ترعون فيه الشّجر، وتشربون فيه اللين، وإنّ عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع، فارجعوا فرجع الناس. فَسَمّاهُمْ أَهْلُ مَكّةَ جَيْشَ السّوِيقِ، يَقُولُونَ: إنّمَا خرجتم تشربون السّويق.
[الرّسُولُ وَمَخْشِيّ الضّمْرِيّ]
وَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَدْرٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سفيان لميعاده،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(6/228)


فَأَتَاهُ مَخْشِيّ بْنُ عَمْرٍو الضّمْرِيّ، وَهُوَ الّذِي كَانَ وَادَعَهُ عَلَى بَنِي ضَمْرَةَ فِي غَزْوَةِ وَدّانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، أَجِئْتَ لِلِقَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا أَخَا بَنِي ضَمْرَةَ، وَإِنْ شِئْتَ مَعَ ذَلِكَ رَدَدْنَا إلَيْك مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك، ثُمّ جَالَدْنَاك حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك، قَالَ: لَا والله يا محمد، مالنا بِذَلِكَ مِنْك مِنْ حَاجَةٍ.
[مَعْبَدٌ وَشِعْرُهُ فِي نَاقَةٍ لِلرّسُولِ هَوَتْ]
فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ، فَمَرّ بِهِ مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ، فَقَالَ، وَقَدْ رَأَى مَكَانَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَاقَتُهُ تَهْوَى بِهِ.
قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمّدِ ... وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثْرِبَ كالعَنْجَدِ
تَهْوَى عَلَى دِينِ أَبِيهَا الْأَتْلَدِ ... قَدْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي
وَمَاءَ ضَجْنان لَهَا ضُحَى الْغَدِ
[شِعْرٌ لِابْنِ رَوَاحَةَ أَوْ كَعْبٍ فِي بَدْرٍ]
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي ذَلِكَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِيهَا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ لكعب بن مالك:
وَعَدْنَا أَبَا سُفْيَانَ بَدْرًا فَلَمْ نَجِدْ ... لِمِيعَادِهِ صِدْقًا وَمَا كَانَ وَافِيَا
فَأُقْسِمُ لَوْ وَافَيْتَنَا فَلَقِيتنَا ... لَأُبْتَ ذَمِيمًا وَافْتَقَدْتَ الْمَوَالِيَا
تَرَكْنَا بِهِ أَوْصَالَ عُتْبَةَ وَابْنَهُ ... وَعَمْرًا أَبَا جَهْلٍ تَرَكْنَاهُ ثاويا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(6/229)


عَصَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ أُفّ لِدِينِكُمْ ... وَأَمْرِكُمْ السّيْءِ الّذِي كَانَ غَاوِيَا
فَإِنّي وَإِنْ عَنّفْتُمُونِي لَقَائِلٌ ... فِدًى لِرَسُولِ اللهِ أَهْلِي وَمَالِيَا
أَطَعْنَاهُ لَمْ نَعْدِلْهُ فِينَا بِغَيْرِهِ ... شِهَابًا لَنَا فِي ظُلْمَةِ اللّيل هاديا
[شِعْرُ حَسّانٍ فِي بَدْرٍ]
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثابت فى ذلك:
دَعُوا فَلَجَاتِ الشّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا ... جَلّادٌ كَأَفْوَاهِ الْمَخَاضِ الْأَوَارِكِ
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ ربهم ... وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت لِلْغَوْرِ مِنْ بَطْنِ عَالِجٍ ... فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطّرِيقُ هُنَالِكِ
أَقَمْنَا عَلَى الرّسّ النّزُوعِ ثَمَانِيَا ... بِأَرْعَنَ جَرّارٍ عَرِيضِ الْمَبَارِكِ
بِكُلّ كُمَيْتٍ جَوْزُهُ نِصْفُ خَلْقِهِ ... وَقُبّ طُوّالٍ مُشْرِفَاتِ الْحَوَارِكِ
تَرَى الْعَرْفَجَ الْعَامِيّ تَذْرِي أُصُولَهُ ... مَنَاسِمُ أَخْفَافِ الْمَطِيّ الرّواتك
فان تلق فِي تَطْوَافِنَا وَالْتِمَاسِنَا ... فُرَاتَ بْنَ حَيّانٍ يَكُنْ رَهْنَ هَالِكِ
وَإِنْ تَلْقَ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ بَعْدَهُ ... يُزَدْ فِي سَوَادٍ لَوْنُهُ لَوْنُ حَالِكِ
فَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي رِسَالَةً ... فَإِنّك مِنْ غُرّ الرّجَالِ الصّعَالِكِ
[شعر أبي سفيان في الرد على حسان]
فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(6/230)


أحسّان إنّا يابن آكلة الفغا ... وجدّك نغتال الحروق كَذَلِكِ
خَرَجْنَا وَمَا تَنْجُو الْيَعَافِيرُ بَيْنَنَا ... وَلَوْ وَأَلَتْ مِنّا بِشَدّ مُدَارِكِ
إذَا مَا انْبَعَثْنَا مِنْ مُنَاخٍ حَسِبْتَهُ ... مُدَمّنَ أَهْلِ الْمَوْسِمِ الْمُتَعَارِكِ
أَقَمْتَ عَلَى الرّسّ النّزُوعِ تُرِيدُنَا ... وَتَتْرُكُنَا فِي النّخْلِ عِنْدَ الْمَدَارِكِ
عَلَى الزّرْعِ تَمْشِي خَيْلُنَا وركابنا ... فما وطئت ألصقنه بالدّكادك
أفمنا ثَلَاثًا بَيْنَ سَلْعٍ وَفَارِعٍ ... بِجُرْدِ الْجِيَادِ وَالْمَطِيّ الرّوَاتِكِ
حَسِبْتُمْ جِلَادَ الْقَوْمِ عِنْدَ قِبَابِهِمْ ... كَمَأْخَذِكُمْ بِالْعَيْنِ أَرْطَالَ آنُكِ
فَلَا تَبْعَثْ الْخَيْلَ الْجِيَادَ، وَقُلْ لَهَا ... عَلَى نَحْوِ قَوْلِ الْمُعْصِمِ الْمُتَمَاسِكِ
سَعِدْتُمْ بِهَا وَغَيْرُكُمْ كَانَ أَهْلَهَا ... فَوَارِسُ مِنْ أَبْنَاءِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ
فَإِنّك لَا فِي هِجْرَةٍ إنْ ذَكَرْتَهَا ... وَلَا حُرُمَاتِ الدّينِ أَنْتَ بِنَاسِكِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَقِيَتْ مِنْهَا أَبْيَاتٌ تَرَكْنَاهَا. لِقُبْحِ اخْتِلَافِ قَوَافِيهَا.
وَأَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ هَذَا الْبَيْتَ:
خَرَجْنَا وَمَا تَنْجُو الْيَعَافِيرُ بَيْنَنَا
وَالْبَيْتَ الّذِي بَعْدَهُ لِحَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قَوْلِهِ:
دَعُوا فَلَجَاتِ الشّأْمِ قَدْ حَالَ دُونَهَا
وَأَنْشَدَنِي لَهُ فِيهَا بَيْتَهُ «فَأَبْلِغْ أَبَا سفيان» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(6/231)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ وَمَا نَزَلَ فِيهَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ هَذِهِ الْغَزْوَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهَا بَعْدَ بَدْرٍ، لِمَا رَوَى عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الزّهْرِيّ، قَالَ: كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ.
قَطْعُ اللّينَةِ وَتَأْوِيلُهُ:
وَذَكَرَ نُزُولَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبَنِي النّضِيرِ، وَسَيْرَهُ إلَيْهِمْ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهَمّوا بِقَتْلِهِ، فَلَمّا تَحَصّنُوا فِي حُصُونِهِمْ وَحَرّقَ نَخْلَهُمْ نَادَوْهُ أَنْ يَا مُحَمّدُ، قَدْ كُنْت تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ وَتَعِيبُهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ أَهْلُ التّأْوِيلِ: وَقَعَ فِي نَفُوسِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ شَيْءٌ، حَتّى أَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ، أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها الآية الحشر: 5. وَاللّينَةُ أَلْوَانُ التّمْرِ مَا عَدَا الْعَجْوَةَ وَالْبَرْنِيّ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- لم يحرق من بخلهم إلّا مَا لَيْسَ بِقُوتِ لِلنّاسِ، وَكَانُوا يَقْتَاتُونَ الْعَجْوَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ: الْعَجْوَةُ مِنْ الْجَنّةِ «1» ، وَثَمَرُهَا يَغْذُو أَحْسَنَ غِذَاءٍ، وَالْبَرْنِيّ أَيْضًا كَذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيّةِ حِمْلٌ مُبَارَكٌ، لِأَنّ بَرّ مَعْنَاهُ: حِمْلٌ، وَنِيّ مَعْنَاهُ جَيّدٌ، أَوْ مُبَارَكٌ فَعَرّبَتْهُ الْعَرَبُ، وَأَدْخَلَتْهُ فِي كَلَامِهَا، وَفِي حديث وفد عبد القيس أن
__________
(1) رواه أحمد والترمذى وابن ماجة عن أبى هريرة وأحمد والنسائى وابن ماجة عن أبى سعيد وجابر عنه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.

(6/232)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لهم، وذكر الْبَرْنِيّ: إنّهُ مِنْ خَيْرِ تَمْرِكُمْ، وَإِنّهُ دَوَاءٌ وَلَيْسَ بِدَاءِ، رَوَاهُ مِنْهُمْ مَزِيدَةُ الْعَصْرِيّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ نَخْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ: تَنْبِيهٌ عَلَى كَرَاهَةِ قَطْعِ مَا يَقْتَاتُ وَيَغْذُو مِنْ شَجَرِ الْعَدُوّ إذَا رُجِيَ أَنْ يَصِيرَ إلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ الصّدّيقُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُوصِي الْجُيُوشَ أَلّا يَقْطَعُوا شَجَرًا مُثْمِرًا، وَأَخَذَ بِذَلِكَ [أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو] الْأَوْزَاعِيّ، فَإِمّا تَأَوّلُوا حَدِيثَ بَنِي النّضِيرِ، وَإِمّا رَأَوْهُ خَاصّا لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنّ سُورَةَ الْحَشْرِ نَزَلَتْ فِي بَنِي النّضِيرِ، وَلَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْوَالِهِمْ، لِأَنّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهَا بِخَيْلِ وَلَا رِكَابٍ، وَإِنّمَا قُذِفَ الرّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ وَجَلَوْا عَنْ مَنَازِلِهِمْ إلَى خَيْبَرَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ قِتَالٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ، فَقَسَمَهَا النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، لِيَرْفَعَ بِذَلِكَ مُؤْنَتَهُمْ عَنْ الْأَنْصَارِ، إذْ كَانُوا قَدْ سَاهَمُوهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالدّيَارِ، غَيْرَ أَنّهُ أَعْطَى أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ لِحَاجَتِهِمَا، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ: وَأَعْطَى ثَلَاثَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَذَكَرَ الْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ فِيهِمْ.
حَوْلَ أَوّلِ سُورَةِ الْحَشْرِ:
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ [بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ] الْحَشْرُ: 2 أى يحرّبونها مِنْ دَاخِلٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ خَارِجٍ، وَقِيلَ مَعْنَى بِأَيْدِيهِمْ: بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ، وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ بِجِهَادِهِمْ.
وَقَوْلُهُ (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) ، رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنّهُمْ قَالُوا لَهُ: إلى أين نخرج

(6/233)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ: إلَى الْحَشْرِ، يَعْنِي: أَرْضَ الْمَحْشَرِ، وَهِيَ الشّامُ، وَقِيلَ: إنّهُمْ كَانُوا مِنْ بَسْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ قَبْلَهَا، فَلِذَلِكَ قَالَ: لِأَوّلِ الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ:
الْجَلَاءُ «1» ، وَقِيلَ إنّ الْحَشْرَ الثّانِي، هُوَ حَشْرُ النّارِ الّتِي تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ، فَتَحْشُرُ النّاسَ إلَى الْمَوْقِفِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ، حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلّفَ، وَالْآيَةُ مُتَضَمّنَةٌ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلّهَا، وَلِزَائِدِ عَلَيْهَا، فَإِنّ قَوْلَهُ: لِأَوّلِ الْحَشْرِ يُؤْذِنُ أَنّ ثَمّ حَشْرًا آخَرَ، فَكَانَ هَذَا الْحَشْرُ وَالْجَلَاءُ إلَى خَيْبَرَ، ثُمّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ مِنْ خَيْبَرَ إلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَا «2» ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ التّثَبّتُ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ قَالَ: لَا يَبْقِيَنّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا الْحَشْرُ: 2، يُقَالُ: نَزَلَتْ فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى الْحَشْرُ: 7.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنّهُ قَالَ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَأَهْلُ التّأْوِيلِ عَلَى أَنّهَا عَامّةٌ فِي جَمِيعِ الْقُرَى الْمُفْتَتِحَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا، فرأى قوم
__________
(1) الحشر- كما يقول الراغب: «إخراج الجماعة عن نفرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها» ولذا يقول البيضاوى: أى فى أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، أو فى أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام وهو قريب من بعض ما ذكر السهيلى.
(2) تيماء: بليد فى أطراف الشام بينها وبين وادى القرى على طريق حاج دمشق. وأريحا مدينة الجبارين فى الغور بينها وبين بيت المقدس يوم «المراصد»

(6/234)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَسْمَهَا كَمَا تَقْسِمْ الْغَنَائِمِ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَهَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ إنْ شَاءَ اللهُ.
وَذَكَرَ شِعْرَ الْعَبْسِيّ فِي إجْلَاءِ الْيَهُودِ، فَقَالَ:
أَحَلّ الْيَهُودُ بِالْحِسّيّ الْمُزَنّمِ
يُرِيدُ: أَحَلّهُمْ بِأَرْضِ غُرْبَةٍ، وَفِي غَيْرِ عَشَائِرِهِمْ، وَالزّنِيمُ وَالْمُزَنّمُ:
الرّجُلُ يَكُونُ فِي الْقَوْمِ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ، أَيْ أَنَزَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحِسّيّ، أَيْ الْمُبْعَدُ الطّرِيدُ، وَإِنّمَا جَعَلَ الطّرِيدَ الذّلِيلَ حِسّيّا لِأَنّهُ عُرْضَةُ الْأَكْلِ، وَالْحِسّيّ وَالْحَسْوُ مَا يُحْسَى مِنْ الطّعَامِ حَسْوًا، أَيْ أَنّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى آكِلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْحِسّيّ مَعْنَى الْغَذِيّ مِنْ الْغَنَمِ، وَهُوَ الصّغِيرُ الضّعِيفُ الّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الرّعْيَ، يُقَالُ: بُدّلُوا بِالْمَالِ الدّثْرِ وَالْإِبِلِ الْكُومِ رُذَالَ الْمَالِ وَغِذَاءَ الْغَنَمِ، وَالْمُزَنّمُ مِنْهُ، فَهَذَا وَجْهٌ يُحْتَمَلُ، وَقَدْ أَكْثَرْت النّقِيرَ عَنْ الْحِسّيّ فِي مَضَانّهِ مِنْ اللّغَةِ فَلَمْ أَجِدْ نَصّا شَافِيًا أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيّ: الْحِسّيّةُ، وَالْحِسّيّ مَا يُحْسَى مِنْ الطّعَامِ، وَإِذْ قَدْ وَجَدْنَا الْغَذِيّ وَاحِدَ غِذَاءِ الْغَنَمِ، فَالْحِسّيّ فِي مَعْنَاهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُقَالَ، وَاَللهُ أَعْلَمُ»
. وَالْمُزَنّمُ أَيْضًا: صِغَارُ الْإِبِلِ، وسائر هذا
__________
(1) يقول أبو ذر الخشنى: الحسى والحساء: مياه تفور فى الرمل وتمسكها صلابة الأرض، فاذا حفر عنها وجدت، والمزنم على هذا القول هو المقلل اليسير، ومن رواه بالحشى أراد به حاشية الإبل، وهى صغارها وضعافها وهو الصواب، والمزنم على هذا القول يعنى به أولاد الإبل الصغار، وقد يكون المزنم هنا المعز سميت بذلك للزنمتين اللتين فى أعناقها، وهما الهنيتان اللتان تتعلقان من أعناقها ص 288.

(6/235)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشعر مع ما بعده مِنْ الْأَشْعَارِ لَيْسَ فِيهِ عَوِيصٌ مِنْ الْغَرِيبِ، وَلَا مُسْتَغْلِقٌ مِنْ الْكَلَامِ.
الْكَاهِنَانِ:
وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ الْكَاهِنَيْنِ فَهُمَا قُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ، وَفِي الْحَدِيثِ:
يَخْرُجُ فِي الْكَاهِنَيْنِ رَجُلٌ يَدْرُسُ الْقُرْآنَ دَرْسًا لَمْ يَدْرُسْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ، وَلَا يَدْرُسُهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ، فَكَانُوا يَرَوْنَهُ أَنّهُ مُحَمّدُ بْنُ كعب القرظىّ وهو محمد ابن كَعْبِ بْنِ عَطِيّةَ «1» ، وَسَيَأْتِي خَبَرُ جَدّهِ عَطِيّةَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالْكَاهِنُ فِي اللّغَةِ بِمَعْنَى الكاهل، وهو لذى يَقُومُ بِحَاجَةِ أَهْلِهِ، إذَا خَلَفَ عَلَيْهِمْ يُقَالُ:
هُوَ كَاهِنُ أَبِيهِ وَكَاهِلُهُ، قَالَهُ الْهَرَوِيّ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُمّيَ الْكَاهِنَانِ بِهَذَا «2» .
خُرُوجُ بَنِي النّضِيرِ إلَى خَيْبَرَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ خُرُوجَ بَنِي النّضِيرِ، إلَى خَيْبَرَ، وَأَنّهُمْ اسْتَقَلّوا بِالنّسَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ مَعَهُمْ الدّفُوفُ وَالْمَزَامِيرُ وَالْقِيَانُ يعزفن
__________
(1) محمد بن كعب القرظى المدنى ثم الكوفى أحد العلماء. قال ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظى، وقال ابن سعد: كان ثقة ورعا كثير الحديث، وقد وثقه أبو زرعة والعجلى مات سنة 119، وقيل سنة 120 وقيل سنة 108 «خلاصة تذهيب الكمال والإكمال لولى الدين أبى عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب» .
(2) العرب تسمى كل من يتعاطى علما دقيقا: كاهنا.

(6/236)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَلْفَهُمْ، وَأَنّ فِيهِمْ لَأُمّ عَمْرٍو صَاحِبَةُ عُرْوَةَ بن الورد الّتِي ابْتَاعُوا مِنْهُ، وَكَانَتْ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي غِفَارٍ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ إسْحَاقَ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهَا فِي رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ سَلْمَى، قَالَ الْأَصْمَعِيّ: اسْمُهَا:
لَيْلَى بِنْتُ شَعْوَاءَ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: هِيَ سَلْمَى أُمّ وَهْبٍ امْرَأَةٌ مِنْ كنانة، كانت ناكحا فى مزينة، فأغار عليهم عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدُ، فَسَبَاهَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَوْلُ أَبِي الْفَرَجِ إنّهَا مِنْ كِنَانَةَ لَا يَدْفَعُ قَوْلَ ابْنِ إسْحَاقَ إنّهَا مِنْ غِفَارٍ، لِأَنّ غِفَارَ مِنْ كِنَانَةَ. غِفَارُ بْنُ مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ لَيْثِ «1» بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مناة ابن كِنَانَةَ. وَعُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ بْنِ زَيْدٍ، وَيُقَالُ: ابن عمرو بن ناشب بن هدم ابن عَوْذِ بْنِ غَالِبِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسٍ، فَهُوَ عَبْسِيّ غَطَفَانِيّ قَيْسِيّ، لِأَنّ عَبْسًا هُوَ ابْنُ بِغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ قَالَ فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ:
مَا يَسُرّنِي أَنّ أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ وَلَدَنِي إلّا عُرْوَةُ بن الورد لقوله:
أتهز أمنّى أَنْ سَمِنْت، وَقَدْ تَرَى ... بِجِسْمِي مَسّ الْحَقّ والحقّ جاهد
إنّى امرؤ عافى إنائى شركة ... وأنت امرؤ عَافِي إنَائِك وَاحِدُ
أُقَسّمُ جِسْمِي فِي جُسُومٍ كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد «2»
__________
(1) فى جمهرة ابن حزم: مليل بن ضمرة بن بكر بإسقاط ليث بين ضمرة وبكر ص 175.
(2) هى فى الأمالى ص 204 ح 2 وقد نسب القالى بيتا فى أولها إلى عروة:
لا تشتمنى يا بن ورد فإننى ... تعود على مالى الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق الندوب تكن ... خصاصة جسم وهو طيان ماجد
وقد علق البكرى فى السمط على هذا بقوله: هذا وهم بين وغلط واضح والبيت-

(6/237)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَانَ يُقَالُ: مَنْ قَالَ: إنّ حَاتِمًا أَسْمَحُ الْعَرَبِ، فَقَدْ ظَلَمَ عُرْوَةَ بْنَ الْوَرْدِ «1» ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَكَانَ عُرْوَةُ يَتَرَدّدُ عَلَى بَنِي النّضِيرِ، فَيَسْتَقْرِضُهُمْ إذَا احْتَاجَ، وَيَبِيعُ مِنْهُمْ إذَا غَنِمَ، فَرَأَوْا عِنْدَهُ سَلْمَى، فَأَعْجَبَتْهُمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَبِيعَهَا «2» ، مِنْهُمْ فَأَبَى فَسَقَوْهُ الْخَمْرَ، وَاحْتَالُوا عَلَيْهِ، حَتّى ابْتَاعُوهَا مِنْهُ، وَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ يقول:
سفونى الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وَزُورِ
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ قَوْمَهَا افْتَدَوْهَا مِنْهُ، وَكَانَ يَظُنّ أَنّهَا لَا تَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا تُفَارِقُهُ، فَاخْتَارَتْ قَوْمَهَا، فَنَدِمَ، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا بَنُونَ فَقَالَتْ لَهُ:
وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ امْرَأَةً مِنْ الْعَرَبِ أَرَخْت سِتْرًا عَلَى بَعْلٍ مثلك أغض طرفا،
__________
- الأول لقيس بن زهير يخاطب عروة.. وكان بين قيس وعروة. تنافس وتحاسد، وكان قيس أكولا مبطانا، وكان عروة يعرض له بذلك فى أشعاره. وقيل فى نسب عروة عمرو بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن هرم بن لديم بن عواد الخ، وهو فى الأغانى كذلك. ويعلق الأستاذ الميمنى على هذا بقوله: وخرمه السهيلى فى ح 2 ص 179. ص 822، 723 سمط اللالى. وكان يكنى عروة: أبا الصعاليك، وقيل بل أبا نجدة، وقيل: كنيته ابو المغلس، أو: أبو عبلة وفى السلم: أبو هراشة. وفى الحماسة ثلاثة أبيات من قصيدة عروة هذه، ورواية البيت الأول هكذا:
أتهزأ منى أن سمنت وأن ترى ... بوجهى شحوب الحق والحق جاهد
رفى الأغانى ثلاثة أبيات منها أيضا ص 71 ح 3
(1) ص 71 ح 3 الأغانى ط لبنان.
(2) لعلها: يبيعوها منه.

(6/238)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا أَنْدَى كَفّا وَلَا أَغْنَى غِنَاءً، وَإِنّك لَرَفِيعُ الْعِمَادِ، كَثِيرُ الرّمَادِ، خَفِيفٌ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ، ثَقِيلٌ عَلَى مُتُونِ الْأَعْدَاءِ، رَاضٍ لِلْأَهْلِ وَالْجَارِ، وَمَا كُنْت لَأُوثِرَ عَنْك أَهْلِي، لَوْلَا أَنّي كُنْت أَسْمَعُ بَنَاتَ عَمّك يَقُلْنَ فَعَلَتْ أمة عروة، وقالت أُمّةُ عُرْوَةَ، فَأَجِدُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْتَ، وَاَللهِ لَا يُجَامِعُ وَجْهِي وَجْهَ غَطَفَانِيّةٍ أَبَدًا، فَاسْتَوْصِ بِبَنِيك خَيْرًا، قَالَ ثُمّ تَزَوّجَهَا بَعْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النّضِيرِ «1» ، فَسَأَلَهَا أَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ فِي نَادِي قَوْمِهِ، كَمَا أَثْنَتْ عَلَى عُرْوَةَ، فَقَالَتْ: اُعْفُنِي، فَإِنّي لَا أَقُولُ إلّا مَا عَلِمْته، فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهَا، فَجَاءَتْ حَتّى وَقَفَتْ عَلَى النّادِي، وَهُوَ فِيهِ، فَقَالَتْ: عَمُوا صَبَاحًا، ثُمّ قَالَتْ: إنّ هَذَا أَمَرَنِي أَنْ أَثْنِي عَلَيْهِ بِمَا عَلِمْت فِيهِ، ثُمّ قَالَتْ لَهُ: والله إن شملتك
__________
(1) اقرأ قصتها فى الأغانى ص 72، 73 ح 3 ط لبنان ففى إحدى الروايتين أن قومها هم الذين قالوا لعروة: فادنا بصاحبتنا فانها وسيطة النسب فينا معروفة. فلما نادوه بها خيروها واختارت أهلها ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة أما إنى أقول فيك، وإن فارقتك الحق: والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفا، وأقل فحشا، وأجود يدا. وأحمى لحقيقة وما مر على يوم منذ كنت عندك إلا والموت أحب إلى من الحياة بين قومك لأنى لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته، ووالله لا أنظر فى وجه غطفانية أبدا، فارجع راشدا إلى ولدك وأحسن إليهم ص 73 ح 3 الأغانى ط لبنان وفى رواية أخرى أنها قالت له: والله إنك ما علمت لضحوك مقبلا كسوب مدبرا، خفيف على متن الفرس، ثقيل على العدو، طويل العماد كثير الرماد، راضى الأهل والجانب، فاستوص ببنيك خيرا، ثم فارقته، فتزوجها رجل من بنى عمها. والسهيلى جمع بين الروايتين. أو لعله نقل من كتاب آخر.

(6/239)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا التفاف «1» ، وإن شربك لاشتفاف، وإن ضجعتك لا انجعاف، وَإِنّك لَتَشْبَعُ لَيْلَةً تُضَافُ، وَتَنَامُ لَيْلَةً تَخَافُ «2» ، فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ: قَدْ كُنْت فِي غِنًى عَنْ هَذَا، وَفِيهَا يَقُولُ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ:
أَرِقْت وَصُحْبَتِي بِمَضِيقِ عُمْقٍ ... لِبَرْقِ فِي تِهَامَةَ مُسْتَطِيرِ «3»
إذَا قُلْت اسْتَهَلّ عَلَى قُدَيْدٍ ... يَحُورُ رَبَابُهُ حُورَ الْكَسِيرِ
سَقَى سَلْمَى، وَأَيْنَ مَحَلّ سَلْمَى ... إذَا حَلّتْ مُجَاوِرَةَ السّرِيرِ «4»
إذَا حَلّتْ بِأَرْضِ بَنِي عَلِيّ ... وَأَهْلُك بَيْنَ أَمّرَةٍ وَكِيرِ «5»
ذَكَرْت مَنَازِلًا مِنْ أُمّ وَهْبٍ ... مَحَلّ الْحَيّ أَسْفَلَ ذِي النّقِيرِ «6»
وَآخَرُ «7» مَعْهَدٍ مِنْ أُمّ وَهْبٍ ... مُعَرّسُنَا فُوَيْقَ بَنِي النّضِيرِ «8»
وَقَالَتْ: مَا تُشَاءُ، فَقُلْت: أَلْهُو ... إلَى الْإِصْبَاحِ آثُرَ ذِي أَثِيرِ
بِآنِسَةِ الْحَدِيثِ رُضَابُ فِيهَا ... بُعَيْدَ النّوْمِ كالعنب العصير
__________
(1) فى الأغانى: لا التحاف.
(2) فى الأغانى «وإنك لتنام ليلة تخاض، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضى الأهل ولا الجانب» ص 75 ح 3 الأغانى.
(3) فى الأغانى: من تهامة.
(4) فى الأغانى: كانت مجاورة.
(5) فى الأغانى: وأهلى.
(6) فى الأغانى: من نقير.
(7) فى الأغانى: واحدث.
(8) فى الأغانى: بدار بنى النضير.

(6/240)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَطَعْت الْآمِرِينَ بِصِرْمِ سَلْمَى ... فَطَارُوا فِي بِلَادِ الْيَسْتَعُورِ
سَقَوْنِي الْخَمْرَ ثُمّ تَكَنّفُونِي ... عُدَاةُ اللهِ من كذب وزور
وقالوا لست بَعْدَ فِدَاءِ سَلْمٍ ... بِمُغْنٍ مَا لَدَيْك وَلَا فَقِيرِ
وَلَا وَأَبِيك لَوْ كَالْيَوْمِ أَمْرِي ... وَمَنْ لَك بِالتّدَبّرِ فِي الْأُمُورِ
إذًا لَمَلَكْت عِصْمَةَ أُمّ وَهْبٍ ... عَلَى مَا كَانَ مِنْ حَسَكِ الصّدُورِ
فَيَا لِلنّاسِ كَيْفَ غَلَبْت نَفْسِي ... عَلَى شَيْءٍ وَيَكْرَهُهُ ضَمِيرِي «1»
قَوْلُهُ: السّرِيرُ مَوْضِعٌ فِي نَاحِيَةِ كِنَانَةَ، وَقَوْلُهُ: الْيَسْتَعُورِ: هُوَ مَوْضِعٌ قَبْلَ حَرّةِ الْمَدِينَةِ، فِيهِ عَضّاهُ مِنْ سَمُرٍ وَطَلْحٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْيَسْتَعُورُ شَجَرٌ يَسْتَاكُ بِهِ، يَنْبُتُ بِالسّرَاةِ، وَالْيَسْتَعُورُ أَيْضًا مِنْ أَسْمَاءِ الدّوَاهِي، وَالْيَاءُ فِي الْيَسْتَعُورِ أَصْلِيّةٌ، فَهَذَا شَرْحُ مَا أَوْمَأَ إلَيْهِ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ أُمّ عَمْرٍو، وَإِنّمَا هِيَ أُمّ وَهْبٍ كَمَا تَكَرّرَ فِي شِعْرِهِ.
غَزْوَةُ ذَاتِ الرّقَاعِ وَسُمّيَتْ ذَاتَ الرّقَاعِ، لِأَنّهُمْ رَقّعُوا فِيهَا رَايَاتِهِمْ فِي قَوْلِ ابن هشام، قال:
ويقلل ذَاتُ الرّقَاعِ شَجَرَةٌ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ الرّقَاعِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّهَا أَرْضٌ فِيهَا بُقَعٌ سُودٌ، وَبُقَعٌ بيض، كأنها مرقّعة برقاع مختلفة،
__________
(1) الأبيات: الثانى ثم التاسع والحادى عشر إلى آخر القصيدة ليست فى الأغانى. هذا وقد نصب عداة على الذم فى البيت الأول (عداة الله من كذب وزور) أنظر لهذا ص 225 إعراب ثلاثين سورة لابن خالويه.

(6/241)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَسُمّيَتْ ذَاتَ الرّقَاعِ لِذَلِكَ، وَكَانُوا قَدْ نَزَلُوا فِيهَا فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَأَصَحّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلّهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَالَ:
«خَرَجْنَا مَعَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، وَنَحْنُ سِتّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا، ونقبت قدماى، وسقطت أظفارى، فكنا فلفّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ، فَسُمّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ، لِمَا كُنّا نَعْصِبُ مِنْ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَحَدّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا، ثُمّ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا كُنْت أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ، كَأَنّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ» «1» .
صَلَاةُ الْخَوْفِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَأَوْرَدَهَا مِنْ طُرُقٍ ثَلَاثٍ، وَهِيَ مَرْوِيّةٌ بِصُوَرِ مُخْتَلِفَةٍ أَكْثَرَ مِمّا ذُكِرَ. سَمِعْت شَيْخَنَا أَبَا بَكْرٍ- رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: فِيهَا سِتّ عَشْرَةَ رِوَايَةً، وَقَدْ خَرّجَ الْمُصَنّفُونَ أَصَحّهَا، وَخَرّجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْهَا جُمْلَةً، ثُمّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التّرْجِيحِ، فَقَالَ طَائِفَةٌ: يُعْمَلُ مِنْهَا بِمَا كَانَ أَشْبَهَ بظاهر
__________
(1) هو فى صحيح مسلم أيضا ونقبت أقدامنا: رقت أقدامنا. نعتقبه: نركبه عقبة عقبة، وهو أن يركب هذا قليلا، ثم ينزل فيركب الآخر بالنوبة حتى يأتى على سائرهم. وقد اختلف فى ميقاتها على أقوال ذكرها الحافظ فى الفتح، ثم قال: «وهذا التردد لا حاصل له، بل الذى ينبغى الجزم به أنها بعد غزوة بنى قريظة، لأنه تقدم أن صلاة الخوف فى غزوة الخندق لم تكن شرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف فى غزوة ذات الرقاع، فدل على تأخرها بعد الخندق، ص 335 ح 6 فتح البارى سنة 1348 مطبعة البهية المصرية. وانظر أيضا زاد المعاد ص 274 ح 2 ط السنة المحمدية.

(6/242)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقُرْآنِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُجْتَهَدُ فِي طَلَبِ الْآخِرِ مِنْهَا، فَإِنّهُ النّاسِخُ لِمَا قَبْلَهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُؤْخَذُ بِأَصَحّهَا نَقْلًا، وَأَعْلَاهَا رُوَاةً، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ- وَهُوَ مَذْهَبُ شَيْخِنَا: يُؤْخَذُ بِجَمِيعِهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْخَوْفِ، فَإِذَا اشْتَدّ الْخَوْفُ، أُخِذَ بِأَيْسَرِهَا مُؤْنَةً، فَإِذَا تَفَاقَمَ الْخَوْفُ صَلّوْا بِغَيْرِ إمَامٍ لِقِبْلَةِ أَوْ لِغَيْرِ قِبْلَةٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَلَامٍ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السّلَفِ أَنّ صَلَاةَ الْخَوْفِ، قَدْ تَئُولُ إلَى أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَعْمَعَةِ الْقِتَالِ، وَسَيَأْتِي بَقِيّةُ الْقَوْلِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي خَبَرِ بَنِي قُرَيْظَة إنْ شَاءَ اللهُ «1» ، وَمِمّا تُخَالِفُ بِهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ حُكْمَ غَيْرِهَا أَنّهُ لَا سَهْوَ فِيهَا عَلَى إمَامٍ، وَلَا عَلَى مَأْمُومٍ
__________
(1) روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة عن صالح بن خوات عن سهل بن أبى حثمة- وفى لفظ عمن صلى مع النبى «ص» يوم ذات الرقاع- أن طائفة صفت مع النبى «ص» وطائفة وجاه العدو- أى تجاهه مراقبة له- فصلى بالتى معه ركعة، ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التى بقيت من صلاته، فأتموا لأنفسهم، فسلم بهم» وهذه الكيفية تطابق مفهوم الآية الكريمة، إذ ليس فى الآية ذكر السجود إلا مرة واحدة. وبهذه الصلاة قال على وابن عباس وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو موسى وسهل بن أبى حثمة، وعليها مالك والشافعى وأبو ثور وغيرهم. وهناك رواية أخرى عن أحمد والشيخين مثل هذه غير أنها زادت أن كل فرقة قضت ركعة!! ولكن ليس فى الآية هذا. أما حين يكون خوف من شىء أكثر من الفتنة فقد قال سبحانه (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) جمع راجل وراكب وقد فسرها ابن عمر: قياما على أقدامهم مستقبلى القبلة وغير مستقبليها قال مالك: قال نافع لا أرى عبد الله بن عمر قال إلا عن الرسول «ص» البخارى ومسلم من قول ابن عمر بنحو ذلك، ورواه ابن ماجة عنه مرفوعا، ورواه الشافعى فى الأم.

(6/243)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ بِسَنَدِ ثَابِتٍ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّهُ قَالَ: لَا سَهْوَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.
رَفْعُ الْمَنْصُوبِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ حِينَ أَبْطَأَ بِهِ جَمَلُهُ فَنَخَسَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَخَسَاتٍ، فخرج يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً. الْمُوَاهَقَةُ كَالْمُسَابَقَةِ، وَالْمُجَارَاةِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
تُوَاهِقُ رِجْلَاهَا يَدَاهَا وَرَأْسُهُ ... لَهَا قَتَبٌ خَلْفَ الْحَقِيبَةِ رَادِفُ
رَفَعَ يَدَاهَا وَرِجْلَاهَا رَفْعَ الْفَاعِلِ، لِأَنّ الْمُوَاهَقَةَ، لَا تَكُونُ إلّا مِنْ اثْنَيْنِ، فَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَاعِلٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِ الرّاجِزِ:
قَدْ سَالَمَ الْحَيّاتُ مِنْهُ الْقَدَمَا ... الْأُفْعُوَانَ وَالشّجَاعَ الشّجْعَمَا
[وَذَاتَ قَرْنَيْنِ ضَمُورًا ضِرْزِمَا «1» ]
هَكَذَا تَأَوّلَهُ سِيبَوَيْهِ، وَلَعَلّ هَذَا الشّاعِرَ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ أَنْ يَجْعَلَ التّثْنِيَةَ بِالْأَلِفِ فِي الرّفْعِ وَالنّصْبِ وَالْخَفْضِ كَمَا قَالَ:
تَزَوّدْ مِنّا بَيْنَ أُذُنَاهُ طَعْنَةً ... دَعَتْهُ إلَى هَابِي التّرَابِ عَقِيمِ
__________
(1) الزيادة من الكتاب لسيبويه ص 145 ط أولى، وقد نسبه سيبويه لشاعر قال عنه هو عبد بنى عبس. وقد نسبه فى اللسان إلى مساور بن هند العبسى، وفى شرح الشواهد للشنتمرى نسبه للعجاج. والشهم: الطويل، والضمور: الساكنة المطرقة التى لا تصفر لخبثها. والضرزم: المسنة.

(6/244)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا «1»
وَهِيَ لُغَةُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. وَقَالَ النّحّاسُ فِي الْكِتَابِ المقنع: هى أيضا لغة لخثعم وطيّىء وَأَبْطُنٍ مِنْ كِنَانَةَ، وَالْبَيْتُ أَعْنِي:
تُوَاهِقُ رِجْلَاهَا يَدَاهَا، هُوَ لِأَوْسِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسَدِيّ، وَلَيْسَ مِمّنْ هَذِهِ لُغَتُهُ، فَالْبَيْتُ إذًا عَلَى مَا قاله سيبويه.
__________
(1) أصل الشعر:
واها لليلى ثم واها واها ... هى المنى لو أننا نلناها
يا ليت عينيها لنا وفاها
وقد نسبه الهروى فى التلويح شرح فصيح ثعلب ص 39 ط 1949 إلى أبى النجم العجلى المتوفى نحو سنة 130 هـ وفى بعض الروايات سلمى، وفى بعضها: ريا وقد زاد القالى فى الأمالى: بثمن نرضى به أباها ص 77 ح 1 ط 2 وبعد هذا:
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا فى المجد غايتاها
وفى الصحاح زيادة قبل المنى:
فاضت دموع العين من جراها
وقيل أيضا:
شالوا علينا فشل علاها ... واشدد بمثنى حقب حقواها
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا فى المجد غايتاها
أنظر سمط اللآلى ص 257 وشرح شواهد ابن عقيل للجرجاوى ص 9 وعلى هامشه شرح الشواهد أيضا للشيخ فطه العدوى ص 9.

(6/245)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُسَاوَمَةُ جَابِرٍ فِي جَمَلِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ:
وَذَكَرَ مُسَاوَمَةَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرِ فِي الْجَمَلِ «1» ، حَتّى اشْتَرَاهُ مِنْهُ بأوفيّة، وَأَنّهُ أَعْطَاهُ أَوّلًا دِرْهَمًا، فَقَالَ: لَا إذَا تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ كَانَ أَعْطَاهُ الدّرْهَمَ مَازِحًا، فَقَدْ كَانَ يَمْزَحُ، وَلَا يَقُولُ إلّا حَقّا، فَإِذَا كَانَ حَقّا، فَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ إبَاحَةُ الْمُكَايَسَةِ الشّدِيدَةِ فِي الْبَيْعِ، وَأَنْ يُعْطِيَ فِي السّلْعَةِ مَا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لَهَا بِنَصّ الْحَدِيثِ، وَفِي دَلِيلِهِ أَنّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِمَا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَمَنًا، وَهُوَ عَاقِلٌ بَصِيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ تَدْلِيسٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ بيع ماض لارجوع فِيهِ، وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُ كُلّمَا زَادَ لَهُ دِرْهَمًا قَدْ أَخَذْته بِكَذَا وَاَللهُ يَغْفِرُ لَك، فَكَأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَرَادَ بِإِعْطَائِهِ إيّاهُ دِرْهَمًا دِرْهَمًا أَنْ يُكْثِرَ اسْتِغْفَارَهُ لَهُ، وَفِي جَمَلِ جَابِرٍ هَذَا أُمُورٌ مِنْ الْفِقْهِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ أَنّ طَائِفَةً مِنْ الْفُقَهَاءِ احْتَجّوا بِهِ فِي جَوَازِ بَيْعٍ وَشَرْطٍ «2» ، لِأَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرَطَ لَهُ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعٌ وَشَرْطٌ، وَإِنْ وَقَعَ فَالشّرْطُ بَاطِلٌ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ «3» ، وَاحْتَجّوا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ شُعَيْبٍ عَنْ جدّ أبيه
__________
(1) كما رواه ابن إسحاق رواه ابن سعد فى طبقاته، وفى البخارى فى عشرين موضعا فى بعضها أن ذلك كان فى غزوة تبوك، وفى مسلم أنه فى غزوة الفتح.. وعن نخسه ذكر فى أحمد ومسلم أنه ضربه برجله، ودعا له.
(2) إلى هذا ذهب أحمد والبخارى لكثرة رواة الاشتراط.
(3) إلى هذا ذهب أبو حنيفة والشافعى مطلقا، وتوسط مالك ففصل.

(6/246)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ شَرْطٍ وَبَيْعٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ.
شُعَيْبٌ لَا يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ وَإِنّمَا عَنْ جَدّهِ:
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُسْتَغْرَبَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ جِدّا، لِأَنّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَهُمْ أَنّ شُعَيْبًا إنّمَا يَرْوِي عَنْ جدّه عبد الله، لاعن أَبِيهِ مُحَمّدٍ لِأَنّ أَبَاهُ مُحَمّدًا مَاتَ قَبْلَ جَدّهِ عَبْدِ اللهِ، فَقِفْ عَلَى هَذِهِ التّنْبِيهَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَلّ مَنْ تَنَبّهَ إلَيْهَا، وقالوا: لا حُجّةٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ قَالَ: أَفْقِرْنِي ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ أَنّهُ قَالَ: اسْتَثْنَيْت ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ أَنّهُ قَالَ: شَرَطَ لِي ظَهْرَهُ «1» ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ: الِاشْتِرَاطُ أَكْثَرُ وَأَصَحّ، وَكَذَلِكَ اضْطَرَبُوا فِي الثّمَنِ، فَقَالُوا: بِعْته مِنْهُ بِأُوقِيّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَرْبَعِ أَوَاقِيّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِخَمْسِ أَوَاقِيّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فِي مَعْنَى الْأُوقِيّةِ، وَكُلّ هَذِهِ الرّوَايَاتِ قَدْ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيّ، وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ: دِينَارَيْنِ وَدِرْهَمَيْنِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِإِبْطَالِ الشّرْطِ، وَجَوَازِ الْبَيْعِ، وَاحْتَجّوا بِحَدِيث بَرِيرَةَ حِينَ بَاعَهَا أَهْلُهَا مِنْ عَائِشَةَ، واشترطوا لولاء فأجاز النبىّ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) وفى رواية: وشرطت ظهره إلى المدينة.

(6/247)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشّرْطَ «1» ، وَاسْتَعْمَلَ مَالِكٌ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَجْمَعَ، فَقَالَ:
بِإِبْطَالِ الْبَيْعِ وَالشّرْطِ عَلَى صُورَةٍ، وَبِجِوَازِهِمَا عَلَى صُورَةٍ أُخْرَى، وَبِإِبْطَالِ الشّرْطِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى صُورَةٍ أَيْضًا، وَذَلِكَ بَيّنٌ فِي الْمَسَائِلِ لِمَنْ تَدَبّرَهَا، وَأَبْيَنُ مَا تُوجَدُ مُحْكَمَةَ الْأُصُولِ مُسْتَثْمَرَةَ الْجَنَا وَالْفُصُولِ فِي كِتَابِ الْمُقَدّمَاتِ لِابْنِ رُشْدٍ، فَلْيَنْظُرْهَا هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَهَا «2» .
الْحِكْمَةُ مِنْ مُسَاوَمَةِ النّبِيّ لِجَابِرِ:
فَصْلٌ: وَمِنْ لَطِيفِ الْعِلْمِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بَعْدَ أَنْ تَعْلَمَ قَطْعًا أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ شَيْئًا عَبَثًا بَلْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ مَقْرُونَةً بِالْحِكْمَةِ وَمُؤَيّدَةً بِالْعِصْمَةِ، فَاشْتِرَاؤُهُ الْجَمَلَ مِنْ جَابِرٍ ثُمّ أَعْطَاهُ الثّمَنَ، وَزَادَهُ عَلَيْهِ زِيَادَةً، ثُمّ رَدّ الْجَمَلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ الْعَطَاءَ دُونَ مُسَاوَمَةٍ فِي الْجَمَلِ، وَلَا اشْتِرَاءٍ وَلَا شَرْطٍ وَلَا تَوْصِيلٍ، فَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ بَدِيعَةٌ جِدّا، فَلْتَنْظُرْ بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ، وَذَلِكَ أَنّهُ سَأَلَهُ: هَلْ تَزَوّجْت، ثُمّ قَالَ لَهُ: هَلّا بِكْرًا، فَذَكَرَ لَهُ مَقْتَلَ أَبِيهِ، وَمَا خَلّفَ مِنْ الْبَنَاتِ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ أَخْبَرَ جَابِرًا بِأَنّ اللهَ، قَدْ أَحْيَا أَبَاهُ، وَرَدّ عَلَيْهِ رُوحَهُ، وَقَالَ:
مَا تَشْتَهِي فَأَزِيدُك، فَأَكّدَ عَلَيْهِ السّلَامُ هَذَا الْخَبَرَ بِمِثْلِ مَا يُشْبِهُهُ، فَاشْتَرَى مِنْهُ الْجَمَلَ، وَهُوَ مَطِيّتُهُ، كَمَا اشْتَرَى اللهُ تَعَالَى من أبيه، ومن الشّهداء أنفسهم
__________
(1) عن عائشة أنها أرادت أن تشترى بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله «ص» فقال اشتريها واعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه ولم يذكر البخارى لفظة: أعتقيها. وروى بصورة أخرى أطول من هذه
(2) أنظر فى ص 132 ح 2 من بآية المجتهد لابن رشد ط 1333.

(6/248)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِثَمَنِ هُوَ الْجَنّةُ، وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ مَطِيّتُهُ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إنْ نَفْسِي مَطِيّتِي، ثُمّ زَادَهُمْ زِيَادَةً فَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ يُونُسَ: 26، ثُمّ رَدّ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ الّتِي اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَالَ:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً آلَ عِمْرَانَ 169 الْآيَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِاشْتِرَائِهِ الْجَمَلَ مِنْ جَابِرٍ وَإِعْطَائِهِ الثّمَنَ وَزِيَادَتِهِ عَلَى الثّمَنِ، ثُمّ رَدّ الْجَمَلِ الْمُشْتَرَى عَلَيْهِ، أَشَارَ بِذَلِكَ كُلّهِ إلَى تَأْكِيدِ الْخَبَرِ الّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِأَبِيهِ، فَتَشَاكَلَ الْفِعْلُ مَعَ الْخَبَرِ، كَمَا تَرَاهُ، وَحَاشَ لِأَفْعَالِهِ أَنْ تَخْلُوَ مِنْ حِكْمَةٍ، بَلْ هِيَ كُلّهَا نَاظِرَةٌ إلَى الْقُرْآنِ وَمُنْتَزَعَةٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سِيَاقُهُ الْحَدِيثَ عَنْ عَمْرِو بن عبيد:
فصل: وحدّث عن عمر عُبَيْدٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ جَابِرٍ، وَذَكَرَ حَدِيثَ غَوْرَثَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فَقَالَ فِيهِ: غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ «1» ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخَطّابِيّ، فَقَالَ فِيهِ: أَنّهُ لَمّا هَمّ بِقَتْلِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُمِيَ بِالزّلَخَةِ فَنَدَرَ السّيْفُ مِنْ يَدِهِ، وَسَقَطَ إلَى الْأَرْضِ. الزّلَخَةُ: وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي الصّلْبِ، وَأَمّا رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَأَعْجَبُ شَيْءٍ سِيَاقَتُهُ إيّاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَقَدْ رَوَاهُ الْأَثْبَاتُ عَنْ جَابِرٍ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ مُتّفَقٌ عَلَى وَهْنِ حَدِيثِهِ، وَتَرْكِ الرّوَايَةِ عَنْهُ، لِمَا اشْتَهَرَ مِنْ بدعته، وسوء نحلته،
__________
(1) يقال أيضا بضم الغين. ووقع عند الخطيب بالكاف بدلا من الثاء وحكى الخطابى فيه غويرث. وقد ذكر فى غزوة ذى أمر بناحية نجد مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور.

(6/249)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنّهُ حُجّةُ الْقَدَرِيّةِ، فِيمَا يُسْنِدُونَ إلَى الْحَسَنِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ، وَقَدْ بَرّأَهُ اللهُ مِنْهُ، وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا، وَأَمّا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ بْنِ دَأْبٍ، فَقَدْ «1» كَانَ عَظِيمًا فِي زَمَانِهِ عَالِيَ الرّتْبَةِ فِي الْوَرَعِ، حَتّى اُفْتُتِنَ بِهِ، وَبِمَقَالَتِهِ أُمّةٌ فَصَارُوا قدريّة، وقد ببز بِمَذْهَبِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَلَمْ يُسْقَطْ حَدِيثُهُمْ، لِأَنّهُمْ لَمْ يُجَادِلُوا عَلَى مَذْهَبِهِمْ، وَلَا طَعَنُوا فِي مُخَالِفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ السّنّةِ، كَمَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ. فَمِمّنْ نُبِزَ بِالْقَدَرِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَقَتَادَةُ وَدَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَطَائِفَةٌ سِوَاهُمْ مِنْ الْأَثْبَاتِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يُكَنّى أَبَا عُثْمَانَ وَأَبُوهُ عُبَيْدُ بْنُ دَأْبٍ كَانَ صَاحِبَ شُرْطَةٍ فِيمَا ذَكَرُوا وَسَمِعَ يَوْمًا ناسا يقولون فِي ابْنِهِ هَذَا خَيْرُ النّاسِ ابْنُ شَرّ النّاسِ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِمْ، وَقَالَ: وَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ هَذَا؟ هُوَ كَإِبْرَاهِيمَ وَأَنَا كَآزَرَ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، يَقُولُ بَعْدَ مَوْتِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ يُسْتَحْيَا مِنْهُ «2» بَعْدَ عمرو، وكان يقول:
__________
(1) توفى عمرو بن عبيد سنة 144 بحران ورثاه المنصور، قالوا: ولم يسمع بخليفة رثى من دونه سواه.
(2) قال المنصور قولته لما مات ابن أبى ليلى وعمرو بن عبيد ص 94 ح 2 البيان للجاحظ. ومن أقوال عمرو الطيبة أن أحدهم قال له: إنى لأرحمك مما يقول الناس فيك، قال: أسمعتنى أذكر فيهم شيئا؟ قال: لا، قال: إياهم فارحم. وقوله لأبى جعفر: إن الله قد وهب لك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك ببعضها، فلو أن هذا الأمر الذى صار إليك بقى فى يدى من كان قبلك لم يصل إليك، وتذكر يوما يتمخض بأهله لا ليلة بعده ص 65 ح 4 البيان. ومن دعائه: اللهم اغننى بالافتقار إليك، ولا تفقرنى بالاستغناء عنك ص 271 ح 2 البيان. اللهم أعنى على الدنيا بالقناعة. وعلى الدين بالعصمة.

(6/250)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كُلّكُمْ خَاتِلُ صَيْدٍ ... كُلّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدٍ
غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ
وَقَدْ نُبِزَ ابْنُ إسْحَاقَ بِالْقَدَرِ أَيْضًا، وَرِوَايَتُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ تُؤَيّدُ قَوْلَ مَنْ عَزَاهُ إلَيْهِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ «1» .
__________
(1) وروى صاحب العقد الفريد أن عمرا بعد أن نصح أبا جعفر النصيحة التى سبق ذكرها أتبعه أبو جعفر بصرة فلم يقبلها، وجعل يقول:
كلكم يمشى رويد ... كلكم خاتل صيد
غير عمرو بن عبيد
وفى رواية: كلكم يطلب صيد واقرأ نصيحته الرائعة المنصور فى ترجمته فى الملل والنحل للشهرستانى. ومن رثاء المنصور له كما ذكر الشهرستانى:
لو أن هذا الأمر أبقى صالحا ... أبقى لنا عمرا أبا عثمان
وقيل لما حضرته الوفاة قال لصاحبه: نزل بى الموت، ولم أتأهب له، ثم قال: الهم إنك تعلم أنه لم يسنح لى أمران فى أحدهما رضا لك، وفى الآخر هوى لى إلا اخترت رضاك على هواى فاغفر لى، ومات عن 64 عاما. والقدرية تقال باطلاقين الأولى على الذين ينفون القدر، والآخرين على الذين يثبتونه مع نفى الشرع. والقدرية كما يعرفهم ابن تيمية- هم الذين خاضوا فى قدر الله بالباطل، وأصل ضلالهم ظنهم أن القدر يناقض الشرع، فصاروا حزبين حزبا يعظمون الشرع والأمر والنهى والوعد والوعيد، واتباع ما يحبه الله ويرضاه، وهجر ما يبغضه وما يسخطه، وظنوا أن هذا لا يمكن أن يجمع بينه وبين القدر» .. وقد وصف هذا الحزب بأنه يكذب بالقدر وينفيه، أو ينفى بعضه ثم قال عن الحزب الثانى «وحزبا يغلب القدر، فينفى الشرع فى الباطن، أو ينفى حقيقته، ويقول: لا فرق بين ما أمر الله به وما نهى عنه فى نفس الأمر الجميع سواء، وكذلك أولياؤه وأعداؤه، وكذلك ما ذكر أنه يحبه وذكر أنه يبغضه لكنه فرق بين المتماثلين بمحض المشيئة، يأمر بهذا، وينهى عن مثله، فجحدوا-
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
- الفرق والفصل الذى بين التوحيد والشرك وبين الإيمان والكفر وبين الطاعة والمعصية وبين الحلال والحرام» ثم عاد يسم الحزب الاول وهم نفاة القدر أو بعضه أنهم أنكروا الجمع وأنكروا أن يكون الله على كل شىء قدير، ومنهم من أنكر أن يكون الله بكل شىء عليما، وأنكروا أن يكون خالقا لكل شىء» ثم وازن بين الفريقين فقال عن نفاة الشرع الذين يسوون بين الأمر والنهى «هؤلاء نفوا حكمته وعدله، وأولئك- أى نفاة القدر- نفوا قدرته ومشيئته» وشبه هؤلاء بالمجوس، وشبه الآخرين بالمشركين ص 164 وما بعدها ح 1 مجموعة الرسائل الكبرى، وقد أبدع فيها كعادته رضى الله عنه. وعمرو بن عبيد هو من نفاة القدر الذين سموا بالمعتزلة. يقول ابن تيمية «وكانت الخوارج قد تكلموا فى تكفير أهل الذنوب من أهل القبلة، وقالوا: إنهم كفار مخلدون فى النار، فخاض الناس فى ذلك، وخاض فى ذلك القدرية بعد موت الحسن البصرى، فقال عمرو بن عبيدة وأصحابه: لا هم مسلمون، ولا كفار، بل لهم منزلة بين المنزلتين، وهم مخلدون فى النار، فوافقوا الخوارج على أنهم مخلدون، وعلى أنه ليس معهم من الإسلام والإيمان شى ولكن لم يسموهم كفارا، واعتزلوا حلقة أصحاب الحسن البصرى عن قتادة وأيوب السختيانى وأمثالها، فسموا معتزلة من ذلك الوقت بعد موت الحسن» ص 27. المصدر السابق وهناك آراء أخرى فى سبب تلقيبهم بالمعتزلة ولكن ابن تيمية فى موازنته العادلة يقول عن المعتزلة «ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة- أى الشيعة الذين رفضوا إمامة زيد- ومن الخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان، وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون عليا، ومنهم من يفضله على أبى بكر وعمر، وكلهم يتولى عثمان، ويعظمون أبا بكر وعمر، ويعظمون الذنوب، فهم يتحرون الصدق كالخوارج لا يختلقون الكدب كالرافضة ولا يرون اتخاذ دار غير دار الاسلام كالخوارج، ولهم كتب فى تفسير القرآن، ونصر الرسول ولهم محاسن كثيرة يترجحون على الخوارج والروافض، وهم قصدهم إثبات توحيد-

(6/251)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقْعَةُ الْحَرّةِ وَمَوْقِفُ الصّحَابَةِ مِنْهَا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قول جابر: فو الله مَا زَالَ يَنْمِي عِنْدَنَا، وَيُرَى مَكَانُهُ مِنْ مِنْ بَيْتِنَا حَتّى أُصِيبَ فِيمَا أُصِيبَ مِنّا يَوْمَ الْحَرّةِ يَعْنِي: وَقْعَةَ الْحَرّةِ «1» الّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ أَيّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَلَى يَدِي مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ الْمُرّيّ الّذِي يُسَمّيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مُسْرِفَ بْنَ عُقْبَةَ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَلَعُوا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَأَخْرَجُوا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَبَنِيّ «2» أُمَيّة، وَأَمّرُوا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ الّذِي غَسّلَتْ أَبَاهُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يُوَافِقْ عَلَى هَذَا الْخَلْعِ أَحَدٌ مِنْ أَكَابِرِ الصّحَابَةِ الّذِينَ كَانُوا فِيهِمْ. رَوَى الْبُخَارِيّ أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ لَمّا أُرْجِفَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِيَزِيدَ دَعَا بَنِيهِ وَمَوَالِيَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: إنّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ اللهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ، وَإِنّهُ وَاَللهِ لَا يَبْلُغَنّي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنّهُ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ إلّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ثُمّ لَزِمَ بَيْتَهُ، وَلَزِمَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ بَيْتَهُ، فَدُخِلَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ الّتِي اُنْتُهِبَتْ الْمَدِينَةُ فِيهَا، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ أَيّهَا الشّيْخُ؟ فَقَالَ: أنا أبو سعيد الخدرى
__________
- الله ورحمته وحكمته وصدقه وطاعته، وأصولهم الخمس عن هذه الصفات الخمس، ولكنهم غلطوا فى بعض ما قالوه فى كل واحد من أصولهم الخمس» ثم عدد أحطاءهم رضى الله عنهم ص 75 ح 1 المصدر السابق.
(1) الحرة سنة 63 هـ ص 282 ح 5 الطبرى.
(2) وأخرجوا عثمان بن محمد بن أبى سفيان عامل يزيد وقد طلب يزيد من مسلم أن يدعو القوم ثلاثا، فان هم أجابوه وإلا قاتلهم، وأمره أن يبحث عن على بن الحسين وأن يكف عنه، وأن يستوصى به خيرا، وأن يدنى منه مجلسه. وكان على قد رفض أن يخب فى الفتنة.

(6/253)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَاحِبُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا خَبَرَك، وَلَنِعْمَ مَا فَعَلْت حِينَ كَفَفْت يَدَك، وَلَزِمْت بَيْتَك، وَلَكِنْ هَاتِ الْمَالَ، فَقَالَ قَدْ أَخَذَهُ الّذِينَ دَخَلُوا قَبْلَكُمْ عَلَيّ، وَمَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَقَالُوا: كَذَبْت وَنَتَفُوا لِحْيَتَهُ، وَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا حَتّى صُوفَ الْفَرْشِ، وَحَتّى أَخَذُوا زَوْجَيْنِ مِنْ حَمَامٍ كَانَ صِبْيَانُهُ يَلْعَبُونَ بِهِمَا. وَأَمّا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الّذِي كُنّا بِمَسَاقِ حَدِيثِهِ، فَخَرَجَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَطُوفُ فِي أَزِقّةِ الْمَدِينَةِ وَالْبُيُوتُ تُنْتَهَبُ، وَهُوَ أَعْمَى، وَهُوَ يَعْثِرُ فِي الْقَتْلَى، وَيَقُولُ تَعِسَ مَنْ أَخَافَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: وَمَنْ أَخَافَ رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أَخَافَ الْمَدِينَةَ، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ جَنْبَيّ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَأَجَارَهُ مِنْهُمْ مَرْوَانُ، وَأَدْخَلَهُ بَيْتَهُ، وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ وُجُوهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَخْلَاطِ النّاسِ عَشَرَةُ آلَافٍ سِوَى النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ دَخَلَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشّامِ، وَهِيَ تُرْضِعُ صَبِيّهَا، وَقَدْ أَخَذَ مَا كَانَ عِنْدَهَا، فَقَالَ لَهَا: هَاتِ الذّهَبَ، وَإِلّا قَتَلْتُك، وَقَتَلْت صَبِيّك، فَقَالَتْ: وَيْحَك إنْ قَتَلْته فَأَبُوهُ أَبُو كَبْشَةَ صَاحِبُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا مِنْ النّسْوَةِ اللّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا خُنْت اللهَ فِي شَيْءٍ بَايَعْت رَسُولَهُ عَلَيْهِ، فَانْتَفَضَ الصّبِيّ مِنْ حِجْرِهَا، وَثَدْيُهَا فِي فِيهِ، وَضَرَبَ بِهِ الْحَائِطَ حَتّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ فِي الْأَرْضِ وَالْمَرْأَةُ تَقُولُ: يَا بُنَيّ لَوْ كان عندى شى نَفْدِيك بِهِ، لَفَدَيْتُك، فَمَا خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ حَتّى اسْوَدّ نِصْفُ وَجْهِهِ، وَصَارَ مُثْلَةً فِي الناس.

(6/254)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَأَحْسَبُ أَنّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ جَدّةُ للصبى، لَا أُمّا لَهُ، إذْ يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تُبَايِعَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَتَكُونَ يَوْمَ الحرّة فى سنّ من ترضيع.
وَالْحَرّةُ الّتِي يُعْرَفُ بِهَا هَذَا الْيَوْمُ يُقَالُ لَهَا حَرّةُ زُهْرَةَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ بِهَا، وَقَالَ: لَيُقْتَلَنّ بِهَذَا الْمَكَانِ رِجَالٌ هُمْ خِيَارُ أُمّتِي بَعْدَ أَصْحَابِي، وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ، أَنّهُ قَالَ: لَقَدْ وَجَدْت صِفَتَهَا فِي كِتَابِ يَهُودَ بْنِ يَعْقُوبَ الّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ تَبْدِيلٌ، وَأَنّهُ يُقْتَلُ فِيهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ يَجِيئُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسِلَاحُهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَعُرِفَتْ حَرّةُ زُهْرَةَ بِقَرْيَةِ كَانَتْ لِبَنِي زُهْرَةَ قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ، وَكَانَتْ كَبِيرَةً فِي الزّمَانِ الْأَوّلِ، وَيُقَالُ كَانَ فِيهَا ثَلَاثُمِائَةِ صَائِغٍ، ذَكَرَ هَذَا الزّبَيْرُ فِي فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ لَهُ: وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتّينَ، وَقَدْ كَانَ يزيد ابن مُعَاوِيَةَ قَدْ أَعْذَرَ إلَيْهِمْ فِيمَا ذَكَرُوا، وَبَذَلَ لَهُمْ مِنْ الْعَطَاءِ أَضْعَافَ مَا يُعْطِي النّاسَ وَاجْتَهَدَ فِي اسْتِمَالَتِهِمْ إلَى الطّاعَةِ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ الْخِلَافِ، وَلَكِنْ أَبَى اللهُ إلّا مَا أَرَادَ، وَاَللهُ يَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «1» البقرة: 134، 141.
__________
(1) أنظر ص 282 ح 5 الطبرى. وقد أحسن السهيلى فى ختام كلامه عن هذه الفتنة وإن كان قد نقل مبالغات عن كتاب الحرة للواقدى وما ذكره من أحاديث فيها شىء لا يعتد به فما أخرج واحدا منها أحد من أصحاب الصحيح ولا أصحاب السنن، فقد نقلها عن كتاب الحرة للواقدى، وانظر ص 85 ح 1 من كتاب وفاء الوفا للسمهودى وفى كتابه أيضا عن حرة واقم: هى حرة المدينة الشرقية. وتسمى أيضا حرة بنى قريظة لأنهم كانوا بطرفها القبلى وحرة زهرة لمجاورتها لها

(6/255)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْنَى الرّبِيئَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ الْأَنْصَارِيّ وَالْمُهَاجِرِيّ، وَهُمَا عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَنّ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوّ رَمَى الْأَنْصَارِيّ بِسَهْمِ، وَهُوَ يُصَلّي لَمّا عَلِمَ أَنّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ. الرّبِيئَةُ هُوَ الطّلِيعَةُ، يُقَالُ: رَبَأَ عَلَى الْقَوْمِ يَرْبَأُ فَهُوَ رَبّاءٌ وَرَبِيئَةٌ قَالَ الشّاعِرُ [الْهُذَلِيّ] :
ربّاء شمّة لَا يَأْوِي لِقُلّتِهَا ... إلّا السّحَابُ وَإِلّا الْأَوْبُ وَالسّبَلُ
«1» فَرَبّاءُ: فَعّالُ مِنْ رَبَا إذَا نَظَرَ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، وَشَمّاءُ، يُرِيدُ هَضْبَةً شَمّاءَ، وَإِنّمَا قَالُوا: رَبِيئَةٌ بِهَاءِ التّأْنِيثِ، وَطَلِيعَةٌ؛ لِأَنّهُمَا فِي مَعْنَى الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ مُؤَنّثَةٌ، تَقُولُ: ثَلَاثُ أَعْيُنٍ، وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا، يَعْنِي الطّلَائِعَ، لِأَنّ الطّلِيعَةَ وَالرّبِيئَةَ إنّمَا يُرَادُ مِنْهُ عَيْنُهُ النّاظِرَةُ، كَمَا تَقُولُ فِي ثَلَاثَةِ أَعْبُدٍ: أَعْتَقْت ثَلَاثَ رِقَابٍ، فَتُؤَنّثُ، لِأَنّ الرّقَبَةَ تَرْجَمَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ، كَمَا أَنّ الْعَيْنَ الّذِي هُوَ الطّلِيعَةُ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي رَبِيئَةٍ وَطَلِيعَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا هِيَ فِي عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوّلِ تَقُولُ: ثَلَاثَ طَلَائِعَ، وَثَلَاثَ رَبَايَا فِي جَمْعِ رَبِيئَةٍ، كَمَا تَقُولُ: ثَلَاثَ أَعْيُنٍ، لِأَنّهُ بَابٌ وَاحِدٌ مِنْ التّأْنِيثِ، وَإِذَا كَانَتْ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ قُلْت: ثَلَاثَةً وَأَرْبَعَةً، لِأَنّك تَقْصِدُ التّذْكِيرَ، لِأَنّ هَاءَ الْمُبَالَغَةِ لَا تُوجِبُ تَأْنِيثَ الْمُسَمّى، وَلِأَنّهَا فِي الصّفَةِ، وَالصّفَةُ بَعْدَ الْمَوْصُوفِ؛ وَلِذَلِكَ تَقُولُ: هَذَا عَلّامَةٌ، وَلَا تَقُولُ: هذه علّامة بخلاف الرّقبة والعين،
__________
(1) سبق الكلام عن البيت فى الجزء لأول وفى المستدركات فى الجزء الثانى.

(6/256)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنّك تَقُولُ فِي الْعَبْدِ الذّكَرِ: هَذِهِ رَقَبَةٌ فَأَعْتِقْهَا، وَفِي الْعَيْنِ: هَذِهِ طَلِيعَةٌ، وَهَذِهِ عَيْنٌ، وَأَنْت تَعْنِي الرّجُلَ. هَذَا مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
فِقْهُ الْحَدِيثِ:
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ صَلَاةُ الْمَجْرُوحِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَقَدْ تَرْجَمَ بَعْضُ الْمُصَنّفِينَ عليه لموضع هذا الْفِقْهِ، وَفِيهِ مُتَعَلّقٌ لِمَنْ يَقُولُ: إنّ غُسْلَ النّجَاسَةِ، لَا يُعَدّ فِي شُرُوطِ صِحّةِ الصّلَاةِ، وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا تَعْظِيمُ حُرْمَةِ الصّلَاةِ، وَأَنّ لِلْمُصَلّي أَنْ يَتَمَادَى عَلَيْهَا، وَإِنْ جَرّ إلَيْهِ ذَلِكَ الْقَتْلَ، وَتَفْوِيتُ النّفْسِ، مَعَ أَنّ التّعَرّضَ لِفَوَاتِ النّفْسِ، لَا يَحِلّ إلّا فِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ أُضَيّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِهِ لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِذَهَا، يَعْنِي:
السّورَةَ الّتِي كَانَ يَقْرَؤُهَا.
حَوْلَ رَجَزِ مَعْبَدٍ وَشِعْرِ حَسّانَ وَأَبِي سُفْيَانَ:
وَذَكَرَ قَوْلَ مَعْبَدٍ:
وَعَجْوَةٍ مِنْ يَثْرِبَ كَالْعَنْجَدِ
الْعَنْجَدُ: حَبّ الزّبِيبِ، وَقَدْ يُقَالُ للزبيب نَفْسُهُ أَيْضًا عَنْجَدٌ، وَأَمّا الْعِنَبُ، فَيُقَالُ: لِعَجْمِهِ: الفرصد. والأتلد: الأقدم من المال التّلبد.
وَأَمّا قَوْلُ حَسّانَ:

(6/257)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دَعُوا فَلَجَاتِ الشّامِ جَمْعُ فَلَجٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْجَارِي، سُمّيَ فَلَجًا، لِأَنّهُ قَدْ خَدّ فِي الْأَرْضِ، وَفَرّقَ بَيْنَ جَانِبَيْهِ مَأْخُوذٌ مِنْ فَلَجِ الْأَسْنَانِ، أَوْ مِنْ الْفَلْجِ وَهُوَ الْقَسْمُ، وَالْفَالِجُ مِكْيَالٌ يُقْسَمُ بِهِ، وَالْفَلْجُ وَالْفَالِجُ بَعِيرٌ ذُو سَنَامَيْنِ؛ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَرَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْحَاءِ وَقَالَ: الْفَلْجَةُ الْمَزْرَعَةُ «1» .
وَذَكَرَ شِعْرَ أبى سفيان:
أحسّان إنّا يابن آكِلَةِ الْفَغَا
الْفَغَا: ضَرْبٌ مِنْ التّمْرِ، وَيُقَالُ: هِيَ غَبَرَةٌ تَعْلُو، الْبُسْرَ، وَالْغَفَالِغَةُ فِي الْفَغَا «2» .
وفيه:
كمأخذكم بالعين «3» أرطال آنك
__________
(1) وفى اللسان: الفلجات: المزارع وقد استشهد بالبيت المذكور. وفى مادة فلح يقول: «الفلحة القراح الذى اشتق للزرع عن أبى حنيفة، وأنشد لحسان: دعوا فلحات ... الخ يعنى المزارع. ومن رواه فلجات فمعناه: ما اشتق من الأرض للديار، كل ذلك قول أبى حنيفة» .
(2) الفغا: البسر الفاسد المغبر، أو هو فساد البسر، والغفا ما يخرج من الطعام فيرمى به والردىء من كل شىء من الناس والمأكول والمشروب والمركوب.
(3) العين هنا: المال الحاضر، والعين أيضا الدر وكلاهما يصلح هاهنا. ومن رواه بالعير فالعير الرفقة من الإبل، والآلك: الأسرب وهو القزدير «الخشنى ص 298» وقيل عن الآنك إنه الرصاص القعلى. -

(6/258)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَلْفَيْتُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فِي حَاشِيَةِ أَبِي بَحْرٍ مَا هَذَا نَصّهُ: ذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ سَلَامٍ فِي الطّبَقَاتِ لَهُ هَذَا الْبَيْتَ:
حَسِبْتُمْ جِلَادَ الْقَوْمِ حَوْلَ بُيُوتِكُمْ ... كَأَخَذِكُمْ فِي الْعَيْنِ أَرْطَالَ آنِكِ
وَوَصَلَ بِهِ بِأَنْ قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ:
يَا ابْنَ أَخِي: لِمَ جَعَلْتهَا آنِكِ إنْ كَانَتْ لَفِضّةً بَيْضَاءَ جَيّدَةً.
وَقَوْلُهُ:
سَعِدْتُمْ بِهَا وَغَيْرُكُمْ كَانَ أَهْلَهَا
وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ: شَقِيتُمْ بِهَا وَغَيْرُكُمْ أَهْلُ ذِكْرِهَا.
وَقَوْلُهُ:
خَرَجْنَا وما تنجو اليعافير بيننا
اليعافير: الظّبياء الْعُفْرُ «1» يُرِيدُ أَنّهُمْ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ لَا تَنْجُوا منهم اليعافير.
__________
- وقيل هو الرصاص الأبيض، وقيل الأسود. وقيل الخالص منه. ويقال: لم يجىء على مثال فاعل بضم العين غيره أو أفعل واحدا غيره، فأما أشد فمختلف فيه هل هو واحد أو جمع.
(1) جمع أعفر وهو من الظباء ما يعلو بياضه حمرة، أو الذى فى سراته حمرة وأقرابه بيض، أو الأبيض ليس بالشديد البياض.

(6/259)