الروض
الأنف ت الوكيل [غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ]
[الأمر الإلهى بِحَرْبِ بَنِي قُرَيْظَةَ]
فَلَمّا كَانَتْ الظّهْرُ، أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، كَمَا حَدّثَنِي الزّهْرِيّ، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةِ
مِنْ إسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا
قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ، فَقَالَ: أَوَقَدْ وَضَعْتَ السّلَاحَ يَا
رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ:
فَمَا وَضَعَتْ الْمَلَائِكَةُ السّلَاحَ بَعْدُ، وَمَا رَجَعَتْ الْآنَ
إلّا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ يَأْمُرُك يَا مُحَمّدُ
بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم.
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُؤَذّنًا، فَأَذّنَ
فِي النّاسِ، مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَا يُصَلّيَنّ الْعَصْرَ
إلّا بِبَنِي قُرَيْظَة.
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، فِيمَا قال ابن
هشام.
[علىّ يبلغ الرسول ما سمعه من بنى قريظة]
قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/282)
بِرَايَتِهِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ،
وَابْتَدَرَهَا النّاسُ. فَسَارَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَتّى إذَا
دَنَا مِنْ الْحُصُونِ سَمِعَ مِنْهَا مَقَالَةً قَبِيحَةً لِرَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَرَجَعَ حَتّى لَقِيَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطّرِيقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، لَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْنُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَخَابِثِ، قَالَ:
لِمَ؟ أَظُنّك سَمِعْت مِنْهُمْ لِي أَذًى؟ قَالَ:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: لَوْ رَأَوْنِي لَمْ يَقُولُوا مِنْ
ذَلِكَ شَيْئًا. فَلَمّا دَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم من
حُصُونِهِمْ. قَالَ: يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ، هَلْ أَخْزَاكُمْ اللهُ
وَأَنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ؟ قَالُوا يَا أَبَا القاسم، ما كنت جهولا.
[جبريل فى صورة دحية]
وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفَرٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ بِالصّوْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ،
فَقَالَ: هَلْ مَرّ بِكُمْ أَحَدٌ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ مَرّ
بِنَا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ، عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ
عَلَيْهَا رِحَالَةٌ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ دِيبَاجٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذلك جِبْرِيلُ،
بُعِثَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَيَقْذِفُ
الرّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَلَمّا أَتَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَنِي
قُرَيْظَةَ: نَزَلَ عَلَى بِئْرٍ مِنْ آبَارِهَا مِنْ ناحية أموالهم، يقال
لها بئر أنا.
قال ابن هشام: بئر آنىّ.
[تلاحق الناس بِالرّسُولِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَتَلَاحَقَ بِهِ النّاسُ، فَأَتَى رِجَالٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ الْعِشَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/283)
الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُصَلّوا الْعَصْرَ،
لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: لَا يُصَلّيَنّ
أَحَدٌ الْعَصْرَ إلّا بِبَنِي قُرَيْظَةَ، فَشَغَلَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ
مِنْهُ بُدّ فِي حَرْبِهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُصَلّوا، لِقَوْلِ رَسُولِ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: حَتّى تَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ.
فَصَلّوْا الْعَصْرَ بِهَا، بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَمَا عَابَهُمْ
اللهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَا عَنّفَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. حَدّثَنِي بِهَذَا الحديث أبى إسْحَاقَ بْنُ
يَسَارٍ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بن مالك الأنصارى.
[الحصار]
(قَالَ) : وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً حَتّى جَهَدَهُمْ الْحِصَارُ، وَقَذَفَ اللهُ
فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ.
وَقَدْ كَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ دَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي
حِصْنِهِمْ، حِينَ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ، وَفَاءً
لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا كَانَ عَاهَدَهُ عليه.
[نصيحة كعب بن أسد لقومه]
فَلَمّا أَيْقَنُوا بِأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتّى يُنَاجِزَهُمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ
لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنْ الْأَمْرِ مَا
تَرَوْنَ، وَإِنّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خِلَالًا ثَلَاثًا، فَخُذُوا أَيّهَا
شِئْتُمْ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: نُتَابِعُ هذا الرجل ونصدّقه فو الله لَقَدْ تَبَيّنَ لَكُمْ أَنّهُ
لَنَبِيّ مُرْسَلٌ، وَأَنّهُ لَلّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ،
فَتَأْمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ
وَنِسَائِكُمْ، قَالُوا:
لَا نُفَارِقُ حُكْمَ التّوْرَاةِ أَبَدًا، وَلَا نَسْتَبْدِلُ بِهِ
غَيْرَهُ، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ عَلَيّ هَذِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/284)
فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى
محمد وأصحابه رجالا مُصْلِتِينَ السّيُوفَ، لَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا
ثَقَلًا، حَتّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ، فَإِنْ
نَهْلِكْ نهلك، ولم نترك وراءنا فلا نَخْشَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَظْهَرْ
فَلَعَمْرِي لِنَجِدَنّ النّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، قَالُوا:
نَقْتُلُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ! فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ؟
قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ عَلَيّ هَذِهِ، فَإِنّ اللّيْلَةَ لَيْلَةُ
السّبْتِ، وَإِنّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ
أَمّنُونَا فِيهَا، فَانْزِلُوا لَعَلّنَا نُصِيبُ مِنْ مُحَمّدٍ
وَأَصْحَابِهِ غِرّةً، قَالُوا: نُفْسِدُ سَبْتَنَا عَلَيْنَا، وَنُحْدِثُ
فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا إلّا مَنْ قَدْ عَلِمْت،
فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك مِنْ الْمَسْخِ! قَالَ: مَا بَاتَ
رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنْ
الدّهْرِ حَازِمًا.
[قصة أبى لبابة]
ثُمّ إنّهُمْ بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَنْ ابْعَثْ إلَيْنَا أَبَا لبابة ابن عَبْدِ الْمُنْذِرِ،
أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْأَوْسِ،
لِنَسْتَشِيرَهُ فِي أَمْرِنَا، فَأَرْسَلَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
إليهم، فَلَمّا رَأَوْهُ قَامَ إلَيْهِ الرّجَالُ، وَجَهَشَ إلَيْهِ
النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقّ لَهُمْ، وَقَالُوا
لَهُ: يَا أَبَا لُبَابَةَ! أَتَرَى أَنْ تنزل عَلَى حُكْمِ مُحَمّدٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ، إنّهُ الذّبْحُ. قَالَ
أَبُو لُبَابَةَ: فو الله مَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتّى
عَرَفْتُ أنى قد خنت الله ورسوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، ثُمّ
انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى ارْتَبَطَ فِي المسجد إلى إلَى
عَمُودٍ مِنْ عُمُدِهِ، وَقَالَ: لَا أَبْرَحُ مَكَانِي هَذَا حَتّى
يَتُوبَ اللهُ عَلَيّ مِمّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/285)
صَنَعْت، وَعَاهَدَ اللهَ: أَنْ لَا أَطَأَ
بَنِي قريظة أبدا، ولا أرى فى بلد خلت الله ورسوله فيه أبدا.
[توبة الله على أَبَى لُبَابَةَ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَبِي لُبَابَةَ،
فِيمَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الأنفال: 27
قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
خَبَرُهُ، وَكَانَ قَدْ اَسْتَبْطَأَهُ، قَالَ: أَمَا إنّهُ لَوْ جَاءَنِي
لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فَأَمّا إذْ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَل، فَمَا أَنَا
بِاَلّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
قُسَيْطٍ: أَنّ تَوْبَةَ أَبَى لُبَابَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السّحَرِ، وَهُوَ فِي بَيْتِ أُمّ
سَلَمَةَ.
(فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ) : فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ السّحَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ. قَالَتْ: فَقُلْت: مِمّ
تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ أَضْحَكَ اللهُ سِنّك؟ قَالَ:
تِيبَ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ، قَالَتْ: قُلْت: أَفَلَا أُبَشّرُهُ يَا
رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: بَلَى، إنْ شِئْتِ. قَالَ: فَقَامَتْ عَلَى بَابِ
حُجْرَتِهَا، وَذَلِك قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنّ الْحِجَابُ،
فَقَالَتْ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَيْك.
قَالَتْ: فَثَارَ النّاسُ إلَيْهِ لِيُطْلِقُوهُ فَقَالَ: لَا وَاَللهِ
حَتّى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ
الّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ، فَلَمّا مَرّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَارِجًا إلَى صَلَاةِ الصّبْحِ أَطْلَقَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/286)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَقَامَ أَبُو
لُبَابَةَ مُرْتَبِطًا بِالْجِذْعِ سِتّ لَيَالٍ، تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ
فِي كُلّ وَقْتِ صَلَاةٍ، فَتَحُلّهُ لِلصّلَاةِ، ثُمّ يَعُودُ
فَيَرْتَبِطُ بِالْجِذْعِ، فِيمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالْآيَةُ الّتِي نَزَلَتْ فِي تَوْبَتِهِ قَوْلُ اللهِ عَزّ وَجَلّ:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ.
[إسلام بعض بَنِي هُدَلٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدِ بْنِ
سَعْيَةَ، وَأَسَدِ بن عبيد. وهم ففر مِنْ بَنِي هُدَلٍ، لَيْسُوا مِنْ
بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا النّضِيرِ، نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ هُمْ بَنُو
عَمّ الْقَوْمِ، أَسْلَمُوا تِلْكَ اللّيْلَةَ الّتِي نَزَلَتْ فِيهَا
بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
[عَمْرِو بْنِ سُعْدَى]
وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى الْقَرَظِيُ، فَمَرّ
بِحَرَسِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَعَلَيْهِ
مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ تِلْكَ اللّيْلَةَ، فَلَمّا رَآهُ قَالَ: مَنْ
هَذَا؟
قَالَ: أَنَا عَمْرُو بْنُ سُعْدَى- وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ
يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: لَا أَغْدِرُ بِمُحَمّدِ أَبَدًا-
فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمَة حِينَ عَرَفَهُ: اللهُمّ لَا تَحْرِمْنِي
إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ، ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ.
فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ حَتّى أَتَى بَابَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ تِلْكَ اللّيْلَةِ، ثُمّ ذَهَبَ
فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ تَوَجّهَ مِنْ الْأَرْضِ إلَى يَوْمِهِ هذا، فذكر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/287)
لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ شَأْنُهُ، فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللهُ بِوَفَائِهِ.
وَبَعْضُ النّاسِ يَزْعُمُ أَنّهُ كَانَ أُوثِقَ بِرُمّةِ فِيمَنْ أوثق من
بنى قريظة، حين نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَأَصْبَحَتْ رُمّتُهُ مُلْقَاةً، وَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ تِلْكَ
الْمَقَالَةَ، وَاَللهُ أَعْلَمُ أىّ ذلك كان.
[تحكيم سعد فى أمر بنى قريظة ورضاء الرسول به]
(قَالَ) فَلَمّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَتَوَاثَبَتْ الْأَوْسُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللهِ، إنّهُمْ مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي
مَوَالِي إخْوَانِنَا بِالْأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْت- وَقَدْ كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ
حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعِ، وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَنَزَلُوا
عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُ إيّاهُمْ عَبْدُ اللهِ بن أبىّ بن سَلُولَ،
فَوَهَبَهُمْ لَهُ. فَلَمّا كَلّمَتْهُ الْأَوْسُ قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ
أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَذَاكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه
وسلم قد جعل سعد ابن مُعَاذٍ فِي خَيْمَةٍ لِامْرَأَةِ مِنْ أَسْلَمَ،
يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ، فِي مَسْجِدِهِ، كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى،
وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ مَنْ كَانَتْ بِهِ ضَيْعَةٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ
قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ أَصَابَهُ السّهْمُ بِالْخَنْدَقِ: اجْعَلُوهُ فِي
خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. فَلَمّا حَكّمَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ،
أَتَاهُ قَوْمُهُ فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/288)
قَدْ وَطّئُوا لَهُ بِوِسَادَةِ مِنْ
أَدَمٍ، وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا جَمِيلًا، ثُمّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم يَقُولُونَ: يَا
أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيك، فَإِنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنّمَا وَلّاك ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ،
فَلَمّا أَكْثَرُوا عليه قال: لقد أنى لِسَعْدٍ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي
اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ. فَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ
إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فَنَعَى لَهُمْ رِجَالَ بَنِي
قُرَيْظَةَ، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ سَعْدٌ، عَنْ كَلِمَتِهِ الّتِي
سَمِعَ مِنْهُ. فَلَمّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ- فَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ،
فَيَقُولُونَ: إنّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْأَنْصَارَ، وَأَمّا الْأَنْصَارُ، فَيَقُولُونَ: قَدْ عَمّ بِهَا
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَقَامُوا إلَيْهِ،
فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ
وَلّاك أَمْرَ مَوَالِيك لِتَحْكُمَ فِيهِمْ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:
عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ، أَنّ الْحُكْمَ فِيهِمْ
لَمَا حَكَمْتُ؟
قَالُوا: نَعَمْ، وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا، فِي النّاحِيَةِ الّتِي فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجْلَالًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، قَالَ سَعْدٌ: فَإِنّي أَحُكْمُ
فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الرّجَالُ، وَتُقَسّمُ الأموال، وتسبى الذرارى
والنساء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ
اللّيْثِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِسَعْدٍ: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سبعة أرقعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/289)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي بَعْضُ
مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
صَاحَ وَهُمْ مُحَاصِرُو بَنِي قُرَيْظَة: يَا كَتِيبَةَ الْإِيمَانِ،
وَتَقَدّمَ هُوَ وَالزّبَيْرُ بْنُ العوّام، وقال: والله لأذوقنّ ماذاق
حَمْزَةُ أَوْ لَأُفْتَحَنّ حِصْنَهُمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ، ننزل على
حكم سعد بن معاذ.
[تنفيذ الحكم فى بنى قريظة]
قال ابن إسحاق: ثُمّ اسْتَنْزَلُوا، فَحَبَسَهُمْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ،
امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النّجّارِ، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ، الّتِي هِيَ سُوقُهَا
الْيَوْمَ، فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ، ثُمّ بَعَثَ إلَيْهِمْ، فَضَرَبَ
أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ، يُخْرَجُ بِهِمْ إلَيْهِ
أَرْسَالًا، وَفِيهِمْ عَدُوّ اللهِ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ
أسد، رأس القوم، وهم ستّ مائة أو سبع مائة، والمكثّر لهم يقول: كانوا بين
الثمان مائة والتسع مائة. وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ، وَهُمْ
يُذْهَبُ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَرْسَالًا: يَا كَعْبُ، مَا تَرَاهُ يُصْنَعُ بِنَا؟ قَالَ: أَفِي كُلّ
مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ؟ أَلَا تَرَوْنَ الدّاعِيَ لَا يَنْزِعُ،
وَأَنّهُ مَنْ ذُهِبَ بِهِ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ؟
هُوَ وَاَللهِ الْقَتْلُ! فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الدّأْبُ حَتّى فَرَغَ
مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
[مقتل حيى بن أخطب]
وَأُتِيَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ عَدُوّ اللهِ، وَعَلَيْهِ حُلّةٌ لَهُ
فَقّاحِيّةٌ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/290)
فَقّاحِيّةٌ: ضَرْبٌ مِنْ الْوَشَى- قَدْ
شَقّهَا عَلَيْهِ من كل ناحية قدر أُنْمُلَة لِئَلّا يُسْلَبَهَا،
مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ. فَلَمّا نَظَرَ إلَى رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَا وَاَللهِ مَا لُمْت
نَفْسِي فِي عَدَاوَتِك، وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلُ اللهَ يُخْذَلْ، ثُمّ
أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ، فَقَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّهُ لَا بَأْسَ
بِأَمْرِ اللهِ، كِتَابٌ وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كَتَبَهَا اللهُ عَلَى
بَنِي إسْرَائِيلَ، ثُمّ جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
فَقَالَ جَبَلُ بْنُ جَوّالٍ الثّعْلَبِيّ:
لَعَمْرُك مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلُ
اللهُ يُخْذَلْ
لَجَاهَدَ حَتّى أَبْلَغَ النّفْسَ عُذْرَهَا ... وَقَلْقَلَ يَبْغِي العزّ
كلّ مقلقل
[المرأة القتيل من بنى قريظة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عن عائشة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ
أَنّهَا قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إلّا امْرَأَةٌ
وَاحِدَةٌ.
قَالَتْ: وَاَللهِ إنّهَا لعندى تحدّث مَعِي، وَتَضْحَكُ ظَهْرًا
وَبَطْنًا، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْتُلُ
رِجَالَهَا فِي السّوقِ، إذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلَانَةُ؟
قَالَتْ: أنا والله، قالت: قلت لها: ويلك، مالك؟ قَالَتْ: أُقْتَلُ، قُلْت:
وَلِمَ؟
قَالَتْ: لِحَدَثِ أَحْدَثْته، قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بِهَا، فَضُرِبَتْ
عُنُقُهَا، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تقول:
فو الله مَا أَنْسَى عَجَبًا مِنْهَا، طِيبَ نَفْسِهَا، وَكَثْرَةَ
ضَحِكِهَا، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا تُقْتَلُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ الّتِي طَرَحَتْ الرّحَا عَلَى خَلّادِ بْنِ
سُوَيْدٍ، فَقَتَلَتْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/291)
[شَأْنُ الزّبَيْرِ بْنِ بَاطَا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ،
كَمَا ذَكَرَ لِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ، أَتَى الزّبَيْرَ بْنَ بَاطَا
الْقُرَظِيّ؛ وَكَانَ يُكَنّى أَبَا عبد الرحمن وكا الزّبَيْرُ قَدْ مَنّ
عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ. ذَكَرَ لِي
بَعْضُ وَلَدِ الزّبَيْرِ أَنّهُ كَانَ مَنّ عَلَيْهِ يَوْمَ بُعَاثٍ،
أَخَذَهُ فَجَزّ نَاصِيَتَهُ، ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ- فَجَاءَهُ ثَابِتٌ
وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ، هَلْ
تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَك، قَالَ: إنّي قَدْ
أَرَدْت أَنْ أَجْزِيَك بِيَدِك عِنْدِي، قَالَ: إنّ الْكَرِيمَ يَجْزِي
الْكَرِيمَ، ثُمّ أَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: يَا رَسُولَ اللهِ إنّهُ قَدْ كَانَتْ لِلزّبَيْرِ عَلَيّ مِنّةٌ،
وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا، فَهَبْ لِي دَمَهُ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَك، فَأَتَاهُ
فَقَالَ:
أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَدْ وَهَبَ لِي دَمَك،
فَهُوَ لَك، قَالَ: شَيْخُ كَبِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا
يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ؟ قَالَ: فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللهِ،
هَبْ لِي امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ، قَالَ:
هُمْ لَك. قَالَ: فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ وَهَبَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَك وَوَلَدَك، فَهُمْ لَك، قَالَ: أَهْلُ
بَيْتٍ بِالْحِجَازِ لَا مَالَ لَهُمْ، فَمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ؟
فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رَسُولَ اللهِ،
مَالَهُ، قَالَ:
هُوَ لَك. فَأَتَاهُ ثَابِتٌ فَقَالَ: قَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صَلّى
الله عليه وسلم مالك، فهو لك، قَالَ: أَيْ ثَابِتٌ، مَا فَعَلَ الّذِي
كَأَنّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيّةٌ يَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيّ،
كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ سَيّدُ الْحَاضِرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/292)
وَالْبَادِي حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ؟ قَالَ:
قُتِلَ، قَالَ: فَمَا فَعَلَ مُقَدّمَتُنَا إذَا شَدَدْنَا، وَحَامِيَتُنَا
إذَا فَرَرْنَا، عَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلَ؟ قَالَ: قُتِلَ، قَالَ: فَمَا
فَعَلَ الْمُجْلِسَانِ؟
يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِيّ عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ؟
قَالَ: ذَهَبُوا قُتِلُوا. قَالَ: فَأَنّي أَسْأَلُك يَا ثَابِتُ بِيَدِي
عندك إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ
خَيْرٍ، فَمَا أَنَا بِصَابِرِ لِلّهِ فَتْلَةَ دَلْوٍ نَاضِحِ حَتّى
أَلْقَى الْأَحِبّةَ. فَقَدّمَهُ ثَابِتٌ، فَضُرِبَ عُنُقُهُ.
فَلَمّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ قَوْلَهُ «أَلْقَى الْأَحِبّةَ» .
قَالَ: يَلْقَاهُمْ وَاَللهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ خالدا مُخَلّدًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قِبْلَةَ دَلْوٍ نَاضِحٍ. وقال زُهَيْرُ بْنُ أَبِي
سَلْمَى فِي «قِبْلَةٍ» :
وَقَابِلٍ يَتَغَنّى كُلّمَا قَدَرَتْ ... عَلَى الْعَرَاقَى يَدَاهُ
قَائِمًا دفقا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى: وَقَابِلٌ يُتَلَقّى، يَعْنِي قَابِلَ
الدّلْوِ يتناول.
[عطية القرظى ورفاعة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ كُلّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي شُعْبَةُ بْنُ الْحَجّاجِ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَطِيّةَ الْقُرَظِيّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَ أن يقتل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/293)
مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ كُلّ مَنْ أَنْبَتَ
مِنْهُمْ، وكنت غلاما، فوجدنى لم أنبت، فخلّوا سبيلى.
قال: وَحَدّثَنِي أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ
أَبِي صَعْصَعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ: أَنّ سَلْمَى بِنْتَ
قَيْسٍ، أُمّ الْمُنْذِرِ، أُخْتَ سُلَيْطِ بْنِ أُخْتَ سُلَيْطِ بْنِ
قَيْسٍ- وَكَانَتْ إحْدَى خَالَاتِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، قَدْ صَلّتْ مَعَهُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَبَايَعَتْهُ بَيْعَةَ
النّسَاءِ- سَأَلَتْهُ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلَ الْقُرَظِيّ، وَكَانَ
رَجُلًا قَدْ بَلَغَ، فَلَاذَ بِهَا، وَكَانَ يَعْرِفُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ،
فَقَالَتْ: يَا نَبِيّ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، هَبْ لِي رِفَاعَةَ،
فَإِنّهُ قَدْ زَعَمَ أَنّهُ سَيُصَلّي وَيَأْكُلُ لَحْمَ الجمل، قال:
فوهبه لها فاستحيته.
[الرسول صلي الله عليه وسلم يقسم فَيْءِ بَنِي قُرَيْظَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسَمَ
أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلَمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُهْمَانَ الْخَيْلِ
وَسُهْمَانَ الرّجَالِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْخُمُسَ، فَكَانَ لِلْفَارِسِ
ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ،
وَلِلرّاجِلِ، مَنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ، سَهْمٌ. وَكَانَتْ الْخَيْلُ
يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ أَوّلَ
فَيْءٍ وَقَعَتْ فِيهِ السّهْمَانُ، وَأُخْرِجَ مِنْهَا الْخُمْسُ، فَعَلَى
سُنّتِهَا وَمَا مَضَى مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهَا وَقَعَتْ المقاسم، ومضت السنّة فى المغازى.
ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَعْدَ بْنَ
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ أَخَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/294)
بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِسَبَايَا مِنْ
سَبَايَا بَنِي قُرَيْظَةَ إلَى نَجْدٍ، فَابْتَاعَ لَهُمْ بِهَا خَيْلًا
وسلاحا.
[شأن ريحانة]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ اصْطَفَى لِنَفْسِهِ مِنْ
نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ خُنَافَةَ، إحْدَى نِسَاءِ
بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، فَكَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى تُوُفّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مِلْكِهِ،
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرَضَ
عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوّجَهَا، وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَقَالَتْ
يَا رَسُولَ اللهِ، بَلْ تَتْرُكُنِي فِي مِلْكِك، فَهُوَ أَخَفّ عَلَيّ
وَعَلَيْك، فَتَرَكَهَا. وَقَدْ كَانَتْ حِينَ سَبَاهَا قَدْ تَعَصّتْ
بِالْإِسْلَامِ، وَأَبَتْ إلّا الْيَهُودِيّةَ، فَعَزَلَهَا رَسُولُ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ لِذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهَا. فَبَيْنَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ، إذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ
خَلْفَهُ، فَقَالَ: إنّ هَذَا لِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ يُبَشّرُنِي
بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ، فَجَاءَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ
أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ، فَسَرّهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا.
[ما نزل من القرآن فِي الْخَنْدَقِ وَبَنِيّ قُرَيْظَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ،
وَأَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، الْقِصّةَ فِي سُورَةِ
الْأَحْزَابِ، يَذْكُرُ فِيهَا مَا نَزَلَ مِنْ الْبَلَاءِ، وَنِعْمَتِهِ
عَلَيْهِمْ، وَكِفَايَتِهِ إيّاهُمْ حِينَ فَرّجَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، بَعْدَ
مَقَالَةِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(6/295)
جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.
وَالْجُنُودُ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانَتْ
الْجُنُودُ الّتِي أَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الرّيحِ الْمَلَائِكَةَ.
يَقُول اللهُ تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ
مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ،
وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. فالذين جاؤهم من فوقهم بنو قريظة،
والذين جاؤهم مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ. يَقُولُ اللهُ
(تَبَارَكَ و) تَعَالَى:
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً.
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا
وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً لقول معتّب ابن قُشَيْرٍ
إذْ يَقُولُ مَا قَالَ. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ
يَثْرِبَ لَا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ،
إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً لِقَوْلِ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيّ وَمَنْ
كَانَ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ قَوْمِهِ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ
أَقْطارِها: أى المدينة.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الْأَقْطَارُ: الْجَوَانِبُ، وَوَاحِدُهَا: قُطْرٌ،
وَهِيَ الْأَقْتَارُ، وَوَاحِدُهَا: قَتَرٌ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
كَمْ مِنْ غِنًى فَتَحَ الْإِلَهُ لَهُمْ بِهِ ... وَالْخَيْلُ مُقْعِيَةٌ
عَلَى الْأَقْطَارِ
وَيُرْوَى: «عَلَى الْأَقْتَارِ» . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قصيدة له.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/296)
ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ: أَيْ
الرّجُوعَ إلَى الشّرْكِ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً.
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ،
وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا فَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ، وَهُمْ الّذِينَ
هَمّوا أَنْ يَفْشَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ بَنِي سَلِمَةَ حَيْنَ هَمّتَا
بِالْفَشَلِ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمّ عَاهَدُوا اللهَ أَنْ لَا يَعُودُوا
لِمِثْلِهَا أَبَدًا، فَذَكَرَ لَهُمْ الّذِي أَعْطَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ،
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ
مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ
سُوءاً، أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ
مِنْكُمْ: أَيْ أَهْلَ النّفَاقِ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ
إِلَيْنا، وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا: أى إلا دفعا وتعذيرا
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ:
أَيْ لِلضّغَنِ الّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ
رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ: أَيْ إعْظَامًا لَهُ وَفَرَقًا مِنْهُ فَإِذا
ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ: أَيْ فِي الْقَوْلِ
بِمَا لَا تُحِبّونَ، لِأَنّهُمْ لَا يَرْجُونَ آخِرَةً، وَلَا تَحْمِلهُمْ
حِسْبَةٌ، فَهُمْ يَهَابُونَ الْمَوْتَ هَيْبَةَ مَنْ لا يرجو ما بعده.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: سَلَقُوكُمْ: بَالَغُوا فِيكُمْ بِالْكَلَامِ،
فَأَحْرَقُوكُمْ وَآذَوْكُمْ.
تَقُولُ الْعَرَبُ: خَطِيبٌ سَلّاقٌ، وَخَطِيبٌ مُسْلِقٌ وَمِسْلَاقٌ. قال
أعشى بنى قيس بن ثعلبة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/297)
فيهم المجد والسّماحة والنجدة فِيهِمْ
وَالْخَاطِبُ السّلّاقُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَإِنْ
يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ
يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ مَا قاتَلُوا إِلَّا
قَلِيلًا.
ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ: أَيْ لِئَلّا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ
نَفْسِهِ، وَلَا عَنْ مَكَانٍ هُوَ بِهِ.
ثُمّ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَصِدْقَهُمْ وَتَصْدِيقَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ
اللهُ مِنْ الْبَلَاءِ يَخْتَبِرُهُمْ بِهِ، فَقَالَ: وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً
وَتَسْلِيماً: أَيْ صَبْرًا عَلَى الْبَلَاءِ وَتَسْلِيمًا لِلْقَضَاءِ،
وَتَصْدِيقًا لِلْحَقّ، لَمّا كَانَ اللهُ تَعَالَى وعدهم ورسوله صلى الله
عليه وسلم. ثم قال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا
اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ: أَيْ فَرَغَ مِنْ
عَمَلِهِ، وَرَجَعَ إلَى رَبّهِ، كَمَنْ اُسْتُشْهِدَ يوم بدر ويوم أحد.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: قَضَى نَحْبَهُ: مَاتَ، وَالنّحْبُ: النّفْسُ، فِيمَا
أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، وَجَمْعُهُ: نُحُوبٌ، قَالَ ذُو الرمّة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/298)
عشيّة فرّ الحارثيّون بعد ما ... قضى نحبه
فى ملتقى الخيل هوبر
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَهَوْبَرُ: مِنْ بنى الحارث بن
كعب، أراد:
زيد بْنَ هَوْبَرٍ. وَالنّحْبُ (أَيْضًا) : النّذْرُ. قَالَ جَرِيرُ بْن
الْخَطْفِيّ:
بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيّةَ بِسْطَامٍ
جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
يَقُول: عَلَى نَذْرٍ كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ فَقَتَلَتْهُ،
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَبِسْطَامٌ: بِسْطَامُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ الشّيْبَانِيّ، وَهُوَ
ابْنُ ذِي الْجَدّيْنِ: حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّهُ كَانَ فَارِسَ
رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ. وَطِخْفَةُ: مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ الْبَصْرَةِ.
وَالنّحْبُ (أَيْضًا) : الْخِطَارُ، وَهُوَ: الرّهَانُ. قَالَ
الْفَرَزْدَقُ:
وَإِذْ نَحَبَتْ كَلْبٌ عَلَى النّاسِ أَيّنَا ... عَلَى النّحْبِ أَعْطَى
لِلْجَزِيلِ وَأَفْضَلُ
وَالنّحْبُ (أَيْضًا) : الْبُكَاءُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يُنْتَحَبُ.
وَالنّحْبُ (أَيْضًا) :
الْحَاجَةُ وَالْهِمّةُ، تَقُولُ: مالى عِنْدَهُمْ نَحْبٌ. قَالَ مَالِكُ
بْنُ نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعِي:
ومالى نَحْبٌ عِنْدَهُمْ غَيْرَ أَنّنِي ... تَلَمّسْت مَا تَبْغِي من
الشّدن الشّجر
وَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ، أَحَدُ بَنِي تَيْمِ اللّاتِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ ابن عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ
وَائِلٍ.
قَالَ ابْنُ هشام: هؤلاء موال بَنِي حَنِيفَةَ:
وَنَجّى يُوسُفَ الثّقَفِيّ رَكْضٌ ... دِرَاكٌ بَعْدَ مَا وَقَعَ
اللّوَاءُ
وَلَوْ أَدْرَكْنَهُ لَقَضَيْنَ نَحْبًا ... بِهِ وَلِكُلّ مُخْطَأَةٍ
وِقَاءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/299)
وَالنّحْبُ (أَيْضًا) : السّيْرُ
الْخَفِيفُ الْمُرّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ: أَيْ مَا وَعَدَ اللهُ
بِهِ مِنْ نَصْرِهِ، وَالشّهَادَةُ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا:
أَيْ مَا شَكّوا وَمَا تَرَدّدُوا فِي دِينِهِمْ، وَمَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ
غَيْرَهُ. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ، وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ، أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ: أَيْ
قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: أَيْ بَنِي
قُرَيْظَةَ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَالصّيَاصِيّ: الْحُصُونُ وَالْآطَامُ
الّتِي كَانُوا فِيهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ، وَبَنُو
الْحِسْحَاسِ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ:
وَأَصْبَحَتْ الثّيرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ
يَبْتَدِرْنَ الصّيَاصِيَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالصّيَاصِيّ (أَيْضًا) :
الْقُرُونُ. قَالَ النّابِغَةُ الْجَعْدِيّ:
وِسَادَةَ رَهْطِي حَتّى بَقِيتُ فَرْدًا كَصَيْصِيَةِ الْأَعْضَبِ يَقُول:
أَصَابَ الْمَوْتُ سَادَةَ رَهْطِي. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو دَواُدَ الإيادىّ:
فذعرنا سحم الصّياصى بأيديهنّ نضح من الكحيل وقار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/300)
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
وَالصّيَاصِيّ أَيْضًا: الشّوْكُ الّذِي لِلنّسّاجِينَ، فِيمَا أَخْبَرَنِي
أَبُو عُبَيْدَةَ. وَأَنْشَدَنِي لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ الْجُشَمِىّ،
جُشَمُ بْنُ معاوية ابن بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ:
نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالرّمَاحُ تَنُوشُهُ ... كَوَقْعِ الصّيَاصِي فِي
النّسِيجِ الْمُمَدّدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالصّيَاصِيّ (أَيْضًا) : الّتِي
تَكُونُ فِي أَرْجُلِ الدّيَكَةِ نَاتِئَةً كَأَنّهَا الْقُرُونُ
الصّغَارُ، وَالصّيَاصِيّ (أَيْضًا) : الْأُصُولُ. أَخْبَرَنِي أَبُو
عُبَيْدَةَ أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جَذّ اللهُ صِيصِيَتَهُ: أَيْ
أَصْلَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَرِيقاً
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً: أَيْ قَتَلَ الرّجَالَ، وَسَبَى
الذّرَارِيّ وَالنّسَاءَ، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها: يَعْنِي خَيْبَرَ وَكانَ اللَّهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
[إكرام سعد فى موته]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قريظة انْفَجَرَ
بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ جُرْحُهُ، فَمَاتَ مِنْهُ شَهِيدًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ الزّرَقِيّ،
قَالَ: حَدّثَنِي مَنْ شِئْت مِنْ رِجَالِ قَوْمِي: أَنّ جِبْرِيلَ
عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قُبِضَ سَعْدُ
بْنُ مُعَاذٍ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةِ مِنْ
إسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/301)
مَنْ هَذَا الْمَيّتُ الّذِي فُتّحَتْ لَهُ
أَبْوَابُ السّمَاءِ، وَاهْتَزّ لَهُ الْعَرْشُ؟ قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا يَجُرّ ثوبه إلى سعد،
فوجده قد مات.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ
عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَتْ: أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ قَافِلَةً مِنْ مَكّةَ،
وَمَعَهَا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَلَقِيَهُ مَوْتُ امْرَأَةٍ لَهُ،
فَحَزِنَ عَلَيْهَا بَعْضَ الْحُزْنِ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَغْفِرُ
اللهُ لَك يَا أَبَا يَحْيَى، أَتَحْزَنُ عَلَى امْرَأَةٍ وَقَدْ أُصِبْت
بِابْنِ عَمّك، وَقَدْ اهْتَزّ لَهُ الْعَرْشُ!
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي من لا أتهم عن الحسن البصري، قال: كَانَ
سَعْدٌ رَجُلًا بَادِنًا، فَلَمّا حَمَلَهُ النّاسُ وَجَدُوا لَهُ خِفّةً،
فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ:
وَاَللهِ إنْ كَانَ لَبَادِنَا، وَمَا حَمَلْنَا مِنْ جِنَازَةٍ أَخَفّ
مِنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: إنّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرَكُمْ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،
لَقَدْ اسْتَبْشَرَتْ الْمَلَائِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ، وَاهْتَزّ لَهُ
الْعَرْشُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ محمود بن
عبد الرحمن ابن عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،
قَالَ: لَمّا دُفِنَ سَعْدٌ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَبّحَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
فَسَبّحَ النّاسُ مَعَهُ، ثُمّ كَبّرَ فَكَبّرَ النّاسُ مَعَهُ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللهِ، مِمّ سَبّحْت؟ قَالَ:
لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصّالِحِ قَبْرُهُ، حتى فرّجه
الله عنه.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمَجَازُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/302)
عَلَيْهِ وَسَلّمَ: إنّ لِلْقَبْرِ
لَضَمّةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهَا نَاجِيًا لَكَانَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلِسَعْدِ يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ:
وَمَا اهْتَزّ عَرْشُ اللهِ مِنْ مَوْتِ هَالِكٍ ... سَمِعْنَا بِهِ إلّا
لِسَعْدٍ أَبِي عَمْرٍو
وَقَالَتْ أُمّ سَعْدٍ، حِين اُحْتُمِلَ نَعْشُهُ وَهِيَ تَبْكِيهِ- قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ- وَهِيَ كُبَيْشَةُ بِنْتُ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْأَبْجَرِ، وَهُوَ خُدْرَةُ
بْنُ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ:
وَيْلُ أُمّ سَعْدٍ سَعْدًا ... صَرَامَةً وَحَدّا
وَسُوْدُدًا وَمَجْدًا ... وَفَارِسًا مُعَدّا
سُدّ بِهِ مَسَدّا ... يَقُدّ هَامًا قَدّا
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلّ نَائِحَةٍ
تَكْذِبُ، إلّا نَائِحَةَ سَعْدِ بْنِ معاذ.
[شهداء الغزوة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمْ يَسْتَشْهِدْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ إلّا سِتّةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأَنَسُ بْنُ أوس
بن عتيك بن عمرو، عبد اللهِ بْنُ سَهْلٍ. ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
وَمِنْ بَنِي جشم بن الخزرج، ثم من بني سلمة: الطّفيل بن النعمان، وثعلبة
ابن غنمة. رجلان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/303)
ومن بَنِي النّجّارِ، ثُمّ مِنْ بَنِي
دِينَارٍ: كَعْبُ بن زيد، أصابه سهم غرب، فقتله.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: سَهْمُ غَرْبٍ وَسَهْمٌ غَرْبٌ، بِإِضَافَةِ وَغَيْرِ
إضَافَةٍ، وَهُوَ الّذِي لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيْنَ جاء ولا من رمى به.
[قتلى المشركين]
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ.
مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ: مُنَبّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ، فَمَاتَ
مِنْهُ بِمَكّةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ مُنَبّهِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ: نَوْفَلُ
بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبِيعَهُمْ جَسَدَهُ، وَكَانَ اقْتَحَمَ
الْخَنْدَقَ، فَتَوَرّطَ فِيهِ، فَقُتِلَ، فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
جَسَدِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا
حَاجَةَ لَنَا فِي جَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ، فَخَلّى بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَعْطَوْا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِجَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ
الزّهْرِيّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، ثُمّ مِنْ بَنِي
مالك بن حسل:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/304)
عمرو بن عبدود، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي الثّقَةُ أَنّهُ حَدّثَ عَنْ ابْنِ
شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ: قَتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
يَوْمَئِذٍ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ وَابْنَهُ حِسْلَ بْنَ عَمْرٍو.
قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبدود، ويقال: عمرو بن عبد.
[شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ، ثُمّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: خَلّادُ
بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى،
فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا، فَزَعَمُوا أَنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: إنّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْن.
وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مُحْصَنِ بْنِ حَرْثَانَ، أَخُو بَنِي أَسَدِ
بْنِ خُزَيْمَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُحَاصِرٌ
بَنِي قُرَيْظَةَ، فَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ الّتِي
يَدْفِنُونَ فِيهَا الْيَوْمَ، وَإِلَيْهِ دفنوا أمواتهم فى الإسلام.
[البشارة بِغَزْوِ قُرَيْشٍ]
وَلَمّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْ الْخَنْدَقِ، قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي: لَنْ
تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، وَلَكِنّكُمْ تَغْزُونَهُم.
فَلَمْ تَغْزُهُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ الّذِي
يَغْزُوهَا، حَتّى فتح الله عليه مكة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/305)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَزْوَةُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ: سُمّيَتْ
دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ بِدُومِيّ بْنِ إسْمَاعِيلَ، كَانَ نَزَلَهَا «1»
غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ وَحَفْرُ الْخَنْدَقِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَةِ
الْعَرَبِ، وَلَكِنّهُ مِنْ مَكَايِدِ الْفُرْسِ وَحُرُوبِهَا، وَلِذَلِك
أَشَارَ بِهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ، وَأَوّلُ مَنْ خَنْدَقَ الْخَنَادِقَ
مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ «مِنُوشِهْرُ بْنُ أبيرج
«2» بْنُ أَفْرِيدُونَ «3» وَقَدْ قِيلَ فِي أَفْرِيدُونَ: إنّهُ ابْنُ
إسْحَاقَ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ فِيهِ: هُوَ ابْنُ
أَثْقِيَانَ، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ اتّخَذَ آلَةَ» الرّمْيِ، وَإِلَى رَأْسِ
سِتّينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِهِ بُعِثَ
__________
(1) يصفها البكرى بأنها على عشر مراحل من المدينة وعشر من الكوفة، وثمان من
دمشق، واثنتى عشرة من مصر، وسميت بدومان بن إسماعيل عليه السلام كان
ينزلها.
(2) هو فى الطبرى: إيرج وكذلك فى الزرقانى وهو ينقل عن الروض ويقول عن
الطبرى ص 379 ح 1 ط المعارف «وهو أول من خندق الخنادق وجمع آلة الحرب» .
(3) ذكره حبيب بن أوس الطائى فى شعره إذ قال:
ما نال ما قد نال فرعون ولا ... هامان فى الدنيا، ولا قارون
بل كان كالضحاك فى سطواته ... بالعالمين وأنت أفريدون
والعجم يزعمون أن أفريدون وثب بالضحاك، وأوثقه وصيره بجبال دنباوند وأنه
إلى اليوم موثق فى الحديد يعذب!! ص 197 ح 1 تاريخ الطبرى.
(6/306)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْكَمَائِنِ فِي
الْحُرُوبِ، وَأَنّ أَوّلَ مَنْ فَعَلَهَا بُخْتَنَصّرُ فِي قَوْلِ
الطّبَرِيّ.
وَذَكَرَ تَحْزِيبَ بَنِي قُرَيْظَةَ الْأَحْزَابَ، وَنَسَبَ طَائِفَةً
مِنْ بَنِي النّضِيرِ، فَقَالَ فِيهِمْ النّضَرِيّ، وَهَكَذَا تَقَيّدَ فِي
النّسْخَةِ الْعَتِيقَةِ، وَقِيَاسُهُ: النّضِيرِيّ إلّا أَنْ يَكُونَ مِنْ
بَابِ قَوْلِهِمْ ثَقَفِيّ وَقُرَشِيّ «1» ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ
الْقِيَاسِ، وإنما يقال: فعلىّ فى النّسب إلى فعلية.
عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ:
وَذَكَرَ قَائِدَ غَطَفَانَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَهُوَ عُيَيْنَةُ بْنُ
حِصْنٍ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ، وسمّى: عيينة لشتركان بِعَيْنِهِ، وَهُوَ
الّذِي قَالَ فِيهِ عَلَيْهِ السّلَامُ
__________
(1) هذا شاذ فى فعيل بفتح الفاء وفعيل بضم الفاء. فالقياس فيها إبقاء
الياء. ولكن يقول السيرافى عن النسب إلى فعيل بضم الفاء «أما ما ذكره
سيبويه من أن النسبة إلى هذيل هذلى فهذا الباب عندى لكثرته كالخارج عن
الشذوذ وذلك خاصة فى العرب الذين بتهامة وما يقرب منها، لأنهم قالوا: قرشى
وملحى وهذلى وفقمى، وكذا قالوا فى سليم وخشيم وقريم وحريق وهم من هذيل-
وكلها بضم الأوّل- سلمى وخثمى وقرمى وحرثى. وهؤلاء كلهم متجاورون بتهامة
وما يدانيها، والعلة اجتماع ثلاث ياآت مع كسر فى الوسط» ص 29 ح 2 شرح
الشافيه للرضى. ويرى المبرد أن ما كان على فعيل وفعيل بالفتح فى الأولى
والضم فى الأخرى فانك مخير فى النسب إليهما بين حذف الياء وبقائها قياسا
مطردا فتقول فى النسب إلى شريف وجعيل شريفى وجعيلى أو شرفى وجعلى. أما مذهب
السيرافى فيبدو أنه يشير إلى أن ما كان على فعيل بفتح الفاء فليس فيه إلا
إبقاء الياء.
(6/307)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَحْمَقُ الْمُطَاع، لِأَنّهُ كَانَ مِنْ الْجَرّارِينَ تَتْبَعُهُ
عَشَرَةُ آلَافِ قَنَاةٍ، وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ شَرّ النّاسِ مَنْ وَدَعَهُ النّاسُ
اتّقَاءَ شَرّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنّهُ قَالَ: إنّي أُدَارِيهِ،
لِأَنّي أَخْشَى أَنْ يُفْسِدَ عَلَيّ خَلْقًا كَثِيرًا، وَفِي هَذَا
بَيَانُ مَعْنَى الشّرّ الّذِي اتّقَى مِنْهُ، وَكَانَ دَخَلَ عَلَى
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَلَمّا قَالَ
لَهُ: أَيْنَ الْإِذْنُ؟ قَالَ: مَا اسْتَأْذَنْت عَلَى مُضَرِيّ قَبْلَك،
وَقَالَ: مَا هَذِهِ الْحُمَيْرَاءُ مَعَك يَا مُحَمّدُ؟ فَقَالَ: هِيَ
عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:
؟ لِّقها، وَأَنْزِلُ لَك عَنْ أُمّ الْبَنِينَ، فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ
تُذْكَرُ مِنْ جَفَائِهِ، أَسْلَمَ، ثُمّ ارْتَدّ، وَآمَنَ بِطُلَيْحَةَ
حِينَ تَنَبّأَ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ أَسِيرًا، فَمَنّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ مُظْهِرًا
لِلْإِسْلَامِ عَلَى جَفْوَتِهِ وَعَنْجَهِيّتِهِ وَلُوثَةِ
أَعْرَابِيّتِهِ حَتّى مَاتَ. قَالَ الشّاعِرُ:
وَإِنّي عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَنْجَهِيّتِي ... وَلُوثَةِ أَعْرَابِيّتِي
لَأَدِيبُ «1»
وَذَكَرَ حَفْرَهُ الْخَنْدَقَ، وَأَنّهُ عَرَضَتْ لَهُ صَخْرَةٌ، وَوَقَعَ
فِي غَيْرِ السّيرَةِ
__________
(1) البيت فى اللسان. وفيه عيد هيتى بدلا من عنجهيتى، وأريب بدلا من أديب
والعيدهية: الكبر. والعنجهية والعيدهية أيضا والعندهية وعجرفية، وشمخرة إذا
كان فيه جفاء. هذا وقد وصف بالأحمق المطاع فى حديث رواه سعيد بن منصور
مرسلا!! وقد قيل عنه ذلك بعد أن سألت عائشة عنه بعد أن قال ما قال. وقد
أخرجه الطبرانى موصلالا من وجه آخر عن جرير بن عيينة بن حصن دخل على النبى
«ص» فقال وعنده عائشة- من هذه الجالسة إلى جانبك؟ قال: عائشة. قال: أفلا
أنزل لك عن خير منها؟ يعنى امرأته، فقال له النبى: أخرج فاستأذن، فقال:
إنها يمين على ألا استأذن على مضرى، فقالت عائشة: من هذا؟ فذكره-.
(6/308)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَبْلَةٌ وَهِيَ الصّخْرَةُ الصّمّاءُ، وَجَمْعُهَا عَبَلَاتٌ وَيُقَالُ
لَهَا الْعَبْلَاءُ وَالْأَعْبَلُ أَيْضًا، وَهِيَ صَخْرَةٌ بَيْضَاءُ.
الْبَرَقَاتُ الّتِي لَمَعَتْ:
وَذَكَرَ أَنّهُ لَمَعَتْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الصّخْرَةِ بَرْقَةٌ بَعْدَ
بَرْقَةٍ، وَخَرّجَهُ النّسَوِيّ مِنْ طَرِيقِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
بِأَتَمّ مِمّا وَقَعَ فِي السّيرَةِ، قَالَ: لَمّا أَمَرَنَا رَسُولُ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إن نَحْفِرَ الْخَنْدَقَ عَرَضَ
لَنَا حَجَرٌ لَا يَأْخُذُ فِيهِ الْمِعْوَلُ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ
وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الصّخْرَةِ،
وَقَالَ اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الشّامِ، وَاَللهِ إنّي
لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، قَالَ: ثُمّ ضَرَبَ
أُخْرَى، وَقَالَ: بِسْمِ اللهِ، وَكَسَرَ ثُلُثًا آخَرَ، قَالَ اللهُ
أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاَللهِ إنّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ
الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ الْآنَ، ثُمّ ضَرَبَ ثَالِثَةً وَقَالَ: بِسْمِ
اللهِ، فَقَطَعَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ. أُعْطِيت مَفَاتِيحَ
الْيَمَنِ، والله إنى لا بصر بَابَ صَنْعَاءَ [مِنْ مَكَانِي هَذَا
السّاعَةَ] «1» . وَقَوْلُهُ: فَأْسًا وَلَا مِسْحَاةً. الْمِسْحَاةُ:
مِفْعَلَةٌ مِنْ سَحَوْت الطّينَ، إذَا قَشَرْته، وَيُقَالُ لِحَدّ
الْفَأْسِ وَالْمِسْحَاةِ: الْغُرَابُ، وَلِنَصْلَيْهِمَا: الْفِعَالُ
بِكَسْرِ الْفَاءِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ
التّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
حِينَ ضَرَبَ فى الخندق قال:
__________
(1) أخرجه أحمد والنسائى والزيادة من روايتهما. وللطبرانى من حديث عبد الله
بن عمرو نحوه، وأخرجه البيهقى من طريق كثير بن عبد الرحمن ابن عمرو بن عوف
عن أبيه عن جده وثمت خلاف بين روايتهما ورواية السيرة فوازن بين الروايتين.
(6/309)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللهِ وَبِهِ بَدِينَا* وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شقينا* حبّذا ربا
وحبّذا دينا «1»
__________
(1) هو عند الحارث بن أبى أسامة من طريق سليمان بن طرخان التيمى عن أبى
عثمان النهدى. وبدينا بكسر الدال يقال: بديت بالشىء بكسر الدال، أى: بدأت
به، فلما خفف الهمز كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليست الياء فيه أصلية.
وقوله حبذا دينا يجعل الرجز غير موزون إلا بإسكان باء حبذا. والذى فى الفتح
والحلبية: حبذا ربا وحب دينا. انظر ص 332 ح 2 وفتح البارى فى غزوة الخندق.
وفى البخارى: كان النبى «ص» ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو أغير
بطنه يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
وفى رواية أخرى عن البراء «فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ثم ذكر الرجز
السابق» . وقوله: إن الألى قد بغوا ليس بموزون، وتحريره إن الذين قد بغوا
علينا. وفى رواية مسلم: أبو ابدلا من بغوا أنظر ص 321 ح 7 فتح البارى شرح
صحيح البخارى. وفى البخارى أيضا أنه خرج «ص» فرأى المهاجرين والأنصار
يحفرون فى غداة باردة، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهم إن العيش عيش الأخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وهذا قول ابن رواحة. وقد قال الداودى: إنه قاله: لاهم، فأورده بعض لرواة
على المعنى، وقيل ليس كذلك بل يكون دخله الخرم ومن صوره زيادة شىء من حروف
المعانى فى أول الجزء، والجزء الثانى أيضا غير موزون. وفى رواية: فبارك
يدل: فاغفر.
(6/310)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَحْقِيقُ اسْمِ زَغَابَةَ:
وَقَوْلُهُ: حَتّى نَزَلُوا بَيْنَ الْجُرُفِ وَزَغَابَةَ. زَغَابَةُ اسْمُ
مَوْضِعٍ بِالْغَيْنِ الْمَنْقُوطَةِ وَالزّايِ الْمَفْتُوحَةِ، وَذَكَرَهُ
الْبَكْرِيّ بِهَذَا اللّفْظِ بَعْدَ أَنْ قَدّمَ الْقَوْلَ بِأَنّهُ
زُعَابَةُ بِضَمّ الزّايِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَحُكِيَ عَنْ
الطّبَرِيّ أَنّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْجُرُفِ
وَالْغَابَةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الرّوَايَةَ وَقَالَ: لِأَنّ زَغَابَةَ
لَا تُعْرَفُ. قَالَ الْمُؤَلّفُ:
وَالْأَعْرَفُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الرّوَايَةِ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ:
زَغَابَةَ بِالْغَيْنِ الْمَنْقُوطَةِ، لِأَنّ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ
أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ، قَالَ فى ناقة أهداها إليه أعرانى، فَكَافَأَهُ
بِسِتّ بَكَرَاتٍ، فَلَمْ يَرْضَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَلَا
تَعْجَبُونَ لِهَذَا الْأَعْرَابِيّ! أَهْدَى إلَيّ نَاقَةً أَعْرِفُهَا
بِعَيْنِهَا، كَمَا أَعْرِفُ بَعْضَ أَهْلِي ذَهَبَتْ مِنّي يَوْمَ
زَغَابَةَ «1» ، وَقَدْ كَافَأْته بِسِتّ فَسَخِطَ. الْحَدِيثَ، وَقَالَ:
ذَنَبِ نُقْمٍ وَنَقْمَى مَعًا.
يقتل فِي الذّرْوَةِ وَالْغَارِبِ:
وَذَكَرَ حَيَيّ بْنَ أَخْطَبَ، وَمَا قَالَ لِكَعْبِ، وَأَنّهُ لَمْ
يَزَلْ يَفْتِلُ فِي الذّرْوَةِ وَالْغَارِبِ. هَذَا مَثَلٌ، وَأَصْلُهُ
فِي الْبَعِيرِ، يُسْتَصْعَبُ عَلَيْك فَتَأْخُذُ الْقُرَادَ مِنْ
ذِرْوَتِهِ وَغَارِبِ سَنَامِهِ، وَتَفْتِلُ هُنَاكَ، فَيَجِدُ الْبَعِيرُ
لَذّةً فَيَأْنَسُ عِنْدَ ذَلِكَ «2» ، فَضُرِبَ هَذَا الْكَلَامُ مَثَلًا
فِي الْمُرَاوَضَةِ وَالْمُخَاتَلَةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ
__________
(1) ولكن يقول الخشنى: «كذا وقع هنا بالزاء مفتوحة، ورغابة بالراء المفتوحة
هو الجيد وكذلك رواه الوقشى» ص 301.
(2) فسره الخشنى بقوله: أراد بذلك أنه لم يزل يخدعه كما يخدع البعير إذا
كان نافرا فيمسح باليد على ظهره حتى يستأنس، فيجعل الخطام على رأسه. ص 201.
(6/311)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابْنِ الزّبَيْرِ حِينَ أَرَادَ عَائِشَةَ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى
الْبَصْرَةِ «1» ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَفْتِلُ فِي الذّروة
والغارب حتى أجابته. وقال الخطيئة:
لَعَمْرُك مَا قُرَادُ بَنِي بَغِيضٍ ... إذَا نُزِعَ القواد بِمُسْتَطَاعِ
«2»
يُرِيدُ: أَنّهُمْ لَا يُخْدَعُونَ وَلَا يُسْتَذَلّونَ.
اللّحْنُ:
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَنُوا
لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتّوا فِي أَعْضَادِ النّاسِ.
اللّحْنُ: الْعُدُولُ بِالْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ
النّاسِ إلَى وَجْهٍ لَا يَعْرِفُهُ إلّا صَاحِبُهُ، كَمَا أَنّ اللّحْنَ
الّذِي هُوَ الْخَطَأُ عُدُولٌ عَنْ الصّوَابِ الْمَعْرُوفِ.
قَالَ السّيرَافِيّ: مَا عَرَفْت حَقِيقَةَ مَعْنَى النّحْوِ إلّا مِنْ
مَعْنَى اللّحْنِ الّذِي هُوَ ضِدّهُ، فَإِنّ اللّحْنَ عُدُولٌ عَنْ
طَرِيقِ الصّوَابِ، وَالنّحْوُ قَصْدٌ إلَى الصّوَابِ، وَأَمّا اللّحَنُ
بِفَتْحِ الْحَاءِ، فَأَصْلُهُ مِنْ هَذَا إلّا أَنّهُ إذَا لَحَنَ لَك
لِتَفْهَمَ عَنْهُ، فَفَهِمْت سُمّيَ ذَلِكَ الْفَهْمُ لَحَنًا، ثُمّ قِيلَ
لِكُلّ مَنْ فَهِمَ قَدْ لَحِنَ بكسر
__________
(1) يقول ابن قتيبة فى ضبطها «مسكنة الصاد، وكسرها خطأ، فاذا حذفوا الهاء
قالوا: البصر، فكسروا الباء، وإنما أجازوا فى النسب بصرى لذلك» ص 420 أدب
الكاتب، وانظر معجم البكرى. وفى القاموس البصرة بلد وموضع ويكسر ويحرك
وبكسر الصاد، أو هو معرب بس راه، أى كثير الطرق.
(2) البيت فى اللسان وفيه كليب بدلا من: بغيض، وقد نسبه الأزهرى للأخطئى.
(6/312)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَاءِ، وَأَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْفَهْمِ عَنْ اللاحن «1» قال
الجاحظ فى قول مالك ابن أَسْمَاءَ [بْنِ خَارِجَةَ الْفَزَارِيّ] :
مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا ... نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا
كَانَ لَحْنَا «2»
أراد أنّ اللّحن الذى هو الخطأ فد يستملح، ويستطاب من الجارية الحديثة
السّزّ، وخطّىء الْجَاحِظُ فِي هَذَا التّأْوِيلِ «3» ، وَأُخْبِرَ بِمَا
قَالَهُ الحجاج بن
__________
(1) فى اللسان: اللحن واللحن- بالسكون فى الحاء الأولى والفتح فى الثانية
واللحانة واللحابن ترك الصواب فى القراءة والنشيد. وفيه أيضا: اللحن- بفتح
الحاء- الفطنة.
(2) يريد: أنها تتكلم بشىء وهى تريد غيره، وتعرض فى حديثها، فنزيله عن جهته
من فطنتها. وفسر القالى قوله: وتلحن أحيانا: تصيب، وذكر أن اللحن بفتح
الحاء هو الفطنة. قال: وربما أسكنوا الحاء فى الفطنة، وقال: لحن الرجل يلحن
بفتح الحاء لحنا فهو لاحن إذا أخطأ، ولحن يلحن بكسر الحاء فى الماضى وفتحها
فى المضارع- فهو لحن بفتح فكسر إذا أصاب وفطن. واستشهد بالبيت وبيت قبله.
(3) قال الجاحظ: وقد قال مالك بن أسماء فى استملاح اللحن من بعض نسائه:
أمغطى منى على بصرى للحب ... أم أنت أكمل الناس حسنا
وحديث ألذه هو مما ... تشتهيه النفوس يوزن وزنا
ثم ذكر البيت الذى فى الروض وقال فى موضع آخر: وقال مالك بن أسماء فى بعض
نسائه، وكانت لا تصيب الكلام كثيرا وربما لحنت ثم ذكر ثلاثة الأبيات ص 147،
225 ح 1 البيان والتبيين بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، وانظر ص 599 من
أمالى ثعلب بتحقيق الأستاذ الفاضل وقد أنشد ابن الأنبارى فى كتاب الأضداد
البيت وبيتا قبله، وقال: أى أبو العباس: أراد بتلحن: تصيب وتفطن، وأراد
بقوله: ما كان لحنا: ما كان صوابا. ونقل قول ابن قتيبة «وهذا-
(6/313)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُوسُفَ لِامْرَأَتِهِ: هِنْدِ بِنْتِ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ، حِينَ
لَحَنَتْ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا، اللّحْنَ فَاحْتَجّتْ بِقَوْلِ أَخِيهَا
مَالِكِ بْنِ أَسْمَاءَ:
وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا
فَقَالَ لَهَا الْحَجّاجُ: لَمْ يُرِدْ أَخُوك هَذَا، إنّمَا أَرَادَ
اللّحْنَ الّذِي هُوَ التّوْرِيَةُ وَالْإِلْغَازُ، فَسَكَتَتْ، فَلَمّا
حُدّثَ الْجَاحِظُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: لَوْ كَانَ بَلَغَنِي هَذَا
قَبْلَ أَنْ أُؤَلّفَ كِتَابَ الْبَيَانِ مَا قُلْت فِي ذَلِكَ مَا قُلْت،
فَقِيلَ لَهُ:
أَفَلَا تُغَيّرُهُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ سَارَتْ بِهِ الْبِغَالُ
الشّهْبُ وَأَنْجَدَ فِي الْبِلَادِ وَغَارَ.
وَكَمَا قَالَ الْجَاحِظُ فِي مَعْنَى تَلْحَنُ أَحْيَانًا قَالَ ابْنُ
قُتَيْبَةَ مثله أو قريبا منه «1»
__________
- الشاعر استملح من هذه المرأة ما يقع فى كلامها من الخطأ» ثم رد قول ابن
قتيبة بقوله: وقوله عندنا محال، لأن العرب لم تزل تستقبح اللحن من النساء
كما تستقبحه من الرجال الخ ص 210 ط الحسينية. وقد ذكر ابن قتيبة بعد البيت
أربعة أبيات أخرى. كما نقل ثلاثة الأبيات فى ص ن من مقدمته لكتابه عيون
الأخبار، ونقلها ايضا فى ص 161، 162 ح 2 ونقل تعليق ابن دريد على الأبيات،
وهو قوله: استثقل منها الإعراب.
(1) يقول الأستاذ عبد السلام هارون فى تعليقه على أمالى ثعلب «وقد نبه
الجاحظ إلى خطئه فاعترف به، وقصته واعترافه فى تاريخ بغداد «12: 214» ومعجم
الأدباء (6: 65) مرجليوث ص 599 أمالى ثعلب. هذا وقد قال الحجاج لهند لما
لحنت: أتلحنين وأنت شريفة، وفى بيت قيس، فاستشهدت بقول أخيها كما ذكر
السهيلى، فقال لها: إنما عنى أخوك اللحن فى القول إذا كنى المحدث عما يريد،
ولم يعن اللحن فى العربية، فأصلحى لسانك. وانظر ص 11، 12 من أمالى المرتضى،
ففيها بيان خطأ الجاحظ واعترافه بهذا الخطأ، ونص المرتضى على خطأ ابن قتيبة
حين ذكر فى كتابه عيون الأخبار أبيات الفزارى يعتذر بها عن لحن أصيب فى
كتابه- كما يقول المرتضى ط 1.
(6/314)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: يَفُتّ فِي أَعْضَادِ النّاسِ، أَيْ يَكْسِرُ مِنْ قُوّتِهِمْ
وَيُوهِنُهُمْ، وَضُرِبَ الْعَضُدُ مَثَلًا، وَالْفَتّ: الْكَسْرُ،
وَقَالَ: فِي أَعْضَادِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: يَفُتّ أَعْضَادَهُمْ، لِأَنّهُ
كِنَايَةٌ عَنْ الرّعْبِ الدّاخِلِ فِي الْقَلْبِ، وَلَمْ يُرِدْ كَسْرًا
حَقِيقِيّا، وَلَا الْعَضُدَ الّذِي هُوَ الْعُضْوُ، وَإِنّمَا هُوَ
عِبَارَةٌ عَمّا يَدْخُلُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْوَهْنِ، وَهُوَ مِنْ
أَفْصَحِ الْكَلَامِ.
وَذَكَرَ أَوْسَ بْنَ قَيْظِيّ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِنَّ بُيُوتَنا
عَوْرَةٌ وَابْنُهُ:
عَرَابَةُ بْنُ أَوْسٍ كَانَ سَيّدًا، وَلَا صُحْبَةَ لَهُ، وَقَدْ قِيلَ:
لَهُ صُحْبَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَنْ اُسْتُصْغِرَ يوم أحد، وهو الذى
بقول فِيهِ الشّمّاخُ:
إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدِ ... تلقاها عرابة باليمين «1»
ولعرابة أخ اسمه: كباثة مَذْكُورٌ فِي الصّحَابَةِ أَيْضًا.
مُصَالَحَةُ الْأَحْزَابِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا هَمّ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ مُصَالَحَةِ الْأَحْزَابِ عَلَى ثُلُثِ تَمْرِ
الْمَدِينَةِ، وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ إعْطَاءِ المال للعدوّ، إذا
كان فيه نظر للمسلمين وَحِيَاطَةٌ لَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ
هَذَا الخبر، وأنه أمر
__________
(1) معناها كما يقول البكرى فى السمط: القوة أو الحق. ومن القصيدة:
إذَا بَلّغْتنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمّ
الوثين
فنعم المرتجى رحلت إليه ... رحى حيزومها كرحى الطحين
ص 607- 619 السمط.
(6/315)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْمُولٌ بِهِ، وَذَكَرَ أَنّ مُعَاوِيَةَ صَالَحَ مَلِكَ الرّومِ عَلَى
الْكَفّ عَنْ ثُغُورِ الشّامِ بِمَالِ دَفَعَهُ إلَيْهِ، قِيلَ: كَانَ
مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخَذَ مِنْ الرّومِ رَهْنًا، فَغَدَرَتْ
الرّومُ، وَنَقَضَتْ الصّلْحَ، فَلَمْ يَرَ مُعَاوِيَةُ قَتْلَ
الرّهَائِنِ، وَأَطْلَقَهُمْ، وَقَالَ: وَفَاءً بِغَدْرِ خَيْرٌ مِنْ
غَدْرٍ بِغَدْرِ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيّ وَأَهْلِ الشّامِ
أَلّا تُقْتَلَ الرّهَائِنُ، وَإِنْ غَدَرَ الْعَدُوّ.
سَلْمَانُ مِنّا:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ
بِالنّصْبِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ عَلَى إضْمَارِ أَعْنِي، وَأَمّا
الْخَفْضُ عَلَى الْبَدَلِ، فَلَمْ يَرَهُ سِيبَوَيْهِ جَائِزًا مِنْ
ضَمِيرِ الْمُتَكَلّمِ، وَلَا مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ، لِأَنّهُ فِي
غَايَةِ الْبَيَانِ، وَأَجَازَهُ الأخفش.
حول مبارزة ابن أدّ لعلى:
فصل: وذكر خبر عمرو بن أدّ الْعَامِرِيّ، وَمُبَارَزَتَهُ لِعَلِيّ إلَى
آخِرِ الْقِصّةِ، وَوَقَعَ فِي مَغَازِي ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ
رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْ الْبَكّائِيّ فِيهَا زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ،
رَأَيْت أَنْ أُورِدَهَا هُنَا تَتْمِيمًا لِلْخَبَرِ.
قَالَ ابن إسحاق: إن عمرو بن أدّ «1» خَرَجَ فَنَادَى: هَلْ مِنْ
مُبَارِزٍ؟
فَقَامَ عَلِيّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ مُقَنّعٌ بِالْحَدِيدِ،
فَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا نَبِيّ اللهِ، فَقَالَ:
إنّهُ عَمْرٌو اجْلِسْ، وَنَادَى عَمْرٌو أَلَا رَجُلٌ يُؤَنّبُهُمْ،
وَيَقُولُ: أَيْنَ جَنّتُكُمْ الّتِي تَزْعُمُونَ أَنّهُ مَنْ قُتِلَ
مِنْكُمْ دَخَلَهَا، أَفَلَا تُبْرِزُونَ لِي رَجُلًا، فقام علىّ،
__________
(1) فى السيرة: ود. وكان سنه كما ذكر ابن سعد تسعين عاما.
(6/316)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ إنّهُ عَمْرٌو، ثُمّ
نَادَى الثّالِثَةَ وَقَالَ:
وَلَقَدْ بَحِحْت مِنْ النّدَا ... ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ؟
وَوَقَفْت إذْ جَبُنَ الْمُشَ ... جّعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاك إنّي لَمْ أَزَلْ ... مُتَسَرّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ «1»
إنّ الشّجَاعَةَ فِي الْفَتَى ... وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ
فَقَامَ عَلِيّ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا لَهُ فَقَالَ: إنّهُ
عَمْرٌو، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ عَمْرًا، فَأَذِنَ لَهُ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَشَى إلَيْهِ عَلِيّ، حَتّى أَتَاهُ وَهُوَ
يَقُولُ
لَا تَعْجَلَنّ فَقَدْ أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز
ذونيّة وَبَصِيرَةٍ ... وَالصّدْقُ مُنْجِي كُلّ فَائِزْ
إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِ ... يمَ عَلَيْك نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ ... قَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا على، قال: ابن عبد مناف؟
فقال: أناء ابن أبى طالب، فقال: غيرك يابن أَخِي مِنْ أَعْمَامِك مَنْ هُوَ
أَسَنّ مِنْك، فَإِنّي أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ دَمَك، فَقَالَ لَهُ عَلِيّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَلَكِنّي وَاَللهِ لَا أَكْرَهُ أَنْ أُهْرِيقَ
دَمَك، فَغَضِبَ وَنَزَلَ فَسَلّ سَيْفَهُ، كَأَنّهُ شُعْلَةُ نَارٍ، ثُمّ
أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ مُغْضَبًا، وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ عَلَى فَرَسِهِ،
فقال له علىّ: كيف أقاتلك،
__________
(1) الهزاهز: الفتن يهتز فيها الناس.
(6/317)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَنْتَ عَلَى فَرَسِك، وَلَكِنْ انْزِلْ مَعِي، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ،
ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيّ، وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيّ- رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- بِدَرَقَتِهِ «1» ، فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِيهَا فَقَدّهَا
وَأَثْبَتَ فِيهَا السّيْفَ، وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجّهُ، وَضَرَبَهُ
عَلِيّ عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ، فَسَقَطَ، وَثَارَ الْعَجَاجُ، وَسَمِعَ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التّكْبِيرَ، فَعَرَفَ أَنّ
عَلِيّا- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدْ قَتَلَهُ، فَثَمّ يَقُولُ عَلِيّ
رَضِيَ الله عنه:
أسلّى تَقْتَحِمُ الْفَوَارِسُ هَكَذَا ... عَنّي وَعَنْهُ أَخّرُوا
أَصْحَابِي
فَالْيَوْمَ تَمْنَعُنِي الْفِرَارَ حَفِيظَتِي ... وَمُصَمّمٌ فِي
الرّأْسِ لَيْسَ بِنَابِي
أَدّى عُمَيْرٌ حِينَ أُخْلِصَ صَقْلُهُ ... صَافِي الْحَدِيدَةِ
يَسْتَفِيضُ ثَوَابِي
فَغَدَوْت أَلْتَمِسُ الْقِرَاعَ بِمُرْهَفِ ... عَضْبٍ مَعَ الْبَثْرَاءِ
فِي أَقْرَابِ
قَالَ ابْنُ عَبْدٍ حِينَ شَدّ أَلِيّةً ... وَحَلَفْت فَاسْتَمِعُوا مِنْ
الْكَذّابِ
أَلّا يَفِرّ وَلَا يُهَلّلَ فَالْتَقَى ... رَجُلَانِ يَلْتَقِيَانِ كُلّ
ضِرَابِ
وَبَعْدَهُ: نَصَرَ الْحِجَارَةَ إلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ، إلّا أَنّهُ
رُوِيَ: عَبَدَ الْحِجَارَةَ، وَعَبَدْت رَبّ مُحَمّدٍ، وَرُوِيَ فِي
مَوْضِعٍ: وَلَقَدْ بَحِحْت: وَلَقَدْ عَجِبْت، وَيُرْوَى: فَالْتَقَى
أَسَدَانِ يضطربان كلّ سراب، وَفِيهِ إنْصَافٌ مِنْ عَلِيّ- رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- لِقَوْلِهِ: أَسَدَانِ، وَنَسَبِهِ إلَى الشّجَاعَةِ وَالنّجْدَةِ.
وَقَوْلُهُ: أَدّى عُمَيْرٌ إلَى قَوْلِهِ ثَوَابِي، أَيْ أَدّى إلَيّ
ثَوَابِي، وَأَحْسَنَ جَزَائِي حِينَ أَخْلَصَ صَقْلَهُ،
__________
(1) الدرقة: الترس من جلد ليس خشب ولا عقب، والعقب هو القصب الذى تعمل منه
الأوتار.
(6/318)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ
مُتَهَلّلٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
هَلّا سَلَبْته دِرْعَهُ، فَإِنّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ
مِنْهَا، فَقَالَ:
إنّي حِينَ ضَرَبْته اسْتَقْبَلَنِي بِسَوْأَتِهِ، فَاسْتَحْيَيْت ابْنَ
عَمّي أَنْ أَسْتَلِبَهُ، وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً حَتّى
اقْتَحَمَتْ الْخَنْدَقَ هَارِبَةً، فَمِنْ هُنَا لَمْ يَأْخُذْ عَلِيّ
سَلَبَهُ، وَقِيلَ تَنَزّهَ عَنْ أَخْذِهَا، وَقِيلَ: إنّهُمْ كَانُوا فِي
الْجَاهِلِيّةِ إذَا قَتَلُوا الْقَتِيلَ لَا يَسْلُبُونَهُ ثِيَابَهُ.
وَقَوْلُ عَمْرٍو لِعَلِيّ: وَاَللهِ مَا أُحِبّ أَنْ أَقْتُلَك، زَادَ
فِيهِ غَيْرُهُ: فَإِنّ أَبَاك كَانَ لِي صَدِيقًا، قَالَ الزّبَيْرُ:
كَانَ أَبُو طَالِبٍ يُنَادِمُ مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرٍو، فَلَمّا
هَلَكَ اتّخَذَ عَمْرَو بْنَ وُدّ نَدِيمًا، فَلِذَلِكَ قَالَ لِعَلِيّ
حِينَ بَارَزَهُ ما قال.
الفرعل:
وقول حسان فى عكرمة:
كأن ففاك قَفَا فُرْعُلِ
الْفُرْعُلُ: وَلَدُ الضّبْعِ.
وَذَكَرَ قَوْلَ سعد:
ليّث قَلِيلًا يَلْحَقْ الْهَيْجَا حَمَلْ
هُوَ بَيْتٌ تَمَثّلَ بِهِ عَنَى بِهِ حَمَلَ بْنَ سَعْدَانَةَ بْنِ حارثة
بن معقل بن كعب ابن عُلَيْمِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيّ. وَقَوْلُهُ
يَرْقَدّ «1» بِالْحَرْبَةِ أَيْ: يُسْرِعُ بِهَا، يُقَالُ:
ارْقَدّ وَارْمَدّ بِمَعْنَى واحد. قال ذو الرّمّة:
__________
(1) فى السيرة: يرفل.
(6/319)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرقدّ فى أثر عرّاض وَتَتْبَعُهُ ... صَهْبَاءُ شَامِيّةٌ عُثْنُونُهَا
حَصِبُ «1»
يَعْنِي الرّيحَ.
ابْنُ الْعَرِقَةِ وَأُمّ سَعْدٍ:
وَابْنُ الْعَرِقَةِ الّذِي رَمَى سَعْدًا هُوَ حِبّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ
الْعَرِقَةِ، وَالْعَرِقَةُ هِيَ قِلَابَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ
بْنِ سَهْمِ [بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بن هصيص بن كعب ابن لُؤَيّ] تُكَنّى
أُمّ فَاطِمَةَ، سُمّيَتْ الْعَرِقَةَ لِطِيبِ رِيحِهَا، وَهِيَ جَدّةُ
خَدِيجَةَ أُمّ أُمّهَا هَالَةُ، وَحِبّانُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
مُنْقِدِ بن عمرو بن معيص بن عامر ابن لؤىّ «2» .
__________
(1) البيت فى اللسان وفيه عراص وحفيف نافجة بدلا من عراض وصهباء شامية،
وعراض خطأ وقد روى الشطرة الثانية فى مادة حصب كما رواها هنا. وروى البيت
كله فى مادة عرص وشطرته الأولى هكذا يرقد فى ظل عراص ويطرده ... الخ وقبل
البيت:
حتى إذا الهيق أمسى شام أفرخه ... وهن لا مؤبس نأيا ولا كثب
والبيت فى وصف ظليم. أنظر ص 798 سمط اللآلى ص 180 ح 2 ط 2.
(2) فى نسب قريش: عبد مناف بن الحارث بن منقذ الخ ص 22، 412 ويقول عنه إنه
أخو هالة لأبيها وأمها. وعند الحافظ فى الفتح عنه فيما شرح به لفظ البخارى
«وهو حبان بن قيس» . ويقال: ابن أبى قيس بن علقمة ابن عبد مناف.
(6/320)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأُمّ سَعْدٍ اسْمُهَا: كَبْشَةُ بِنْتُ رَافِعِ [بْنِ عُبَيْدٍ] «1»
حَوْلَ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ وَحَدِيثُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ ثَابِتٌ مِنْ
وُجُوهٍ «2» ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ أَنّ جبريل
__________
(1) هى من الأنصار من بنى خدرة، وقد ذكر ابن سعد أنها أول من بايع النبى
«ص» من نساء الأنصار.
(2) رواه الشيخان من حديث جابر، وثبت- كما قيل- عن عشرة من الصحابة أو
أكثر. وقال الحاكم: الأحاديث التى تصرح باهتزاز عرش الرحمن مخرجة فى
الصحيحين، وليس لمعارضها فى الصحيح ذكر. وسيأتى حديث السهيلى عن هذا. وقد
أنكر مالك هذا الحديث، وكره التحدث به. فقد سئل- كما روى صاحب العتبية- عن
هذا الحديث، فقال: أنهاك أن تقوله وما يدعو المرء أن يتكلم بهذا، وما يدرى
ما فيه المغرور. ويقول اليعمرى عن إنكار مالك: إن العلماء اختلفوا فى هذا
الخبر، فمنهم من يحمله على ظاهره، ومنهم من يؤوله، وما هذا سبيله من
الأخبار المشكلة، فمن الناس من يكره روايته إذا لم يتعلق به حكم شرعى، فلعل
الكراهة المروية عن مالك من هذا النمط. ويقول أبو الوليد بن رشد فى شرح
العتيبة: إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك
الله بحركته، كما يقع للجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرار الله
تبارك الله وتنزه عن مشابهة خلقه. ولكن مالكا من رواة حديث النزول وهو أصرح
فى إثبات الحركة. فقيل: لعل حديث سعد لم يثبت عنده كما ثبت حديث النزول.
لكن لو كان الأمر كذلك لقال مالك: ليس بثابت، أو لا أعرفه أو ما سمعته أو
نحو ذلك. وكان ابن عمر يقول: إن العرش لا يهتز لأحد، ولكن قيل إنه رجع عن
هذا لما بلغته الروايات. أخرج ذلك ابن حبان من طريق مجاهد عنه. المراد
باعتزاز العرش: قيل المراد استبشاره وسروره بقدوم روحه، كما يقال-
(6/321)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ السّلَامُ نَزَلَ حِينَ مَاتَ سَعْدٌ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةِ
مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ
__________
- لكل من فرح بقدوم أحد عليه: اهتز له، ومنه: اهتزت الأرض بالنبات إذا
اخضرت وحسنت. ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم يريدون: ارتياحه إليها
ووقع ذلك من حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: اهتز العرش فرحا به لكنه تأوله،
فقال: اهتز العرش فرحا بلقاء الله سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا. قال
ابن عمر: يعنى عرش سعد الذى حمل عليه. وقيل: المراد باهتزاز العرش: اهتزاز
حملة العرش ويؤيده حديث إن جبريل قال: من هذا الميت الذى فتحت له أبواب
السماء، واستبشر به أهلها؟ «أخرجه الحاكم» وقيل: هى علامة نصبها الله لموت
من يموت من أوليائه، ليشعر ملائكته بفضله. وقال الحربى: هو عبارة عن تعظيم
شأن وفاته من النبى، والعرب إذا عظموا الأمر نسبوه إلى عظيم، كما يقولون:
قامت لموت فلان القيامة، وأظلمت الدنيا بموته ونحو ذلك. وقال النووى فى شرح
مسلم ما معناه: إن طائفة حملت الاهتزاز على ظاهره، وقالوا إن اهتزاز العرش
تحركه حقيقة فرحا بقدوم روح سعد، وجعل الله فى العرش تمييزا حصل به هذا
التحرك، ولا مانع منه كما قال تعالى عن الحجارة، (وإن منها لما يهبط من
خشية الله) وهذا القول هو ظاهر الحديث، وهو المختار. ويقول المازرى عن حركة
العرش: وهذا لا ينكر من جهة العقل، لأن العرش جسم مخلوق يقبل الحركة
والسكون. وأقول: دين السلف: إذا ثبت النص ثبوتا لا اختلاف عليه، فإنه لا
يجوز تأويله تأويلا يفسد معناه، أو يجرده من حقيقته، وإنما يجب حمله كما
ورد دون تشبيه لما نسب إلى الله من صفة أو اسم أو فعل بما ينسب إلى الخلق
من ذلك. وقد نبهت إلى ذلك مرارا فى الكتاب. فلله مثلا يدان حقيقتان ليستا
هما النعمة أو القدرة أو غير ذلك مما يهرف به المعطلة، لكنهما ليستا كيد
الخلق، وإذا كانت أيدى البشر لا تتشابه، فكيف نشبه يد الخالق بيد الخلق،
فنقع فى وصف الله بأنه عدم حين تجرد صفاته من معانيها، أر بأنه صنم حين
ننسب إليه عين ما ننسبه إلى الخلق، تعالى الله عن هذا علوا كبيرا. وما نقلت
ما نقلت إلا لتعرف فحسب.
(6/322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْ هَذَا الْمَيّتُ الّذِي فُتّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السّمَاءِ، وَاهْتَزّ
لَهُ الْعَرْشُ؟ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَقَدْ
نَزَلَ لِمَوْتِ سَعْدِ بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطؤا الْأَرْضَ
قَبْلَهَا، وَيُذْكَرُ أَنّ قَبْرَهُ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ. لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ
لَنَجَا مِنْهَا سَعْد «1» ، وَفِي كِتَابِ الدّلَائِلُ أَنّ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى قَبْرِ سَعْدٍ حِينَ
وُضِعَ فِيهِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ لِهَذَا الْعَبْدِ الصالح ثمّ فِي
قَبْرِهِ ضَمّةً، ثُمّ فُرّجَ عَنْهُ، وَأَمّا ضغطة للقبر الّتِي ذَكَرَ
فِي الْحَدِيثِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا
أَنّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا انْتَفَعْت بِشَيْءِ مُنْذُ
سَمِعْتُك تَذْكُرُ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ، وَضَمّتَهُ [وَصَوْتَ مُنْكَرٍ
وَنَكِيرٍ] فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إنّ ضَغْطَةَ الْقَبْرِ عَلَى
الْمُؤْمِنِ أَوْ قَالَ ضَمّةُ الْقَبْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَضَمّةِ
الْأُمّ الشّفِيقَةِ يَدَيْهَا عَلَى رَأْسِ ابْنِهَا، يَشْكُو إلَيْهَا
الصّدَاعَ، وَصَوْتُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ،
وَلَكِنْ يَا عَائِشَةُ وَيْلٌ لِلشّاكّينَ [فِي اللهِ] أُولَئِكَ الّذِينَ
يُضْغَطُونَ فِي قُبُورِهِمْ ضَغْطَ الْبَيْضِ عَلَى الصّخْر. ذَكَرَهُ
أَبُو سَعِيدِ ابن الْأَعْرَابِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ «2» .
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ [يُونُسَ] الشّيْبَانِيّ عَنْهُ،
قَالَ: حَدّثَنِي أميّة ابن عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قُلْت لِبَعْضِ أَهْلِ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: مَا بَلَغَكُمْ فِي هَذَا، يَعْنِي الضّمّةَ الّتِي
انْضَمّهَا الْقَبْرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: كَانَ يقصّر فى بعض الطّهور من
البول
__________
(1) أخرجه ابن سعد وأبو نعيم.
(2) ورواه أيضا: البيهقى وابن مندة.
(6/323)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعض التّقصير «1» .
امر حَسّانُ جَبَانًا؟:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ حَسّانَ حِينَ جُعِلَ فِي الْآطَامِ مَعَ
النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ، وَمَا قَالَتْ لَهُ صَفِيّةُ فِي أَمْرِ
الْيَهُودِيّ حِينَ قَتَلَتْهُ، وَمَا قَالَ لَهَا، وَمَحْمَلُ هَذَا
الْحَدِيثِ عند الناس على أن حسّانا كَانَ جَبَانًا شَدِيدَ الْجُبْنِ،
وَقَدْ دَفَعَ هَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَأَنْكَرَهُ، وَذَلِكَ أَنّهُ
حَدِيثٌ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: لَوْ صَحّ هَذَا لَهُجِيَ بِهِ
حَسّانُ، فَإِنّهُ كَانَ يُهَاجِي الشّعَرَاءَ كَضِرَارِ وَابْنِ الزّبعرى،
وغيرهما، وكانوا يُنَاقِضُونَهُ وَيَرُدّونَ عَلَيْهِ، فَمَا عَيّرَهُ
أَحَدٌ مِنْهُمْ بِجُبْنِ، وَلَا وَسَمَهُ بِهِ، فَدَلّ هَذَا عَلَى ضَعْفِ
حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَإِنْ صَحّ فَلَعَلّ حَسّانَ أَنْ يَكُونَ
مُعْتَلّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بعلّة منعته مِنْ شُهُودِ الْقِتَالِ،
وَهَذَا أَوْلَى مَا تَأَوّلَ عَلَيْهِ، وَمِمّنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ
هَذَا صَحِيحًا أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِ الدّرَرِ لَهُ.
الْحَدِيثُ عَنْ الصّوْرَيْنِ وَدِحْيَةَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بَنِي قُرَيْظَةَ
حِينَ مَرّ بِالصّوْرَيْنِ، وَالصّوْرُ الْقِطْعَةُ مِنْ النّخْلِ «2» ،
فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا مَرّ بِنَا دِحْيَةُ
__________
(1) قيل: إن تقصيره لم يكن على وجه يؤدى إلى فساد عبادته. وأقول: إن الرجل
الذى قيل عنه ما قيل لا نصدق أنه يقع فى مثل هذا الذى نسب إليه. هذا واقرأ
حديث سعد الذى قال فيه: اللهُمّ إنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ
قُرَيْشٍ شيئا الخ المذكور فى السيرة فى البخارى وغيره.
(2) الصورين: موضع قرب المدينة.
(6/324)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ. هُوَ: دِحْيَةُ بِفَتْحِ الدّالِ، وَيُقَالُ:
دِحْيَةُ بِكَسْرِ الدّالِ أَيْضًا، وَالدّحْيَةُ بِلِسَانِ الْيَمَنِ:
الرّئِيسُ، وَجَمْعُهُ دِحَاءٌ، وَفِي مَقْطُوعِ الْأَحَادِيثِ أَنّ
النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى الْبَيْتَ
الْمَعْمُورِ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ دحية، تَحْتَ يَدِ
كُلّ دِحْيَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ، وَرَوَاهُ
ابْنُ سُنْجُرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مُسْنَدًا إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ
الْهُذَيْلِ، رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو التّيّاحِ، وَذَكَرَ أَنّ حَمّادَ بْنَ
سَلَمَةَ قَالَ لِأَبِي التّيّاحِ حِينَ حَدّثَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا
الدّحْيَةُ؟ قَالَ: الرّئِيسُ، وَأَمّا نَسَبُ دِحْيَةَ فَهُوَ ابْنُ
خَلِيفَةَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ فَضَالَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ امْرِئِ
الْقَيْسِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَالْخَزْرَجُ الْعَظِيمُ الْبَطْنِ ابْنُ
زَيْدِ مَنَاةَ ابن عَامِرِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَامِرِ الْأَكْبَرِ بْنِ عوف
بن عذرة بن زيد اللّات ابن رُقَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبٍ «1»
يُذْكَرُ مِنْ جَمَالِهِ أَنّهُ كَانَ إذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ
تَبْقَ مُعْصِرٌ، وَهِيَ الْمُرَاهِقَةُ لِلْحَيْضِ إلّا خَرَجَتْ تَنْظُرُ
إلَيْهِ.
فِقْهُ لَا يُصَلّيَنّ أَحَدُكُمْ الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ:
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا يُصَلّيَنّ أَحَدُكُمْ
الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَغَرَبَتْ عَلَيْهِمْ الشّمْسُ
قَبْلَهَا، فَصَلّوْا العضر بِهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَمَا
عَابَهُمْ اللهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، وَلَا عَنّفَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ أَنّهُ لَا
يُعَابُ عَلَى مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثٍ أَوْ آيَةٍ، فَقَدْ صَلّتْ
مِنْهُمْ طائفة
__________
(1) لم يذكر ابن حزم فى نسبه زيد مناة ص 428 الجمهرة. وذكر ابن دريد فى
الاشتقاق أن الخزرج هو الريح العاصف.
(6/325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْل أَنْ تَغْرُبَ الشّمْسُ، وَقَالُوا: لَمْ يُرِدْ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إخْرَاجَ الصّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَإِنّمَا
أَرَادَ الْحَثّ وَالْإِعْجَالَ، فَمَا عُنّفَ أَحَدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ،
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ كُلّ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْفُرُوعِ مِنْ
الْمُجْتَهِدِينَ مُصِيبٌ، وَفِي حُكْمِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فِي
الْحَرْثِ أَصْلٌ لِهَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا، فَإِنّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ:
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً
الْأَنْبِيَاءَ: 79، وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الشّيْءُ صَوَابًا فِي
حَقّ إنْسَانٍ وَخَطَأً فِي حَقّ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ مَنْ اجْتَهَدَ فِي
مَسْأَلَةٍ فَأَدّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى التّحْلِيلِ مُصِيبًا فِي
اسْتِحْلَالِهِ، وَآخَرُ اجْتَهَدَ فَأَدّاهُ، اجْتِهَادُهُ وَنَظَرُهُ
إلَى تَحْرِيمِهَا، مُصِيبًا فِي تَحْرِيمِهَا، وَإِنّمَا الْمُحَالُ أَنْ
يُحْكَمَ فِي النّازِلَةِ بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادّيْنِ فِي حَقّ شَخْصٍ
وَاحِدٍ، وَإِنّمَا عَسُرَ فَهْمُ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى طَائِفَتَيْنِ:
الظّاهِرِيّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، أَمّا الظّاهِرِيّةُ فَإِنّهُمْ عَلّقُوا
الْأَحْكَامَ بِالنّصُوصِ، فَاسْتَحَالَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ النّصّ
يَأْتِي بِحَظْرِ، وَإِبَاحَةٍ مَعًا إلّا عَلَى وَجْهِ النّسْخِ، وَأَمّا
الْمُعْتَزِلَةُ، فَإِنّهُمْ عَلّقُوا الْأَحْكَامَ بِتَقْبِيحِ الْعَقْلِ
وَتَحْسِينِهِ، فَصَارَ حُسْنُ الْفِعْلِ عِنْدَهُمْ أَوْ قُبْحُهُ صِفَةَ
عَيْنٍ، فَاسْتَحَالَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتّصِفَ فِعْلٌ بِالْحُسْنِ فِي
حَقّ زَيْدٍ وَالْقُبْحِ فِي حَقّ عَمْرٍو، كَمَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِي
الْأَلْوَانِ، وَالْأَكْوَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصّفَاتِ الْقَائِمَةِ
بِالذّوَاتِ، وَأَمّا مَا عَدَا هَاتَيْنِ الطّائِفَتَيْنِ مِنْ أَرْبَابِ
الْحَقَائِقِ، فَلَيْسَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَاتِ
أَعْيَانٍ، وَإِنّمَا هِيَ صِفَاتُ أَحْكَامٍ، وَالْحُكْمُ مِنْ اللهِ
تَعَالَى يَحْكُمُ بِالْحَظْرِ فى النازلة على من أداه نظره وَاجْتِهَادُهُ
إلَى الْحَظْرِ، وَكَذَلِكَ الْإِبَاحَةُ وَالنّدْبُ وَالْإِيجَابُ
وَالْكَرَاهَةُ، كُلّهَا صِفَاتُ أَحْكَامٍ، فَكُلّ مُجْتَهِدٍ وَافَقَ
اجْتِهَادُهُ وَجْهًا مِنْ التّأْوِيلِ، وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَدَوَاتِ
الِاجْتِهَادِ مَا يَتَرَفّعُ بِهِ عَنْ حَضِيضِ
(6/326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التّقْلِيدِ إلَى هَضْبَةِ النّظَرِ، فَهُوَ مُصِيبٌ فِي اجْتِهَادِهِ
مُصِيبٌ لِلْحُكْمِ الّذِي تَعَبّدَ بِهِ، وَإِنْ تَعَبّدَ غَيْرُهُ فِي
تِلْكَ النّازِلَةِ بِعَيْنِهَا بِخِلَافِ مَا تَعَبّدَ هُوَ بِهِ، فَلَا
يُعَدّ فِي ذَلِكَ إلّا عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَائِقَ أَوْ عَدَلَ
بِهِ الْهَوَى عن أوضح الطرائق «1» .
__________
(1) يقول الحافظ فى الفتح تعليقا على هذا، وهو أن كل مجتهد مصيب على
الإطلاق: ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه
عدم تأثيمه.، هذا ومن المشهور الذى عليه الجمهور أن المصيب فى القطعيات
واحد. وخالف هذا الجاحظ والعنبرى. وما لا قطع فيه فالجمهور يرى أيضا أنه
واحد. ويقول الأشعرى: كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد ويرى
بعض الحنفية والشافعية أن من لم يصب ما فى نفس الأمر فهو مخطىء. وأقول:
الحق واحد لا يتعدد، والله لا يجعل الشىء مباحا ومحظورا من جهة واحدة: وإذا
كان الأمر كذلك؛ فان من اجتهد- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- وأصاب
فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد استحقه باجتهاده. ويقال لمن أصاب
الحق محق. ولمن لم يصبه: غير محق فى رأيه، لكن قد يكون الشىء واجبا فعله
ومحظورا فعله لا من جهة واحدة، وإنما من جهات متعددة، أو من جهتين
مختلفتين، كالصوم فى بعض أحواله المعروفة. هذا وقد وقع فى جميع نسخ البخارى
أن الصلاة هى العصر، واتفق على هذا جميع أهل المغازى، ولكن وقع فى جميع نسخ
مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخارى ومسلم على روايته عن شيخ واحد باسناد
واحد. ووافق مسلما ابن سعد وابن حبان كلاهما من طريق مالك بن اسماعيل.
وانظر التوفيق بين هذا فى شرح المواهب اللدنية ص 130 ح 2 وفى فتح البارى فى
الغزوة. ومن بين التوفيق أن البخارى كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ كما عرف
من مذهبه فى تجويز ذلك بخلاف مسلم فانه يحافظ كثيرا على اللفظ.
(6/327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَوْلَ قِصّةِ أَبِي لُبَابَةَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَبَا لُبَابَةَ وَاسْمُهُ رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَر «1» وَقِيلَ:
اسْمُهُ مُبَشّرٌ «2» ، وَتَوْبَتَهُ وَرَبْطَهُ نَفْسَهُ حَتّى تَابَ
اللهُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنّهُ أَقْسَمَ أَلّا يَحُلّهُ إلّا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى حَمّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عن على ابن زَيْدٍ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنّ فَاطِمَةَ
أَرَادَتْ حَلّهُ حِينَ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ، فَقَالَ:
قَدْ أَقْسَمْت أَلّا يَحُلّنِي إلّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إنّ فَاطِمَةَ مُضْغَةٌ مِنّي، فَصَلّى اللهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى
فَاطِمَةَ، فَهَذَا حَدِيثٌ يَدُلّ عَلَى أَنّ مَنْ سَبّهَا فَقَدْ كَفَرَ،
وَأَنّ مَنْ صَلّى عَلَيْهَا، فَقَدْ صَلّى عَلَى أَبِيهَا- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِيهِ: أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً التّوْبَةَ: 102
الْآيَةَ، غَيْرَ أَنّ الْمُفَسّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي ذَنْبِهِ مَا كَانَ،
فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا ذَكَرَهُ فِي السّيرَةِ مِنْ إشَارَتِهِ عَلَى
بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ مِنْ الْمُخَلّفِينَ: الّذِينَ
تَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَنَزَلَتْ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ.
لَعَلّ وَعَسَى وَلَيْتَ:
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصّ عَلَى تَوْبَتِهِ وَتَوْبَةِ اللهِ
عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ.
فَالْجَوَابُ: أَنّ عَسَى مِنْ اللهِ وَاجِبَةٌ وَخَبَرُ صدق. فإن قيل: وهو
سؤال
__________
(1) فى جمهرة ابن حزم ص 314 وفى الإصابة: زر.
(2) مختلف فى اسمه فهو بشير، وهو مروان. أنظر الإصابة والاشتقاق لابن دريد
ص 438.
(6/328)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ: إنّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ،
وَلَيْسَتْ عَسَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِخَبَرِ، وَلَا تَقْتَضِي
وُجُوبًا، فَكَيْفَ تَكُونُ عَسَى وَاجِبَةً فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ
بِخَارِجِ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؟
وَأَيْضًا: فَإِنّ لَعَلّ تُعْطِي مَعْنَى التّرَجّي، وَلَيْسَتْ مِنْ
اللهِ وَاجِبَةً، فَقَدْ قَالَ:
(لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فَلَمْ يَشْكُرُوا، وَقَالَ (لَعَلّهُ
يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى) فَلَمْ يَتَذَكّرْ وَلَمْ يَخْشَ، فَمَا
الْفَرْقُ بَيْنَ لَعَلّ وَعَسَى حَتّى صَارَتْ عَسَى وَاجِبَةً؟
قُلْنَا: لَعَلّ تُعْطِي التّرَجّيَ، وَذَلِكَ التّرَجّي مَصْرُوفٌ إلَى
الْخَلْقِ، وَعَسَى مِثْلُهَا فِي التّرَجّي، وَتَزِيدُ عَلَيْهَا
بِالْمُقَارَبَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً الْإِسْرَاءَ: 79 وَمَعْنَاهُ التّرَجّي مَعَ الْخَبَرِ
بِالْقُرْبِ، كَأَنّهُ قَالَ قَرُبَ أَنْ يَبْعَثَك، فَالتّرَجّي مَصْرُوفٌ
إلَى الْعَبْدِ، كَمَا فِي لَعَلّ، وَالْخَبَرُ عَنْ الْقُرْبِ
وَالْمُقَارَبَةِ مَصْرُوفٌ إلَى اللهِ تَعَالَى، وَخَبَرُهُ حَقّ
وَوَعْدُهُ حَتْمٌ، فَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْخَبَرِ فَهُوَ الْوَاجِبُ
دُونَ التّرَجّي الّذِي هُوَ مُحَالٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَصْرُوفٌ
إلَى الْعَبْدِ، وَلَيْسَ فِي لَعَلّ مِنْ تَضَمّنِ الْخَبَرِ مِثْلُ مَا
فِي عَسَى، فَمِنْ ثَمّ كَانَتْ عَسَى وَاجِبَةً إذَا تَكَلّمَ اللهُ
بِهَا، وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَعَلّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَجُوزُ فِي لَيْتَ مَا كَانَ فِي لَعَلّ مِنْ
وُرُودِهَا فِي كَلَامِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ
التّمَنّي مَصْرُوفًا إلَى الْعَبْدِ، كَمَا كَانَ التّرَجّي فِي لَعَلّ
كَذَلِكَ؟
(6/329)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي لَعَلّ عَلَى
شَرْطٍ وَصُورَةٍ، نَحْوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا فِعْلٌ، وَبَعْدَهَا
فِعْلٌ، وَالْأَوّلُ سَبَبٌ لِلثّانِي نَحْوَ قَوْلِهِ: يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ النحل: 90، فَقَالَ بَعْضُ النّاسِ: لَعَلّ
هَاهُنَا بِمَعْنَى كَيْ، أَيْ كَيْ تَذْكُرُوهُ، وَأَنَا أَقُولُ: لَمْ
يَذْهَبْ مِنْهَا مَعْنَى التّرَجّي، لِأَنّ الْمَوْعِظَةَ، مِمّا يُرْجَى
أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلتّذَكّرِ، فَعَلَى هَذِهِ الصّورَةِ وَرَدَتْ فِي
الْقُرْآنِ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ أَيْضًا: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا
يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ هُودٌ: 12 هِيَ هَاهُنَا تَوَقّعٌ
وَتَخَوّفٌ، أَيْ: مَا أَصَابَك مِنْ التّكْذِيبِ مِمّا يَتَخَوّفُ
وَيُتَوَقّعُ مِنْهُ ضِيقُ الصّدْرِ، فَهَذَا هُوَ الْجَائِزُ فِي لَعَلّ،
وَأَمّا أَنْ تَرِدَ فِي الْقُرْآنِ دَاخِلَةً عَلَى الِابْتِدَاءِ
وَالْخَبَرِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ، مُبْتَدِئًا: لَعَلّ زَيْدًا يُؤْمِنُ،
فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنّ الرّبّ سُبْحَانَهُ لَا يَتَرَجّى، وَإِنّ
صُرِفَ التّرَجّي إلَى حَقّ الْمَخْلُوقِ، وَمَوْضُوعُهَا فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلّمُ بِهَا لَا يَسْتَقِيمُ أَيْضًا إلّا
عَلَى الصّورَةِ الّتِي قَدّمْنَا مِنْ كَوْنِهَا بِمَعْنَى: كَيْ،
وَوُقُوعُهَا بَيْنَ السّبَبِ وَالْمُسَبّبِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا
إشْكَالَ فِي لَيْتَ أَنّهَا لَا تَكُونُ فِي كَلَامِ الْبَارِي
سُبْحَانَهُ، لِأَنّ التّمَنّي مُحَالٌ عَلَيْهِ، وَالتّرَجّي وَالتّوَقّعُ
وَالتّخَوّفُ كَذَلِكَ، حَتّى تُزِيلَهَا عَنْ الْمَوْضِعِ الّذِي يَكُونُ
مَعْنَاهَا فِيهِ لِلْمُتَكَلّمِ بِهَا.
مِنْ أَسْمَاءِ السّمَاءِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حُكْمَ سَعْدٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَوْلُ النّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ لَهُ: لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ
فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ، هَكَذَا فِي السّيرَةِ: أَرْقِعَةٍ،
(6/330)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفى الصحيح: من فوق سبع سماوات «1» ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، لِأَنّ
الرّقِيعَ مِنْ أَسْمَاءِ السّمَاءِ، لِأَنّهَا رُقِعَتْ بِالنّجُومِ،
وَمِنْ أَسْمَائِهَا: الْجَرْبَاءُ وَبِرْقِعُ، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ
الْبَكّائِيّ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ فِي حُكْمِ سَعْدٍ:
بِذَلِكَ: طَرَقَنِي الْمَلَكُ سَحَرًا.
فَوْقِيّةُ اللهِ سُبْحَانَهُ:
وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ تَعْلِيمُ حُسْنِ اللّفْظِ إذَا تَكَلّمَتْ
بِالْفَوْقِ مُخْبِرًا عَنْ اللهِ سُبْحَانَهُ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ قَالَ:
بحكم الله من فوق سبع سماوات، وَلَمْ يَقُلْ فَوْقُ عَلَى الظّرْفِ، فَدَلّ
عَلَى أَنّ الْحُكْمَ نَازِلٌ مِنْ فَوْقُ، وَهُوَ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى،
وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ النّحْلَ: 50، أَيْ يَخَافُونَ عِقَابًا يَنْزِلُ مِنْ
فَوْقِهِمْ، وَهُوَ عِقَابُ رَبّهِمْ.
فإن قيل: أو ليس بِجَائِزِ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَنّهُ فَوْقَ
سبع سماوات؟
قُلْنَا: لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ
عَلَى إطْلَاقِ ذَلِكَ، فَإِنْ جَازَ فَبِدَلِيلِ آخَرَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ
زَيْنَبَ: زَوّجَنِي الله من نبيّه من فوق سبع
__________
(1) رواه النسائى. هذا وما حكم به سعد قريب جدا مما فى سفر التثنية، ففى
الإصحاح المتمم للعشرين منه جاء ما يلى: «إن لم تسالمك بل عملت معك حربا،
فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما
النساء والأطفال والبهائم، وكل ما فى المدينة كل غنيمتها؛ فتغنمها لنفسك.
وتأكل غنيمة أعدائك التى أعطاك الرب إلهك» من فقرة 10 إلى 15. وازن بين هذا
وبين حكم سعد «تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم» ثم قول الرسول «ص» له: قضيت
بحكم الله، أفيباح لنا أن نقول إن الحديث يشير إلى هذا الحكم الذى ورد فى
سفر التثنية؟!.
(6/331)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سماوات، وَإِنّمَا مَعْنَاهُ: أَنّ تَزْوِيجَهُ إيّاهَا نَزَلَ مِنْ فوق
سبع سماوات «1» وَلَا يَبْعُدُ فِي الشّرْعِ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ
بِالْفَوْقِ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، لَا عَلَى
الْمَعْنَى الّذِي يَسْبِقُ لِلْوَهْمِ مِنْ التّحْدِيدِ، وَلَكِنْ لَا
يُتَلَقّى إطْلَاقُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِمّا تَقَدّمَ مِنْ الْآيَةِ
وَالْحَدِيثَيْنِ لِارْتِبَاطِ حَرْفِ الْجَرّ بِالْفِعْلِ، حَتّى صَارَ
وَصْفًا لَهُ لَا وَصْفًا لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي
حَدِيثِ الْأُمّةِ الّتِي قَالَ لَهَا: أَيْنَ اللهُ؟ قَالَتْ: فِي
السّمَاءِ مسألة بديعة نافعة شافية رافعة لكل لبس، والحمد لله «2» .
__________
(1) حقيقة الفوقية هى علو ذات الشىء على غيره، والجهميون يزعمون أن فوقية
الله فوقية رتبة وقهر كقولنا: الذهب فوق الفضة. وأهل السنة وسلفنا الصالح
يقولون إن العهد والفطر والعقول والشرائع وجميع كتب الله المنزلة على خلاف
ما يزعم الجهميون، وأنه سبحانه فوق العالم بذاته، فالخطاب بفوقيته ينصرف
إلى ما استقر فى الفطر والعقول والكتب السماوية. والمجاز فى الفوقية وإن
احتمل فى قوله: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) فدلك لأنه قد علم أنهم
جميعا مستقرون على الأرض فهى فوقية قهر وغلبة ولكن هذا المجاز لا يحتمل فى
قوله سبحانه: (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) إذ قد علم بالضرورة أنه
وعباد. ليسوا مستوين فى مكان واحد حتى تكون فوقية قهر وغلبة. واقرأ كتاب
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ولا سيما من أول ص 205 فقد أقام
الأدلة القاطعة من القرآن والسنة والعقل على فوقية الله سبحانه بذاته من
سبعة عشر وجها، واقرأ لابن رشد الفيلسوف فى إثبات جهة العلو لله سبحانه فى
كتابه مناهج الأدلة. وكانت زينب رضى الله عنها تفخر على أزواج النبى تقول:
زوجكن أهاليكن، وزجنى الله تعالى من فوق سبع سماوات. رواه البخارى فى
الصحيح.
(2) وحديث الأمة التى سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت:
الله فى السماء، قال من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله، قال إنها مؤمنة فاعتقها
وكان الذئب قد أصاب شاة من غنم كانت ترعاها لسيدها، فصكها صكة، ثم-
(6/332)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَيّسَةُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَبْسَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَدَثِ،
كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَالصّحِيحُ عِنْدَهُمْ بِنْتُ
الْحَارِثِ، وَاسْمُهَا: كَيّسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ
حَبِيبِ «1» بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ مُسَيْلِمَةَ
الْكَذّابِ، ثُمّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ
كُرَيْزٍ، وَكَيّسَةُ أُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي النّسَاءِ، وَهِيَ بِنْتُ
عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَكَيّسَةُ بِنْتُ أَبِي
بَكْرَة رَوَتْ عَنْ أَبِيهَا عَنْ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ
أَشَدّ النّهْيِ، وَيَقُولُ: فِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدّمُ «2»
: وَأَمّا كَيْسَةُ بِسُكُونِ الْيَاءِ، فَهِيَ بِنْتُ أَبِي كَثِيرٍ
تَرْوِي عَنْ أُمّهَا عَنْ عَائِشَةَ فى الخمر: لا طيّب الله من
__________
- انصرف إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره بما
فعل مع الجارية وأراد عتقها تكفيرا عن ذنبه، فطلب منه الرسول «ص» أن يأتيه
بها. ففعل فسألها عما قدمت ذكره. والحديث فى صحيح مسلم. وقد ورد فى حديث
رواه البخارى ومسلم «ألا تأمنونى، وأنا أمين من السماء، يأتينى خبر السماء
صباحا ومساء» وفوق ذلك كله قول الله سبحانه: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّماءِ) .
(1) فى الاشتقاق لابن دريد: كريز بن ربيعة بن حبيب ص 165 وكذلك هو فى نسب
قريش: كريز بن ربيعة بن حبيب فلعله سقط. فالسهيلى يأخذ يقول الزبيريين فى
الأنساب. وكذلك ذكر نسبه فى كتاب حذف من نسب قريش للسدوسى: كريز بن ربيعة
بن حبيب. وفى الإصابة أن المرأة هى رملة بنت الحارث ابن ثعلبة بن الحارث بن
زيد. وهى زوج معاذ بن الحارث بن رفاعة. وعند أبى الأسود أنهم حبسوا فى دار
أسامة بن زيد.
(2) قول لا يعتد به، وإلا توقفت الجراحات كلها يوم الثلاثاء.
(6/333)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَطَيّبَ بِهَا، وَلَا شَفَى مَنْ اسْتَشْفَى بِهَا، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ
فِي الْأَشْرِبَةِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْكِتَابِ، وَوَقَعَ اسْمُهَا
فِي السّيرَةِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ: زَيْنَبُ بِنْتُ
الْحَارِثِ النّجّارِيّةُ، فَاَللهُ أَعْلَمُ. وَأَمّا كَيّسَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ، فَهِيَ الّتِي أُنْزِلَ فِي دَارِهَا وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ،
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا.
رُفَيْدَةُ:
وَذَكَرَ رُفَيْدَةَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ أَسْلَمَ الّذِي كَانَ سَعْدٌ
يُمَرّضُ فِي خَيْمَتِهَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو عُمَرَ، وَزَادَهَا أَبُو
عَلِيّ الْغَسّانِيّ فِي كِتَابِ أَبِي عُمَرَ، حَدّثَنِي بِتِلْكَ
الزّوَائِدِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْهُ، وَحَدّثَنِي عَنْهُ أَيْضًا
عَنْ أَبِي عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لِأَبِي عَلِيّ: أَمَانَةُ اللهِ فِي
عُنُقِك، مَتَى عَثَرْت عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الصّحَابَةِ، لَمْ
أَذْكُرْهُ إلّا أَلْحَقْته فِي كِتَابِي الّذِي فِي الصّحَابَةِ «1» .
غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ،
وَأَسَدَ بْنَ سَعْيَةَ «2» .
وَأُسَيْدَ بْنَ سَعْيَةَ وَهُمْ مِنْ بَنِي هَدَلٍ، وَقَدْ تَكَلّمْنَا
فِي الْجُزْءِ الثّانِي مِنْ هذا
__________
(1) وقيل هى أنصارية، وفى الإصابة الأنصارية أو الاسلحية، وقد روى البخارى
فى الأدب المفرد حديثها، وذكر أن الرسول «ص» كان إذا مر بعد عند ما يقول:
كيف أمسيت، وإذا أصبح يقول: كيف أصبحت. وفى الإصابة فى حرف الكاف: كعيبة
بنت سعيد الأسلمية وقد قال عنها ابن سعد هى التى كانت لها خيمة فى المسجد.
وعند البخارى: «فضرب النبى «ص» خيمة فى المسجد، ليعوده من قريب» أى ليعود
سعد.
(2) المذكور فى السيرة: أسد بن عبيد.
(6/334)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكِتَابِ عَلَى سَعْيَةَ وَسُعْنَةَ بِالنّونِ، وَذَكَرْنَا
الِاخْتِلَافَ فِي أَسِيدٍ وَأُسَيْدٍ، وَذَكَرْنَا خَبَرًا عَجِيبًا
لِزَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ بِالْيَاءِ، وَمَنْ قَالَ مِنْ النّسّابِينَ هَدْلٌ
بِسُكُونِ الدّالِ فِي بَنِي هَدَلٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ.
قَتْلُ الْمُرْتَدّةِ:
وَأَمّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الْمَقْتُولَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ،
فَفِيهَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدّةِ مِنْ النّسَاءِ،
أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: مَنْ بَدّلَ دِينَهُ،
فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ «1» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الْعُمُومِ قُوّةٌ
أُخْرَى، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلّةِ، وَهُوَ التّبْدِيلُ
وَالرّدّةُ، وَلَا حُجّةَ مَعَ هَذَا لِمَنْ زعم منى أَهْلِ الْعِرَاق
بِأَنْ لَا تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ
قَتْلِ النّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، وَلِلِاحْتِجَاجِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَمَا
نَزَلَ بِهِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْطِنٌ غَيْرُ هَذَا.
الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ مَعَ الزّبِيرِ بن باطا، وهو
الزّبير
__________
(1) فى حديث رواه الجماعة إلا مسلما: من بدل دينه فاقتلوه. وقد علق صاحب
الفتح عليه بقوله: واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد. وخصه الحنفية بالذكر
متمسكين بحديث النهى عن قتل النساء، ولكن الجمهور يحمل النهى على الكافرة
الأصلية إذا لم تباشر القتال، لقوله فى بعض طرق الحديث النهى عن قتل النساء
لما رأى امرأة مقتولة: ما كانت هذه لتقاتل، ثم نهى عن قتل النساء. واحتجوا
بأن من الشرطية لا تعم المؤنث، وتعقب بأن راوى الخبر هو ابن عباس، وقد قال
بقتل المرتدة وقد قتل الصديق امرأة ارتدت فى خلافته، ولم ينكر عليه صحابى.
أنظر ص 190 ج 7 نيل الأوطار للشوكانى.
(6/335)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِفَتْحِ الزّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ جَدّ الزّبِيرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ
الْمَذْكُورِ فِي الْمُوَطّأِ فِي كِتَابِ النّكَاحِ، وَاخْتُلِفَ فِي
الزّبِيرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، فَقِيلَ: الزّبِيرُ بِفَتْحِ الزّايِ
وَكَسْرِ الْبَاءِ كَاسْمِ جَدّهِ، وَقِيلَ الزّبَيْرُ، وَهُوَ قَوْلُ
الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ.
وَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الزّبِيرِ:
فَمَا أَنَا بِصَابِرِ لِلّهِ فَتْلَةَ دَلْوٍ نَاضِحِ
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: إنّمَا هُوَ قَبَلَةُ دَلْوٍ بِالْقَافِ
وَالْبَاءِ، وَقَابِلُ الدّلْوِ هُوَ الّذِي يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُسْتَقَى
«1» .
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْحَدِيثَ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى غَيْرِ مَا
قَالَاهُ جَمِيعًا، فَقَالَ:
قَالَ الزّبِيرُ: يَا ثَابِتُ أَلْحِقْنِي بِهِمْ، فَلَسْت صَابِرًا
عَنْهُمْ إفْرَاغَةُ دَلْوٍ.
الْإِنْبَاتُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ:
وَذَكَرَ حَدِيثَ عَطِيّةَ الْقُرَظِيّ، وَهُوَ جَدّ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيّ، وَذَكَرَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْبَتَ فَتُرِكَ، فَفِي هَذَا
أَنّ الْإِنْبَاتَ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ إذَا جُهِلَ
الِاحْتِلَامُ، وَلَمْ تعرف سنوّه.
__________
(1) يقول الخشنى: الناضح: الحبل الذى يستخرج عليه الماء من البئر بالسانية،
وأراد بقوله له: فتلة دلو ناضح: مقدار ما يأخذ الرجل الدلو إذا أخرجت
فيصبها فى الحوض يفتلها أو يردها إلى موضعها، ومن رواه قبلة بالقاف والباء
فهو بمقدار ما يقبل الرجل الدلو ليصبها فى الحوض، ثم يصرفها، وهذا كله لا
يكون إلا عن استعجال وسرعة ص 307.
(6/336)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُلّةُ حُيَيّ:
وَذَكَرَ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ حِينَ قُدّمَ إلَى الْقَتْلِ، وَعَلَيْهِ
حُلّةٌ فُقّاحِيّةٌ. الْحُلّةُ:
إزَارٌ وَرِدَاءٌ، وَأَصْلُ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا إذَا كَانَ الثّوْبَانِ
جَدِيدَيْنِ، كَمَا حَلّ طَيّهُمَا، فَقِيلَ لَهُ: حُلّةٌ لِهَذَا، ثُمّ
اسْتَمَرّ عَلَيْهِ الِاسْمُ، قَالَهُ الْخَطّابِيّ.
وَقَوْلُهُ: فُقّاحِيّةٌ نُسِبَتْ إلَى الْفُقّاحِ، وَهُوَ الزّهْرُ إذَا
انْشَقّتْ أَكِمّتُهُ، وَانْضَرَجَتْ بَرَاعِيمُهُ، وَتَفَتّقَتْ
أَخْفِيَتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ فَقّحَ وَهُوَ فُقّاحٌ.
وَالْقَنَابِعُ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْبَرَاعِيمِ، وَاحِدُهَا:
قُنْبُعَةٌ، وَأَمّا الْفُقّاعُ بِالْعَيْنِ «1» فَهُوَ الْفِطْرُ،
وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: آذَانُ الْكَمْأَةِ مِنْ كِتَابِ النّبَاتِ.
وَيُرْوَى أيضا: حلّة شقحيّة وهو سنح «2» البشر إذَا تَلَوّنَ. قَالَهُ
الْخَطّابِيّ.
وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللهَ يُخْذَلْ
بِنَصْبِ الْهَاءِ مِنْ اسْمِ اللهِ، وَيُصَحّحُ هَذِهِ الرّوَايَةَ أَنّ
فِي الْخَبَرِ قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ
يُمَكّنْ اللهُ مِنْك؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَقَدْ قَلْقَلْت كُلّ
مُقَلْقَلِ، وَلَكِنْ مَنْ يَخْذُلْك يُخْذَلْ، فَقَوْلُهُ: يَخْذُلْك
كَقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْبَيْتِ:
وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ الله يخذل
__________
(1) فى اللسان: الفقع بكسر الفاء وقتحها وسكون القاف الأبيض الرخو من
الكمأة وهو أردؤها وجمعها على وزن فعلة بكسر الفاء وفتح العين مثل قردة.
(2) فى التعبير خلل، وهو يعنى أن شقحية نسبة إلى شقحة التى جمعها شقح.
والشقحة: هى البسرة المتغيرة الحمرة. وسنح فى الأصل: صوابها شقح.
(6/337)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنّهُ إنّمَا نَظَمَ فِي الْبَيْتِ كَلَامَ حُيَيّ.
سَلْمَى بِنْتُ أَيّوبَ:
وَذَكَرَ حَدِيثَهُ عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ
بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ، قَالَ: وَقَعَ
فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيّ أَنّ أَيّوبَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُخْبِرُ أَنّ
سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ هِيَ: سَلْمَى بِنْتُ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَهُوَ الصّحِيحُ وَاَللهُ أَعْلَمُ.
سَلْمَى بِنْتُ قَيْسٍ:
وَقَوْلُهُ عَنْ سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ، هِيَ سَلْمَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ
بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ
تَفْسِيرُ آيَاتٍ قُرْآنِيّةٍ:
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ والقلب لا ينتقل
من موصعه، وَلَوْ انْتَقَلَ إلَى الْحَنْجَرَةِ لَمَاتَ صَاحِبُهُ،
وَاَللهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقُولُ إلّا الْحَقّ، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَنّ التّكَلّمَ بِالْمَجَازِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ حَقّ
إذَا فَهِمَ الْمُخَاطَبُ عَنْك، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ
أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ الْكَهْفَ: 77، أَيْ مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَنْ
يُرِيدَ أَنْ يفعل الفعل، ويهم بِهِ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التّشْبِيهِ،
وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ مِثْلُهُمْ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ
وَالْوَهَلِ وَضِيقِ الصّدْرِ كَمِثْلِ الْمُنْخَلِعِ قَلْبُهُ مِنْ
مَوْضِعِهِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، تَقْدِيرُهُ: بَلَغَ
وَجِيفُ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ وَأَمّا قَوْلُهُ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى
الْحَناجِرِ غَافِرَ: 18 فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى الْمَجَازِ،
(6/338)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنّهُ فِي صِفَةِ هَوْلِ الْقِيَامَةِ، وَالْأَمْرُ فِيهِ أَشَدّ مِمّا
تَقَدّمَ، لَا سِيمَا وَقَدْ قَالَ فِي أُخْرَى:
لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ إبْرَاهِيمَ:
43، أَيْ قَدْ فَارَقَ الْقَلْبُ الْفُؤَادَ، وَبَقِيَ فَارِغًا هَوَاءً،
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْقَلْبَ غَيْرُ الْفُؤَادِ، كَأَنّ
الْفُؤَادَ هُوَ غِلَافُ الْقَلْبِ، وَيُؤَيّدُهُ قَوْلُ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ:
أَلْيَنُ قُلُوبًا وَأَرَقّ أَفْئِدَةً «1» مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ الزمر: 22 ولم يقل للقاسية أفئلتهم،
والقسوة ضد اللين، فتأمله.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ «2» اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ
الْأَحْزَابَ: 18 أَيْ الْمُخَذّلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ: فَيُعَوّقُونَهُمْ
بِالتّخْذِيلِ عَنْ الطّاعَةِ، لِقَوْلِهِمْ: هَلُمّ إلَيْنَا. تَقُولُ:
عَاقَنِي الْأَمْرُ عَنْ كَذَا، وَعَوّقَنِي فُلَانٌ عَنْ كَذَا، أَيْ
صَرَفَنِي عَنْهُ.
وَذَكَرَ الصّيَاصِيَ وَأَنّهَا الْحُصُونُ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ
سُحَيْمٍ يَصِفُ سَيْلًا:
وَأَصْبَحَتْ الثّيرَانُ صَرْعَى، وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ
يَبْتَدِرْنَ الصّيَاصِيَا
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى
هَذَا الْبَيْتِ: الصّيَاصِي:
قرون الثيران المذكورة فيه، لا ماتوهم ابْنُ هِشَامٍ أَنّهَا الْحُصُونُ
وَالْآطَامُ، يَقُولُ: لَمّا أهلك هذا السيل النيران وغرّفها أصبحت نساء
تمم يَبْتَدِرْنَ أَخْذَ قُرُونِهَا، لِيَنْسِجْنَ بِهَا الْبُجُدَ، وَهِيَ
الْأَكْسِيَةُ، قَالَ هَذَا يَعْقُوبُ عَنْ الْأَصْمَعِيّ. وَيُصَحّحُ
هَذَا أَنّهُ لَا حُصُونَ فِي بَادِيَةِ الْأَعْرَابِ قال المؤلف: ويصحح
__________
(1) جاء فى حديث متفق عليه: «هم أرق أفئدة وألين قلوبا» .
(2) دخلت قد هنا لتوكيد العلم، ويرجع ذلك إلى توكيد الوعيد، ولأن الله لا
تخفى عليه خافية فى الأرض، ولا فى السماء.
(6/339)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا التّفْسِيرَ أَيْضًا رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ لَهُ، فَإِنّهُ
أَنْشَدَهُ فِي كِتَابِ النّبَاتِ لَهُ، فقال فيه يلتقطن الصّياصيا «1» ولم
يقل: بيتدرن، وأنشد:
فذعرنا سحم الصّياصى بأيديهنّ ... نضح من الكحيل وقار
الكحيل: القطرن، وَالْقَارُ: الزّفْتُ، شَبّهَ السّوَادَ الّذِي فِي
أَيْدِيهِنّ بِنَضْحِ مِنْ ذَلِكَ الْكُحَيْلِ وَالْقَارِ، يَصِفُ بَعْرَ
وَحْشٍ، وَأَنْشَدَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ:
كَوَقْعِ الصّيَاصِي فِي النّسِيجِ الْمُمَدّدِ
وَحَمَلَهُ الْأَصْمَعِيّ عَلَى مَا تَقَدّمَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ هَذَا
مِنْ أَنّهَا الْقُرُونُ الّتِي يُنْسَجُ بِهَا، لَا أَنّهَا شَوْكٌ كَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
اهْتِزَازُ الْعَرْشِ:
وَذَكَرَ اهْتِزَازَ الْعَرْشِ، وَقَدْ تَكَلّمَ النّاسُ فِي مَعْنَاهُ،
وَظَنّوا أَنّهُ مُشْكِلٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاهْتِزَازُ هَاهُنَا
بِمَعْنَى الِاسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ رُوحِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
يُرِيدُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ،
اسْتِبْعَادًا مِنْهُمْ، لِأَنْ يَهْتَزّ الْعَرْشُ عَلَى الْحَقِيقَةِ،
وَلَا بُعْدَ فِيهِ، لِأَنّهُ مَخْلُوقٌ وَتَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ،
وَالْهَزّةُ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرِ اللّفْظِ، مَا وجد إليه سبيل،
وحديث اهتزاز العرش لوت سَعْدٍ صَحِيحٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ ثَابِتٌ
مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ، وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ فِي مَعْنَاهُ: أَنّهُ سَرِيرُ سَعْدٍ اهْتَزّ لَمْ يَلْتَفِتْ
إلَيْهِ الْعُلَمَاءُ «2» ، وَقَالُوا: كَانَتْ بَيْنَ هَذَيْنِ
الْحَيّيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ ضَغَائِنُ «3» . وفى لفظ
__________
(1) كذا أنشده ابن برى فى اللسان. وقال: يلتقطن القرون لينسجن بها.
(2) قال الحافظ: إلا أن يراد اهتزاز حملة سريره فرحا بقدومه، فيتجه.
(3) فى الصحيح قال رجل لجابر: «فان البراء يقول اهتز السرير، فقال: -
(6/340)
|