الروض
الأنف ت الوكيل [جَهَازُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
ودفنه]
[من تولى غسل الرسول]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا بُويِعَ أَبُو بَكْر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
أَقْبَلَ النّاسُ عَلَى جَهَازِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الثّلَاثَاءِ، فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وحسين ابن
عَبْدِ اللهِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: أَنّ عَلِيّ بن أبي طالب،
والعباس بن عبد المطلب، وَالْفَضْلَ بْنَ الْعَبّاسِ وَقُثَمَ بْنَ
الْعَبّاسِ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَشُقْرَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُمْ الّذِينَ وُلُوا غَسْلَهُ، وَأَنّ
أَوْسَ بْنَ خَوْلِيّ، أَحَدَ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، قَالَ
لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أنشدك الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/557)
يَا عَلِيّ وَحَظّنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَوْسُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَهْلِ بَدْرٍ، قَالَ: اُدْخُلْ،
فَدَخَلَ فَجَلَسَ، وَحَضَرَ غَسْلَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَأَسْنَدَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى صَدْرِهِ، وَكَانَ
الْعَبّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ يُقَلّبُونَهُ مَعَهُ وَكَانَ أُسَامَةُ
بْنُ زَيْدٍ وَشُقْرَانُ مَوْلَاهُ، هُمَا اللّذَانِ يَصُبّانِ الْمَاءَ
عَلَيْهِ، وَعَلِيّ يُغَسّلُهُ، قَدْ أَسْنَدَهُ إلَى صَدْرِهِ، وَعَلَيْهِ
قَمِيصُهُ يُدَلّكُهُ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ، لَا يُفْضَى بِيَدِهِ إلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيّ يَقُولُ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، مَا أَطْيَبَك حَيّا وَمَيّتًا! وَلَمْ يُرَ مِنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مِمّا يُرَى مِنْ
الْمَيّتِ.
[كَيْفَ غُسّلَ الرسول؟]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزّبَيْرِ
عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمّا أَرَادُوا غَسْلَ
رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
فَقَالُوا: وَاَللهِ مَا نَدْرِي، أَنُجَرّدُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وسلم من مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرّدُ مَوْتَانَا، أَوْ
نُغَسّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ قَالَتْ: فَلَمّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى
اللهُ عَلَيْهِمْ النّوْمَ، حَتّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا ذَقْنُهُ فِي
صَدْرِهِ، ثُمّ كَلّمَهُمْ مُكَلّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا
يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: أَنْ اغْسِلُوا النّبِيّ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ،
قَالَتْ: فَقَامُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَغَسّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ، يَصُبّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ،
وَيَدْلُكُونَهُ والقميص دون أيديهم.
[تكفين الرسول]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا فُرِغَ مِنْ غَسْلِ رَسُولِ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/558)
كُفّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثَوَابَ ثَوْبَيْنِ
صُحَارِيّيْنِ وَبُرْدٍ حَبِرَةٌ، أُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا، كَمَا
حَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَالزّهْرِيّ، عن على بن
الحسين.
[حفر القبر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: لَمّا أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا
لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ الْجَرّاحِ يَضْرَحُ كَحَفْرِ أَهْلِ مَكّةَ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ
زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ هُوَ الّذِي يَحْفِرُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ
يَلْحَدُ، فَدَعَا الْعَبّاسُ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا:
اذْهَبْ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ، وَلِلْآخَرِ اذْهَبْ إلَى
أَبِي طَلْحَةَ. اللهُمّ خِرْ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَوَجَدَ صَاحِبَ أَبِي طَلْحَةَ أَبَا طَلْحَةَ، فَجَاءَ بِهِ،
فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم.
[دَفْنُ الرّسُولِ وَالصّلَاةُ عَلَيْهِ]
فَلَمّا فُرِغَ مِنْ جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثا،
وُضِعَ فِي سَرِيرِهِ فِي بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ
اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ. فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ فِي مَسْجِدِهِ
وَقَالَ قَائِلٌ: بَلْ نَدْفِنُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
إنّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ: مَا
قُبِضَ نَبِيّ إلّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ، فَرُفِعَ فراش رَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي تُوُفّيَ عَلَيْهِ، فَحُفِرَ لَهُ
تَحْتَهُ، ثُمّ دَخَلَ النّاسِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّونَ عَلَيْهِ أَرْسَالًا، دَخَلَ الرّجَالُ، حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/559)
إذَا فَرَغُوا أُدْخِلَ النّسَاءُ، حَتّى
إذَا فَرَغَ النّسَاءُ أُدْخِلَ الصّبْيَانُ. وَلَمْ يَؤُمّ النّاسِ عَلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَدٌ.
ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل ليلة الأربعاء.
[دفن الرّسُولِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عُمَارَةَ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ أَسَعْدَ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ
عنها:
دفن اللّيْلِ مِنْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ.
[مَنْ تَوَلّى دَفْنَ الرّسُولِ]
وَكَانَ الّذِينَ نَزَلُوا فِي قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وسلم على بن أبى طالب، والفضل بن عَبّاسٍ، وَقُثَمَ بْنَ عَبّاسٍ،
وَشُقْرَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا
عَلِيّ، أَنْشُدُك اللهَ، وَحَظّنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: انْزِلْ، فَنَزَلَ مَعَ الْقَوْمِ، وَقَدْ
كَانَ مَوْلَاهُ شُقْرَانُ حِينَ وَضَعَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حُفْرَتِهِ وَبَنَى عَلَيْهِ قَدْ أَخَذَ قَطِيفَةً،
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يلبسها ويفترشها،
دفنها فِي الْقَبْرِ، وَقَالَ: وَاَللهِ لَا يَلْبَسُهَا أَحَدٌ بَعْدَك
أَبَدًا.
قَالَ: فَدُفِنَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/560)
[أَحْدَثُ النّاسِ عَهْدًا بِالرّسُولِ]
وَقَدْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَدّعِي أَنّهُ أَحْدَثُ النّاسِ
عَهْدًا بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ: أَخَذْت
خَاتَمِي، فَأَلْقَيْته فِي الْقَبْرِ، وَقُلْت: إنّ خَاتَمِي سَقَطَ
مِنّي، وَإِنّمَا طَرَحْته عَمْدًا لِأَمَسّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَأَكُونُ أَحْدَثَ النّاسِ عَهْدًا بِهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ
مِقْسَمٍ، أَبِي الْقَاسِمِ، مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
نَوْفَلٍ، عَنْ مَوْلَاهُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: اعْتَمَرْت
مَعَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ
عُمَرَ أَوْ زَمَانِ عُثْمَانَ، فنزل على أخته أم هانىء بِنْتِ أَبِي
طَالِبٍ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ رَجَعَ فَسُكِبَ لَهُ غِسْلٌ،
فَاغْتَسَلَ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ غَسْلِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالُوا:
يَا أَبَا حَسَنٍ، جِئْنَا نَسْأَلُك عَنْ أَمْرٍ نُحِبّ أَنْ تُخْبِرَنَا
عَنْهُ؟ قَالَ: أظنّ المغيرة ابن شُعْبَةَ يُحَدّثُكُمْ أَنّهُ كَانَ
أَحْدَثَ النّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
قَالُوا: أَجَلْ، عَنْ ذَلِكَ جِئْنَا نَسْأَلُك؛ قَالَ: كَذَبَ، قَالَ:
أَحْدَثُ النّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قُثَمُ بْنُ عَبّاسٍ.
[خَمِيصَةُ الرّسُولِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ
الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنّ
عَائِشَةَ حَدّثَتْهُ، قَالَتْ: كَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ حِينَ اشْتَدّ بِهِ وَجَعُهُ،
قَالَتْ: فَهُوَ يَضَعُهَا مَرّةً عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/561)
وَجْهِهِ، وَمَرّةً يَكْشِفُهَا عَنْهُ،
وَيَقُولُ: قَاتَلَ اللهُ قَوْمًا اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ، يَحْذَرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أُمّتِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ
الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ الله ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ آخِرُ مَا عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ
دِينَانِ.
[افْتِتَانُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَوْتِ الرّسُولِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَظُمَتْ بِهِ مُصِيبَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ
عَائِشَةُ، فِيمَا بَلَغَنِي، تَقُولُ: لَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدّتْ الْعَرَبُ، وَاشْرَأَبّتْ
الْيَهُودِيّةُ والنصرانية، وَنَجَمَ النّفَاقُ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ
كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةُ فِي اللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ، لِفَقْدِ نَبِيّهِمْ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَتّى جَمَعَهُمْ اللهُ عَلَى أَبِي
بَكْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنّ أكثر أهل مكة لَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمّوا بِالرّجُوعِ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَأَرَادُوا
ذَلِكَ حَتّى خَافَهُمْ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ، فَتَوَارَى، فَقَامَ
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ ذَكَرَ
وَفَاةَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَقَالَ: إنّ ذَلِكَ
لَمْ يَزِدْ الْإِسْلَامَ إلّا قُوّةً، فَمَنْ رَابَنَا ضَرَبْنَا
عُنُقَهُ، فَتَرَاجَعَ النّاسُ وَكَفّوا عَمّا هَمّوا بِهِ، وَظَهَرَ
عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ.
فَهَذَا الْمَقَامُ الّذِي أَرَادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قَوْلِهِ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ: إنّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا
تَذُمّهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/562)
[شِعْرُ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي
مَرْثِيّتِهِ الرّسُولَ]
وقال حسان بن ثابت يَبْكِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فِيمَا حَدّثَنَا ابْنُ هشام، عن أبى زيد الأنصارى:
بِطَيْبَةَ رَسْمٌ لِلرّسُولِ وَمَعْهَدُ ... مُنِيرٌ وَقَدْ تَعْفُو
الرّسُومُ وَتَهْمُدُ
وَلَا تَمْتَحِي الْآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ ... بِهَا مِنْبَرُ
الْهَادِي الّذِي كَانَ يَصْعَدُ
وَوَاضِحُ آثَارٍ وَبَاقِي مَعَالِمَ ... وَرَبْعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلّى
وَمَسْجِدُ
بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا ... مِنْ اللهِ نُورٌ
يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ
مَعَارِفُ لَمْ تطمس على العهد آيها ... أَتَاهَا الْبِلَى فَالْآيُ
مِنْهَا تَجَدّدُ
عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرّسُولِ وَعَهْدَهُ ... وَقَبْرًا بِهَا وَارَاهُ
فِي التّرْبِ مُلْحِدُ
ظَلِلْت بِهَا أَبْكِي الرّسُولَ فَأَسْعَدَتْ ... عُيُونٌ وَمِثْلَاهَا
مِنْ الْجَفْنِ تُسْعَدُ
يُذَكّرْنَ آلَاءَ الرّسُولِ وَمَا أَرَى ... لَهَا مُحْصِيًا نَفْسِي
فَنَفْسِيّ تَبَلّدُ
مُفَجّعَةً قَدْ شَفّهَا فَقْدُ أَحْمَدَ ... فَظَلّتْ لِآلَاءِ الرّسُولِ
تُعَدّدُ
وَمَا بَلَغَتْ مِنْ كُلّ أَمْرٍ عَشِيرَهُ ... وَلَكِنْ لِنَفْسِي بَعْدَ
مَا قَدْ تَوَجّدُ
أَطَالَتْ وُقُوفًا تَذْرِفُ الْعَيْنَ جُهْدَهَا ... عَلَى طَلَلِ
الْقَبْرِ الّذِي فِيهِ أَحْمَدُ
فَبُورِكْتَ يَا قَبْرَ الرّسُولِ وَبُورِكَتْ ... بِلَادٌ ثَوَى فِيهَا
الرّشِيدُ الْمُسَدّدُ
وَبُورِكَ لَحْدٌ مِنْكَ ضُمّن طَيّبًا ... عَلَيْهِ بِنَاءٌ مِنْ صَفِيحٍ
مُنَضّدُ
تَهِيلُ عَلَيْهِ التّرَبَ أَيْدٍ وَأَعْيُنٍ ... عَلَيْهِ وَقَدْ غَارَتْ
بِذَلِكَ أَسْعَدُ
لَقَدْ غَيّبُوا حُلْمًا وَعِلْمًا وَرَحْمَةً ... عَشِيّةَ عَلّوْهُ
الثّرَى لَا يُوَسّدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/563)
وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ
نَبِيّهُمْ ... وَقَدْ وَهَنَتْ منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكى السّماوات يَوْمَهُ ... وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الْأَرْضُ
فَالنّاسُ أَكَمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيّةُ هَالِكٍ ... رَزِيّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ
مُحَمّدُ
تَقَطّعُ فِيهِ مَنْزِلُ الْوَحْيِ عَنْهُمْ ... وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ
يَغُورُ وَيُنَجّدُ
يَدُلّ عَلَى الرّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ ... وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ
الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ
إمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهِمْ الْحَقّ جَاهِدًا ... مُعَلّمُ صِدْقٍ إنْ
يُطِيعُوهُ يُسْعَدُوا
عَفْوٌ عَنْ الزّلّاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ ... وَإِنّ يُحْسِنُوا فَاَللهُ
بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ
وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ لَمْ يَقُومُوا بِحَمْلِهِ ... فَمِنْ عِنْدِهِ
تَيْسِيرُ مَا يُتَشَدّدُ
فبيناهم فِي نِعْمَةِ اللهِ بَيْنَهُمْ ... دَلِيلٌ بَهْ نَهْجُ
الطّرِيقَةِ يُقْصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجُورُوا عَنْ الْهُدَى ... حَرِيصٌ عَلَى أَنْ
يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا
عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لَا يُثَنّى جُنَاحَهُ ... إلَى كَنَفٍ يَحْنُو عليهم
ويمهد
فبيناهم فِي ذَلِكَ النّورِ إذْ غَدَا ... إلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنْ
الْمَوْتِ مُقْصِدُ
فَأَصْبَحَ مَحْمُودًا إلَى اللهِ رَاجِعًا ... يُبَكّيهِ حَقّ
الْمُرْسَلَاتِ وَيُحْمَدُ
وَأَمْسَتْ بِلَادُ الْحُرْمِ وَحْشًا بِقَاعُهَا ... لِغَيْبَةِ مَا
كَانَتْ مِنْ الْوَحْيِ تُعْهَدُ
قِفَارًا سِوَى مَعْمُورَةِ اللّحْدِ ضَافَهَا ... فَقِيدٌ يُبَكّينَهُ
بَلَاطٌ وَغَرْقَدُ
وَمَسْجِدُهُ فَالْمُوحِشَاتُ لِفَقْدِهِ ... خَلَاءٌ لَهُ فِيهِ مَقَامٌ
وَمَقْعَدُ
وَبِالْجَمْرَةِ الكبرى له ثمّ أو حشت ... دِيَارٌ وَعَرَصَاتٌ وَرَبْعٌ
وَمَوْلِدُ
فَبَكّي رَسُولَ اللهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً ... وَلَا أَعْرِفَنّكِ
الدّهْرَ دَمْعُك يجمد
ومالك لَا تَبْكِينَ ذَا النّعْمَةِ الّتِي ... عَلَى النّاسِ مِنْهَا
سَابِغٌ يُتَغَمّدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/564)
فَجُودِي عَلَيْهِ بِالدّمُوعِ وَأَعْوِلِي
... لِفَقْدِ الّذِي لَا مِثْلُهُ الدّهْرَ يُوجَدُ
وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمّدٍ ... وَلَا مِثْلُهُ حَتّى
الْقِيَامَةِ يُفْقَدُ
أَعَفّ وَأَوْفَى ذِمّةً بَعْدَ ذِمّةٍ ... وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلًا لَا
يُنَكّدُ
وَأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطّرِيفِ وَتَالِدٍ ... إذَا ضَنّ مِعْطَاءٌ بِمَا
كَانَ يُتْلَدُ
وَأَكْرَمَ صِيتًا فِي الْبُيُوتِ إذَا انْتَمَى ... وَأَكْرَمَ جَدّا
أَبْطَحِيّا يُسَوّدُ
وَأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وَأَثْبَتَ فِي الْعُلَا ... دَعَائِمَ عِزّ
شَاهِقَاتٍ تُشَيّدُ
وَأَثْبَتَ فَرْعًا فِي الْفُرُوعِ وَمَنْبَتًا ... وَعُودًا غَذّاهُ
الْمُزْنُ فَالْعُودُ أَغْيَدُ
رَبّاهُ وَلِيدًا فَاسْتَتَمّ تَمَامُهُ ... عَلَى أَكْرَمِ الْخَيْرَاتِ
رَبّ مُمَجّدٌ
تَنَاهَتْ وَصَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِكَفّهِ ... فَلَا الْعِلْمُ مَحْبُوسٌ
وَلَا الرّأْيُ يُفْنَدُ
أَقُولُ وَلَا يُلْقَى لِقَوْلِي عَائِبٌ ... مِنْ النّاسِ إلّا عَازِبُ
الْعَقْلِ مُبْعَدُ
وَلَيْسَ هَوَايَ نَازِعًا عَنْ ثَنَائِهِ ... لَعَلّي بِهِ فِي جَنّةِ
الْخُلْدِ أَخْلَدُ
مَعَ الْمُصْطَفَى أَرْجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ ... وَفِي نَيْلِ ذَاكَ
الْيَوْمِ أسعى وأجهد
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا، يَبْكِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا بَالُ عَيْنِك لَا تَنَامُ كَأَنّمَا ... كُحِلَتْ مَآقِيهَا بِكُحْلِ
الْأَرْمَدِ
جَزَعًا عَلَى الْمَهْدِيّ أَصْبَحَ ثَاوِيًا ... يَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ
الْحَصَى لَا تَبْعَدْ
وَجْهِي يَقِيكَ التّرْبَ لَهْفِي لَيْتَنِي ... غُيّبْتُ قَبْلَكَ فِي
بَقِيعِ الْغَرْقَدِ
بِأَبِي وَأُمّي مَنْ شَهِدْتُ وَفَاتَهُ ... فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ
النّبِيّ الْمُهْتَدِي
فَظَلِلْتُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مُتَبَلّدًا ... مُتَلَدّدًا يَا لَيْتَنِي
لَمْ أُولَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/565)
أَأُقِيمُ بَعْدَكَ بِالْمَدِينَةِ
بَيْنَهُمْ ... يَا لَيْتَنِي صُبّحْت سَمّ الْأَسْوَدِ
أَوْ حَلّ أَمْرُ اللهِ فِينَا عَاجِلًا ... فِي رَوْحَةٍ مِنْ يَوْمِنَا
أَوْ مِنْ غد
فتقوم ساعتنا فنلقى طيّبا ... مَحْضًا ضَرَائِبُهُ كَرِيمَ الْمَحْتِدِ
يَا بِكْرَ آمِنَةَ الْمَبَارِكَ بِكْرُهَا ... وَلَدَتْهُ مُحْصَنَةٌ
بِسَعْدِ الْأَسْعَدِ
نُورًا أَضَاءَ عَلَى الْبَرِيّةِ كُلّهَا ... منْ يُهْد لِلنّورِ
الْمُبَارَكِ يَهْتَدِي
يَا رَبّ فَاجْمَعْنَا مَعًا وَنَبِيّنَا ... فِي جَنّةٍ تَثْنَى عُيُونُ
الْحُسّدِ
فِي جَنّةِ الْفِرْدَوْسِ فَاكْتُبْهَا لَنَا ... يَا ذَا الْجَلَالِ وَذَا
الْعُلَا وَالسّوْدُدِ
وَاَللهِ أَسْمَعُ مَا بَقِيتُ بِهَالِكٍ ... إلّا بَكَيْتُ عَلَى النّبِيّ
مُحَمّدِ
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النّبِيّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيّبِ فِي
سَوَاءِ الْمَلْحَدِ
ضَاقَتْ بِالْأَنْصَارِ الْبِلَادُ فَأَصْبَحُوا ... سُودًا وُجُوهُهُمْ
كَلَوْنِ الْإِثْمِدِ
وَلَقَدْ وَلَدْنَاهُ وَفِينَا قَبْرُهُ ... وَفُضُولَ نِعْمَتِهِ بِنَا
لَمْ نَجْحَدْ
وَاَللهُ أَكْرَمَنَا بِهِ وَهَدَى بِهِ ... أَنْصَارَهُ فِي كُلّ سَاعَةِ
مَشْهَدِ
صَلّى الْإِلَهُ وَمَنْ يَحُفّ بِعَرْشِهِ ... وَالطّيّبُونَ عَلَى
الْمُبَارَكِ أَحْمَدْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نَبّ الْمَسَاكِينَ أَنّ الْخَيْرَ فَارَقَهُمْ ... مَعَ النّبِيّ تَوَلّى
عَنْهُمْ سَحَرَا
مَنْ ذَا الّذِي عِنْدَهُ رَحْلِي وَرَاحِلَتِي ... وَرِزْقُ أَهْلِي إذَا
لَمْ يُؤْنِسُوا الْمَطَرَا
أَمْ مَنْ نُعَاتِبَ لَا نَخْشَى جَنَادِعَهُ ... إذَا اللّسَانُ عَتَا فِي
الْقَوْلِ أَوْ عَثَرَا
كَانَ الضّيَاءَ وَكَانَ النّورَ نَتْبَعُهُ ... بَعْدَ الْإِلَهِ وَكَانَ
السّمْعَ وَالْبَصَرَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/566)
فَلَيْتَنَا يَوْمَ وَارَوْهُ بِمُلْحِدِهِ
... وَغَيّبُوهُ وَأَلْقَوْا فَوْقَهُ الْمَدَرَا
لَمْ يَتْرُك اللهُ مِنّا بَعْدَهُ أَحَدًا ... وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهُ
أُنْثَى وَلَا ذَكَرَا
ذَلّتْ رِقَابُ بَنِي النّجّارِ كُلّهِمْ ... وَكَانَ أَمْرًا مِنْ امْرِ
اللهِ قَدْ قُدِرَا
وَاقْتُسِمَ الْفَيْءُ دُونَ النّاسِ كُلّهِمْ ... وَبَدّدُوهُ جِهَارًا
بَيْنَهُمْ هَدَرًا
وَقَالَ حسان بن ثابت يَبْكِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَيْضًا:
آلَيْتُ مَا فِي جميع الناس مجتهدا ... مني ألية بر غير إفْنَادِ
تَاللهِ مَا حَمَلَتْ أُنْثَى وَلَا وَضَعَتْ ... مِثْلَ الرّسُولِ نَبِيّ
الْأُمّةِ الْهَادِي
وَلَا بَرَا اللهُ خَلْقًا مِنْ بَرِيّتِهِ ... أَوْفَى بِذِمّةِ جَارٍ
أَوْ بِمِيعَادِ
مِنْ الّذِي كَانَ فِينَا يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُبَارَكَ الْأَمْرِ ذَا
عَدْلٍ وَإِرْشَادِ
أَمْسَى نِسَاؤُك عَطّلْنَ الْبُيُوتَ فَمَا ... يَضْرِبْنَ فَوْقَ قَفَا
سِتْرٍ بِأَوْتَادِ
مِثْلَ الرواهب يَلْبَسْنَ الْمَبَاذِلَ قَدْ ... أَيْقَنّ بِالْبُؤْسِ
بَعْدَ النّعْمَةِ الْبَادِي
يَا أَفْضَلَ النّاسِ إنّي كُنْتُ فِي نَهَرٍ ... أَصْبَحْتُ مِنْهُ
كَمِثْلِ الْمُفْرَدِ الصّادِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَجُزُ البيت الأوّل عن غير ابن إسحاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(7/567)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر أزواج النبى عليه السلام خَدِيجَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
قَدْ تَقَدّمَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ نُبَذٌ كَافِيَةٌ مِنْ
التّعْرِيفِ بِهِنّ، وَذَكَرَ هَاهُنَا خَدِيجَةَ، وَأَنّهَا كَانَتْ
عِنْدَ أَبِي هَالَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ عُتَيّق ابن عَائِذٍ «1»
، قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: وَلَدَتْ لِعُتَيّق عَبْدَ مَنَافٍ،
وَكَانَ اسْمُ أَبِي هَالَةَ هِنْدَ بْنَ زُرَارَةَ بْنِ النّبّاشِ «2»
وَقِيلَ: بَلْ أَبُو هَالَةَ هُوَ زُرَارَةُ، وَابْنُهُ هِنْدٌ، مَاتَ
هِنْدٌ فى طاعون البصرة.
عن عائشة:
وَمِمّا نَزِيدُهُ هُنَا فِي ذِكْرِ عَائِشَةَ، أَنّهَا كَانَتْ تُكَنّى
أُمّ عَبْدِ اللهِ، رَوَى ابْنُ الْأَعْرَابِيّ فِي الْمُعْجَمِ حَدِيثًا
مَرْفُوعًا أَنّهَا أَسَقَطَتْ جَنِينًا مِنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسُمّيَ: عَبْدَ اللهِ، فَكَانَتْ تُكَنّى
بِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُورُ عَلَى دَاوُدَ بْنِ الْمُحَبّرِ وَهُوَ
ضَعِيفٌ، وَأَصَحّ مِنْهُ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قَالَ لَهَا: تَكَنّي بِابْنِ أُخْتِك عَبْدِ اللهِ بن الزّبير،
ويروى
__________
(1) وقيل: عابد.
(2) وقيل اسمه: النباش بن زرارة كما جزم أبو عبيد، وقدمه مغلطاى وقيل مالك
كما حكاه الزبير بن بكار والدارقطنى. وصدر به فى الفتح،. هذا وبعضهم يقول
إن عتيقا تزوجها بعد أبى هالة. أما ما ذكره السهيلى فهو قول قتادة وابن
شهاب وابن إسحاق.
(7/568)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِابْنِك عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، لِأَنّهَا كَانَتْ قَدْ
اسْتَوْهَبَتْهُ مِنْ أَبَوَيْهِ، فَكَانَ فِي حِجْرِهَا يدؤها، أُمّا،
ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَأَصَحّ مَا رُوِيَ فِي فَضْلِهَا
عَلَى النّسَاءِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى
النّسَاءِ كَفَضْلِ الثّرِيدِ عَلَى الطّعَامِ، وَأَرَادَ الثّرِيدَ
بِاللّحْمِ، كَذَا رَوَاهُ مُعْمَرٌ فِي جَامِعِهِ مُفَسّرًا عَنْ
قَتَادَةَ، وَأَبَانُ يَرْفَعُهُ، فَقَالَ فِيهِ كَفَضْلِ الثّرِيدِ
بِاللّحْمِ، وَوَجْهُ التّفْضِيلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ قَالَ فِي
حَدِيثٍ آخَرَ: سَيّدُ إدَامِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللّحْمُ، مَعَ أَنّ
الثّرِيدَ إذَا أُطْلِقَ لَفْظُهُ، فَهُوَ ثَرِيدُ اللّحْمِ، وَأَنْشَدَ
سِيبَوَيْهِ:
إذَا مَا الْخُبْزُ تأدمه بلحم ... فذك أمانة الله الثّريد «1»
خديجة وعائشة ومريم:
وَلَوْلَا مَا تَقَدّمَ مِنْ الْحَدِيثِ الْمُخَصّصِ لِخَدِيجَةَ
بِالْفَضْلِ عَلَيْهَا حَيْثُ قَالَ: وَاَللهِ مَا أَبْدَلَنِي اللهُ
خَيْرًا مِنْهَا، لَقُلْنَا بِتَفْضِيلِهَا عَلَى خَدِيجَةَ، وَعَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَرْيَمَ الصّدّيقَةِ،
فَإِنّهَا عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ نَبِيّةٌ نَزَلَ عَلَيْهَا
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالْوَحْيِ، وَلَا يُفَضّلُ عَلَى
الْأَنْبِيَاءِ غَيْرُهُمْ، وَمَنْ قَالَ:
لَمْ تَكُنْ نَبِيّةً، وَجَعَلَ قوله تعالى: اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ
الْعالَمِينَ مَخْصُوصًا بِعَالَمِ زَمَانِهَا، فَمِنْ قَوْلِهِ: إنّ
عَائِشَةَ وَخَدِيجَةَ أَفَضْلُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي
سَائِرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنهن
أفضل نساء العالمين،
__________
(1) ص 434 ح 1، 144 ح 2 كتاب سيبويه. ويقال: إن النحويين هم الذين وضعوا
هذا البيت:
(7/569)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَنَزَعُوا فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ
وَاَللهُ أَعْلَمُ، وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ أَنّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال فِي فَاطِمَةَ هِيَ سَيّدَةِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ إلا
مريم.
أم سلمة:
وَذَكَرَ أُمّ سَلَمَةَ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أصدقها مجشّة، وهى الزّحى. ومنه سُمّيَ الْجَشِيشُ. وَذَكَرَ مَعَ
الْمَجِشّةِ أَشْيَاءَ لَا تُعْرَفُ قِيمَتُهَا، مِنْهَا جَفْنَةٌ
وَفِرَاشٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ ذِكْرُ قِيمَتِهَا، قَالَ أَنَسُ:
أَصْدَقَهَا مَتَاعًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِم، قَالَ الْبَزّارُ:
وَيُرْوَى أَرْبَعُونَ درهما.
جويرية وَذَكَرَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ، وكانت
قبله عند مسافع ابن صَفْوَانَ الْخُزَاعِيّ «1» وَقَالَ: أَسْلَمُ
الْحَارِثُ، وَأَسْلَمَ ابْنَاهُ، وَلَمْ يُسَمّهِمَا، وَهُمَا الْحَارِثُ
بْنُ الْحَارِثِ وَعَمْرُو بن الحارث، ذكره البخارى.
زينب بنت جحش:
وَذَكَرَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَأَنّ أَخَاهَا أَبَا أَحْمَدَ هُوَ
الّذِي أَنْكَحَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَهَذَا خِلَافُ مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهَا كَانَتْ
تَفْخَرُ عَلَى صَوَاحِبِهَا، وَتَقُولُ: زَوّجَكُنّ أَهْلُوكُنّ مِنْ
رَسُولِ اللهِ صلى الله
__________
(1) قتل كافرا يوم المريسيع كما جزم به ابن أبى خيثمة والواقدى.
(7/570)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوّجَنِي رَبّ الْعَالَمِينَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَاوَاتٍ «1» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّه لَمّا نزلت الآية زَوَّجْناكَها
قَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَخَلَ
عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنٍ «2» وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ فِي
أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَافِ بِنْتَ
خَلِيفَةَ أُخْتَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ، وَذَكَرَهَا
غَيْرُهُ، وَلَمْ تَقُمْ عِنْدَهُ إلّا يَسِيرًا حَتّى مَاتَتْ «3»
وَكَذَلِكَ الْعَالِيَةُ «4» بِنْتُ ظَبْيَانَ [بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ
بْنِ عَبْدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ] ذَكَرَهَا غَيْرُهُ فِي
أَزْوَاجِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ
وَسْنَى بِنْتُ الصّلْتِ «5» تَزَوّجَهَا ثُمّ خَلّى سَبِيلَهَا، وَيُقَالُ
فِيهَا: سَنَا بِنْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصّلْتِ. وَمِنْهُنّ أَسْمَاءُ
بِنْتُ النّعْمَانِ بْنِ الْجَوْنِ الْكِنْدِيّةُ «6» اتّفَقُوا عَلَى
تَزْوِيجِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيّاهَا،
وَاخْتَلَفُوا، فِي سبب فراق النبى صلى الله عليه وسلم لها. وكذلك قيل فى:
شراف بنت
__________
(1) أخرجه الترمذى وصححه من حديث أنس.
(2) أخرجه مسلم وأحمد والنسائى، وقد حدث هذا بعد انقضاء عدتها.
(3) وجزم ابن عبد البر. أنها ماتت فى الطريق قبل وصولها إليه.
(4) ويقال: إنه طلقها وقد رواه ابو سعد عن هشام الكلبى عن رجل من بنى بكر.
وقد قيل إنه طلقها لأنه رأى بها بياضا، والله أعلم. والزيادة فى نسبها عن
ابن حبيب فى المحبر ص 93.
(5) وقيل: سنى بفتح السين وتخفيف النون، وسماها قتادة أسماء أما ابن حبيب
فى المحبر فيقول إنها بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام بن سماك
ابن عوف السلمى. ويقول: إنها ماتت قبل أن تصل إليه.
(6) وقيل أسماء بنت النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحيل بن كندى ابن
الجرن. وبعضهم يجعل اسماء هذه وأسماء بنت كعب الجونية امرأة واحدة. ولكن
ابن حبيب وغيره فرق بينهما.
(7/571)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَلِيفَةَ: إنّهَا هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَاَللهُ
أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ خَوْلَةَ، وَيُقَالُ فِيهَا خُوَيْلَةُ، ذُكِرَتْ فِيمَنْ
تَزَوّجَهُمْ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَيُقَالُ: هِيَ الّتِي
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ «1» .
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذِكْرُ خُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ إلَى الْمَسْجِدِ، وَأَنّ أَبَا بَكْرٍ
كَانَ الْإِمَامَ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَأْتَمّ بِهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ فِي السّيرَةِ،
وَالْمَعْرُوفُ فِي الصّحَاحِ أَنّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلّي بِصَلَاةِ
رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنّاسُ يُصَلّونَ
بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقٍ
مُتّصِلٍ أَنّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ الْإِمَامَ يَوْمئِذٍ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ مِنْ
طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا مَاتَ نَبِيّ حَتّى يَؤُمّهُ رجل من أمته
«2» ، وذكر
__________
(1) ويقال إنها أم شريك القرشية العامرية، واسمها: غزبة بضم الغين وفتح
الزاى وتشديد الياء- بنت جابر بن عوف من بنى عامر بن لوسى. وقيل: غزية بنت
داودان بن عوف. وقيل: هى أم شريك غزية الأنصارية من بنى النجار، وفى الصفوة
لابن الجوزى هى أم شريك عزية بنت جابر الدوسية. قال: والأكثرون على أنها
التى وهبت نفسها له صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلها لكبر سنها. وما ذكره
السهيلى هو قول ابن قتيبة فى المعارف. وقيل إن اللاتى وهبن أنفسهن: ام شريك
وخولة وليلى بنت الحطيم ولم يدخل بهن وميمونة بنت الحارث وزينب بنت خزيمة
أم المساكين. وانظر زاد المعاد ص 1- إلى ص 58 ح 1 عن أزواج النبى «ص» وكذلك
شرح المواهب المدنية ح 3 من ص 216 إلى ص 271.
(2) أخرجه ابن سعد عن محمد بن إبراهيم.
(7/572)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبُو عُمَرَ هَذَا الْحَدِيثَ إلّا أَنّهُ سَاقَهُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ مُرْسَلًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزّبَيْرِ عَنْ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَفِي
مَرَاسِيلِ؟؟؟ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرِضَ عَشَرَةَ أَيّامِ صَلّى أَبُو بَكْرٍ بِالنّاسِ
تِسْعَةَ أَيّامٍ مِنْهَا، ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْهَا يُهَادِي بَيْنَ
رَجُلَيْنِ أُسَامَةَ وَالْفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ حَتّى صَلّى خَلْفَ أَبِي
بَكْرٍ، رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ مَرِضَ
عَشَرَةَ أَيّامٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَفِيهِ أَنّ أَحَدَ الرّجُلَيْنِ كَانَ
أُسَامَةَ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ كَانَ عَلِيّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ، وَفِيهِ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ خَلْفَ أَبِي بكر.
حديث العباس:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ الْعَبّاسِ، وَأَنّهُ قَالَ: لَأَلُدّنّهُ،
فَلَدّوهُ، وَحَسَبُوا أَنّ بِهِ ذَاتَ الْجَنْبِ «1» ، فَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ أَنّ الْعَبّاسَ حَضَرَهُ وَلّدَهُ مَعَ مَنْ لَدّ.
وَفِي الصّحِيحَيْنِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: لَا يَبْقِيَنّ أَحَدٌ بِالْبَيْتِ إلّا لُدّ «2» إلّا عَمّي
الْعَبّاسُ، فَإِنّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ، وَهَذِهِ أَصَحّ مِنْ رِوَايَةِ
ابن اسحاق
__________
(1) ذر الجنب الذى يشتكى جنبه إلا أن ذو للمذكر، وذات للمؤنث، وصارت ذات
الجنب علما لها، وإن كانت فى الأصل صفة مضافة. واللدود من الأدوية ما
يسقاها المريض فى أحد شقى الفم، ولديدا الفم: جانباه. ولدوه: فعلوا به ذلك.
(2) يقول ابن الأثير: إنه فعل ذلك عقوبة لهم لأنهم لدوه بعير إذنه.
(7/573)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنّمَا لَدّوهُ لِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ قَالَ فِي الْقُسْطِ
«1» : فِيهِ سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ يُلَدّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ،
وَيُسْعَطُ بِهِ مِنْ الْعَذِرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَمْسَةَ. قَالَ
ابْنُ شِهَابٍ: فَنَحْنُ نَسْتَعْمِلُهُ فِي أَدْوِيَتِنَا كُلّهَا
لَعَلّنَا نُصِيبُهَا، وَاللّدُودُ فِي جَانِبِ الْفَمِ مِنْ دَاخِلِهِ
يَجْعَلُ هُنَاكَ الدّوَاءَ وَيُحَكّ بِالْإِصْبَعِ قَلِيلًا.
وَقَوْلُهُ: فِي ذَاتِ الْجَنْبِ: ذَاكَ دَاءٌ مَا كَانَ اللهُ
لِيَقْذِفَنِي بِهِ، وَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ
الطّبَرِيّ لَهُ: أَنَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ أَنْ يَقْذِفَنِي بِهَا،
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَهِيَ مِنْ الشّيْطَانِ، وَمَا كَانَ اللهُ
لِيُسَلّطَهَا عَلَيّ. وهذا يدل على أنها من سيّىء الْأَسْقَامِ الّتِي
تَعَوّذَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْهَا فِي دُعَائِهِ حَيْثُ
يَقُولُ:
اللهُمّ إنّي أَعُوذُ بك من الجنون والجذام وسيّىء الْأَسْقَامِ، وَإِنْ
كَانَ صَاحِبُهَا مِنْ الشّهَدَاءِ السّبْعَةِ، وَلَكِنّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ قَدْ تَعَوّذَ مِنْ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ، مَعَ قَوْلِهِ
عَلَيْهِ السّلَامُ: الْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِيقُ شَهِيدٌ. وَقَدْ
ذَكَرَ أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ هِيَ الّتِي لَدّتْهُ فَاَللهُ
أَعْلَمُ. وَالْوَجَعُ الّذِي كَانَ بِالنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلُدّ
هُوَ الْوَجَعُ الّذِي يُسَمّى خَاصِرَةً، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي
كِتَابِ النّذُورِ مِنْ الْمُوَطّأِ، قَالَ فِيهِ: فَأَصَابَتْنِي
خَاصِرَةٌ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَثِيرًا مَا كَانَ يُصِيبُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْخَاصِرَةُ. قَالَتْ وَلَا نَهْتَدِي
لِاسْمِ الْخَاصِرَةِ، وَنَقُولُ: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
عِرْقٌ فِي الْكُلّيّةِ. وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ
يَرْفَعُهُ إلَى النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، قال: الخاصرة عرق فى الكلية
إذا
__________
(1) القسط: عقار معروف فى الأدوية طيب الريح، يبخر به النساء والأطفال.
(7/574)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَحَرّكَ وَجَعُ صَاحِبِهِ دَوَاؤُهُ الْعَسَلُ بِالْمَاءِ الْمُحْرَق،
وَهُوَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ عَبْدُ الرّحِيمِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ الزّهْرِيّ
عَنْ عُرْوَةَ، وَعَبْدِ الرّحِيمِ ضَعِيفٌ مَذْكُورٌ عِنْدَ
الْمُحَدّثِينَ فِي الضّعَفَاءِ، وَلَكِنْ قَدْ رَوَتْ عَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ.
وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَذَا يَوْمُ بِنْتِ خَارِجَةَ
يَا رَسُولَ اللهِ. بِنْتُ خَارِجَةَ اسْمُهَا: حَبِيبَةُ، وَقِيلَ
مَلَكِيّة، وَخَارِجَةُ هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَابْنُ
خَارِجَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ خَارِجَةَ الّذِي تَكَلّمَ بَعْدَ الْمَوْتِ
فِيمَا رَوَى ثِقَاتُ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ،
وَذَلِكَ أَنّهُ مَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، فَلَمّا سخى؟؟؟ عَلَيْهِ
سَمِعُوا جَلْجَلَةً فِي صَدْرِهِ، ثُمّ تَكَلّمَ، فَقَالَ: أَحْمَدُ
أَحْمَدُ فِي الْكِتَابِ الْأَوّلِ صِدْقٌ صِدْقٌ، وَأَبُو بَكْرٍ
الصّدّيقُ الضّعِيفُ فِي نَفْسِهِ الْقَوِيّ فِي أَمْرِ اللهِ فِي؟؟؟
الْكِتَابِ الْأَوّلِ، صِدْقٌ صِدْقٌ، عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، الْقَوِيّ
الْأَمِينُ فِي الْكِتَابِ الْأَوّلِ صِدْقٌ صِدْقٌ، عُثْمَانُ بْنُ
عَفّانَ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ مَضَتْ أَرْبَعٌ وَبَقِيَتْ سَنَتَانِ،،
أَتَتْ الْفِتَنُ، وَأَكَلَ الشّدِيدُ الضّعِيفَ، وَقَامَتْ السّاعَةُ
وسيأتيكم عبر بِئْرِ أَرِيسَ، وَمَا بِئْرُ أَرِيسَ «1» . قَالَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيّبِ: ثُمّ هَلَكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ فَسُجّيَ
بِثَوْبِ، فَسَمِعُوا جَلْجَلَةً فِي صَدْرِهِ ثُمّ تَكَلّمَ، فَقَالَ: إنّ
أَخَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ صِدْقٌ صِدْقٌ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَدْ عُرِضَ
مِثْلُ هَذِهِ الْقِصّةِ لِرَبِيعِ بْنِ حِرَاشٍ أَخِي رِبْعِيّ بْنِ
حِرَاشٍ، قَالَ:
رِبْعِيّ: مَاتَ أَخِي فَسَجَيْنَاهُ، وَجَلَسْنَا عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا
نَحْنُ كَذَلِك إذْ كَشَفَ الثّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمّ قَالَ: السلام
عليكم، قلت: سبحان الله!! أبعد الموت؟
__________
(1) بئر قريبة من مسجد قباء.
(7/575)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ: إنّي لَقِيت رَبّي فَتَلَقّانِي بِرَوْحِ وَرَيْحَانٍ، وَرَبّ
غَيْرِ غَضْبَانَ، وَكَسَانِي ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ؛ أَسْرِعُوا بِي إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنّهُ قَدْ أَقَسَمَ أَنْ لَا يَبْرَحَ حَتّى
آتِيَهُ وَأُدْرِكُهُ، وَإِنّ الْأَمْرَ أَهْوَنُ مَا تَذْهَبُونَ إلَيْهِ
فَلَا تَغْتَرّوا، ثُمّ وَاَللهِ كَأَنّمَا كَانَتْ نَفْسُهُ حَصَاةً
فَأُلْقِيَتْ فِي طَسْتٍ «1» .
آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلّمَ بِهَا عَلَيْهِ السّلَامُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَنّ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلّمَ بِهَا عَلَيْهِ السّلَامُ:
اللهُمّ الرّفِيقَ الْأَعْلَى، وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ إلى قوله سبحانه: وَحَسُنَ أُولئِكَ
رَفِيقاً فَهَذَا هُوَ الرّفِيقُ الْأَعْلَى، وَلَمْ يَقُلْ الرّفَقَاءُ،
لِمَا قَدّمْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِمّا حَسُنَ ذَلِكَ، مَعَ أَنّ
أَهْلَ الْجَنّةِ يُدْخِلُونَهَا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَذِهِ
آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلّمَ بِهَا عَلَيْهِ السّلَامُ، وَهِيَ تَتَضَمّنُ
مَعْنَى التّوْحِيدِ الّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ كَلَامِ
الْمُؤْمِنِ، لِأَنّهُ قَالَ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَهُمْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُمْ أَهْلُ لَا إلَهَ إلّا
اللهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ثُمّ بَيّنَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدّمَةِ
مِنْ الّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ فَذَكَرَهُمْ، وَهُمْ الرّفِيقُ
الْأَعْلَى الذين ذَكَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- حين خبّر فَاخْتَارَ، وَبَعْضُ الرّوَاةِ يَقُولُ عَنْ
عَائِشَةَ فِي هذا الحديث: فأشار
__________
(1) لا تتصور فى هذه القصة إلا أحد أمرين، فإما أن يكون وراءها هوى ل؟؟؟
الذكاء وإما أن تكون إغماءة عميقة، أفاق بعدها زيد، فقال ما رأى فى غيبوبته
وإلا فإن هدى القرآن والسنة فى جانب. وهذيان هذه الأسطورة فى جانب آخر
(7/576)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِأُصْبُعِهِ، وَقَالَ: فِي الرّفِيقِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنّهُ
قَالَ: اللهُمّ الرّفِيقَ «1» ، وَأَشَارَ بِالسّبّابَةِ، يُرِيدُ:
التّوْحِيدَ، فَقَدْ دَخَلَ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ
عَلَيْهِ السّلَامُ: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلّا اللهُ
دَخَلَ الْجَنّةَ، وَلَا شَكّ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي أَعَلَى
دَرَجَاتِ الْجَنّةِ، وَلَوْ لَمْ يُشِرْ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا هَذَا
لِئَلّا يَقُولَ الْقَائِلُ: لِمَ لَمْ يَكُنْ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إلَهَ
إلّا اللهُ، وَأَوّلُ كَلِمَةٍ تَكَلّمَ بِهَا رَسُولُ اللهِ وَهُوَ
مُسْتَرْضِعٌ عِنْدَ حَلِيمَةَ أَنْ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، رَأَيْت ذَلِكَ
فِي بَعْضِ كُتُبِ الْوَاقِدِيّ.
وَأَمّا آخِرَ مَا أَوْصَى بِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَنْ قَالَ:
الصّلَاةَ وما ملكت أيمانكم حرّك بها لِسَانَهُ وَمَا يَكَادُ يُبِينُ،
وَفِي قَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ قَوْلَانِ: قِيلَ:
أَرَادَ الرّفْقَ بِالْمَمْلُوكِ، وَقِيلَ: أَرَادَ الزّكَاةَ، لِأَنّهَا
فِي الْقُرْآنِ مَقْرُونَةٌ بِالصّلَاةِ، وَهِيَ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ،
قَالَهُ الْخَطّابِيّ.
وَقَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ
سِنّي أَنّهُ قُبِضَ فِي حِجْرِي فَوَضَعْت رَأْسَهُ عَلَى الْوِسَادَةِ،
وَقُمْت أَلْتَدِمُ مَعَ النّسَاءِ. الِالْتِدَامُ:
ضَرْبُ الْخَدّ بِالْيَدِ، وَلَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِي التّحْرِيمِ، لِأَنّ
التّحْرِيمَ إنّمَا وَقَعَ عَلَى الصّرَاخِ والنّوح، وَلُعِنَتْ
الْخَارِقَةُ وَالْحَالِقَةُ وَالصّالِقَةُ وَهِيَ الرّافِعَةُ
لِصَوْتِهَا،
__________
(1) فى رواية للبخارى قالت عائشة: كانت آخر كلمة تكلم بها: اللهم فى الرفيق
الأعلى. وفى أخرى أنها سمعته يقول قبل أن يموت: اللهم اغفرلى وارحمنى
وألحقنى بالرفيق الأعلى.
(7/577)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَمْ يَذْكُرْ اللّدْمَ «1» لَكِنّهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَإِنّهُ
مَكْرُوهٌ فِي حَالِ الْمُصِيبَةِ، وَتَرْكُهُ أَحْمَدُ إلّا عَلَى
أَحْمَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَالصّبْرُ يُحْمَدَ فِي الْمَصَائِبِ كُلّهَا ... إلّا عَلَيْك فَإِنّهُ
مَذْمُومُ
وَقَدْ كَانَ يُدْعَى لَابِسُ الصّبْرِ حَازِمًا ... فَأَصْبَحَ يُدْعَى
حَازِمًا حِينَ يَجْزَعُ «2»
مَتَى توفى رسول الله؟:
وَاتّفَقُوا أَنّهُ تُوُفّيَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ إلّا شَيْئًا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ:
الْأَرْبِعَاءِ «3» ، قَالُوا كُلّهُمْ: وَفِي رَبِيعٍ الأول، غير أنهم
__________
(1) ما نظن أن سيدة فى مثل دين عائشة رضى الله عنها وتقواها وأخذها الكتاب
بقوة يلدم المصاب عقلها، فيدفعها إلى اقتراف فعل الجاهلية. هذا وقد روى ابن
مسعود أن رسول الله «ص» قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب، ودعا
بدعوى الجاهلية» البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه وهل اللدم إلا
اللطم؟ قد تبكى، وتطيل البكاء. أما أن تلطم، ومع النساء؟ وفى بيت قدسته روح
النبوة؟ أما هذا، فلا يجوز تصوره ولا قوله.
(2) ذاك شعر ليس بينه وبين هدى السنة رحم. فالصبر محمود فى كل مصيبة. ترى
أكان صبر أبى بكر على وفاة خليله «ص» كان غير حميد؟ والجازع لا يمكن أن
يسمى حامدا، إنما هو زخرف من القول. وأجمل من هذا قول القائر:
اصبر لكل مصيبة وتحلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف فى غد
وإذا أتتك مصيبة تشحى بها ... فاذكر مصابك بالنبى محمد.
(3) قال ابن قتيبة أولا: «قبض الله عز وجل رسوله «ص» يوم الاثنين وقرر أن
ذلك كان فى الثانى عشر من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة. ثم قال: «ويقال-
(7/578)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالُوا، أَوْ قَالَ أَكْثَرُهُمْ فِي الثّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ، وَلَا
يَصِحّ أَنْ يَكُونَ تُوُفّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلّا فِي
الثّانِي مِنْ الشّهْرِ أَوْ الثّالِثَ عَشَرَ أَوْ الرّابِعَ عَشَرَ أَوْ
الْخَامِسَ عَشَرَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنّ وَقْفَةَ
عَرَفَةَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ
التّاسِعُ مِنْ ذِي الْحَجّةِ، فَدَخَلَ ذُو الْحَجّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ،
فَكَانَ الْمُحَرّمُ إمّا الْجُمُعَةُ وَإِمّا السّبْتُ، فَإِنْ كَانَ
الْجُمُعَةُ، فَقَدْ كَانَ صَفَرٌ إمّا السّبْتُ وَإِمّا الْأَحَدُ، فَإِنْ
كَانَ السّبْتُ، فَقَدْ كَانَ رَبِيعٌ الْأَحَدَ أَوْ الِاثْنَيْنِ،
وَكَيْفَا دَارَتْ الْحَالُ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ، فَلَمْ يَكُنْ
الثّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بِوَجْهِ، وَلَا
الْأَرْبِعَاءَ أَيْضًا «1» كَمَا قَالَ الْقُتَبِيّ، وَذَكَرَ الطّبَرِيّ
عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَأَبِي مِخْنَفٍ أَنّهُ تُوُفّيَ فِي الثّانِي
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ «2» ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ
أَهْلِ الْجُمْهُورِ فَإِنّهُ لَا يُبْعَدُ أَنْ كَانَتْ الثّلَاثَةُ
الْأَشْهُرُ الّتِي قَبْلَهُ كُلّهَا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ،
فَتَدَبّرْهُ، فَإِنّهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا تَفَطّنَ لَهُ،
وَقَدْ رَأَيْت لِلْخَوَارِزْمِيّ أَنّهُ تُوُفّيَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي
أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ، وَهَذَا أَقْرَبُ فِي الْقِيَاسِ
بِمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَأَبِي مِخْنَفٍ.
__________
- أَنّهُ ولد يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين،
وقبض «ص» يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء فى حجرة عائشة، وفيها قبض» ص 55
المعارف.
(1) يذكر فى المعارف أنه دفن يوم الأربعاء، أما الوفاة فذكّر انها كانت يوم
الاثنين فليس ثمت خلاف. ويصحح الحاكم أنه دفن يوم الاثنين عند الزوال. أما
ابن عبد البر فيقول: أكثر الآثار على أنه دفن يوم الثلاثاء.
(2) وقد صححه ابن حزم وغيره.
(7/579)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السّوَاكُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنّهَا نَاوَلَتْهُ
السّوَاكَ حِينَ رَأَتْهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ، فَاسْتَاك بِهِ «1» ، وَفِيهِ
مِنْ الْفِقْهِ: التّنَظّفُ وَالتّطَهّرُ لِلْمَوْتِ، وَلِذَلِكَ
يُسْتَحَبّ الِاسْتِحْدَادُ لِمَنْ اسْتَشْعَرَ الْقَتْلَ أَوْ الْمَوْتَ
كَمَا فَعَلَ خُبَيْبٌ، لِأَنّ الميت فادم عَلَى رَبّهِ، كَمَا أَنّ
الْمُصَلّيَ مُنَاجٍ لِرَبّهِ، فَالنّظَافَةُ مِنْ شَأْنِهِمَا، وَفِي
الْحَدِيثِ: إنّ اللهَ نَظِيفٌ يُحِبّ النّظَافَةَ، خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ،
وَإِنْ كَانَ مَعْلُولَ السّنَدِ، فَإِنّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ
النّظِيفُ مِنْ أَسْمَاءِ الرّبّ، وَلَكِنّهُ حَسُنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ،
لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ، وَلِقُرْبِ مَعْنَى النّظَافَةِ مِنْ مَعْنَى
الْقُدُسِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ: الْقُدّوسُ، وَكَانَ السّوَاكُ
الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ عَسِيبِ نَخْلٍ فِيمَا رَوَى
بَعْضُهُمْ، وَالْعَرَبُ تَسْتَاكُ بِالْعَسِيبِ «2» ، وَكَانَ أَحَبّ
السّوَاكِ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صُرْعُ
الْأَرَاكِ، وَاحِدُهَا صَرِيعٌ وَهُوَ قَضِيبٌ يَنْطَوِي مِنْ
الْأَرَاكَةِ حَتّى يَبْلُغَ التّرَابَ، فَيَبْقَى فِي ظِلّهَا فَهُوَ
أَلْيَنُ مِنْ فَرْعِهَا.
وَمِمّا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي مَعْنَى
قَوْلِهَا: بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، أَنّهَا قَالَتْ: قُبِضَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم بين حاقنتى
__________
(1) كان سواك عبد الرحمن بن أبى بكر كما ورد فى البخارى. وكان السواك من
جريدة رطبة. تقول عائشة: «إن من نعم الله تعالى على أن الله جمع بين ريقى
وريقه عند موته. دخل على عبد الرحمن، وبيده سواك رأنا مسندة رسول الله» الخ
الحديث.
(2) سبق الكلام عن السواك كما ورد فى البخارى.
(7/580)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَدَاقِنَتِي، فَالْحَاقِنَةُ الثّغْرَةُ «1» ، وَالدّاقِنَةُ: تَحْتَ
الدّقْنِ، وَيُقَالُ لَهَا: النّونَةُ أَيْضًا. وَرُوِيَ أَيْضًا: بَيْنَ
شَجْرِي- بِالشّيْنِ وَالْجِيمِ- وَنَحْرِي، وَسُئِلَ عُمَارَةُ بْنُ
عُقَيْلٍ عَنْ مَعْنَاهُ، فَشَبّكَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ، وَضَمّهَا
إلى نحره.
وغسّل عليه السلام حين قهض مِنْ بِئْرٍ لِسَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ يُقَالُ
لَهَا بِئْرُ الْغَرْسِ.
كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَنّهُمْ كُلّمُوا حِينَ أَرَادُوا نَزْعَ قَمِيصِهِ
لِلْغُسْلِ، وَكُلّهُمْ سَمِعَ الصّوْتَ، وَلَمْ يُرَ الشّخْصُ، وَذَلِكَ
مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» ، وَمِنْ آيَاتِ
نُبُوّتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَقَدْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ «3» فِي حَيَاتِهِ، وَقَبْلَ مَوْلِدِهِ وَبَعْدَ
مَوْتِهِ. وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللهُ فِي
التّمْهِيدِ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ: أَنّ أَهْلَ بَيْتِهِ سَمِعُوا وَهُوَ
مُسَجّى بَيْنَهُمْ قَائِلًا يَقُولُ:
السّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ
إنّ فِي اللهِ عِوَضًا مِنْ كُلّ تَالِفٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلّ هَالِكٍ،
وَعَزَاءً مِنْ كُلّ مُصِيبَةٍ، فَاصْبِرُوا وَاحْتَسِبُوا، إنّ اللهَ مَعَ
الصّابِرِينَ، وَهُوَ حَسْبُنَا، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. قَالَ: فَكَانُوا
يَرَوْنَ أَنّهُ الْخَضِرُ صَلّى اللهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ «4»
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنّ الفضل بن عباس كان يغسّله
__________
(1) أو هى كما عرفها ابن الأثير: لوهدة المنخفضة بين الترقوتين من الحلق.
(2) الرواية تقول. إن الله ألقى عَلَيْهِمْ النّوْمَ حَتّى مَا مِنْهُمْ
رَجُلٌ إلّا ذقنه فى صدره. فهى إذا رؤبا وقد رواه أبو داود والحاكم
والبيهقى.
(3) قلت من قبل: لنسم ما من به الله على رسله تأييدا لهم: آيات.
(4) وصاحب موسى هذا قد مات من قبل بمئات السنين.
(7/581)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُوَ وَعَلِيّ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ وَهُوَ يَصُبّ الْمَاءَ يَقُولُ:
أَرِحْنِي أَرِحْنِي، فَإِنّي أَجِدُ شَيْئًا يَتَنَزّلُ عَلَى ظَهْرِي.
وَمِنْهَا أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ مِمّا
يَظْهَرُ مِنْ الْمَوْتَى، وَلَا تَغَيّرَتْ لَهُ رَائِحَةٌ، وَقَدْ طَالَ
مُكْثُهُ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ، وَكَانَ مَوْتُهُ فِي شَهْرِ
أَيْلُولَ، فَكَانَ طَيّبًا حَيّا وَمَيّتًا، وَإِنْ كَانَ عَمّهُ
الْعَبّاسُ قَدْ قَالَ لِعَلِيّ: إنّ ابْنَ أَخِي مَاتَ لَا شَكّ، وَهُوَ
مِنْ بَنِي آدَمَ يَأْسُنُ كَمَا يَأْسِنُونَ «1» ، فَوَارَوْهُ. وَكَانَ
مِمّا زَادَ الْعَبّاسُ يَقِينًا بِمَوْتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ
كَانَ قَدْ رَأَى قَبْلَ ذَلِكَ بيسير كأنّ الفمر رُفِعَ مِنْ الْأَرْضِ
إلَى السّمَاءِ بِأَشْطَانِ، فَقَصّهَا عَلَى نَبِيّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: هُوَ ابْنُ أَخِيك. وَرَوَى يُونُسُ
بْنُ بُكَيْرٍ فِي السّيرَةِ أَنّ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ: وَضَعْت يَدِي
عَلَى صَدْرِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ
مَيّتٌ فَمَرّتْ عَلَيّ جُمَعٌ لَا آكُلُ وَلَا أَتَوَضّأُ إلّا وَجَدْت
رِيحَ الْمِسْكِ مِنْ يَدِي، وَفِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا: أَنّ عَلِيّا
نُودِيَ، وَهُوَ يُغَسّلُهُ أَنْ ارْفَعْ طَرَفَك إلَى السّمَاءِ. وَفِيهَا
أَيْضًا أَنّ عَلِيّا وَالْفَضْلَ حِينَ انْتَهَيَا فِي الْغُسْلِ إلَى
أَسْفَلِهِ سَمِعُوا مُنَادِيًا يَقُولُ: لَا تَكْشِفُوا عَوْرَةَ
نَبِيّكُمْ عَلَيْهِ السّلَامُ.
مُوَازَنَةٌ بَيْنَ عُمَرَ وَبَيْنَ أبي بكر:
وَأَمّا جَزَعُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ: وَاَللهِ مَا مَاتَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه
__________
(1) لا ريب فى أن العباس صدر فى كلمته هذه عن يقين الإيمان ببشرية محمد صلى
الله عليه وسلم، وأنه خاتم النبيين، وأن عظمته تتجلى فيما صدر عنه فى حياته
لا فيما ينسب إلى هذا الجسد المسجى وليس فيما روى هنا حديث عند أصحاب
الصحيح.
(7/582)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَسَلَّمَ، وَلَيَرْجِعَنّ كَمَا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، حَتّى
كَلّمَهُ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللهُ وَذَكّرَهُ بِالْآيَةِ، فَعَقِرَ
حَتّى سَقَطَ إلَى الْأَرْضِ، وَمَا كَانَ مِنْ ثَبَاتِ جَأْشِ أَبِي
بَكْرٍ وَقُوّتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ «1» ، فَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ
الصّدّيق رضى الله عنه من؟؟؟ التّأَلّهِ، وَتَعَلّقِ الْقَلْبِ
بِالْإِلَهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمّدًا،
فَإِنّ مُحَمّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَإِنّ اللهَ
حَيّ لَا يَمُوتُ. وَمَنْ قُوّةِ تَأَلّهِهِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ
أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
رَدّ جَيْشِ أُسَامَةَ حِينَ رَأَوْا الرّدّةَ قَدْ اسْتَعَرَتْ نَارُهَا،
وَخَافُوا عَلَى نِسَاءِ الْمَدِينَةِ وَذَرَارِيّهَا، فَقَالَ: وَاَللهِ
لَوْ لَعِبَتْ الْكِلَابُ بِخَلَاخِلِ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ، مَا رَدَدْت
جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَكَلّمَهُ عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي
حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَشَدّ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيُهُ
رَأْيَ سَالِمٍ، فَكَلّمُوهُ أَنْ يَدَعَ لِلْعَرَبِ زَكَاةَ ذَلِكَ
الْعَامِ تَأَلّفًا لَهُمْ حَتّى يَتَمَكّنَ لَهُ الْأَمْرُ، فَقَدْ كَانَ
رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَأَلّفُهُمْ،
وَكَلّمَهُ عُمَرُ أَنْ يُوَلّيَ مَكَانَ أُسَامَةَ مَنْ هُوَ أَسَنّ
مِنْهُ، وَأَجْلَدُ، فَأَخَذَ بِلِحْيَةِ عُمَرَ، وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ
الْخَطّابِ أَتَأْمُرُنِي أَنْ أَكُونَ أَوّلَ حَالّ عَقْدًا عَقَدَهُ
رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاَللهِ لَأَنْ أَخِرّ
مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ، فَتَخْطَفُنِي الطّيْرُ أَحَبّ إلَيّ من أن
__________
(1) ما أجمل ما عبرت به عائشة عن موقفيهما حين قالت- كما ورد فى البخارى-
«فما كانت من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، لقد خوف عمر الناس، وإن
فيهم لنفاقا، فردهم الله بذلك، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى، وعرفهم
الحق الذى عليهم» .
(7/583)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أُمَالِئَكُمْ عَلَى هَذَا الرّأْيِ، وَقَالَ لَهُمْ: وَاَللهِ لَوْ
أَفْرَدْت مِنْ جَمِيعِكُمْ لَقَاتَلْتهمْ وَحْدِي حَتّى تَنْفَرِدَ
سَالِفَتِي، وَلَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا، لَجَاهَدْتهمْ عَلَيْهِ، أو فى
شَكّ أَنْتُمْ، أَنّ وَعَدَ اللهِ لَحَقّ. وَإِنّ قَوْلَهُ لَصِدْقٌ،
وَلَيُظْهِرَنّ اللهُ هَذَا الدّينَ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. ثُمّ
خَرَجَ وَحْدَهُ إلَى ذِي الْقِصّةِ «1» حَتّى اتّبَعُوهُ، وَسَمِعَ
الصّوْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي كُلّ قَبِيلَةٍ أَلَا إنّ الْخَلِيفَةَ قَدْ
تَوَجّهَ إلَيْكُمْ الْهَرَبَ الْهَرَبَ، حَتّى اتّصَلَ الصّوْتُ مِنْ
يَوْمِهِ بِبِلَادِ حِمْيَرَ، وَكَذَلِكَ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ، كَانَ يَلُوحُ الْفَرَقُ فِي التّأَلّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ حِينَ قَالَ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمِعْتُك وَأَنْتَ تَخْفِضُ
مِنْ صَوْتِك يَعْنِي فِي صَلَاةِ اللّيْلِ، فقال: قد أسمعت من ناحجيت،
وَقَالَ: لِلْفَارُوقِ: سَمِعْتُك وَأَنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِك،
فَقَالَ: كَيْ أَطْرُدَ الشّيْطَانَ، وَأُوقِظَ الْوَسْنَانَ. قَالَ عبد
الكريم ابن هَوَازِنَ الْقُشَيْرِيّ «2» ، وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ:
اُنْظُرُوا إلَى فَضْلِ الصّدّيقِ عَلَى الْفَارُوقِ، هَذَا فِي مَقَامِ
الْمُجَاهَدَةِ، وَهَذَا فِي بِسَاطِ الْمُشَاهَدَةِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ
مِنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَقَالَتَهُ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهُوَ مَعَهُ فِي الْعَرِيشِ، وَكَذَلِكَ فِي
أَمْرِ الصّدَقَةِ حِينَ رَغِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِيهَا، فَجَاءَ عُمَرُ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَجَاءَ الصّدّيقُ
بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ: مَا
أَبْقَيْت لِأَهْلِك؟ قَالَ: اللهَ وَرَسُولَهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَهُ فِي
قِسْمِ الْفَيْءِ حِينَ سَوّى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: هُمْ
إخْوَةٌ، أَبُوهُمْ الْإِسْلَامُ، فَهُمْ فى هذا
__________
(1) مكان على يريد من المدينة. وهناك غيره، فانظر المشترك وضعا لياقوت.
(2) هو صاحب الرسالة القشيرية التى دس فيها من التصوف نزغات صارفة من الحق.
(7/584)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَيْءِ أُسْوَةٌ، وَأُجُورُ أَهْلِ السّوَابِقِ عَلَى اللهِ. وَفَضْلُ
عُمَرَ فِي قَسْمِ الْفَيْءِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عَلَى حَسَبِ
سَوَابِقِهِمْ، ثُمّ قَالَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ: لَئِنْ بَقِيت إلَى قَابِلٍ
لَأُسَوّيَنّ بَيْنَ النّاسِ، وَأَرَادَ الرّجُوعَ إلَى رَأْيِ أَبِي
بَكْرٍ، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَعَنْ جَمِيعِ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مَا حَدَثَ لِلصّحَابَةِ عَقِبَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَغَيْرِهَا
مِنْ الصّحَابَةِ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمّا
قُبِضَ، وَارْتَفَعَتْ الرّنّةُ وَسَجّى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَلَائِكَةَ، دُهِشَ الناس، وطاشت عقولهم وأفحموا،
وَاخْتَلَطُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ خُبِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُصْمِتَ،
وَمِنْهُمْ مَنْ أُقْعِدَ إلَى أَرْضٍ، فَكَانَ عُمَرُ مِمّنْ خُبِلَ
وَجَعَلَ يَصِيحُ، وَيَحْلِفُ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وكان مِمّنْ أُخْرِسَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ حَتّى
جَعَلَ يُذْهَبُ بِهِ وَيُجَاءُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ كَلَامًا، وَكَانَ
مِمّنْ أُقْعِدَ: عَلِيّ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ
حَرَاكًا، وَأَمّا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَأُضْنِيَ حَتّى مَاتَ
كَمَدًا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ
بِالسّنْحِ «1» ، فَجَاءَ وعيناه نهملان، وزفراته نتردّد فِي صَدْرِهِ،
وَغُصَصُهُ تَرْتَفِعُ كَقِطَعِ الْجِرّةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ رِضْوَانُ
اللهِ عَلَيْهِ، جَلْدُ الْعَقْلِ وَالْمَقَالَةِ، حَتّى دَخَلَ عَلَى
رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَكَبّ عَلَيْهِ،
وَكَشَفَ وَجْهَهُ وَمَسَحَهُ وَقَبّلَ جَبِينَهُ، وَجَعَلَ يَبْكِي،
وَيَقُولُ: بِأَبِي
__________
(1) ضبطها البكرى بصم النون وغيره بسكونها.
(7/585)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنْتَ وَأُمّي طِبْت حَيّا وَمَيّتًا، وَانْقَطَعَ لِمَوْتِك مَا لَمْ
يَنْقَطِعْ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ النّبُوّةِ،
فَعَظُمْت عَنْ الصّفّةِ، وَجَلَلْت عَنْ الْبُكَاءِ، وَخَصَصْت حَتّى
صِرْت مَسْلَاةً، وَعَمَمْت حَتّى صِرْنَا فِيك سَوَاءً، وَلَوْ أَنّ
مَوْتَك كَانَ اخْتِيَارًا لَجُدْنَا لِمَوْتِك بِالنّفُوسِ، وَلَوْلَا
أَنّك نَهَيْت عن البكاء لأنفدنا عليك ماء الشئون، فأما مالا نَسْتَطِيعُ
نَفِيَهُ فَكَمَدٌ وَإِدْنَافٌ يَتَحَالَفَانِ لَا يَبْرَحَانِ، اللهُمّ
أَبْلِغْهُ عَنّا، اُذْكُرْنَا يَا مُحَمّدُ عِنْدَ رَبّك، وَلْنَكُنْ مِنْ
بَالِك «1» ، فَلَوْلَا مَا خَلّفْت مِنْ السّكِينَةِ، لَمْ نَقُمْ لِمَا
خَلّفْت مِنْ الْوَحْشَةِ، اللهُمّ أَبْلِغْ نَبِيّك عَنّا، وَاحْفَظْهُ
فِينَا، ثُمّ خَرَجَ لَمّا قَضَى النّاسُ غَمَرَاتِهِمْ، وَقَامَ خَطِيبًا
فِيهِمْ بِخُطْبَةِ جُلّهَا الصّلَاةُ عَلَى النّبِيّ مُحَمّدٍ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا
اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنّ الْكِتَابَ كَمَا
نَزَلَ، وَأَنّ الدّينَ كَمَا شُرِعَ، وَأَنّ الْحَدِيثَ كَمَا حُدّثَ،
وَأَنّ الْقَوْلَ كَمَا قَالَ، وَأَنّ اللهَ هُوَ الْحَقّ الْمُبِينُ، فِي
كَلَامٍ طَوِيلٍ، ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ
مُحَمّدًا، فَإِنّ مُحَمّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ
فَإِنّ اللهَ حَيّ لَمْ يَمُتْ، وَأَنّ اللهَ قَدْ تَقَدّمَ لَكُمْ فِي
أَمْرِهِ، فَلَا تَدْعُوهُ جَزَعًا، وَأَنّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
قَدْ اخْتَارَ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مَا عِنْدَهُ عَلَى مَا
عِنْدَكُمْ، وَقَبَضَهُ إلَى ثَوَابِهِ، وَخَلّفَ فِيكُمْ كِتَابَهُ
وَسُنّةَ نَبِيّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِمَا عَرَفَ، وَمَنْ فَرّقَ
بَيْنَهُمَا أَنْكَرَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ وَلَا يَشْغَلَنّكُمْ الشّيْطَانُ بِمَوْتِ نَبِيّكُمْ وَلَا
يَلْفِتَنّكُمْ عن دينكم، وعاجلوا
__________
(1) لا يقول هذه أبو بكر.
(7/586)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشّيْطَانَ بِالْخِزْيِ تُعْجِزُوهُ، وَلَا تَسْتَنْظِرُوهُ فَيَلْحَقَ
بِكَمْ. فَلَمّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، قَالَ: يَا عُمَرُ أَأَنْتَ
الّذِي بَلَغَنِي عَنْك أَنّك تَقُولُ عَلَى بَابِ نَبِيّ اللهِ، وَاَلّذِي
نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ: مَا مَاتَ نَبِيّ اللهِ، أَمّا عَلِمْت أَنّ رسول
الله- صلى الله عليه وسلم- قال يَوْمَ كَذَا: كَذَا، وَكَذَا، وَقَالَ
اللهُ عَزّ وَجَلّ فِي كِتَابِهِ:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللهِ
لَكَأَنّي لَمْ أَسْمَعْ بِهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى قَبْلَ الْآنَ
لَمَا نَزَلَ بِنَا، أَشْهَدُ أَنّ الْكِتَابَ كَمَا نَزَلَ، وَأَنّ
الْحَدِيثَ كَمَا حُدّثَ، وَأَنّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيّ لَا
يَمُوتُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَى
رَسُولِهِ، وَعِنْدَ اللهِ نَحْتَسِبُ رَسُولَهُ. وَقَالَ عُمَرُ فِيمَا
كَانَ مِنْهُ:
لَعَمْرِي لَقَدْ أَيْقَنْت أَنّك مَيّتٌ ... وَلَكِنّمَا أَبْدَى الّذِي
قُلْته الْجَزَعْ «1»
وَقُلْت يَغِيبُ الْوَحْيُ عَنّا لِفَقْدِهِ ... كَمَا غَابَ مُوسَى، ثُمّ
يَرْجِعْ كَمَا رَجَعَ
وَكَانَ هَوَايَ أَنْ تَطُولَ حَيَاتُهُ ... وَلَيْسَ لِحَيّ فِي بَقَا
مَيّتٍ طَمَعْ
فَلَمّا كَشَفْنَا الْبُرْدَ عَنْ حُرّ وَجْهِهِ ... إذَا الْأَمْرُ
بِالْجَزَعِ الْمُوهِبِ قَدْ وَقَعْ
فَلَمْ تَكُ لِي عِنْدَ الْمُصِيبَةِ حِيلَةٌ ... أَرُدّ بِهَا أَهْلَ
الشّمَاتَةِ وَالْقَذَعْ
سِوَى آذَنَ اللهُ فِي كِتَابِهِ ... وَمَا آذَنَ اللهُ الْعِبَادَ بِهِ
يَقَعْ
وَقَدْ قَلّتْ مِنْ بَعْدِ الْمَقَالَةِ قَوْلَةً ... لَهَا فِي حُلُوقِ
الشّامِتِينَ بِهِ بَشَعْ
أَلَا إنّمَا كَانَ النّبِيّ مُحَمّدٌ ... إلَى أَجَلٍ وَافِي بِهِ
الْوَقْتُ فَانْقَطَعْ
نَدِينُ عَلَى الْعِلّاتِ مِنّا بِدِينِهِ ... وَنُعْطِي الّذِي أعطى،
ونمنع ما منع
__________
(1) جزم بدون سبب. وليس فى الشعر رائحة من عمر.
(7/587)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَوَلّيْت مَحْزُونًا بِعَيْنِ سَخِينَةٍ ... أَكَفْكِفُ دَمْعِي
وَالْفُؤَادُ قَدْ انْصَدَعْ
وَقُلْت لِعَيْنِي: كُلّ دَمْعٍ ذَخَرْته ... فَجُودِي بِهِ إنّ الشّجِيّ
لَهُ دُفَعْ
وَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ عُمَرَ قَالَ: فَعَقِرْت إلَى الْأَرْضِ،
يَعْنِي حِينَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ، يُقَالُ: عَقِرَ
الرّجُلُ إذَا سَقَطَ إلَى الْأَرْضِ مِنْ قَامَتِهِ، وَحَكَاهُ يَعْقُوبُ
عَفَرَ بِالْفَاءِ كَأَنّهُ مِنْ الْعَفَرِ وَهُوَ التّرَابُ، وَصَوّبَ
ابْنُ كَيْسَانَ الرّوَايَتَيْنِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللهُ
عَنْهَا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَلَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الصّمّ مَا نَزَلَ بِأَبِي لَهَاضَهَا،
ارْتَدّتْ الْعَرَبُ وَاشْرَأَبّ النّفَاقُ، فَمَا اخْتَلَفُوا فِي
نُقْطَةٍ إلّا طَارَ أَبِي بِحَظّهَا وَغِنَائِهَا، وَيُرْوَى فِي بُقْطَةٍ
بِالْبَاءِ، قَالَهُ الْهَرَوِيّ فى الغرببين، وفسره باللمعة «1» ، ونحوها،
واستشهد بالحديث فى النّهى عَنْ بَقْطِ الْأَرْضِ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ
شَجَرَهَا فَتُتّخَذُ بُقَعًا لِلزّرْعِ، وَبَقْطُهَا ضَرْبٌ مِنْ
الْمُخَابِرَةِ قَدْ فَسّرَهُ.
كَيْفَ صُلّيَ عَلَى جِنَازَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ؟
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنّ الْمُسْلِمِينَ صَلّوْا عَلَيْهِ
أَفْذَاذًا، لَا يَؤُمّهُمْ أَحَدٌ، كُلّمَا جَاءَتْ طَائِفَةٌ صَلّتْ
عَلَيْهِ، وَهَذَا خُصُوصٌ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا
يَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ إلّا عَنْ تَوْقِيفٍ «2» ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ
أَنّهُ أوصى بذلك،
__________
(1) فى اللسان: البقطة: البقعة من بقاع الأرض أو الفرقة من الناس.
(2) حديث ابن إسحاق رواه البيهقى وابن ماجة. ويقول الحافظ فى الفتح، إسناده
ضعيف لأنه من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة.. وعن أبى عسيب-
(7/588)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ مُسْنَدًا، وَوَجْهُ الْفِقْهِ فِيهِ أَنّ اللهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى افْتَرَضَ الصّلَاةَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: صَلُّوا
عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وَحُكْمُ هَذِهِ الصّلَاةِ الّتِي
تَضَمّنَتْهَا الْآيَةُ أَلّا تَكُونَ بِإِمَامِ، وَالصّلَاةُ عَلَيْهِ
عِنْدَ مَوْتِهِ دَاخِلَةٌ فِي لَفْظِ الْآيَةِ، وَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ
لَهَا، وَلِلصّلَاةِ عَلَيْهِ عَلَى كُلّ حَالٍ، وَأَيْضًا فَإِنّ الرّبّ
تبارك وتعالى، قد أخبر أَنّهُ يُصَلّي عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ، فَإِذَا
كَانَ الرّبّ تَعَالَى هُوَ الْمُصَلّي وَالْمَلَائِكَةُ قَبْلَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعًا
لِصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ هُمْ الْإِمَامُ،
وَالْحَدِيثُ الّذِي ذَكَرْته عَنْ الطّبَرِيّ فِيهِ طُولٌ، وَقَدْ رَوَاهُ
الْبَزّارُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُرّةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ
أَنّهُ حِينَ جَمَعَ أَهْلَهُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-
أَنّهُمْ قَالُوا: فمن يصلّى عليك يا رسول الله؟
__________
- عند أحمد أنه شهد الصلاة على رسول الله «ص» فقال: كيف نصلى عليك؟ قال:
ادخلوا أرسالا، وعن جابر وابن عباس أيضا عند الطبرانى، وفى إسناده عبد
المنعم ابن إدريس وهو كذاب، وقد قال البزار: إنه موضوع. وعن ابن مسعود عند
الحاكم بسند واه. وعن نبيط بن شريط عند البيهقى وذكره مالك بلاغا وفى
الحديث أن الصلاة كانت عليه فرادى، الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان. قال ابن
عبد البر: وصلاة الناس عليه أفرادا مجمع عليه عند أهل السير، وجماعة أهل
النقل لا يختلفون فيه، وتعقبه ابن دحية بأن ابن القصار حكى الخلاف فيه، هل
صلوا عليه الصلاة المعهودة أو دعوا فقط، وهل صلوا فرادى أو جماعة.. قال ابن
دحية: والصحيح أن المسلمين صلوا عليه أفرادا لا يؤمهم أحد. وبه جزم
الشافعى، قال: وذلك لعظم رسول الله «ص» بأبى هو وأمى، وتنافسهم فى ألا
يتولى الإمامة عليه فى الصلاة واحد. قال ابن دحية: كان المصلون عليه ثلاثون
ألفا. أنظر نيل الأوطار ص 41 ح 4 ط 1357 هـ والخصائص للسيوطى ص 294 ط دار
الكتب الحديثة بتحقيق الأستاذ محمد خيل هراس.
(7/589)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ: فَهَلّا غَفَرَ اللهُ لَكُمْ وَجَزَاكُمْ عَنْ نَبِيّكُمْ خَيْرًا،
فَبَكَيْنَا وَبَكَى النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: إذَا غَسّلْتُمُونِي، وَكَفّنْتُمُونِي، فَضَعُونِي عَلَى
سَرِيرِي فِي بَيْتِي هَذَا عَلَى شَفِيرِ قَبْرِي، ثُمّ اُخْرُجُوا عَنّي
سَاعَةً، فَإِنّ أَوّلَ مَنْ يُصَلّي عَلَيّ جَلِيسِي وَخَلِيلِي
جِبْرِيلُ، ثُمّ مِيَكَائِيلُ، ثُمّ إسْرَافِيلُ، ثُمّ مَلَكُ الْمَوْتِ
مَعَ جُنُودِهِ، ثُمّ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْمَعِهَا، ثُمّ اُدْخُلُوا
عَلَيّ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، فَصَلّوا عَلَيّ وَسَلّمُوا، تَسْلِيمًا،
وَلَا تُؤْذُونِي بِتَزْكِيَةِ، وَلَا ضَجّةٍ، وَلَا رَنّةٍ، وَلْيَبْدَأْ
بِالصّلَاةِ عَلَيّ رِجَالُ بَيْتِي ثُمّ نِسَاؤُهُمْ، وأنتم بعد اقرؤا
أَنَفْسَكُمْ السّلَامَ مِنّي، وَمَنْ غَابَ مِنْ أَصْحَابِي فاقرؤه مِنّي
السّلَامَ، وَمَنْ تَابِعَكُمْ بَعْدِي عَلَى دِينِي، فاقرؤه مِنّي
السّلَامَ، فَإِنّي أُشْهِدُكُمْ أَنّي قَدْ سَلّمْت عَلَى مَنْ تَابَعَنِي
عَلَى دِينِي مِنْ الْيَوْمِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قُلْت: فَمَنْ
يُدْخِلْك قَبْرَك يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَهْلِي مَعَ مَلَائِكَةٍ
كَثِيرٍ يَرَوْنَكُمْ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ «1» .
موته عليه السلام كَانَ خَطْبًا كَالِحًا:
فَصْلٌ: وَكَانَ مَوْتُهُ عَلَيْهِ السلام خطبا كالحا، ورزآ لِأَهْلِ
الْإِسْلَامِ فَادِحًا، كَادَتْ تُهَدّ لَهُ الْجِبَالُ، وَتَرْجُفُ
الْأَرْضُ، وَتَكْسِفُ النّيّرَاتُ، لِانْقِطَاعِ خَبَرِ السّمَاءِ،
وَفَقَدَ مَنْ لَا عِوَضَ مِنْهُ، مَعَ مَا آذَنَ بِهِ مَوْتُهُ- عَلَيْهِ
السّلَامُ- مِنْ الْفِتَنِ السّحم، والحوادث الوهم، والكرب المدلهمّة،
والهزاهز
__________
(1) لا أدرى كيف يعتمد على مثل هذا الحديث الذى لم يخرجه أحد من أصحاب
الصحيح والذى طعن فيه نقدة الحديث؟
(7/590)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُضْلِعَةِ، فَلَوْلَا مَا أَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ
السّكِينَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْرَجَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ
الْيَقِينِ، وَشَرَحَ لَهُ صُدُورَهُمْ مِنْ فَهْمِ كِتَابِهِ الْمُبِينِ
لَانْقَصَمَتْ الظّهُورُ، وَضَاقَتْ عَنْ الْكُرَبِ الصّدُورُ،
وَلَعَاقَهُمْ الْجَزَعُ عَنْ تَدْبِيرِ الْأُمُورِ، فَقَدْ كَانَ
الشّيْطَانُ أَطْلَعَ إلَيْهِمْ رَأْسَهُ، وَمَدّ إلَى إغْوَائِهِمْ
مَطَامِعَهُ، فَأَوْقَدَ نَارَ الشّنَآنِ، وَنَصَبَ رَايَةَ الْخِلَافِ،
وَلَكِنْ أَبَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلّا أَنْ يُتِمّ نُورَهُ،
وَيُعْلِي كَلِمَتَهُ، وَيُنْجِزَ مَوْعُودَهُ، فَأَطْفَأَ نَارَ الرّدّةِ،
وَحَسَمَ قَادَةَ الْخِلَافِ وَالْفِتْنَةِ عَلَى يَدِ الصّدّيقِ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
لَوْلَا أَبُو بَكْرٍ لَهَلَكَتْ أُمّةُ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ
بَعْدَ نَبِيّهَا، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمئِذٍ مِنْ
النّاسِ إذَا أَشْرَفُوا عَلَيْهَا سَمِعُوا لِأَهْلِهَا ضَجِيجًا،
وَلِلْبُكَاءِ فِي جَمِيعِ أَرْجَائِهَا عَجِيجًا، حَتّى صَحِلَتْ الحلوق،
ونزفت الدموع، وحق لهم ذلك، وان بَعْدَهُمْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ، وَاسْمُهُ: خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ، وَقِيلَ ابْنُ
مُحَرّثٍ «1» قَالَ: بَلَغَنَا أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلِيلٌ فَاسْتَشْعَرْت حُزْنًا وَبِتّ بِأَطْوَلِ لَيْلَةٍ لَا
يَنْجَابُ دَيْجُورُهَا، وَلَا يَطْلُعُ نُورُهَا، فَظَلِلْت أُقَاسِي
طُولَهَا، حَتّى إذَا كَانَ قُرْبُ السّحَرِ أَغْفَيْت، فَهَتَفَ بِي
هَاتِفٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
خَطْبٌ أَجَلّ أَنَاخَ بِالْإِسْلَامِ ... بَيْنَ النّخِيلِ وَمَعْقِدِ
الْآطَامِ
قُبِضَ النّبِيّ مُحَمّدٌ فَعُيُونُنَا ... تُذْرِي الدّمُوعَ عليه
بالتّسجام
__________
(1) هو شاعر جاهلى إسلامى مات أيام عثمان، وعامة شعره فى إسلامه، وحضر
سقيفة بنى ساعدة.
(7/591)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ: فَوَثَبْت مِنْ نُوُمِي فَزِعًا، فَنَظَرْت إلَى
السّمَاءِ، فَلَمْ أَرَ إلّا سَعْدَ؟؟؟ الذّابِحِ، فَتَفَاءَلْت بِهِ
ذَبْحًا يَقَعُ فِي الْعَرَبِ، وَعَلِمَتْ أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قُبِضَ، وَهُوَ مَيّتٌ مِنْ عِلّتِهِ، فَرَكِبْت
نَاقَتِي وَسِرْت، فَلَمّا أَصْبَحْت طَلَبْت شَيْئًا أَزْجُرُ بِهِ،
فَعَنّ لِي شَيْهَمٌ، يَعْنِي: الْقُنْفُذَ قَدْ قُبِضَ عَلَى صِلّ،
يَعْنِي: الْحَيّةَ، فَهِيَ تَلْتَوِي عَلَيْهِ، وَالشّيْهَمُ يَقْضِمُهَا
حَتّى أَكَلَهَا، فَزَجَرْت ذَلِكَ، وَقُلْت: شَيْهَمٌ شَيْءٌ مُهِمّ،
وَالْتِوَاءُ الصّلّ الْتِوَاءُ الناس عن الحق على النائم بَعْدَ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ أَكْلُ الشّيْهَمِ إيّاهَا
غَلَبَةُ الْقَائِمِ بَعْدَهُ عَلَى الْأَمْرِ. فَحَثَثْت نَاقَتِي، حَتّى
إذَا كُنْت بِالْغَابَةِ زَجَرْت الطّائِرَ فَأَخْبَرَنِي بِوَفَاتِهِ،
وَنَعَبَ غُرَابٌ سَانِحٌ فَنَطَقَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَتَعَوّذَتْ بِاَللهِ
مِنْ شَرّ مَا عَنْ لِي فِي طَرِيقِي، وَقَدِمْت الْمَدِينَةَ وَلَهَا
ضَجِيجٌ بِالْبُكَاءِ كَضَجِيجِ الْحَجِيجِ، إذَا أَهَلّوا بِالْإِحْرَامِ،
فَقُلْت: مَهْ؟ فَقَالُوا: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَجِئْت الْمَسْجِدَ فَوَجَدْته خَالِيًا، فَأَتَيْت رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَصَبْت بَابَهُ مُرْتَجّا،
وَقِيلَ هُوَ مُسَجّى قد خلا بِهِ أَهْلُهُ، فَقُلْت: أَيْنَ النّاسُ؟
فَقِيلَ:
فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، صَارُوا إلَى الْأَنْصَارِ، فَجِئْت إلَى
السّقِيفَةِ فَأَصَبْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرّاحِ وَسَالِمًا وَجَمَاعَةً مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَأَيْت الْأَنْصَارَ
فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَفِيهِمْ شُعَرَاؤُهُمْ حَسّانُ بْنُ
ثَابِتٍ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَمَلَأٌ مِنْهُمْ، فَآوَيْت إلَى قُرَيْشٍ،
وَتَكَلّمَتْ الْأَنْصَارُ، فَأَطَالُوا الْخِطَابَ وَأَكْثَرُوا الصّوَابَ
وَتَكَلّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلِلّهِ دَرّهُ مِنْ رَجُلٍ
لَا يُطِيلُ الْكَلَامَ وَيَعْلَمُ مَوَاضِعَ فَصْلِ الْخِطَابِ، وَاَللهِ
لَقَدْ تَكَلّمَ بِكَلَامِ لَا يَسْمَعُهُ سَامِعٌ إلّا انْقَادَ لَهُ،
وَمَالَ إلَيْهِ، ثُمّ تَكَلّمَ عُمَرُ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعْدَهُ
دُونَ كَلَامِهِ، ومدّ يده،
(7/592)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَبَايَعَهُ وَبَايَعُوهُ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ، وَرَجَعْت مَعَهُ. قَالَ
أَبُو ذُؤَيْبٍ: فَشَهِدْت الصّلَاةَ عَلَى مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَهِدْت دَفْنُهُ، ثُمّ أَنْشَدَ أَبُو ذُؤَيْبٍ
يَبْكِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَمّا رَأَيْت النّاسَ فِي عَسَلَانِهِمْ ... مِنْ بَيْنِ مَلْحُودٍ لَهُ
وَمُضَرّحِ
مُتَبَادِرِينَ لِشَرْجَعِ بِأَكُفّهِمْ ... نَصّ الرّقَابِ لِفَقْدِ
أَبْيَضَ أَرْوَحِ
فَهُنَاكَ صِرْت إلَى الْهُمُومِ، وَمَنْ يَبِتْ ... جَارَ الْهُمُومُ
يَبِيتُ غَيْرَ مُرَوّحِ
كَسَفْت لِمَصْرَعِهِ النّجُومُ وَبَدْرُهَا ... وَتَزَعْزَعَتْ آطَامُ
بَطْنِ الْأَبْطَحِ
وَتَزَعْزَعَتْ أَجْبَالُ يَثْرِبَ كُلّهَا ... وَنَخِيلُهَا لِحُلُولِ
خَطْبٍ مُفْدِحِ
وَلَقَدْ زَجَرْت الطّيْرَ قَبْلَ وَفَاتِهِ ... بِمُصَابِهِ، وَزَجَرْت
سَعْدَ الْأَذْبَحِ
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَبْكِي
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَرِقْت فَبَاتَ لَيْلِي لَا يَزُولُ ... دَلِيلُ أَخِي الْمُصِيبَةِ فِيهِ
طُولُ
وَأَسْعَدَنِي الْبُكَاءُ وَذَاكَ فِيمَا ... أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ
قَلِيلُ
لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلّتْ ... عَشِيّةَ قِيلَ: قَدْ قُبِضَ
الرّسُولُ
وَأَضْحَتْ أَرْضُنَا مِمّا عَرَاهَا ... تَكَادُ بِنَا جَوَانِبُهَا
تَمِيلُ
فَقَدْنَا الْوَحْيَ وَالتّنْزِيلَ فِينَا ... يَرُوحُ بِهِ وَيَغْدُو
جَبْرَئِيلُ
وَذَاكَ أَحَقّ مَا سَأَلَتْ عَلَيْهِ ... نَفُوسُ النّاسِ أَوْ كَرَبَتْ
تَسِيلُ
نَبِيّ كَانَ يَجْلُو الشّكّ عَنّا ... بِمَا يُوحَى إلَيْهِ وَمَا يقول
(7/593)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيَهْدِينَا فَلَا نَخْشَى ضَلَالًا ... عَلَيْنَا وَالرّسُولُ لَنَا
دَلِيلُ
أَفَاطِمُ إنْ جَزِعْت فَذَاكَ عُذْرٌ ... وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي، ذَاكَ
السّبِيلُ
فَقَبْرُ أَبِيك سَيّدُ كُلّ قَبْرٍ ... وَفِيهِ سَيّدُ النّاسِ الرّسُولُ
وَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودفن
ورجع المهاجرون والأنصار لى رِحَالِهِمْ وَرَجَعَتْ فَاطِمَةُ إلَى
بَيْتِهَا اجْتَمَعَ إلَيْهَا نِسَاؤُهَا، فَقَالَتْ:
اغْبَرّ آفَاقُ السّمَاءِ وَكُوّرَتْ ... شَمْسُ النّهَارِ وَأَظْلَمَ
الْعَصْرَانِ
فَالْأَرْضُ مِنْ بَعْدِ النّبِيّ كَئِيبَةٌ ... أَسَفًا عَلَيْهِ
كَثِيرَةَ الرّجَفَانِ
فَلْيَبْكِهِ شَرْقُ الْبِلَادِ وَغَرْبُهَا ... وَلْتَبْكِهِ مُضَرُ
وَكُلّ يَمَانِ
وَلْيَبْكِهِ الطّوْدُ الْمُعَظّمُ جَوّهُ ... وَالْبَيْتُ ذُو
الْأَسْتَارِ وَالْأَرْكَانُ
يا خاتم الرّسل المبارك ضوؤه ... صَلّى عَلَيْك مُنَزّلُ الْقُرْآنِ
[نَفْسِي فَدَاؤُك مَا لِرَأْسِك مَاثِلًا ... مَا وَسّدُوك وِسَادَةَ
الْوَسْنَانِ]
(7/594)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاخْتِلَافُ فِي كَفَنِهِ:
فَصْلٌ: وَأَمّا الِاخْتِلَافُ فِي كَفَنِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمْ
ثَوْبًا كَانَ، وَفِي الّذِينَ أَدَخَلُوهُ قَبْرَهُ وَنَزَلُوا فِيهِ،
فَكَثِيرٌ، وَأَصَحّ مَا رُوِيَ فِي كَفَنِهِ أَنّهُ كُفّنَ فِي ثَلَاثَةِ
أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيّةٍ «1» ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَثْوَابُ مِنْ
كُرْسُفٍ «2» ، وَكَذَلِكَ قَمِيصُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ مِنْ
قُطْنٍ، وَوَقَعَ فِي السّيرَةِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ
أَنّهَا كَانَتْ إزَارًا وَرِدَاءً، وَلِفَافَةً، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي
كُتُبِ الْحَدِيثِ وَفِي الشّرُوحَاتِ، وَكَانَتْ اللّبَنُ الّتِي نُضّدَتْ
عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ تِسْعَ لَبَنَاتٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَنْ أَلْحَدَهُ شُقْرَانُ مَوْلَاهُ،
وَاسْمُهُ: صَالِحٌ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ عَبْدٌ قَبْلَ أَنْ
يُعْتَقَ، فَلَمْ يُسْهَمْ لَهُ، انْقَرَضَ عَقِبُهُ فَلَا عَقِبَ لَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَرَاثِيَ حَسّانَ فِي النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَشْكُلُ فَنَشْرَحُهُ، وَقَدْ
رَثَاهُ كَثِيرٌ مِنْ الشّعَرَاءِ وَغَيْرُهُمْ، وَأَكْثَرُهُمْ
__________
(1) بضم السين والحاء، وبفتح السين أشهر نسبة إلى سحول قرية باليمن. قال
ابن الأعرابى: وهى ثياب بيض نقية لا تكون إلا من القطن. وقال ابن قتيبة
ثياب بيض، ولم يخصها بالقطن، وفى رواية للبخارى. سحول بدون نسبة. وهو جمع
سحل، والسحل: الثوب الأبيض النقى، وقيل هى بالضم نسبة إلى القرية، وبالفتح
نسبة إلى القصار لأنه يسحل الثياب، ى ينقيها. وكونه كفن فى ثلاثة أثواب بيض
سحولية جدد يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجا هو من رواية
الجماعة.
(2) القطن.
(7/595)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَفْحَمَهُمْ الْمُصَابُ عَنْ الْقَوْلِ، وَأَعْجَزَتْهُمْ الصّفَةُ عَنْ
التّأْبِينِ، وَلَنْ يَبْلُغَ بِالْإِطْنَابِ فِي مَدْحٍ وَلَا رثاء فى كنه
محاسته عَلَيْهِ السّلَامُ وَلَا قَدْرَ مُصِيبَةٍ فَقَدَهُ عَلَى أَهْلِ
الْإِسْلَامِ، فَصَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ صَلَاةً تَتّصِلُ
مَدَى اللّيَالِي وَالْأَيّامِ، وَأَحَلّهُ أَعَلَى مراتب الرحمة والرضوان
والإكرام، وجزاء عَنّا أَفْضَلَ مَا جَزَى بِهِ نَبِيّا عَنْ أُمّتِهِ،
وَلَا خَالَفَ بِنَا عَنْ مِلّته، إنّهُ وَلِيّ الطّولِ وَالْفَضْلِ
وَالْإِنْعَامِ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوكيل، والحمد لله رب
العالمين.
«تم الكتاب بحمد الله رب العالمين» وكان الفراغ من تحقيقه فى الساعة
الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين صباح يوم الاثنين 27 من شعبان سنة 1388
هـ- 18 من نوفمبر سنة 1968 م بمدينة الزهراء بوادى حوف
(7/596)
خاتمة
الحمد لله رب العالمين بهذا الحمد الذى يجيش به القلب، وتفيض الحياة،
ويتجاوب الوجود، أختم عملى فى هذا الكتاب الذى يتناول سيرة أقدس وأنبل حياة
بشرية، كانت للناس نورا وحياة ورحمة، حياة خاتم النبيين محمد «صلوات الله
وسلامه عليه» الذى بعثه الله لأمته، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ،
وَيُزَكّيهِمْ، وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فتحقق ما وعد به
الله، فكانوا خير أمة أخرجت الناس، إيمانا، وخلقا، وسلوكا فى الحياة،
وتحكيما لهدى القرآن فى شئون الحياة.
وشهد الله لقد بذلت من الجهد ما أملك، وحاولت أن أقوم بما هو مفروض علىّ
نحو هذا الكتاب «الروض الأنف» الذى سيطر على المعارف الإسلامية قرونا
متطاولات.
فهو فوق كونه شرحا وتحقيقا لسيرة ابن هشام، يضم بين دفتيه كل أثر للثقافة
الشاملة، التى كان الإمام السهيلى عليها فى عصره، والتى بسببها كان مصدرا
لأمثال هؤلاء الأعلام «الإمام ابن القيم، والإمام الحافظ ابن حجر
العسقلانى، وابن منظور» فى لسان العرب.
الكتاب سيرة، وتاريخ، وفقه، وعقيدة، ونحو، وأدب. والسهيلى إمام كبير فى كل
ذلك.
(7/597)
وقد حاولت جهدى تحقيق كل مسائله بالرجوع
إلى نفس مصادره التى عنها أخذ، أو بالرجوع إلى الكتب التى عنه أخذت ونقدت،
حتى استوى الكتاب على هذه الصورة المشرفة المشرقة التى صوّبت ما كان من
أخطاء كثيرة فى طبعته الأولى.
ولقد كان فى طبعته الأولى جزءين فى مجلد، وها هو فى سبعة أجزاء كبار، تجمع
بين سيرة ابن هشام، وبين «الروض الأنف» وبين تحقيقى للروض.
ومثل هذه الكتب الجادة التى تمثل تراثنا الفكرى الإسلامى أصدق تمثيل، لا
يقبل عليها الناشرون كثيرا. ولكن صاحب «دار الكتب الحديثة» أقدم على هذا،
مصابرا الزمن الذى قضيته فى تحقيق الكتاب ومقداره ثلاث سنوات، استغرقت فيها
اليوم كله إلا قليلا. ولقد كنت حين أقبل على الكتاب أضرع إلى الله أن
يلهمنى الصواب فيما أكتب، وأضرع إليه الآن سبحانه أن يكون قد استجاب دعائى.
وفى السهيلى مسّ من أشعرية، كان يبتعد به أحيانا عن السلفية، فلم تمنعنا
إمامته الكبرى عن نقده، وبيان الصواب فى المسألة.
ولقد قمت بتصحيح تجارب طبع ثلاثة أجزاء من الكتاب، ثم انتدبتّ لتدريس مادة
العقيدة الإسلامية فى قسم الدراسات الإسلامية العليا بكلية الشريعة، فى مكة
المكرمة، حرسها الله، وكلأها برعايته وحفظه، فوكلت الدار إلى الأخ «محمود
غانم غيث» تصحيح تجارب الطبع فى بقية الأجزاء، والله يجزيه على ما قدم أحسن
وأطيب الجزاء.
وأخيرا وبعد حمد الله وشكره أشكر الشاب الكريم «أحمد حمدى شعبان»
(7/598)
صاحب دار النصر للطباعه، والإخوة العاملين
فى الدار، على هذا الجهد الكريم السخى، الذى بذلوه فى طبع الكتاب.
وجزى الله صاحب «دار الكتب الحديثة» على ما ينشر من كتب الخير والحق
والموسوعات الإسلامية الجادة.
وصلّ الله عليه وسلم وبارك على خاتم النبيين محمد.
والحمد لله رب العالمين؟
30 من ربيع الأول سنة 1390
مكة المكرمة
5 يونيه سنة 1970
عبد الرحمن عبد الوهاب الوكيل أستاذ العقيدة الإسلامية فى قسم الدراسات
العليا بكلية الشريعة
(7/599)
|