السيرة
الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون باب: سراياه صلى
الله عليه وسلم وبعوثه
لا يخفى أن ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له غزوة، وما خلا
عنه صلى الله عليه وسلم يقال له سرية إن كان طائفة اثنين فأكثر، فإن كان
واحدا قيل له بعث، وربما سموا بعض السرايا غزوة كما في مؤتة، حيث قالوا
غزوة مؤتة، وكما في سرية الرجيع حيث عبر عنها السيوطي في الخصائص بغزوة
الرجيع، وعن سرية ذات السلاسل بغزوة ذات السلاسل، وعن سرية سيف البحر بغزوة
سيف البحر، وربما سموا الواحد سرية وهو في الأصل كثير، وربما سموا الاثنين
فأكثر بعثا، ومنه قول الأصل كالبخاري بعث الرجيع، وظاهر كلامهم أنه لا فرق
في ذلك بين أن يكون إرسال ذلك لقتال، أو لغير قتال كتجسس الأخبار، أو
لتعليمهم الشرائع كما في بئر معونة والرجيع، أو للتجارة كما في سرية زيد بن
حارثة رضي الله تعالى عنهما حيث ذهب مع جمع بالتجارة للشام فلقيه بنو فزارة
فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم كما سيأتي.
والسرية في الأصل الطائفة من الجيش تخرج منه، ثم تعود إليه خرجت ليلا أو
نهارا، وقيل السرية هي التي تخرج ليلا. والسارية هي التي تخرج نهارا، وهي
من مائة إلى خمسمائة، وقيل إلى أربعمائة: أي وفي القاموس: السرية من خمسة
أنفس إلى ثلاثمائة أو أربعمائة، وعليه فما دون ذلك لا يقال له سرية، فما
زاد على الثلاثمائة أو الأربعمائة إلى ثمانمائة يقال له منسر بالنون، فإن
زاد على ذلك إلى أربعة آلاف قيل له جيش، أي وقيل الجيش من ألف إلى أربعة
آلاف، فإن زاد على ذلك قيل له جحفل وجيش جرار أي إلى اثني عشر ألفا.
والبعث في الأصل: الطائفة تخرج من السرية، ثم تعود إليها، وهو من عشرة إلى
أربعين يقال له حفيرة، ومن أربعين إلى ثلاثمائة يقال له معتقب، وما زاد على
ذلك يسمى حمزة: قال بعضهم: والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، وعن ابن عباس رضي
الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب
أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، وما هزم قوم بلغوا
اثني عشر ألفا من قلة إذا صدقوا وصبروا» أي فلا يرد انهزام القدر المذكور
يوم حنين. قال في الأصل:
وكانت سراياه صلى الله عليه وسلم التي بعث بها سبعا وأربعين سرية، وهو في
ذلك موافق لما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب. قال الشمس الشامي: والذي
وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين اهـ.
(3/213)
أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا
على سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:
اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا
تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، والوليد الصبي، أي ما لم يقاتل كالنساء وإلا
قتلوا.
وفي رواية: «لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة» ، وهذا عند
العمد، فلا ينافي أنه يجوز الإغارة على المشركين ليلا وإن لزم على ذلك قتل
الصبيان والنساء والشيوخ.
فقد روى الشيخان: «سئل صلى الله عليه وسلم عن المشركين يبيتون، أي يغار
عليهم ليلا فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم» وكان صلى الله عليه
وسلم يقول: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ولا سمع
ولا طاعة في معصية الله» وكان صلى الله عليه وسلم يعتذر عن تخلفه عن تلك
السرايا ويقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب نفوسهم
أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل
الله، والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم
أحيا ثم أقتل» .
ومن جملة وصيته صلى الله عليه وسلم لمن يوليه على سرية «وإذا لقيت عدوك من
المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم
إلى الإسلام، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أبوا فاستعن بالله
وقاتلهم» .
ومن جملة قوله صلى الله عليه وسلم للسرايا: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا
تعسروا» ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى رضي الله تعالى
عنهما إلى اليمن قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا
تختلفا» .
سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة في ثلاثين رجلا من المهاجرين،
قيل ومن الأنصار، وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث من الأنصار إلا
بعد أن غزا بهم بدرا، أي وذلك في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة،
وعقد له صلى الله عليه وسلم لواء أبيض.
وهو أول لواء عقد في الإسلام، حمله أبو مرثد بفتح الميم وإسكان الراء ثم
مثلثة مفتوحة: حليف حمزة رضي الله تعالى عنه، ليعترض عيرا لقريش جاءت من
الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل لعنه الله في ثلاثمائة رجل، وقيل في مائة
وثلاثين، فصار رضي الله تعالى عنه إلى أن وصل سيف البحر، أي بكسر السين
المهملة وإسكان المثناة تحت ثم فاء: ساحله من ناحية العيص، أرض من جهينة
فصادف العير هناك،
(3/214)
فلما تصافوا للقتال حجز بينهم مجدي بن عمرو
الجهني وكان حليفا للفريقين، فأطاعوه وانصرفوا، ولم يقع بينهم قتال. ولما
عاد حمزة رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره
الخبر، أي بأن مجديا حجز بينهم وأنهم رأوا منه نصفة، قال صلى الله عليه
وسلم في مجدي: إنه ميمون النقيبة: أي مبارك النفس، مبارك الأمر. وقال سعيد
أو رشيد الأمر: أي أموره ناجحة، ولم يقع له إسلام. أي وفي الإمتاع: وقدم
رهط مجدي على النبي صلى الله عليه وسلم فكساهم.
سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله
تعالى عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ثمانية أشهر من الهجرة عبيدة بن
الحارث رضي الله تعالى عنه في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين، منهم سعد
بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وعقد له لواء أبيض، وحمله مسطح بن أثاثة
رضي الله تعالى عنه ليعترض عيرا لقريش، وكان رئيسهم أبا سفيان. وقيل عكرمة
بن أبي جهل.
وقيل مكرز بن حفص في مائتي رجل، فوافوا العير ببطن رابغ: أي ويقال له ودان،
فلم يكن بينهم إلا المناوشة برمي السهام، أي فلم يسلوا السيف، ولم يصطفوا
للقتال. وكان أول من رمى المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه،
فكان سهمه أول سهم رمى به في الإسلام، أي كما أن سيف الزبير بن العوام رضي
الله تعالى عنه أول سيف سل في الإسلام. ففي كلام ابن الجوزي: أول من سل
سيفا في سبيل الله الزبير بن العوام.
وقد ذكر أن سعدا رضي الله تعالى عنه تقدم أصحابه ونثر كنانته، وكان فيها
عشرون سهما ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة، أي لو رمى به لصدق رمية
وشدّة ساعده رضي الله تعالى عنه، ثم انصرف الفريقان، فإن المشركين ظنوا أن
المسلمين مددا فخافوا وانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفر من المشركين إلى
المسلمين المقداد بن عمرو، أي الذي يقال له ابن الأسود، وعيينة بن غزوان،
فإنهما كانا مسلمين ولكنهما خرجا مع المشركين ليتوصلا بهم إلى المسلمين،
فعلم أن سرية عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه بعد سرية حمزة بن عبد
المطلب رضي الله تعالى عنه وقيل بل هي قبلها، وكلام الأصل يشعر به، ويؤيده
قول ابن إسحاق كانت راية عبيدة بن الحارث فيما بلغنا أول راية عقدت في
الإسلام. قال بعضهم: ومنشأ هذا الاختلاف أن بعث حمزة وبعث عبيدة رضي الله
تعالى عنهما كانا معا، أي في يوم واحد في محل واحد، أي وشيعهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم جميعا كما في ذخائر العقبى فاشتبه الأمر، فمن قائل
يقول: إن راية حمزة رضي الله تعالى عنه أول راية عقدت في الإسلام، وأن بعثه
أول البعوث، ومن قائل يقول: إن راية عبيدة رضي الله تعالى
(3/215)
عنه أول راية عقدت في الإسلام، وأن بعثه
أول البعوث، لكن يشكل على ذلك أن خروج حمزة كان على رأس سبعة أشهر من
الهجرة كما تقدم، وخروج عبيدة كان على رأس ثمانية أشهر كما تقدم، وبما ذكر
أن بعثهما معا إلى آخره يردّ ما أجاب به بعضهم عن هذا الإشكال، بأنه يحتمل
أنه صلى الله عليه وسلم عقد رايتهما معا، وتأخر خروج عبيدة إلى رأس
الثمانية أشهر لأمر اقتضى ذلك هذا كلامه، إلا أن يقال يجوز أن يكون المراد
ببعثهما معا أمرهما بالخروج، وإن المراد بتشييعهما جميعا أن كلا منهما وقع
له التشييع منه صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يقتضي أن يكون ذلك في وقت واحد
تأمل.
وفي هذا إطلاق الراية على اللواء، وهو الموافق لما صرح به جماعة من أهل
اللغة أنهما مترادفان، وتقدم أنه لم يحدث له اسم الراية إلا في خيبر، أي
وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية، وما هنا يرده.
وفي كلام بعضهم كانت رايته صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض كما في
حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما. زاد أبو هريرة رضي الله
تعالى عنه:
مكتوب فيه «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» .
سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى
الخرار
بفتح الخاء المعجمة وراءين مهملتين: وفي النور بفتح الخاء المعجمة وتشديد
الراء الأولى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس تسعة أشهر من
الهجرة سعد بن أبي وقاص في عشرين من المهاجرين، أي وقيل ثمانية وعقد له
لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو قال: والخرار واد يتوصل منه إلى الجحفة،
وقد عهد صلى الله عليه وسلم إليه أن لا يجاوزه ليعترض عيرا لقريش تمرّ بهم
فخرجوا يمشون على أقدامهم يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا المكان
المذكور في صبح خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس، فضربوا راجعين إلى
المدينة اهـ.
وقد ذكر ابن عبد البر وابن حزم هذه السرية بعد بدر الأولى. وفي السيرة
الشامية: «الباب السادس في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى
الخرار» وساق ما تقدم وقال بعده: «الباب السابع في سرية سعد بن أبي وقاص
رضي الله تعالى عنه» .
روى الإمام أحمد عنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
جاءت جهينة فقالوا له: إنك نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وقومنا،
فأوثق لهم فأسلموا، وبعثنا صلى الله عليه وسلم ولا نكون مائة، وكان ذلك في
رجب أي من السنة الثانية، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغير على
حي من كنانة، فأغرنا عليهم، فكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة
(3/216)
فمنعونا، وقالوا لم تقاتلون في الشهر
الحرام؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا نأتي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فنخبره، وقال بعض آخر لا نقيم ههنا، وقلت أنا في أناس معي: بل
نأتي عير قريش فنقطعها، فانطلقنا إلى العير وانطلق بعض أصحابنا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
غضبان محمرا وجهه، فقال: جئتم متفرقين وإنما أهلك من قبلكم الفرقة، لأبعثن
عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش، فبعث علينا عبد الله بن
جحش أميرا فأمره علينا لنذهب إلى جهة نخلة بين مكة والطائف» .
سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى
بطن نخلة
قال: لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة، قال لعبد الله
بن جحش واف مع الصبح معك سلاحك أبعثك وجها، فوافاه الصبح ومعه قوسه وجعبته
ودرقته، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح وجده واقفا
عند بابه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فدخل عليه، فأمره
فكتب كتابا ثم دعا عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه، فدفع إليه الكتاب،
وقال له: قد استعملتك على هؤلاء النفر اهـ. أي وكان قبل ذلك بعث عليهم
عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فلما ذهب لينطلق بكى صبيانه إلى النبي صلى
الله عليه وسلم، فبعث عليهم عبد الله وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمير المؤمنين، أي فهو أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين ثم بعده عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ولا ينافي ذلك قول بعضهم: أول من تسمى في
الإسلام بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لأن المراد أول
من تسمى بذلك من الخلفاء أو أن هذا أمير جميع وذاك أمير من معه من المؤمنين
خاصة.
فقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكتب أولا: من خليفة أبي بكر، فاتفق
أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل إلى عامل العراق أن يبعث إليه برجلين جلدين
يسألهما عن أهل العراق، فبعث إليه بعبد بن ربيعة وعدي بن حاتم الطائي،
فقدما المدينة ودخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه،
فقالا:
استأذن لنا على أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، فدخل
عليه عمرو وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: ما بدا لك في هذا
الاسم؟
فأخبره الخبر وقال: أنت الأمير ونحن المؤمنون، فأول من سماه بذلك عبد بن
ربيعة وعدي بن حاتم. وقيل أول من سماه بذلك المغيرة بن شعبة، وحينئذ صار
يكتب:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين، فقد كتب رضي الله تعالى عنه بذلك إلى نيل
مصر، فإن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصر ودخل شهر بؤنة من
شهور
(3/217)
العجم دخل إليه أهل مصر وقالوا له: أيها
الأمير إذا كان أحد عشر ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين
أبوابها وجعلنا عليها من الثياب والحلي ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل،
أي ليجري، فقال لهم عمرو رضي الله تعالى عنه: إن هذا لا يكون في الإسلام،
وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا مدة والنيل لا يجري لا قليلا ولا
كثيرا حتى هم أهل مصر بالجلاء منها، فكتب عمرو بذلك إلى سيدنا عمر بن
الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه كتابا وكتب بطاقة في داخل الكتاب،
وقال في الكتاب: قد بعثت إليك بطاقة في داخل الكتاب فألقها في نيل مصر،
فلما قدم الكتاب أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير
المؤمنين إلى نيل مصر. أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان
الله هو الذي يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك فألقى البطاقة في
النيل قبل الصليب بيوم فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا في ليلة
واحدة، فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم.
وكان أولئك النفر ثمانية: أي وقيل اثني عشر من المهاجرين. يعتقب كل اثنين
منهم بعيرا منهم سعد بن أبي وقاص وعيينة بن غزوان، وكانا يعتقبان بعيرا،
ومنهم واقد بن عبد الله، ومنهم عكاشة بن محصن، وأمر صلى الله عليه وسلم عبد
الله أن لا ينظر في ذلك الكتاب حتى يسير يومين، أي قبل مكة ثم ينظر فيه
فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه أي على السير معه. أي وقد عقد
له صلى الله عليه وسلم راية.
قال ابن الجوزي: أول راية عقدت في الإسلام راية عبد الله بن جحش، أي بناء
على أن الراية غير اللواء، وحينئذ تعارض القول بترادفهما والقول بأن اسم
الراية إنما وجد في خيبر.
قال ابن الجوزي رحمه الله: وهو أول أمير أمر في الإسلام. وفيه أنه مخالف
لما سبق. إلا أن يريد أول من سمي أمير المؤمنين، فلما سار عبد الله يومين
فتح الكتاب، فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فأت حتى تنزل نخلة بين مكة
والطائف، ولا تكره أحدا من أصحابك على السير معك، أي لفظ الكتاب: سر بسم
الله وبركاته ولا تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك، وامض لأمري حتى تأتي
بطن نخلة فترصد عير قريش، وتعلم لنا أخبارهم، فلما قرأ الكتاب على أصحابه
قالوا: نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك، فسر على بركة الله تعالى، أي
وجعل البخاري دفعه صلى الله عليه وسلم الكتاب لعبد الله ليقرأه ويعمل بما
فيه دليلا على صحة الرواية بالمناولة، وهي أن الشيخ يدفع لتلميذه كتابا،
ويأذن له أن يحدّث عنه بما فيه.
وممن قال بصحة المناولة سيدنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه. روى إسماعيل
بن صالح عنه أنه أخرج لهم كتبا مشدودة وقال لهم: هذه كتبي صححتها
(3/218)
ورويتها فارووها عني، فقال له إسماعيل بن
صالح: نقول: حدثنا مالك؟ قال نعم.
وفي لفظ أن عبد الله رضي الله عنه لما قرأ الكتاب قال سمعا وطاعة، أي بعد
أن استرجع ثم أعلم أصحابه، وقال لهم من كان يريد الشهادة ويرغب فيها
فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض إلى أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فمضوا ولم يتخلف منهم أحد حتى إذا كانوا ببحران بفتح الموحدة
وبضمها وسكون الحاء المهملة:
موضع أضل سعد بن وقاص وعيينة بن غزوان بعيرهما فتخلفا في طلبه ومضى عبد
الله ومن عداهما معه حتى نزل بنخلة فمرت عير لقريش: أي تحمل زبيبا وأدما:
أي جلودا من الطائف وأمتعة للتجارة، في تلك العير عمرو بن الحضرمي، وعثمان
بن المغيرة، وأخوه نوفل والحكم بن كيسان، ونزلوا قريبا من عبد الله وأصحابه
وتخوّفوا منهم، فأشرف عليهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه: أي وتراءى لهم
ليظنوا أنهم عمارا فيطمئنوا، أي وذلك بإرشاد عبد الله بن جحش رضي الله
تعالى عنه، فإنه قال لهم: إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم
فليتعرض لهم، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم، فلما رأوا رأسه محلوقا قالوا
عمّار، أي هؤلاء قوم معتمرون لا بأس عليكم منهم، وكان ذلك آخر يوم من شهر
رجب، أي وقيل أول يوم منه.
ويدل للأول ما جاء أن عبد الله تشاور مع أصحابه فيهم، فقال بعضهم لبعض:
إن تركتموهم في هذه الليلة دخلوا الحرم فقد تمنعوا منكم به، وإن قتلتموهم
في هذا اليوم تقتلوهم في الشهر الحرام، أي وكان ذلك قبل أن يحل القتال في
الشهر الحرام، فإن تحريم القتال في الأشهر الحرم كان معمولا به من عهد
إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام، جعل الله ذلك مصلحة لأهل مكة، فإن
سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما دعا لذريته بمكة أن يجعل الله أفئدة
من الناس تهوي إليهم لمصلحتهم ومعاشهم، جعل الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سردا
وواحدا فردا وهو رجب، أما الثلاثة فليأمن الحجاج فيها واردين لمكة وصادرين
عنها، شهرا قبل شهر الحج، وشهرا آخر بعده قدر ما يصل الراكب من أقصى بلاد
العرب ثم يرجع، وأما رجب فكان للعمار يأمنون فيه مقبلين ومدبرين وراجعين
نصف الشهر للإقبال ونصفه الآخر للإياب، لأن العمرة لا تكون من أقاصي بلاد
العرب كالحج، وأقصى منازل بلاد المعتمرين خمسة عشر يوما، ذكره السهيلي.
ولم يزل تحريم القتال في تلك الأشهر الحرم إلى صدر الإسلام، وذلك قبل نزول
براءة، فإن براءة كان فيها نبذ العهد العام، وهو أن لا يصدّ أحد عن البيت
جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم، وأن لا يحج مشرك، وإباحة القتال في
الأشهر الحرم، أي مع بقاء حرمتها، فإنها لم تنسخ، قال تعالى: مِنْها
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ
(3/219)
أَنْفُسَكُمْ [التّوبة: الآية 36] فتعظيم
حرمتها باقية لم تنسخ، وإنما نسخ حرمة القتال فيها، خلافا لما نقل عن عطاء
من أن حرمة القتال فيها باقية لم تنسخ.
ويدل للثاني ما في الكشاف وكان ذلك اليوم أول يوم من رجب وهم يظنون أنه من
جمادى الآخرة، فتردد القوم وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، ثم أجمع
رأيهم على قتل من لم يقدروا على أسره، أي وأخذ ما معهم فقتلوا عمرو بن
الحضرمي، رماه واقد بن عبد الله بسهم فهو أول قتيل قتله المسلمون، وأسروا
عثمان والحكم فهما أول أسير أسره المسلمون، وأفلت بفتح الهمزة باقي القوم،
أي وجاء الخبر لأهل مكة فلم يمكنهم الطلب لدخول شهر رجب، أي بناء على ما
تقدم، واستاق عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم العير حتى قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو أول غنيمة غنمها المسلمون فقال لهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأبى أن يستلم العير
والأسيرين، فسقط بالبناء للمجهول في أيديهم: أي ندموا وعنفهم إخوانهم من
المسلمين، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام؟ سفكوا فيه الدم
وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، أي وصارت قريش تعير بذلك من مكة من
المسلمين، يقولون لهم: يا معشر الصباة قد استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم
فيه، وزادوا في التشنيع والتعيير وصارت اليهود تتفاءل بذلك على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيقولون القتيل عمرو الحضرمي والقاتل واقد، فيه عمرت
بفتح العين المهملة وكسر الميم الحرب: أي حضرت الحرب ووقدت الحرب، فكان ذلك
الفأل عليهم لعنهم الله وضاق الأمر على عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم،
فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: الآية 217] أي عظيم الوزر وَصَدٌّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: الآية 217] أي ومنع للناس عن دين الله وَكُفْرٌ
بِهِ [البقرة: الآية 217] أي بالله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: الآية
217] أي ومنع للناس عن مكة وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ [البقرة: الآية 217]
وهمّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين منه من أَكْبَرُ عِنْدَ
اللَّهِ [البقرة: الآية 217] أعظم وزرا وَالْفِتْنَةُ [البقرة: الآية 191]
الشرك: أي الذي أنتم عليه، أو حملكم من أسلم على الكفر بالتعذيب له
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:
الآية 217] لكم فيه: أي صدهم لكم عن المسجد الحرام، وكفرهم بالله وإخراجكم
من مكة وأنتم أهلها، وفتنة من أسلم بحيث يرتد عن الإسلام ويرجع إلى الكفر
أكبر من قتل من قتلتم منهم، ففرج عن عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم، أي
وهذا كما ترى يدل على أنهم قتلوا مع علمهم بأن ذلك اليوم من رجب، ويضعف ما
تقدم عن الكشاف الموافق لما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي
الله عنهما أن أصحاب محمد كانوا يظنون أن ذلك اليوم آخر جمادى، وكان أول
رجب ولم يشعروا، أي لأن جمادى يجوز أن يكون ناقصا. وفيه أنه لو كان الأمر
كذلك لاعتذر عبد الله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بذلك.
(3/220)
وجاء أن المسلمين اختلفوا في ذلك اليوم،
فمن قائل منهم هذه غرة من عدوكم وغنم رزقتموه، ولا ندري أمن الشهر الحرام
هذا اليوم أم لا؟ وقال قائل منهم: لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام، ولا
نرى أن تستحلوه لطمع اشتملتم عليه، ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم عقل ابن
الحضرمي أي أعطى ديته، ويضعفه ما تقدم في غزوة بدر من أن أخاه طلب ثأره
وكان ذلك سببا لإثارة الحرب وأن عتبة بن ربيعة أراد أن يتحمل ديته ويتحمل
جميع ما أخذ من العير وأن تكف قريش عن القتال، وحينئذ تسلم رسول الله صلى
الله عليه وسلم العير والأسيرين، وطمع عبد الله وأصحابه في حصول الأجر،
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى: إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
[البقرة: الآية 218] أي فقد أثبت لهم الجهاد في سبيل الله.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ذلك العير وخمسه. أي جعل خمسه لله
وأربعة أخماسه للجيش.
وقيل تركه حتى رجع من بدر وخمسه مع غنائم بدر، وقيل إن عبد الله هو الذي
خمسها، أي فإنه رضي الله عنه، قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما غنمنا الخمس فأخرج خمس ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي
عزلها له، وقسم سائرها بين أصحابه رضي الله عنهم. وحينئذ يكون ما تقدم من
قوله وأبى أن يتسلم العير، الظاهر في أن العير لم تقسم، المراد خمس تلك
العير، وهو أول غنيمة خمست في الإسلام: أي قبل فرضه، ثم فرض على ما صنع عبد
الله رضي الله عنه، ويوافق ذلك قول ابن عبد البر في الاستيعاب. وعبد الله
بن جحش أوّل من سنّ الخمس من الغنيمة للنبي صلى الله عليه وسلم من قبل أن
يفرض الله الخمس، وأنزل الله تعالى بعد ذلك آية الخمس: وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: الآية 41]
الآية، وإنما كان قبل ذلك المرباع، هذا كلامه، والمرباع: ربع الغنيمة،
وتقدم أن الفيء والغنيمة يطلق أحدهما على الآخر.
وفي كلام فقهائنا أن الغنيمة كانت في صدر الإسلام له صلى الله عليه وسلم
خاصة، ثم نسخ ذلك بالتخميس.
وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء عثمان والحكم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن
أبي وقاص وعيينة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن قتلتموها نقتل صاحبيكم،
فإن سعدا وعيينة رضي الله عنهما لم يحضرا الوقعة بسبب التماسهما بعيرهما
وقد مكثا في طلبه أياما ثم قدما، فأفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأسيرين: أي كل واحد بأربعين أوقية. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه وأقام
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا.
(3/221)
أي وعن المقداد: أراد أميرنا يعني عبد الله
بن جحش أن يقتل الحكم، فقلت:
دعه فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عثمان فلحق بمكة فمات
بها كافرا بعث وفي الأصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي.
سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء
أي بالمد: بنت مروان اليهودية، وكانت متزوجة في بني خطمة، وكان زوجها مرثد
بن زيد بن حصين الأنصاري أسلم بعد ذلك رضي الله عنه.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن عدي الخطمي، وهو أول من أسلم من
بني خطمة إلى قتل عصماء بنت مروان، لأنها كانت تسب الإسلام وتؤذي النبي صلى
الله عليه وسلم في شعر لها، وتحرّض عليه، فجاءها عمير في جوف الليل حتى دخل
عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام وعلى صدرها صبي ترضعه فمسها بيده
ونحى الصبي عن صدرها، ووضع سيفه على صدرها وتحامل عليه حتى أنفذه من ظهرها
ثم صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أقتلت ابنة مروان؟ فقال: نعم، فهل عليّ في ذلك من شيء؟
فقال: لا ينتطح فيها عنزان: أي الأمر في قتلها هين لا يعارض فيه معارض،
وهذه الكلمة من جملة الكلمات التي لم تسمع إلا من النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد جمع غالبها في النور في هذا المحل، قال: وسمى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عميرا هذا بالبصير، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: انظروا
إلى هذا الأعمى الذي يسري في طاعة الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لا تقل الأعمى، ولكن البصير.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: ألا رجل يكفينا هذه؟ يعني عصماء
بنت مروان، فقال عمير بن عدي: أنا لها، فأتاها وكانت تمارة: أي تبيع التمر،
فقال لها: أعندك أجود من هذا التمر، لتمر بين يديها؟ قالت نعم، فدخلت إلى
البيت وانكبت لتأخذ شيئا من التمر، فالتفت يمينا وشمالا فلم يشعر بأحد،
فضرب رأسها حتى قتلها، فليتأمل هذا مع ما قبله.
ثم إنّ عميرا أتى المسجد فصلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما
انصرف صلى الله عليه وسلم من صلاته نظر إليه، فقال له: أقتلت ابنة مروان؟
قال نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل
نصر الله ورسوله فانظروا إلى عمير، فلما رجع عمير إلى منزل بني خطمة وجد
بنيها في جماعة يدفنونها، فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال:
نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون: والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت
لأضربنكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة،
وكان يخفي إسلامه من أسلم منهم، لكن جاء في رواية أنها كانت تلقي خرق الحيض
في مسجد بني خطمة فليتأمل.
(3/222)
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما أهدر
دم عصماء نذر عمير إن رد الله رسوله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة
سالما ليقتلنها، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر إلى المدينة
عدا عليها عمير رضي الله تعالى عنه فقتلها. وفي كلام السهيلي رحمه الله أن
الذي قتل عصماء بعلها.
وقد يقال: لا مخالفة لأن عميرا رضي الله عنه جاز أن يكون كان بعلا لها قبل
مرثد بن زيد. وذكر في الاستيعاب في ترجمة عمير رضي الله عنه أنه قتل أخته
لسبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمها.
أقول: الظاهر أنها كانت غير عصماء، لأن نسب عصماء غير نسب عدي، إلا أن يقال
إنها أخته لأمه ويبعده ما تقدم من أنه كان زوجا لها، والله أعلم وبعث وفي
الأصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي.
سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك
أي والعفك بفتح العين المهملة وبالفاء وبالكاف: أي الحمق أي أبي الحمق
اليهودي، قال صلى الله عليه وسلم يوما: «من لي بهذا الخبيث، يعني أبا عفك»
أي من ينتدب إلى قتله وكان شيخا كبيرا قد بلغ مائة وعشرين سنة، وكان يحرض
الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبه في شعر له، فقال سالم بن
عمير رضي الله عنه، أي وهو أحد البكائين، وقد شهد بدرا: عليّ نذر أن أقتل
أبا عفك أو أموت دونه فطلب له غرة: أي غفلة، فلما كانت ليلة صائفة أي شديدة
الحر نام أبو عفك بفناء بيته، أي خارجه، فعلم بذلك سالم رضي الله عنه فأقبل
نحوه فوضع السيف على كبده ثم تحامل حتى خش السيف في الفراش وصاح عدو الله،
فتركه سالم رضي الله عنه وذهب، فقام إلى أبي عفك ناس من أصحابه فاحتملوه
وأدخلوا داخل بيته فمات عدو الله، وابن إسحاق قدم هذا البعث على بعث عمير.
سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب
بن الأشرف الأوسي
أي فإن أباه أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف
منهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا وكان طويلا جسيما ذا بطن
وهامة، وكان شاعرا مجيدا، وقد كان ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، وكان يعطي
أحبار اليهود ويصلهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جاءه
أحبار يهود من بني قينقاع وبني قريظة لأخذ صلته على عادتهم، فقال لهم: ما
عندكم من أمر هذا الرجل:
(3/223)
يعني النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو
الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته شيئا، فقال لهم قد حرمتم كثيرا من
الخير، فارجعوا إلى أهليكم، فإن الحقوق في مالي كثيرة، فرجعوا عنه خائبين،
ثم رجعوا إليه وقالوا له إنا أعجلناك فيما أخبرناك به، ولما استثبتنا علمنا
أنا غلطنا وليس هو المنتظر، فرضي عنهم ووصلهم، وجعل لكل من تابعهم من
الأحبار شيئا من ماله، وهذا نزل فيه قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ
قائِماً [آل عمران: الآية 75] استودعه شخص دينارا فجحده كذا في تكملة
الجلال السيوطي. وفي الكشاف وفروعه أنها نزلت في فنحاص بن عازوراء. وقد
يقال: لا مانع من تعدد الواقعة.
ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقدم زيد بن حارثة وعبد
الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهما مبشرين لأهل المدينة بذلك وصارا يقولان
قتل فلان وفلان وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، صار كعب يكذب في ذلك ويقول
هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن
الأرض خير من ظهرها، أي كما تقدم، فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم
مكة وكان شاعرا فجعل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويمدح
عدوهم ويحرضهم عليه، وينشد الأشعار ويبكي من قتل ببدر من أشراف قريش، فقال
صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت، ثم رجع إلى المدينة:
أي بعد أن لم يجد من يأوي رحله بمكة، أي لأنه لما قدم مكة وضع رحله عند
المطلب بن وداعة وأكرمته زوجة المطلب وهي عاتكة بنت أسيد، فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم حسان وأخبره بذلك، فهجا المطلب وزوجته، فلما بلغهما
هجاء حسان ألقت رحله، وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ وأسلم المطلب وزوجته
بعد ذلك رضي الله عنهما، وصار كلما تحول عند قوم من أهل مكة صار حسان
يهجوهم فيلقون رحله، أي يقال إنه خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة
ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلوا على أبي سفيان
فقال لهم أبو سفيان إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا
مكرا منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما،
ففعلوا، فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً
مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النّساء: الآية 51]
أي وحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، فخرج من مكة للمدينة، فلما
وصل إلى المدينة وصار يشبب بنساء المسلمين: أي يتغزل فيهن ويذكرهن بالسوء
حتى آذاهن.
أي وقيل إن كعب بن الأشرف صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود أن يدعوا النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الطعام، فإذا حضر يفتكون به، ثم دعاه فجاء ومعه بعض
أصحابه، فأعلمه جبريل عليه السلام بما أضمروه بعد أن جالسه، فقام صلى الله
عليه وسلم وجبريل عليه السلام يستره بجناحه حتى خرج، فلما فقدوه تفرّقوا،
ولا مانع من تعدد الأسباب، فقال
(3/224)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ينتدب
لقتل كعب بن الأشرف؟ وفي لفظ: من لنا بابن الأشرف، فقد استعلن بعداوتنا
وهجائنا، أي وفي رواية: إنه يؤذي الله ورسوله، وفي أخرى فإنه قد آذانا
بشعره وقوى المشركين علينا، أي فإن أبا سفيان قال لكعب: فإنك تقرأ الكتاب
وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد؟
فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء،
ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا،
ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم،
وديننا قديم ودين محمد الحديث، فقال كعب لعنه الله: أنتم والله أهدى سبيلا
مما هو عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم: من لي بقتل ابن الأشرف؟ فقال
محمد بن سلمة الأوسي: أنا لك به يا رسول الله، هو خالي- لأن محمد بن مسلمة
ابن أخته- أنا أقتله، وأجمع: أي عزم على ذلك هو وأربعة: أي من الأوس عباد
بن بشر وأبو نائلة، وكان رضي الله عنه أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة
والحارث بن عيسى والحارث بن أوس. ومكث محمد بن مسلمة رضي الله عنه بعد قوله
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب إلا ما تقوم به
نفسه خوفا من عدم وفائه بما ذكر، ثم قال: يا رسول الله لا بد لنا أن نقول:
أي نذكر ما نتوصل به إليه من الحيلة، وحينئذ كان المناسب أن يقول لا بد لنا
أن نتقول: أي نخترع ما نحتال به عليه، فقال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل
من ذلك، فأباح صلى الله عليه وسلم لهم الكذب لأنه من خدع الحرب كما تقدم.
وقيل إنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه، والجمع
ممكن، فتقدمهم إلى كعب أبو نائلة رضي الله عنه، وكان يقول الشعر فتحدث معه
ساعة وتناشدا شعرا، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن
أذكرها لك فاكتم عني، قال: افعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من
البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، فقطعت عنا السبل حتى جاع العيال
وجهدت الأنفس. أي وسألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكل، وسائر ما عندنا
أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه، فقال كعب: لقد كنت أخبرتك يا بن مسلمة
أن الأمر سيصير إلى ما تقول، أي ثم قال له كعب: أصدقني ما الذي تريدون في
أمره؟ قال: خذلانه والتنحي عنه، قال شر تبين، بأن لكم أن تعرفوا ما أنتم
عليه من الباطل، فقال أبو نائلة، وقيل محمد بن مسلمة كما في رواية صحيحة.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن كلا منهما قال له: إني أريد أن تبيعني
وأصحابي طعاما ونرهنك ونوثق لك، فقال: أترهنوني أبناءكم. وفي رواية نساءكم،
قال: أردت أن تفضحنا، نرهنك من الحلقة: أي السلاح كما تقدم- وقيل الدرع
(3/225)
خاصة- ما فيه وفاء، وقد أردت أن آتيك
بأصحابي، أراد أبو نائلة رضي الله عنه أن لا ينكر كعب السلاح إذا جاء به هو
وأصحابه، فقال إن في الحلقة لوفاء: أي وفي البخاري، قال: ارهنوني نساءكم،
قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب.
زاد في رواية: ولا نأمنك عليهنّ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك فإنك تعجب
النساء، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم،
فيقال رهن يوسف، قالوا: هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللامة: أي السلاح، فرجع
أبو نائلة رضي الله عنه إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وأمرهم أن يأخذوا
السلاح، ثم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا من عنده متوجهين
إلى كعب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي معهم إلى بقيع الغرقد ثم
وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى بيته: أي وأمرّ عليهم محمد بن مسلمة، وكانت تلك الليلة
مقمرة، فأقبلوا رضي الله عنهم حتى انتهوا إلى حصن كعب فهتف به أبو نائلة
رضي الله عنه، وكان كعب قريب عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته
بناحيتها أي طرفها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في
مثل هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني قائما لا يوقظني، فقالت:
والله إني لأعرف في صوته الشر، أي وفي البخاري: فقالت له امرأته: أين تخرج
هذه الساعة؟ فإني أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. وفي مسلم كأنه صوت دم: أي
صوت طالب دم، قال: إنما هو ابن أختي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن
الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب كذا في البخاري. وفي مسلم: إنما هو محمد
ورضيعته، قيل وصوابه إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة.
فقد ذكر أهل العلم أن أبا نائلة رضي الله عنه كان رضيعا لمحمد فنزل أي وهو
ينفح منه ريح طيب، فتحدث معه هو وأصحابه ساعة ثم تماشوا، ثم إن أبا نائلة
رضي الله عنه وضع يده على رأس كعب ثم شم يده، وقال: ما رأيت طيبا أعطر من
هذا الطيب. أي فقال: وكيف وعندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب؟ وفي لفظ:
وأجمل بدل أكمل، وهي أشبه، فقال له: يا أبا سعيد ادن مني رأسك أشمه وأمسح
به عيني ووجهي، ثم مشوا ساعة، ثم عاد أبو نائلة لوضع يده على رأسه، واستمسك
به وقال اضربوا عدوّ الله، فضربوه، فاختلفت أسيافهم، فلم تغن شيئا: أي وقع
بعضها على بعض ولصق عدوّ الله بأبي نائلة وصاح صيحة لم يبق حصن إلا وعليه
نار، قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فوضعت سيفي في ثنيته ثم تحاملت عليه
حتى بلغ عانته فوقع، أي ولما صاح اللعين صاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير
مرتين، فخرجت اليهود فأخذوا على غير طريق الصحابة ففاتوهم.
قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: وأصيب الحارث بن أوس من بعض
(3/226)
أسيافنا في رجله ورأسه ونزف به الدم، فتخلف
عنا: أي وناداهم: اقرئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، فعطفوا
عليه واحتملوه. وفي رواية تخلف عن أصحابه فافتقدوه ورجعوا إليه فاحتملوه.
قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر
الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا وأخبرناه بقتل عدوّنا، وتفل
على جرح صاحبنا فلم يؤلمه.
قال: وفي رواية أنهم حزوا رأس كعب وحملوا ذلك الرأس ثم خرجوا يشتدّون، فلما
بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك
الليلة، فلما سمع تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف أنهم قد قتلوا عدوّ الله، وخرج
إلى باب المسجد فجاؤوا فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على باب
المسجد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلحت الوجوه، قالوا: أفلح
وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله، أي وعند ذلك
أصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قتل سيدنا
غيلة، فذكر لهم النبي لله صنيعه من التحريض عليه وأذيته المسلمين فازدادوا
خوفا.
سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي
رافع
سلام بالتخفيف ابن أبي الحقيق على وزن نصير بالتصغير وبالحاء المهملة
الخزرجي: أي وفي البخاري: أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال له سلام
بن أبي الحقيق، كان بخيبر، وكان تاجر أهل الحجاز.
لما قتلت الأوس: أي عبد الله بن مسلمة وأبو نائلة ومن تقدم معهما كعب بن
الأشرف تذاكر الخزرج من يشابه كعب بن الأشرف في العداوة لرسول الله صلى
الله عليه وسلم من الخزرج، فذكروا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق، أي لأنه
كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أي وعن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حزب الأحزاب يوم الخندق، لأن
الأوس والخزرج كانا يتنافسان فيما يقرّب إلى الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم، لا تفعل الأوس شيئا من ذلك إلا فعلت الخزرج نظيره وبالعكس، ويقولون:
والله لا يذهبون بهذا قتيلا علينا في الإسلام، فانتدب لقتله خمسة من الخزرج
منهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، واستأذنوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أي في أن يتكلموا بما يتوصلون به إليه من
الحيلة، فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وأمرهم أن لا يقتلوا وليدا
ولا امرأة فخرجوا حتى أتوا خيبر فتسوروا دار أبي رافع ليلا، فلم يدعوا بيتا
في الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان أبو رافع في علية لها درجة، أي سلم من
الخشب من محل يصعد عليه إلى تلك العلية، فطلعوا في تلك الدرجة حتى قاموا
(3/227)
على باب تلك العلية، فاستأذنوا فخرجت إليهم
امرأته، فقالت: من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة.
وفي لفظ: لما صعدوا قدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يتكلم بلسان يهود،
فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته وقالت: ذاكم صاحبكم
فادخلوا عليه، فلما دخلوا عليه أغلقوا عليهم وعليها باب الحجرة ووجدوه وهو
على فراشه، ما دلهم عليه في الظلمة إلا بياضه كأنه قبطية بيضاء فابتدروه
بأسيافهم، ووضع عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سيفه في بطنه وتحامل عليه
حتى أنفذه وهو يقول قطني قطني: أي يكفيني يكفيني، وعند ذلك صاحت المرأة.
قال بعضهم:
ولما صاحت المرأة جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يتذكر نهي رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيكف يده. قال: وفي رواية أن المرأة لما رأت السلاح
أرادت أن تصيح، فأشار إليها بعضنا بالسيف فسكتت، فابتدرناه بأسيافنا وخرجنا
من عنده، وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيىء البصر فوقع من الدرجة فوثبت رجله
وثبا شديدا، أي جرحت جرحا شديدا. وفي لفظ: قد انكسرت ساقه. وفي آخر فانخلعت
رجله فعصبها بعمامته، والجمع بين كسر ساقه وخلع رجله واضح، لأن الانخلاع
يكون من المفصل، فقد انكسرت ساقه وانخلعت من مفصلها، ومع الكسر والانخلاع
حصلت فيها جراحة أيضا.
وأما قول ابن إسحاق رحمه الله فوثبت يده فقيل وهم والصواب رجله كما تقدم.
وفي السيرة الهشامية. فوثبت يده، وقيل رجله.
وقد يقال: لا مانع من حصولهما، قال: فحملناه حتى أتينا محلا استخفينا فيه:
أي وذلك المحل من أفنيتهم التي يلقون فيها كناستهم. وفي لفظ: أنهم كمنوا في
نهر من عيونهم حتى سكن الطلب.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنهم أوقدوا النيران، وتفرقوا من كل وجه يطلبونهم أي
وفي لفظ: فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران حتى إذا
أيسوا رجعوا إلى عدوّ الله، فاكتنفوه وهو بينهم يجود بنفسه، فقال بعضنا
لبعض:
كيف نعلم أن عدوّ الله مات؟ فقال رجل منهم: أنا ذاهب فأنظر لكم، فانطلق حتى
دخل في الناس قال: فوجدت امرأته تنظر في وجهه وفي يدها المصباح، ورجال يهود
حوله وهي تحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي.
أي وعلى الرواية الآتية أنه أكذبها، ثم أقبلت تنظر في وجهه، ثم قالت فاضت
وإله يهود: أي خرجت روحه، فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جئت
وأخبرت أصحابي، واحتملنا عبد الله بن عتيك، وقدمنا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
(3/228)
وفي رواية: أن ابن عتيك لما عصب رجله انطلق
حتى جلس على الباب.
وقال: لا أخرج الليلة حتى أعلم أني قتلته أولا؟ فلما صاح الديك قام الناعي
على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلق يحجل إلى أصحابه
وقال قد قتل الله أبا رافع، فأسرعوا، وليتأمل هذا مع ما قبله، وقوله أنعى
هو بفتح العين، وقيل الصواب انعو، والنعي: خبر الموت والاسم الناعي. ويقال
له الناعية، وكانت العرب إذا مات فيهم الكبير ركب راكب فرسا وصار يذكر
أوصافه ومآثره، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك. ولا منافاة بين كونه
انطلق يحجل إلى أصحابه وكونهم حملوه، لأنه يجوز أن يكون عند وقوعه وحصول ما
تقدم له لم يحس الألم لما هو فيه من الاهتمام وقدر على المشي يحجل، ومن ثم
جاء في بعض الروايات: فقمت أمشي ما بي قلبة: أي علة مهلكة. فلما وصل إلى
أصحابه وعاد عليه المشي أحسّ بالألم، فحمله أصحابه، وهذا السياق يدل على أن
الذي قتله عبد الله بن عتيك وحده، وهو ما في البخاري، وفي رواية أن الذي
كسرت رجله أبو قتادة لأنهم لما قتلوه وخرجوا نسي أبو قتادة قوسه فرجع إليها
وأخذها فأصيبت رجله فشدها بعمامته ولحق بأصحابه، وكانوا يتناوبون حمله حتى
قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فمسحها فبرئت، أي وقال لما
رآنا: أفلحت الوجوه، قلنا أفلح وجهك يا رسول الله وأخبرناه بقتل عدوّ الله،
واختلفنا عنده صلى الله عليه وسلم في قتله كل منا ادعاه، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم هاتوا أسيافكم فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد
الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
قال: والثابت في الصحيح كما علمت أن عبد الله بن عتيك هو الذي انفرد بقتله
وأن عدوّ الله كان بحصن بأرض الحجاز، ولا منافاة لأن خيبر من الحجاز، أي من
قراه وريفه.
فلما دنوا من خيبر وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه
اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من
الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا
عبد الله، ناداه بذلك كما ينادي الشخص شخصا لا يعرفه وهو يظن أنه من أهل
الحصن، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب فدخل وكمن.
فلما أغلق الباب علق المفاتيح. قال ثم أخذتها وفتحت الباب، وكان أبو رافع
يسمر عنده. فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته
عليّ من داخله حتى انتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين
هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته بالسيف
فما أغنت شيئا وصاح، فخرجت من البيت، أي وعند ذلك قالت له امرأته: يا أبا
رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك. قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ قال
ابن
(3/229)
عتيك: ثم عدت وقلت: ما هذا الصوت يا أبا
رافع؟ قال لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني بالسيف فعمدت إليه فضربته
أخرى فلم تغن شيئا فتواريت ثم جئته كهيئة المغيث وغيرت صوتي، وإذا هو مستلق
على ظهره فوضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم جئت إلى
الدرجة فوقعت، فانكسرت رجلي فعصبتها بعمامتي فانطلقت إلى أصحابي، وقلت
النجاة قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فحدثته. فقال: ابسط رجلك فمسحها فكأني لم أشتكها قط، وعادت كأحسن ما كانت
انتهى، أي وهذا ما في البخاري.
وفيه في رواية أخرى أن ابن عتيك قال: لما وضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه
حتى سمعت صوت العظم خرجت دهشا حتى أتيت السلم: أي الذي صعدت فيه أريد أن
أنزل فأسقطت منه فانخلعت رجلي، فعصبتها، فأتيت أصحابي أحجل.
فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا أبرح حتى أسمع
الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية، فقال أنعى أبا رافع، فقمت
أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فبشرته.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي أنهم مكثوا في ذلك المحل الذي استخفوا فيه يومين
حتى سكن عنهم الطلب. وينبغي النظر إلى وجه الجمع بين ما ذكر.
سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة
بفتح القاف والراء، وقيل بالفاء مفتوحة، وقيل بكسرها وسكون الراء، وقدمه في
الأصل على الأول: اسم ماء.
وسببها أن قريشا لما كانت وقعة بدر خافوا الطريق التي كانوا يسلكونها إلى
الشام من على بدر، فسلكوا طريقا أخرى من جهة العراق. فخرج عير لهم فيه
أموال كثيرة جدا من تلك الطريق يريدون الشام، واستأجروا رجلا يدلهم على
الطريق، وكان ذلك الرجل ممن هرب من أسارى بدر. وفي ذلك العير من أشراف
قريش: أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد
العزى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في مائة راكب، وهي
أول سرية لزيد بن حارثة خرج فيها أميرا، فصادف تلك العير على ذلك الماء
فأصاب العير، وأفلت القوم وأسروا دليلهم.
وقدم زيد رضي الله عنه بتلك العير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمسها
فبلغ الخمس ما قيمته عشرون ألف درهم، وأتي بذلك الأسير إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقيل له إن تسلم تترك: أي من القتل. فأسلم فتركه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه بعد ذلك.
(3/230)
سرية أبي سلمة عبد
الله بن عبد الأسد
وهو ابن عمته صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب وأخوه من الرضاعة،
أرضعتهما ثويبة كما تقدم- إلى قطن- أي وهو جبل، وقيل ماء من مياه بني أسد.
وسببها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد
سارا في قومهما ومن أطاعهما إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي
أخبره بذلك رجل من طيىء قدم المدينة لزيارة بنت أخيه بها، فدعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبا سلمة المذكور، وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين
رجلا من المهاجرين والأنصار، وخرج الرجل المخبر له صلى الله عليه وسلم
دليلا لهم، وقال له صلى الله عليه وسلم: سر حتى تنزل أرض بني أسد فأغر
عليهم قبل أن يتلاقى عليك جموعهم، فأغذّ السير، أي بفتح الهمزة والغين
المشددة والذال المعجمة: أي أسرع، ونكب، أي بفتح الكاف المخففة: عدل عن سيف
الطريق، وسار بهم ليلا ونهارا ليستبق الأخبار، فانتهى إلى ماء من مياههم،
فأغار على سرح لهم، وأسروا ثلاثة من الرعاة وأفلت سائرهم، ففرق أبو سلمة
أصحابه ثلاث فرق: فرقة بقيت معه، وفرقتان أغارتا في طلب النعم والشاء
والرجال، فأصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا أحدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى
المدينة.
قال: وقيل إنه خرج صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك عبدا، أي لأنه
صلى الله عليه وسلم كان يباح له أخذ الصفي، وهو ما يختاره له أمير السرية
قبل القسمة من الفيء أو الغنيمة من جارية أو غيرها كما تقدم. وأخرج الخمس،
ثم قسم ما بقي بين أصحابه، فأصاب كل إنسان سبعة أبعرة، أي وطليحة هذا كان
يعد بألف فارس، قدم عليه صلى الله عليه وسلم في بعض الوفود وأسلم، ثم ارتد
وادعى النبوة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقويت شوكته، ثم أسلم
بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، وحسن إسلامه، وحج في زمن عمر رضي الله عنه،
ولم يعرف لأخيه سلمة إسلام. بعث عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلي
ثم اللحياني بكسر اللام وفتحها.
وسبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بلغه أن سفيان المذكور قد جمع الجموع
لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه
ليقتله، فقال: صفه لي يا رسول الله، فقال إذا رأيته هبته وفرقت: أي خفت منه
وذكرت الشيطان، فقال عبد الله: يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: بلى إنك تجد له قشعريرة إذا رأيته، فقال عبد
الله: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول: أي ما أتوصل به إليه
من الحيلة فأذن لي: أي قال لي: قل ما بدا لك: أي وقال انتسب إلى خزاعة. قال
عبد الله بن أنيس فسرت حتى إذا كنت ببطن عرنة: وهو واد بقرب عرفة لقيته
يمشي: أي متوكئا على عصا يهدّ الأرض ووراءه الأحابيش: أي أخلاط الناس
(3/231)
ممن انضم إليه، فعرفته بنعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لأني هبته وكنت لا أهاب الرجال، فقلت: صدق الله ورسوله، أي
وكان وقت العصر، فخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة يشغلني عن الصلاة فصليت
وأنا أمشي نحوه أومىء برأسي. فلما انتهيت إليه، قال لي: من الرجل؟ فقلت:
رجل من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك، قال: أجل، إني لأجمع له،
فمشيت معه ساعة وحدثته فاستحلى حديثي. أي وكان فيما حدثته به أن قلت له:
عجبت لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث. فارق الآباء، وسفه أحلامهم. فقال
لي: إنه لم يلق أحدا يشبهني ولا يحسن قتاله.
فلما انتهى إلى خبائه وتفرق عنه أصحابه قال لي: يا أخا خزاعة هلم، فدنوت
منه. فقال اجلس فجلست معه، حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته وأخذت
رأسه ثم دخلت غارا في الجبل وصيرت العنكبوت: أي نسجت عليّ، وجاء الطلب فلم
يجدوا شيئا. فانصرفوا راجعين، ثم خرجت. فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى
قدمت المدينة. فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما رآني
قال: قد أفلح الوجه. قلت: أفلح وجهك يا رسول الله. فوضعت رأسه بين يديه
وأخبرته خبري، فدفع لي عصا وقال: تحضر بهذه في الجنة: أي توكأ عليها فإن
المتخصرين في الجنة قليل، فكانت تلك العصا عنده. فلما حضرته الوفاة أوصى
أهله أن يدخلوها في كفنه ويجعلوها بين جلده وكفنه ففعلوا. أي وفي القاموس
ذو المخصرة: أي كمكنسة بكسر الميم عبد الله بن أنيس.
وهذه القصة وقصة كعب بن الأشرف تردّ على الزهري قوله لم يحمل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأس إلى المدينة قط. وحمل إلى أبي بكر رضي الله تعالى
عنه رأس فكره ذلك. وأول من حملت الرؤوس عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
وفيه أنه لما قتل الحسين وجماعة من أهل بيته بعث ابن زياد قبحه الله
برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية. وابن الزبير رضي الله عنهما لم يبايع بالخلافة
إلا بعد موت يزيد. ومضى مدة خلافة ابنه معاوية رضي الله عنه الذي خلع نفسه
وهي أربعون يوما. ولعل إرسال رأس الحسين ومن معه كان قبل رأس عبد الله بن
أبي الحمق، فلا ينافي قول ابن الجوزي أول رأس حمل في الإسلام- أي من
المسلمين- رأس عبد الله بن أبي الحمق. وذلك أنه لدغ فمات، فخشيت الرسل أن
تتهم فقطعوا رأسه فحملوه.
ثم رأيت ابن الجوزي قال: قال ابن حبيب: نصب معاوية رضي الله عنه رأس عمرو
بن أبي الحمق. ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه. وقول الزهري
إلى المدينة لا يخالف ما في النور ما تقدم في غزوة بدر: كم من رأس حمل
(3/232)
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن
تلك الرؤوس لم تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، على أن فيه
أنه لم يحمل إليه ذلك اليوم إلا رأس أبي جهل على ما تقدم.
سرية الرجيع
وفي الأصل: بعث الرجيع. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة، وقيل ستة
عيونا إلى مكة يتجسسون أخبار قريش ليأتوه بها، وأمر عليهم عاصم بن ثابت
الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ويقال له ابن أبي الأفلح بالفاء، وقيل أمر
عليهم مرثدا الغنوي رضي الله عنه حليف عمه صلى الله عليه وسلم حمزة رضي
الله عنه، ومرثد بفتح الميم وإسكان الراء وبالمثلثة. والغنوي بغين معجمة:
أي وكان مرثد هذا يحمل الأسرى ليلا من مكة حتى يأتي بهم المدينة، فوعد رجلا
من الأسرى بمكة أن يحمله، قال: فجئت به حتى انتهيت به إلى الحائط من حيطان
مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق وكانت من جملة البغايا بمكة، فرأت ظلي في
جانب الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني قالت:
مرثد؟ قلت مرثد، قالت: مرحبا وأهلا هلم تبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق إن
الله حرم الزنا، فدلت عليّ، فخرج في أثري ثمانية رجال، فتواريت في كهف
الخندمة فجاؤوا حتى وقفوا على رأسي، فأعماهم الله عني، فلما رجعوا رجعت
لصاحبي، فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى محل فككت عنه قيده، ثم جعلت
أحمله حتى قدمت المدينة، ثم استشرته صلى الله عليه وسلم أن أنكح عناقا،
فأمسك عني حتى نزلت الآية:
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ (3) [النّور: الآية 3] فدعاني صلى الله عليه وسلم فتلاها
عليّ، ثم قال لي: لا تتزوجها.
وفي قطعة التفسير للجلال المحلي أن الآية نزلت في بغايا المشركين لما همّ
فقراء المهاجرين أن يتزوجوهن وهن موسرات لينفقن عليهم، فقيل التحريم خاص
بهم، وقيل عام، ونسخ بقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: الآية
32] الآية.
وفيه أن عند فقهائنا يحرم على المسلم نكاح من تعبد الأوثان وإن لم تكن
بغيا.
ومن جملة العشرة عبد الله بن طارق وخبيب بن عدي وخبيب تصغير خب:
وهو الماكر من الرجال الخدّاع، وزيد بن الدثنة بفتح الدال المهملة وكسر
الثاء المثلثة وقد تسكن ثم نون مفتوحة ثم تاء تأنيث مقلوب من الندثة.
والندث: استرخاء اللحم، فخرجوا رضي الله عنهم: أي يسيرون الليل ويكمنون
النهار، حتى إذا كانوا بالرجيع: وهو ماء لهذيل لقيهم سفيان بن خالد الهذلي
الذي قتله عبد الله بن أنيس وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما تقدم وقومه- وهم بنو لحيان- فإنهم ذكروا لهم فنفروا إليهم فيما يقرب من
مائة رام، أي ولا يخالف ما في الصحيح قريبا من مائة
(3/233)
رجل، فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا نوى تمر
أكلوا في منزل نزلوه، أي فإن منهم امرأة كانت ترعى غنما فرأت النوى فقالت:
هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أتيتم، فتبعوهم إلى أن وجدوهم في المحل
المذكور، فلما أحسوا بهم لجؤوا إلى موضع من جبل هناك: أي صعدوا إليه،
فأحاطوا بهم، وقالوا لهم: انزلوا ولكم العهد أن لا نقتل منكم أحدا، فقال
عاصم رضي الله تعالى عنه: أما أنا فلا أنزل على ذمة: أي أمان وعهد كافر،
فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما، أي وستة منهم، وصار عاصم يرميهم بالنبل وينشد
أبياتا منها:
الموت حق والحياة باطل ... وكل ما قضى الإله نازل
بالمرء والمرء إليه آيل
ولا زال يرميهم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم حتى انكسرت رمحه، ثم سل سيفه.
وقال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره، ونزل إليهم ثلاثة
على العهد وهم: خبيب، وزيد، وعبد الله بن طارق رضي الله تعالى عنهم، فلما
أمسكوهم أطلقوا أوتارا قسيهم فربطوا خبيثا وزيدا وامتنع عبد الله، وقال:
هذا أول الغدر: أي ترك الوفاء بعهد الله، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء
يعني القتلى أسوة فعالجوه، فأبي أن يصحبهم أي فقتلوه كما في الصحيح، وقيل
صحبهم إلى أن كانوا بمر الظهران يريدون مكة، انتزع عبد الله يده منهم، ثم
أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وانطلقوا بخبيب
وزيد، أي ودخلوا بهما مكة في شهر القعدة، فباعوهما بأسيرين من هذيل كانا
بمكة، أي وقيل بيع كل بخمسين من الإبل، أي وقيل بيع خبيب بأمة سوداء،
فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا، قيل لأنه قتل الحارث يوم بدر كما في
البخاري.
وتعقب بأن المعروف عندهم أن قاتل الحارث يوم بدر إنما هو خبيب بن إساف
الخزرجي، أي وقيل القاتل له علي كرّم الله وجهه، وخبيب بن عدي هذا أوسي لم
يشهد بدرا عند أحد من أرباب المغازي، أي وقيل في هذا تضعيف الحديث الصحيح.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر أنه لزم من هذا رد الحديث الصحيح،
ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث بن عامر ما كان لاعتناء آل الحارث بشرائه
وقتله به معنى، إلا أن يقال لكونه من قبيلة قاتله وهم الأنصار. وابتاع زيدا
صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك ليقتله بأبيه،
فحبسوهما إلى أن تنقضي الأشهر الحرم، واستعار خبيب رضي الله تعالى عنه وهو
محبوس موسى من بنت الحارث. وفي الصحيح من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها: أي
يحلق بها عانته، فدرج لها ابن صغير وهي غافلة عنه حتى أتى إلى خبيب رضي
الله تعالى عنه،
(3/234)
فأجلسه خبيب رضي الله تعالى عنه على فخذه
والموسى بيده، فلما رأت ابنها على تلك الحالة فزعت فزعة عرفها خبيب رضي
الله تعالى عنه، فقال: أتخشين أن أقتله:
ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، وبكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث.
وروي أنه رضي الله عنه أخذ بيد الغلام، وقال: هل أمكن الله منكم، فقالت
المرأة ما كان هذا ظني بك، فرمى لها بالموسى، وقال: إنما كنت مازحا، ما كنت
لأغدر.
وفي السيرة الشامية أن تلك المرأة قالت: قال لي: تعني خبيبا رضي الله تعالى
عنه حين حضره القتل: ابعثني إليّ بحديدة أتطهر بها للقتل: أي وقد كان رضي
الله تعالى عنه قال لها: إذا أرادوا قتلي فآذنيني، فلما أرادوا قتله آذنته،
فطلب منها تلك الحديدة، فقالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت له: ادخل
بها على هذا الرجل البيت، قالت: فو الله لما دخل عليه الغلام قلت والله
أصاب الرجل ثأره بقتل هذا الغلام ويكون رجل برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها
من يده، ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليّ؟ ثم
خلى سبيله. ويقال إن الغلام ابنها: أي ويرشد إليه قول خبيب رضي الله تعالى
عنه: ما خافت أمك.
وكانت بنت الحارث تقول: والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، قالت: والله لقد
وجدته يوما أي وقد اطلعت عليه من شق الباب يأكل قطفا من عنب في يده: أي مثل
رأس الرجل، وأنه لموثق بالحديد وما بمكة ثمرة. وفي رواية: لا أعلم في أرض
الله عنبا يؤكل.
أي واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن أشرف على الموت أن يتعهد
نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته، ولعل ذلك كان بلغ النبي
صلى الله عليه وسلم وأقره، فلما انقضت الأشهر الحرم بانقضاء المحرم خرجوا
بخبيب من الحرم ليقتلوه في الحل، فلما قدم للقتل قال لهم: دعوني أصلي
ركعتين، فتركوه فركع ركعتين وقال لهم: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من
جزع لزدت، ثم قال:
اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا: أي متفرقين واحدا بعد واحد، ولا تبقي منهم
أحدا: أي الكفار، وقد قتلوا في الخندق متفرقين.
قال: ذكر أنهم لما خرجوا به ليقتلوه خرج النساء والصبيان والعبيد، فلما
انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفروا لها، فلما انتهوا بخبيب
إليها وبعد صلاته للركعتين صلبوه على تلك الخشبة، أي ليراه الوارد والصادر،
فيذهب بخبره إلى الأطراف، ثم قالوا له: ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك، وإن لم
ترجع لنقتلنك قال:
إن قتلي في سبيل الله لقليل، اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام،
فبلغه أنت عني السلام وبلغه ما يصنع بنا.
(3/235)
وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما:
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع أصحابه فأخذه ما كان يأخذه
عند نزول الوحي فسمعناه يقول: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، فلما سري
عنه صلى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل عليه السلام يقرئني من خبيب السلام،
خبيب قتلته قريش» .
وقد جاء: أن المشركين دعوا أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم يوم بدر فأعطوا كل
واحد رمحا، وقالوا هذا الذي قتل آباءكم، فطعنوه بتلك الرماح حتى قتلوه،
ووكلوا بتلك الخشبة أربعين رجلا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
المقداد والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في إنزال خبيب عن خشبته.
وفي لفظ قال صلى الله عليه وسلم: «أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟
فقال له الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه: أنا يا رسول الله وصاحبي
المقداد بن الأسود، فجاآ فوجدا عندها أربعين رجلا لكنهم سكارى نيام
فأنزلاه» وذلك بعد أربعين يوما من صلبه وموته.
وحمله الزبير رضي الله تعالى عنه على فرسه وهو رطب لم يتغير منه شيء فشعر
بهما المشركون، أي وكانوا سبعين رجلا فتبعوهما، فلما لحقوا بهما قذفه
الزبير رضي الله تعالى عنه، فابتلعته الأرض اه. ومن ثم قيل له بليع الأرض،
أي وكشف الزبير رضي الله تعالى عنه العمامة عن رأسه وقال لهم: أنا الزبير
بن العوام وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يذبان عن شبلهما، فإن
شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا عنهما.
وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان عنده صلى الله عليه
وسلم جبريل عليه السّلام، فقال له جبريل: يا محمد إن الملائكة تباهي بهذين
الرجلين من أصحابك، فنزل فيهما:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ
[البقرة: الآية 207] الآية، وتقدم أنه قيل إنها نزلت في عليّ كرم الله وجهه
لما نام على فراشه صلى الله عليه وسلم ليلة ذهابه إلى الغار.
وقيل إنها نزلت في حق صهيب لما أراد الهجرة ومنعه منها قريش، فجعل لهم ثلث
ماله أو كله كما تقدم.
ورأيت بعضهم هنا قال: إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما أخذه
المشركون ليعذبوه، فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أو من غيركم،
فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني ففعلوا.
وفي كلام ابن الجوزي رحمه الله أن عمرو بن أمية هو الذي أنزل خبيبا، فعنه
رضي الله تعالى عنه قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها فحللته فوقع إلى
الأرض، ثم التفت فلم أر خبيبا ابتلعته الأرض، وهذا هو الموافق لما في
السيرة الهشامية، وأن ذلك كان حين أرسله صلى الله عليه وسلم والأنصار لقتل
أبي سفيان بن حرب كما سيأتي إن شاء الله تعالى: أي كان خبيب رضي الله تعالى
عنه تحرك على الخشبة
(3/236)
فانقلب وجهه عن القبلة: أي الكعبة فقال:
اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها،
فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي الله لنفسه ولنبيه عليه
الصلاة والسلام وللمؤمنين، ودعا عليهم خبيب رضي الله تعالى عنه، فقال:
اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، قال معاوية بن أبي
سفيان رضي الله تعالى عنهما: فألقى أبو سفيان بنفسه إلى الأرض على جنبه
خوفا من دعوة خبيب رضي الله تعالى عنه، لأنهم كانوا يقولون إن الرجل إذا
دعي عليه فاضطجع لجنبه زال عنه: أي لم تصبه تلك الدعوة.
وقد ولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سعد بن عامر رضي الله تعالى عنه
على بعض أجناد الشام، فقيل له إنه مصاب يلحقه غشي، فاستدعاه، فلما قدم عليه
وجد معه مزودا وعكازا وقدحا، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ليس معك إلا
ما أرى، فقال له: وما أكثر من هذا يا أمير المؤمنين؟ مزودي أضع فيه زادي،
وعكازي أحمل به ذلك، وقدحي آكل فيه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أبك
لمم؟ فقال: لا، فقال: فما غشية بلغني أنها تصيبك؟ فقال: والله يا أمير
المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل، وسمعت
دعوته، فو الله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي فزاده ذلك
عند عمر رضي الله تعالى عنهما خيرا، ووعظ عمر، فقال له: من يقدر على ذلك؟
فقال: أنت يا أمير المؤمنين، إنما هو أن يقال فتطاع، فقال له عمر رضي الله
تعالى عنه: ارجع إلى عملك، فأبى، وناشده الإعفاء، فأعفاه.
وكان خبيب رضي الله تعالى عنه هو الذي سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة، أي
لأنه صلى الله عليه وسلم بلغه ذلك عنه فاستحسنه فكان سنة، وهذا يدل على أن
واقعة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما متأخرة عن قصة خبيب رضي الله
تعالى عنه، لكن في النور: والمعروف أن زيد بن حارثة صلاهما قبل خبيب بزمن
طويل.
وفي الينبوع أن قصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما كانت قبل الهجرة، أي
وكان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن الركعتين قبل القتل، قال: صلاهما خبيب
رضي الله تعالى عنه وحجروهما فاضلان، ويعني بحجر: حجر بن عدي رضي الله
تعالى عنه، فإن زيادا والي العراق من قبل معاوية رضي الله تعالى عنه وشى به
إلى معاوية، فأمر معاوية بإحضاره، فلما قدم على معاوية، قال له: السلام
عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: أو أمير المؤمنين
أنا اضربوا عنقه، فلما قدم للقتل قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلاهما خفيفتين،
ثم قال رضي الله تعالى عنه: لولا أن تظنوا بي غير الذي بي لأطلتهما، ثم قتل
هو وخمسة من أصحابه.
ولما حج معاوية رضي الله تعالى عنه وجاء المدينة زائرا استأذن على عائشة
(3/237)
رضي الله تعالى عنها فأذنت له، فلما قعد،
قالت له: أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: إنما قتلهم من شهد عليهم.
وقصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما رواها الليث بن سعد. قال: بلغني أن
زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فمال به ذلك الرجل إلى خربة وقال
له: انزل فنزل زيد رضي الله تعالى عنه، فإذا في الخربة المذكورة قتلى
كثيرة، فلما أراد أن يقتله، قال له: دعني أصلي ركعتين، أي لأنه رأى أن
الصلاة خير ما ختم به عمل العبد، قال صلّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم
صلاتهم شيئا، وهذا يدل على أن القتلى كلهم كانوا مسلمين، قال: فلما صليت
أتاني ليقتلني، فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتا يقول: لا تقتله،
فهاب ذلك، فخرج يطلبه، فلم ير شيئا فرجع إليّ، فناديت يا أرحم الراحمين،
فعل ذلك ثلاثا، فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد في رأسها شعلة نار
فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا.
ثم قال لي لما دعوت الأولى «يا أرحم الراحمين» كنت في السماء السابعة، فلما
دعوت الثانية «يا أرحم الراحمين» كنت في سماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة
أتيتك.
أقول: وقد وقع مثل ذلك لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الأنصار يكنى أبا معلق، وكان يتجر بمال له ولغيره يسافر به في الآفاق، وكان
ناسكا ورعا فخرج مرة في بعض أسفاره، فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال له: ضع
ما معك فإني قاتلك، فقال: ما تريد من دمي؟ فشأنك والمال، فقال: أما المال
فلي، ولست أريد إلا دمك فقال: ذرني أصلي أربع ركعات، فقال صل ما شئت، فتوضأ
ثم صلى أربع ركعات، ثم دعا في آخر سجدة، فقال: يا ودود، يا ذا العرش
المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام،
وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، وكرر
ذلك ثلاث مرات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة وضعها من أدنى فرسه، فلما
بصر به اللص أقبل نحوه، فطعنه الفارس فقتله، ثم أقبل إلى أبي معلق، فقال:
قم، فقال: من أنت بأبي أنت وأمي، فلقد أغاثني الله بك اليوم، قال: أنا ملك
من أهل السماء الرابعة، دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم
دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث، فقيل لي
دعاء مكروب، فسألت الله تعالى أن يوليني قتله، قال أنس رضي الله تعالى عنه:
من فعل ذلك استجيب له مكروب كان أو غير مكروب.
أي وقد وقع نظير هذه المسألة، أي من حيث إقراره صلى الله عليه وسلم على فعل
غيره، وهو أنهم كانوا يأتون الصلاة قد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم
ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل كم صلى؟ فيقول واحدة أو اثنتين فيصيلهما
وحده، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم،
(3/238)
فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه، فقال: لا
أجده صلى الله عليه وسلم على حال أبدا إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني،
فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فثبت معه، فلما قضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلاته قام فقضى ما عليه، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إنه قد سن لكم معاذ، فكذا فاصنعوا، أي وكان هذا قبل قوله صلى
الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» .
وأخرج صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه زيدا رضي الله تعالى عنه إلى الحل
مع مولى له ليقتله به، واجتمع عند قتله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب،
فلما قدم للقتل، قال له أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: انشدك بالله يا زيدا
أتحب محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك، فقال والله ما أحب أن
محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لخالص في أهلي،
فقال أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب
أصحاب محمد محمدا، ونقل مثل ذلك عن خبيب رضي الله تعالى عنه، أي فإنهم لما
وضعوا السلاح في خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب أن
محمدا مكانك؟ قال: لا والله ما أحب أن يؤذى بشوكة في قدمه، ثم قتله ذلك
المولى. أي طعنه برمح في صدره حتى أنفذه من ظهره، وقيل رمي بالنبل، وأرادوا
فتنته عن دينه، فلم يزدد إلا إيمانا.
ولما قتل عاصم رضي الله تعالى عنه الذي هو أمير هذه السرية على ما تقدم،
أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة بن أبي
طلحة بن عبد الدار وكلام بعضهم يقتضي أنها أسلمت بعد، فإن عاصما هذا كما
تقدم قتل يوم أحد ولديها كلاهما أشعره سهما، وكل يأتي إليها بعد إصابته
بالسهم ويضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول
حين رماني: خذها وأنا ابن أبي الأفلح فنذرت إن قدرت على رأسه لتشربن في
قحفة الخمر، وجعلت لمن يجيء برأسه مائة ناقة كما تقدم، فحالت الدبر بفتح
الدال المهملة وسكون الباء الموحدة: وهي الزنابير بينهم وبين عاصم رضي الله
تعالى عنه، كلما قدموا على قحفة طارت في وجوههم ولدغتهم فقالوا: دعوه حتى
يمسي فنأخذه، فبعث الله الوادي: أي سال، فاحتمل السيل عاصما فذهب به حيث
أراد الله فسمي حمى الدبر وبعث ناس من قريش لما بلغهم قتل عاصم في طلب جسده
أو شيء منه يعرفونه: أي ليمثلوا به لأنه قتل عظيما من عظمائهم، قال الحافظ
ابن حجر لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصما قتله صبرا بإذن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد أن انصرفوا من بدر أي كما تقدم، قال: وكأنّ قريشا لم
تشعر بما جرى لهذيل من منع الزنابير لهم عن عاصم، أو شعروا بذلك ورجوا أن
الزنابير تركته: أي ولم يشعروا بأن السيل أخذه اه أي وقد كان عاصم رضي الله
تعالى عنه دعا الله أن لا يمس مشركا، ولا
(3/239)
يمسه مشرك في حياته، وتقدم هنا أنه دعا
الله أن يحمي لحمه فاستجاب الله له، فلم يحصل له ذلك لا في حياته ولا بعد
موته.
أي وفي كلام بعضهم: لما نذر عاصم أن لا يمس مشركا ووفي بنذره عصمه الله عن
مساس سائر المشركين إياه، فصار عاصم معصوما هذا.
وقيل إن هؤلاء العشرة لم يخرجوا ليأتوا بخبر قريش، وإنما خرجوا مع رهط من
عضل والقارة، وهما بطنان من بني الهون قدموا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك
يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام، فبعث صلى الله
عليه وسلم معهم أولئك النفر، فساروا حتى إذا كانوا على الرجيع استصرخوا
عليهم هذيلا، فلم يشعروا إلا والرجال بأيديهم السيوف فدعوهم فأخذوا أسيافهم
ليقتلوا القوم، فقالوا لهم: والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم
شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، فأبوا الحديث،
والحافظ الدمياطي رحمه الله اقتصر على هذا الثاني، وأن أميرهم كان مرثدا
الغنوي رضي الله تعالى عنه، فقال: سرية مرثد الغنوي إلى الرجيع، قال قدم
رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما الحديث، لكنه في
سياق القصة قال وأمر عليهم عاصما وقيل مرثدا رضي الله تعالى عنهما، وأخر
هذه السرية عن السرية بعدها التي هي سرية القراء إلى بئر معونة.
سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة
لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة:
أي ويقال له ملاعب الرماح وهو رأس بني عامر. أي ويقال له أيضا أبو براء
بالمد لا غير، وهو عم عامر بن الطفيل عدوّ الله، أي وأهدي إليه صلى الله
عليه وسلم ترسين وراحلتين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أقبل
هدية من مشرك» . وفي رواية: «نهيت عن عطايا المشركين» .
أقول: وفي كلام السهيلي أنه أهدي إليه فرسا، وأرسل إليه إني قد أصابني وجع
فابعث إلى بشيء أتداوى به فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم بعكة عسل، وأمره
أن يستشفى به، وقال: «نهيت عن زبد المشركين» قال السهيلي: والزبد مشتق من
الزبد، لأنه نهي عن مداهنتهم واللين لهم: كما أن المداهنة مشتقة من الدهن،
فرجع المعنى إلى اللين، كذا قال، ولعل هذا كان بعد ما تقدم. ويحتمل أن يكون
قبله وهو الأقرب والله أعلم.
فلما قدم عليه أبو عامر عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام
ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، أي وقال إني أرى أمرك هذا أمرا
حسنا شريفا، أي ولم يسلم
(3/240)
بعد ذلك على الصحيح، خلافا لمن عده في
الصحابة، ثم قال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد: أي وهم بنو
عامر وبنو سليم، فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إني أخشى أهل نجد عليهم، قال أبو براء: أنا لهم جار وهم في
جواري وعهدي، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك، وخرج أبو براء إلى ناحية نجد
وأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر
بن عمرو رضي الله تعالى عنه في أربعين، وقيل في سبعين، وعليه اقتصر الحافظ
الدمياطي: أي لأنه الذي في الصحيح البخاري، وقيل في ثلاثين رجلا من أصحابه
من خيار المسلمين.
أي وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل وهم، وأنه يمكن الجمع بين كونهم سبعين
وكونهم أربعين بأن الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة كانوا أتباعا، ويقال
لهؤلاء القراء: أي لملازمتهم قراءة القرآن، فكانوا إذا أمسوا اجتمعوا في
ناحية المدينة يصلون ويتدارسون القرآن، فيظن أهلوهم إنهم في المسجد، ويظن
أهل المسجد أنهم في أهاليهم، حتى إذا كان وجه الصبح استعذبوا من الماء
واحتطبوا وجاؤوا بذلك إلى حجر النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي كلام بعضهم إنهم كانوا يحتطبون بالنهار، ويتدارسون القرآن بالليل،
وكانوا يبيعون الحطب ويشترون به طعاما لأصحاب الصفة.
وقد يقال: لا منافاة، لجواز أنهم كانوا يفعلون هذا مرة وهذا أخرى، أو بعضهم
يفعل أحد الأمرين وبعضهم يفعل الآخر، وكان منهم عامر بن فهيرة رضي الله
تعالى عنه.
وكتب صلى الله عليه وسلم لهم كتابا فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين
أرض بني عامر وحرة بني سليم، والحرة: أرض فيها حجارة سود، فلما نزلوها
بعثوا حرام، بالحاء المهملة والراء، ابن ملحان وهو خال أنس بن مالك بكتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّ الله عامر بن الطفيل لعنه الله. أي
وهو رأس بني سليم. وفي لفظ سيد بني عامر وابن أخي أبي براء عامر بن مالك
كما تقدم، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، أي بعد أن قال:
يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، فآمنوا
بالله ورسوله، فجاء إليه رجل من خلفه قطعنه بالرمح في جنبه حتى نفذ من جنبه
الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، وقال: بالدم هكذا فنضحه على وجهه
ورأسه، ثم استصرخ عليهم: أي استغاث بني عامر. فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم
إليه، وقالوا: إنا لن نخفر بأبي براء: أي لا نزيل خفارته وتنقض عهده، وقد
عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم. قال الحافظ الدمياطي:
عصية ورعلا وذكوان زاد بعضهم: وبني لحيان، قال بعضهم: وليس في محله.
(3/241)
أقول: كان قائله سرى إليه ذلك من كونه صلى
الله عليه وسلم جمع بني لحيان في الدعاء عليهم مع من ذكر قبله. وسيأتي أنه
إنما جمعهم معهم لأن خبر أصحاب الرجيع وأصحاب بئر معونة جاءه صلى الله عليه
وسلم في يوم واحد وبنو لحيان أصحاب الرجيع، فدعا عليهم دعاء واحدا، والله
أعلم، فلما دعا تلك القبائل الثلاثة التي هي عصية ورعل وذكوان أجابوه إلى
ذلك، ثم خرجوا حتى أحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم
حتى قتلوا إلى آخرهم إلا كعب بن زيد رضي الله تعالى عنه، فإنه بقي به رمق،
وحمل من المعركة، فعاش بعد ذلك حتى قتل يوم الخندق شهيدا، وإلا عمرو بن
أمية الضمري رضي الله تعالى عنه ورجلا آخر كانا في سرح القوم، لما أحاطوا
بهم قالوا: اللهم إنا لا نجد من يبلغ رسولك عنا السلام غيرك، فأقرأه منا
السلام، فأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال: وعليهم السلام.
أي وفي لفظ أنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنا قد
لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا فلما جاءه الخبر من السماء قام صلى الله عليه
وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إخوانكم قد لقوا المشركين، وقتلوهم،
وإنهم قالوا: ربنا بلغ قومنا أنا قد لقينا ربنا ورضينا عنه ورضي عنا ربنا.
وفي لفظ: فرضي عنا وأرضانا فأنا رسولهم إليكم إنهم قد رضوا عنه ورضي عنهم.
وذكر أنس رضي الله عنه أن ذلك: أي قولهم المذكور كان قرآنا يتلى، ثم نسخت
تلاوته، أي فصار ليس له حكم القرآن من التعبد بتلاوته وأنه لا يمسه إلا
الطاهر ولا يتلى في صلاة إلى غير ذلك من أحكام القرآن.
ولما رأى عمرو بن أمية والرجل الذي معه الطير تحوم على محل أصحابهما، أي
وكانا في رعاية إبل القوم كما تقدم، قالا والله إن لهذا الطير لشأنا،
فأقبلا ينظران، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال
الرجل الذي مع عمرو: ماذا ترى؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه
وسلم فنخبره الخبر، فقال له لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه
المنذر بن عمرو، فأقبلا فلقيا القوم، فقتل ذلك الرجل وأسر عمرو، فأخبرهم
أنه من مضر. فأخذه عامر بن الطفيل وجز ناصيته. وأعتقه عن رقبة كانت على
أمه. فخرج عمرو حتى جاء إلى ظل فجلس فيه.
فأقبل رجلان حتى نزلا به معه، فسألهما فأخبراه أنهما من بني عامر، وفي لفظ
من بني سليم وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم به
عمرو. فأمهلهما حتى ناما فعدا عليهما فقتلهما وهو يرى أي يظن أنه قد أصاب
بهما ثأرا من بني عامر، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخبره الخبر وأخبره بقتل الرجلين، فقال له: لقد قتلت قتيلين لأدينهما: أي
لأدفعن ديتهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عمل أبي براء. قد
كنت لهذا كارها متخوفا. ولما بلغ أبا براء أن عامر بن الطفيل ولد أخيه
(3/242)
أزال خفارته شق عليه ذلك وشق عليه ما أصاب
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه فعند ذلك حمل ربيعة بن أبي براء
على عامر بن الطفيل، أي الذي هو ابن عمه فطعنه بالرمح فوقع في فخذه ووقع عن
فرسه، وقال: إن أنا مت فدمي لعمي يعني أبا براء، وإن أعش فسأرى رأيي، أي
وفي لفظ: نظرت في أمري.
وفي الإصابة أن ربيعة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
أيغسل عن أبي هذه العذرة أن أضرب عامر بن الطفيل ضربة أو طعنة، قال نعم
فرجع ربيعة فضرب عامرا ضربة أشواه منها فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر بن
الطفيل اقتص، فقال قد عفوت. أي وعقب ذلك مات أبو براء أسفا على ما صنع به
ابن أخيه عامر بن الطفيل من إزالته خفارته، وعاش عامر بن الطفيل ولم يمت من
هذه الطعنة، بل مات بالطاعون بدعائه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في
الوفود في وفد بني عامر.
أي وقال بعضهم: قد أخطأ المستغفري في عده صحابيا، ولما قتل عامر بن فهيرة
رضي الله تعالى عنه رفع إلى السماء، فلما رأى قاتله ذلك أسلم، أي وهو جبار
بن سلمى، أي لا عامر بن الطفيل كما وقع في بعض الروايات، كما علمت.
وقال صلى الله عليه وسلم أي لما بلغه قتل عامر بن فهيرة: «إن الملائكة وارت
جثة عامر بن فهيرة» أي في الأرض: أي بناء على أنه لما رفع إلى السماء وضع
كما في البخاري، فقد جاء أن عامر بن الطفيل، قال لعمرو بن أمية رضي الله
تعالى عنه وأشار إلى قتيل من هذا، فقال له عمرو هذا عامر بن فهيرة، فقال
لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء وبين الأرض
ثم وضع.
وفي بعض الروايات أن عامر بن فهيرة التمس في القتلى يومئذ، أي فلم يوجد
فيرون أن الملائكة رفعته، وظاهرها أن الملائكة لم تضعه في الأرض بل رفعته،
أي ويؤيده أن عامر بن الطفيل لعنه الله دخل بعمرو بن أمية رضي الله تعالى
عنه في القتلى، وصار يقول له ما اسم هذا، ما اسم هذا، ما اسم هذا؟ ثم قال
له هل من أصحابك من ليس فيهم؟ قال نعم، ما رأيت فيهم عامر بن فهيرة مولى
أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، قال له عامر: أي رجل هو فيكم؟ قال:
من أفضلنا وأولى، أي ومن أولى المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال له عامر: لما قتل رأيته رفع إلى السماء.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة، ومكث يدعو عليهم ثلاثين
صباحا.
أقول: وفي رواية الشيخين قنت شهرا أي متتابعا يدعو على قاتلي أصحاب بئر
معونة، أي بعد الاعتدال في الصلوات الخمس من الركعة الأخيرة وحينئذ يكون
(3/243)
المراد بالصباح اليوم وليلته.
وذكر بعض أصحابنا أنه صلى الله عليه وسلم: «كان يرفع يديه في الدعاء
المذكور وقاس عليه رفعهما في قنوت الصبح» وروى الحاكم أنه صلى الله عليه
وسلم كان يرفع يديه في قنوت الصبح.
واستدل أصحابنا على استحباب القنوت للنازلة في سائر المكتوبات بقنوته
ودعائه على قاتلي أصحاب بئر معونة.
وفي بعض السير: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهرا عليهم في صلاة الغداة.
وفي لفظ يدعو في الصبح، وذلك بدء القنوت، وما كان يقنت رواه الشيخان.
وقد سئل الجلال السيوطي هل دعاؤه صلى الله عليه وسلم على من قتل أصحابه كان
عقب فراغه من القنوت المشهور أو كان الدعاء هو قنوته؟ فأجاب رحمه الله بأنه
لم يقف على شيء من الأحاديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين القنوت
والدعاء، قال: بل ظاهر الأحاديث أنه اقتصر على الدعاء، أي فيكون قنوته هو
الدعاء، وهو الموافق لقول أصحابنا. ويستحب القنوت في اعتدال آخرة صبح مطلقا
وآخر سائر المكتوبات أي باقيها للنازلة وهو: اللهم اهدنا الخ في أن أل في
القنوت للعهد والله أعلم.
وفي رواية أنه يدعو على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين، أي بئر معونة
والرجيع دعاء واحدا، لأنه صلى الله عليه وسلم جاءه خبرهما في وقت واحد كما
تقدم، وأدمج البخاري رحمه الله بئر معونة مع بعث الرجيع لقربهما في الزمن،
أي ففيه مكث صلى الله عليه وسلم يدعو على أحياء من العرب على رعل وذكوان
وعصية وبني لحيان، أي وهو يقتضي أنهما شيء واحد وليس كذلك، وقد علمت أن بني
لحيان قتلوا أصحاب الرجيع ومن قبلهم قتلوا أصحاب بئر معونة، والله سبحانه
وتعالى أعلم.
سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء
بالقاف المفتوحة وبالطاء المهملة، وهم بنو بكر بن كلاب.
بعث صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى القرطاء في ثلاثين راكبا أي
وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل
وكمن النهار، قال: وصادف في طريقه ركبانا نازلين، فأرسل إليهم رجلا من
أصحابه يسأل من هم؟ فذهب الرجل ثم رجع إليه، فقال: قوم من محارب، فنزل
قريبا منهم، ثم أمهلهم حتى عطنوا: أي بركوا الإبل حول الماء، أغار عليهم،
فقتل نفرا منهم أي عشرة وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، ولم يتعرض للظعن أي
النساء انتهى ثم انطلق حتى إذا كان بموضع يطلعه على بني بكر بعث عابد بن
بشير إليهم وخرج محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه في أصحابه فشن عليهم
الغارة، فقتل منهم عشرة واستاقوا النعم
(3/244)
والشاء، ثم انحدر رضي الله تعالى عنه إلى
المدينة فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به وعدل الجزور بعشرة من
الغنم، وكان النعم مائة وخمسين بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وأخذت تلك
السرية ثمامة بن أثال الحنفي من بني حنيفة أي سيد أهل اليمامة وهم لا
يعرفونه، وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: أتدرون من
أخذتم، هذا ثمامة بن أثال الحنفي، فأحسنوا إساره أي قيده فربط بسارية من
سواري المسجد.
قال: وقيل إن هذه السرية لم تأخذه بل دخل المدينة وهو يريد مكة للعمرة
فتحير في المدينة، وقد كان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا من
عند مسيلمة وأراد اغتياله صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه أن يمكنه منه، فأخذ
وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربط بسارية من سواري المسجد،
فدخل صلى الله عليه وسلم على أهله فقال اجمعوا ما كان عندكم من طعام
فابعثوا به إليه، وأمر له صلى الله عليه وسلم بناقة يأتيه لبنها مساء
وصباحا، وكان ذلك لا يقع عند ثمامة موقعا من كفايته: أي وجاء إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك يا ثمام:
هل أمكن الله منك؟ فقال: قد كان ذلك يا محمد. وصار رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأتيه فيقول:
ما عندك يا ثمامة، فيقول: يا محمد عندي خير، إن تقتل تقتل ذا كرم. وفي لفظ:
ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ففعل
ذلك معه، ثلاثة أيام، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فجعلنا أيها
المساكين أي أصحاب الصفة نقول: نبينا صلى الله عليه وسلم ما يصنع بدم
ثمامة، والله لأكله جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة.
وفي الاستيعاب أنه صلى الله عليه وسلم انصرف عن ثمامة وهو يقول: اللهم أكلة
لحم من جزور أحب إليّ من دم ثمامة، ثم أمر به فأطلق، ثم إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في اليوم الثالث قال: أطلقوا ثمامة فقد عفوت عنك يا ثمامة،
فأطلق، فانطلق إلى ماء جار قريب من المسجد فاغتسل وطهر ثيابه، ثم دخل
المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أي وهذا يخالف ما ذكره فقهاؤنا من الاستدلال بقصة ثمامة على أنه يستحب لمن
أسلم أن يغتسل لإسلامه، ثم رأيت بعض متأخري أصحابنا أجاب بأنه أسلم أولا،
ثم لما اغتسل أظهر إسلامه.
وفي الاستيعاب: فأسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل كما في
رواية أخرى أنه قال: يا محمد والله على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد
أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إليّ
من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ
من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إليّ، ثم شهد شهادة الحق، فلما أمسى جيء
له بما كان يأتيه من الطعام، فلم ينل منه إلا قليلا. ولم يصب من حلاب
اللقحة إلا يسيرا،
(3/245)
فعجب المسلمون. قال وقال: يا رسول الله إني
خرجت معتمرا، وفي لفظ في الصحيح: فإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا
ترى؟ فأمره أن يعتمر، فلما قدم بطن مكة لبى، فكان أول من دخل مكة ملبيا،
فأخذته قريش، فقالوا: لقد اجترأت علينا، أنت صبوت يا ثمامة. قال: أسلمت
وتبعت خير دين محمد، والله لا يصل إليكم حبة من حنطة: أي من اليمامة من أرض
اليمن، وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقدموه ليضربوا عنقه، فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة
فخلوا سبيله، فخرج ثمامة إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى
أضرّبهم الجوع، وأكلت قريش العلهز وهو الدم يخلط بأوبار الإبل فيشوى على
النار كما تقدم، فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تزعم
أنك بعثت رحمة للعالمين، فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، إنك تأمر
بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
ثمامة رضي الله تعالى عنه أن يخلي بينهم وبين الحمل. وفي لفظ: خلّ بين قومي
وبين ميرتهم، ففعل، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ
[المؤمنون: الآية 76] الآية.
هذا والذي في الاستيعاب أن ثمامة لما دخل مكة وقد سمع المشركون خبره،
فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين أبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني
أقسمت برب هذه البنية يعني الكعبة لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون
به حتى تتبعوا محمدا من آخركم، وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم
خرج رضي الله تعالى عنه فمنع عنهم ما كان يأتي منها. فلما أضرّ بهم ذلك
كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم
وتحث عليها وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضرّ بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه
أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أن خل بين قومي وبين ميرتهم.
ولما عجب المسلمون من أكله بعد إسلامه رضي الله تعالى عنه، لكونه دون أكله
قبل إسلامه قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تعجبون؟ أمن رجل أكل
أول النهار في معى كافر وأكل آخر النهار في معى مسلم، إن الكافر ليأكل في
سبعة أمعاء، وإن المسلم يأكل في معى واحد اه.
أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم ذلك مع جهجهاه الغفاري رضي الله تعالى
عنه فإنه أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر فأكثر، ثم أكل معه وقد
أسلم فأقل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معى واحد،
والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب، ثم رأيت في
الجامع الصغير: «إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء والمسلم يشرب في معى واحد»
والمراد أنه يأكل ويشرب مثل الذي يأكل ويشرب في سبعة أمعاء.
(3/246)
وكان رضي الله تعالى عنه مقيما باليمامة،
ولما ارتد أهل اليمامة ثبت ثمامة في قومه على الإسلام، وكان ينهاهم عن
اتباع مسيلمة لعنه الله، ويقول لهم: إياكم وأمرا مظلما لا نور فيه، وإنه
لشقاء كتبه الله على من اتبعه منكم.
سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى
الغمر
بفتح الغين المعجمة وسكون الميم والراء: ماء لبني أسد: أي جمع من بني أسد:
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله تعالى عنه
في أربعين رجلا منهم ثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه، وقيل إن ثابتا رضي
الله تعالى عنه هو الذي كان الأمير على هذه السرية، فخرج يسرع في السير إلى
أن وصل إلى الماء المذكور، فوجد القوم علموا بهم فهربوا ولم يجدوا في دارهم
أحدا، فبعث شجاع بن وهب طليعة يطلب خبرا ويرى أثرا فأخبر أنه رأى أثر نعم
قريبا، فخرجوا فوجدوا رجلا نائما، فسألوه عن خبر الناس: فقال: وأين الناس،
لقد لحقوا بعليات بلادهم، قالوا: فالنعم؟ قال: معهم، فضربه به أحدهم بسوط
في يده، فقال: تؤمنوني على دمي وأطلعكم على نعم لبني عم له لم يعلموا
بمسيركم إليهم، قالوا نعم، فأمنوه فانطلقوا معه، فأمعن: أي بالغ في الطلب
حتى خافوا أن يكون ذلك غدرا منه لهم.
فقالوا: والله لتصدقنا أو لنضربن عنقك، فقال: تطلعون عليهم من هذا المحل،
فلما طلعوا منه وجدوا نعما رواتع، فأغاروا عليها، فاستاقوها، فإذا هي مائة
بعير وشردت الأعراب في كل وجه ولم يطلبوهم، وانحدروا إلى المدينة بتلك
الإبل، وأطلقوا الرجل الذي أمنوه، والله أعلم.
سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذي
القصة
بفتح القاف والصاد المهملة المشددة، وهو موضع قريب من المدينة.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة نفر لبني ثعلبة
وبني عوال من ثعلبة بذي القصة، فورد عليهم ليلا، فكمن القوم وهم مائة رجل
لمحمد بن مسلمة وأصحابه، وأمهلوهم حتى ناموا وأحدقوا بهم: أي فما شعروا إلا
وقد خالطهم القوم، فوثب محمد بن مسلمة فصاح في أصحابه: السلاح، فوثبوا
وتراموا ساعة، ثم حمل القوم عليهم بالرماح فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة
جريحا، فضربوا كعبه فلم يتحرك فظنوا موته، فجردوه من الثياب وانطلقوا، ومر
بمحمد وأصحابه رجل من المسلمين فاسترجع، فلما سمعه محمد رضي الله تعالى عنه
يسترجع تحرك له، فأخذه
(3/247)
وحمله إلى المدينة. فعند ذلك بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارعهم فلم
يجدوا أحدا. ووجدوا نعما وشاء، فانحدروا بها إلى المدينة.
سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه
إلى ذي القصة أيضا
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه
في أربعين رجلا إلى من بذي القصة: فإنه بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم
يريدون أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى يومئذ بمحل بينه وبين المدينة
سبعة أميال فصلوا المغرب، ومشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح،
فأغاروا عليهم: فأعجزوهم هربا في الجبال:
وأسروا رجلا واحدا، وأخذوا نعما من نعمهم، ورثة: أي ثيابا خلقة من متاعهم،
وقدموا بذلك إلى المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم
الرجل، فتركه صلى الله عليه وسلم.
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني
سليم بالجموح
بفتح الجيم، وهو اسم لناحية من بطن نخل.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بني سليم، بالجموح،
فسار حتى ورد ذلك المحل. فأصابوا امرأة من مزينة فدلتهم على محلة من محال
القوم، فأصابوا في تلك المحلة إبلا وشاء، وأسروا منها جماعة من جملتهم زوج
تلك المرأة، وانحدروا بذلك إلى المدينة، فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لتلك المرأة نفسها وزوجها.
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى
العيص
وهو محل بينه وبين المدينة أربع ليال.
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فبعث
زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب ليعترضها، أي وكان فيها أبو العاص بن
الربيع، وقدم به وبتلك العير المدينة، فاستجار أبو العاص بزوجته زينب رضي
الله تعالى عنها، فأجارته ونادت في الناس حين صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم الفجر: أي دخل في الصلاة هو وأصحابه، فقالت: أيها الناس إني قد أجرت
أبا العاص بن الربيع، فقال رسول الله
(3/248)
صلى الله عليه وسلم: أي لما سلم وأقبل على
الناس وقال: هل سمعتم ما سمعت؟ قالو نعم، قال:
أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من هذا، أي ثم انصرف صلى الله عليه وسلم
فدخل على ابنته وقال: قد أجرنا من أجرت. قال: وقال صلى الله عليه وسلم:
«المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم» أي وفي الصحيحين: «ذمة
المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما» أي أزال خفارته: أي نقض
جواره وعهده «فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ثم دخلت عليه صلى
الله عليه وسلم زينب رضي الله تعالى عنها فسألته أن يرد على أبي العاص ما
أخذ منه، فأجابها إلى ذلك، وقال لها صلى الله عليه وسلم: «أي بنية أكرمي
مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له» : أي لتحريم نكاح المؤمنات على
المشركين أي كما تقدم في الحديبية.
وبعث صلى الله عليه وسلم للسرية فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم،
وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم
فهو فيء الله الذي فاء عليكم، فأنتم أحق به، فقالوا: يا رسول الله بل نرد
عليه، فرد عليه ما أخذ منه.
وهذا السياق يدل على أن ذلك كان قبل صلح الحديبية ووقوع الهدنة، لأن بعد
ذلك لم تتعرض سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش، وهو يخالف قوله
صلى الله عليه وسلم لها: «لا يخلص إليك، لأن تحريم نكاح المؤمنات على
المشركين إنما كان في الحديبية» .
وقد ذكر بعضهم أن ذلك كان قبيل الفتح سنة ثمان، ومن ثم ذكر الزهري وتبعه
ابن عقبة رحمهما الله تعالى أن الذين أخذوا هذا العير وأسروا من فيها أبو
بصير وأبو جندل وأصحابهما رضي الله تعالى عنهم، لأنهم كانوا في مدة صلح
الحديبية، من شأنهم أن كل عير مرت بهم لقريش أخذوها بغير معرفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فلما أخذوا هذه العير خلوا سبيل أبي العاص
لكونه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل أعجزهم هربا، وجاء تحت الليل
فدخل على زوجته زينب رضي الله تعالى عنها فاستجار بها فأجارته، ثم كلمها في
أصحابه الذين أسروا، فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فخطب
الناس وقال: إنا صاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه، وإنه قد أقبل من
الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأسروهم، وأخذوا ما
كان معهم، وأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم فهل
أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟ فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأبا
بصير وأصحابهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا الأسرى، وردوا عليهم
كل شيء حتى العقال.
وصوّب في الهدى هذا الذي ذكره الزهري، أي لما علمت أن مما يؤيد ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم لبنته زينب: ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له، لأن تحريم
نكاح المؤمنات على المشركين إنما كان بعد الحديبية.
(3/249)
وذكر أن المسلمين قالوا لأبي العاص: يا أبا
العاص إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي
لأنه يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف، فهل لك أن تسلم
فتغنم ما معك من أموال أهل مكة، فقال: بئسما أمرتموني أفتتح ديني بغدره: أي
بالغدر وعدم الوفاء، ثم ذهب أبو العاص إلى أهل مكة فأدى كل ذي حقّ حقه، ثم
قام فقال: يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم مال لم يأخذه، هل وفيت ذمتي؟ فقالوا
اللهم نعم، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما، فقال: إني أشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني عن الإسلام عنده إلا
خشية أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم.
ثم خرج حتى قدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد له رسول الله
صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله تعالى عنها على النكاح الأول ولم يحدث
نكاحا، وذلك بعد ست سنين وقيل بعد سنة واحدة انتهى.
أقول: وفي رواية بعد سنتين. والمتبادر أن السنة أو السنتين من إسلامها
دونه، وهو مخالف لما عليه أهل العلم من أنه لا بد أن يجتمع الزوجان في
الإسلام والعدة، ومن ثم قالت طائفة منهم الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده
بأس، ولكن لا يعرف وجهه.
وفي كلام بعض الحفاظ: يمكن أن يقال قوله بعد ست سنين ولم يقل من إسلامها
دونه صيره مجهول تاريخ الابتداء فلا يصح الاستدلال به.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ
بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. قال بعضهم: وهذا
في إسناده مقال، وقال غيره: هذا حديث ضعيف، وقال آخر: لا يثبت» والحديث
الصحيح إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول.
وقال ابن عبد البر: حديث أنه صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول
متروك لا يعمل به عند الجميع. وحديث ردها بنكاح جديد عندنا صحيح يعضده
الأصول، وإن صح الأول أريد به على الصداق الأول وهو حمل حسن، هذا كلامه.
قال بعضهم: تصحيح ابن عبد البر لحديث إنه ردها بنكاح جديد مخالف لكلام أئمة
الحديث كالبخاري وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان والدارقطني والبيهقي
وغيرهم، هذا كلامه.
وفي كون زينب رضي الله تعالى عنها كانت مشركة وأسلمت قبل زوجها المشعر به
قول بعضهم ولم يقل من إسلامها نظر، لأنها اتبعت ما بعث به أبوها صلى الله
عليه وسلم من غير تقدم شرك منها.
(3/250)
لا يقال: فحيث كانت مسلمة فكيف زوّجها من
أبي العاص وهو كافر. لأنا نقول على فرض أنه صلى الله عليه وسلم زوّجها له
بعد البعث فقد زوجها له قبل نزول قوله تعالى:
وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة: الآية 221] لأن
تلك الآية نزلت بعد صلح الحديبية كما علمت. على أن ابن سعد ذكر أنه صلى
الله عليه وسلم زوّجها له في الجاهلية: أي قبل البعثة، والله أعلم.
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى
بني ثعلبة
أي بالطرف ككتف: اسم ماء.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر
رجلا: أي بالطرف، فأصاب عشرين بعيرا وشاء، واقتصر الحافظ الدمياطي على
النعم، ولم يذكر الشاء ولم يجد أحدا، لأنهم ظنوا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سار إليهم، فصبح زيد رضي الله تعالى عنه بالنعم والشاء المدينة،
أي وقد خرجوا في طلبه فأعجزهم وكان شعارهم الذي يتعارفون به في ظلمة الليل
«أمت أمت» .
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى
جذام
محل يقال له حسمى بكسر الحاء المهملة وسكون السين على وزن فعلى. وهو موضع
وراء وادي القرى، يقال إن الطوفان أقام بذلك المحل بعد نضوبه: أي ذهابه
ثمانين سنة.
وسببها أن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه أقبل من عند قيصر ملك الروم، أي
وكان صلى الله عليه وسلم وجهه إليه كذا قيل، ولعله من تصرف بعض الرواة، أو
أنه أرسله إليه بغير كتاب، وإلا فإرساله إليه بالكتاب كان بعد هذه السرية،
لأنه كان بعد الحديبية.
ولما وصل رضي الله تعالى عنه إليه أجازه بمال وكساء فأقبل بذلك إلى أن وصل
ذلك المحل، فلقيه الهنيد وابنه في ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق وسلبوه
ما معه، ولم يتركوا عليه إلا ثوبا خلقا، فسمع بذلك نفر من جذام من بني
الضبيب:
أي ممن أسلم منهم فنفروا إليهم، واستنفذوا لدحية رضي الله تعالى عنه ما أخذ
منه، وقدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن
حارثة في خمسمائة رجل وردّ معه دحية، وكان زيد رضي الله تعالى عنه يسير
بالليل ويكمن بالنهار ومعه دليل من بني عذرة فأقبل حتى هجم على القوم: أي
على الهنيد وابنه ومن كان معهم مع الصبح، فقتلوا الهنيد وابنه ومن كان
معهم، وأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، ومن السبي مائة من
النساء والصبيان. قال: ولما سمع بنو الضبيب بما
(3/251)
صنع زيد رضي الله تعالى عنه ركبوا وجاؤوا
إلى زيد وقال له رجل منهم: إنا قوم مسلمون، فقال له زيد اقرأ أمّ الكتاب
فقرأها، ثم قدم منهم جماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر
وقال بعضهم: يا رسول الله لا تحرم علينا حلالا، ولا تحل لنا حراما، فقال:
كيف أصنع بالقتلى؟ فقال: أطلق لنا من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، فقالوا: ابعث معنا رجلا لزيد رضي
الله تعالى عنه، فبعث صلى الله عليه وسلم معهم عليا كرم الله وجهه يأمر
زيدا أن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم، أي فقال عليّ: يا رسول الله إن
زيدا لا يطيعني، فقال: خذ سيفي هذا، فأخذه وتوجه، فلقي علي كرم الله وجهه
رجلا أرسله زيد رضي الله تعالى عنه مبشرا على ناقة من إبل القوم، فردها علي
كرم الله وجهه على القوم، وأردفه خلفه، ولقي زيدا فأبلغه أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم. قال: وعند ذلك قال له زيد، ما علامة ذلك؟
فقال: هذا سيفه صلى الله عليه وسلم فعرف زيد السيف وصاح بالناس فاجتمعوا،
فقال: من كان معه شيء فليرده، فهذا سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد
الناس كافة كل ما أخذوه انتهى.
أقول: وهذا السياق يدل على أن جميع ما أخذه من النعم والشاء والسبي كان لمن
أسلم من جذام من بني الضبيب، وإن بعض من قتل مع الهنيد وابنه كان مسلما،
وفي ذلك من البعد ما لا يخفى، والله أعلم.
سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله
عنه لبني فزارة كما في صحيح مسلم بوادي القرى
عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فزارة وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح
أمرنا فشنينا الغارة فوردنا الماء. فقتل أبو بكر: أي جيشه من قتل، ورأيت
طائفة منهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فأدركتهم ورميت بسهم
بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة: أي وهي أم قرفة
عليها قشع من أدم: أي فروة خلقة معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم
أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر رضي الله تعالى عنه ابنتها، فلم أكشف
لها ثوبا، فقدمنا المدينة، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا
سلمة هب لي المرأة لله أبوك: أي أبوك لله خالصا حيث أنجب بك وأتى بمثلك،
يقال ذلك في مقام المدح والتعجب: أي وقد كان وصف له صلى الله عليه وسلم
جمالها، فقلت: هي لك يا رسول الله، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى مكة ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين.
وفي لفظ: فدى بها أسيرا كان في قريش من المسلمين، كذا ذكر الأصل أن
(3/252)
أمير هذه السرية: أي التي أصابت أم قرفة
أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وأنه الذي في مسلم.
وذكر في الأصل قبل ذلك عن ابن إسحاق وابن سعد أن أمير هذه السرية، أي التي
أصابت أم قرفة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما، وأنه لقي بني فزارة
وأصيب بها ناس من أصحابه، وانفلت زيد من بين القتلى: أي احتمل جريحا وبه
رمق، فلما قدم زيد رضي الله تعالى عنه نذر أن لا يمس رأسه غسل من الجنابة
حتى يغزو بني فزارة، فلما عوفي أرسله صلى الله عليه وسلم إليهم، فكمنوا
النهار وساروا الليل حتى أحاطوا بهم، وكبروا وأخذوا أم قرفة وكانت أم قرفة
في شرف من قومها، وكان يعلق في بيتها خمسون سيفا كلهم لها محرم، وكان لها
اثنا عشر ولدا. ومن ثم كانت العرب تضرب بها المثل في العزة، فتقول: لو كنت
أعز من أم قرفة، فأمر زيد بن حارثة أن تقتل أم قرفة، أي لأنها كانت تسب
النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء أنها جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها وقالت لهم: اغزوا المدينة
واقتلوا محمدا، لكن قال بعضهم: إنه خبر منكر فربط برجليها حبلين ثم ربطا
إلى بعيرين وزجرهما، أي وقيل إلى فرسين، فركضا فشقاها نصفين، وقرفة ولدها
هذا الذي تكنى به قتله النبي صلى الله عليه وسلم وبقية أولادها قتلوا مع
أهل الردة في خلافة الصديق فلا خير فيها ولا في بنيها، ثم قدموا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة، وذكر له صلى الله عليه وسلم
جمالها، فقال صلى الله عليه وسلم لابن الأكوع: يا سلمة ما جارية أصبتها،
قال: يا رسول الله جارية رجوت أن أفدي بها امرأة منا في بني فزارة: فأعاد
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام مرتين أو ثلاثا، فعرف سلمة أنه صلى
الله عليه وسلم يريدها، فوهبها النبي صلى الله عليه وسلم لخاله حزن بن أبي
وهب بن عمرو بن عائذ بمكة، وكان أحد الأشراف، فولدت له عبد الرحمن بن حزن،
وإنما قيل لحزن خاله لأن فاطمة أم أبي النبي صلى الله عليه وسلم هي بنت
عائذ كما تقدم، وعائذ جد حزن لأبيه، وفي لفظ بنت عمرو بن عائذ.
وفي كلام السهيلي أن رواية الفداء لمن كان أسيرا بمكة أصح من رواية أنه صلى
الله عليه وسلم وهبها لخاله حزن.
وجمع الشمس الشامي بين الروايتين حيث قال: يحتمل أنهما سريتان اتفق لسلمة
بن الأكوع فيهما ذلك، أي إحداهما لأبي بكر، والأخرى لزيد بن حارثة، ويؤيد
ذلك أن في سرية أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ببنت أم قرفة
إلى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين. أي وفي سرية زيد وهبها
لخاله حزن بمكة.
قال: ولم أر من تعرض لتحرير ذلك انتهى.
أقول: في هذا الجمع نظر، لأنه يقتضي أن أم قرفة تعددت، وأن كل واحدة كانت
لها بنت جميلة، وأن سلمة بن الأكوع أسرهما، وأنه صلى الله عليه وسلم أخذهما
منه، وفي
(3/253)
ذلك بعد، إلا أن يقال: لا تعدد لأم قرفة
وتسمية المرأة في سرية أبي بكر أم قرفة وهم من بعض الرواة. ويدل عليه أن
بعضهم أوردها ولم يسم المرأة أم قرفة، بل قال فيهم امرأة من بني فزارة معها
ابنة لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر بنتها فقدمنا المدينة وما كشفت لها
ثوبا، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق مرتين في يومين، فقال:
يا سلمة هبني المرأة، فقلت: هي لك، فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناسا كانوا
أسرى بمكة.
ثم لا يخفى أن ما ذكره الأصل عن ابن إسحاق وابن سعد من أنه صلى الله عليه
وسلم أرسل زيد بن حارثة إلى وادي القرى، أي غازيا لبني فزارة، وأنه لقيهم
وأصيب بها ناس من أصحابه، وأفلت زيد من بين القتلى جريحا الخ يخالفه ما ذكر
عن ابن سعد مما يقتضي أن زيد بن حارثة في هذه لم يكن غازيا، بل كان تاجرا،
وأنه لم يرسل لبني فزارة وإنما اجتاز بهم فقاتلوه.
والمذكور عن ابن سعد ما نصه: قالوا: خرج زيد بن حارثة في تجارة إلى الشام
ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان دون وادي القرى لقيه
ناس من فزارة فضربوه وضربوا أصحابه، أي فظنوا أنهم قد قتلوا وأخذوا ما كان
معهم، فقدموا المدينة، ونذر زيد أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني
فزارة، فلما خلص من جراحته بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية لهم،
وقال لهم: اكمنوا النهار وسيروا الليل، فخرج بهم دليل من بني فزارة وقد نزر
بهم القوم، فكانوا يجعلون له ناظورا حين يصبحون فينظر على جبل يشرف على وجه
الطريق الذي يرون أن المسلمين يأتون منه، فينظر قدر مسيرة يوم، فيقول
اسرحوا فلا بأس عليكم، فإذا أمسوا أشرف ذلك الناظر على ذلك الجبل فينظر
مسيرة ليلة، فيقول ناموا فلا بأس عليكم في هذه الليلة، فلما كان زيد بن
حارثة وأصحابه على نحو مسيرة ليلة أخطأ بهم الدليل الفزاري طريقهم، فأخذ
بهم طريقا أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ، فعاينوا الحاضر من بني فزارة،
فحمدوا خطأهم فكمن لهم في الليل حتى أصبحوا فأحاطوا بهم ثم كبر زيد وكبر
أصحابه إلى آخر ما تقدم.
ولما قدم زيد بن حارثة المدينة جاء إليه صلى الله عليه وسلم وقرع عليه
الباب، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه واعتنقه
وقبله، وسأله فأخبره بما ظفره الله تعالى به.
وحينئذ يشكل قوله في الأصل: ثبت عن ابن سعد أن لزيد بن حارثة سريتين بوادي
القرى. إحداهما في رجب والأخرى في رمضان، فإنه بظاهرة يقتضي أنه أرسل غازيا
في المرتين لبني فزارة بوادي القرى.
وقد علمت أن كلام ابن سعد يدل على أن زيد بن حارثة في السرية الأولى إنما
كان تاجرا اجتاز ببني فزارة بوادي القرى.
وقد علمت أن كلام ابن سعد يدل على أن زيد بن حارثة في السرية الأولى إنما
كان تاجرا اجتاز ببني فزارة بوادي القرى فقاتلوه هو وأصحابه وأخذوا ما
معهم.
(3/254)
ثم رأيت الأصل تبع في ذلك شيخه الحافظ
الدمياطي حيث قال سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب: قالوا: بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا رضي الله تعالى عنه أميرا. ثم قال: سرية
زيد بن حارثة إلى أم قرفة بناحية وادي القرى في رمضان.
وفيه ما علمت.
ثم لا يخفى أن في هذا إطلاق السرية على الطائفة التي خرجت للتجارة ولا يختص
ذلك بمن خرج للقتال أو لتجسس الأخبار، وقد تقدم.
سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة
الجندل
بضم الدال المهملة وبفتحها، وأنكره ابن دريد لبني كلب.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه،
فأقعده بين يديه وعممه بيده، قال أي بعد أن قال له: تجهز فإني باعثك في
سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء الله تعالى. ثم أمره أن يسري من الليل
إلى دومة الجندل في سبعمائة وعسكروا خارج المدينة.
فلما كان وقت السحر جاء عبد الرحمن بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال:
أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وكان عليه عمامة من كرابيس: أي
غليظة قد لفها على رأسه، فنقضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم عممه
بعمامة سوداء وأرخى بين كتفيه منها أربع أصابع أو نحوا من ذلك. ثم قال:
هكذا يا بن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف.
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بلالا أن يدفع إليه اللواء فدفعه إليه، وقام صلى
الله عليه وسلم فحمد الله، ثم صلى على نفسه، ثم قال: خذه يا بن عوف انتهى،
وقال: اغز بسم الله وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغلّ، أي لا
تخن في المغنم ولا تغدر، أي لا تترك الوفاء، ولا تقتل وليدا وفي رواية: لا
تغلوا، ولا تغدروا، ولا تنكثوا، ولا تملوا، ولا تقتلوا وليدا: أي صبيا:
فهذا عهد الله وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فيكم ثم قال صلى الله عليه
وسلم له: إذا استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم، فسار عبد الرحمن بن عوف حتى
قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام وهم يأبون ويقولون:
لا نعطي إلا السيف. وفي اليوم الثالث أسلم رأسهم وملكهم الأصبغ بن عمرو
الكلبي وكان نصرانيا: قال في النور:
لم أجد أحدا ترجمه، والظاهر أنه ما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فهو
تابعي، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقر من أقام على كفره بإعطاء الجزية:
أي وأرسل رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه بذلك وأنه
يريد أن يتزوج فيهم. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج ببنت
الأصبغ، أي فتزوجها رضي الله تعالى عنه، وبنى بها عندهم، وقدم بها
(3/255)
المدينة، وهي أم ولده سلمة بن عبد الرحمن
بن عوف، وهي أول كلبية نكحها قرشي، ولم تلد غير سلمة وطلقها عبد الرحمن في
مرض موته ثلاثا ومتعها جارية سوداء، ومات وهي في العدة، وقيل بعد انقضاء
العدة فورّثها عثمان رضي الله تعالى عنه.
قال: وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «سرت
لأسمع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه،
فإذا فتى من الأنصار أقبل يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس،
فقال: يا رسول الله أيّ المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقا، ثم قال: وأي
المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا قبل أن ينزل
بهم، أولئك الأكياس. ثم سكت الفتى وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلت بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن،
إنه لن تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون
والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. وما نقص المكيال والميزان في
قوم إلا أخذهم الله بالسنين، ونقص من الثمرات، وشدة المؤنة، وجور السلطان
لعلهم يذكرون. وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عنهم قطر السماء ولولا
البهائم لم يسقوا وما نقض قوم عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوّا من
غيرهم، فأخذ ما كان في أيديهم. وما حكم قوم بغير كتاب الله إلا جعل الله
تعالى بأسهم بينهم» وفي رواية: «إلا ألبسهم الله شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض»
.
وفي الأصل ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن
الجراح رضي الله تعالى عنه لدومة الجندل في سرية. زاد في السيرة الشامية
على ذلك قوله: كما سيأتي.
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى
مدين
قرية سيدنا شعيب صلوات الله وسلامه عليه، وهي تجاه تبوك فأصاب سبيا، وفرقوا
في بيعهم بين الأمهات والأولاد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم
يبكون، فقال:
«ما لهم؟» فقيل: يا رسول الله فرق بينهم: أي بين الأمهات والأولاد، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوهم إلا جميعا» .
قال في الأصل: وكان مع زيد رضي الله تعالى عنه في هذه السرية ضميرة مولى
علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وكذا أخوه رضي الله تعالى عنه، وأخ له وهو
تابع في ذلك لابن هشام. وردّ بأن مولى عليّ هذا الذي هو ضميرة لم يذكر في
كتب الصحابة وكذا أخوه.
(3/256)
سرية أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك
وهي قرية بينها وبين المدينة ست ليال، أي وفي لفظ: ثلاث مراحل، وهي خراب
الآن. وفي الصحاح: فدك قرية بخيبر.
وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن لبني سعد جمعا يريدون أن يمدوا يهود
خيبر، وأن يجعلوا لهم تمر خيبر: أي ما يوجد من غلتها، فبعث إليهم عليا كرّم
الله وجهه في مائة رجل، فسار الليل وكمن النهار إلى أن نزلوا محلا بين خيبر
وفدك، فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم؟ أي فقال: لا علم لي، فشدوا عليه،
فأقر أنه عين: أي جاسوس لهم، وقال: أخبركم على أن تؤمنوني؟ فأمنوه، فدلهم،
فأغاروا عليهم وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، فعزل
علي كرّم الله وجهه صفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوحا: أي حلوبا
قريبة عهد بنتاج تدعى الحفدة بفتح الحاء وكسر الفاء وفتح الدال المهملة
لسرعة سيرها، ومنه في الدعاء: إليك نسعى ونحفد ثم عزل الخمس وقسم الباقي
على أصحابه.
أقول: قوله يريدون أن يمدوا يهود خيبر، يقتضي بظاهره أن ذلك كان عند محاصرة
خيبر أو عند إرادة ذلك، وفيه ما لا يخفى لما تقدم، والله أعلم.
سرية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إلى
أسير
بضم الهمزة وفتح السين، ويقال أسير بن رزام اليهودي بخيبر.
لما قتل الله أبا رافع بن سلام بن أبي الحقيق عظيم يهود خيبر كما تقدم،
أمروا عليهم أسير بن رزام، قال: ولما أمروه عليهم، قال لهم: إني صانع بمحمد
ما لم يصنعه أصحابي، فقالوا له: وما عسيت أن تصنع؟ قال: أسير في غطفان
فأجمعهم لحربه، قالوا: نعم ما رأيت، وكان ذلك قبل فتح خيبر انتهى.
فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجه إليه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر
سرا يسأل عن خبر أسير وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبره، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لذلك، فانتدب له
ثلاثون رجلا، وأمرّ عليهم عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، وقيل عبد
الله بن عتيك، فقدموا على أسير، فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا
له. قال: نعم ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، فقلنا إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك فطمع في
ذلك: أي واستشار يهود في
(3/257)
ذلك فأشاروا عليه بعدم الخروج وقالوا: ما
كان محمد ليستعمل رجلا من بني إسرائيل، قال: بلى قد ملّ الحرب.
قال في النور: هذا الكلام لا يناسب أن يقال قبل فتح خيبر، فالذي يظهر أنها
بعد فتح خيبر.
وأقول: يجوز أن يكون المراد باستعماله على خيبر المصالحة وترك القتال، ومن
ثم أجاب بقوله إنه صلى الله عليه وسلم: قد ملّ الحرب، والله أعلم.
فخرج، وخرج معه ثلاثون رجلا من يهود مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، قال
عبد الله بن أنيس، كنت رديفا لأسير، فكأنّ أسيرا ندم على خروجه معنا، فأهوى
بيده إلى سيفي، ففطنت بفتح الطاء له، وقلت أغدر عدوّ الله أغدر عدوّ الله
أغدر عدو الله ثلاثا؟ فضربته بالسيف فأطحت عامة فخذه فسقط، وكان بيده مخدش
من شوحط فضربني به على رأسي فشجني مأمومة، وملنا على أصحابه فقتلناهم إلا
رجلا واحدا أعجزنا جريا. ثم أقبلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فحدثناه الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد نجاكم الله من القوم
الظالمين وبصق في شجتي فلم تقح عليّ ولم تؤذني» .
قال: وفي رواية زيادة على ذلك، وهي وقطع لي قطعة من عصاه، فقال:
أمسك هذه معك علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم
القيامة متخصرا، فلما دفن عبد الله بن أنيس جعلت معه على جلده دون ثيابه
انتهى.
أقول: تقدم نظير ذلك لعبد الله بن أنيس هذا لما أرسله صلى الله عليه وسلم
لقتل سفيان بن خالد الهذلي وجاء برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيحتمل أن هذا وهم من بعض الرواة، ويحتمل تعدد الواقعة: أي أعطاه صلى الله
عليه وسلم عصاه أولا في تلك، وأعطاه أخرى ثانيا في هذه، وجعل العصا بين
جلده وكفنه، ولا مانع منه، لكن ربما تتشوف النفس للسؤال عن حكمة تكرير ذلك
لعبد الله بن أنيس وتخصيصه بهذه المنقبة دون بقية الصحابة، والله أعلم.
سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن
حريس رضي الله عنهما
بالحاء المهملة وكسر الراء وسين مهملة، وكل ما في الأنصار حريس بالسين
المهملة إلا الحريش فإنه بالشين المعجمة، وقيل بدله جبار بن صخر إلى أبي
سفيان بن حرب بمكة ليغتالاه.
وسببها أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قال لنفر من قريش: ألا أحد يغتال
لنا
(3/258)
محمدا فإنه يمشي في الأسواق وحده، فأتاه
رجل من الأعراب، وقال يعني نفسه: قد وجدت أجمع الرجال قلبا، وأشدهم بطشا،
وأسرعهم عدوا، فإذا أنت فديتني خرجت إليه حتى أغتاله فإن معي خنجرا بفتح
الخاء المعجمة كجناح النسر، وإني عارف بالطريق، فقال له: أنت صاحبنا،
فأعطاه بعيرا ونفقة، وقال له: اطو أمرك، وخرج ليلا إلى أن قدم المدينة، ثم
أقبل يسأل عن رسول الله فدل عليه، وكان صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عبد
الأشهل، فعقل راحلته وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى
الله عليه وسلم، قال: إن هذا يريد غدرا، والله حائل بينه وبين ما يريد،
فجاء ليجني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجذبه أسيد بن حضير رضي الله
تعالى عنه بداخلة إزاره: أي بحاشيته من داخل، فإذا بالخنجر فأخذ أسيد يخنقه
خنقا شديدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أصدقني، قال: وأنا آمن؟ قال: نعم، فأخبره بأمره فخلى عنه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأسلم، أي وقال: يا رسول الله ما كنت أخاف الرجال، فلما
رأيتك ذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم اطلعت على ما هممت به، فعلمت أنك على الحق،
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم.
فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ومن تقدم
إلى أبي سفيان بمكة. أي وذلك بعد قتل خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه وصلبه
على الخشبة.
ومضى عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن
أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فعرفه، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه لأنه
كان فاتكا في الجاهلية وقالوا: لم يأت عمرو بخير، واشتدّوا في طلبه.
قال: وفي رواية لما قدما مكة حبسا جمليهما ببعض الشعاب، ثم دخلا ليلا، فقال
له صاحبه: يا عمرو لو طفنا بالبيت وصلينا ركعتين ثم طلبنا أبا سفيان، فقال
له عمرو: إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، أي وإن القوم إذا تعشوا جلسوا على
أفنيتهم، فقال: كلا إن شاء الله، قال عمرو: فطفنا بالبيت وصلينا، ثم خرجنا
لطلب أبي سفيان، فلقيني رجل من قريش فعرفني، وقال: عمرو بن أمية فأخبر
قريشا بي، فهربت أنا وصاحبي انتهى أي وصعدنا الجبل، وخرجوا في طلبنا،
فدخلنا كهفا في الجبل، ولقي عمرو رجلا من قريش فقتله: أي قتل ذلك الرجل
عمرو، فلما أصبحنا، غدا رجل من قريش يقود فرسا ونحن في الغار، فقلت لصاحبي:
إن رآنا صاح بنا، فخرجت إليه ومعي خنجر أعددته لأبي سفيان فضربته على يده
فصاح صيحة أسمع أهل مكة، فجاء الناس يشتدّون فوجدوه بآخر رمق فقالوا: من
ضربك؟
قال عمرو بن أمية، وغلبه الموت فاحتملوه، فقلت لصاحبي، لما أمسينا: النجاء،
فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس الذين يحرسون خشبة خبيب بن
عدي رضي الله تعالى عنه، فقال أحدهم: لولا أن عمرو بن أمية بالمدينة
(3/259)
لقلت إنه هذا الماشي، فلما حاذيت الخشبة
شددت عليها، فحملتها واشتديت أنا وصاحبي فخرجوا وراءنا، فألقيت الخشبة
فغيبه الله عنهم، كذا في السيرة الهشامية.
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير والمقداد لإنزاله وأن الزبير
أنزله فابتلعته الأرض.
وتقدم عن ابن الجوزي مثل ما هنا من أن الذي أنزله عمرو بن أمية رضي الله
تعالى عنه، فيحتاج إلى الجمع على تقدير صحة الروايتين. ويقال إن عمرا قتل
رجلا آخر سمعه يقول:
ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولست أدين دين المسلمينا
ولقي رجلين بعثتهما قريش إلى المدينة يتجسسان لهم الخبر، فقتل أحدهما وأسر
الآخر ثم قدم رضي الله تعالى عنه المدينة، وجعل يخبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه
وقيل كرز بن جابر رضي الله تعالى عنه وعليه الأكثرون. ومن ثم اقتصر عليه
الحافظ الدمياطي، أي وقيل جرير بن عبد الله البجلي. ورد بأن إسلام جرير بن
عبد الله المذكور كان بعد هذه السرية بنحو أربع سنين إلى العرنيين.
وسببها أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر: أي ثمانية من عرينة،
وقيل أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، والثامن من غيرهما مسلمين، نطقوا
بالشهادتين، كانوا مجهودين قد كادوا يهلكون أي لشدة هزالهم وصفرة ألوانهم
وعظم بطونهم، وقالوا:
يا رسول الله آونا وأطعمنا، فأنزلهم صلى الله عليه وسلم عنده: أي بالصفة ثم
قال لهم: أي بعد أن ذكروا له صلى الله عليه وسلم أن المدينة وبئة وخمة،
وأنهم أهل ضرع ولم يكونوا أهل ريف: لو خرجتم إلى ذود لنا: أي لقاح وكانت
خمسة عشر فشربتم من ألبانها وأبوالها، أي لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينا
وإدرارا وتفتيحا للسدد، فإن الاستسقاء وعظم البطن إنما ينشأ عن السدد وآفة
الكبد. ومن أعظم منافع الكبد لبن اللقاح، لا سيما إن استعمل بحرارته التي
يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل مع حرارته التي يخرج بها ففعلوا ثم لما
صحت أجسامهم كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعيها وهو يسار مولى النبي صلى
الله عليه وسلم، ومثلوا به: أي قطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في لسانه
وعينيه حتى مات واستاقوا اللقاح.
وفي لفظ أنهم ركبوا بعضها واستاقوها، فأدركهم يسار ومعه نفر، فقاتلهم
فقطعوا يده ورجله، الحديث.
وبلغه صلى الله عليه وسلم الخبر، فبعث صلى الله عليه وسلم في آثارهم عشرين
فارسا، واستعمل عليهم من
(3/260)
تقدم، وأرسل معهم من يقص آثارهم، فأدركوهم
فأحاطوا بهم فأسروهم ودخلوا بهم المدينة فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسلمت أعينهم: أي غورت بمسامير محماة بالنار،
وألقوه بالحرة: أي وهي أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار، يستسقون فلا
يسقون. قال أنس رضي الله تعالى عنه: ولقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من
العطش ليجد بردها لما يجده من شدة العطش حتى ماتوا على حالهم وأنزل الله
فيهم: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:
الآية 33] الآية، ولم يقع بعد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم سمل عينا. وفي
لفظ أنهم لما أسروا ربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة. وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، فخرجوا بهم نحوه، فلقوه بمجمع
السيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وصلبوا هنالك، وأنه
صلى الله عليه وسلم فقد من اللقاح لقحة تدعى الحفياء، فسأل عنها، فقيل
نحروها، كذا في سيرة الحافظ الدمياطي، وقدم فيها هذه السرية على سرية عمرو
بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه.
سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه إلى طائفة من هوازن
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في
ثلاثين رجلا إلى عجز بفتح العين المهملة وبضم الجيم وبالزاي: محل بينه وبين
مكة أربع ليال بطريق صنعاء، يقال له تربة بضم المثناة فوق وفتح الراء ثم
موحدة مفتوحة ثم تاء تأنيث.
وأرسل صلى الله عليه وسلم دليلا من بني هلال فكان يسير الليل ويكمن النهار
فأتى الخبر لهوازن فهربوا، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه محالهم،
فلم يجد منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة، فلما كان بمحل بينه وبين
المدينة ستة أميال قال له الدليل: هل لك جمع آخر من خثعم، فقال له عمر رضي
الله تعالى عنه: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنما أمرني
بقتال هوازن.
سرية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب
عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبا بكر وأمّره علينا، فسبى ناسا من المشركين، فقتلناهم، فقلت بيدي
سبعة أهل أبيات من المشركين، وما زاده الأصل على هذا من قوله إن سلمة بن
الأكوع قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه
إلى فزارة الخ نسب فيه للوهم، لأن ذلك كان في سريته لبني فزارة بوادي
القرى، وقد تقدمت، فهما قضيتان مختلفتان جمع
(3/261)
بينهما، أي وهذا الذي في الأصل تبع فيه
شيخه الحافظ الدمياطي، وفيه ما علمت.
سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه
إلى بني مرة بفدك
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلا إلى بني مرة
بفدك وتقدم أنها قرية بينها وبين المدينة ستة أميال، فخرج فلقي رعاء الشاء،
فسأل عن الناس؟ فقيل في بواديهم، فاستاق النعم والشاء، وانحدر إلى المدينة،
فخرج الصريخ إليهم فأدركه منهم العدد الكثير عند الليل فباتوا يترامون
بالنبل حتى فني نبل أصحاب بشير، أي فلما أصبحوا حملوا على بشير وأصحابه،
فقتلوا منهم من قتلوا، وولى من ولي منهم، وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ارتث:
أي جرح وصار ما به رمق، وضربت كعبه اختبارا لحياته فلم يتحرك، فقيل مات،
فرجعوا بنعمهم وشياههم، وجاء إليه صلى الله عليه وسلم خبرهم ثم جاء بشير
رضي الله تعالى عنه إلى المدينة بعد ذلك، أي فإنه استمر بين القتلى إلى
الليل، فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك فأقام بفدك عند يهودي أياما حتى
قوي على المشي، وجاء إلى المدينة.
أقول: وهذا يدل على أن بني مرة الذين توجه إليهم بشير لم يكونوا بفدك، بل
بالقرب منها، فيكون قوله أوّلا لبني مرة بفدك فيه تسمح، وأن بشيرا حصلت له
هذه الحالة مرتين، فليتأمل.
سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى
عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، اسم محل وراء بطن نخل
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى
عنه في مائة وثلاثين رجلا لبني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، ودليلهم
يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهجموا عليهم جميعا ووقعوا في وسط
محالهم، فقتلوا جمعا من أشرافهم واستاقوا نعما وشاء، ولم يأسروا أحدا وفي
هذه السرية قتل أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما الرجل الذي قال: لا إله
إلا الله، وهو مرداس بن نهيك. وفي سيرة الحافظ الدمياطي نهيك بن مرداس،
والأول هو الذي في الكشاف، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هلا شققت عن
قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فعن أسامة رضي الله تعالى عنه: «بعثنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من
الأنصار رجلا منهم، فلما أعييناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري،
وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟
(3/262)
قلت: إنما قالها متعوّذا، فما زال يكررها
حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» أي تمنيت أن أكون أسلمت اليوم
فيكفر عني ما صنعت، قال: كذا وقع في الأصل أن قتل أسامة للرجل الذي قال لا
إله إلا الله كان في هذه السرية، وقد تبع في ذلك ابن سعد.
وإنما كان ذلك في سرية أسامة بن زيد للحرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء
وبالقاف ثم تاء تأنيث بطن من جهينة، وسيأتي عن أسامة «بعثنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحناها، فكان رجل يدعى مرداس بن
نهيك إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان من حاميتهم
فهزمناهم، فتبعته أنا ورجل من الأنصار، فرفعت عليه السيف، فقال لا إله إلا
الله» وزاد في رواية: «محمد رسول الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى
قتلته، ثم وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى ما أقدر على أكل الطعام،
حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني وأعتقني» قال بعضهم:
«كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة بن زيد يسأل عنه أصحابه، ويحب أن
يثني عليه خيرا، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون رسول الله
صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت ما فعل أسامة ولقيه رجل،
فقال الرجل لا إله إلا الله، فشد عليه أسامة فقتله وهو صلى الله عليه وسلم
يعرض عنهم، فلما أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم رفع رأسه الشريف لأسامة
فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، فكيف تصنع بلا إله إلا
الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فقال أسامة رضي الله تعالى عنه: إنما قالها
خوفا من السلاح» وفي رواية: «إنما كان متعوّذا من القتل، قال أسامة رضي
الله تعالى عنه:
ولا زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر عليّ حتى تمنيت أني لم أسلم إلا
يؤمئذ» انتهى.
والذي في الكشاف في تفسير قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى
إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: الآية 94] أصله أن مرداس
بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان عليها غالب بن فضالة الليثي رضي الله تعالى عنه،
فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه. فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من
الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: «لا إله إلا الله محمد
رسول الله» السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بذلك فوجدوا وجدا شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم
قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول الله استغفر لي، قال: فكيف بلا إله إلا
الله؟ فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي
وقال: أعتق رقبة، وسيأتي نحو ذلك في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب
بشير بن سعد.
ويبعد تعدد هذه الواقعة سيما في مواطن ثلاثة أو أربعة، وكون يسار مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان دليلا في هذه السرية يقتضي أنها متقدمة على
سرية العرنيين، فقد
(3/263)
تقدم أنهم قتلوه ثم رأيته في النور قال:
ولعل هذا غير ذاك، لكن لم أر له ذكرا في الموالي إلا أن يكون أحد موالي
أقاربه عليه الصلاة والسلام فنسب إليه، ومن ثم لم يشهد أسامة رضي الله
تعالى عنه مع علي كرم الله وجهه قتالا، وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين
لأدخلت يدي معها، ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلا الله وقلت له: أعطي الله عهدا
أن لا أقتل رجلا بقول لا إله إلا الله، والله أعلم.
سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه
إلى يمن
بفتح الياء آخر الحروف وقيل بضمها، أو يقال أمن بالهمزة مفتوحة وسكون
الميم، وجبار بفتح الجيم: واد قريب من خيبر.
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان قد واعدهم عيينة بن
حصن: أي قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه، ليكون معهم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد، فعقد له
لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا المحل
المذكور، فأصابوا نعما كثيرا، وتفرق الرعاء بكسر الراء والمد، وذهبوا إلى
القوم، وأخبروهم فتفرقوا ولحقوا بعليا بلادهم، وعليا بضم العين وسكون اللام
مقصورا: نقيض السفلى، فلم يظفر بأحد منهم إلا برجلين أسروهما فرجع بالنعم
والرجلين إلى المدينة، فأسلم الرجلان، فأرسلهما صلى الله عليه وسلم قال:
والرجلان من جمع عيينة، فإن المسلمين لما قالوا جمع عيينة انهزموا أمامهم
وتبعوهم أخذوا منهم ذينك الرجلين انتهى، أي وعيينة بن حصن كان يقال له
الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه عشرة آلاف قناة، وقيل له عيينة، قال في
الأصل: لأن عينه حجفلت: أي عظمت وكبرت، فلقب بذلك رضي الله تعالى عنه.
سرية ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى
عنه إلى بني سليم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى
عنه في خمسين رجلا إلى بني سليم، فكان لهم جاسوس مع القوم، فخرج إليهم وسبق
القوم وحذرهم، فجمعوا لهم جمعا كثيرا، فجاؤوا لهم وهم معدّون لهم فدعوهم
إلى الإسلام، فقالوا: أيّ حاجة لنا بما تدعونا إليه؟ فتراموا بالنبل ساعة،
وجعلت الأمداد تأتيهم، وأحدقوا بالمسلمين من كل ناحية، فقاتل المسلمون
قتالا شديدا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى، ثم
تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3/264)
سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله
تعالى عنه إلى بني الملوّح
بضم الميم وفتح اللام وتشديد الواو مكسورة ثم حاء مهملة بالكديد، بفتح
الكاف وكسر الدال المهملة.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي في بضعة عشر
رجلا قال: وما نقل عن الواقدي أنهم كانوا مائة وثلاثين رجلا فذلك في سرية
لغالب غير هذه انتهى.
أقول: وهي المتقدمة التي توجهت لبني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة،
والله أعلم. وأمر صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله وأصحابه أن يشنوا
الغارة على القوم، فخرجوا حتى إذا كانوا بقديد لحقوا الحارث الليثي فأسروه،
فقال: إنما خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام، فقالوا
له: إن كنت مسلما لم يضرك ربطنا لك يوما وليلة، وإن كنت غير ذلك استوثقنا
منك، فشدوه وثاقا، وخلفوا عنده سويد بن صخر. أي وفي لفظ: خلفوا عليه رجلا
أسود منهم، وقالوا له: إن نازعك فاحتز رأسه، وساروا حتى أتوا محل القوم عند
غروب الشمس، فكمنوا في ناحية الوادي. قال جندب الجهني:
وأرسلني القوم جاسوسا لهم، فخرجت حتى أتيت تلا مشرفا على الحاضر: أي القوم
المقيمين بمحلهم، فلما استويت على رأسه انبطحت عليه لأنظر، إذ خرج رجل منهم
فقال لامرأته: إني لأنظر على هذا الجبل سوادا ما رأيته قبل، انظري إلى
أوعيتك لا تكون الكلاب جرت منها شيئا. فنظرت فقالت: والله ما فقدت من
أوعيتي شيئا، فقال: ناوليني قوسي ونبلي، فناولته قوسه وسهمين، فأرسل سهما،
فو الله ما أخطأ بين عينيّ، فانتزعته وثبتّ مكاني، فأرسل آخر فوضعه في
منكبي، فانتزعته وثبت مكاني، فقال لامرأته: والله لو كان جاسوسا لتحرك، لقد
خالطه سهمان لا أبالك:
أي بكسر الكاف: أي لا كافل لك غير نفسك وهو بهذا المعنى يذكر في معرض
المدح، وربما يذكر في معرض الذم وفي معرض التعجب لا بهذا المعنى، فإذا
أصبحت فانظريهما لا تمضغهما الكلاب ثم دخل، فلما اطمأنوا وناموا شنينا
عليهم الغارة، واستقنا النعم والشاء بعد أن قتلنا المقاتلة وسبينا الذرية،
أي ومروا على الحارث الليثي، فاحتملوه واحتملوا صاحبهم الذي تركوه عنده،
فخرج صريخ القوم في قومهم، فجاء ما لا قبل لنا به، فصار بيننا وبينهم
الوادي، فأرسل الله سحابا فأمطر الوادي ما رأينا مثله، فسال الوادي بحيث لا
يستطتع أحد أن يجوز به، فصاروا وقوفا ينظرون إلينا ونحن متوجهون إلى أن
قدمنا المدينة.
(3/265)
أي وفي لفظ آخر: فقلنا القوم ينظرون إلينا،
إذ جاء الله بالوادي من حيث شاء يملأ جنبيه ماء، والله ما رأينا يومئذ
سحابا ولا مطرا، فجاء بما لا يستطيع أحد أن يجوزه فوقفوا ينظرون إلينا، وقد
وقع نظير ذلك: أي سيل الوادي لقطنة بن عامر حين توجه إلى بني خثعم بناحية
تبال كما سيأتي.
سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى
عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك
لما قدم غالب من الكديد مؤيدا منصورا بعثه صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل
إلى حيث أصيب أصحاب بشير بن سعد، وذلك في بني مرة فدك، وكان قبل قدوم غالب
هيأ صلى الله عليه وسلم الزبير لذلك وعقد له لواء، فلما قدم غالب رضي الله
تعالى عنه قال صلى الله عليه وسلم للزبير اجلس، فصار غالب رضي الله تعالى
عنه إلى أن أصبح القوم فأغاروا عليهم، وكان غالب رضي الله تعالى عنه قد
أوصاهم بعدم مخالفتهم له، وآخى بين القوم، فساقوا نعما وقتلوا منهم.
قال: لما دنا غالب منهم ليلا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم
قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله تعالى وحده لا شريك له وأن تطيعوني
ولا تخالفوا لي أمرا فإنه «لا رأي لمن لا يطاع» وفي رواية: لا تعصوني، فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يطع أميري فقد أطاعني، ومن عصاه فقد
عصاني» وإنكم متى تعصوني فإنكم تعصون نبيكم صلى الله عليه وسلم، ثم ألف رضي
الله تعالى عنه بين القوم، فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان،
لا يفارق رجل منكم زميله، فإياكم أن يرجع الرجل منكم فأقول له أين صاحبك؟
فيقول لا أدري، فإذا كبرت فكبروا، فلما أحاطوا بالقوم كبر غالب رضي الله
تعالى عنه وكبروا معه وجردوا السيوف، فخرج الرجال فقاتلوا ساعة، ووضع
المسلمون فيهم السيف، وكان شعار المسلمين «أمت أمت» وكان في القوم أسامة بن
زيد رضي الله تعالى عنهما، وتفقده غالب رضي الله تعالى عنه فلم يره، وبعد
ساعة: أي من الليل أقبل، فلامه غالب وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك، فقال:
خرجت في أثر رجل منهم جعل يتهكم بي حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال:
«لا إله إلا الله» فقال له الأمير: بئسما فعلت وما جئت به، تقتل امرأ يقول:
«لا إله إلا الله» فندم أسامة وساق المسلمون النعم والشاء والذرية، فكان
سهم كل رجل عشرة أبعرة، وعدل البعير بعشرة من الغنم انتهى، وتقدمت الحوالة
على هذه، وتقدم ما فيها.
وقوله هنا حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال: «لا إله إلا الله» يقتضي
أنه
(3/266)
إنما قال: «لا إله إلا الله» بعد ضربه
السيف. إلا أن يحمل على الإرادة، وتقدم أنه طعنه برمحه، فليتأمل.
سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه
إلى بني عامر
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب رضي الله تعالى عنه في أربعة
وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن: أي يقال لهم بنو عامر، وأمره صلى الله عليه
وسلم أن يغير عليهم، فكان يسير الليل ويكمن بالنهار حتى صبحهم وهم غافلون.
أي وقد نهى أصحابه أن يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما وشاء، واستاقوا ذلك
حتى قدموا المدينة، فكان سهم كل رجل خمسة عشر بعيرا، وعدل البعير بعشرة من
الغنم.
سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من
أرض الشام وراء وادي القرى في خمسة عشر رجلا، فوجدوا جمعا كثيرا، أي لأنه
لما دنا كعب بن عمير رضي الله تعالى عنه من القوم ذهب عين لهم فأخبروهم
بقلة المسلمين فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا ورشقوهم بالنبل. فقاتلهم
المسلمون أشد القتال حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن عمير فإنه ظن قتله،
فلما أمسى تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك عليه، فهمّ
بالبعث إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى محل آخر، فتركهم.
أقول: لم أقف على السبب الذي اقتضى البعث إلى ذلك المحل، والله أعلم.
سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات
السلاسل
أرض بها ماء يقال له السلاسل، بضم السين الأولى وكسر الثانية. أي وقال
الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. المشهور أنها بفتح الأولى، قيل سمي المكان
بذلك، لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، يقال ماء سلسل وسلسال: إذا
كان سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، وتلك الأرض وراء وادي القرى، وقيل
لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا.
أقول: ولخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في زمن الصديق غزاة مع أهل فارس
يقال لها ذات السلاسل، لكثرة من تسلسل فيها من الشجعان خوف الفرار، فقتلوا
عن آخرهم لأن السلاسل منعتهم الهزيمة. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالسلاسل إلى
(3/267)
الصديق رضي الله تعالى عنه، والله أعلم.
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون
المدينة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله تعالى
عنه، أي وذلك بعد إسلامه بسنة، وعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء،
وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا. وأمره
صلى الله عليه وسلم أن يستعين بمن يمر عليهم، فسار الليل وكمن النهار حتى
قرب من القوم، فبلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن كعب الجهني رضي الله
تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه أبا عبيدة بن
الجراح في مائتين من سراة المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر رضي الله
تعالى عنهما وعقد له لواء، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا
يختلفا، فلحق بعمرو أبو عبيدة، وأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو:
إنما قدمت عليّ مددا وأنا الأمير، قال: وعند ذلك قال جمع من المهاجرين
الذين مع أبي عبيدة لعمرو: أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فقال عمرو:
أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، قال: لتعلم يا عمرو أن آخر شيء
عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إن قدمت على صاحبك فتطاوعا
ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك، قال:
فإني الأمير عليك، فقال: فدونك اه أي لأن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان
حسن الخلق لين العريكة فكان عمرو يصلي بالناس.
أي وعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، قال: بعث إليّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي. فقال: يا عمرو إني أريد أن
أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك؟ فقلت: إني لم أسلم رغبة في المال، قال:
«نعم المال الصالح للرجل الصالح» ورأوا جمعا كثيرا، فحمل عليهم المسلمون
فتفرقوا. قال:
وأراد المسلمون أن يتبعوهم، فمنعهم عمرو رضي الله تعالى عنه، وأرادوا أن
يوقدوا نارا ليصطلوا عليها من البرد فمنعهم عمرو، أي وقال: كل من أوقد نارا
لأقذفنه فيها، فشق عليهم ذلك لما فيه من شدة البرد، فكلمه بعض سراة
المهاجرين في ذلك فغالظه عمرو في القول، وقال له: قد أمرت أن تسمع لي
وتطيع؟ قال نعم، قال:
فافعل. ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غضب وهم أن يأتيه،
فمنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب فسكت، واحتلم عمرو رضي الله تعالى عنه وكانت
تلك الليلة شديدة البرد جدا، فقال لأصحابه ما ترون؟ قد والله احتملت، فإن
اغتسلت مت، فدعا بماء فغسل فرجه وتوضأ وتيمم ثم قام وصلى بالناس اه ثم بعث
عمرو عوف بن مالك مبشرا للنبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم وسلامتهم. قال:
قال عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه:
جئته صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في بيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله
ورحمة الله
(3/268)
وبركاته، فقال: عوف بن مالك؟ فقلت: نعم
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال:
أخبرني، فأخبرته بما كان من مسيرنا وما كان بين أبي عبيدة بن الجراح وبين
عمرو، ومطاوعة أبي عبيدة لعمرو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم
الله أبا عبيدة بن الجراح، وأخبرته بمنع عمرو رضي الله تعالى عنه للمسلمين
من اتباع العدو، ومن إيقاد النار، ومن صلاته بأصحابه وهو جنب، فلما قدم
عليه عمرو كلمه صلى الله عليه وسلم في ذلك قال:
كرهت أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد
فيعطفون عليهم، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره. قال عمرو: وسألني
عن صلاتي فقال:
يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقلت: والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت،
لم أجد بردا قط مثله، وقد قال الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ
إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:
الآية 195] فضحك صلى الله عليه وسلم اه.
أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن صلاة الصحابة خلفه، فإني لم أقف على أنه
صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء.
سرية الخبط وهو ورق السمر
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من
المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى حي من جهينة
في ساحل البحر، وقيل ليرصدوا عيرا لقريش، أي وعليه فتكون هذه السرية قبل
الهدنة الواقعة في الحديبية، لما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بعد الهدنة
لم يكن يرصد عيرا لقريش إلى الفتح، وتعدد سرية الخبط بعيد، فلا يقال يجوز
أن تكون سرية الخبط مرتين: مرة قبل الهدنة، ومرة بعدها، ومن ثم حكم على هذا
القول بأنه وهم. فأقاموا بالساحل نصف شهر، فأصابهم جوع شديد حتى أكلوا
الخبط: أي كانوا يبلونه بالماء ويأكلونه حتى تقرحت أشداقهم. فإن أبا عبيدة
رضي الله تعالى عنه كان يعطي الواحد منهم في اليوم والليلة تمرة واحدة
يمصها ثم يصرها في ثوبه.
أي وعن الزبير رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: كيف كنتم تصنعون بالتمرة؟
قال: نمصها كما يمص الصبي ثدي أمه، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى
الليل، لأنه صلى الله عليه وسلم زوّدهم جرابا من تمر، فجعل أبو عبيدة رضي
الله تعالى عنه يقوتهم إياه، حتى صار يعدّه لهم عدا، حتى كان يعطي الواحد
تمرة كل يوم ثم بعد التمر أكلوا الخبط.
ولما رأى قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما ما بالمسلمين من جهد
الجوع أي مشقته، أي وقال قائلهم: والله لو لقينا عدّوا ما كان منا حركة
إليه لما بالناس من الجهد، قال: من يشتري مني تمرا أو فيه له في المدينة
بجزر يوفيها إليّ
(3/269)
ههنا؟ فقال له رجل من أهل الساحل: أنا
أفعل، لكن والله ما أعرفك، فمن أنت؟
قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة، فقال الرجل: ما أعرفني بسعد، إن بيني وبين
سعد خلة سيد أهل يثرب، فاشترى خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر. والوسق: بفتح
الواو وكسرها ستون صاعا، وجمع الأوّل أوسق، والثاني أوساق، فقال له الرجل:
أشهد لي، فقال أشهد من تحب، فأشهد نفرا من المهاجرين والأنصار من جملتهم
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وقيل إن عمر رضي الله تعالى عنه امتنع من أن يشهد، وقال: هذا يدّان ولا مال
له إنما المال أبيه. فقال الرجل: والله ما كان سعد ليخني بابنه، أي لا يوفي
عن ابنه ما التزمه، فكان بين قيس وعمر كلام حتى أغلظ له قيس الكلام، وأخذ
قيس رضي الله تعالى عنه الجزر فنحر لهم منها ثلاثة في ثلاثة أيام، وأراد أن
ينحر لهم في اليوم الرابع، فنهاه أبو عبيدة وقال له: عزمت عليك أن لا تنحر،
أتريد أن تخفر ذمتك، أي لا يوفى لك بما التزمت ولا مال لك. فقال له قيس رضي
الله تعالى عنه: أترى أبا ثابت، يعني والده سعدا يقضي ديون الناس ويطعم في
المجاعة ولا يقضي دينا استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟
وفي البخاري أن قيسا رضي الله تعالى عنه نحر لهم تسع جزائر كل يوم ثلاثا،
ثم نهاه أبو عبيدة.
أي ومما يؤيد ما ذكر من أن الجزر كانت خمسة، وأنه نحر لهم ثلاثة أيام كل
يوم جزورا ما جاء في بعض الروايات أنه بقي معه جزوران قدم بهما المدينة
يتعاقبون عليهما فلينظر الجمع.
ثم إنّ البحر ألقى لهم دابة هائلة يقال لها العنبر بحيث إن أبا عبيدة رضي
الله تعالى عنه نصب لهم ضلعا من أضلاعها. وفي لفظ: من أضلاعه ومرّ تحته
أطول رجل في القوم: أي وهو قيس بن سعد بن عبادة راكبا على أطول بعير لم
يطأطىء رأسه.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: دخلت أنا وفلان وفلان وعدّ خمسة نفر
عينها ما رآنا أحد. أي وفي لفظ. ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا
فأقعدهم في وقب عينها، فأكلوا منها أياما: أي نحو شهر وكانوا ثلاثمائة.
فعن بعضهم: لما تقرّحت أشداقنا من الخبط انطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا
كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة رضي
الله تعالى عنه: ميتة، ثم قال: اضطررتم فكلوا، فأقمنا عليه شهرا ونحن
ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال.
وفي رواية: فأخرجنا من عينه كذا وكذا قلة ودك، وصحبوا من لحمها إلى
(3/270)
المدينة، أي وقيل لها العنبر لأنها تبتلع
العنبر.
فعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه. قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر
نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله، وهو سم لها
فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من جوفها.
وقيل العنبر اسم لسمكة مخصوصة في البحر هائلة الخلقة طولا وعرضا، وقد
أخبرني بعض السفار أن جملا مات على شاطىء البحر، فألقي في البحر، فابتلعته
سمكة، فوقفت أخفاف يديه في حلقها، فجاءت سمكة فابتلعت تلك السمكة.
وفي زمن الحاكم بأمر الله وجدت سمكة بدمياط طولها مائتا ذراع وعرضها مائة
وستون ذراعا، وكان يقف في حلقها خمس رجال بالمجاريف يجرفون الشحم، وأقام
أهل دمياط يأكلون من لحمها خمسة أشهر.
ولما بلغ سعد بن عبادة ما حصل للمسلمين من المجاعة قبل قدومهم قال: إن يكن
قيس، يعني ولده كما أعهد فلينحر للقوم. فلما قدم قيس قال له سعد: ما صنعت
في مجاعة القوم؟ قال: نحرت، قال أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت،
قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال أصبت، ثم قال ماذا؟ قال: ثم نهيت، قال: ومن
نهاك؟ قال أميري أبو عبيدة، قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، إنما المال
لأبيك، فقلت له: أبي يقضي عن الأباعد ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يصنع
هذا لي؟ فلان لموافقتي، فأبى عليه عمر بن الخطاب إلا التصميم على المنع،
فقال سعد لولده قيس ذاك أربع حوائط، أي بساتين، أدناها ما يتحصل منه خمسون
وسقا. ثم إن قيسا رضي الله تعالى عنه وفي الرجل صاحب الجزر، وحمله: أي
أعطاه ما يركبه، وكساه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل قيس، قال:
إنه في بيت جود. إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت.
أي ومن ثم قال بعضهم: لم يكن في الأوس والخزرج مطعمون يتوالدون في بيت واحد
إلا قيس وأبوه سعد وأبوه عبادة وأبوه دليم، كان في كل يوم يقف شخص على أطم
ينادي: من يريد الشحم واللحم فعليه بدار أبي دليم.
أي وكان أصحاب الصفّة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد والرجل بالاثنين
والرجل بالجماعة، وأما سعد فينطلق بالثمانين.
وعن سعد بن عبادة: «زارنا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام
عليكم ورحمة الله، ثم قال: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة»
.
قال: ويذكر أن سعدا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من عذيري من
ابن الخطاب يبخل عليّ ابني، اه.
(3/271)
ويذكر عن سعد بن عبادة أنه كان شديد
الغيرة، لم يتزوج إلا بكرا، وما طلق امرأة وقدر أحد أن يتزوجها.
وعن جابر رضي الله تعالى عنه: فلما قدمنا المدينة ذكرنا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أمر العنبر، فقال: رزق أخرجه الله تعالى لكم، لعل معكم من
لحمه شيء فتطعمونا، فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله أي
ولم يكن أروح، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال: لو نعلم أنا ندركه لم
يروّح لأحببنا لو كان عندنا منه، قال ذلك ازديادا منه.
سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان
أرض محارب
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلا إلى غطفان،
وأمره أن يشن الغارة عليهم، فصار يسير الليل ويكمن النهار، حتى هجم عليهم،
وأحاط بهم، وقتلوا من أشراف لهم، واستاقوا الإبل والغنم، فكانت الإبل مائة
بعير، والغنم ألفي شاة، وسبوا سبايا كثيرة، فأصاب كل رجل بعد إخراج الخمس
اثني عشر بعيرا، وعدل البعير بعشرين من الغنم. ووقع في سهم أبي قتادة رضي
الله تعالى عنه جارية حسناء وضيئة، فاستوهبها منه صلى الله عليه وسلم،
فوهبها له، ثم وهبها صلى الله عليه وسلم لشخص، أي كان وعده بجارية من أول
فيء يفيء الله به، فجاء ذلك الشخص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله إن أبا قتادة قد أصاب جارية وضيئة وقد كنت وعدتني جارية من
أول فيء يفيء الله به عليك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي
قتادة، قال: هب لي الجارية، فوهبها له الحديث.
سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله
تعالى عنه إلى الغابة
وهي الشجر الملتف.
قال عبد الله المذكور: تزوجت امرأة من قومي، فجئت رسول الله صلى الله عليه
وسلم أستعينه على ذلك، فقال: كم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم. فقال: سبحان الله
لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واديكم هذا. وفي لفظ: لو كنتم تغرفونها من
ناحية بطحان ما زدتم. والله ما عندي ما أعينك، فلبثت أياما، فبلغ رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن رجلا يقال له رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في جمع
عظيم نزل بالغابة يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين، فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل
(3/272)
حتى تأتوني منه بخبر، ودفع لنا شارفا
عجفاء: أي ناقة مسنة، وقال: تبلغوا عليها، واعتقبوها، فركبها أحدنا، فو
الله ما قامت به ضعفا حتى ضربت، فخرجنا ومعنا سلاحنا النبل والسيوف، حتى
إذا جئنا قريبا من القوم عند غروب الشمس، فكنت في ناحية وصاحبي في ناحية
أخرى، فقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت فكبرا، فو الله إنا كذلك ننتظر غرة
القوم إلا ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة المجمع للقوم خرج في طلب راع لهم
أبطأ عليهم وتخوّفوا عليه، فقال له نفر من قومه: نحن نكفيك ولا تذهب أنت،
فقال: والله لا يذهب إلا أنا، فقالوا فنحن معك، فقال: والله لا يتبعني أحد
منكم، وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته: أي رميته بسهم فوضعته في فؤاده،
فو الله ما تكلم، ووثبت عليه فاحتززت رأسه، وشددت في ناحية العسكر وكبرت،
وشدّ صاحباي وكبرا، فهرب القوم واستقنا إبلا وغنما كثيرة، فجئنا بها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فأعانني رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة
عشر بعيرا في صداقي.
قال: وبعضهم جعل هذه السرية وسرية أبي قتادة إلى غطفان بأرض محارب التي قبل
هذه واحدة، أي ومن ثم ذكرتها عقبها خلاف ما صنع في الأصل.
قال: ويدل لكونهما واحدة ما نقل عن عبد الله بن أبي حدرد قال: لما طلبت منه
صلى الله عليه وسلم الإعانة في مهر زوجتي، قال لي: ما وافقت عندنا شيئا
أعينك به، ولكن قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا في سرية، فهل
لك أن تخرج فيها فإني أرجو أن يغنمك الله مهر امرأتك، فقلت: نعم، فخرجنا
حتى جئنا الحاضر: أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه،
أي كما تقدم، فلما ذهبت فحمه العشاء: أي إقباله وأول سواده، خطبنا أبو
قتادة، وأوصانا بتقوى الله تعالى، وألف بين كل رجلين، وقال: لا يفارق كل
رجل زميله حتى يقفل: أي يرجع، ولا يجيء إليّ الرجل فأساله عن صاحبه، فيقول
لا علم لي به، وإذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا، ولا تمعنوا في الطلب،
فأحطنا بالحاضر، فجرد أبو قتادة سيفه وكبر وجردنا سيوفنا وكبرنا معه، وقاتل
رجال من القوم وإذا فيهم رجل طويل، فأقبل عليّ قال: يا مسلم هلم إلى الجنة
يتهكم بي، فملت إليه فذهب أمامي: أي وصار يقبل عليّ بوجهه مرة ويدبر عني
بوجهة مرة أخرى، فتبعته، فقال لي صاحبي: لا تتبعه فقد نهانا أميرنا أن نمعن
في الطلب، ولا زال كذلك، وقال: إن صاحبكم لذو مكيدة، وإن أمره هو الأمر،
فأدركته فرميته بسهم فقتلته، وأخذت سيفه وجئت صاحبي فأخبرني أنهم جمعوا
الغنائم، وأن أبا قتادة تغيظ عليّ وعليك، فجئت أبا قتادة فلامني فأخبرته
الخبر، ثم سقنا النعم، وحملنا النساء، وجفون السيوف معلقة بالأقتاب، ثم لما
أصبحنا رأيت في السبي امرأة كأنها ظبي تكثر الالتفات خلفها
(3/273)
وتبكي، فقلت لها: أي شيء تنظرين؟ قالت:
والله أنظر إلى رجل لئن كان حيا ليستنقذنا منكم، فوقع في نفسي أنه الذي
قتلته، فقلت لها: والله قد قتلته، وهذا والله سيفه معلق بالقتب، فقالت:
فألق إليّ غمده، فقلت: هذا غمد سيفه، فلما رأته بكت ولبثت انتهى، ولا يخفى
أن السياق في كل يبعد كونهما واحدة.
سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم
اسم موضع أو جبل.
لما همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة رضي الله
تعالى عنه في ثمانية نفر من جملتهم محكم بن جثامة الليثي إلى بطن أضم، ليظن
ظان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية وتنشر بذلك
الأخبار، فمرّ عليهم عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلم عليهم بتحية الإسلام،
فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محكم فقتله، أي لشيء كان بينه وبينه، وسلبه
متاعه وبعيره، وعند وصولهم إلى المحل رجعوا، فبلغهم أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد توجه إلى مكة، فمالوا إليه حتى لقوه، قال:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحكم: أقتلته بعد ما قال آمنت بالله؟
وفي رواية: بعد ما قال إني مسلم؟ أي أتى بما لم يأت به إلا مؤمن آمن بالله
وكان مسلما، قال: يا رسول الله إنما قالها: أي تحية الإسلام متعوذا، قال:
أفلا شققت عن قلبه؟ قال: لما يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أم كاذب.
أي وفي رواية فقال: يا رسول الله لو شققت عن قلبه أكنت أعلم ما في قبله؟
فقال له: فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه، فقال: استغفر
لي يا رسول الله، فقال: لا غفر الله لك، فقام يتلقى دمعه ببرده اه، وأنزل
الله تعالى فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ
السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا
فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء: الآية 94] إلى آخر الآية.
وذكر ابن إسحاق في خبر محكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بحنين ثم عمد
إلى ظل شجرة فجلس تحتها، فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان
في عامر بن الأضبط، عيينة بن حصن يطلب دمه، أي ويقول: والله يا رسول الله
إني لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي، والأقرع يدافع عن
محكم، وارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
لعيينة ومن معه: بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا، وهو
يأبي عليه، فلم يزل به حتى اتفقا على الدية، ثم قالوا: إن محكما يستغفر له
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام محكم وهو رجل آدم طويل: أي عليه حلة قد
كان تهيأ للقتل فيها حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه
تدمعان، فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا محكم، قد فعلت الذي
(3/274)
بلغك، و 7 ني أتوب إلى الله تعالى، واستغفر
لي يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم لا
تغفر لمحكم، قالها ثلاثا بصوت عال، فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه، فما مكث
إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض مرات حتى ضموا عليه الحجارة وواروه.
أي ولما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال لهم: إن الأرض تقبل
من هو شر من صاحبكم، ولكن الله يعظكم: أي وفي رواية: إن الله أحب أن يريكم
تعظيم حرمة لا إله إلا الله: أي حرمة من يأتي بها.
ولفظ الأرض له يرّد ما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له بعد
دعائه عليه، إلا أن يكون المراد استغفر له بعد موته، ويوافقه ما في بعض
الروايات: أراد الله أن يجعله موعظة لكم لكيلا يقدم رجل منكم على قتل من
يشهد أن لا إله إلا الله، أو يقول إني مسلم، اذهبوا به إلى شعب بني فلان
فادفنوه فإن الأرض ستقبله، فدفنوه في ذلك الشعب، فيجوز أن يكون استغفر له
حينئذ، وقيل إن الذي لفظته الأرض غير محكم، لأن محكما مات بحمص أيام ابن
الزبير رضي الله تعالى عنه، والذي لفظته الأرض اسمه فليت.
سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى
العزى
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي حين فتح مكة خالد بن الوليد في
ثلاثين فارسا من أصحابه إلى العزى، وهو صنم كان لقريش، وكان معظما جدا، وفي
لفظ: العزى نخلات أي سمرات مجتمعة، لأنه كان يهدى إليها كما يهدى إلى
الكعبة، لأن عمرو بن لحي أخبرهم أن الرب يشتي بالطائف عند اللات ويصيف عند
العزى، فلما وصل إلى محلها أي وكان بناء على ثلاث سمرات، فقطع السمرات،
وهدم ذلك البناء، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك،
فقال له: هل رأيت شيئا؟ قال:
لا، قال: فارجع إليها، فرجع خالد وهو متغيظ، فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة
عريانة سوداء ثائرة الرأس: أي شعر رأسها منتشر تحثو التراب على رأسها، فجعل
السادن يصيح بها: أي يقول: يا عزى عوّريه، يا عزى خبليه، فضربها خالد
فقطعها نصفين: أي وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: نعم تلك العزى.
(3/275)
سرية عمرو بن العاص
رضي الله تعالى عنه إلى سواع
بالعين المهملة: أي سمي باسم سواع بن نوح عليه السّلام، وكان على صورة
امرأة وكان لقوم نوح، ثم صار لهذيل. كانوا يحجون إليه: أي قبل فتح مكة،
وبعد ذلك أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جماعة من
أصحابه إلى سواع ليكسره ويهدم محله. قال عمرو رضي الله تعالى عنه: فانتهيت
إلى ذلك الصنم وعنده سادنه: أي خادمه، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أمرني رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال:
لا تقدر، قلت لم؟ قال: تمنع. قلت: حتى الآن أنت على الباطل، ويحك وهل يسمع
أو يبصر؟ فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم نجد فيها
شيئا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.
سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة
صنم كان للأوس والخزرج.
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى
مناة ليهدم محله، فلما وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد: ما تريد؟ قال:
هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد إلى ذلك الصنم، فخرجت إليه امرأة
عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة
دونك بعض عصيانك، فضربها سعد رضي الله عنه فقتلها، وهدم محلها.
سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى
بني جذيمة
بناحية يلملم يدعوهم إلى الإسلام، أي ولم يكن صلى الله عليه وسلم علم
بإسلامهم ولم يأمره بمقاتلتهم. أي إذا لم يسلموا.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في
ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار ومن بني سليم، أي وهو عليه
الصلاة والسلام مقيم بمكة إلى بني جذيمة، وكانوا في الجاهلية قد قتلوا
الفاكه عم خالد، وقتلوا أخا للفاكه أيضا في الجاهلية، وكانوا من أشرّ حي في
الجاهلية وكانوا يسمون لعقة الدم، وقتلوا والد عبد الرحمن بن عوف، فلما
علموا به وعلموا أن معه بني سليم وكانوا قتلوا منهم مالك بن الشريد وأخويه
في موطن واحد خافوه، فلبسوا السلاح، فلما انتهى خالد رضي الله تعالى عنه
إليهم تلقوه، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا نحن قوم مسلمون. قال: فألقوا
سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله ما بعد وضع السلاح إلا
(3/276)
القتل، ما نحن بآمنين لك ولا لمن معك. قال
خالد: فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرقت بقية
القوم.
وفي رواية: لما انتهى خالد إلى القوم فتلقوه، فقال لهم: ما أنتم؟ أي
أمسلمون أم كفار؟ قالوا: مسلمون، قد صلينا، وصدّقنا بمحمد صلى الله عليه
وسلم، وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها. وفي لفظ: لم يحسنوا أن يقولوا
أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا
وبين القوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح، قال: فضعوا
السلاح فوضعوا، فقال: استأسروا، فأمر بعضهم فكتف بالتخفيف بعضا وفرقهم في
أصحابه، فلما كان في السحر نادى منادي خالد رضي الله عنه: من كان معه أسير
فليقتله، فقتل بنو سليم من كان معهم، وامتنع المهاجرون والأنصار رضي الله
تعالى عنهم، وأرسلوا أسراهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل
خالد، أي فإن رجلا من القوم جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما
فعل خالد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أنكر عليه أحد ما صنع؟
قال: نعم، رجل أصفر ربعة، ورجل طويل أحمر، فقال عمر رضي الله تعالى عنه:
والله يا رسول الله أعرفهما، أما الأول فهو ابني فهذه صفته، وأما الثاني
فهو سالم مولى أبي حذيفة، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، أي قال ذلك مرتين، وبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فودي لهم قتلاهم، قال له صلى
الله عليه وسلم: يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، ودفع إليه
صلى الله عليه وسلم مالا: أي إبلا وورقا، يدي به قتلاهم، ويعطيهم منه ما
تلف عليهم من أموالهم، فودي قتلاهم، وأعطاهم عوض ما تلف عليهم حتى ميلغة
الكلب: أي الإناء التي يشرب فيها، حتى إذا لم يبق لهم دم ولا مال، قال: هل
بقي لكم دم أو مال؟ قالوا: لا، قال: أعطيكم ما بقي من المال احتياطا بدل ما
لا تعلمون: أي مما تلف من أموالكم، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبره الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت وأحسنت أي
وزاد.
وفي رواية: والذي أنا عبده لهي أحب إليّ من حمر النعم، ثم قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة شاهرا يديه يقول: اللهم إني أبرأ إليك
مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات انتهى.
ووقع بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما شر
بسبب ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، فقال له:
إنما أخذت بثأر أبيك، فقال له عبد الرحمن: كذبت، أنا قتلت قاتل أبي. أي وفي
رواية: كيف تأخذ مسلمين بقتل رجل في الجاهلية؟ فقال خالد: ومن أخبركم أنهم
أسلموا؟ فقال: أهل السرية كلهم أخبروا بأنك قد وجدتهم بنوا المساجد وأقروا
بالإسلام، فقال: جاءني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أغير، فقال له
عبد الرحمن بن عوف:
(3/277)
كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وإنما أخذت بثأر عمك الفاكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فو الله لو كان لك أحد ذهبا فأنفقته في سبيل
الله ما أدركت غدوة رجل منهم ولا روحته، أي والغدوة: السير في أول النهار
إلى الزوال.
والروحة: السير من الزوال إلى آخر النهار.
والمراد بأصحابه هنا السابقون إلى الإسلام ومنهم عبد الرحمن بن عوف، بل هو
المراد كما تصرح به الرواية الآتية، فقد نزّل صلى الله عليه وسلم الصحابة
غير السابقين الذين يقع منهم الرد على الصحابة غير السابقين- لكون ذلك لا
يليق بهم- منزلة غير الصحابة.
قال: ولما عاب عبد الرحمن على خالد الفعل المذكور أعان عبد الرحمن عمر بن
الخطاب رضي الله عنهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عن خالد
وقال: يا خالد ذر أصحابي. وفي رواية: «لا تسب أصحابي لو كان لك ذهبا
فأنفقته قيراطا قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو
روحات عبد الرحمن» انتهى.
أي ولا يخفى أنه يبعد أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إنما قتلهم
لقولهم صبأنا ولم يقولوا أسلمنا، إلا أن يقال: يجوز أن يكون خالد فهم أنهم
قالوا ذلك على سبيل الأنفة وعدم الانقياد إلى الإسلام، وأنه صلى الله عليه
وسلم إنما أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من
قولهم صبأنا، ثم لا يخفى أنه جاء:
«لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا
نصيفه» ونقل الإمام السبكي عن الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: فإنه كان يحضر
مجلس وعظه أن قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي كان خطايا لمن
يأتي بعده من أمته، لأنه صلى الله عليه وسلم كان له تجليات، فرأى في بعضها
سائر أمته الآتين من بعده، فقال خطابا لهم: لا تسبوا أصحابي، وارتضي منه
هذا التأويل اه. فالنهي والخطاب بلا تسبوا أصحابي لغير الصحابة تنزيلا
للغائب الذي لم يوجد منزلة الموجود الحاضر. وفيه أن هذا لا يساعد عليه
المقام.
وفي الحديث من التنويه برفعة الصحابة وعلو منزلتهم ما يقطع الأطماع عن
مداناتهم، فإن كون ثواب إنفاق مثل جبل أحد ذهبا في وجه الخير لا يبلغ ثواب
التصديق بنصف المدّ الذي إذا طحن وعجن لا يبلغ الرغيف المعتاد أمر عظيم.
أقول: ووقع لخالد رضي الله تعالى عنه نظير ذلك في زمن خلافة الصديق فإن
العرب لما ارتدت بعد موته صلى الله عليه وسلم عين خالدا لقتال أهل الردة
وكان من جملتهم مالك بن نويرة، فأسره خالد هو وأصحابه، وكان الزمن شديد
البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد ادفنوا
أسراكم: أي اقتلوهم، فقتلوهم، وقتل مالك بن نويرة، فلما سمع خالد بذلك،
قال: إذا أراد الله أمرا أمضاه، وتزوج
(3/278)
خالد رضي الله عنه زوجة مالك بن نويرة
وكانت من أجمل النساء. ويقال إن خالدا استدعى مالك بن نويرة وقال له: كيف
ترتد عن الإسلام وتمنع الزكاة؟ ألم تعلم أن الزكاة قرينة الصلاة؟ فقال: كان
صاحبكم يزعم ذلك، فقال له: هو صاحبنا وليس هو بصاحبك، يا ضرار اضرب عنقه،
وأمر برأسه فجعل ثالث حجرين جعل عليها قدر يطبخ فيه لحم، فعل ذلك إرجافا
لأهل الردة، فلما بلغ سيدنا عمر ذلك قال للصديق رضي الله تعالى عنهما
اعزله، فإن في سيفه رهقا كيف يقتل مالكا ويأخذ زوجته؟ فقال الصديق رضي الله
تعالى عنه: لا أغمد سيفا سله على الكافرين والمنافقين، سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: «نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من
سيوف الله سله الله على الكافرين والمنافقين» وقال الصديق رضي الله تعالى
عنه في حق خالد: عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد.
وفي كلام السهيلي أنه روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر الصديق:
إن في سيف خالد رهقا فاقتله، وذلك حين قتل مالك بن نويرة وجعل رأسه تحت قدر
حتى طبخ به، وكان مالك ارتد ثم رجع إلى الإسلام ولم يظهر ذلك لخالد، وشهد
عنده رجلان من الصحابة برجوعه إلى الإسلام فلم يقبلهما وتزوج امرأته، فلذلك
قال عمر لأبي بكر اقتله، فقال: لا أفعل لأنه متأول، فقال: اعزله، فقال: لا
أغمد سيفا سله الله تعالى على المشركين، ولا أعزل واليا ولاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
قيل وأصل العداوة بين خالد وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما على ما حكاه
الشعبي أنهما وهما غلامان تصارعا، وكان خالد ابن خال عمر، فكسر خالد ساق
عمر فعولجت وجبرت.
ولما ولي سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه الخلافة أوّل شيء بدأ به عزل خالدا
لما تقدم، وقال: لا يلي لي عملا أبدا. وقيل لكلام بلغه عنه، ومن ثم أرسل
إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب
نفسه فهو معزول، فانتزع عمامته وقاسمه ماله نصفين فلم يكذب نفسه، فقاسمه
أبو عبيدة ماله حتى إحدى نعليه وترك له الأخرى وخالد يقول: سمعا وطاعة
لأمير المؤمنين.
وبلغه أن خالدا أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف وقد قصده ابتغاء إحسانه،
فأرسل لأبي عبيدة أن يصعد المنبر ويوقف خالدا بين يديه وينزع عمامته
وقلنسوته ويقيده بعمامته، لأن العشرة آلاف إن كان دفعها من ماله فهو سرف،
وإن كان من مال المسلمين فهي خيانة، فلما قدم خالد رضي الله تعالى عنه على
عمر رضي الله تعالى عنه قال له: من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة
آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان، قال: ما زاد على التسعين ألفا فهو لك، ثم
قوّم أمواله وعروضه وأخذ منه عشرين ألفا، ثم قال له: والله إنك عليّ لكريم،
وإنك لحبيب، ولم تعمل لي
(3/279)
بعد اليوم على شيء، وكتب رضي الله عنه إلى
الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن مبخلة ولا خيانة ولكن الناس فتنوا به فأحببت
أن يعلموا أن الله هو الصانع، أي وأن نصر خالد على من قاتله من المشركين
ليس بقوته ولا بشجاعته، بل بفضل الله.
فالصّديق لم يعزل خالد بن الوليد مع فعله ما يكرهه بتأويل له في ذلك، كما
أنه صلى الله عليه وسلم لم يعزله مع فعله لما كرهه صلى الله عليه وسلم حيث
رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، لكونه كان
شديدا على الكفار، لرجحان المصلحة على المفسدة. وسيدنا عمر رضي الله تعالى
عنه عزله لخوف افتتان الناس به، فعزله وولى أبا عبيدة بن الجراح.
قال بعضهم: كان الصديق رضي الله تعالى عنه لينا وخالد بن الوليد شديدا،
وعمر رضي الله تعالى عنه كان شديدا وأبو عبيدة لينا، فكان الأصلح لكل منهما
أن يولي من ولاه ليحصل التعادل، والله أعلم.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في القوم رجل قال لهم أنا لست من
هؤلاء ولكني عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها ثم افعلوا بي ما بدا
لكم، ثم أشار إلى نسوة مجتمعات غير بعيد. قال بعضهم: فقلت: والله ليسير ما
طلب، فأخذته حتى أوقفته عليهن فأنشد أبياتا، ثم جئت به، فقدموه فضربت عنقه،
فقامت امرأة من بينهن، فجاءت حتى وقفت عليه فشهقت بفتح الهاء شهقة أو
شهقتين ثم ماتت. أي وفي رواية فأكبت عليه تقبله حتى ماتت انتهى. أي وفي
رواية فانحدرت إليه من هودجها فحنت عليه حتى ماتت، فعند ذلك قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «أما كان فيكم رجل رحيم القلب» .
سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى
أوطاس
لما انصرف صلى الله عليه وسلم من حنين وانهزم المشركون عسكر منهم طائفة
بأوطاس، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري عم أبي موسى
الأشعري في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري. ووقع في الأصل أن أبا عامر ابن عم
أبي موسى الأشعري قال في النور وهو غلط، وإنما أبو موسى ابن أخي أبي عامر.
فلحقوا بالقوم وتناوشوا القتال: أي تكافؤوا فيه، وبارز أبو عامر تسعة،
ويقال إنهم إخوة وهو يقتلهم واحدا بعد واحد، أي وصار كل من برز له منهم
يدعوه إلى الإسلام فيأبي فيقول اللهم اشهد ويحمل عليه فيقتله. ثم برز له
أخوهم العاشر فقتل أبا عامر، أي فإنه قال له أسلم فأبى، فقال: اللهم اشهد
فقال: اللهم لا تشهد وفرش يديه، فظن أبو عامر أنه أسلم فكف عنه، فعاد إلى
أبي عامر فقتله ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه، وكان إذا رآه صلى الله
عليه وسلم يقول: هذا شريد أبي عامر.
(3/280)
قال: وعن أبي موسى الأشعري قال: جئت لأبي
عامر وفيه رمق فقلت: يا عم من رماك؟ فقال: ذاك، وأشار إلى شخص من القوم،
فقصدته فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت؟
فثبت، فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قد قتل الله صاحبك، قال:
فانزع هذا السهم فنزعته، فقال:
يا بن أخي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له يستغفر لي،
وقال: ادفع فرسي وسلاحي له انتهى، فليتأمل الجمع بين هذا وما قبله.
وقبل أن يموت أبو عامر رضي الله عنه استخلف ابن عمه أبا موسى ودفع الراية
له. وفي لفظ: أن أبا عامر رماه واحد فأصاب قلبه، ورماه آخر فأصاب ركبته
فقاتلاه، وولى الناس أبا موسى فحمل عليهما فقتلهما: أي وفتح الله عليهم،
وانهزم المشركون وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا.
ولما رجع أبو موسى رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره
بموت أبي عامر استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم اجعله
من أعلى أمتي في الجنة» أي وفي رواية: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير
من خلقك من الناس» ودعا لأبي موسى أي فقال: «اللهم اغفر له ذنبه وأدخله يوم
القيامة مدخلا كريما» .
سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى
ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه
لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل رضي
الله تعالى عنه لهدم ذي الكفين، وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف، فخرج
سريعا إلى قومه، فهدم ذا الكفين، وجعل يحثي النار في وجهه، وانحدر معه من
قومه أربعمائة سراعا، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد
مقدمة بأربعة أيام، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأزد
من يحمل رايتكم؟ فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية النعمان بن
الراوية، قال: أصبتم.
سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه
إلى بني تميم
أي وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بعث بشر بن سفيان إلى بني كعب لأخذ
صدقاتهم وكانوا مع بني تميم على ماء، فأخذ بشر صدقات بني كعب، فقال لهم بنو
تميم وقد استكثروا ذلك: لم تعطوهم أموالكم؟ فاجتمعوا وأشهروا السلاح،
ومنعوا بشرا من أخذ الصدقة، فقال لهم بنو كعب: نحن أسلمنا ولا بد في ديننا
من دفع الزكاة، فقال لهم بنو تميم: والله لا ندع يخرج بعير واحد، ولما رأى
بشر رضي الله تعالى عنه
(3/281)
ذلك قدم المدينة، وأخبر النبي صلى الله
عليه وسلم بذلك.
فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري إلى بني
تميم في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل
ويكمن النهار، فهجم عليهم، وأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة. وفي
لفظ: إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فجاء بهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار رملة بنت الحارث، فجاء في أثرهم
جماعة من رؤسائهم، منهم عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس،
وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورياح بكسر الراء والمثناة
تحت ابن الحارث، فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري، فجاؤوا إلى باب
النبي صلى الله عليه وسلم، أي بعد أن دخلوا المسجد ووجدوا بلالا يؤذن
بالظهر والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستبطؤوه
فجاؤوا من وراء الحجرات، فنادوا: أي بصوت جاف: اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك
فإن مدحنا زين وذمنا شين، يا محمد اخرج إلينا، فخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم أي وقد تأذى من صياحهم، وأقام بلال رضي الله تعالى عنه الصلاة،
وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم: أي قالوا له:
نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال لهم النبي صلى
الله عليه وسلم: ما بالشعر بعثنا، ولا بالفخار أمرنا، ثم مضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فصلى الظهر ثم جلس في صحن المسجد، أي بعد أن قالوا له ما
تقدم، ومنه: إن مدحنا لزين، وإن شتمنا لشين، نحن أكرم العرب، فقال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل مدح الله عز وجل الزين وشتمه الشين،
وأكرم منكم يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام، ثم قالوا له: فائذن
لخطيبنا وشاعرنا، قال: أذنت فليقم. وفي لفظ: إني لم أبعث بالشعر، ولم أومر
بالفخر، ولكن هاتوا، فقدموا عطارد بن حاجب.
وفي لفظ قال الأقرع بن حابس لشاب منهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وفضل قومك،
فتكلم وخطب، أي فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا
ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف. وجعلنا أعز أهل المشرق
وأكثرهم عددا، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا رؤوس الناس وأولي فضلهم؟
فمن فاخر فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا لأكثرنا، وإنما أقول قولي هذا
لأن يأتوا بمثل قولنا أو أمرا أفضل من أمرنا، ثم جلس. أي وفي رواية أنه
قال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وأعطانا أموالا نفعل فيها ما نشاء،
فنحن خير أهل الأرض، وأكثرهم عددا، وأكثرهم سلاحا، فمن أنكر علينا قولنا
فليأت بقول هو أحسن من قولنا أو بفعال هي أفضل من فعالنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس أن يجيبه، أي قال
له: قم فأجب
(3/282)
الرجل في خطبته، فقام ثابت رضي الله تعالى
عنه فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه
علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله، ثم إنه كان من فضله أن جعلنا ملوكا،
واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبتا وأصدقه قلبا، وأفضله حسبا، فأنزل
عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس
إلى الإيمان فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوو
رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس مقالا، ثم كان أول
الناس إجابة واستجابه لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن
أنصار الله ورسوله؟ نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، فمن آمن بالله
ورسوله منع دمه وماله، ومن كفر جاهدناه في الله، وكان قتله علينا يسيرا،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
أي وفي رواية أنه قال: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونؤمن به ونتوكل عليه،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، دعا
المهاجرين من بني عمه، أحسن الناس وجوها، وأعظم الناس أحلاما فأجابوه.
والحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزا لدينه، فنحن نقاتل الناس
حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا نفسه وماله، ومن أباها
قاتلناه وكان رغمه في الله علينا هينا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله
المؤمنين والمؤمنات.
ثم قال الزبرقان لرجل منهم: فقم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل
قومك، فقال أبياتا منها:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليّ بحسان بن ثابت، فحضر، فقال له: قم
فأجبه، فقال: يسمعني ما قاله، فأسمعه فقال حسان رضي الله تعالى عنه أبياتا،
منها:
نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم عات من بعيد وحاضر
وأحياؤنا من خير من وطىء الحصا ... وأمواتنا من خير أهل المقابر
وثابت بن قيس هذا كان يعرف بخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، افتقده
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: من يعلم لي علمه؟ فقال رجل: أنا
يا رسول الله، فذهب فوجده في منزله جالسا منكسا رأسه؟ فقال له: ما شأنك؟
قال: أخشى أن أكون من أهل النار لأني رفعت صوتي فوق صوت النبي صلى الله
عليه وسلم. فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه.
فقال: اذهب إليه فقل له: لست من أهل النار. ولكنك من أهل الجنة، وقال صلى
الله عليه وسلم:
«نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس» قتل يوم اليمامة، وكان عليه درع نفيسة،
فمر
(3/283)
به رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من
المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول
هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في
أقصى الناس، وعند خبائه فرس، وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل، فأت
خالدا فمره فليأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا
وفلان من رقيقي عتيق، فاستيقظ الرجل فأتى خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع
فأتى بها بعد أن وجدها على ما وصف، وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه
فأجاز وصيته. قال بعضهم: ولا يعلم أحد حدثت وصيته بعد موته سواه.
ووقعت مفاخرة بين الزبرقان بن بدر وبين حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه كل
منهما يذكر قصيدة يذكر فيها فخرا، فمن قصيدة الزبرقان بن بدر وهو مطلعها:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع
ومن قصيدة حسان رضي الله تعالى عنه وهو مطلعها:
إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
وفيه أن هذا البيت من قول بعض بني تميم، وقد أسمعه لحسان كما تقدم فليتأمل.
ووقعت مفاخرة بين الأقرع بن حابس وبين حسان رضي الله تعالى عنه، فقال
الأقرع بن حابس: إني والله يا محمد قد قلت شعرا فاسمعه، فقال له صلى الله
عليه وسلم: هات، فأنشد:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسان فأجبه، فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأقرع: لقد كنت غنيا يا أخا بني دارم
أن تذكر ما كنت ترى أن الناس قد نسوه، فكان هذا القول من رسول الله صلى
الله عليه وسلم أشد عليهم من قول حسان رضي الله تعالى عنه. وحينئذ قال
الأقرع بن حابس: لخطيبه. يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، أي ثم
دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول
الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يضرك ما كان قبل هذا. ورأى
النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن رضي الله تعالى عنه،
(3/284)
فقال: يا رسول الله لي من الولد عشرة ما
قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من لا يرحم لا يرجم» .
قال ابن دريد رحمه الله: اسم الأقرع نواس، وإنما لقب الأقرع لقرع كان في
رأسه، والقرع: انحصاص الشعر. وكان رضي الله تعالى عنه شريفا في الجاهلية
والإسلام، ونزل فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى
تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
[الحجرات: الآية 4- 5] .
ووقع أن عمرو بن الأهتم مدح الزبرقان للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه
لمطاع في أنديته، سيد في عشيرته، فقال الزبرقان: لقد حسدني يا رسول الله
لشرفي، وقد علم أفضل مما قال، فقال عمرو: إنه لزمن المروءة، ضيق العطن،
لئيم الخال. وفي لفظ أن الزبرقان قال: يا رسول الله أنا سيد تميم، والمطاع
فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظلم وهذا يعلم ذلك،
يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو:
إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في ناديه، مانع لما وراء ظهره، فقال
الزبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال
عمرو:
أنا أحسدك؟ والله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مبغض في
العشيرة، فعرف عمرو الإنكار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا
رسول الله، والله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الثانية، رضيت فقلت أحسن
ما عملت، وسخطت فقلت أقبح ما عملت. وفي رواية: والله يا رسول الله لقد صدقت
فيهما، أرضاني فقلت أحسن ما عملت، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فعند ذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» وجاء: «إن من البيان سحرا،
وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا» .
قال بعضهم: أما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان سحرا» فإن الرجل
يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب
بالحق. وأما قوله:
«إن من العلم جهلا» فإن العالم يكلف ما لا يعلم فيجهله ذلك. وأما قوله: «إن
من الشعر حكما» فهو هذه المواعظ والأمثال. وأما قوله: «وإن من القول عيا»
فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه، هذا كلامه.
وفيه إن هذا بيان للسحر المذموم، وليس المراد هنا وإنما هو من السحر
الحلال، ومن ثم أقرّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عليه ولم يسخطه
منه، فالسحر المذموم أن يصوّر الباطل في صورة الحق ببيانه، ويخدع السامع
بتمويهه وهو المراد عند الإطلاق، والسحر غير المذموم فما كان من البيان على
حق، لأن البيان بعبارة مقبولة عذبة لا استكراه فيها تستميل القلوب كما
يستميل الساحر قلوب الحاضرين إلى ما موّه به.
(3/285)
ثم إنه صلى الله عليه وسلم رد عليهم
الأسارى والسبي وأحسن جوائزهم، قال: أي بعد أن أسلموا، وأعطى كل واحد اثني
عشر أوقية، قيل إلا عمرو بن الأهتم فإن القوم خلفوه في ظهورهم، لأنه كان
أصغرهم سنا فأعطاه خمس أواق.
وقد اختلف في عدد هذا الوفد، فقيل كانوا سبعين رجلا، وقيل كانوا ثمانين،
وقيل كانوا تسعين انتهى.
أي والذي في الاستيعاب: ثم أسلم القوم وبقوا في المدينة مدة يتعلمون الدين
والقرآن، ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم
أسراهم ونساءهم، وقال:
أما بقي منكم أحد؟ وكان عمرو بن الأهتم في ركابهم، فقال قيس بن عاصم وكان
مشاحنا له: لم يبق منا إلا غلام في ركابنا وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم، وبلغ عمرا ما قال قيس في حقه، فأنشد أبياتا
تتضمن لومه على ذلك، وكان عمرو خطيبا بليغا شاعرا محسنا، يقال إن شعره كان
حللا منثورة، وكان رضي الله تعالى عنه جميلا يدعى الكحيل لجماله، وهو
القائل:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
هذا كلامه، وأنزل الله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ
كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: الآية 63] قيل معناه لا تجعلوا دعاءه
إياكم كدعاء بعضكم بعضا فتؤخروا إجابته بالأعذار التي يؤخر بها بعضكم إجابة
بعض، لكم عظموه صلى الله عليه وسلم بسرعة الإجابة.
سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي
من خثعم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبة بن عامر في عشرين رجلا إلى حي من
خثعم، وأمره أن يشن الغارة عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا
رجلا فسألوه فاستعجم عليهم: أي سكت ولم يعلمهم بالأمر، فجعل يصيح بالحاضر:
أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه كما تقدم ويحذرهم،
فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنوا الغارة عليهم، فاقتتلوا قتالا
شديدا حتى كثرت الجرحى في الفريقين، وساقوا النعم والشاء إلى المدينة، وجاء
سهيل فحال بينهم وبين القوم، فلم يجد القوم إليهم سبيلا وتقدمت الحوالة على
هذا.
سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه
في جمع إلى بني كلاب، فلقوهم ودعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم،
وكان من جملة المسلمين شخص لقي أباه في جملة القوم، فدعاه إلى الإسلام فسبه
وسب الإسلام فضرب عرقوب فرس أبيه فوقع، فأمسك أباه إلى أن أتى
(3/286)
بعض المسلمين فقتله، أي وفي رواية أنه صلى
الله عليه وسلم بعث لبني كلاب وكتب إليهم في رق فلم ينقادوا للإسلام،
وغسلوا الخط من الرق، وخاطوه تحت دلوهم، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك قال: ما لهم؟ أذهب الله عقولهم، فصار لا يوجد أحد منهم إلا مختلّ
العقل، مختلط الكلام بحيث لا يفهم كلامه.
سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما
بضم الميم وفتح الجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة المدلجيّ: أي وهو ولد
القائف الذي قاف في حق زيد بن حارثة وأسامة رضي الله تعالى عنهما وقال: إن
بعض هذه الأقدام من بعض، فهو صحابي ابن صحابي، إلى جمع من الحبشة، بلغ رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة: أي في مراكب،
وجدة بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: قرية، سميت بذلك لبنائها على ساحل
البحر، لأن الجدة شاطىء البحر، فبعث إليهم علقمة بن مجزز رضي الله تعالى
عنهما في ثلاثمائة، فخاض بهم البحر حتى أتوا إلى جزيرة في البحر فهربوا، أي
ورجعوا، ولم يلق كيدا. ثم لما كانوا في أثناء الطريق أذن علقمة رضي الله
تعالى عنه لجماعة أن يعجلوا وأمر عليهم أحدهم، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا
نارا يصطلون عليها، فقال لهم أميرهم: عزمت عليكم إلا تواثبتم: أي وقعتم في
هذه النار، فقام بعض القوم فحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا
إنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من
أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه» .
قال: وعن علي كرم الله وجهه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية
واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في
شيء، فقال:
اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوها، ثم قال: ألم
يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى،
قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنا فررنا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم من النار، فكان كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك، فقال: لو دخلوها ما خرجوا
منها أبدا. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في معصية الله، وإنما الطاعة
في المعروف» انتهى، أي والضمير في «دخلوها» للنار التي أوقدت، والضمير في
منها لنار الآخرة، لأن الدخول فيها معصية والعاصي يستحق النار، فالمقصود من
ذلك الزجر.
وفي رواية: «من أمركم منهم» أي من الأمراء «بمعصية الله فلا تطيعوه» وفي
لفظ: «لا طاعة في معصية الله» ولا مانع من تكرر هذه الواقعة.
(3/287)
سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى
هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام «صنم طيىء» والغارة عليهم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في خمسين ومائة رجل من
الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا معه راية سوداء ولواء أبيض إلى هدم
الفلس والغارة عليهم، فشنوا الغارة عليهم مع الفجر، فهدموا الفلس وأحرقوه،
واستاقوا النعم والشاء والسبي، وكان في السبي أخت عدي بي حاتم الطائي، أي
واسمها سفّانة بفتح السين المهملة وتشديد الفاء وبعد الألف نون مفتوحة ثم
تاء تأنيث، والسفانة في الأصل: هي الدرة، وهذه أسلمت رضي الله تعالى عنها.
قال بعضهم: ولا يعرف لحاتم بنت إلا هذه، ووجدوا في خزانة الصنم ثلاثة أسياف
معروفة عند العرب، وهي: رسوب، والمخذم، واليماني، وثلاثة أدراع. وجعل
الرسوب والمخذم صفيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار إليه الثالث
الذي هو اليماني.
قال: ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأخت عدي فقامت إليه، وكانت امرأة جذلة:
أي ذات وقار وعقل، وكلمته صلى الله عليه وسلم أن يمن عليها، فمنّ عليها،
فأسلمت رضي الله تعالى عنها، وخرجت إلى أخيها عدي فأشارت إليه بالقدوم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عليه كما سيأتي في الوفود.
ويذكر أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: «يا محمد أرأيت أن تخلي عنا، ولا
تشمت بنا أحياء من العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار،
ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام،
ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيىء، فقال لها النبي
صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما
لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق» .
أي وفي لفظ: «قالت له صلى الله عليه وسلم: يا محمد أرأيت أن تمنّ عليّ ولا
تفضحني في قومي فإني بنت سيدهم، إن أبي كان يطعم الطعام، ويحفظ الجوار،
ويرعى الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العريان، ولم يردّ طالب
حاجة قط» أنا بنت حاتم الطائي. فقال لها صلى الله عليه وسلم: هذه مكارم
الأخلاق حقا، ولو كان أبوك مسلما لترحمت عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب
مكارم الأخلاق، وإن الله يحب مكارم الأخلاق» .
وفي رواية: «أنها قالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن عليّ
منّ الله عليك. قال: ومن وفدك؟ قالت عدي بن حاتم، قال: الفارّ من الله
ورسوله»
(3/288)
أي لأنه هرب لما رأى الجيش كما سيأتي في
الوفود «قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني حتى إذا كان من
الغد قلت له كذلك وقال لي مثل ذلك، ففي اليوم الثالث أشار إليّ رجل خلفه
بأن كلميه فكلمته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلي
حتى يجيء من قومك من يكون لك ثقة يبلغك إلى بلادك، فآذنيني أي أعلميني
وسألت عن الرجل الذي أشار عليّ بكلامه، فقيل لي إنه علي بن أبي طالب كرم
الله وجهه قالت: فصبرت حتى قدم عليّ من أثق به، فجئت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقلت: قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة قالت فكساني رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت الشام على أخي»
انتهى.
سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد
مذحج
بفتح الميم وإسكان الذال المعجمة ثم حاء مهملة مكسورة ثم جيم كمسجد:
أبو قبيلة من اليمن.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج من أرض
اليمن في ثلاثمائة فارس، وعقد له لواء وعممه بيده وقال: امض ولا تلتفت،
فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلونك، فكانت أول خيل دخلت إلى تلك
البلاد، ففرق أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فأتوا بنهب بفتح النون وغنائم
وأطفال ونساء ونعم وشاء وغير ذلك، وجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب بضم
الحاء وفتح الصاد المهملتين، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا
بالنبل والحجارة فصف أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان، ثم حمل عليهم
فقتل منهم عشرين رجلا فانهزموا وتفرقوا، فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى
الإسلام، فأسرع إلى إجابته ومتابعته نفر من رؤسائهم وقالوا: نحن على من
وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا، فخذ منها حق الله تعالى. وجمع عليّ كرم
الله وجهه الغنائم فجزأها على خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله، وأقرع
عليها فخرج أول السهام سهم الخمس، وقسم الباقي على أصحابه، ثم رجع علي كرم
الله وجهه فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قدمها للحج، أي حجة الوداع.
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا كرم الله وجهه في سرية إلى
اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما قرأ كتابه خر ساجدا ثم جلس، فقال: السلام على همدان،
وتتابع أهل اليمن إلى الإسلام. قال في الأصل: إن هذه السرية هي الأولى وما
قبلها السرية الثانية.
(3/289)
سرية خالد بن الوليد
رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وكان نصرانيا
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا
في رجب سنة تسع إلى أكيدر بدومة الجندل وقال له: إنك ستجده يصيد البقر،
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وكانت ليلة مقمرة صافية وهو
على سطح له ومعه امرأته، فجاءت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت له
امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا
أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وركب معه نفر من أهله فيهم أخ له يقال له
حسان، فتلقتهم خيل خالد فاستأسر أكيدر، وقاتل أخوة حتى قتل، وأجار خالد
أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له
دومة الجندل، وكان على أكيدر قباء من ديباج مخوصة: أي فيها خوص منسوجة
بالذهب مثل خوص النخل، فاستلبه خالد إياها، وأرسلها لرسول الله صلى الله
عليه وسلم، فتعجبت الصحابة منها. فقال صلى الله عليه وسلم: «لمناديل سعد بن
معاذ في الجنة أحسن من هذا» أي وقد تقدم. وصالح على أهل دومة الجندل بألفي
بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح.
ثم خرج خالد بأكيدر وأخيه مصاد قافلا إلى المدينة، فقدم بالأكيدر على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فصالحه على الجزية، وحقن دمه ودم أخيه، وخلى
سبيلهما، وكتب له كتابا فيه أمانهم وختمه يؤمئذ بظفره: أي ومن جملة الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام،
وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل
وأكنافها» إلى آخره، وهذا كما لا يخفى يدل على أن أكيدر أسلم، أي وهو
الموافق لقول أبي نعيم وابن منده بإسلامه، وأنه معدود من الصحابة وأهدى إلى
النبي صلى الله عليه وسلم حلة، فوهبها صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب.
وذكر ابن الأثير: أي في أسد الغابة أن القول بإسلامه غلط فاحش، فإنه لم
يسلم بلا خلاف بين أهل السير، أي وحينئذ يكون قوله في الكتاب حين أجاب إلى
الإسلام أي انقاد إليه. ويبعده قوله: وخلع الأنداد والأصنام فليتأمل، وأنه
صلى الله عليه وسلم لما صالحه عاد إلى حصنه وبقي فيه على نصرانيته.
ثم إن خالدا رضي الله تعالى عنه حاصره في زمن أبي بكر الصديق رضي الله
تعالى عنهما فقتله لنقضه العهد.
قال ابن الأثير: وذكر البلاذري أن أكيدر لما قدم على النبي صلى الله عليه
وسلم أسلم، ثم بعد موته صلى الله عليه وسلم ارتد، ثم قتله خالد: أي بعد أن
عاد من العراق إلى الشام.
(3/290)
قال: وعلى هذا القول لا ينبغي أن يذكر في
الصحابة، وإلا كان كل من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد، أي
ومات مرتدا يذكر في الصحابة، أي ولا قائل بذلك.
ثم رأيت الذهبي قال في عمارة بن قيس بن الحارث الشيباني إنه ارتد، وقتل
مرتدا في خلافة أبي بكر، وبهذا خرج عن أن يكون صحابيا بكل حال.
سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه
إلى أبنى
بضم الهمزة ثم موحدة، ثم نون مفتوحة مقصورة: اسم موضع بين عسقلان والرملة.
وفي كلام السهيلي رحمه الله: وهي قرية عند مؤتة التي قتل عندها زيد بن
حارثة، رضي الله تعالى عنهما.
لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة أمر
صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا صلى الله
عليه وسلم أسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد
وليتك هذا الجيش، فاغز صباحا على أهل أبنى، وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق
الأخبار، فإن ظفرك الله عليهم فأقل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء وقدم
العيون والطلائع معك.
فلما كان يوم الأربعاء بدأ به صلى الله عليه وسلم وجعه فحم وصدع، فلما أصبح
يوم الخميس عقد صلى الله عليه وسلم لأسامة لواء بيده، ثم قال: اغز باسم
الله وفي سبيل الله، وقاتل من كفر بالله، فخرج رضي الله تعالى عنه بلوائه
معقودا فدفعه إلى بريدة، وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين
والأنصار إلا اشتد لذلك، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن
أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم، فتكلم قوم وقالوا:
يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين والأنصار، أي لأن سن أسامة رضي
الله تعالى عنه كان ثمان عشرة، وقيل تسع عشرة سنة، وقيل سبع عشرة سنة.
ويؤيد ذلك أن الخليفة المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية الذي ضرب
به المثل في الذكاء وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة.
فقال المهدي: أف لهذه العثانين، أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث،
ثم التفت إليه المهدي وقال: كم سنك يا فتى؟ فقال: سني. أطال الله بقاء أمير
المؤمنين. سن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم لما ولاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
فقال: تقدم، بارك الله فيك، وكان سنة سبع عشرة سنة.
ومما يؤثر عنه: من لم يعرف عيبه فهو أحمق، فقيل له ما عيبك يا أبا واثلة؟
(3/291)
قال: كثرة الكلام، وقيل كان عمر أسامة رضي
الله تعالى عنه عشرين سنة.
ولما بلغ رسول الله مقالتهم وطعنهم في ولايته مع حداثة سنه غضب صلى الله
عليه وسلم غضبا شديدا، وخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، وصعد
المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة
بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في
إمارتي أباه من قبله وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده
لخليق الإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإنهما مظنة لكل خير، فاستوصوا
به خيرا فإنه من خياركم، وتقدم أنه رضي الله تعالى عنه كان يقال له الحب
ابن الحب. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح خشمه وهو صغير بثوبه.
ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر
ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجون إلى العسكر بالجرف، وثقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: أرسلوا بعث أسامة، أي واستثنى صلى الله
عليه وسلم أبا بكر وأمره بالصلاة بالناس.
أي فلا منافاة بين القول بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان من جملة الجيش
وبين القول بأنه تخلف عنه، لأنه كان من جملة الجيش أوّلا، وتخلف لما أمره
صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس.
وبهذا يرد قول الرافضة طعنا في أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه تخلف عن جيش
أسامة رضي الله تعالى عنه، لما علمت أن تخلفه عنه كان بأمر منه صلى الله
عليه وسلم لأجل صلاته بالناس، وقول هذا الرافضي مع أنه صلى الله عليه وسلم
لعن المتخلف عن جيش أسامة مردود، لأنه لم يرد اللعن في حديث أصلا.
فلما كان يوم الأحد اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فدخل
أسامة من عسكره والنبي صلى الله عليه وسلم مغمور، فطأطأ رأسه فقبله وهو صلى
الله عليه وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة
رضي الله تعالى عنه. قال أسامة: فعرفت أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لي،
ورجع أسامة رضي الله تعالى عنه إلى عسكره، ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين.
فقال له صلى الله عليه وسلم: اغد على بركة الله تعالى، فودعه أسامة وخرج
إلى معسكره وأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم
أيمن رضي الله تعالى عنها قد جاءه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يموت.
وفي لفظ: فسار حتى بلغ الجرف فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول له: لا
تعجل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل، فأقبل وأقبل معه عمر وأبو
عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنهم، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يموت، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس.
(3/292)
أي وفي لفظ أنه رضي الله تعالى عنه لما نزل
بذي خشب قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف
إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة حتى أتى به إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فغرزه عنده.
فلما بويع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه بالخلافة أمر بريدة أن يذهب باللواء
إلى بيت أسامة وأن يمضي أسامة لما أمر به.
فلما مات صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، أي فإنه لما اشتهرت وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم، ظهر النفاق، وقويت نفوس أهل النصرانية واليهودية،
وصارت المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، وارتدت طوائف من العرب
وقالوا نصلي ولا ندفع الزكاة وعند ذلك كلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه في
منع أسامة من السفر: أي قالوا له كيف يتوجه هذا الجيش إلى الروم وقد ارتدت
العرب حول المدينة؟ فأبى أي وقال: والله الذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب
بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرد جيشا وجهه رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ولا حللت لواء عقده. وفي لفظ: والله لأن تخطفني الطير أحب
إلي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول: ذكر بعضهم أن أسامة رضي الله تعالى عنه وقف بالناس عند الخندق وقال
لسيدنا عمر: ارجع إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه أن يأذن
لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس ولا آمن على خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وثقله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون، وقالت له
الأنصار رضي الله تعالى عنهم: فإن أبي أبو بكر إلا أن يمضي: أي الجيش
فأبلغه منا السلام، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة، فقدم
عمر على أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر:
والله لو تخطفني الذئاب والكلاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله
عليه وسلم. قال عمر رضي الله تعالى عنه: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم
يطلبون أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالسا
وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب، استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، فخرج عمر إلى الناس فقال: امضوا
ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت اليوم بسببكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم خيرا، هذا كلامه.
وفيه أن هذا مخالف لما تقدم من صعوده صلى الله عليه وسلم المنبر وإنكاره
على من طعن في ولاية أسامة، إذ يبعد عدم بلوغ ذلك للأنصار رضي الله تعالى
عنهم، إلا أن يقال:
لعل من قال لسيدنا عمر هذه المقالة جمع من الأنصار لم يكونوا سمعوا ذلك ولا
بلغهم، أو جوزوا أن الصديق رضي الله تعالى عنه يوافق على ذلك حيث رأى فيه
المصلحة، وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه جوّز ذلك حيث لم يتكفل بالرد عليهم
بأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على من طعن في ولاية أسامة رضي الله تعالى
عنه، فليتأمل، والله أعلم.
(3/293)
وكلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه أسامة في
عمر رضي الله تعالى عنه أن يأذن له في التخلف ففعل، ولعل ذلك كان تطبيبا
لخاطر أسامة، ومن ثم كان عمر رضي الله تعالى عنه لا يلقى أسامة إلا قال
السلام عليك أيها الأمير كما يأتي، فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى
عشرة خرج أسامة رضي الله تعالى عنه: أي في ثلاثة آلاف فيهم ألف فرس، وودعه
سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه بعد أن سار إلى جنبه ساعة ماشيا، وأسامة
راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق، فقال أسامة: يا خليفة رسول
الله إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: والله لست بنازل، ولست براكب ثم قال
له الصديق، رضي الله تعالى عنه: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.
وقد وقع نظير ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله
تعالى عنه إلى اليمن شيعه صلى الله عليه وسلم وهو يمشي تحت راحلة معاذ وهو
يوصيه.
ثم إن أسامة رضي الله تعالى عنه سار إلى أهل أبنى، فشنّ عليهم الغارة: أي
فرق الناس عليهم، وكان شعارهم «يا منصور أمت» فقتل من قتل وأسر من أسر،
وحرق منازلهم وحرق أرضها فأزال نخلها، وأجال الخيل في عرصاتها، ولم يقتل من
المسلمين أحد. وكان أسامة رضي الله تعالى عنه على فرس أبيه وقتل قاتل أبيه
رضي الله تعالى عنهما، وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما، وأخذ لنفسه مثل
ذلك، فلما أمسى أمر الناس بالرحيل، وأسرع السير، وبعث مبشرا إلى المدينة
بسلامتهم.
وخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار ممن لم يكن في تلك السرية يتلقون أسامة
ومن معه، وسروا بسلامتهم، ودخل أسامة رضي الله تعالى عنه واللواء بين يديه
حتى انتهى إلى باب المسجد ثم انصرف إلى بيته.
أي وكان في خروج هذا الجيش نعمة عظيمة، فإنه كان سببا لعدم ارتداد كثير من
طوائف العرب أرادوا ذلك. وقالوا: لولا قوة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، فثبتوا على الإسلام.
أي وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حتى بعد أن ولي الخلافة إذا رأى
أسامة رضي الله تعالى عنه قال: السلام عليك أيها الأمير، فيقول أسامة: غفر
الله لك يا أمير المؤمنين، تقول لي هذا؟ فيقول: لا أزال أدعوك ما عشت
الأمير.
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت عليّ أمير. وفي السيرة الشامية
سرايا أخر تركنا ذكرها تبعا للأصل.
وفي السنة الثامنة أمر صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه
أن يحج بالناس وهو بمكة.
(3/294)
وقد كان صلى الله عليه وسلم استعمله عليها
لما أراد الخروج إلى حنين، وقيل لما رجع من حنين. واستمر أميرا على مكة حتى
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقره الصديق رضي الله تعالى عنه إلى
أن توفي، وكانت وفاته يوم وفاة الصديق رضي الله تعالى عنهما، أي لأنه أطعم
سم سنة في اليوم الذي فيه الصديق ذلك، وكان ذلك الحج على ما كانت عليه
العرب في الجاهلية من حج الكفار مع المسلمين، لكن كان المسلمون بمعزل عنهم
في الموقف.
ولما دخلت سنة تسع استعمل صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله
تعالى عنه على الحج، فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه صلى الله
عليه وسلم بعشرين بدنة قلدها صلى الله عليه وسلم وأشعرها بيده الشريفة،
وساق أبو بكر رضي الله تعالى عنه خمس بدنات، ثم تبعه عليّ كرم الله وجهه
على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء: أي بفتح القاف والمد. وقيل
بالضم والقصر ونسب للخطأ، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه استعملك رسول
الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على
الناس، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده، وكان العهد بين رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبين المشركين عاما وخاصا، فالعام أن لا يصدّ أحد عن البيت جاءه، ولا
يخاف أحد في الأشهر الحرم كما تقدم، والخاص بين رسول الله صلى الله عليه
وسلم وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة.
وفي كلام السهيلي رحمه الله تعالى: لما أردف أبو بكر بعليّ رضي الله تعالى
عنهما رجع أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله هل أنزل
فيّ قرآن؟ قال: لا ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي، فمضى أبو بكر
رضي الله تعالى عنه فحج بالناس: أي في ذي الحجة لا في ذي القعدة كما قيل من
أجل النسيء الذي كان في الجاهلية، يؤخرون له الأشهر الحرم، أي فإن براءة
نزلت: أي صدرها، وإلا فقد نزل منها قبل ذلك في غزوة تبوك انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالًا [التوبة: الآية 41] الآيات، وكان نزول صدرها بعد سفر أبي بكر رضي
الله تعالى عنه فقيل له صلى الله عليه وسلم: لو بعثت بها إلى أبي بكر،
فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي.
ثم دعا صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه، فقال: اخرج بصدر براءة وأذن
في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، فقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
براءة يوم النحر: أي الذي هو يوم الحج الأكبر عند الجمرة الأول وقال: «لا
يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «أمرني علي كرم الله وجهه أن أطوف
في المنازل من منى ببراءة فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له: بماذا كنت
تنادي؟ فقال: بأربع: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام
مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد فله عهد أربعة أشهر ثم لا
(3/295)
عهد له، وأول تلك الأربعة يوم النحر من ذلك
العام. ومن لا عهد له فعهده إلى انقضاء المحرم» .
وكان المشركون إذا سمعوا النداء ببراءة يقولون لعلي كرم الله وجهه: سترون
بعد الأربعة أشهر، فإنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب.
وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بما ذكر، لأنهم كانوا يحجون مع المسلمين
ويرفعون أصواتهم بقولهم: لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. أي
وتقدم سبب الإتيان بذلك، ويطوف رجال منهم عراة ليس على رجل منهم ثوب
بالليل، فيقول الواحد منهم: أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس عليّ شيء من
الدنيا خالطه الظلم:
أي وفي لفظ التي قارفنا فيها الذنوب.
وكان لا يطوف الواحد منهم بثوب إلا بثوب من ثياب الحمس وهم قريش، يستعيره
أو يكتريه، وإذا طاف بثوب من ثيابه ألقاه بعد طوافه فلا يمسه هو ولا أحد
غيره أبدا، فكانوا يسمون تلك الثياب اللعنى.
وفي الكشاف: كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي
عليه ضرب وانتزعت منه، لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها. وقيل
تفاؤلا بأن يعروا من الذنوب كما يعرون من الثياب.
وكانت النساء يطفن كذلك، وقيل كانت الواحدة تلبس درعا مفرجا. وقد طافت
امرأة عريانة ويدها على قبلها وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله
فأنزل الله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ
مَسْجِدٍ [الأعراف: الآية 31] قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: الآية 32]
فأبطلت ذلك سورة براءة في تلك السنة، أي وقيل الزينة المشط، وقيل الطيب.
وكان بنو عامر في أيام الحج لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما
يعظمون بذلك حجتهم، فقال المسلمون فإنا أحق أن نفعل ذلك، فقيل لهم:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: الآية 31] .
ويحكى أن بعض الأطباء الحذاق من النصارى، قال لبعض الحكماء: ليس في كتابكم
من علم الطب شيء. والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان. فقال له:
قد جمع الله الطب كله في بعض آية من كتابه، قال له: وما هي، قال: قوله:
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: الآية 31] ، فقال
النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم صلى الله عليه وسلم شيء من الطب؟ قال: قد جمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟
قال قوله: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته»
. فقال
(3/296)
ذلك الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم
لجالينوس شيئا.
وبينت براءة أن من كان له عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى
أربعة أشهر. وفي لفظ: لما لحق علي كرم الله وجهه أبا بكر رضي الله تعالى
عنه، قال له أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور.
وزعمت الرافضة أنه صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر عن إمارة الحج بعليّ.
وعبارة بعض الرافضة: ولما تقدم أبو بكر بسورة براءة رده صلى الله عليه وسلم
بعد ثلاثة أيام بوحي من الله. وكيف يرضى العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي
صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة، هذا كلامه.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: وهذا أبين من الكذب، فإن من المعلوم
المتواتر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يعزل، وأنه حج بالناس، وكان
عليّ كرم الله وجهه من جملة رعيته في تلك السفرة، يصلي خلفه كسائر
المسلمين، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج في ذلك العام.
وإنما أردف صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعلي كرم الله
وجهه لنبذ العهود، وكان من عادة العرب لا ينبذ العهد إلا المطاع أو رجل من
أهل بيته، أي فلو تلا أبو بكر رضي الله عنه ما فيه نقض عهد عاهد عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم ربما تعللوا وقال قائلهم: هذا خلاف ما نعرف، فأزاح
الله عللهم بكون ذلك على يد رجل من بني أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأدنى إليه ممن له ذرية وهو عبد المطلب، قال: وهذا غير بعيد من افتراء
الرافضة وبهتانهم، أي وعلى عادة العرب بما ذكر جاء قوله صلى الله عليه
وسلم: «لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي» كما تقدم. وفي لفظ «إلا رجل مني»
أي لا يبلغ عني عقد العقود ولا حلها إلا رجل مني، أي من بني أبي الأدنى ولا
أب له ذرية أدنى إليه صلى الله عليه وسلم من عبد المطلب.
ولا يجوز حمل ذلك على تبليغ الأحكام والقرآن، إذ كل أحد من المسلمين مأذون
له في تبليغ ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه السنة التي هي سنة تسع تتابعت الوفود على رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى قيل لها سنة الوفود.
(3/297)
|