السيرة النبوية لابن كثير

ذكر شئ مِنْ أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ
هُوَ عبد الله بن جدعَان، بْنِ عَمْرِو، بْنِ كَعْبِ، بْنِ سَعْدِ، بْنِ تَيْمِ، بْنِ مُرَّةَ، سَيِّدُ بَنِي تَيْمٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَانَ مِنَ الْكُرَمَاءِ الْأَجْوَادِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْمُطْعِمِينَ لِلْمُسْنِتِينَ.
وَكَانَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ فَقِيرًا مُمْلِقًا، وَكَانَ شِرِّيرًا يُكْثِرُ مِنَ الْجِنَايَاتِ، حَتَّى أَبْغَضَهُ قَوْمُهُ وعشيرته وَأَهله وقبيلته، وأبغضه حَتَّى أَبُوهُ.
فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي شِعَابِ مَكَّةَ حَائِرًا بَائِرًا فَرَأَى شَقًّا فِي جَبَلٍ، فَظن أَن يكون بِهِ شئ يُؤْذِي، فَقَصَدَهُ لَعَلَّهُ يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ مِمَّا هُوَ فِيهِ.
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ إِذَا ثُعْبَانٌ يَخْرُجُ إِلَيْهِ وَيَثِبُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَحِيدُ عَنْهُ وَيَثِبُ فَلَا يُغْنِي شَيْئًا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ إِذَا هُوَ مِنْ ذَهَبٍ وَلَهُ عَيْنَانِ هُمَا يَاقُوتَتَانِ، فَكَسَرَهُ وَأَخَذَهُ وَدَخَلَ الْغَارَ فَإِذَا فِيهِ قُبُورٌ لِرِجَالٍ مَنْ مُلُوكِ جُرْهُمٍ، وَمِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ الَّذِي طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذهب، وَوجد عِنْد رؤوسهم لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَارِيخُ وَفَاتِهِمْ وَمُدَدُ ولايتهم،
وَإِذا عِنْدهم من الْجَوَاهِر والآلئ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة شئ كَثِيرٌ، فَأَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَّمَ بَابَ الْغَارِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى أَحَبُّوهُ وَسَادَهُمْ، وَجَعَلَ يُطْعِمُ النَّاسَ، وَكُلَّمَا قَلَّ مَا فِي يَدِهِ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْغَارِ فَأَخَذَ حَاجَتَهُ ثُمَّ رَجَعَ.
فَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ فِي كِتَابِ " التِّيجَانِ (1) " وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ فِي كِتَابِ " رِيِّ الْعَاطِشِ وَأُنْسِ الْوَاحِشِ " وَكَانَتْ لَهُ جَفْنَةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الرَّاكِبُ عَلَى بَعِيرِهِ، وَوَقَعَ فِيهَا صَغِير فغرق.
__________
(1) كتاب التيجان لمعْرِفَة مُلُوك الزَّمَان.
وَهُوَ يتَضَمَّن بعض قصَص أهل الْكتاب، وأخبار الْيمن.
(*)

(1/116)


وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَدْ كُنْتُ أَسْتَظِلُّ بِظِلِّ جَفْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ صَكَّةَ عُمَيٍّ (1) " أَيْ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ.
وَفِي حَدِيثِ مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " تَطَلَّبُوهُ بَيْنَ الْقَتْلَى وَتَعَرَّفُوهُ بِشَجَّةٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَإِنِّي تَزَاحَمْتُ أَنَا وَهُوَ عَلَى مَأْدُبَةٍ لِابْنِ جُدْعَانَ فَدَفَعْتُهُ فَسَقَطَ عَلَى رُكْبَتِهِ فَانْهَشَمَتْ فَأَثَرُهَا بَاقٍ فِي رُكْبَتِهِ " فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُطْعِمُ التَّمْرَ وَالسَّوِيقَ وَيَسْقِي اللَّبَنَ، حَتَّى سَمِعَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْفَاعِلِينَ وفعلهم * فَرَأَيْت أكْرمهم بنى الديَّان البريلبك بِالشِّهَادِ طَعَامُهُمْ * لَا مَا يُعَلِّلُنَا بَنُو جُدْعَانِ فَأَرْسَلَ ابْنُ جُدْعَانَ إِلَى الشَّامِ أَلْفَيْ بَعِيرٍ [جَاءَت] تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالشَّهْدَ وَالسَّمْنَ، وَجَعَلَ مُنَادِيًا يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ: أَنْ هَلُمُّوا إِلَى جَفْنَةِ ابْنِ جُدْعَانَ.
فَقَالَ أُمَيَّةُ فِي ذَلِكَ: لَهُ دَاعٍ بِمَكَّةَ مُشْمَعِلٌّ (2) * وَآخَرُ فَوْقَ كَعْبَتِهَا يُنَادِي إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلَاءٍ (3) * لُبَابُ الْبُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ لِمُسْلِمٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ يُطْعِمُ الطَّعَامَ وَيَقْرِي الضَّيْفَ، فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: " لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّين ".
__________
(1) الصكة: شدَّة الهاجرة، وتضاف إِلَى عمى، رجل من العمالقة أغار على قوم فِي الظهيرة فاجتاحهم (2) مشمعل: مبادر مُجْتَهد.
(3) الردح: جمع ردحة وهى الْجَفْنَة الْعَظِيمَة.
والشيزى خشب أسود للقصاع.
(*)

(1/117)