الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الثاني عشر الحلم والاحتمال وَالْعَفْوُ
وَأَمَّا الْحِلْمُ وَالِاحْتِمَالُ وَالْعَفْوُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكْرَهُ.
- وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَلْقَابِ فَرْقٌ.
- فَإِنَّ الْحِلْمَ: حَالَةُ تَوَقُّرٍ وَثَبَاتٍ عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّكَاتِ.
- وَالِاحْتِمَالَ: حَبْسُ النَّفْسِ عِنْدَ الْآلَامِ والمؤذيات.
- والصبر: مثلها.
وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.
- وَأَمَّا الْعَفْوُ: فَهُوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ ...
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نبيه صلّى الله عليه وسلم:
فقال تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» «1» الآية.
__________
(1) «.... وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» سورة الأعراف «199» .

(1/219)


رُوِيَ «1» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، سَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَأْوِيلِهَا. فَقَالَ لَهُ: حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ ...
وقال له: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» الآية. «2»
وقال تعالى: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» «3» .
وقال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا» «4» الآية.
وقال تعالى: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» «5» .
وَلَا خَفَاءَ بِمَا يُؤْثَرُ مِنْ حِلْمِهِ وَاحْتِمَالِهِ، وَأَنَّ كُلَّ حَلِيمٍ قَدْ عُرِفَتْ مِنْهُ زَلَّةٌ، وَحُفِظَتْ عَنْهُ هَفْوَةٌ، وَهُوَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَزِيدُ مَعَ كَثْرَةِ الْأَذَى إِلَّا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما.
__________
(1) كما في تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، في مكارم الاخلاق وابن أبي الدنيا مرسلا ووصله ابن مردويه.
(2) « ... إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» سورة لقمان «17» .
(3) سورة الأحقاف «35» .
(4) « ... أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» سورة النور «22» .
(5) سورة الشورى «43» .

(1/220)


عَنْ عَائِشَةَ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «2» مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أَمْرَيْنِ قَطُّ، إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ؛ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا.
وَرُوِيَ «3» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ شَقًّا شَدِيدًا، وَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ:
فَقَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون» .
وري «4» عَنْ عُمَرَ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ:
«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. لَقَدْ دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فقال:
__________
(1) مرت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(2) كما رواه الشيخان وأبو داوود أيضا عنها ... كما أسنده المصنف من طريق مالك في الموطا.
(3) الحديث رواه البيهقي في شعب الايمان مرسلا، وروى آخره موصولا وهو قوله «اللهم اهد قومي..» في الصحيح حكاية عن نبي ضربه قومه.
(4) قال الدلجي: لم يعرف. وكذلك قال السيوطي: إن هذا لا يعرف عن عمر في شيء من كتب الحديث.
(5) تقدمت ترجمته في ص «13» رقم «4» .

(1/221)


«رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» «1» وَلَوْ دَعَوْتَ عَلَيْنَا مِثْلَهَا لَهَلَكْنَا مِنْ عِنْدِ آخرنا، فلقد وطيء ظَهْرُكَ، وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُكَ، فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إِلَّا خَيْرًا، فَقُلْتَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: انْظُرْ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِمَاعِ الْفَضْلِ وَدَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَغَايَةِ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ.
- إِذْ لَمْ يَقْتَصِرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السُّكُوتِ عَنْهُمْ، حَتَّى عَفَا عَنْهُمْ، ثُمَّ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ وَرَحِمَهُمْ، وَدَعَا، وسفع لَهُمْ، فَقَالَ: «اغْفِرْ» أَوِ «اهْدِ» . ثُمَّ أَظْهَرَ سَبَبَ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ «لِقَوْمِي» ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِجَهْلِهِمْ، فَقَالَ «فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» .
وَلَمَّا قَالَ لَهُ الرَّجُلُ «2» : «اعْدِلْ فَإِنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ» لَمْ يَزِدْهُ في جوابه أن بين لَهُ مَا جَهِلَهُ، وَوَعَظَ نَفْسَهُ، وَذَكَّرَهَا بِمَا قال له.
__________
(1) سورة نوح «26» .
(2) المنافق وهو ذو الحويصرة حرقوص بن زهير التميمي قتل في الخوارج يوم النهروان على يد علي كرم الله وجهه.

(1/222)


فَقَالَ «1» : «وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ «2» . خِبْتُ «3» وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ» .
وَنَهَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ قَتْلَهُ» .
- وَلَمَّا تَصَدَّى لَهُ غورث «5» بن الحارث ليفتك «6» به صلّى الله عليه وسلم، وهو مُنْتَبِذٌ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَحْدَهُ قَائِلًا «7» ، وَالنَّاسُ قَائِلُونَ في غزاة «8» فلم ينته رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وَهُوَ قَائِمٌ، وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ.
فَقَالَ: من يمنعك مني.
فقال: «الله»
__________
(1) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنهما. ونحوه في صحيح البخاري. وأخرجه البيهقي وهو حديث صحيح. وفي ألفاظه اختلاف، والمآل واحد.
(2) وفي مسلم: أو لست أحق أهل الأرض أن أطيع الله عز وجل؟! وغضب صلّى الله عليه وسلم حتى أحمرت وجنتاء..
(3) خبت.. نقلها النووي في شرح مسلم على وجهي الضم والفتح.
(4) وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في صحيح البخاري. أو خالد بن الوليد. أو كلاهما كما في مسلم.
(5) وردت القصة في سيرة ابن هشام برواية تختلف عن المذكورة هنا بعض الشيء انظر السيرة ج 3 س 216 تحقيق السقا ورفاقه ووردت في بعض السير بشكل قريب من الوارد هنا ولكن باسم دعثور بدلا من غورث.
(6) على ما رواه البيهقي.
(7) وهي ذات الرقاع رابع سنة للهجرة.
(8) وقائلون: من القيلولة أي نائمون في النهار.

(1/223)


فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي» .
قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ.
فَتَرَكَهُ وَعَفَا عَنْهُ،
فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ «1» .
- وَمِنْ عَظِيمِ خَبَرِهِ فِي الْعَفْوِ عَفْوُهُ عَنِ الْيَهُودِيَّةِ «2» الَّتِي سَمَّتْهُ فِي الشَّاةِ بَعْدَ اعْتِرَافِهَا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الرِّوَايَةِ «3» .
- وَأَنَّهُ لم يؤاخذ لبيد «4» بن الأعظم إِذْ سَحَرَهُ وَقَدْ أُعْلِمَ بِهِ وَأُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْحِ أَمْرِهِ «5» ، وَلَا عَتَبَ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ مُعَاقَبَتِهِ.
- وَكَذَلِكَ لَمْ يُؤَاخِذْ «6» عَبْدَ اللَّهِ «7» بْنَ أبي وأشباهه من
__________
(1) ورواه الشيخان بدون سقوط السيف، وقوله صلّى الله عليه وسلم، من يمنعك مني، وجواب غورث.
(2) هي زينب بنت الحارث بن سلام.
(3) على ما رواه الشيخان ... وكان يجب أن تقدم جملة (على الصحيح من الرواية) بعد كلمة عفوه لأن صحة الرواية لعفوه، لا لاعترافها.
(4) هو رجل من بني زريق وهم بطن من الانصار.. وفي الصحيحين أن لبيدا يهودي وقيل إنه منافق وسيأتي عن المصنف أنه حكم بإسلامه
(5) رواه أحمد والنسائي والبيهقي في دلائله.
(6) على ما رواه الشيخان.
(7) عبد الله بن أبي خزرجي كان يرتجي أن يكون حاكم الأنصار قبل هجرة النبي-

(1/224)


الْمُنَافِقِينَ «1» ، بِعَظِيمِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي جِهَتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، بَلْ قَالَ «2» لِمَنْ أَشَارَ بِقَتْلِ بعضهم: «لا. لِئَلَّا يُتَحَدَّثُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» «3»
وَعَنْ أنس «4» رضي الله عنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَجَبَذَهُ أَعْرَابِيٌّ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ حَاشِيَةُ الْبُرْدِ فِي صَفْحَةِ عَاتِقِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرِيَّ هَذَيْنِ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ «5» . فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ لِي مِنْ مالك ولا من مال أَبِيكَ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «الْمَالُ مَالُ اللَّهِ. وَأَنَا عَبْدُهُ» ثُمَّ قَالَ: «وَيُقَادُ مِنْكَ يَا أَعْرَابِيُّ مَا فَعَلْتَ بِي» ، قَالَ: لَا، قَالَ: «لِمَ» قَالَ: لأنك لا تكافىء بالسيئة السيئة.
__________
- صلّى الله عليه وسلم ولكن إسلام الأنصار فوت عليه مغانم كثيرة فأسلم ظاهرا وفيه عنجهية الجاهلية وحب الرياسة فكان رأس المنافقين وله في نفاقه حوادث منشورة في صفحات السيرة مات في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم.
(1) قال ابن عباس: كان المنافقون من الرجال ثلثمائة، ومن النساء مئة وسبعين.
(2) على المريسيع ماء لبني المصطلق.
(3) وهذا الحديث رواه الشيخان. وروى الطبراني: عرض ولد عبد الله على الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل أبيه، ومنعه الرسول صلّى الله عليه وسلم عن ذلك.
(4) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(5) الى هنا رواه الشيخان. واخرجه بلفظ المصنف البيهقي في الأدب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/225)


فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أمر أن يحمل له على بعير شَعِيرٌ، وَعَلَى الْآخَرِ تَمْرٌ.
قَالَتْ عَائِشَةُ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلَمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ، مَا لَمْ تَكُنْ حُرْمَةً مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَمَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا ضَرَبَ خادما وَلَا امْرَأَةً «2» ...
- وَجِيءَ إِلَيْهِ بِرَجُلٍ «3» ، فَقِيلَ: هَذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تُرَاعَ، لَنْ تُرَاعَ وَلَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمْ تُسَلَّطْ عَلَيَّ» .
- وَجَاءَهُ «4» زَيْدُ «5» بْنُ سَعْنَةَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَجَبَذَ ثَوْبَهُ عَنْ مَنْكِبِهِ، وَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثيابه، وأغلظ له، ثم قال:
__________
(1) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(2) رواه الشيخان.
(3) هذا الحديث أخرجه أحمد والطبراني بسند صحيح، ولم يسميا الرجل.
(4) وهو حديث طويل رواه البيهقي مفصلا عن ابن سلام، ووصله ابن حبان، والطبراني، وأبو نعيم عن عبد الله بن سلام أيضا، وسنده صحيح كما قاله السيوطي.
(5) وهو حبر من أحبار اليهود وفي التهذيب: هو صحابي من أحبار اليهود الذين أسلموا وهو من أكثرهم مالا وعلما، حسن إسلامه وشهد المشاهد وتوفي مرجعه صلّى الله عليه وسلم من تبوك.

(1/226)


إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمَطْلَبِ مُطْلٌ، فَانْتَهَرَهُ عُمَرُ «1» ، وَشَدَّدَ لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم يتبسم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا، وهو، كنا إلى غير هذا منك أحوج يَا عُمَرُ. تَأْمُرُنِي بِحُسْنِ الْقَضَاءِ. وَتَأْمُرُهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي» .
ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ ثَلَاثٌ» .
وَأَمَرَ عُمَرَ «2» يَقْضِيهِ مَالَهُ، وَيَزِيدَهُ عِشْرِينَ صاعا لما روّعه.
- فكان سبب إسلامه وذلك أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَا بَقِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النبوة شيء إلا وقد عرفتهما في وجه مُحَمَّدٍ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا:
- يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلُهُ،
- وَلَا تَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلَّا حِلْمًا فَاخْتَبَرْتُهُ بِهَذَا فَوَجَدْتُهُ كَمَا وُصِفَ ... وَالْحَدِيثُ عَنْ حِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبْرِهِ، وَعَفْوِهِ عند المقدرة أكثر من أن نأتي عَلَيْهِ، وَحَسْبُكَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِمَّا فِي الصَّحِيحِ وَالْمُصَنَّفَاتِ الثَّابِتَةِ، إِلَى مَا بَلَغَ مُتَوَاتِرًا مَبْلَغَ الْيَقِينِ، مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مُقَاسَاةِ قُرَيْشٍ، وَأَذَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُصَابَرَةِ الشَّدَائِدِ الصَّعْبَةِ مَعَهُمْ، إِلَى أَنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَحَكَّمَهُ فِيهِمْ وَهُمْ لَا يشكّون في استئصال
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «113» رقم «6» .

(1/227)


شَأْفَتِهِمْ، وَإِبَادَةِ خَضْرَائِهِمْ «1» ، فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ عَفَا وَصَفَحَ:
وَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ إِنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ» ؟
قَالُوا: خَيْرًا.. أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ.
فَقَالَ: «2» [أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ» ] «3» الآية «إذهبوا فأنتم الطلقاء» .
وقال «4» أنس «5» رضي الله عنه: هَبَطَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنَ التَّنْعِيمِ «6» صَلَاةَ الصُّبْحِ لِيَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخِذُوا، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» «7» الآية.
__________
(1) خضرائهم: جمعهم وسوادهم.
(2) قال ذلك يوم فتح مكة آخذا بعضادتي باب الكعبة على ما رواه ابن سعد والنسائي وابن زنجويه.
(3) « ... الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» سورة يوسف «92» .
(4) كما رواه مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) أقرب أطراف مكة إليها، على بعد ثلاثة أو أربعة أميال منها على طريق المدينة والشام، سميت بذلك لأنه بقربها جبل يسمى «نعيم» على يمينها وعلى شمالها آخر يسمى «ناعم» والوادي «نعمان» .
(7) « ... وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ» سورة الفتح «24»

(1/228)


وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ «1» وَقَدْ سِيقَ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ جَلَبَ إِلَيْهِ الْأَحْزَابَ وَقَتَلَ عَمَّهُ، وَأَصْحَابَهُ، ومثل بهم فعفا عنه ولا طفه فِي الْقَوْلِ:
«وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ!! أَلَمْ يئن لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ؟! فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَحْلَمَكَ وَأَوْصَلَكَ وَأَكْرَمَكَ. «2»
- وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أبعد الناس غضبا، وأسرعهم رضى، صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، اسلم يوم فتح مكة وشهد مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنينا وأعطاه من غنائمها مائة وأربعين أوقية وزنها له بلال، كان شيخ مكة ورئيسها ورئيس قريش بعد أبي جهل، عاش رضي الله عنه إلى سنة 31 هـ حيث مات ودفن بالبقيع.
(2) والحديث بكامله مذكور في السير، وقد اخرجه الطبراني والبيهقي عن ابن عباس بسند صحيح.

(1/229)