الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي بَيَانِ مَا هُوَ
مِنَ الْمَقَالَاتِ كُفْرٌ وَمَا يُتَوَقَّفُ أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ وَمَا
لَيْسَ بِكُفْرٍ
اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الْفَصْلِ وَكَشْفَ اللَّبْسِ فِيهِ
مَوْرِدُهُ الشَّرْعُ، وَلَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهِ.
وَالْفَصْلُ الْبَيِّنُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَقَالَةٍ صَرَّحَتْ
بِنَفْيِ الرُّبُوبِيَّةِ، أَوِ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ عِبَادَةِ أَحَدٍ
غَيْرِ اللَّهِ أو مع الله فهي كُفْرٌ.. كَمَقَالَةِ الدَّهْرِيَّةِ «1»
وَسَائِرِ فِرَقِ أَصْحَابِ الِاثْنَيْنِ «2» من الديصانية «3»
__________
(1) الدهرية: طائفة من الملحدين المعطلين ينسبون الامور للدهر كأصحاب
الطبيعة
(2) أصحاب الاثنين: هم الذين اتخذوا الهين اثنين كالمانوية القائلين بالنور
والظلمة، والمراد هنا مطلق التعدد.
(3) الديصانية: نسبة لاسم رجل من المجوس نسب له هذا المذهب من القول بالنور
والكلمة، وخالق الخير وخالق الشر الا انه يقول: ان الظلمة ميت والنور حي.
(2/604)
وَالْمَانَوِيَّةِ «1» وَأَشْبَاهِهِمْ
مِنَ الصَّابِئِينَ «2» وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ «3» وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ
الشَّيَاطِينِ، أَوِ الشَّمْسِ، أَوِ النُّجُومِ، أَوِ النَّارِ أَوْ
أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ
وَالصِّينِ، وَالسُّودَانِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يَرْجِعُ إِلَى
كِتَابٍ.
وَكَذَلِكَ الْقَرَامِطَةُ «4» وَأَصْحَابُ الْحُلُولِ «5» ،
وَالتَّنَاسُخِ «6» من الباطنية «7» ، والطيارة «8» من الروافض، والبيانية
«9» والغرابية «10» وكذلك من اعترف بإلاهية اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ،
وَلَكِنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أَوْ غَيْرُ قَدِيمٍ،
وَأَنَّهُ مُحْدَثٌ، أَوْ مُصَوَّرٌ، أو ادعى له ولدا، أو صاحبة
__________
(1) المانوية: أصحاب ماني الحكيم الذي ظهر في زمن شابور بن اردشير بعد عيسى
عليه السلام زعم أن موجد العالم اثنان النور خالق الخير والظلمة خالق الشر
وانهما أزليان حيان وقد رد المتنبي على هذه الفكرة بقوله:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر ان المانوية تكذب
(2) الصابئين: وفي نسخة (الصبائية) والصابيء كل من خرج من دين الى آخر ثم
خص بطائفة عبدوا الملائكة أو عبدوا الكواكب وهو المراد هنا.
(3) المجوس: أهل فارس عبده النار والقائلين بالهين «يزدان واهرمن» أي النور
والظلمة
(4) القرامطة: فرقة من الاسماعيلية المثبتون لامامة اسماعيل بن جعفر الصادق
(5) أصحاب الحلول من النصارى والباطنية وبعض جهلة المتصوفة.
(6) وهم القائلون بان الارواح اذا فارقت الابدان تحل في غيرها، وهو مذهب
بعض الفلاسفة.
(7) الباطنية: قوم ادعوا أن للقرآن ظاهر غير مقصود وباطن وهو المقصود يفهمه
الخلص من الناس.
(8) وهم ينتسبون الى جعفر الطيار وهم من غلاة الشيعة.
(9) البيانية نسبة لبيان بن سمعان اليمني يقولون روح الله حلت في علي كرم
الله وجهه ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه هاشم ثم في بيان وكذا
الطيارة والجناحية يقولون ما سبق.
(10) الغرابية: قوم يقولون ان جبريل عليه الصلاة والسلام نزل بالرسالة من
عند الله لعلي فأعطاها لمحمد غلطا منه لانه يشبهه كما يشبه الغراب الغراب.
(2/605)
أَوْ وَالِدًا أَوْ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ
مِنْ شَيْءٍ، أَوْ كَائِنٌ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ
شَيْئًا قَدِيمًا «1» غَيْرَهُ، أَوْ أَنَّ ثَمَّ صَانِعًا لِلْعَالَمِ
سِوَاهُ.. أَوْ مُدَبِّرًا غَيْرَهُ.. فَذَلِكَ كُلُّهُ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ
الْمُسْلِمِينَ.
كَقَوْلِ الْإِلَهِيِّينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ «2» وَالْمُنَجِّمِينَ «3»
وَالطَّبَائِعِيِّينَ «4» وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى مُجَالَسَةَ اللَّهِ
وَالْعُرُوجَ إِلَيْهِ وَمُكَالَمَتَهُ أَوْ حُلُولَهُ فِي أَحَدِ
الْأَشْخَاصِ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ «5» وَالْبَاطِنِيَّةِ،
وَالنَّصَارَى، وَالْقَرَامِطَةِ، وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ عَلَى كُفْرِ مَنْ
قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ عَلَى
مَذْهَبِ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ، أَوْ قَالَ بِتَنَاسُخِ
الْأَرْوَاحِ وَانْتِقَالِهَا أَبَدَ الْآبَادِ فِي الأشخاص وتعذيبها أو
__________
(1) اشارة الى قول الفلاسفة بقدم العالم.
(2) والفلاسفة على أنواع ثلاثة الهيين وطبيعيين ورياضيين.. والذين ضلوا
منهم هم الالهيون عند ما تعرضوا لمباحث تاهت فيها عقولهم.
(3) القائلين بتأثير الكواكب في حوادث الحياة.. أما الدارسون لها على أنها
خلق من خلق الله وتنظيم يدل على حكمته تعالى فلا شيء عليهم بل هو من العلم
الموصل الى معرفة الله.
(4) الطبايعيين: القائلين بتأثير الطبيعة وانها هي التي تولد الاشياء
بنفسها.
(5) أما ما نسب الى أجلة التصوف منهم من هذا الباب فاما أن يكون مدسوسا
عليهم أو هي اصطلاحات يعرفونها هم ولم يخاطبوا بها الا الخاصة فالاولى
بالمسلم الابتعاد عن كل تجريح فيهم لانهم رضي الله عنهم اما أن يكونوا في
غاية الصلاح فتجريحهم ضرر بليغ.. واما أن يكونوا غير ذلك وقد ذهبوا الى
بارئهم وقدموا الى ما عملوا فلا حاجة ولا منفعة لنا في الخوض فيهم.. وكل من
يحاول التشهير بهم والتعرض لسيرتهم فهو مغرض يحاول اشغال الناس والعامة عن
الخطر العظيم الذي حاق بالمسلمين في مختلف بقاع الارض في دينهم ودنياهم.
(2/606)
تنعهما فِيهَا بِحَسَبِ «1» زَكَائِهَا
وَخُبْثِهَا وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَرَفَ بِالْإِلَهِيَّةِ
وَالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَكِنَّهُ جَحَدَ النُّبُوَّةَ مِنْ أَصْلِهَا
عُمُومًا. أَوْ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خصوصا،
أو أحد مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ
عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا رَيْبَ.
كَالْبَرَاهِمَةِ «2» ، وَمُعْظَمِ الْيَهُودِ، وَالْأُرُوسِيَّةِ مِنَ
النَّصَارَى وَالْغُرَابِيَّةِ مِنَ الرَّوَافِضِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ
عَلِيًّا كَانَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، وَكَالْمُعَطِّلَةِ «3» ،
وَالْقَرَامِطَةِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ «4» وَالْعَنْبَرِيَّةِ مِنَ
الرَّافِضَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَشْرَكُوا فِي كُفْرٍ
آخَرَ مَعَ مَنْ قَبْلَهُمْ.
وَكَذَلِكَ مَنْ دَانَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَصِحَّةِ النُّبُوَّةِ
وَنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ
جَوَّزَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْكَذِبَ فِيمَا أَتَوْا بِهِ. ادَّعَى فِي
ذَلِكَ الْمَصْلَحَةَ- بِزَعْمِهِ- أَوْ لَمْ يَدَّعِهَا فَهُوَ كَافِرٌ
بِإِجْمَاعٍ كَالْمُتَفَلْسِفِينَ، وَبَعْضِ الْبَاطِنِيَّةِ.
وَالرَّوَافِضِ، وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، وَأَصْحَابِ الْإِبَاحَةِ «5»
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ ظَوَاهِرَ الشَّرْعِ وَأَكْثَرَ مَا
جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَمَّا كَانَ وَيَكُونُ مِنْ
أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَالْحَشْرِ، وَالْقِيَامَةِ، وَالْجَنَّةِ،
وَالنَّارِ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ على مقتضى لفظها ومفهوم خطابها.
__________
(1) أي طيبها وطهارتها.
(2) البراهمة: وهم الهنود عبدة النار والعجل.
(3) الذين جحدوا الالوهية والرسالة والاحكام وما أكثرهم في زماننا وان
تغيرت الاسماء.
(4) وهم من الباطنية أثبتوا امامة اسماعيل بن جعفر الصادق.
(5) الذين أباحوا المحرمات وادعوا أن من كمل نفسه لا يضره المعصية.
(2/607)
وَإِنَّمَا خَاطَبُوا بِهَا الْخَلْقَ
عَلَى جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ.. إِذْ لَمْ يُمْكِنْهُمُ التَّصْرِيحُ
لِقُصُورِ أَفْهَامِهِمْ، فَمُضَمَّنُ مَقَالَاتِهِمْ إِبْطَالُ
الشَّرَائِعِ، وَتَعْطِيلُ الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، وَتَكْذِيبُ
الرُّسُلِ، وَالِارْتِيَابُ فِيمَا أَتَوْا بِهِ..
وَكَذَلِكَ مَنْ أَضَافَ إِلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَعَمُّدَ الْكَذِبَ فِيمَا بَلَّغَهُ وَأَخْبَرَ بِهِ، أَوْ
شَكَّ فِي صِدْقِهِ، أَوْ سَبَّهُ، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ
أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ أَزْرَى
عَلَيْهِمْ.. أَوْ آذَاهُمْ.. أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ حَارَبَهُ..
فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ.
- وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ مَنْ ذَهَبَ مذهب بعض الْقُدَمَاءِ فِي أَنَّ فِي
كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الحيوان نذيرا ونبيا من القردة والخنازير والدواب والدود
وغير ذلك، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا
خَلا فِيها نَذِيرٌ «1» » إِذْ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُوصَفَ
أَنْبِيَاءُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ بِصِفَاتِهِمُ الْمَذْمُومَةِ وَفِيهِ
مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الْمُنِيفِ مَا فِيهِ.. مَعَ
إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خِلَافِهِ. وَتَكْذِيبِ قَائِلِهِ.
- وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ مَنِ اعْتَرَفَ مِنَ الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ بِمَا
تقدم وَنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ
قَالَ: كَانَ أَسْوَدَ أَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يلتحي، أو ليس الَّذِي كَانَ
بِمَكَّةَ، وَالْحِجَازِ، أَوْ لَيْسَ بِقُرَشِيٍّ.. لأن
__________
(1) الاية: 25 سورة فاطر.
(2/608)
وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَاتِهِ
الْمَعْلُومَةِ نَفْيٌ لَهُ وَتَكْذِيبٌ بِهِ.. وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى
نُبُوَّةَ أَحَدٍ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
بَعْدَهُ كَالْعِيسَوِيَّةِ «1» مِنَ الْيَهُودِ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ
رِسَالَتِهِ إِلَى الْعَرَبِ، وَكَالْخُرَّمِيَّةِ «2» الْقَائِلِينَ
بِتَوَاتُرِ الرُّسُلِ، وَكَأَكْثَرِ الرَّافِضَةِ الْقَائِلِينَ
بِمُشَارَكَةِ عَلِيٍّ فِي الرِّسَالَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم
وبعده.. فكذلك كُلُّ إِمَامٍ عِنْدَ هَؤُلَاءِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي
النبوة والحجة.. وكالبزيعيّة «3» وَالْبَيَانِيَّةِ مِنْهُمُ الْقَائِلِينَ
بِنُبُوَّةِ بَزِيعٍ وَبَيَانٍ «4» وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ أَوْ مَنِ
ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ.. أَوْ جَوَّزَ.
اكْتِسَابَهَا وَالْبُلُوغَ بِصَفَاءِ الْقَلْبِ إِلَى مَرْتَبَتِهَا
كَالْفَلَاسِفَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ
- وَكَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ
يَدَّعِ النُّبُوَّةَ أو أنه يصعد إلى السماء. ويدخل الْجَنَّةِ،
وَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَيُعَانِقُ الْحُورَ الْعِينَ.. فَهَؤُلَاءِ
كُلُّهُمْ كُفَّارٌ مُكَذِّبُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم..
لأنه
__________
(1) العيسوية: نسبوا لعيسى بن اسحق بن يعقوب الاصبهاني اليهودي وكان في زمن
بني مروان وادعي النبوة في زمن مروان الحمار وتبعه كثير من اليهود وكان من
مذهبه تجويز حدوث النبوة بعد نبينا صلّى الله عليه وسلم.
(2) الخرمية: بضم الخاء المعجمة وتشديد الراء المفتوحة. أنهم تبعوا بابك
الخرمي فنسبو اليه وهم قوم اباحيون ظهروا زمن بني العباس في نواحي أزربيجان
وظلوا نحو عشرين سنة، في جموع وعساكر كثيرة جدا حتى أسر بابك وصلب بسامراء
أيام المعتصم
(3) البزيعية والبيانية: طائفتان من غلاة الرافضة تزعمان أن النبوة بل
الالهية تحل في بعض أئمتهم.
(4) بيان: بن اسماعيل الهندي، وهو يزعم أن الله عز وجل حل في علي وأولاده
ويقولون بنبوة بعض أئمتهم.
(2/609)
أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ..
وَأَخْبَرَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ،
وَأَنَّهُ أُرْسِلَ كَافَّةً لِلنَّاسِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى
حَمْلِ هَذَا الْكَلَامِ على ظاهره، وأن مفهومه المراد به دُونَ تَأْوِيلٍ
وَلَا تَخْصِيصٍ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا
قَطْعًا إِجْمَاعًا وَسَمْعًا.
- وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ دَافَعَ
نَصَّ الْكِتَابِ أَوْ خَصَّ حَدِيثًا مُجْمَعًا عَلَى نَقْلِهِ مَقْطُوعًا
بِهِ، مُجْمَعًا عَلَى حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَتَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ
بِإِبْطَالِ «1» الرَّجْمِ. وَلِهَذَا نكفر من لم يكفر مَنْ دَانَ بِغَيْرِ
مِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمِلَلِ.. أَوْ وَقَفَ فِيهِمْ، أَوْ شَكَّ،
أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ.. وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ
وَاعْتَقَدَهُ وَاعْتَقَدَ إِبْطَالَ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَاهُ.. فَهُوَ
كَافِرٌ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ.
- وَكَذَلِكَ نقطع بتكفير كل قائل قَوْلًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى
تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ، وَتَكْفِيرِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ.. كَقَوْلِ
الْكُمَيْلِيَّةِ «2» مِنَ الرَّافِضَةِ بِتَكْفِيرِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ
بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ تُقَدِّمْ
عَلِيًّا «3» .. وَكَفَّرَتْ عَلِيًّا إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَيَطْلُبْ
حَقَّهُ فِي التَّقْدِيمِ.
__________
(1) للزاني والزانية المحصنين فانه مجمع عليه صار معلوما من الدين
بالضرورة.
(2) الكميلية: فرقة من غلاة الرافضة قالوا بالتناسخ والحلول وان النبوة نور
ينتقل من رجل لاخر وانه حق علي كرم الله وجهه وان الصحابة كفروا لما بايعوا
أبا بكر وعلي كفر لما ترك حقه ولم يقاتل وهم منسوبون لابي كامل فكان الاولى
أن يقال الكمالية. وربما كان كميل تصغير كامل للتحقير.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «54» رقم «4» .
(2/610)
- فَهَؤُلَاءِ قَدْ كَفَرُوا مِنْ وُجُوهٍ،
لِأَنَّهُمْ أَبْطَلُوا الشَّرِيعَةَ بِأَسْرِهَا، إِذْ قَدِ انْقَطَعَ
نَقْلُهَا وَنَقْلُ الْقُرْآنِ، إِذْ نَاقِلُوهُ كَفَرَةٌ عَلَى
زَعْمِهِمْ.
وَإِلَى- هَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَشَارَ مَالِكٌ «1» فِي أَحَدِ
قَوْلَيْهِ بِقَتْلِ مَنْ كَفَّرَ الصَّحَابَةَ.
- ثُمَّ كَفَرُوا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِسَبِّهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُ
عَهِدَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ
يَكْفُرُ بَعْدَهُ- عَلَى قَوْلِهِمْ- لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ-.
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ.
- وَكَذَلِكَ نُكَفِّرُ بِكُلِّ فِعْلٍ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ
لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُصَرِّحًا
بِالْإِسْلَامِ مَعَ فِعْلِهِ ذَلِكَ الْفِعْلَ..
كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَلِلشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالصَّلِيبِ،
وَالنَّارِ، وَالسَّعْيِ إِلَى الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مَعَ أَهْلِهَا،
وَالتَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ من شد الزنانير وفحص «2» الرؤوس.
فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ هَذَا لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ
كَافِرٍ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَلَامَةٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَإِنْ
صَرَّحَ فَاعِلُهَا بِالْإِسْلَامِ.
- وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ كُلِّ مَنِ
اسْتَحَلَّ القتل،
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(2) فحص الرؤوس: أي حلق أو ساطها وتركها كمفاحص القطا.
(2/611)
أَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ، أَوِ الزِّنَا،
مِمَّا حَرَمَ اللَّهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهِ كَأَصْحَابِ
الْإِبَاحَةِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ وَبَعْضِ غُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ «1» .
- وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ كَذَّبَ وَأَنْكَرَ
قَاعِدَةً مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَمَا عُرِفَ يَقِينًا بِالنَّقْلِ
الْمُتَوَاتِرِ مِنْ فعل الرسول صلّى الله عليه وسلم وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ
الْمُتَّصِلُ عَلَيْهِ. كَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصلوات الخمس، وعدد
رَكَعَاتِهَا وَسَجَدَاتِهَا وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ
عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ الصَّلَاةَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَكَوْنَهَا
خَمْسًا.. وَعَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالشُّرُوطِ لَا أَعْلَمُهُ إِذْ
لَمْ يَرِدْ فِيهِ فِي الْقُرْآنِ نَصٌّ جَلِيٌّ، وَالْخَبَرُ بِهِ عَنِ
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خبر واحد..
- وكذلك أجمع عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ مِنَ الْخَوَارِجِ إِنَّ
الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ.
- وَعَلَى تَكْفِيرِ الْبَاطِنِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْفَرَائِضَ
أَسْمَاءُ رِجَالٍ أُمِرُوا بِوِلَايَتِهِمْ.. والخبائث والمحارم أسماء
رجال أمروا بالبراءة منهم.
__________
(1) الذين يزعمون أن الواصل الى الله يرفع عنه التكليف. وهؤلاء يقال لهم:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل مخلوق على الاطلاق لم يزدد بعد
الوصول إلا مواصلة للعبادة والاجتهاد ويقول بَعْدَ أَنْ غَفَرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه وما تأخر (أفلا أكون عبدا شكورا) .
(2/612)
وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ.. إِنَّ
الْعِبَادَةَ. وَطُولَ الْمُجَاهِدَةِ إِذَا صَفَتْ نُفُوسُهُمْ أَفْضَتْ
بِهِمْ إِلَى إِسْقَاطِهَا وَإِبَاحَةِ كُلِّ شَيْءٍ لَهُمْ وَرَفْعِ
عَهْدِ الشَّرَائِعِ عَنْهُمْ.
- وَكَذَلِكَ إِنْ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ مَكَّةَ، أَوِ الْبَيْتَ، أَوِ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ صِفَةَ الْحَجِّ.. أَوْ قَالَ: الْحَجُّ
وَاجِبٌ فِي الْقُرْآنِ وَاسْتِقْبَالُ القبلة كذلك، ولكن كونه على هذه
الهيأة المتعارفة، وأنّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ هِيَ مَكَّةُ وَالْبَيْتُ
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ لا أدري هل هِيَ تِلْكَ أَوْ غَيْرُهَا!
وَلَعَلَّ النَّاقِلِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَسَرَّهَا بِهَذِهِ التفاسير غلطوا ووهموا.
فهذا ومثله لامرية فِي تَكْفِيرِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ علم
ذلك، وممن خالط الْمُسْلِمِينَ وَامْتَدَّتْ صُحْبَتُهُ لَهُمْ.. إِلَّا
أَنْ يَكُونَ حديث عهد بالإسلام فَيُقَالُ لَهُ: سَبِيلُكَ أَنْ تُسْأَلَ
عَنْ هَذَا الَّذِي لَمْ تَعْلَمْهُ بَعْدَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا
تَجِدُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا، كَافَّةً عَنْ كَافَّةٍ إِلَى معاصر
الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ
كَمَا قِيلَ لَكَ، وَأَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ هِيَ مَكَّةُ..
وَالْبَيْتُ الَّذِي فِيهَا هُوَ الْكَعْبَةُ، وَالْقِبْلَةُ الَّتِي
صَلَّى لَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ وَحَجُّوا إِلَيْهَا وَطَافُوا بِهَا، وأنّ تلك الأفعال
هي صفات عِبَادَةِ الْحَجِّ وَالْمُرَادُ بِهِ.. وَهِيَ الَّتِي فَعَلَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ.
وَأَنَّ صفات الصلوات الْمَذْكُورَةِ.. هِيَ الَّتِي فَعَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم،
(2/613)
وَشَرَحَ مُرَادَ اللَّهِ بِذَلِكَ،
وَأَبَانَ حُدُودَهَا.. فَيَقَعُ لَكَ الْعِلْمُ كَمَا وَقَعَ لَهُمْ..
وَلَا تَرْتَابُ بذلك بعد.. والمرتاب في ذلك والمنكر بعد البحث وصحبة
المسلمين كافر باتفاق ولا يُعْذَرُ بِقَوْلِهِ «لَا أَدْرِي» ، وَلَا
يُصَدَّقُ فِيهِ.. بَلْ ظَاهِرُهُ التَّسَتُّرُ عَنِ التَّكْذِيبِ، إِذْ
لَا يُمْكِنُ أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا جَوَّزَ عَلَى
جَمِيعِ الْأُمَّةِ الْوَهْمَ وَالْغَلَطَ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ
وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ قَوْلُ الرَّسُولِ وَفِعْلُهُ وَتَفْسِيرُ مُرَادِ
اللَّهِ بِهِ أَدْخَلَ الِاسْتِرَابَةَ فِي جَمِيعِ الشَّرِيعَةِ. إِذْ
هُمُ النَّاقِلُونَ لَهَا وَلِلْقُرْآنِ، وَانْحَلَّتْ عُرَى الدِّينِ
كَرَّةً.. وَمَنْ قَالَ هَذَا كَافِرٌ.
- وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ الْقُرْآنَ أَوْ حَرْفًا مِنْهُ، أَوْ غَيَّرَ
شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ زَادَ فِيهِ- كَفِعْلِ الْبَاطِنِيَّةِ
وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ- أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَلَا
مُعْجِزَةٌ.
كَقَوْلِ هِشَامٍ «1» الْفُوطِيِّ، وَمَعْمَرٍ «2» الصَّيْمَرِيِّ إِنَّهُ
لَا يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِرَسُولِهِ، وَلَا يَدُلُّ
عَلَى ثَوَابٍ وَلَا عِقَابٍ وَلَا حُكْمٍ.. وَلَا مَحَالَةَ فِي
كُفْرِهِمَا بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
__________
(1) هشام الفوطي: قال في التبصرة: هشام ابن عمرو الفوطي من القدرية وزاد في
مذهبهم أمورا باطلة وقال لجهله انه لا يسمي الله الوكيل ولم يعرف أنه بمعنى
الكافي والحفيظ وأنكر المعجزات.
(2) معمر الصيمري: في التبصرة: معمر بن عباد تنسب له المعمرية ونسبت له
خرافات يملها السمع.
(2/614)
- وكذلك نكفر هما بإنكار هما أَنْ يَكُونَ
فِي سَائِرِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حُجَّةٌ لَهُ، أَوْ فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ «1» دَلِيلٌ عَلَى اللَّهِ
لِمُخَالَفَتِهِمُ الْإِجْمَاعَ وَالنَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاحْتِجَاجِهِ بِهَذَا
كُلِّهِ، وَتَصْرِيحَ الْقُرْآنِ بِهِ.
- وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا نَصَّ فِيهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ
عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي فِي أَيْدِي النَّاسِ،
وَمَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ جَاهِلًا بِهِ، وَلَا قَرِيبَ
عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَاحْتَجَّ لِإِنْكَارِهِ إِمَّا بِأَنَّهُ لَمْ
يَصِحَّ النَّقْلُ عِنْدَهُ، وَلَا بلغه العلم به، أو لتجويز الوهم على
ناقله، فَنُكَفِّرُهُ بِالطَّرِيقَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ «2» لِأَنَّهُ
مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ، مُكَذِّبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُ تَسَتَّرَ بِدَعْوَاهُ.. وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ
الْجَنَّةَ، أَوِ النَّارَ، أَوِ الْبَعْثَ، أَوِ الْحِسَابَ، أَوِ
الْقِيَامَةَ، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ وَإِجْمَاعِ
الْأُمَّةِ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِهِ مُتَوَاتِرًا.
- وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ
بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَالثَّوَابِ
وَالْعِقَابِ، مَعْنًى غَيْرُ ظَاهِرِهِ، وَإِنَّهَا لَذَّاتٌ
رُوحَانِيَّةٌ، وَمَعَانٍ بَاطِنَةٌ كَقَوْلِ النَّصَارَى،
وَالْفَلَاسِفَةِ،
__________
(1) وقد قال: ان الله- تعالى- لم يخلق شيئا من الاعراض، وأن الاجسام تفعلها
بطبائعها..) ما أشبه الامس باليوم!. ولا عجب فملة الكفر واحدة وان غيرت
ثيابها
(2) أي مخالفة الاجماع، والنقل الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلم.
(2/615)
والباطنية، وبعض المتصوفة «1» ، وزعم أَنَّ
مَعْنَى الْقِيَامَةِ الْمَوْتُ أَوْ فَنَاءٌ مَحْضٌ، وَانْتِقَاضُ
هَيْئَةِ الْأَفْلَاكِ، وَتَحْلِيلُ الْعَالَمِ.. كَقَوْلِ بَعْضِ
الْفَلَاسِفَةِ.
- وَكَذَلِكَ نَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ غُلَاةِ الرَّافِضَةِ فِي قَوْلِهِمْ:
إِنَّ الْأَئِمَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ
مَا عُرِفَ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الْأَخْبَارِ والسير والبلاد، لا يرجع إلى
إبطال شريعة ولا يفضي إِلَى إِنْكَارِ قَاعِدَةٍ مِنَ الدِّينِ كَإِنْكَارِ
غَزْوَةِ تَبُوكَ «2» ، أَوْ مُؤْتَةَ «3» ، أَوْ وُجُودِ أَبِي «4»
بَكْرٍ، وعمر «5» ، أو قتل عثمان «6» ، أو خلافة عَلِيٍّ «7» مِمَّا عُلِمَ
بِالنَّقْلِ ضَرُورَةً وَلَيْسَ فِي إِنْكَارِهِ جَحْدُ شَرِيعَةٍ فَلَا
سَبِيلَ إِلَى تَكْفِيرِهِ. بِجَحْدِ ذَلِكَ وَإِنْكَارِ وُقُوعِ الْعِلْمِ
لَهُ إِذْ ليس في ذلك أكثر
__________
(1) المتصوفة: معناها هنا الزنادقة فهم المتسمون بسماتهم فقط أما أكابر
الصوفية فحاشاهم من هذه الاضاليل. ولذلك سمى الاوائل (متصوفة) وهم المدعون.
(2) غزوة تبوك: تبوك اسم ماء من أرض الشام يقرب مدين وقد غزاها رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رجب سنة تسع فصالح أهلها على الجزية من غير قتال.
(3) مؤتة: قرية من أرض البلقاء بطرف الشام قريبة من الكرك على مرحلتين من
القدس كان بها تلك الغزوة لانهم قتلوا رسولا أرسله رسول الله صلّى الله
عليه وسلم فجهز اليهم جيشا في سنة ثمان وقيل سبع فقتل بها زيد بن حارثة
وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «156» رقم «6» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «569» رقم «6» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «54» رقم «4» .
(2/616)
مِنَ الْمُبَاهَتَةِ.. كَإِنْكَارِ هِشَامٍ
«1» وَعِبَادٍ «2» وَقْعَةَ الْجَمَلِ «3» وَمُحَارَبَةَ عَلِيٍّ مَنْ
خَالَفَهُ.
- فَأَمَّا إِنْ ضَعَّفَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تُهْمَةِ النَّاقِلِينَ
وَوَهَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعَ.. فَنُكَفِّرُهُ بِذَلِكَ لِسَرَيَانِهِ
«4» إِلَى إِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ.
فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ «5» الْمُجَرَّدَ الَّذِي لَيْسَ
طَرِيقُهُ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ عَنِ الشَّارِعِ، فَأَكْثَرُ
الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالنُّظَّارِ فِي هَذَا الْبَابِ
قَالُوا بِتَكْفِيرِ كُلِّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الصَّحِيحَ
الْجَامِعَ لشروط الإجماع المتفق عليه عموما.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «614» رقم «1» .
(2) وهو عباد الصيمري.
(3) وقعة الجمل: كانت بين علي ومعاوية وخرجت عائشة رضي الله عنها على جمل
لتصلح بينهما فكان ما كان. وكانت الوقعة سنة ست وثلاثين.
(4) سريانه: إفضائه وتعديه.
(5) الاجماع: حقيقته العزم كما قال تعالى (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) ثم شاع
في (الاتفاق) ومعناه اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد عصر النبي صلّى الله عليه
وسلم وقال البغوي: هو نوعان: عام- كاجماع الأمة على الصلاة وعدد ركعاتها
مما يعرفه العامة والخاصة فانكاره كفر إلا أن يكون منكره حديث عهد
بالاسلام. وخاص- وهو ما يعرفة الخاصة كبطلان نكاح المتعة. ولا يكفر جاحده
وانما يحكم بخطئه وكذا كل إجماع لا يعرفه إلا العلماء كحرمة نكاح المرأة
على عمتها.. والاجماع واقع ويمكن الاطلاع عليه على الصحيح وهو حجة.. ولم
يخالف في حجيته إلا من لا يعتد به كالنظام وبعض الشيعة.
(2/617)
وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَمَنْ
يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى.» «1» الْآيَةَ
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : «مَنْ خَالَفَ
الْجَمَاعَةَ قَيْدَ «3» شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ «4» الْإِسْلَامِ
مِنْ عُنُقِهِ.»
وَحَكُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيرِ من خالف الإجماع وذهب آخرون إلى
الوقف عَنِ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الَّذِي
يَخْتَصُّ بِنَقْلِهِ الْعُلَمَاءُ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى التَّوَقُّفِ فِي تَكْفِيرِ مَنْ خَالَفَ
الْإِجْمَاعَ الْكَائِنَ عَنْ نَظَرٍ، كَتَكْفِيرِ النَّظَّامِ «5»
بِإِنْكَارِهِ الْإِجْمَاعَ لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ هَذَا مُخَالِفٌ
إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى احْتِجَاجِهِمْ بِهِ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْقَاضِي «6» أَبُو بَكْرٍ: الْقَوْلُ عندي أن الكفر بالله هو
__________
(1) «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» . الاية 115 سورة النساء.
(2) رواه ابو داود في سننه وصححه.
(3) القيد: القيد والقاد القدر.
(4) ربقة: حبل يوضع في عنق البعير إذا تملص منه هرب وشرد.
(5) النظام: إبراهيم بن سيار أو ابن شيبان، أبو إسحق، مولى بني الحارث ابن
قيس بن ثعلبة أحد فرسان المتكلمين من المعتزلة، وله إحاطة بالفنون العقلية
وله شعر رقيق وكان في دولة المعتصم. توفي سنة «231» هـ.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «385» رقم «1» .
(2/618)
الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ وَالْإِيمَانَ
بِاللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ. وَأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ
بِقَوْلٍ وَلَا رَأْيٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ
فَإِنْ عَصَى بِقَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ نَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ
أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ.. أَوْ
يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ.
لَيْسَ لِأَجْلِ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ. لَكِنْ لِمَا يُقَارِنُهُ مِنَ
الْكُفْرِ فَالْكُفْرُ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ
أُمُورٍ:
أَحُدُهَا: الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَأْتِيَ فِعْلًا، أَوْ يَقُولَ قَوْلًا يُخْبِرُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ يُجْمِعُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا
يَكُونُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَالْمَشْيِ إِلَى
الْكَنَائِسِ بِالْتِزَامِ الزِّنَّارِ مَعَ أَصْحَابِهَا فِي
أَعْيَادِهِمْ. أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ أَوِ الْفِعْلُ لَا يُمْكِنُ
معه العلم بالله.. قَالَ: فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا
جَهْلًا بِاللَّهِ، فَهُمَا عِلْمٌ أَنَّ فَاعِلَهُمَا كَافِرٌ مُنْسَلِخٌ
مِنَ الْإِيمَانِ.
فَأَمَّا مَنْ نَفَى صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الذَّاتِيَّةِ،
أَوْ جَحَدَهَا مُسْتَبْصِرًا فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ بِعَالِمٍ
وَلَا قَادِرٍ وَلَا مُرِيدٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ
(2/619)
وَشِبْهِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ
الْوَاجِبَةِ لَهُ تَعَالَى فَقَدْ نَصَّ أَئِمَّتُنَا عَلَى الْإِجْمَاعِ
عَلَى كُفْرِ مَنْ نَفَى عَنْهُ تَعَالَى الْوَصْفَ بِهَا وَأَعْرَاهُ
عَنْهَا.
وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُ سُحْنُونٍ «1» مَنْ قَالَ: «لَيْسَ لِلَّهِ
كَلَامٌ فَهُوَ كَافِرٌ» وَهُوَ لَا يُكَفِّرُ الْمُتَأَوِّلِينَ كَمَا
قَدَّمْنَاهُ.
فَأَمَّا مَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَاخْتَلَفَ العلماء
ههنا فَكَفَّرَهُ بَعْضُهُمْ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي «2» جَعْفَرٍ
الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ «3» الْأَشْعَرِيُّ مَرَّةً
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنِ اسْمِ
الْإِيمَانِ.. وَإِلَيْهِ رَجَعَ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ
يَعْتَقِدْ ذَلِكَ اعْتِقَادًا يَقْطَعُ بصوابه، ويراه دينا وشرعا وإنما
يكفر مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ مَقَالَهُ حَقٌّ.
وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ السَّوْدَاءِ «4» وَأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا طَلَبَ مِنْهَا التَّوْحِيدَ
لَا غَيْرَ.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «153» رقم «3» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «251» رقم «4» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «381» رقم «2» .
(4) والحديث رواه أبو داود في سننه.
(2/620)
وَبِحَدِيثِ الْقَائِلِ «1» : لَئِنْ
قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ- وَفِي رِوَايَةٍ فِيهِ- لَعَلِّي أُضِلُّ اللَّهَ-
ثُمَّ قَالَ- فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ
قَالُوا: وَلَوْ بُوحِثَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنِ الصِّفَاتِ وَكُوشِفُوا
عَنْهَا، لَمَا وُجِدَ مَنْ يَعْلَمُهَا إِلَّا الْأَقَلُّ.
وَقَدْ أَجَابَ الْآخَرُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِوُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ «قَدَرَ» بِمَعْنَى «قَدَّرَ» وَلَا يَكُونُ شَكُّهُ فِي
الْقُدْرَةِ عَلَى إِحْيَائِهِ بَلْ فِي نَفْسِ الْبَعْثِ الَّذِي لا يعلم
إلا بشرع، ولعله لم يكن وَرَدَ عِنْدَهُمْ بِهِ شَرْعٌ يُقْطَعُ عَلَيْهِ
فَيَكُونَ الشك فيه حينئذ كفرا فأما ما لم يرد به شَرْعٌ فَهُوَ مِنْ
مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ.. أَوْ يَكُونُ «قَدَرَ» بِمَعْنَى «ضَيَّقَ»
وَيَكُونُ مَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ إزراء عليها، وغضبا لعصيانها.
__________
(1) رواه الشيخان عن أبي هريرة. وهذا القائل كان نباشا إلا أنه لم يذكر
اسمه: وروي أيضا عن حذيفة بن اليمان قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن رجلا حضره الموت فلما يئس من الحياة
أوصي أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا وأوقدوا فيه نارا حتى إدا أكلت
لحمي وخلصت الى عظمي فامتحشت فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يوما رايحا فذروها
في اليم.. ففعلوا فجمعه الله عز وجل وقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: من خشيتك.
فغفر الله عز وجل له.
(2/621)
وَقِيلَ: «قَالَ مَا قَالَهُ وَهُوَ غَيْرُ
عَاقِلٍ لِكَلَامِهِ وَلَا ضَابِطٍ لِلَفْظِهِ مِمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ
مِنَ الْجَزَعِ وَالْخَشْيَةِ الَّتِي أَذْهَبَتْ لُبَّهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ
بِهِ»
وَقِيلَ: «كَانَ هَذَا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ. وَحَيْثُ يَنْفَعُ
مُجَرَّدُ التَّوْحِيدِ» وَقِيلَ: (بَلْ هَذَا مِنْ مَجَازِ «1» كَلَامِ
الْعَرَبِ الَّذِي صُورَتُهُ الشَّكُّ وَمَعْنَاهُ التَّحْقِيقُ.. وَهُوَ
يُسَمَّى تَجَاهُلَ الْعَارِفِ.. وَلَهُ أَمْثِلَةٌ فِي كَلَامِهِمْ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «2» »
وَقَوْلِهِ: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ «3» » ) فَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْوَصْفَ، وَنَفَى الصِّفَةَ «4»
فَقَالَ: أَقُولُ عَالِمٌ وَلَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَمُتَكَلِّمٌ
وَلَكِنْ لَا كَلَامَ لَهُ. وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ عَلَى
مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ. فَمَنْ قَالَ بِالْمَآلِ لِمَا يُؤَدِّيهِ
إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَيَسُوقُهُ إِلَيْهِ مَذْهَبُهُ كَفَّرَهُ.. لِأَنَّهُ
إِذَا نَفَى الْعِلْمَ انْتَفَى وَصْفُ عَالِمٍ.. إِذْ لَا يُوصَفُ
بِعَالِمٍ إِلَّا مَنْ لَهُ عِلْمٌ فَكَأَنَّهُمْ صَرَّحُوا عِنْدَهُ بِمَا
أَدَّى إليه قولهم.
__________
(1) المجاز ليس هنا بمعناه الاصطلاحي عند أهل البلاغة بل المراد أنه من
طرقهم في الكلام التي يتوسعون فيها.
(2) الاية: 45 سورة طه.
(3) الاية: 25 سورة سبأ.
(4) وهم المعتزلة وبعض الفلاسفة.
(2/622)
وَهَكَذَا عِنْدَ هَذَا سَائِرُ فِرَقِ
أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ،
وَمَنْ لَمْ يَرَ أَخْذَهُمْ بِمَآلِ قَوْلِهِمْ وَلَا أَلْزَمَهُمْ
مُوجِبَ مَذْهَبِهِمْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَهُمْ.
قَالَ: لِأَنَّهُمْ إِذَا وُقِّفُوا عَلَى هَذَا قَالُوا: لَا نَقُولُ
لَيْسَ بِعَالَمٍ، ونحن ننتفي من القول بالمال الذي ألزمتموه لَنَا،
وَنَعْتَقِدُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ أَنَّهُ كُفْرٌ. بَلْ نقول: إن قولنا لا
يؤول إِلَيْهِ عَلَى مَا أَصَّلْنَاهُ.
فَعَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِكْفَارِ أَهْلِ
التَّأْوِيلِ.
وَإِذَا فَهِمْتَهُ اتَّضَحَ لَكَ الْمُوجِبُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي
ذلك.
والصواب ترك إكفارهم، والإعراض عن الختم عَلَيْهِمْ بِالْخُسْرَانِ،
وَإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ فِي قِصَاصِهِمْ،
وَوِرَاثَاتِهِمْ، وَمُنَاكَحَاتِهِمْ، وَدِيَاتِهِمْ، وَالصَّلَاةِ
عَلَيْهِمْ، وَدَفْنِهِمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَائِرِ
مُعَامَلَاتِهِمْ. لَكِنَّهُمْ يُغَلَّظُ عَلَيْهِمْ بِوَجِيعِ الْأَدَبِ.
وَشَدِيدِ الزَّجْرِ وَالْهَجْرِ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ بِدْعَتِهِمْ.
وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةَ الصَّدْرِ الأول فيهم.
فقد كان نشأ على زمن الصَّحَابَةِ وَبَعْدَهُمْ فِي التَّابِعِينَ مَنْ
قَالَ بِهَذِهِ
(2/623)
الْأَقْوَالِ مِنَ الْقَدَرِ، وَرَأْيِ
الْخَوَارِجِ وَالِاعْتِزَالِ «1» ، فَمَا أزاحوا لَهُمْ قَبْرًا، وَلَا
قَطَعُوا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثًا، لَكِنَّهُمْ هَجَرُوهُمْ.
وَأَدَّبُوهُمْ بِالضَّرْبِ. وَالنَّفْيِ، وَالْقَتْلِ، عَلَى قَدْرِ
أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهُمْ فُسَّاقٌ ضُلَّالٌ عُصَاةٌ أَصْحَابُ كَبَائِرَ
عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ
بِكُفْرِهِمْ مِنْهُمْ، خِلَافًا لِمَنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ
الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ «2» : وَأَمَّا مَسَائِلُ الْوَعْدِ
وَالْوَعِيدِ «3» ، وَالرُّؤْيَةِ «4» وَالْمَخْلُوقِ «5» ، وخلق الأفعال،
وبقاء الأعراض «6» ،
__________
(1) أما القدرية والخوارج فقد ظهروا زمن الصحابة، وأما الاعتزال فلم يظهر
إلا زمن التابعين.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «385» رقم «1» .
(3) الوعد الوعيد: من آراء المعتزلة وانه لا يجوز عندهم تخلفهما فهو واجب
عليه سبحانه إذا وعد أو أوعد أن يمضيهما.
(4) المعتزلة ينكرون رؤبة الله في الاخرة. بينما أجمع الجمهور عليه.
(5) أي قول المعتزلة إن العبد يخلق أفعاله.
(6) الاعراض: جمع عرض وهو ما لا يقوم بنفسه كالألوان وقد قال الأشعري إن
الاعراض لا تبقى وذهب الى خلافه كثير من أهل السنة. وزاد الشيخ الاكبر في
الفصوص من أن الأجسام لا تبقى زمانين أيضا. وفسر به قوله تعالى (بل هم في
لبس من خلق جديد) وبه فسر أهل الكشف قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) ...
لأنها من ابتداء ظهورها الى ظهور فنائها في تبدل وتغير مستمرين ولكن دون أن
يقع ذلك واضحا أمام الحواس.. وها هو العلم الحديث وعلم الذرة خاصة يؤيد ما
ذهب إليه الأشعري رضي الله عنه والشيخ الأكبر وأهل الكشف رضي الله عنهم.
(2/624)
وَالتَّوَلُّدِ «1» ، وَشِبْهِهَا مِنَ
الدَّقَائِقِ، فَالْمَنْعُ فِي إِكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا
أَوْضَحُ.. إِذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا جَهْلٌ بِاللَّهِ
تَعَالَى.. وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِكْفَارِ مَنْ جَهِلَ
شَيْئًا مِنْهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ مِنَ
الْكَلَامِ وَصُورَةِ الْخِلَافِ فِي هَذَا مَا أَغْنَى عَنْ إعادته بحول
الله تعالى.
__________
(1) التولد: الذي ذهب إليه المعتزلة والحكماء كتولد العلم من الدليل وحصوله
عقبه كحركة المفتاح بحركة اليد.
(2/625)
|