إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع غزوة الخندق
ثم كانت غزوة الخندق: وتسمى الأحزاب. وهي الغزاة التي ابتلى اللَّه سبحانه
فيها عباده المؤمنين وزلزلهم، وثبت الإيمان في قلوب أوليائه، وأظهر ما كان
يبطنه أهل النفاق وفضحهم وقرّعهم. ثم أنزل تعالى نصره ونصر عبده، وهزم
الأحزاب، وأعز جنده، ورد الكفرة بغيظهم، ووقى المؤمنين شر كيدهم، وحرم
عليهم شرعا وقدرا أن يغزو المؤمنين بعدها، بل جعلهم المغلوبين، وجعل حزبه
هم الغالبين بمنّه وفضله.
بدؤها
وكان من خبرها: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عسكر يوم الثلاثاء
لثمان مضت من ذي القعدة سنة خمس، وقيل: كانت في شوال منها، وقال موسى بن
عقبة: كانت في سنة أربع، وصححه ابن حزم. وقال ابن إسحاق في شوّال سنة خمس،
وذكرها
__________
[ (1) ] في (خ) «باب» .
[ (2) ] الوهم بالتحرك: الغلط.
[ (3) ] في (خ) «يصر» والمعنى: لم يخل ولم يبرأ.
(1/221)
البخاري قبل غزوة ذات الرقاع [ (1) ] .
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
سببها
وسبب ذلك أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما أجلى بني النضير ساروا إلى خيبر،
وبها من يهود قوم أهل عدد وجلد، وليست لهم من البيوت والأحساب ما لبني
النضير فخرج [سلام ابن أبي الحقيق، و] [ (2) ] حيي بن أخطب، وكنانة بن أبي
الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس، وأبو عامر الراهب [ (3) ] . في
بضعة عشر رجلا إلى مكة يدعون قريشا وأتباعها إلى حرب رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم. فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمدا، جئنا
لنحالفكم على عداوته وقتاله. فنشطت قريش لذلك، وتذكروا أحقادهم ببدر، فقال
أبو سفيان: مرحبا وأهلا: أحبّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.
تعاهد بطون قريش عند الكعبة على قتال المسلمين
وأخرج خمسين رجلا من بطون قريش كلها وتحالفوا وتعاقدوا- وقد ألصقوا أكبادهم
[ (4) ] بالكعبة، وهم بينها وبين أستارها-: ألا يخذل بعضهم بعضا، ولتكونن
كلمتهم واحدة على محمد ما بقي منهم رجل. ثم قال أبو سفيان: يا معشر يهود،
أنتم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا [نختلف] فيه [ (5) ] نحن
ومحمد، أديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت، وننحر الكوم ونسقي
الحجيج، ونعبد الأصنام!.
__________
[ (1) ] صحيح البخاري ج 3 ص 30.
[ (2) ] زيادة من (ابن هشام) ج 3 ص 127، وهذا الّذي عليه أكثر الرواة، ولكن
المقريزي قدّم مقتل أبي رافع سلام بن أبي الحقيق على غزوة الأحزاب فعلى هذا
التقديم ليس يصحّ أن يذكر سلام بن أبي الحقيق في عداد أصحاب الأحزاب، لأن
مقتله عند المقريزي في سنة أربع، وكانت الغزوة في سنة خمس، راجع (زاد
المعاد) ج 3 ص 270.
[ (3) ] كذا في (خ) ، ومكانه في (ابن هشام) ج 3 ص 127 «أبو عمار الوائلي» .
[ (4) ] في (خ) «أكابدهم» وهذه عادتهم في إعظام اليمين.
[ (5) ] في (خ) «أخبرونا عما أصبحنا فيه ومحمد» وهو نص (الواقدي) ج 2 ص
442، وما أثبتناه أجود، وهو نص (ابن هشام) ج 3 ص 127 وما بين القوسين زيادة
منه.
(1/222)
خبر اليهود في نصرة
المشركين
فقالت يهود: اللَّهمّ أنتم أولى بالحق منه، إنكم لتعظمون هذا البيت،
وتقومون على السقاية، وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم
أولى بالحق منه.
فأنزل اللَّه تعالى في ذلك [ (1) ] : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
سَبِيلًا.
الخروج إلى القتال
واتعدوا لوقت وقتوه، وخرجت يهود إلى غطفان، وجعلت لهم ثمر خيبر سنة إن هم
نصروهم. وتجهزت قريش، وسيرت تدعو العرب إلى نصرها، وألبوا [ (2) ] أحابيشهم
[ (3) ] ومن تبعهم.
الأحزاب ومنازلهم
وأتت يهود بني سليم فوعدوهم السير معهم، ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة
بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جرية [ (4) ] بن لوذان بن فزارة ابن
ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان [ويقال له ابن اللقيطة: يعني لا تعرف له أم]
[ (5) ] الفزاريّ.
وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في
__________
[ (1) ] الآية 51/ النساء، والآيات التي نزلت في شأنهم من أول الآية 51 إلى
آخر الآية 55/ النساء.
راجع أسباب النزول للواحدي ص 114، 115.
[ (2) ] في (خ) «واللبوا» .
[ (3) ] نسبة إلى حبشىّ، وهو جبل بأسفل مكة بنعمان الأراك، يقال به سميت
أحابيش قريش، وذلك أن بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده
وحالفوا قريشا وتحالفوا باللَّه: إنا ليد واحدة على غيرنا ما سجا ليل ووضح
نهار، وما رسا حبشي مكانه (معجم البلدان) ج 2 ص 247.
[ (4) ] في (خ) «جوثة» .
[ (5) ] كذا في (خ) وهو خطأ، وصوابه: من هامش (ط) ص 218. «أن اللقيطة هي أم
حصن بن حذيفة بن بدر وإخوانه وهم خمسة، واسمها «نضيرة بنت عصيم بن مروان بن
وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عديّ بن فزارة» ، يقال في خبر تلقيبها
باللقيطة أخبار، أجودها أن حذيفة بن بدر التقطها في جوار قد أضربهن السنة
الجدب، فضمها إليه، ثم أعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها» .
(1/223)
دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي
طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم ألف بعير وخمسمائة بعير.
ولاقتهم سليم بمر الظهران في سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس [حليف حرب
بن أمية وهو] [ (1) ] أبو أبي الأعور السّلمي الّذي كان مع معاوية بن أبي
سفيان بصفين. وكان أبو سفيان بن حرب قائد جيش قريش. وخرجت بنو أسد وقائدها
طليحة بن خويلد الأسدي.
وخرجت بنو فزارة في ألف يقودهم عيينة بن حصن. وخرجت أشجع في أربعمائة
يقودهم مسعود بن رحيلة بن عائذ بن مالك بن حبيب بن نبيح بن ثعلبة بن قنفذ
ابن خلاوة بن سبيع بن بكر بن أشجع بن ريث [ (2) ] بن غطفان بن سعد بن قيس
ابن عيلان [ (3) ] [وقال ابن إسحاق: هو مسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف بن
سحمة [ (4) ] بن عبد اللَّه بن هلال بن خلادة بن أشجع] . وخرجت بنو مرّة في
أربعمائة يقودهم الحارث [بن عوف] [ (5) ] بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن
غيظ ابن مرة بن عوف [بن سعد] [ (5) ] بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان،:
وقيل: لم يحضر بنو مرّة. وكانوا جميعا عشرة آلاف، [وأقبلت قريش في أحابيشها
ومن تبعها من بني كنانة] [ (6) ] حتى نزلت وادي العقيق، ونزلت غطفان بجانب
أحد ومعها ثلاثمائة فرس فسرحت قريش ركابها في عضاة [ (7) ] وادي العقيق،
ولم تجد لخيلها هناك شيئا إلا ما حملت من علفها، وهو الذرة، وسرّحت غطفان
إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها [ (8) ] . وكان الناس قد حصدوا زرعهم
قبل ذلك بشهر، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم. وكادت خيل غطفان وإبلها تهلك من
الهزال، وكانت المدينة إذ ذاك جديبة.
__________
[ (1) ] زيادة البيان من (ابن سعد) ج 2 ص 66.
[ (2) ] في (خ) «أيث» .
[ (3) ] في (خ) «غيلان» .
[ (4) ] في (خ) (سمحة) والتصويب من (ابن هشام) ج 3 ص 128.
[ (5) ] زيادة من نسبه.
[ (6) ] زيادة للسياق (ابن هشام) ج 3 ص 131 بتصرف.
[ (7) ] العضاة: كل شجر له شوك. (المعجم الوسيط) ج 3 ص 128.
[ (8) ] الأثل: شجر من الفصيلة الطرفاوية طويل مستقيم يعمّر جيد الخشب كثير
الأغصان (المعجم الوسيط) ج 1 ص 6. والطرفاء: جنس من النبات منه أشجار
وجنبات من الفصيلة الطرفاوية ومنه الأثل (المرجع السابق) ج 2 ص 555.
(1/224)
مشورة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
حين بلغه خبر خروج الأحزاب وإشارة سلمان بحفر الخندق
وكانت خزاعة عند ما خرجت من مكة: أتى ركبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم- في أربع ليال- حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم:
أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويخندق عليها، أم يكون قريبا والجبل
وراءهم؟ فاختلفوا.
وكان سلمان الفارسيّ يرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يهم بالمقام
بالمدينة- ويريد [ (1) ] أن يتركهم حتى يردوا ثم يحاربهم على المدينة وفي
طرقها- فأشار بالخندق فأعجبهم ذلك، وذكروا يوم أحد، فأحبوا الثبات في
المدينة. وأمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالجد، ووعدهم النصر
إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بالطاعة.
خبر حفر الخندق
وركب فرسا له- ومعه عدة من المهاجرين والأنصار- فارتاد موضعا ينزله، وجعل
سلعا [ (2) ] خلف ظهره وعمل في [حفر] [ (3) ] الخندق لينشطهم، وندب الناس
وخبّرهم بدنو عدوهم، وعيّن حفر الخندق في المراد [ (4) ] وعسكر بهم إلى سفح
سلع، فتبادر المسلمون في العمل، وقد استعاروا من بني قريظة آلة كثيرة- من
مساحي وكرازين ومكاتل [ (5) ]-، للحفر في الخندق. ووكل صلّى اللَّه عليه
وسلّم بكل جانب من الخندق قوما يحفرونه. وكان الشباب ينقلون التراب، ويخرج
المهاجرون والأنصار في نقل التراب وعلى رءوسهم المكاتل، ويرجعون بها بعد
إلقاء التراب منها وقد ملئوها حجارة من جبل سلع: وهي أعظم سلاحهم، يرمون
بها.
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحمل التراب في المكاتل والقوم
يرتجزون [ (6) ] ،
ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول:
هذا الجمال لا جمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر
__________
[ (1) ] هذا الحرف في (خ) يقرأ ما بين «يريد» ، «يدبر» والأقرب للمعنى ما
أثبتناه.
[ (2) ] سلع جبل قرب المدينة (معجم البلدان) ج 3 ص 236.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] في (خ) «المزاد» .
[ (5) ] المساحي والكرازين والمكاتل: المجارف والفؤوس والقفف.
[ (6) ] ترتجزون: يترنمون بالرّجز من أوزان الشعر.
(1/225)
أخبار المسلمين يوم
حفر الخندق
وجعل المسلمون إذا رأوا من الرجل فتورا ضحكوا منه، وتنافس الناس في سلمان
الفارسيّ، فقال المهاجرون: سلمان منا- وكان قويا عارفا يحفر الخنادق- وقالت
الأنصار: هو منا ونحن آخرته [ (1) ] .
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: سلمان منا أهل البيت.
ولقد كان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانة [ (2) ] قيس بن أبي صعصعة فلبط به [
(3) ]
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: مروه فليتوضّأ وليغتسل به، ويكفأ الإناء
خلفه، ففعل فكأنما حلّ من عقال. وجعل لسلمان خمس أذرع طولا وخمسا في الأرض
ففرغها وحده وهو يقول: اللَّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة. وحفر رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم وحمل التراب على ظهره.
وفي حديث سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي: أنه عليه السلام حين ضرب في
الخندق قال:
بسم اللَّه وبه هدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
حبذا ربا وحبذا دينا [ (4) ]
وكان بنو سلمة في ناحية يحفرون ويرتجزون،
فعزم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على كعب ابن مالك ألا يقول شيئا،
وعزم على حسان بن ثابت، وقال: لا يغضب أحد مما قاله صاحبه، لا يريد بذلك
سوءا، إلا ما قال كعب وحسان فإنّهما يجدان ذلك [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «إخوته» ، وآخرته: آخر من نزل بهم بعد طوافه البلاد.
[ (2) ] عانة: أصابه بالعين من الحسد (المعجم الوسيط) ج 2 ص 641.
[ (3) ] لبط به: سقط على الأرض من قيام (المرجع السابق) ص 813.
[ (4) ] قال محقق (2) : «هذا كلام لم أجده فيما بين يدي من أصول الكتب، ولا
أدري ما هو» ونقول:
روى ابن كثير في (البداية والنهاية) ج 4 ص 96، ص 97 ما نصه:
«وقال البيهقي في الدلائل: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان (بسنده) عن أبي
عثمان عن سلمان أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ضرب في الخندق وقال:
بسم اللَّه وبه هدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبذا ربا وحبذا دينا
قال: وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
[ (5) ] قال محقق (ط) :
«هذا خبر ناقص مضطرب، ولم أعرف أصله ولا كيف ساقه» ونقول:
روى (الواقدي) في (المغازي) ج 2 ص 447 ما نصه: «حدثني أيوب بن النعمان عن
أبيه عن جده، عن كعب بن مالك
(1/226)
تغيير اسم جعيل
وتسميته عمرا
وكان جعيل بن سراقة رجلا صالحا «وكان ذميما قبيحا، وكان يعمل في الخندق،
فغير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم اسمه يومئذ وسماه عمرا، وجعل
المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا
سبب النهي عن أن يروّع المسلم أو يؤخذ سلاحه
وكان زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاريّ فيمن ينقل التراب، فقال رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم: أما إنه نعم الغلام!.
وغلبته عيناه فنام في الخندق- وكان القرّ شديدا-
فأخذ عمارة بن حزم سلاحه وهو لا يشعر، فلما قام فزع. فقال له رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك! ثم قال: من له
علم بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة: يا رسول اللَّه، هو عندي. فقال: فرده
عليه. ونهى أن يروع المسلم، و [لا] [ (1) ] يؤخذ متاعه [جادا ولا] [ (1) ]
لاعبا.
ولم يتأخر عن العمل في الخندق أحد من المسلمين، وكان أبو بكر وعمر رضي
اللَّه عنهما ينقلان التراب في ثيابهما من العجلة، إذ [ (2) ] لم يجدا
مكاتل- لعجلة المسلمين- وكانا لا يتفرقان في عمل ولا مسير ولا منزل.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هو يعمل في الخندق:
اللَّهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
__________
[ () ] قال: جعلنا يوم الخندق نرتجز ونحفر، وكنا- بني سلمة- ناحية فعزم
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليّ ألا أقول شيئا فقلت: هل عزم على
غيري؟ قالوا: حسان بن ثابت قال: فعرفت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم إنما نهانا لوحدنا له وقلته على غيرنا، فما تكلمت بحرف حتى فرغنا من
الخندق. وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ: لا يغضب أحد مما
قال صاحبه، لا يريد بذلك سوءا، إلا ما قال كعب وحسّان، فإنّهما يجدان ذلك»
.
والظاهر لنا أن المقريزي قد اختصر رواية الواقدي اختصارا أخلّ بمعناها،
واللَّه تعالى أعلم.
[ (1) ] زيادة للسياق من (الإصابة) ج 4 ص 42 عند ترجمة زيد بن ثابت رقم
2874، ونص (الواقدي) ج 2 ص 448: «ونهى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أن يروّع المسلم أو يؤخذ متاعه لاعبا جادا» والقرّ: البرد.
قال في (النهاية) ج 1 ص 245: «أي لا يأخذ على سبيل الهزل ثم يحبسه، فيصير
ذلك جدا» .
[ (2) ] في (خ) «إذا» .
(1/227)
[فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن
لاقينا] [ (1) ]
[إن الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا] [ (1) ]
يردد ذلك.
خبر نبوءته صلّى اللَّه عليه وسلّم عن الفتوح يوم حفر الخندق
وضرب بالكرزين فصادف حجرا فصل [ (2) ] الحجر، فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم، فقيل: ممّ تضحك يا رسول اللَّه؟ قال: أضحك من قوم يؤتى بهم من
المشرق في الكبول [ (3) ] ، يساقون إلى الجنة وهم كارهون.
وضرب عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بالمعول فصادف حجرا صلدا، فأخذ رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منه المعول فضرب ضربة فذهبت أوّلها برقة إلى
اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقة نحو
المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت في الأولى قصور اليمن، ثم رأيت في
الثانية قصور الشام، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن.
وجعل يصفه لسلمان فقال: صدقت! والّذي بعثك بالحق إن هذه لصفته! وأشهد أنك
رسول اللَّه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه فتوح يفتحها اللَّه عليكم
بعدي، يا سلمان لتفتحن الشام ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على
الشأم ولا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، ولتفتحن هذا المشرق ويهرب كسرى فلا
يكون كسرى بعده.
ولما كمل الخندق صارت المدينة كالحصن، ورفع المسلمون النساء والصبيان في
الآطام.
البركة في طعام جابر
ورأى جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم يحفر، ورآه خميصا [ (4) ] ، فأتى امرأته فأخبرها ما رأى من خمص رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: واللَّه ما عندنا شيء إلا هذه الشاة
ومدّ من شعير، قال: فاطحني وأصلحي. فطبخوا بعضها، وشووا
__________
[ (1) ] زيادة من (البخاري) ج 3 ص 32.
[ (2) ] صلّ الحجر: صوّت صوتا ذا رنين (المعجم الوسيط) ج 1 ص 520.
[ (3) ] الكبول: جمع كبل: وهو القيد من أي شيء كان، (المرجع السابق) ج 2 ص
774.
[ (4) ] يقال: خمص الجوع فلانا: أضعفه وأدخل بطنه في جوفه فهو خميص.
(1/228)
بعضها، وخبزوا الشعير، ثم أتى جابر رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه! قد صنعت لك طعاما،
فأت أنت ومن أحببت من أصحابك.
فشبّك صلّى اللَّه عليه وسلّم أصابعه بين أصابع جابر ثم قال: أجيبوا جابرا
يدعوكم. فأقبلوا معه، فقال جابر في نفسه: واللَّه إنها الفضيحة!.
وأتى المرأة فأخبرها فقالت: أنت دعوتهم أو هو؟ فقال: بل هو دعاهم! قالت:
دعهم فهو أعلم. وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمر أصحابه،
وكانوا فرقا: عشرة عشرة. ثم قال لجابر: اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من
التنور الخبز ثم غطوه.
ففعلوا وجعلوا يغرفون ويغطون البرمة ثم يفتحونها فما يرونها [ (1) ] نقصت
شيئا، ويخرجون الخبز من التنور ويغطونه فما يرونه ينقص شيئا، فأكلوا حتى
شبعوا، وأكل جابر وأهله [ (2) ] .
عرض الغلمان وإجازتهم
وعرض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز
من أجاز وردّ من ردّ.
فكان ممن أجاز: [عبد اللَّه] [ (2) ] بن عمر [بن الخطاب] [ (3) ] ، وزيد بن
ثابت، والبراء ابن عازب، وما منهم إلا ابن خمس عشرة سنة. وكان الغلمان
الذين لم يبلغوا يعملون معه ثم أمرهم [ (4) ] فرجعوا إلى أهليهم.
عدة المسلمين يوم الخندق
وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، وزعم ابن إسحاق أنه إنما كان في سبعمائة،
وهذا غلط. وقال ابن حزم: وخرج رسول اللَّه- يعني في الخندق- في ثلاثة آلاف،
وقد قيل: في تسعمائة فقط، وهو الصحيح الّذي لا شك فيه، والأول وهم [ (5) ]
.
اجتهاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في العمل يوم الخندق
ومن شدة اجتهاده صلّى اللَّه عليه وسلّم في العمل: كان يضرب مرة بالمعول
ومرة بالمسحاة يغرف بها التراب، ومرة يحمل التراب في المكتل، وبلغ يوما منه
التعب مبلغا فجلس، ثم اتكأ
__________
[ (1) ] في (خ) «يروها» .
[ (2) ] راجع (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) ج 8 ص 302 باب معجزته صلّى
اللَّه عليه وسلّم في الطعام وبركته فيه.
[ (3) ] زيادة للإيضاح.
[ (4) ] في (خ) «أمر بهم» .
[ (5) ] يقول ابن القيم في (زاد المعاد) ج 3 ص 271: «وخرج رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه،
وبالخندق أمامهم» وقال ذلك أيضا (الطبري) ج 2 ص 570.
(1/229)
على حجر بشقه الأيسر فنام، فقام أبو بكر
وعمر رضي اللَّه عنهما على رأسه يمنعان الناس من أن يمروا به فينبّهوه، ثم
فزع ووثب فقال:
أفلا أفزعتموني! وأخذ الكرزين يضرب به وهو يقول: اللَّهمّ إن العيش عيش
الآخرة، فاغفر للأنصار [ (1) ] والمهاجرة، اللَّهمّ العن عضلا والقارة، فهم
كلفوني أنقل الحجارة [ (2) ] .
وفرغ حفر الخندق في ستة أيام.
مواقف المسلمين
وعسكر فجعل سلعا خلف ظهره والخندق أمامه. ودفع لواء المهاجرين إلى زيد ابن
حارثة، ولواء الأنصار إلى سعد بن عبادة. وضرب له قبة من أدم. وعاقب بين
ثلاث من نسائه، وكانت عائشة أياما، ثم أم سلمة، ثم زينب بنت جحش، وبقية
نسائه في الآطام.
خبر حيي بن أخطب وأبي سفيان
وكان حيي بن أخطب يقول- لأبي سفيان بن حرب ولقريش في مسيره معهم-: إن قومي
قريظة معكم، وهم أهل حلقة وافرة، وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا. فلما
دنوا قال له أبو سفيان: ائت قومك حتى ينقضوا العهد الّذي بينهم وبين محمد.
عهد بني قريظة
فأتى بني قريظة- وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين قدم المدينة
صالح قريظة والنضير ومن معهم من يهود ألا يكونوا معه ولا عليه، ويقال:
صالحهم على أن ينصروه ممن دهمه [ (3) ] ، ويقيموا على معاقلهم [ (4) ]
الأولى التي بين الأوس والخزرج- فأتى
__________
[ (1) ] في (خ) «لي الأنصار» .
[ (2) ] يقول محقق (ط) : هكذا روى! وقد روى الثقات، ولم يذكر هذا الكلام من
قوله: «اللَّهمّ العن ...
إلخ» ، وهو كلام هالك ليس بشيء. ونقول:
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ العن عضلا والقارة، فهم كلفوني أنقل
الحجارة) » ذكره (ابن حجر) في (فتح الباري) ج 7 ص 394 هكذا:
والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا نقل الحجارة
وذكره أيضا في (المطالب العالية) ج 4 ص 228 برقم 4332.
[ (3) ] في (خ) «دهمه منهم» وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 454 وما أثبتناه من
(ط) .
[ (4) ] معاقلهم الأولى: أي الديات التي كانت في الجاهلية، أو على مراتب
آبائهم (ترتيب القاموس) ج 3 ص 287.
(1/230)
كعب بن أسد، وكان صاحب عقد بني قريظة
وعهدها [ (1) ] ، فكرهت قريظة دخول حيي بن أخطب إلى دارهم، فإنه يحب
الرئاسة والشرف عليهم، وكان يشبّه بأبي جهل في قريش [ (2) ] . فلقيه عزّال
[ (3) ] بن سموأل أول الناس، فقال له حيي:
قد جئتك بما تستريح به من محمد، هذه قريش قد دخلت وادي العقيق، وغطفان
بالزغابة! فقال عزال [ (3) ] : جئتنا واللَّه بذل الدهر! فقال: لا تقل هذا!
ثم أتى كعب بن أسد فقال له: إنك امرؤ مشئوم، وقد شأمت [ (4) ] قومك حتى
أهلكتهم، فارجع عنا! فما زال به حيي حتى لان له ونقض العهد، وشقوا الكتاب
الّذي كتب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم (بينه و) [ (5) ] بينهم،
واستدعى رؤساؤهم- وهم: الزبير ابن باطا، ونبّاش بن قيس، وعزال بن سموأل،
وعقبة بن زيد، وكعب ابن زيد- وأعلمهم بما فعل من نقض العهد، فلحمه [ (6) ]
الأمر لما أراد اللَّه بهم من هلاكهم.
نقض بني قريظة العهد ومجاهرتهم بالعداوة
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قبته، - والمسلمون على خندقهم
يتناوبونه، معهم بضع وثلاثون فرسا، والفرسان يطوفون على الخندق- إذ
جاء عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه، بلغني أن بني
قريظة قد نقضت العهد وحاربت. فاشتد ذلك على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم وقال: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل.
بعثة الزبير بن العوام لاستطلاع خبر بني قريظة وتسميته (حواريّ رسول
اللَّه)
وبعث الزبير بن العوام رضي اللَّه عنه إليهم لينظر. فعاد بأنهم يصلحون
حصونهم، ويدرّبون [ (7) ] طرقهم وقد جمعوا ماشيتهم،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن لكل نبي
__________
[ (1) ] في (خ) في هذا المكان «حي بن أخظب» وهو تكرار لا معنى له.
[ (2) ] في (خ) كان يشبه في قريش بأبي جهل، وفي (الواقدي) ج 2 ص 455 «وله
في قريش شبه أبو جهل ابن هشام» وما أثبتناه من (ط) .
[ (3) ] في (خ) «غزال»
[ (4) ] في (خ) «شوم، وقد شمت»
[ (5) ] زيادة لا بدّ منها.
[ (6) ] في (خ) (لجمة) ولحمة الأمر: أحكمه (المعجم الوسيط) ج 2 ص 819.
[ (7) ] قد تكون من «الدّربة» وهي الجرأة على الأمر أو من «الدّرب» وهو باب
السكة الواسع (ترتيب القاموس ج 2 ص 163، 164.
(1/231)
حواريا، وإن حواري [ (1) ] الزبير.
ثم بعث سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد ابن حضير لينظروا ما بلغه عن بني
قريظة، وأوصاهم- إن كان حقا- أن يلحنوا له [أي يلغزوا] لئلا [ (2) ] يفت
ذلك في عضد المسلمين ويورث وهنا، فوجدوهم مجاهرين بالعداوة والغدر،
فتسابوا، ونال اليهود- عليهم لعائن [ (3) ] اللَّه- من رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، فسبهم سعد بن معاذ وانصرفوا عنهم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما وراءكم؟ قالوا: عضل والقارة!
[يعنون غدرهم بأصحاب الرجيع] . فكبّر صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: أبشروا
بنصر اللَّه وعونه.
رعب المسلمين يوم الأحزاب
وانتهى الخبر إلى المسلمين، فاشتدّ الخوف وعظم البلاء، ونجم النفاق وفشل
الناس: وكانوا كما قال اللَّه تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ
الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ
الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً [ (4) ] .
مقالة المنافقين
وتكلم قوم بكلام قبيح، فقال معتّب بن قشير [ (5) ] (ويقال له: ابن بشر،
ويقال له: ابن بشير) بن حليل (ويقال: ابن مليل) بن زيد بن [ (6) ] العطاف
بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري:
يعدنا محمد (أن نأكل) [ (7) ] كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب
لحاجته! ما وعدنا اللَّه ورسوله إلا غرورا!.
__________
[ (1) ] في (خ) «حوارييّ» .
[ (2) ] في (خ) «لئن لا» .
[ (3) ] لعله يقصد جهنم لعنة، وفي (المعجم الوسيط) ج 2 ص 829: 879 أنها
تجمع على لعان، ولعنات.
[ (4) ] آية 10- 11 الأحزاب، وفي (خ) إلى قوله تعالى «الحناجر» .
[ (5) ] في (خ) «قريش» والتصويب من (الواقدي) ج 2 ص 459.
[ (6) ] في (خ) بعد قوله «ابن مليل» ما نصه: «مجد الأزعر العطاف» وهو خطأ،
فإن مليلا هذا هو أخو الأزعر، وكلاهما زيد بن العطاف.
[ (7) ] هذه رواية (ابن هشام) ج 2 ص 123 وفي (خ) بدون هذه الزيادة وهي
رواية (الواقدي) ص 549.
(1/232)
من أخبار يهود يوم
الأحزاب
وهمت بنو قريظة أن يغيروا على المدينة ليلا، وبعث حيي بن أخطب إلى قريش أن
يأتيه منهم ألف رجل ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم، فجاء الخبر بذلك إلى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فعظم البلاء. وبعث سلمة بن أسلم بن حريش بن
عدي بن مجدعة ابن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس
الأنصاري- في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة
ويظهرون التكبير، ومعهم خيل المسلمين، وكانوا يبيتون بالخندق خائفين، فإذا
أصبحوا أمنوا. وكان الخوف على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من الخوف
من قريش وغطفان إلا أن اللَّه ردّ بني قريظة عن المدينة بأنها كانت تحرس.
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خوات ابن جبير بن النعمان بن أمية
بن امرئ القيس بن ثعلبة بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري لينظر
غرة لبني قريظة فكمن [ (1) ] لهم، فحمله رجل منهم وقد أخذه النوم، فأمكنه
اللَّه من الرجل وقتله ولحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره. وخرج
نباش بن قيس في عشرة من اليهود يريد المدينة، ففطن بهم نفر من أصحاب سلمة
ابن أسلم فرموهم حتى هزموهم، ومر سلمة فيمن معه فأطاف بحصون يهود فخافوه،
وظنوا أنه البيات.
بنو حارثة الذين قالوا إن بيوتنا عورة
وبعث بنو حارثة بأوس بن قيظي بن عمرو بن زيد بن جشم بن حارثة الأنصاري إلى
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقولون: إن بيوتنا عورة، وليس في دار
من دور الأنصار مثل دارنا، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردّهم عنّا، فأذن لنا
فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال:
يا رسول اللَّه! لا تأذن لهم؟ إنا واللَّه ما أصابنا وإياهم شدّة قطّ إلا
صنعوا هكذا.
فردهم. وقال ابن الكلبي: وأبو مليل [ (2) ] بن الأزعر بن زيد بن العطاف بن
ضبيعة شهد بدرا، وهو الّذي قال: «بيوتنا عورة» يوم الخندق. وقال ابن عبد
البر:
__________
[ (1) ] في (خ) «فأكمن» .
[ (2) ] في (خ) «وابن مليل» والتصويب من (الإصابة) ج 12 ص 3 ترجمة رقم 1077
حيث يقول: «وأنا أخشى أن يكون هو الّذي بعده، وقع فيه تصحيف وتحريف وجوّز
ابن فتحون أن يكون هو الّذي بعده» «والّذي بعده» هو: أبو مليل الأزعر.
(1/233)
أبو مليل سليك بن الأعزّ [ (1) ] .
حراسة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلمة يخافها من الخندق
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها
[ (2) ] «فإذا آذاه البرد دخل قبته فأدفأته عائشة رضي اللَّه عنها في
حضنها، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة يحرسها ويقول:
ما أخشى على الناس إلا منها، فبينا هو ليلة في حضن عائشة قد دفيء وهو يقول:
ليت رجلا صالحا يحرسني الليلة، فجاء سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه فقال
صلّى اللَّه عليه وسلّم: عليك بهذه الثلمة فاحرسها، ونام، وقام صلّى اللَّه
عليه وسلّم ليلته في قبته يصلي، ثم خرج فقال: هذه خيل المشركين تطيف
بالخندق! ثم نادى: يا عباد ابن بشر، قال: لبيك! قال: معك أحد؟ قال: نعم،
أنا في نفر حول قبتك.
فبعثه يطيف بالخندق، وأعلمه بخيل تطيف بهم. ثم قال: اللَّهمّ ادفع عنا
شرّهم وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك.
نوبة المشركين عند الخندق
وكان المشركون يتناوبون بينهم: فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما،
ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة بن أبي
وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوما،
فلا يزالون يجيلون خيلهم، ويتفرقون مرة ويجتمعون مرة أخرى، ويناوشون
المسلمين، ويقدمون رماتهم فيرمون، وإذا أبو سفيان في خيل يطيفون بمضيق من
الخندق، فرماهم المسلمون حتى رجعوا.
طلب المشركين مضيقا من الخندق وردهم
وكان عباد بن بشر ألزم الناس لقبة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يحرسها. وكان أسيد بن حضير يحرس في جماعة، فإذا عمرو بن العاص في نحو
المائة يريدون العبور من الخندق، فرماهم حتى ولوا، وكان المسلمون يتناوبون
الحراسة، وكانوا في قرّ شديد وجوع. وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد
كثيرا ما يطلبان غرة، ومضيقا
__________
[ (1) ] (الاستيعاب) (لابن عبد البر) ج 12 ص 154 ترجمة رقم 3186 «ابن
الأغر» .
[ (2) ] الثلمة: الموضع الّذي قد انثلم أي انشق (المعجم الوسيط) ج 1 ص 99.
في (خ) «ويحرسها» .
(1/234)
من الخندق يقتحمانه، فكانت للمسلمين معهما
وقائع في تلك الليالي.
شعار المهاجرين
وكان شعار المهاجرين: يا خيل اللَّه. وجاء في بعض الليالي عمرو بن عبد [بن
أبي القيس] [ (1) ] في خيل المشركين، ومعه مسعود بن رخيلة [ (2) ] بن نويرة
بن طريف بن سحمة بن عبد اللَّه بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان
في خيل غطفان، فرماهم المسلمون. ولبس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
درعه ومغفره، وركب فرسه وخرج، فصرفهم اللَّه وقد كثرت فيهم الجراحة، فرجع
صلّى اللَّه عليه وسلّم ونام، وإذا بضرار بن الخطاب وعيينة بن حصن في عدة
فركب عليه السلام بسلاحه ثانيا، فرماهم المسلمون حتى ولوا وفيهم جراحات
كثيرة.
الخوف يوم الخندق وشدة البلاء
قالت أم سلمة رضي اللَّه عنها: شهدت معه مشاهد- فيها قتال وخوف- المريسيع
وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين- لم يكن من ذلك أتعب لرسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا
في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري: فالمدينة تحرس حتى
الصباح، نسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفا، حتى ردهم اللَّه بغيظهم
لم ينالوا خيرا [ (3) ] . وقال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق
نهارا، وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه
يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة
بن أبي وهب [ (4) ] يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن
الخطاب يوما، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا.
رماة المشركين
وكان معهم رماة يقدمونهم إذا غدوا، متفرقين أو مجتمعين بين أيديهم، وهم:
__________
[ (1) ] في (خ) (وخيله)
[ (2) ] وفي (المغازي) ج 2 ص 467 (مسعود بن رخية) .
[ (3) ] في (خ) (لن)
[ (4) ] في (خ) (ابن أبي لهب) وهو خطأ محض.
(1/235)
حبّان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي في
آخرين، فتناوشوا بالنبل ساعة، وهم جميعا في وجه واحد وجاه قبة رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم، ورسول اللَّه قائم بسلاحه على فرسه.
إصابة سعد بن معاذ وهي الإصابة التي قتلته
فرمى حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله [ (1) ] وقال: خذها وأنا
ابن العرقة!
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: عرّق اللَّه وجهه في النار،
ويقال: بل رماه أبو أسامة الجشمي.
اقتحام المشركين مضيقا من الخندق وقتالهم وردهم
ثم أجمع رؤساء المشركين أن يغدو جميعا، وجاءوا يريدون مضيقا يقحمون خيلهم
إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتوا مكانا ضيقا أغفله المسلمون فلم
تدخله خيولهم.
وعبره عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد اللَّه المخزومي، وضرار بن الخطاب
[هو ضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو آكل السّقب بن حبيب بن عمرو
ابن شيبان بن محارب [ (2) ] بن فهر بن مالك الفهري، أسلم يوم الفتح] ،
وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد- وقام سائرهم وراء الخندق، فدعا عمرو بن
عبد إلى البراز- وكان قد بلغ تسعين سنة، وحرم الدهن حتى يثأر بمحمد
وأصحابه-
فأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليا رضي اللَّه عنه سيفه وعمّمه
وقال: اللَّهمّ أعنه عليه!
فخرج له وهو راجل [ (3) ] وعمرو فارسا، فسخر به عمرو، ودنا منه عليّ، فلم
يكن بأسرع من أن قتله علي، فولى أصحابه الأدبار. وسقط نوفل بن عبد اللَّه
عن فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل. ومرّ عمر بن الخطاب والزبير في
إثر القوم فناوشوهم ساعة، وسقطت درع هبيرة بن أبي وهب، فأخذها الزبير رضي
اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] الأكحل: وريد في وسط الذراع (المعجم الوسيط) ج 3 ص 778، وقال سعد
رضي اللَّه عنه حينئذ
لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل
راجع: (عيون الأثر) ج 2 ص 2، (ابن هشام) ج 3 ص 136، وفي (الواقدي) ج 2 ص
469 (.. ما أحسن الموت إذا حان الأجل) ، وحمل: وهو حمل بن سعدانة بن حارثة
الكلبي.
[ (2) ] في (خ) (مجار) .
[ (3) ] راجل: على رجليه، بغير فرس أو دابة.
(1/236)
تعبئة المسلمين
ثم وافى المشركون سحرا، وعبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه،
فقاتلوا يومهم إلى هويّ من الليل: وما يقدر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم.
تخلف المسلمين عن الصلاة يوم الخندق
وما قدر صلّى اللَّه عليه وسلّم على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء،
فجعل أصحابه يقولون: يا رسول اللَّه، ما صلينا! فيقول: ولا أنا ما صليت!
حتى كشف اللَّه المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله.
وأقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل للمشركين يطلبون
غرة- وعليها خالد بن الوليد- فناوشهم ساعة، فزرق وحشيّ الطفيل بن النعمان
[وقيل: الطفيل بن مالك بن النعمان] [ (1) ] بن خنساء الأنصاري بمزراقه [
(2) ] فقتله كما قتل حمزة رضي اللَّه عنه بأحد.
إقامة الصلاة التي شغلوا عنها
فلما صار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى موضع قبته أمر بلالا فأذن
وأقام للظهر، وأقام بعد لكل صلاة إقامة، فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها
في وقتها، وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف، وذلك قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ* فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [ (3) ] .
وقال يومئذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: شغلنا المشركون عن صلاة
الوسطى: صلاة
__________
[ (1) ] قال في (الإستيعاب) ج 5 ص 231 ترجمة رقم 1275 «الطفيل بن مالك بن
النعمان بن خنساء.
وقيل: الطفيل بن النعمان ابن خنساء الأنصاري السلمي، من بني سلمة، شهد
العقبة، وشهد بدرا، وأحد، وجرح بأحد ثلاثة عشر جرحا، وعاش حتى شهد الخندق
وقتل يوم الخندق شهيدا، قتله وحشي ابن حرب» «وذكر موسى بن عقبة في
البدريين: الطفيل بن النعمان بن الخنساء، والطفيل بن مالك بن خنساء، رجلين»
.
[ (2) ] المزراق: الرمح القصير (المعجم الوسيط) ج 1 ص 392.
[ (3) ] الآيتان 238، 239/ البقرة، وفي (خ) «قبل أن تنزل صلاة الخوف فرجالا
أو ركبانا ... » .
(1/237)
العصر، ملأ اللَّه أجوافهم وقبورهم نارا.
وفي حديث جابر: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما شغل يومئذ عن
صلاة العصر. وفي حديث أبي سعيد وعبد اللَّه بن مسعود:
أنه شغل يومئذ عن أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وفي مرسل سعيد
بن المسيّب: أنه شغل عن الظهر والعصر. فاحتمل أن يكون كله صحيحا، لأنهم
حوصروا في الخندق وشغلوا بالأحزاب أياما.
ومثل حديث جابر في ذلك حديث علي رضي اللَّه عنه: «وهو حديث ثابت من طرق
عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة
العصر حتى غربت الشمس، ملأ اللَّه قلوبهم وبطونهم- أو بيوتهم- نارا.
طلب المشركين جيفة نوفل بن عبد اللَّه
وأرسلت بنو مخزوم يطلبون جيفة نوفل بن عبد اللَّه: يشترونها، وأعطوا فيها
عشرة آلاف درهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنما هي جيفة
حمار! وكره ثمنه، فخلّى بينهم وبينه. وفي رواية: أن أبا سفيان بعث بديته
مائة من الإبل، فأبى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: خذوه، فإنه خبيث
الدية خبيث الجثة.
اقتتال الطليعتين من المسلمين
وخرجت طليعتان من المسلمين ليلا فالتقيا- ولا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون
إلا أنهم العدو- فكانت بينهم جراحة وقتل، ثم نادوا بشعار الإسلام: «حم لا
ينصرون» ، فكف بعضهم عن بعض، وجاءوا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: جراحكم في سبيل اللَّه، ومن قتل
منكم فإنه شهيد.
فكانوا بعد ذلك إذا دنا المسلمون بعضهم من بعض نادوا بشعارهم.
خبر الفتى الّذي ذهب إلى أهله
وكان رجال يستأذنون أن يطلعوا إلى أهليهم،
فيقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني أخاف عليكم من قريظة. فإذا
ألحوا يقول: من ذهب منكم فليأخذ سلاحه.
وكان فتى حديث عهد بعرس، فأخذ سلاحه وذهب، فإذا امرأته قائمة بين البابين،
فهيأ لها الرمح ليطعنها فقالت: اكفف حتى ترى ما في بيتك! فإذا بحية على
فراشه،
(1/238)
فركز فيها رمحه فاضطربت، وخر الفتى ميتا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- لما أخبر بذلك-: إن بالمدينة
جنّا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام [ (1) ] ، فإن بدا
لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
جوع المسلمين وخبر البركة في الطعام
وكان المسلمون قد أصابهم مجاعة شديدة، وكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدروا
عليه، فأرسلت عمرة ابنة رواحة ابنتها بجفنة تمر عجوة في ثوبها إلى زوجها
بشير ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري، وإلى أخيها عبد اللَّه بن رواحة-
فوجدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا في أصحابه فقال: تعالي يا
بنية! ما هذا معك؟ فأخبرته، فأخذه في كفيه ونثره على ثوب بسط له، وقال
لجعال بن سراقة: اصرخ، يا أهل الخندق أن هلم إلى الغداء:
فاجتمعوا عليه يأكلون منه حتى صدر أهل الخندق وإنه ليفيض من أطراف الثوب.
وأرسلت أم متعب [ (2) ] الأشهلية [ (3) ] بقبعة فيها حيس [ (4) ] إلى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو في قبته مع أم سلمة، فأكلت حاجتها، ثم
خرج بالقعبة فنادى مناديه:
هلم إلى عشائه! فأكل أهل الخندق حتى نهلوا وهي كما هي.
موادعة عيينة بن حصن ثم نقض ذلك
وأقام صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه محصورين بضع عشرة ليلة حتى اشتد
الكرب،
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إني أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهمّ إنك
إن تشأ لا تعبد.
وأرسل إلى عيينة بن حصن، والحارث بن عوف- وهما رئيسا غطفان- أن يجعل لهما
ثلث تمر المدينة ويرجعان بمن معهما، فطلبا نصف التمر، فأبى عليهما إلا
الثلث، فرضيا. وجاءا في عشرة من قومهما حتى تقارب الأمر، وأحضرت الصحيفة
والدواة ليكتب عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه الصلح- وعباد بن بشر قائم على
__________
[ (1) ] راجع: (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) ج 1 ص 268- 272 حيث ذكر هذا
الخبر بتمامه.
[ (2) ] كذا في (خ) ، (ط) ، وفي (الواقدي) «أم عامر الأشهلية» .
[ (3) ] قال محقق (ط) «لم أجد لها ترجمة ولا خبرا» .
والخبر بسنده وتمامه في (الاستيعاب) ج 3 ص 247 برقم 3576 وترجمتها في
(الإصابة) ج 3 ص 243 برقم 1368، والخبر بسنده وتمامه في (المغازي) ج 2 ص
476، 477.
[ (4) ] القعبة: حقة مطبقة للسويق (ترتيب القاموس) ج 3 ص 654.
والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط فيعجن شديدا ثم يندر من نواه وربما يجعل فيه
سويق (المرجع السابق) ج 1 ص 479.
(1/239)
رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
مقنع في الحديد-، فأقبل أسيد بن حضير، وعيينة مادّ رجليه، فقال له: يا عين
الهجرس [ (1) ] ، اقبض رجليك، أتمد رجليك بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم؟ واللَّه لولا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأنفذت حضنيك
بالرمح! ثم قال:
يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليك، إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان
غير ذلك فو اللَّه لا نعطيهم إلا السيف، متى طمعتم بهذا منا؟ فدعا رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما خفية،
فقالا [ (2) ] : إن كان هذا أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر
فيه ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا
السيف.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس
واحدة فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم.
فقالا: يا رسول اللَّه، واللَّه إن كانوا ليأكلون العلهز [ (3) ] في
الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط: أن يأخذوا ثمرة إلا بشراء أو
قرى! فحين أتانا اللَّه بك وأكرمنا بك، وهدانا بك، نعطي الدنية! لا نعطيهم
أبدا إلا السيف.
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: شق الكتاب. فشقه سعد، فقام عيينة والحارث،
فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ارجعوا، بيننا السيف: رافعا صوته.
خبر نعيم بن مسعود الأشجعي في تخذيل الأحزاب
وكان نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة الأشجعي صديقا لبني قريظة،
وقدم مع قومه من الأحزاب حين أجدب الجناب [ (4) ] وهلك الخف والكراع [ (5)
] ، فقذف اللَّه في قلبه الإسلام. فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ليلا فأسلم، فأمره أن يخذّل الناس: وأذن له أن يقول [ (6) ] . فتوجه إلى
بني قريظة، وأشار عليهم ألا يقاتلوا مع قريش وغطفان حتى يأخذوا منهم رهنا
من أشرافهم فقبلوا رأيه، واستكتمهم مجيئه إليهم. ثم جاء إلى أبي سفيان في
رجال قريش، وأعلمهم أن قريظة قد ندمت على ما كان منها، وأنهم راسلوا محمدا
بأنهم يأخذون [ (7) ] من أشراف قريش وغطفان
__________
[ (1) ] الهجرس: القرد والثعلب، أو ولده، والدب، ويقال: فلان هجرس: لئيم
(المعجم الوسيط) ج 2 ص 973.
[ (2) ] في (خ) (فقال) .
[ (3) ] العلهز: طعام من الدم والوبر كان يتخذ في المجاعة، ونبات ينبت في
بلاد بني سليم. (ترتيب القاموس) ج 3 ص 303، 304.
[ (4) ] في (خ) (أحدب الحباب) وما أثبتناه من (المغازي) ج 2 ص 480.
[ (5) ] كناية عن هلاك الأفعال.
[ (6) ] أي يقول ما يشاء في الحيلة والخدعة.
[ (7) ] في (خ) (يأخذوا) .
(1/240)
سبعين رجلا يسلمونهم [ (1) ] إليه ليضرب
أعناقهم، حتى يرد بني النضير إلى ديارهم، ويكونون معه حتى يردوا قريشا عنه،
وأشار عليهم ألا يجيبوا قريظة إلى إعطاء الرهن، وسألهم كتمان أمره ثم جاء
إلى غطفان وأعلمهم عن بني قريظة بما أعلم به قريشا عنهم، وحذرهم أن يدفعوا
إليهم رهنا، فأرسلت يهود عزال [ (2) ] ابن سموأل إلى قريش بأن الثواء قال
طال ولم يصنعوا شيئا، والرأي أن يتواعدوا على يوم تزحف فيه قريش وغطفان
وهم، ولكنهم لا يخرجون لذلك معهم حتى يرسلوا إليهم برهائن من أشرافهم،
فإنّهم يخافون: إن أصابكم ما تكرهون رجعتم وتركتمونا. فلم يرجعوا إليهم
بجواب. وجاء نعيم إلى بني قريظة وقال لهم: إني عند أبي سفيان وقد جاءه
رسولكم يطلب منه الرّهان فلم يرد عليه شيئا، فلما ولى رسولكم قال: لو طلبوا
مني عناقا [ (3) ] ما رهنتها! فلا تقاتلوا معه حتى تأخذوا الرهن، فإنكم إن
لم تقاتلوا محمدا- وانصرف أبو سفيان- تكونوا على موادعتكم الأولى.
فلما كانت ليلة السبت بعث أبو سفيان بعكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة أن
يخرجوا غدا ليناجزوا محمدا جميعا، فقالوا: إن غدا السبت، لا نقاتل فيه ولا
نعمل عملا، وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهانا من رجالكم لئلا
تبرحوا، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمّروا إلى بلادكم وتدعونا إلى
محمد، ولا طاقة لنا به. فتحققت قريش صدق ما قال لهم نعيم: وأرسلت غطفان إلى
بني قريظة بمسعود بن رخيلة في رجال بمثل ما راسلهم أبو سفيان، فأجابوهم
بمثل [ (4) ] ما أجابوا به عكرمة، فتحققت غطفان وبنو قريظة ما قاله نعيم،
ويئس كل منهم من الآخر واختلف أمرهم.
اختلاف الأحزاب
وأخذ أبو سفيان ومن معه يلومون حيي بن أخطب، فأتى بني قريظة فلم يجد منهم
موافقة له، وأبوا أن يقاتلوا مع قريش حتى يأخذوا سبعين رجلا من قريش
__________
[ (1) ] في (خ) (يسلموهم) .
[ (2) ] في (خ) (غزال) .
[ (3) ] العناق: الأنثى من أولاد المعيز والغنم من حين الولادة إلى تمام
الحول (المعجم الوسيط) ج 2 ص 632.
[ (4) ] في (خ) (ماما) مكررة.
(1/241)
وغطفان رهانا عندهم.
دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأحزاب وهبوب الريح عليهم
وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد دعا على الأحزاب فقال:
اللَّهمّ منزّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللَّهمّ اهزمهم.
وكان دعاؤه عليهم يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين
الظهر والعصر يوم الأربعاء، فعرف السرور في وجهه، فلما كان ليلة السبت، بعث
اللَّه الريح على الأحزاب حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رحله، ولا يقرّ
لهم قدر ولا بناء. وقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي إلى أن
ذهب ثلث الليل. وكذلك فعل ليلة قتل كعب بن الأشرف. وكان صلّى اللَّه عليه
وسلّم إذا حزبه الأمر أكثر من الصلاة.
خبر الريح وتفرق الأحزاب ورجوعهم
وبعث حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه لينظر ما فعل القوم وما يقولون. فدخل
عسكرهم في ليلة شديدة البرد فإذا هم مصطلون على نار لهم والريح لا تقر لهم
قدرا ولا بناء، وهم يشتورون [ (1) ] في الرحيل حتى ارتحلوا. وأقام عمرو بن
العاص وخالد بن الوليد في مائتي فارس جريدة [ (2) ] . ثم ذهب حذيفة إلى
غطفان فوجدهم قد ارتحلوا، فأخبرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بذلك. فلما
كان السحر لحق عمرو وخالد بقريش، ولحقت كل قبيلة بمحلتها [ (3) ] .
مدة حصار الخندق
فكانت مدة حصار الخندق خمسة عشر يوما، وقيل: عشرين يوما، وقيل:
قريبا من شهر. وأصبح صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد رحيل الأحزاب، فأذن
للمسلمين في الانصراف، فلحقوا بمنازلهم.
كتاب أبي سفيان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ورد رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم
وكتب أبو سفيان إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا فيه: «باسمك
اللَّهمّ. فإنّي أحلف
__________
[ (1) ] هذه اللفظة عامية، واللغة فيها (يتشاورون) .
[ (2) ] جريدة: خيل لا رجّالة فيها (المعجم الوسيط) ج 1 ص 116.
[ (3) ] المحلة: منزل القوم.
(1/242)
باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا وإنا
نريد ألا نعود [ (1) ] أبدا حتى نستأصلكم [ (2) ] ، فرأيتك قد كرهت لقاءنا،
وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علّمك هذا؟ فإن نرجع عنك فلكم منا يوم
كيوم أحد» وبعث به مع أبي أسامة الجشميّ، فقرأه أبيّ بن كعب على رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قبته،
وكتب إليه: «من محمد رسول اللَّه إلى أبي سفيان بن حرب. أما بعد، فقديما
غرك باللَّه الغرور. أما ما ذكرت- أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن
تعود حتى تستأصلنا- فذلك أمر يحول اللَّه بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة
حتى لا تذكر اللات والعزى. وأما قولك: من علمك الّذي صنعنا من الخندق؟ فإن
اللَّه ألهمني لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك، وليأتينّ عليك يوم تدافعني
بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وإساف ونائلة وهبل، حتى
أذكرك ذلك.
ويقال: كان في كتاب أبي سفيان: «ولقد علمت أني لقيت أصحابك ناجيا [ (3) ]
وأنا في عير لقريش فما خص أصحابك منا شعره، ورضوا منا بمدافعتنا بالراح، ثم
أقبلت في عير قريش حتى لقيت قومي- فلم تلقنا- فأوقعت بقومي ولم أشهدها من
وقعة، ثم غزوتكم في عقر داركم، فقتلت وحرقت [يعني غزوة السويق] . ثم غزوتك
في جمعنا يوم أحد، فكانت وقعتنا فيكم مثل وقعتكم بنا ببدر. ثم سرنا إليكم
في جمعنا ومن تألب إلينا يوم الخندق، فلزمتم الصياصي وخندقتم الخنادق» .
ما نزل من القرآن في شأن الخندق
وأنزل اللَّه تعالى- في شأن الخندق يذكر نعمته وكفايته عدوهم، بعد سوء الظن
منهم، ومقالة من تكلم بالنفاق- قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) «ألا نعود إليك» وهي رواية (الواقدي) ج 2 ص 492 وما
أثبتناها من (ط) .
[ (2) ] في (خ) «نستأصلهم» وفي (الواقدي «نستأصلك» ) .
[ (3) ] في (خ) (باسا) .
[ (4) ] الآيات من 1 إلى 27/ الأحزاب، «لم تروها، الآيات» .
(1/243)
ذكر من قتل من المسلمين
وقتل من المسلمين يومئذ ستة نفر، ثلاثة من بني الأشهل هم: سعد بن معاذ،
وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد اللَّه بن سهل، واثنان من بني جشم ابن
الخزرج ثم من بني سلمة هما: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عتمة [ (1) ] ،
وواحد من بني النجار ثم من بني دينار [هو] [ (2) ] : كعب بن زيد، أصابه سهم
غرب [ (3) ] فقتله.
من قتل من الكفار
وقتل من المشركين ثلاثة نفرهم [ (4) ] : منبّه بن عثمان بن عبيد بن السبّاق
بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد اللَّه بن المغيرة بن
مخزوم، وعمرو بن عبد ودّ قتله علي رضي اللَّه عنه. ولم تغز كفار قريش
المسلمين بعد الخندق. |