إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

فصل في ذكر ما كان من أعلام نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منذ حملت به أمه آمنة بنت وهب [ (1) ] إلى أن بعثه اللَّه برسالته
اعلم أنه كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من أمارات النبوة آيات وأعلام يهتدى بها إلى ثبوت نبوته وصدق رسالته، قدمها اللَّه تعالى قبل بعثته برسالته ليكون دليلا واضحا وبرهانا صحيحا لائحا على نبوته وتحقيق رسالته.
فمن ذلك: إخبار الحبر لعبد المطلب بأن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة، وأن ذلك في بني زهرة، وأن عبد اللَّه بن عبد المطلب كان يرى بين عينيه نور النبوة، وأن أمة آمنة بنت وهب لما حملت به بشّرت بأنه خير البرية، ولما ضربها المخاض دنت منه نجوم السماء، وخرج منها لما وضعته نور أضاء له البيت، وانتشر حتى أضاءت له قصور الشام وغيرها، وطرحوا عليه بعد ولادته برمة فانفلقت، وولد مختونا مسرورا، وفتحت لولادته أبواب السماء، واستبشرت الملائكة، وتطاولت الجبال وارتفعت البحار، وقلّ الشيطان ومردته، وألبست الشمس نورا عظيما، ونكست الأصنام وحجبت الكهان، وارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، وغاضت بحيرة ساوي، ورأى المؤبذان
__________
[ (1) ] هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
ولا نعلم أنه كان لآمنة أخ فيكون خالا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، ولكن بنو زهرة يقولون: نحن أخوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن آمنة منهم، كانت أفضل امرأة في قريش نسبا وموطنا، ويؤخذ من اللهجة التي كانت تتكلم بها السيدة آمنة أن أصلها من المدينة.
وكانت السيدة آمنة وفية لزوجها عبد اللَّه والد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته، فكانت تخرج في كل عام إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ست سنين خرجت زائرة لقبره ومعها عبد المطلب وأم أيمن حاضنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة ماتت بها. (معجم البلدان) :
1/ 101، موضع رقم (152) ، (الأبواء) وهي موضع بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، (المعارف) : 1/ 129، (أعلام النساء) : 1/ 18.

(4/34)


أن إبلا تقود خيلا وانتشرت في بلاد فارس.
وردّ اللَّه ببركته أصحاب الفيل عن مكة، ومنعهم من تخريب البيت الحرام الّذي جعل اللَّه حجّه أحد أركان الإسلام، تحقيقا لشريعته، وتأييدا لدعوته، وما ظهر لظئره حليمة من البركة حين أرضعته من إقبال لبنها، وكثرته بعد قلته، وحلبها اللبن من شاتها التي لم يكن بها قطرة لبن، وسبق أتانها حمر رفاقها بعد تخلفها عنهم لضعفها، وسمن أغنامها دون أغنام قومها، وشق صدره المقدس عندها، ومعرفة اليهود له وهو طفل مع أمه بالمدينة، وتوسم جده عبد المطلب فيه السيادة، وقول بني مدلج: إن قدمه أشبه بقدم إبراهيم الخليل، ومعرفة أسقف نجران وهو غلام، وإخبار اليهودي أنه يخرج من صلب عبد المطلب نبي يقتل يهود، وما كان عمه أبو طالب يرى من البركة منذ كفله، وتظليل الغمام له، واعتراف بحيرا الراهب بنبوته، وإخبار نسطور بذلك.

(4/35)


وأما إخبار الحبر لعبد المطلب بأن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة، وأن ذلك في بني زهرة
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث أبي عون [ (1) ] مولى المسور بن مخرمة، عن المسور عن عبد اللَّه بن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه تعالى عنهما قال: قال عبد المطلب: قدمت اليمن في رحلة الشتاء فنزلت على حبر من أحبار اليهود، فقال لي رجل من أهل الزبور- يعني من أهل الكتاب-: ممن الرجل؟
قلت: من قريش، قال: من أيهم؟ قلت: [من بني هاشم] [ (2) ] ، قال:
يا عبد المطلب! تأذن [ (3) ] لي أن انظر إلى بعضك؟ قلت: نعم، ما لم يكن عورة، قال: ففتح أحد منخريّ ثم فتح الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكا وفي الأخرى نبوّة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة، فكيف ذلك؟ فقلت [ (4) ] لا أدري، قال: هل لك من شاعة؟ قلت: وما الشاعة؟ قال: الزوجة، قلت: أما اليوم فلا، قال: فإذا رجعت فتزوج منهم [ (5) ] ، فرجع عبد المطلب إلى مكة فتزوج بهالة [ (6) ] بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت له حمزة وصفية، وتزوج
__________
[ (1) ] سند هذا الحديث في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عمر الخلال المكيّ قال: حدثنا محمد بن منصور الجواز قال: حدثنا يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك ابن حميد بن عبد الرحمن الزهري قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز قال: حدثنا عبد اللَّه ابن جعفر المخرميّ، عن أبي عون مولى المسور بن مخرمة، عن المسور عن ابن عباس عن أبيه العباس ابن عبد المطلب قال: ...
[ (2) ] في (خ) : «من أيهم شئت» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] في المرجع السابق: «أتأذن» .
[ (4) ] في المرجع السابق: «قلت» .
[ (5) ] في المرجع السابق: «فيهم» .
[ (6) ] في المرجع السابق: «هالة» .

(4/36)


عبد اللَّه بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ووهب ووهيب أخوان، فقالت قريش حين تزوج عبد اللَّه: فلج عبد اللَّه على أبيه [ (1) ] .
ورواه الزهري وعبد الرحمن بن حميد عن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه، أن عبد المطلب ... فذكر نحوه.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 129- 130، حديث رقم (71) ، والسيوطي في (الخصائص) : 1/ 99، وابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 86 لكن بسياقه أخرى ضمن قصة طويلة، والحاكم في (المستدرك) : 2/ 656، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، باب ذكر أخبار سيد المرسلين وخاتم النبيين، محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، المصطفى صلوات اللَّه عليه وعلى آله الطاهرين من وقت ولادته إلى وقت وفاته ما يصح منها على ما رسمنا في الكتاب لا على ما جرينا عليه من أخبار الأنبياء قبله إذ لم نجد السبيل إليها إلا على الشرط في أول الكتاب، حديث رقم (4176/ 186) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : يعقوب وشيخه ضعيفان، (ميزان الاعتدال) : 2/ 632، ترجمة رقم (5119) عبد العزيز بن عمران الزهري المدني، وهو عبد العزيز بن أبي ثابت، قال البخاري: لا يكتب حديثه، وقال النسائي وغيره: متروك، وقال عثمان بن سعيد:
قلت ليحيى: فابن أبي ثابت عبد العزيز بن عمران ما حاله؟ قال ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر، وهو من ولد عبد الرحمن بن عوف.
وابن كثير في (البداية والنهاية) : 2/ 309، فصل تزويج عبد المطلب ابنه عبد اللَّه من آمنة بنت وهب الزهرية، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 106- 107.

(4/37)


وأما رؤية النور بين عيني عبد اللَّه بن عبد المطلب
فخرج أبو نعيم من حديث ابن شهاب [ (1) ] عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة، وعامر بن سعد عن أبيه سعد، قال: أقبل عبد اللَّه بن عبد المطلب أبو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وكان في بناء له وعليه أثر الطين والغبار، فمرّ بامرأة من خثعم، وقال [ (2) ] عامر بن سعد [ (3) ] عن أبيه في حديثه فمرّ بليلى العدويّة، فلما رأته ورأت ما بين عينيه دعته إلى نفسها وقالت له: إن وقعت بي فلك مائة من الإبل، فقال لها [عبد اللَّه بن عبد المطلب] [ (4) ] : حتى أغسل عني هذا الطين الّذي عليّ وأرجع إليك، فدخل على آمنة بنت وهب فواقعها فحملت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الطيب المبارك، ثم رجع إلى الخثعمية، وقال عامر في حديثه إلى ليلى العدويّة فقال لها: هل لك فيما قلت؟ فقالت: لا [يا عبد اللَّه] [ (5) ] ، قال: ولم؟ قالت: لأنك مررت بي وبين عينيك نور، ثم رجعت إليّ وقد انتزعته آمنة بنت [ (6) ] وهب منك. فولدت [ (7) ] آمنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وله من حديث النضر بن سلمة [ (8) ] قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه محمد عن أبيه عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت سعد ابن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه يقول: نحن أعظم خلق اللَّه بركة، وأكثر خلق
__________
[ (1) ] السّند في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا عمر بن محمد بن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن مسلمة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز عن أبيه قال: حدثني ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة وعامر بن سعد عن أبيه سعد قال ...
[ (2) ] في المرجع السابق: «فقال» .
[ (3) ] في (خ) : «سعيد» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «ابنة» .
[ (7) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فحملت آمنة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (8) ] السند في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن عمر الخلال المكيّ قال:
حدثنا عبد العزيز بن عمران قال: حدثني محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه عن جده قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ...

(4/38)


اللَّه ولدا، خرج عبد اللَّه بن عبد المطلب ذات يوم متخصّرا [ (1) ] مترجلا حتى جلس في البطحاء، فنظرت إليه ليلى العدوية، فدعته إلى نفسها، فقال عبد اللَّه [بن عبد المطلب] [ (2) ] : أرجع إليك، ودخل [عبد اللَّه] [ (2) ] على آمنة [بنت وهب] [ (2) ] فقال لها اخرجي فواقعها وخرج، فلما رأته ليلى قالت: ما فعلت؟ فقال [عبد اللَّه] [ (2) ] : قد رجعت إليك، قالت [ليلى] [ (2) ] : لقد دخلت بنور ما خرجت به، ولئن كنت ألممت بآمنة بنت وهب لتلدن ملكا [ (3) ] .
وله من حديث ابن جريج عن عطاء [ (4) ] عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال:
لما خرج عبد المطلب بابنه ليزوجه مرّ به على كاهنة من أهل تبالة [ (5) ] متهوّدة [ (6) ] قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مرّ الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد اللَّه، فقالت له: يا فتى! هل لك أن تقع عليّ الآن وأعطيك مائة من الإبل فقال [عبد اللَّه] [ (7) ] :
أما الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه
فكيف بالأمر الّذي تبغينه؟
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فأقام عندها ثلاثا، ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته [ (8) ] إليه الخثعمية فأتاها فقالت: يا فتى! ما صنعت بعدي؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب وأقمت عندها ثلاثا، قالت:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل أبي نعيم) : «متحضّرا» ، والحديث أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) 1/ 130، حديث رقم (72) ، والسيوطي في (الخصائص) : 1/ 100، عن أبي نعيم، وأخرج القصة ابن هشام في (السيرة) : 1/ 291- 292.
[ (2) ] زيادات للسياق والنسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 131، حديث رقم (73) وفيه عبد العزيز بن عمران، وهو متروك.
[ (4) ] السند في (دلائل النبوة لأبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا محمد بن عمارة القرشيّ، قال: حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال: ...
[ (5) ] تبالة: بلد باليمن.
[ (6) ] في (خ) : «مشهورة» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (8) ] في (خ) : «دعت» .

(4/39)


إي واللَّه ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نورا وأردت أن يكون فيّ، وأبى اللَّه إلا أن يصيره حيث أحبّ، [ثم قالت فاطمة الخثعمية] [ (1) ] :
وله من حديث داود بن أبي هند [ (2) ] عن عكرمة قال: كانت امرأة من خثعم تعرض نفسها في [موسم الحج] [ (3) ] ، وكانت ذات جمال، ومعها أدم تطوف به كأنها تبيعه، فأتت على عبد اللَّه بن عبد المطلب، فلما رأته أعجبها [ (4) ] فقالت: إني واللَّه ما أطوف لبيع [ (5) ] الأدم، وما بي إلى ثمنه من حاجه، ولكني إنما أتوسم الرجال [ (6) ] ، انظر هل أجد كفؤا، فإن كانت لك إليّ حاجة فقم، فقال لها:
مكانك [حتى] [ (7) ] أرجع إليك، فانطلق إلى أهله [ (8) ] ، فبدا له [ (9) ] فواقع أهله، فحملت بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رجع إليها قال: ألا أراك هاهنا؟ قالت: ومن أنت [ (10) ] ؟ قال: أنا الّذي وعدتك، قالت لا: ما أنت هو، ولئن كنت ذاك [ (11) ]
__________
[ (1) ] في (خ) : «وقالت شعرا فذكره» ، قالت:
إني رأيت مخيلة لمعت ... فتلألأت بحناتم القطر
فلمائها نور يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر
ورجوته فخرا أبوء به ... ما كل قادح زنده يورى
للَّه ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري
والحديث أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 131- 133، حديث رقم (74) ، وابن سعد في (الطبقات) : 1/ 96- 97، وفيه صدر البيت الثالث هكذا:
فلمأتها نورا يضيء به
وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) ، و (طبقات ابن سعد) .
[ (2) ] السند في (دلائل البيهقي) ، هكذا: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع، قال: حدثنا عبد الوارث بن إبراهيم العسكري، قال: حدثنا مسدّد، قال: حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ...
[ (3) ] في (خ) : «موسم من المواسم» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فأظن أنه أعجبها» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «ما أطوف بهذا الأدم وما لي إلى ثمنها حاجة» .
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «وإنما أتوسم الرجل هل أجد كفؤا» .
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (8) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «إلى رحلة» .
[ (9) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فبدأ فواقع أهله» .
[ (10) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «فمن كنت؟» .
[ (11) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «قال: الّذي واعدتك» .

(4/40)


لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن [ (1) ] .
وله من حديث ابن وهب [ (2) ] قال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري قال: كان عبد اللَّه بن عبد المطلب أحسن رجل رئي قط، فخرج [ (3) ] يوما على نساء قريش وهن مجتمعات، فقالت امرأة منهن: أيتكن تتزوج بهذا الفتى فتصطبّ النور الّذي أرى [ (4) ] بين عينيه؟ فإنّي أرى بين عينيه نورا، فتزوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة [ (5) ] ، فحملت بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم [ (6) ] .
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق [ (7) ] : ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد اللَّه، فمرّ به- فيما يزعمون- على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد اللَّه؟ فقال:
مع أبي، قالت: لك عندي من الإبل مثل الّذي نحرت عنك وقع عليّ الآن، فقال لها: إن معي أبي [الآن] [ (8) ] ، لا أستطيع خلافه ولا فراقه، ولا أريد أن أعصيه شيئا.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 107- 108.
[ (2) ] السند في (دلائل أبي نعيم) هكذا: حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان، قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري، قال: ...
[ (3) ] كذا في (خ) وفي (أبي نعيم) : «خرج» .
[ (4) ] في (أبي نعيم) : «النور الّذي بين عينيه» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (أبي نعيم) : «بن زهرة فجأة فحملت» .
[ (6) ] (دلائل النبوة لأبي نعيم) : 1/ 133، حديث رقم (75) ، وهو حديث مرسل، أخرجه أيضا السيوطي في (الخصائص) : 1/ 104 قال الشيخ أبو نعيم رحمه اللَّه: ففي ابتغاء اليهود واليهودية وضع هذا النور الّذي انتقل إلى آمنة بنت وهب فيها، وذكرهم بني زهرة، وأن هذا الأمر لا يكون فيهم، دلالة واضحة على تقديم الخبر والبشارة بذلك في الكتب السالفة، وما يكون من أمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وبعثته، كل ذلك آيات واضحة، وبراهين صحيحة لائحة، على نبوته وبعثته صلّى اللَّه عليه وسلم. (المرجع السابق) : 1/ 133.
[ (7) ] السند في (دلائل البيهقي) هكذا: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ... ، وفي (سيرة ابن هشام) بغير سند، وفي (تاريخ الطبري) بغير سند، بل قال: «فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد» وكذلك قال (البيهقي والمقريزي) .
[ (8) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .

(4/41)


فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة- ووهب يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا- فزوجه آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا [ (1) ] .
قال: وذكروا أنه دخل عليها حين أملكها [ (2) ] مكانه، فوقع عليها فحملت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال: ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي قالت له ما قالت- وهي أخت ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى- وهي في مجلسها، فجلس إليها وقال: مالك لا تعرضين عليّ اليوم مثل الّذي عرضت أمس؟.
قالت [ (3) ] : فارقك [ (4) ] النور الّذي كان فيك، فليس لي بك اليوم حاجة، وكانت فيما زعموا تسمع من أخيها ورقة ابن نوفل- وكان قد تنصّر واتّبع الكتب- يقول: إنه لكائن في هذه الأمة نبي من بني إسماعيل [ (5) ] ، فقالت في ذلك شعرا فذكره [ (6) ] ، واسمها أم قتّال بنت نوفل بن أسد.
__________
[ (1) ] [وهي لبرّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصيّ. وأم برة: أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصيّ. وأم حبيب بنت أسد: لبرّة بنت عوف بن عبيد بن عدي بن عدي بن كعب ابن لؤيّ بن غالب بن فهر] ما بين الحاصرتين زيادة من (دلائل البيهقي) ، و (ابن هشام) ، و (تاريخ الطبري) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (الطبري) ، و (ابن هشام) ، وفي (البيهقي) : «ملكها» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، و (ابن هشام) ، وفي (الطبري) ، و (البيهقي) : «فقالت» .
[ (4) ] في (البيهقي) : «قد فارقك» .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 102- 104، باب تزوج عبد اللَّه بن عبد المطلب: أبي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بآمنة بنت وهب، وحملها برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ووضعها إياه، (سيرة ابن هشام) . 1/ 292 باب ذكر المرأة المتعرضة لنكاح عبد اللَّه بن عبد المطلب، (تاريخ الطبري) : 2/ 243- 244.
[ (6) ] هذا الشعر ذكره البيهقي في (الدلائل) ، حيث قالت أم قتّال بنت نوفل بن أسد:
الآن وقد ضيّعت ما كنت قادرا ... عليه وفارقك الّذي كان جاءك
غدوت عليّ حافلا قد بذلته ... هناك لغيري فالحقنّ بشانكا
ولا تحسبنّي اليوم خلوا وليتني ... أصبت جنينا منك يا عبد داركا
ولكن ذاكم صار في آل زهرة ... به يدعم اللَّه البرية ناسكا
وقالت أيضا:
عليك بآل زهرة حيث كانوا ... وآمنة التي حملت غلاما

(4/42)


__________
[ () ]
ترى المهديّ حين ترى عليه ... ونورا قد تقدّمه إماما
وقالت أيضا:
فكل الخلق يرجوه جميعا ... يسود الناس مهتديا إماما
برأه اللَّه من نور صفاء ... فأذهب نوره عنا الظلاما
وذلك صنع ربك إذ حباه ... إذا ما سار يوما أو أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر ... ويفرض بعد ذلكم الصّياما
قال البيهقي: قلت: وهذا الشيء قد سمعته من أخيها في صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. ويحتمل أن كانت أيضا امرأة عبد اللَّه مع آمنة.
قال الدكتور عبد المعطي قلعجي محقق (دلائل البيهقي) تعليقا على هذا الخبر: خبر غريب موضوع، لا سند له، ولا منطق يؤيده، ويناقض الأحاديث الصحيحة، تناقلته كتب السيرة بما دسّه عليها أعداء الإسلام، من يهود، وسبيئة، وشانئين، ومنافقين.
1- فرغم ما عرف عن تمسك المؤرخين بالسند، وأن كل الأخبار الصحيحة وردت بالسند القوي المتواتر، فهذا الخبر ليس له سند، فلا هو بمتصل، ولا بمرفوع، لا، بل نقله (الطبري) :
2/ 243، [ابن هشام: 1/ 291] ، [البيهقي: 1/ 102] ، [المقريزي في النسخة (خ) من إمتاع الأسماع] ، [بقولهم جميعا] : «فيما يزعمون» .
2- إن متنه وما تضمنه من حكاية المرأة التي عرضت الزنا على عبد اللَّه وهو حديث عهد بزواج، تناقض الأحاديث الصحيحة، من طهارة وشرف نسب الأنبياء، وأن هذه الطهارة، وهذا الشرف من دلائل نبوتهم،
قال صلّى اللَّه عليه وسلم: «إن اللَّه اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» .
وهذا الحديث في الترمذي ومسند أحمد،
وأن اللَّه طهره من عهر الجاهلية وأرجاسها، ووالده عبد اللَّه كان صورة طبق الأصل من عبد المطلب، ولو أمهله الزمن لتولى مناصب الشرف التي كانت بيد عبد المطلب، وكان شعاره الّذي التزمه طيلة حياته:
أما الحرام فالممات دونه
رجل هذا شأنه، هل نطمئن إلى هذه الروايات المزعومة، وأنه بعد أن دخل بزوجته آمنة، عاد فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: «مالك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت عليّ بالأمس؟» !!.
3- تخبطت الروايات في اسم المرأة، فهي مرة امرأة من خثعم، ومرة أم قتال أخت ورقة ابن نوفل، ومرة هي ليلى العدوية، ومرة كاهنة من أهل قبالة متهوّدة، ومرة أنه كان متزوجا بامرأة أخرى غير آمنة ... إلخ هذا التخبط الدال على الكذب، ولماذا اختار الرواة أخت ورقة ابن نوفل، أو امرأة كانت قد قرأت الكتب؟!.
4- إننا إذا نظرنا إلى الشعر الوارد في هذا الخبر على لسان المرأة، لوجدناه شعرا ركيكا، مزيفا، مصنوعا، ملفقا، مضطرب القافية، محشورة الكلمات فيه بشكل مصطنع واضح الدلالة على تلفيقه، وبهذا كله يسقط هذا الخبر الواهي، ويدل على هذا قول ابن إسحاق، والطبري،

(4/43)


قال ابن إسحاق [ (1) ] : حدثني والدي إسحاق بن يسار قال: حدثت أنه كان لعبد اللَّه بن عبد المطلب امرأة مع آمنة بنت وهب [بن عبد مناف] [ (2) ] ، فمر بامرأته [تلك] [ (3) ] وقد أصابه أثر من طين عمل به، فدعاها إلى نفسه فأبطأت عليه لما رأت من أثر الطين.
فدخل فغسل عنه أثر الطين، ثم دخل عامدا إلى آمنة، ثم دعته صاحبته التي كانت أرادته إلى نفسها، فأبى [ (4) ] للذي صنعت به أول مرة، فدخل على آمنة فأصابها ثم خرج، فدعاها إلى نفسه فقالت: لا حاجة لي بك، مررت بي وبين عينيك غرّة فرجوت أن أصيبها، فدخلت على آمنة فذهبت بها منك.
قال ابن إسحاق: فحدثت أن امرأته تلك كانت تقول: لمرّ بي وإن بين عينيه لنورا مثل الغرّة، ودعوته له رجاء أن يكون لي، فدخل على آمنة فأصابها فحملت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (5) ] .
__________
[ () ] [والبيهقي] ، و [المقريزي] ، وغيرهم ممن نقلوا الخبر- فيما يزعمون- وهم زعم باطل. (دلائل البيهقي) 1/ 104- 105 «هامش» .
[ (1) ] السند في (دلائل البيهقي) : وأخبرنا أبو عبيد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس: أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني والدي: إسحاق بن يسار، قال: ...
[ (2) ] زيادة للنسب من (البيهقي) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (البيهقي) .
[ (4) ] في (خ) : «فأبا» والتصويب من (البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 105- 106، (سيرة ابن هشام) : 1/ 292، قصة حمل آمنة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، (تاريخ الطبري) : 2/ 244.

(4/44)


وأما إخبار آمنة بأنها قد حملت بخير البرية وسيّد الأمة
فخرج أبو نعيم من حديث النضر بن سلمة، حدثنا أبو غزيّة محمد بن موسى [الأنصاري] [ (1) ] عن أبي عثمان سعيد بن زيد [الأنصاري] [ (1) ] عن ابن بريدة عن أبيه بريدة قال: رأت آمنة بنت وهب أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في منامها، فقيل لها: إنك قد حملت بخير البرية وسيد العالمين، فإذا ولدته فسميه أحمد ومحمدا، وعلقي عليه هذه، قال: فانتبهت وعند رأسها صحيفة من ذهب مكتوب فيها [ (2) ] : أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، من كل خلق زائد، من قائم أو قاعد، عن السبيل حائد [ (3) ] ، على الفساد جاهد، من نافث أو عاقد، وكل جن [ (4) ] مارد، يأخذ بالمراصد، في طرق الموارد، أنهاهم عنه باللَّه الأعلى، وأحوطه [منهم] [ (5) ] باليد العليا، والكف الّذي لا يرى [ (6) ] ، يد اللَّه فوق أيديهم، وحجاب اللَّه دون عاديهم، لا تطردوه ولا تضروه [ (7) ] ، في مقعد ولا منام، ولا مسير ولا مقام، أول الليالي وآخر الأيام [أربع مرات بهذا] [ (8) ] .
[قال سعيد بن زيد الأنصاري: فلقيت بريدة بن سفيان الأسلمي، فذكرت له هذا الحديث الّذي حدثنا ابن بريدة عن أبيه، فقال بريدة بن سفيان: حدثنيه بريدة بهذا، وحدثني محمد بن كعب عن ابن عباس بهذا] [ (9) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (أبي نعيم) .
[ (2) ] في (خ) : «فيها هذه» .
[ (3) ] في (خ) ، و (المواهب) : حائد، وفي (أبي نعيم) : «عاند» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المواهب) ، و (أبي نعيم) : «خلق مارد» .
[ (5) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (6) ] في (خ) : «الّذي يدني» ، وما أثبتناه من (أبي نعيم) .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (أبي نعيم) : «لا يطردونه ولا يضرونه» .
[ (8) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (9) ] ما بين الحاصرتين من (خ) ، وغير موجود في رواية أبي نعيم، وهذا الحديث ذكره أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 136، حديث رقم (78) وقد انفرد به أبو نعيم، وفيه أبو غزية محمد بن موسى الأنصاري، وهو ضعيف كما في (ميزان الاعتدال) : 4/ 49، ترجمة رقم (8222) ،

(4/45)


وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وكانت آمنة بنت وهب أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلم فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، من كل بر عاهد، وكل عبد رائد، يذود عني ذائد، فإنه عند الحميد الماجد، حتى أراه قد أتى المشاهد.
وقال: فإن آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء والأرض، واسمه في الفرقان محمد، فسمته بذلك.
فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها، وقد كان هلك أبوه عبد اللَّه وهي حبلى، ويقال: إن عبد اللَّه هلك والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهرا [فاللَّه أعلم أي ذلك كان] [ (1) ] .
فقالت: قد ولد لك الليلة غلام فانظر إليه، فلما جاءها خبرته خبره وحدثته بما رأت حين حملت به وما قيل لها فيه وما أمرت أن تسميه.
فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو اللَّه ويتشكّر للَّه [عزّ وجلّ] [ (2) ] الّذي أعطاه إياه، فقال:
الحمد للَّه الّذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان [ (3) ]
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه باللَّه [ (4) ] ذي الأركان
__________
[ () ] قال البخاري: عنده مناكر، وقال ابن حبان كان يسرق الحديث، ويروي عن الثقات الموضوعات، وقال أبو حاتم: ضعيف، ووثّقه الحاكم. مات سنة سبع ومائتين.
ومن قوله: «أعيذه بالواحد ... إلى آخر الأبيات» كما في (المواهب) أو إلى قوله: «طرق الموارد» كما في (خ) ، قال عنه الحافظ عبد الرحيم العراقي: هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير، وجعلها من حديث ابن عباس، ولا أصل لها، قال الشامي: وسنده واه جدا، وإنما ذكرته لأنبه عليه لشهرته في كتب المواليد. (المواهب اللدنية) 1/ 120- 121.
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] الأردان: جمع ردن، وهو أصل الكم، وذلك كناية عن العفة والطهارة.
[ (4) ] في (البداية والنهاية) : «بالبيت ذي الأركان» ، وفي (خ) ، و (صفة الصفوة) ، و (ابن سعد) : «باللَّه ذي الأركان» .

(4/46)


حتى يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ البنيان
أعيذه من كل ذي شنئان [ (1) ] ... من حاسد من مضطرب العنان
ذي همدة ليس له عينان ... حتى أراه رافع اللسان
أنت الّذي سميت في الفرقان ... في كتب ثابتة المثاني
أحمد مكتوب على اللسان [ (2) ]
[ويقال: إنه أتاها في منامها حين مرّ بها من حملها ثلاثة أشهر] .
وخرج أبو نعيم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن سعيد بن عمرو الأنصاري عن أبيه عن كعب الأحبار في صفة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال ابن عباس: وكان من دلالات حمل محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت:
حمل برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ورب الكعبة، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها.
ولم يبق كاهنة في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهانة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، والملك مخرسا لا ينطق يومه ذلك، ومرت وحش المشرق إلى وحش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضا في كل شهر من شهوره نداء [ (3) ] في الأرض ونداء [ (3) ] في السماء أن أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا.
قال: وبقي في بطن أمة تسعة أشهر كملا لا تشكو وجعا ولا ريحا ولا مغصا ولا ما يعرض للنساء من أداء الحمل.
وهلك أبوه عبد اللَّه وهو في بطن أمة فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا! بقي
__________
[ (1) ] الشنآن: البغض.
[ (2) ] وردت هذه الأبيات بسياقات مختلفة، في بعضها تقديم وتأخير، وزيادة ونقصان، وما أثبتناه ما رواه ابن كثير في (البداية والنهاية) ، فهو أتم الروايات وأصحها، والخبر ورد في: (دلائل البيهقي) :
1/ 111- 112، و (صفة الصفوة) : 1/ 25- 26، و (سيرة ابن هشام) : 1/ 296، و (طبقات ابن سعد) : 1/ 103، و (البداية والنهاية) : 2/ 224، راجع (امتاع الأسماع) :
1/ 8، بتحقيقنا.
[ (3) ] في (خ) : «نداء» ، والتصويب من (المواهب اللدنية) .

(4/47)


نبيك هذا يتيما، فقال اللَّه للملائكة: أنا له وليّ وحافظ ونصير، وتباركوا بمولده، فمولده ميمون مبارك، وفتح اللَّه تعالى لمولده أبواب السماء وجنانه.
فكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مرّ بي من حمله ستة أشهر، فوكزني برجله في المنام وقال لي: يا آمنة، إنك قد حملت بخير العالمين طرّا، فإذا ولدتيه فسميه محمدا، واكتمي شأنك.
قال: فكانت تحدث عن نفاسها وتقول: لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم، ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل- وعبد المطلب في طوافه- قالت: فسمعت رجّة شديدة وأمرا عظيما فهالني، وذلك يوم الاثنين فرأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي، فذهب عني كل رعب وكل فزع ووجع كنت أجد.
ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا- وكنت عطشى- فتناولتها فشربتها، فأضاء مني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طولا [ (1) ] ، كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي، فبينا أنا أعجب وأقول: وا غوثاه، من أين علمن بي هؤلاء، واشتد الأمر وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول، فإذا أنا بديباج قد مدّ بين السماء والأرض وإذا قائل يقول: خذوه عن أعين الناس.
قالت: ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة، وأنا أرشح عرقا كالجمان، أطيب ريحا من المسك الأذفر وأقول: يا ليت عبد المطلب قد دخل عليّ وعبد المطلب نائي.
قالت: فرأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من اليواقيت، فكشف اللَّه لي عن بصري، فأبصرت ساعتي تلك مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات:
علما في المشرق وعلما في المغرب وعلما على ظهر الكعبة، فأخذني المخاض واشتد بي الأمر جدا، فكنت كأني مستندة إلى أركان النساء، وكثرن عليّ حتى لا أرى
__________
[ (1) ] في (خ) : «الطول» ، وما أثبتناه من (المواهب اللدنية) .

(4/48)


معي في البيت أحدا وأنا لا أرى شيئا، فولدت محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم.
فلما خرج من بطني نظرت إليه فإذا أنا به ساجدا قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء تنزل حتى غشيته، فغيب عن وجهي، فسمعت مناديا ينادي ويقول: طوفوا بمحمد شرق الأرض وغربها، وأدخلوه البحار كلها ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سمي الماحي لا يبقى شيء من الشرك إلا محي به في زمنه.
ثم تجلت عنه في أسرع وقت، فإذا به مدرج في ثوب صوف أبيض، أشد بياضا من اللبن، وتحته حبرة خضراء، قد قبض محمد صلّى اللَّه عليه وسلم على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض، وإذا قائل يقول: قبض محمد على مفاتيح النصر ومفاتيح الريح ومفاتيح النبوة.
ثم أقبلت سحابة أخرى أعظم من الأولى ونور، يسمع منها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة من كل مكان، وكلام الرجال، حتى غشيته فغيب عني أطول وأكثر من المرة الأولى، فسمعت مناديا ينادي [و] يقول: طوفوا بمحمد الشرق والغرب على مواليد النبيين، واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والطير والسباع، وأعطوه صفاء آدم، ورقة نوح، وخلة إبراهيم، ولسان إسماعيل، وصبر يعقوب، وجمال يوسف، وصوت داود، [وصبر أيوب] ، وزهد يحى، وكرم عيسى، واعمروه في أخلاق الأنبياء.
ثم تجلت عنه في أسرع من طرف العين، فإذا به قد قبض على حريرة خضراء، مطوية طيا شديدا، ينبع من تلك الحريرة ماء معين، وإذا قائل يقول: بخ بخ، قبض محمد على الدنيا كلها، لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته طائعا بإذن اللَّه تعالى، ولا قوة إلا باللَّه.
قالت آمنة: فبينا أنا أتعجب وإذا بثلاثة نفر- ظننت بأن الشمس تطلع من خلال وجوههم- في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي ذلك الإبريق ريح المسك، وفي يد الثاني طست من زمرد أخضر، عليها أربعة نواحي كل ناحية من نواحيها لؤلؤة بيضاء، وإذا قائل يقول: هذه الدنيا شرقها وغربها وبرها وبحرها، فاقبض

(4/49)


يا حبيب اللَّه على [أية] ناحية شئت.
قالت: فدرت لأنظر أين قبض من الطست، فإذا هو قد قبض على وسطها، فسمعت القائل يقول: قبض على الكعبة ورب الكعبة، أما إن اللَّه قد جعلها له قبلة ومسكنا مباركا، ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية طيا شديدا فنشرها، فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه، ثم حمل ابني فناوله صاحب الطست وأنا انظر إليه، فغسله بذلك الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ختما واحدا ولفه في الحريرة، واستدار عليه خطا من المسك الأذفر، ثم حمله فأدخله بين أجنحته ساعة.
قال ابن عباس: كان ذلك رضوان خازن الجنان، وقال في أذنه كلاما كثيرا لم أفهمه، وقبل بين عينيه وقال: أبشر يا محمد، فما بقي لنبي علم إلا أعطيته، فأنت أكثرهم علما وأشجعهم قلبا، معك مفاتيح النصر، وقد ألبست الخوف والرعب، ولا يسمع أحد بذكرك إلا وجل في فؤاده، وخاف قلبه، وإن لم يرك يا حبيب اللَّه.
قالت: ثم رأيت رجلا قد أقبل نحوه حتى وضع فاه على فيه، فجعل يزقه كما تزق الحمامة فرخها، فكنت انظر إلى ابني يشير بإصبعه يقول: زدني زدني، فزقه ساعة ثم قال: أبشر يا حبيبي، فما بقي لنبي حلم إلا وقد أوتيته.
ثم احتمله فغيبه عني، فجزع فؤادي وذهل قلبي، فقلت: ويح لقريش والويح لها! ماتت كلها، أنا في ليلتي وفي ولادتي، أرى ما أرى، ويصنع بي ما يصنع ولا يقربني أحد من قومي، إن هذا لهو أعجب العجب.
قالت: فبينا أنا كذلك إذ أنا به قد ردّ عليّ كالبدر، وريحه يسطح كالمسك وهو يقول: خذيه، فقد طافوا به الشرق والغرب على مواليد الأنبياء أجمعين، والساعة كان عند أبيه آدم فضمه إليه، وقبله بين عينيه، وقال: أبشر حبيبي، فأنت سيد الأولين والآخرين، ومضى، وجعل يلتفت ويقول: أبشر يا عزّ الدنيا وشرف الآخرة، فقد استمسكت بالعروة الوثقى، فمن قال بمقالتك وشهد بشهادتك حشر غدا يوم القيامة تحت لوائك وفي زمرتك، وناولنيه ومضى، ولم

(4/50)


أره بعد تلك المرة.
قال كاتبة: هكذا أورد الحافظ أبو نعيم هذا الحديث، وأن الوضع يلوح عليه [ (1) ] !
__________
[ (1) ] وأورده القسطلاني في (المواهب) تحت عنوان: «حديث شديد الضعف في حمله صلّى اللَّه عليه وسلم» ، وتحت عنوان: «أحاديث مطعون فيها ومنكره في الموالد» . (المواهب اللدنية) : 1/ 121، 124- 126، وقال في آخره: ورواه أبو نعيم عن ابن عباس، وفيه نكارة.

(4/51)


وأما دنوّ النجوم منها عند ولادته وخروج النور منها
فخرج الحافظ أبو نعيم [ (1) ] وأبو بكر البيهقي [ (2) ] من حديث يعقوب بن محمد الزهري قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني عبد العزيز بن عمر ابن عبد الرحمن بن عوف قال: أخبرني عبد اللَّه بن عثمان بن أبي سليمان عن ابن أبي سويد الثقفي عن عثمان بن أبي العاص قال: أخبرتني أمي أنها حضرت آمنة أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما ضربها المخاض، [قالت] [ (3) ] : فجعلت انظر إلى النجوم [تدلى] [ (3) ] حتى قلت: لتقعن عليّ، فلما وضعت خرج منها نور أضاء له البيت والدار، حتى جعلت لا أرى إلا [نورا] [ (3) ] .
قال كاتبه: سند هذا الحديث واه جدا، فيعقوب [ (4) ] وإن كان حافظا فقد
__________
[ (1) ] سند (أبي نعيم) : حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن عمر الخلّال المكيّ، قال: حدثنا محمد بن منصور قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال:
حدثني عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: أخبرني عبد اللَّه بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص، قال: ...
[ (2) ] وسند (البيهقي) : أخبرنا محمد بن عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو بشر مبشر بن الحسن، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص، قال:....
[ (3) ] زيادات للسياق من (أبي نعيم) ، وأما رواية (البيهقي) :
حدثتني أمي: أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ليلة ولدته. قالت: فما شيء انظر إليه في البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعنّ عليّ.
والحديث ذكره أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 135، حديث رقم (76) ، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 111، رواه الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 8/ 220، وقال: رواه الطبراني، وفيه عبد العزيز بن عمران وهو متروك، والسيوطي في (الخصائص) : 1/ 113.
[ (4) ] يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو يوسف المدني نزيل بغداد. قال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه ليس بشيء، ليس يسوى شيئا. وقال أحمد بن سنان القطان عن ابن معين: ما حدثكم عن الثقات فاكتبوه، وما لا يعرف من الشيوخ فدعوه. وقال

(4/52)


ضعّفه أحمد وأبو زرعة وابن معين وعبد العزيز بن عمران [ (1) ] ، قال ابن معين:
وتكلم فيه البخاري والنسائي.
ولأبي نعيم من حديث ابن لهيعة قال: حدثني عمارة بن غزية عن سعد بن عبيد بن إبراهيم مولى الزبير، أنه حدثه عن عطاء بن عياد عن آمنة بنت وهب- أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- قالت: لقد رأيت ليلة وضعته نورا أضاء له قصور الشام حتى رأيتها.
ورواه عبد العزيز بن محمد الدراوَرْديّ عن عمارة بن غزية عن سعيد بن عبيد عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة بمثله سواء، فجوده الدراوَرْديّ عن عمارة [ (2) ] .
ومن حديث أبي غزية محمد بن موسى عن أبي عثمان سعيد بن زيد الأنصاري عن ابن بريدة عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مسترضعا في بني سعد بن بكر فقالت أمه آمنة لمرضعته: انظري ابني هذا! فسلي عنه، فإنّي رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب أضاءت له الأرض كلها حتى رأيت قصور الشام، فسلي عنه [ (3) ] .
__________
[ () ] الآجري: عن أبي داود سمعت الدقيقي يقول: سألت ابن معين عنه فقال: إذا حدثكم عن الثقات.
وقال أبو زرعة: واهي الحديث. (تهذيب التهذيب) : 11/ 347- 348، ترجمة رقم (665) .
[ (1) ] عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، المدني الأعرج، المعروف بابن أبي ثابت. قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: كان صاحب نسب، ولم يكن من أصحاب الحديث. وقال عثمان الدارميّ عن يحيى: ليس بثقة، إنما كان صاحب شعر. وقال الحسين ابن حبان عن يحيى: قد رأيته ببغداد كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم، وليس حديثه بشيء.
وقال البخاري: منكر الحديث، لا يكتب حديثه.
وقال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: لا يكتب حديثه، وقال ابن حبان: يروى المناكر عن المشاهير. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث جدا، قيل له: يكتب حديثه، قال: على الاعتبار وقال ابن أبي حاتم: امتنع أبو زرعة من قراءة حديثه وترك الرواية عنه. وقال الترمذي والدار الدّارقطنيّ: ضعيف. وقال عمر بن شبة في (أخبار المدينة) : كان كثير الغلط في حديثه، لأنه احترقت كتبه، فكان يحدث منه حفظه. (المرجع السابق) : 6/ 312- 313، ترجمة رقم (674) .
[ (2) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 102، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 137، حديث رقم (79) .
[ (3) ] المرجع السابق ضمن الحديث السابق رقم (79) ، وهو حديث طويل وقال فيه: «كأنه خرج مني» ، وفي (خ) «خرج من فرجي» .

(4/53)


وله من حديث أبي اليمان الحكم بن نافع قال: حدثنا أبو بكر بن مريم عن سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: إني عبد اللَّه في أم الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك أمهات النبيين يرين [ (1) ] .
ورواه معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين، وأن أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [رأت] حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام [ (1) ] .
ومن حديث الحرث بن أبي أسامة قال: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا الفرج ابن فضالة عن لقمان بن عامر عن أبي أمامة رضي اللَّه تعالى عنه قال: قلت: يا نبي اللَّه! ما كان بدؤ أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج عنها نور أضاءت منه قصور الشام [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 127، (مسند أحمد) : 5/ 110- 111، من حديث العرباض بن سارية، حديث رقم (16700) ، حديث رقم (16701) ، (المستدرك) : 2/ 253، حديث رقم (2566/ 703) ، وقال في آخره: ثم تلا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45، 46] ، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (المرجع السابق) ، ص 656، حديث رقم (4174/ 184) ، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح. (سيرة ابن هشام) : 1/ 293، (الإحسان) : 14/ 312- 313، كتاب التاريخ، باب صفته صلّى اللَّه عليه وسلم وأخباره، حديث رقم (6404) ، (دلائل البيهقي) : 1/ 80- 82، باب ذكر مولد المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم، والآيات التي ظهرت عند ولادته وقبلها وبعدها، (المرجع السابق) : 2/ 130، جماع أبواب المبعث، باب الوقت الّذي كتب فيه محمد نبيا.

(4/54)


وأما انفلاق البرمة عنه
فخرج البيهقي من حديث أبي صالح عبد اللَّه بن صالح قال: حدثني معاوية ابن صالح عن أبي الحكم التنوخي قال: كان المولود إذا ولد من قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح فيكفين عليه برمة، فلما ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة يكفين عليه برمة، فلما أصبحن [أتين] [ (1) ] فوجدن [ (2) ] البرمة قد انفلقت فلقتين [ (3) ] ، ووجدنه [ (3) ] مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له: ما رأينا مولودا مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه [ (4) ] ، شاخصا ببصره إلى السماء فقال: احفظنه، فإنّي أرجو أن يصيب خيرا.
فلما كان يوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا:
يا عبد المطلب! أرأيت ابنك هذا الّذي أكرمتنا على وجهه، ما سمّيته؟ قال: سميته محمدا، قالوا: فلم رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده اللَّه في السماء وخلقه في الأرض [ (5) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث إسحاق بن عبد اللَّه بن كيسان عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان عهد الجاهلية إذا ولد لهم المولود من تحت الليل رموه تحت الإناء فلا ينظرون إليه حتى يصبحوا، فلما ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم طرحوه تحت البرمة، فلما أصبحوا اشتغلوا بأمه، فلما أتوا البرمة إذا هي قد انفلقت ثنتين، وعيناه إلى السماء، فعجبوا من ذلك، فأرسلوا إلى جده وهو حيّ فجاء فنظر
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية (البيهقي) .
[ (2) ] في (خ) : «وجدن» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (البيهقي) : «باثنتين» ، «فوجدنه» .
[ (4) ] في بعض النسخ: «مفتوح العينين» .
[ (5) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 1/ 113، ونقله ابن كثير في (البداية والنهاية) ، عن (تهذيب تاريخ ابن عساكر) ، وابن الجوزي في (صفة الصفوة) : 1/ 25 والبرمة: قدر من الحجر.

(4/55)


فعجب منه وقال: ادفعوا ابني هذا فإنه منّا، ودفع إلى امرأة من بني بكر ترضعه، فلما أرضعته دخل عليها الخير من كل جانب، وكان لها شويهات [عجاف] فبارك اللَّه فيها فنمت وزادت زيادة حسنه.
ومن حديث الصلت بن محمد أبي همام قال: حدثنا مسلمة بن علقمة، حدثنا داود بن أبي هند قال: توفى أبو النبي عليه السلام وأمه حبلى به، فلما وضعته نارت الظراب [ (1) ] لوضعه، واتقى الأرض بكفيه حين وقع، وأصبح يتأمل السماء بعينيه، وكفئوا [ (2) ] عليه برمة ضخمة فانفلقت عنه فلقتين [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الظراب: الروابي.
[ (2) ] في (خ) : «وكفوا» .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 138، حديث رقم (80) .

(4/56)


وأما ولادته مختونا مسرورا
فخرج البيهقي من حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي اللَّه تعالى عنه قال: ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مختونا مسروا، [قال] [ (1) ] فأعجب جده عبد المطلب، وحظي عنده وقال: ليكونن لا بني هذا شأن، فكان له شأن [ (2) ] .
ولأبي نعيم من حديث الحسن بن عرفة قال: حدثنا هشيم [ (3) ] بن بشير عن يونس [ (4) ] بن عبيد عن الحسن [عن أنس بن مالك] [ (5) ] عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي [ (6) ] .
وله من حديث علي بن محمد المدائني قال: حدثنا سلمة [ (7) ] بن محارب [بن سلم] [ (8) ] بن زياد عن أبيه عن أبي بكرة، أن جبريل ختن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين طهّر قلبه [ (9) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية (البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 114، و (طبقات ابن سعد) : 1/ 103.
[ (3) ] في (خ) : «هيثم» .
[ (4) ] في (خ) : «موسى» .
[ (5) ] في (خ) : الحسن بن مالك.
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 154، حديث رقم (91) ، بيان رضاعه وفصاله وأنه ولد مختونا مسرورا صلّى اللَّه عليه وسلم، والمسرور: مقطوع السّرّة.
[ (7) ] في (خ) : «مسلمة» .
[ (8) ] زيادة للنسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (9) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 155/ حديث رقم (93) .
قال القسطلاني في (المواهب) : قال الحاكم في (المستدرك) : تواترات الأخبار أنه صلّى اللَّه عليه وسلم ولد مختونا. وتعقبه الحافظ الذهبي فقال: ما أعلم صحة لذلك، فكيف يكون متواترا؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الاخبار اشتهارها وكثرتها في السير، لا من طريق السند المصطلح عليه عند أئمة الحديث.

(4/57)


وأما استبشار الملائكة وتطاول الجبال وارتفاع البحار وتنكيس الأصنام وحجب الكهان ونحو ذلك
فخرج أبو نعيم من حديث أبي أحمد الزبيري قال: حدثنا سعيد بن محمد المدني عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبي وكان من أوعية العلم قال: لما حضرت الولادة آمنة قال اللَّه لملائكته: افتحوا أبواب السماء كلها، وأمر اللَّه الملائكة بالحضور، فنزلت تبشر بعضها بعضا، وتطاولت جبال الدنيا، وارتفعت البحار وتناثر أهلها، فلم يبق ملك إلا حضر.
__________
[ () ] وقد حكى الحافظ زين الدين العراقي، أن الكمال بن العديم ضعّف أحاديث كونه ولد مختونا، وقال إنه لا يثبت في هذا شيء من ذلك.
وأقرّه عليه، وبه صرّح ابن القيم في (الهدي النبوي) ثم قال: ليس من خصائصه، إن كثيرا من الناس ولد مختونا.
ويحكى الحافظ ابن حجر أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمر، فسحت قلفته- أي اتسعت- فيصير كالمختون.
وفي (الوشاح) لابن دريد: قال ابن الكلبي: بلغني أن آدم خلق مختونا، واثنى عشر نبيا من بعده خلقوا مختونين، آخرهم محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، وهم: شيث، وإدريس، ونوح، وسام، ولوط، ويوسف، وموسى، وسليمان، وشعيب، ويحيى، وهود، وصالح صلوات اللَّه عليهم أجمعين.
وفي هذه العبارة تجوّز، لأن الختان هو القطع، وهو غير ظاهر، لأن اللَّه تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع، فيحمل الكلام باعتباره أنه على صفة المقطوع.
الخلاصة في ختانه صلّى اللَّه عليه وسلم: وقد حصل من الاختلاف في ختانه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ولد مختونا كما تقدم.
الثاني: أنه ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدا. رواه الوليد ابن مسلم بسنده إلى ابن عباس، وحكاه ابن عبد البر في (التمهيد) .
الثالث: أنه ختن عند حليمة، كما ذكره ابن القيم، والدمياطيّ إن جبريل عليه السلام ختنه حين طهّر قلبه.
وكذا أخرجه الطبراني في (الأوسط) ، وأبو نعيم من حديث أبي بكرة. قال الذهبي وهذا منكر. (المواهب اللدنية) 1/ 133- 136. وللقسطلاني في المرجع السابق بحث في فقه الختان ص 136- 138 وهو بحث نفيس، فليراجع هناك.

(4/58)


وأخذ الشيطان فغلّ سبعين غلا، وألقي منكوسا في لجة البحر الخضراء، وغلّت الشياطين والمردة، وألبست الشمس يومئذ نورا عظيما، وأقمن على رأسها سبعون ألف حوراء في الهواء ينتظرن ولاده محمد صلّى اللَّه عليه وسلم.
وكان قد أذن اللَّه ملك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لأحمد، وأن لا تبقي شجرة إلا حملت، ولا خوف إلا عاد أمنا.
فلما ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم امتلأت الدنيا كلها نورا، وتباشرت الملائكة وضرب في كل سماء عمود من زبرجد، وعمود من ياقوت، وقد استنار به، وهي معروفة في السماء، قد رآها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة أسرى به، قيل: ما ضرب استبشارا بولادتك.
وقد أنبت اللَّه ليلة ولد على شاطئ الكوثر سبعين ألف شجرة من المسك الأذفر، وجعلت ثمارها بخور أهل الجنة، وكل أهل السموات يدعون اللَّه بالسلامة.
ونكست الأصنام كلها، وأما اللات والعزى فإنّها أخرجا من خزانتهما وهما يقولان: ويح قريش، جاءهم الأمين، جاءهم الصديق، لا تعلم قريش ماذا أصابها.
وأما البيت: فسمعوا أياما من جوفه صوتا وهو يقول: الآن يرد عليّ نوري ... الآن يجيئني زوّاري ... الآن أطهر من أنجاس الجاهلية.. أيتها العزى هلكت.
قال: ولم تسكن زلزلة البيت ثلاثة أيام بلياليها، وهذه أول علامة رأت قريش من مولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال كاتبة: هكذا أورد الحافظ أبو نعيم هذا الحديث، وهو من تلفيق القصاص وتنميقهم، وحكى أبو الربيع بن سالم الكلاعي أن تقي بن مخلد ذكر في تفسيره أن إبليس رنّ أربع رنّات: رنّة حين لعن، ورنّة حين أهبط، ورنّة حين ولد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ورنّة حين أنزلت فاتحة الكتاب.

(4/59)


وأما ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته وخمود نار فارس ورؤيا الموبذان
فخرج الحافظ أبو نعيم وأبو بكر البيهقي- والسياق للبيهقي- من حديث علي ابن حرب قال: حدثنا أبو أيوب يعلي بن عمران البجلي، حدثنا مخزوم بن هانئ المخزومي [ (1) ] عن أبيه وأتت عليه خمسون ومائة سنة قال: لما كانت الليلة [ (2) ] التي ولد فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى-[هو كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز] [ (3) ]- وسقطت منه أربع عشرة شرفة [ (4) ] ، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى المؤبذان. إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها [ (5) ] ، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك [ (6) ] وتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أن لا يدخر [ (7) ] ذاك عن وزرائه ومرازبته [حين عيل صبره، فجمعهم] [ (8) ] لبس تاجه، وقعد على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما بعثت لكم؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك بذلك، فبينا هم كذلك إذ أتاه كتاب بخمود نار فارس، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما هاله، فقال الموبذان: وأنا- أصلح اللَّه الملك- قد رأيت في هذه الليلة، ثم قص عليه رؤياه في الإبل، قال: أي نبي [ (9) ] يكون هذا يا موبذان؟ وكان أعلمهم في أنفسهم، قال: يحدث من [ (10) ] ناحية العرب، فكتب كسرى عند ذلك:
__________
[ (1) ] في (خ) : «المخزوم» .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «لما كانت ليلة ولد فيها» ، وقال محقق (دلائل أبي نعيم) : «لعل الصواب «لما كانت الليلة التي....» ، وهي رواية النسخة (خ) ، وأيضا رواية (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] زيادة من (خ) .
[ (4) ] في (أبي نعيم) : «شرّافة» .
[ (5) ] في (أبي نعيم) : «في بلاده» .
[ (6) ] في أبي نعيم: «أفزعه ما رأى» .
[ (7) ] في (خ) : «يكتم» .
[ (8) ] ما بين الحاصرتين في (خ) ، و (دلائل البيهقي) وليس في دلائل أبي نعيم، والمرازبة: جمع مرزبان، وهو دون الملك في المرتبة.
[ (9) ] في (دلائل البيهقي) : «أي شيء» .
[ (10) ] في (دلائل البيهقي) : «حدث يكون» .

(4/60)


«من ملك الملوك كسرى إلى النعمان بن المنذر، أما بعد فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه» ، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما قدم عليه قال الملك: ألك علم أخبرته، وإلا دللته على من يعلمه، قال: فأخبره بما رأى. قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح، قال: فاذهب إليه فاسأله وائتني بتأويل ما عنده، فنهض عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه، فلم يجد جوابا، فأنشد عبد المسيح يقول:
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فازلمّ به شأو العنن
يا فأصل الخطة أعيت من ومن ... وكاشف الكربة عن وجه غضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن ... وأمه من آل ذئب بن حجن
أزرق بهم الناب صوّار الأذن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسرى بالرّسن ... لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
تجوب بي الأرض علنداة شزن ... ترفعني وجنا [ (1) ] وتهوي بي وجن
حتى أتى عاري الجآجي والقطن ... تلفه في الريح بوعاء الدّمن
كأنما حثحث من حضني ثكن
[قال] [ (2) ] : ففتح عينيه ثم قال: عبد المسيح، على جمل مسيح، جاء إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، [يا] [ (2) ] عبد المسيح! إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
__________
[ (1) ] في (خ) : «وجن» ، وفي سائر النسخ: «وجنا» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .

(4/61)


شمّر فإنك ماضي الهم شمّير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير [ (1) ]
فربّما ربّما أضحوا بمنزلة ... يهاب صولهم [ (2) ] الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علّات فمن علموا ... أن قد أقلّ فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشّرّ مقرونان في قرن ... فالخير متّبع والشّرّ محذور
فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بقول سطيح فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، والباقون إلى أن قتل عثمان رضي اللَّه عنه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : «فإن ذلك أطوار دهارير» .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «صولتها» .
[ (3) ] هذا الخبر أورده كل من:
الطبري في (التاريخ) : 2/ 166- 168.
الذهبي في (تاريخ الإسلام) : 2/ 35- 38، وقال: هذا حديث منكر غريب.
البيهقي في (الدلائل) : 1/ 126- 129.
ابن سيد الناس في (عيون الأثر) : 1/ 28- 29.
ابن عبد ربه في (العقد الفريد) : 1/ 293- 295.
أبو نعيم في (الدلائل) : 1/ 139- 141، حديث رقم (82) .
ابن كثير في (البداية والنهاية) : 2/ 327- 329، وقال: أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلا.
معاني مفردات الأبيات:
شأو العنن: يريد الموت وما عنّ منه.
وفاد: مات، يقال منه: فاد يفود.
صرار الأذن: صرّها: نصبها وسوّاها.
قيل: ملك.
علنداة: القوية من النوق.
شزن: تمشي من نشاطها على جانب.
الوجن: الأرض الصلبة ذات الحجارة.
ثكن: اسم جبل بالحجاز.
الجآجي: جمع جؤجؤ، وهو الصدر.

(4/62)


وأما صرف أصحاب الفيل عن مكة المكرمة
فقد قال اللَّه جل جلاله في كتابه لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلم- وقريش بأجمعها تسمعه، والعرب شاهدة له، والحرب بينهم راكدة، والتكذيب منهم ظاهر-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [ (1) ] ، فلولا أن قصة الفيل كانت عندهم كالعيان، وكان العهد قريبا، والأمر مشهورا مستفيضا، لاحتجوا فيه بغاية الاحتجاج، والقوم في غاية العداوة والإرصاد، وفي غاية المباينة والتكذيب، وهم الذين عناهم اللَّه تعالى بقوله: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [ (2) ] ، وقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [ (3) ] ، وقال: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [ (4) ] ، وقال: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [ (5) ] .
قوله: أَلَمْ تَرَ: قال الفراء: ألم تخبر، وقال ابن عباس: ألم تسمع، وهو استفهام معناه التقرير، والخطاب للرسول ولكنه عام، ومعناه: ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ وكيدهم: هو ما أرادوا من تخريب الكعبة، في تضليل: أي في ذهاب.
والمعنى: أنّ كيدهم ضل عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً: أي وأرسل الرب عليهم، وهذا عطف على معنى أَلَمْ يَجْعَلْ لا على لفظه.
__________
[ () ] القطن: أصل ذنب الطائر، وأسفل الظهر من الإنسان، ومنه: [الفقرات القطنية] .
البوغاء: التراب الناعم.
الدّمن: ما تدمّن منه، أي: تجمّع وتلبّد.
وقد ورد هذا الخبر في المراجع السابقة بسياقات مختلفة، في بعضها تقديم وتأخير واختلاف يسير في عدد الأبيات.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، محقق كتاب (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) ، في المقدمة ص 18: «فهذا الحديث ليس بصحيح، ولا يجوز قوله ولا إنشاده، ويزيده منعا أنه يتعلق بشأن من شئون النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وبأمور خارقة للعادة، ولا يغرنّك ذكر بعض العلماء له في كتب السيرة أو التاريخ» ، وله في ذلك بحث طويل فليراجع هناك.
[ (1) ] سورة الفيل كلها.
[ (2) ] مريم: 97.
[ (3) ] الزخرف: 58.
[ (4) ] الأحزاب: 19.
[ (5) ] إبراهيم: 46.

(4/63)


وقال ابن مسعود: الأبابيل: المتفرقة من هاهنا وهاهنا، وتبعه عليه الأخفش.
وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: هي التي يتبع بعضها بعضا.
وقال الحسن وطاووس: هي الكثيرة.
وقال عطاء وأبو صالح وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج: إنها الجمع بعد الجمع، والأبابيل: جماعات في تفرقة.
وقال زيد بن أسلم: هي المختلفة الألوان.
وقوله: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، قيل: حجارة من طين، وقال عبد الرحمن بن أبزي [ (1) ] : من سجيل، من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل: من الجحيم، وهي سجين. وقال الزجاج: من سجيل، أي مما يكتب عليهم أن يعذبوا به، وهو مشتق من السجل الّذي هو الكتاب، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ: أي فجعل اللَّه أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل ويبس وتفرقت أجزاؤه.
وقال عكرمة: فصاروا كالحب إذا أكله الدود فصار أجوف.
وقال ابن عباس: المراد به قشر البر، يعني الغلاف الّذي يكون فوق حبة البر.
ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما [في] جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة.
ثم قال تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [ (2) ] ، أي فعل ذلك ليؤلف قريشا رحلتي
__________
[ (1) ] هو عبد الرحمن بن أبزي الخزاعي، له صحبه، ورواية، وفقه، وعلم.
قال صلّى اللَّه عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم (817) ، في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه: «إن هذا القرآن يرفع اللَّه به أقواما، ويضع به آخرين» ،
ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ابن أبزي رفعه اللَّه بالقرآن.
(طبقات ابن سعد) : 6/ 63، (الجرح والتعديل) : 5/ 209، (التاريخ الكبير) : 5/ 245، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 1/ 293، (الاستيعاب) : 2/ 822، ترجمة رقم (1388) ، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 201- 202، (تهذيب التهذيب) : 6/ 121، ترجمة رقم (277) .
[ (2) ] قريش: 1.

(4/64)


الشتاء والصيف اللتين بهما تعيّشهم ومقامهم بمكة، تقول: ألفت موضع كذا إذا لزمته وآلفنيه كما تقول: لزمت موضع كذا وألزمنيه اللَّه.
وكرر لإيلاف كما تقول: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانته عن كل الناس، فيكرر الكلام للتوكيد.
ثم أمرهم بالشكر فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ [ (1) ] في هذا الموضع الجدب من الجوع، وَآمَنَهُمْ فيه والناس يتخطفون حوله مِنْ خَوْفٍ وقال أبو نعيم: وقصة أصحاب الفيل من أشهر القصص، قد نطق القرآن بها [ (2) ] ، ورويت الأشعار فيها [ (3) ] ، ولم يختلف أحد فيها، لا مشرك ولا موحد، وصارت هذه القصة في جملة القصص التي لا يمكن إنكارها، وذلك في العام الّذي ولد فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
فدل ظاهر الحال على أن صرف اللَّه تعالى أصحاب الفيل عن قصدهم في تخريب الكعبة دلالة على تقوية أمر الحج، وتأييد لمن [هو] قائم به، ويدعي أنه شريعة له، فصار أمر الفيل لهذا المعنى بشارة بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، وتحقيقا لشريعته، وتأييدا لدعوته وللَّه الحمد.
__________
[ (1) ] قريش: 3- 4.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 143: «نطق بها القرآن» .
[ (3) ] هؤلاء الشعراء هم:
[1] عبد اللَّه بن الزّبعرى بن عدي بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، وله خمسة أبيات.
[2] أبو قيس: صيفي بن الأسلت بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس، وله ستة أبيات ثم خمسة أبيات أخر.
[3] طالب بن أبي طالب بن عبد المطلب، وله بيتان.
[4] أبو الصلت بن ربيعة بن وهب بن علاج، وله ثمانية أبيات.
[5] الفرزدق، واسمه همام بن غالب، أحد بني مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم، وله خمسة أبيات.
[6] عبد اللَّه بن قيس الرقيات، أحد بني عامر بن لؤيّ بن غالب، وله ثلاثة أبيات.
وهذه الأشعار ذكرها ابن إسحاق في السيرة، انظر: (سيرة ابن هشام) : 1/ 176- 181، «ما قيل في قصة الفيل من الشعر» ، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 586- 591، تفسير سورة الفيل.

(4/65)


وكان مولده صلّى اللَّه عليه وسلم عام الفيل
وكان مبعثه بعد الفيل بأربعين سنة، حتى أن قباث بن أشيم [ (1) ] وعائشة رضي اللَّه تعالى عنهم يذكرون من أمر الفيل وسائقه وقائده، فذكروا من أمر حديث محمد ابن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا زكريا بن يحيى الكنائي، حدثنا محمد بن فضيل عن عبد اللَّه بن سعيد بن أبي سعيد عن جده قال: دخل قباث بن أشيم أخو بني المليح على مروان بن الحكم- وقباث يومئذ أكبر العرب- فقال له مروان: أنت أكبر أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه بعشرين سنة، قال: فما أبعد ذكرك؟ قال: أذكر حتى الفيل [ (2) ] .
ومن حديث أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الليثي: يا قباث! أنت أكبر أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقال: رسول اللَّه أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عام الفيل، وتنبأ على رأس أربعين من الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله [ (2) ] .
ومن طريق محمد بن إسحاق عن عبد المطلب بن عبد اللَّه بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قال: ولدت أنا ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عام الفيل، وسأل عثمان بن عفان
__________
[ (1) ] هو قباث بن أشيم بن عامر بن الملوّح بن يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة الليثي، هذا هو المشهور في نسبه، وقيل: هو تميمي، وقيل: كندي، وقال ابن حبان: يعمري ليثي من بني كنانة، له صحبة، وحديثه عند أهل الشام. شهد بدرا مع المشركين، وكان له فيها ذكر، ثم أسلم بعد ذلك، وشهد مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعض المشاهد، وكان على مجنبة أبي عبيده بن الجراح يوم اليرموك (طبقات ابن سعد) : 7/ 411، (الإصابة) : 5/ 407- 408، ترجمة رقم (7061 ز) ، (الاستيعاب) : 3/ 1303- 1304، ترجمة رقم (2165) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) 1/ 143، حديث رقم (84) ، (المستدرك) : 3/ 2724، حديث رقم (6624/ 2222) ، (الإصابة) : 5/ 407، (الإستيعاب) : 3/ 303، (دلائل البيهقي) :
1/ 78، (سنن الترمذي) : برقم (3623) ، وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق، (البداية والنهاية) : 2/ 321.

(4/66)


رضي اللَّه عنه قباث بن أشيم أخا بني عمرو بن ليث: أنت أكبر أم رسول اللَّه؟
قال: رسول اللَّه أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد، ورأيت خذق [ (1) ] الفيل أخضر محيلا [ (2) ] [بعده بعام، ورأيت أمية بن عبد شمس شيخا كبيرا يقوده- إما قال ابنه أو قال غلام له- فقال: يا قباث، أنت أعلم وما تقول] [ (3) ] .
ومن حديث محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يزيد بن الهاد عن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت:
رأيت قائد الفيل [وسائسه] [ (4) ] بمكة أعميين مقعدين يستطعمان [الناس] [ (5) ] .
ومن حديث جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: أقبل أصحاب الفيل حتى لما أن دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ما عناك إلينا؟ ألا بعثت إلينا فنأتيك بكل ما أردت، فقال: أخبرت بهذا البيت الّذي لا يدخله أحد إلا أمن فجئت أخيف أهله، فقال:
إنا نأتيك بكل شيء تريده فارجع، فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه.
وتخلف عبد المطلب، وقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، ثم قال: اللَّهمّ إن لكل إله حلالا فامنع حلالك، لا يغلبن غدا محالهم محالك، اللَّهمّ إن فعلت فأمر ما بدا لك.
فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل، التي قال اللَّه تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال: فجعل الفيل يعج عجيجا فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.
ومن حديث عبد اللَّه بن وهب [ (6) ] قال: أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد
__________
[ (1) ] الخذق: الروث.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 1/ 77 وقال: ورواه محمد بن بشّار عن وهب بن جرير فقال: «خذق الطير أخضر محيلا» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (تاريخ الطبري) : 2/ 155- 156، باختلاف يسير.
[ (4) ] في (خ) : «وسائقه» والتصويب من رواية ابن إسحاق.
[ (5) ] زيادة من رواية ابن إسحاق. (سيرة ابن هشام) : 1/ 176.
[ (6) ] السند في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن

(4/67)


عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس أنه قال: كان من حديث أصحاب الفيل أن أبرهة الأشرم الحبشي كان ملك اليمن، وأن ابن ابنته أكشوم بن الصباح الحميري خرج حاجا.
فلما انصرف من مكة نزل بكنيسة بنجران فعدا [ (1) ] عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي، وأخذوا متاع أكشوم، فانصرف إلى جده الحبشي مغضبا، فلما ذكر له ما لقي بمكة من أهلها تألّي [ (2) ] أن يهدم البيت، فبعث رجلا من أصحابه يقال له: شمر بن مصفود على عشرين ألفا من خولان ونفرا من الأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم، فتنحت خثعم عن طريقهم، فكلمهم التّقتال [الخثعميّ] [ (3) ]- وكان يعرف كلام الحبشة- فقال: [هذان على شمران قوسي، على أكلت وسهمي، قحافة] [ (4) ] وأنا جار لك.
فسار معهم وأحبه، فقال له تقتال: إني أعلم الناس بأرض العرب، وأهداه بطريقهم، فطفق في مسيرهم بجيشها الأرض ذات المهمة [ (5) ] حتى تقطعت أعناقهم عطشا، فلما دنا من الطائف خرج إليهم ناس من بني جشم ونصر وثقيف، فقالوا:
ما حاجتك إلى طريقنا، وإنما هي قرية صغيرة، ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد، وهو حرز لمن لجأ إليه من ملكه، ثم له ملك العرب، فعليك به ودعنا عنك.
فأتاه حتى إذا بلغ المغمّس [ (6) ] ، وجد إبلا لعبد المطلب بن هاشم، مائة ناقة مقلدة فأنهبها بين أصحابه، فلما بلغ ذلك عبد المطلب جاءه- وكان جميلا وكان
__________
[ () ] سليمان، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد اللَّه بن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد، عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس أنه قال: ...
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فغدا» وما أثبتناه من (خ) ، وهو أجود للسياق.
[ (2) ] تألّي: آلى على نفسه بيمين حلفه.
[ (3) ] زيادة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وسياقها مضطرب، ولعلها «هاتان يداي لك على شهران وناعس» ، كما في (الروض الأنف) ، وشهران وناعس: قبيلي خثعم.
[ (5) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فطفق يجبهم في مسيرهم الأرض ذات المهمة» ، والمهمة: المفازة، الأرض المقفرة.
[ (6) ] المغمّس: موضع قرب مكة في طريق الطائف.

(4/68)


له صديق من أهل اليمن يقال له ذو عمير [ (1) ]- فسأله أن يرد إليه إبله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتك على الملك، فقال عبد المطلب: فافعل، فأدخله عليه فقال: إن لي إليك حاجة، قال: قضيت كل حاجة جئت تطلبها، قال: أنا في بلد حرام، وفي سبيل بين أرض العرب وبين أرض العجم، وكانت لي مائة ناقة مقلدة ترعى هذا الوادي بين مكة وتهامة، عليها نمير [ (2) ] أهلنا ونخرج إلى تجارتنا ونتحمل من عدونا، عدا عليها جيشك فأخذوها، وليس مثلك يظلم من جاوره، فالتفت الحبشيّ إلى ذي عمرو ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجبا، فقال: لو سألني كل شيء أحرزه أعطيته إياه أما إبلك فقد رددتها عليك، ومثلها، فما يمنعك أن تكلمني في بيتكم هذا وبلدكم هذا؟ فقال له عبد المطلب:
أما بيتنا هذا وبلدنا هذا فإن لهما ربا إن شاء أن يمنعهما منعهما، ولكني [إنما] [ (3) ] أكلمك في مالي، فأمر عند ذلك بالرحيل، وتألّى ليهدمنّ الكعبة مكة [ (4) ] ، فانصرف عبد المطلب وقد سمع تأليّه في مكة وقد هرب أهلها، فليس بها إلا عبد المطلب وأهل بيته، فأخبرهم بذلك واندفع يرتجز وهو يطوف حول الكعبة:
لاهم [ (5) ] إن المرء يمنع أهله فامنع حلالك [ (6) ] ... لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا [ (7) ] محالك [ (8) ]
فإن فعلت فربما أولا فأمر ما بدا لك ... فإن فعلت فإنه أمر يتم به فعالك
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «ذو عمرو» ، وفي ابن هشام: «ذو نفر» .
[ (2) ] الميرة: المؤنة، قال تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا [يوسف: 65] .
[ (3) ] زيادة في (خ) .
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «ليهدمن مكة» .
[ (5) ] لاهمّ: أصلها: اللَّهمّ، والعرب تحذف منها الألف واللام، وكذلك تقول في «واللَّه إنك» :
«لاهنك» ، وذلك لكثرة دوران هذا الاسم على الألسنة. بل قالوا فيما هو دونه- في الاستعمال:
«أجنك» في «من أجل أنك» . (سيرة ابن هشام) : 1/ 170 هـ.
[ (6) ] الحلال في هذا البيت: الحلول في المكان، والحلال: مركب من مراكب النساء، والحلال أيضا:
متاع البيت، وجائز أن يستعيره هاهنا. (المرجع السابق) .
[ (7) ] في (خ) و (دلائل أبي نعيم) : «عدوا» وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام) ، وغدوا: غدا.
[ (8) ] المحال: القوة والشدة.

(4/69)


غدوا بجموعهم والفيل كي يبتزوا عيالك ... فإن تركتهم وكعبتنا فوا حزنا هنالك
فانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك [ (1) ]
وقال [عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ [ (2) ] :
لاهمّ أخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة ذات التقليد [ (3) ]
بين حراء وثبير فالبيد ... أخفر به رب وأنت المحمود [ (4) ]
قد أجمعوا على أن لا يكون عيد ... ويهدموا البيت الحرام المعمود
والمروتين والمشاعر السود ... فضحها إلى طماطم سود [ (5) ]
فلما توجه شمر [ (6) ] وأصحابه بالفيل- وقد أجمعوا ما أجمعوا- طفق كلما وجهوه أناخ وبرك، وإذا صرفوه عنها من حيث أتى أسرع المسير، فلم يزل كذلك حتى غشيهم الليل.
وخرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس [ (7) ] ، شبيهة بالوطاويط حمر وسود، فلما رأوها أشفقوا منها وسقط في أذرعهم، فقال شمر: ما يعجبكم من طير خمال جنبها الليل إلى مساكنها، فرمتهم بحجارة مدحرجة كالبنادق، تقع في [ (8) ] رأس الرجل فتخرج من جوفه.
__________
[ (1) ] وردت هذه الأبيات في (خ) ، (سيرة ابن هشام) ، (دلائل أبي نعيم) ، (تاريخ الطبري) ، (سبل الهدى والرشاد) ، (الروض الأنف) ، بزيادة ونقص، وتقديم وتأخير. وروى ابن هشام هذه الأبيات الثلاثة:
لاهم إن العبد يمنع ... رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم و ... قبلتنا فأمر ما بدا لك
ثم قال: هذا ما صحّ له منها. (سيرة ابن هشام) : 1/ 170.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (سيرة ابن هشام) .
[ (3) ] الهجمة: ما بين التسعين إلى المائة من الإبل.
[ (4) ] حراء وثبير: جبلان بالحجاز، أخفره: أي انقض عزمه وعهده فلا تؤمنه.
[ (5) ] طماطم سود: يعني العلوج، ويقال لكل أعجمي كافر: طمطمان، والأعلاج: جمع علج.
[ (6) ] هو الأسود بن مفصود.
[ (7) ] البلس: الزرازير.
[ (8) ] في (خ) : «على» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) ، وهو أجود للسياق.

(4/70)


وكان فيهم أخوان من كندة، أما أحدهما ففارق القوم قبل ذلك، وأما الآخر فلحق بأخيه حين رأى ما رأى، فبينا هو يحدثه عنها إذ رأى طيرا منها فقال: كان هذا منها، فدنا منه الطائر فقذفه بحجر فمات، فقال أخوه الناجي منها:
إنك لو رأيت ولن ترانا ... لدى جنب المغمس ما لقينا
خشيت اللَّه لمّا بثّ طيرا ... بظل سحابة مرت علينا
وما تواكلهم يدعو بحق ... كأن قد كان للحبشان دينا
فلما أصبحوا الغد أصبح عبد المطلب ومن معه على جبالهم فلم يروا أحدا غشيهم، فبعث ابنه عبد اللَّه على فرس له سريع ينظر ما لقوا، فإذا القوم مشدّخون [ (1) ] جميعا فرجع يرفع فرسه كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال:
إن ابني أفرس العرب، وما كشف عن فخذه إلا بشيرا ونذيرا.
فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا، فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم، فكانت أموال بني عبد المطلب من ذلك المال. وقال عبد المطلب:
أأنت منعت الجيش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأجبالا؟
وقد خشينا منهم القتالا ... وكلّ أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
وقال عكرمة بن عامر العبدري:
اللَّه ربي وولي الأنفس ... أنت حبست الفيل بالمغمّس
فانصرف شمر بن مفصود هاربا وحده، وكان أول منزل نزله سقطت يده اليمنى، ثم نزل منزلا آخر فسقطت رجله [ (2) ] اليسرى، فأتى منزله وقومه وهو حينئذ لا أعضاء له، فأخبرهم بالخبر وقصّ عليهم ما لقيت جيوشه، ثم فاضت نفسه وهم ينظرون.
__________
[ (1) ] الشّدخ: الشّج.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «يده» في الموضعين.

(4/71)


قال أبو نعيم [ (1) ] : رويت قصة أصحاب الفيل من وجوه، وسياق عثمان بن المغيرة أتمها وأحسنها شرحا، وما ذكر أن عبد المطلب بعث بابنه عبد اللَّه فهو وهم من بعض النقلة، لأن الزهري ذكر أن عبد اللَّه بن عبد المطلب كان موته عام الفيل، وأن الحرث بن عبد المطلب كان أكبر ولد عبد المطلب، وكان هو الّذي بعثه على فرسه لينظر ما لقي القوم [ (2) ] .
وخرج من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: كان من شأن الفيل أن أبرهة الأشرم ملك الحبشة بعث مع أبي يكسوم [ (3) ] فبعث فيهم يريد أن يغزو الكعبة فيهدمها، وساكنها يومئذ قريش، وإن أبا يكسوم أقبل بالفيل ومن معه، حتى إذا أبصر الحرم ودنوا منه، حبس اللَّه الفيل بذي المغمّس [ (4) ] ، فكان إذا ضربوه ليدخل مكة أبي عليهم، وإذا تركوه وجّه راجعا إلى وجهه الّذي جاء منه، فرجعوا ذلك العام، حتى إذا كان [بعد ذلك بعامين خرج رجال من] العرب حتى قدموا على أبرهة فعجزوه في إرساله أول مرة، وأمروه أن يبعث الثانية، فبعث الأسود بن مفصود، وبعث معه بكتيبة عظيمة معها الفيل، حتى إذا دنوا من الحرم ونظروا إليه، بعث اللَّه عليهم بقدرته طيرا أبابيل خرجت من البحر. والأبابيل: من أفواج الطير، وزعموا- واللَّه أعلم- أن لها خراطيم أمثال البلس [ (5) ] ، فلما بلغ ذلك قريشا قام رجال منهم فاستقبلوا الكعبة يدعون اللَّه على الفيل ومن معه، فكان ممن قام في ذلك اليوم عبد المطلب بن هاشم، وعكرمة بن عامر العبدري، فقال عبد المطلب: لاهم فأخز الأسود بن مفصود ... ،
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «قال الشيخ» .
[ (2) ] هذا الحديث أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 144- 148، حديث رقم (86) ، وابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 90 من طرق متعددة جمع رواياتها، والحاكم في (المستدرك) :
2/ 583- 584، حديث رقم (3974/ 1112) وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 587- 591، تفسير سورة الفيل.
[ (3) ] في هذه العبارة نظر، فأبو يكسوم هو أبرهة، قال ابن إسحاق: ولما هلك أبرهة، ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم بن أبرهة، ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق ابن أبرهة [سيرة ابن هشام] : 1/ 182، تحت عنوان: «ولدا أبرهة» .
[ (4) ] المغمّس: موضع على ثلث فرسخ من مكة.
[ (5) ] وزاد ابن كثير في (التفسير) : «وأكفّ كأكفّ الكلاب» .

(4/72)


الأبيات [ (1) ] ، وقال أيضا:
فلم أسمع بأرض من رجال ... أرادوا الغزو ينتهكوا حرامك
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك ... لا يغلبن صليبهم ومحالهم فيه محالك
وإن تركتهم وكعبتنا فشأ ما بدا لك
وقال عكرمة بن عامر حين أهلكوا:
أنت منعت الحبش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا ... كل كريم ماجد بطالا [ (2) ]
يمشي يجر المجد والأذيالا ... ولا يبالي جنة المختالا
ثم قلبتهم بشر حالا ... وقد لقوا أمرا له مفصالا
وكان بين غزوة أصحاب الفيل الأخيرة وبين الفجار أربعون سنة، وإنما سمي الفجار لحرب كانت بين بني كنانة وقيس استحلوا فيها الحرمات وفجروا فيها، وكان بين الفجار وبين بنيان الكعبة خمس عشرة سنة [ (3) ] .
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد اللَّه بن كعب مولى آل عثمان قال في حديث ذكره: خرج أبرهة وهو يكسوم وهو الأشرم، فخرج بمن أراد الحبشة، وقوم من أهل اليمن كثير، وكان فيمن خرج من أهل اليمن ملك حمير ذو نفر، واستعمل على اليمن ابنه يكسوم، فجعل لا يمر بحيّ من العرب إلا استتبعهم فتبعوه، فأقبل في جمع كثير من الحبشة، وحمير، ومن كندة، حتى مرّ ببلاد خثعم، فخرج إليه نفيل بن حبيب الخثعميّ فقال: يميني على شهران وشمالي على ناهس (بطنين من خثعم) .
قال الواقدي: فحدثني أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرج أبرهة
__________
[ (1) ] سبق ذكرها وشرحها ضمن أحاديث هذا الباب.
[ (2) ] هذه الأبيات في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 148.
وقد خشينا منهم القتالا ... وكل أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
[ (3) ] (إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 1/ 16، هامش (5) .

(4/73)


حتى انتهى إلى بلاد خثعم، فخرج إليه نفيل بن حبيب الخثعميّ في شهران وناهس، ومن أفناء العرب، فاعترضوا ليقاتلوهم فهزمهم أبرهة، وقتل من قتل، وأخذ نفيل أسيرا فأمر أن يضرب عنقه، فقال نفيل: أيها الملك! لا تقتلني، فإنّي أدلّ العرب، وعلى شهران وناهس بالطاعة، فاستحياه، وخرج معه نفيل دليلا ومعه ذو نفر دليلا.
فلما افترقت الطريقان، طريق إلى مكة وطريق إلى الطائف تآمر العربيان ومن معهما فقالوا: يذهبون إلى بيت اللَّه الّذي ليس له في الأرض بيت غيره لهدمه؟! ألفتوه واشغلوه بثقيف عسى أن يجد عندهم ما يكره، فمالا به إلى الطائف.
قال الواقدي: فحدثني محمد بن أبي سعد الثقفي، عن يعلي عن عطاء عن وكيع بن عدس، عن عمير أبي رزين [ (1) ] قال: كنا نرعى غنما بين دجنا إلى الطائف، فأتى بالطائف مع الشمس ما شعرنا ولا شعر من بها إلا بالأشرم أبرهة قد جاءهم ضحى، معهم الفيلة والدّهم من الناس.
فخرج إليه أبو مسعود في رجال من ثقيف فقالوا: أيها الملك! خرجت لأمر تريده، فامض الّذي تريد، أمامك ما عندك مكان يحج إليه، إنما البيت الّذي تحج إليه العرب بمكة، وإنما أتيت من الذين معك، فدعا ذا نفر ونفيلا فقال: قدمتما بي إلى هاهنا؟ فقالا: هؤلاء عدو وأولئك عدو، فقال: إني لم أرد هؤلاء، إنما أردت أن أهدم البيت الّذي يحج إليه العرب وأغيظهم مما صنعوا بكنيستي.
قال: فحدثني زيد بن أسلم عن أبيه، قال: خرج إليه مسعود بن معتب.
قال الواقدي: هذا أثبت من الّذي يقول: أبو مسعود، قال: ما أنت؟ قال:
مسعود منك، ونحن ندلك على البيت الّذي تعبده العرب، فأرشده إلى مكة، وبعث أبا رغال يدله على طريق مكة، فأنزله أبو رغال بالمغمّس، فمات أبو رغال:
بالمغمّس، فقبره هناك ترجمه العرب [ (2) ] .
قال الواقدي: فحدثني عبد اللَّه بن عثمان عن أبي سليمان عن أبيه قال: خرج
__________
[ (1) ] كذا في (خ) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 1/ 166، تحت عنوان: «أبو رغال ورجم قبره» .

(4/74)


أبرهة من اليمن بذي نفر ونفيل بن حبيب فعدلا به إلى الطائف وقالا: لو أتينا مكة هؤلاء وراء ظهورنا فخشينا أن نؤتي من خلفك، فأردنا أن تبدأ بهم حتى لا يكون من ورائك أحد، فصدقهما ثم انصرف عن الطائف.
قال الواقدي: وأقبل أبرهة حتى إذا كان عن يسار عرفة، ودنا من الحرم عسكر هناك، وكان أبرهة قد بعث على مقدمته رجلا من الحبشة يقال له: الأسود [ (1) ] ، على خيل يحشر عليه أموال أهل مكة، فدخل الحرم فجمع سوائم ترعى في الحرم فضمها إليه، فأصاب لعبد المطلب مائتي بعير ثم انصرف إلى معسكره فأخبره الخبر، وأنه لم يصدّه أحد عن أخذها.
فبعث أبرهة حناطة الحميريّ فقال: سل عن أشرف أهلها فأخبره بأني لم آت لقتال أحد، إنما جئت لهدم هذا البيت لما نذرت وأوحيت على نفسي لما صنعت العرب بكنيستي ثم أنصرف، فإن صددتمونا عنه قاتلناكم، وإن تركتمونا هدمناه وأنصرف عنكم.
فقال عبد المطلب: ما عندنا له قتال، وما لنا به طاقة ولا يدان، وسنخلي بينه وبين ما يريد، فإن لهذا البيت ربا مانعه.
قال له حناطة: انطلق معي إليه، فركب عبد المطلب على فرس وركب معه ابنه الحرث، فلما دخل عسكره جاء حناطة إلى أبرهة فأخبره بما قال عبد المطلب، وأنه دخل عسكره، فقال له أبرهة: أخبرني عن بيتهم، أي شيء بناؤه؟ قال:
حجارة منضودة، فعجب أبرهة من ذلك.
وكان عبد المطلب حين دخل العسكر سأل عن ذي نفر الحميري- وكان له صديقا- فدخل عليه فقال: هل عندك من غنى؟ قال: فيما ذا؟ قال: في إبلي التي أخذت، قال: وما عندي من الغنى وأنا أسير في يد رجل عجمي لا أدري
__________
[ (1) ] هو الأسود بن مفصود بن الحارث بن منبه بن مالك بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مذحج، بعثه النجاشيّ مع الفيلة والجيش، وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلا، هلكت كلها إلا [محمود] فيل النجاشي لامتناعه عن التوجه إلى الكعبة.

(4/75)


متى هو قاتلي، ولكن سأكلم لك أنيسا سائس الفيل محمود وإنه صديقي، قال عبد المطلب: فذلك.
فقال: هذا سيد قريش الّذي يحمل على الجياد ويهب الأموال ويطعم في السهل، ما هبّت الريح والوحش والطير، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فأحب أن تكلمه حتى يردها عليه.
قال: فذكر ذلك أنيس لأبرهة فقال له: قد أتاك سيد قريش الّذي يحمل على الجياد، وقد طلبه الملك قبل ذلك فأرسل إليه حناطة، فوافى عبد المطلب باب الملك وعنده حناطة وأنيس فقال أنيس: هذا صاحب عير مكة، وهو يطعم في السهل والجبل، [ما هبت الريح] والوحش والطير، وقال حناطة: هو سيد أهل مكة فأذن له، فدخل- وكان عبد المطلب من أوسم الناس وجها وأجلهم- فلما رآه أبرهة أجلّه واستبشر برؤيته، وأبرهة على سرير فنزل عنه، وكره أن يكون تحته، وكره أن يجلسه على السرير فيراه الحبشة جالسا معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة فجلس على بساط وأجلسه إلى جنبه ورحّب به وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟
فقال: حاجتي أن تردّ عليّ مائتي بعير أصابوها إليّ، فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد عجبت حين رأيتك لهيبتك مع ما ذكر لي من شرفك وفعالك وتقدمك على أهل بيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير قد غصبنا [منك] ، وتترك ما هو دينك ودين آبائك وعزك وشرفك، وقد جئت لأهدمه [و] لا تكلمني فيه.
قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت الّذي تريد ربّا سيمنعه.
فقال أبرهة: ما كان سيمتنع مني.
قال عبد المطلب: أنت وذاك.
قال: ما أرى القوم يصدقون أنّا نصل إليه، وسيرون نصل إليه أم لا، فإنّي لا أرى أحدا همّ بشيء من هذا قبلي فيقولون قد حيل بينه وبين ذلك.
قال أنت وذاك، قد خرجنا عنه وما دونه أحد يصدك عنه، فأمر بإبله فردت عليه.

(4/76)


قال: ولما نزل المغمّس جاء مكة أول من جاء بنزوله ابو قحافة ومعمر بن عثمان وعمير بن جدعان، كانوا في إبل عبد اللَّه بن جدعان هناك، فأخبروا الناس، فحف الناس ولحقوا برءوس الجبال وبالشعاب وبطون الأودية.
قال الواقدي: وحدثني سيف بن سليمان قال: سمعت مجاهدا يقول: لما ولّى عبد المطلب من عند أبرهة منصرفا، أمر أبرهة أصحابه بالتهيؤ والتعبئة لإقحامهم الحرم، فعبئوا كتيبة القتال، وصفوا الصفوف، وقدّموا الفيلة كما كانوا يصنعون في الحروب، وقدم صاحب مقدمته الأسود بن مفصود، ووقف أبرهة كما كان يقوم في الحروب، معه وجوه أصحابه قد حفوا به من وجوه الحبشة والعرب ممن قد سار به، وقد أخذت صفوف أقطار الأرض بعضها خلف بعض.
وكان الفيل إذا حملوا لم يسر ويحرن كحران الدابة ويكرّ كرّ الناس، حتى بلغ أبرهة ذلك، فجاء وهو في أصحابه حتى وقف على دابته فجعل يصيح بسائس الفيل فيضربه، فإذا ألح عليه ربض وصخّ [ (1) ] ، فينخس بالرمح ولا ينثني.
قال: وحدثني عبد اللَّه بن عمرو بن زهير عن أبيه، عن عبد اللَّه بن خراش الكعبي عن أبيه قال: أقبل عبد المطلب يومئذ وأقبل أصحاب الفيل، فلما رأى عبد المطلب ما هموا به سار سريعا على فرسه حتى أوفى على حراء، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم ومطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومسعود بن عمرو الثقفي، ينظرون كلما حمل الحبشة الفيل على الحرم ربض، فيقبل الحبشة بحرابهم ورماحهم وعصيهم يطعنونه بها فيقوم، فإذا حملوه على الحرم برك وصاح، وإذا وجهوه من حيث جاء ولّى وله وجيف [ (2) ] ، وأي وجه شاءوا طاوعهم ما لم يحملوه على الحرم.
قالوا: فبينا عبد المطلب وأصحابه على حراء- وهم يحملون الفيل على الحرم-
__________
[ (1) ] صخّ الصوت الأذن يصخّها صخّا، وفي حديث ابن الزبير وبناء الكعبة: فخاف الناس أن تصيبهم صاخّة من السماء، هي الصيحة التي تصخّ الأسماع، أي تقرعها وتصمها. قال ابن سيده: الصاخة صيحة تصخّ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدّتها، ومنه سميت القيامة الصاخة. (لسان العرب) :
3/ 33، (النهاية) : 3/ 14، وفي (دلائل أبي نعيم) : «برك وصاح» .
[ (2) ] وجيف: اضطراب من سرعة المشي.

(4/77)


ويأبى، إذ قال عمرو بن عائذ لعبد المطلب: انظر! هل ترى شيئا؟ قال: إني لأرى طيرا يأتي من قبل البحر قطعا قطعا، وهي أصغر من الحمام، سود الرءوس، حمر الأرجل والمناقير.
قال عمرو: فأقبلت حتى حلقت على القوم، مع كل طائر ثلاثة أحجار:
في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، وقال عبد المطلب لمسعود: هل ترى شيئا؟
قال: نعم، أرى سوادا كثيرا من قبل البحر كثيفا، قال عبد المطلب: هو طائر، قال مسعود: صدقت، قد واللَّه عرفت حين حلوا بنا أن لو أرادوا الدية لقدروا عليها، فلم أزل أبعث الأشرم وأصرفه حتى ولى إلى ما هاهنا، وعرفت أنه لا يصل إلى البيت حتى لا يعذب، وهذا واللَّه عذابه.
قال الواقدي: وحدثني قيس بن الربيع عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد ابن عمير قال: لما أراد اللَّه أن يهلك أصحاب الفيل، أرسل عليهم طيرا أنشئت من البحر كأنها الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار مجزعة [ (1) ] : حجر في منقارة وحجران في رجليه، فجاءت حتى صفّت على رءوسهم، فصاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما وقع [ (2) ] حجر على رجل منهم إلا خرج من الجانب الآخر، إذا وقع على رأسه خرج من دبره [ (3) ] [وإذا وقع على جسده خرج من الجانب الآخر، وبعث اللَّه ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادت شدة فأهلكوا] .
__________
[ (1) ] مجزعة: مقطعة.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فما على الأرض حجر وقع على رجل» .
[ (3) ] هذا آخر الحديث رقم (88) في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 149- 150، وفيه الواقدي وعبد اللَّه ابن خراش متروكان، وما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 590، وقال ابن كثير: وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) : من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة، قصة أصحاب الفيل، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له شمر بن مفصود، وكان الجيش عشرين ألفا، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى، وهذا السياق غريب جدا، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره، والصحيح أن أبرهة الأشرم قدم من مكة، كما دلّ على ذلك السياقات والأشعار.
وهكذا روى عن ابن لهيعة عن الأسود عن عروة، أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه، والصحيح قدومه، ولعل ابن مفصود كان على مقدمة الجيش. واللَّه تعالى أعلم. (تفسير ابن كثير) : 4/ 590.

(4/78)


وذكر عمر بن شيبة في كتاب (أخبار مكة) : عن أبي عاصم أخبرنا عمرو ابن سعيد قال: سمعت مشيختنا يقولون: حمام مكة من بقية طير أبابيل.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: الحجارة مثل البندق، وبها نضح حمرة مختمه، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت تلك الحجارة عليهم فلم تعد عسكرهم.
وحدثني عمر بن طلحة عن جونة بن عبد عن أمية بن عبد الرحمن قال: سمعت نوفل بن معاوية الديليّ يقول: رأيت الحصا الّذي رمى به أصحاب الفيل، حصا مثل الحمص وأكبر من العدس، حمر مختمة، كأنها جزع ظفار [ (1) ] .
وحدثني ابن أبي سبرة عن عمر بن عبد اللَّه العبسيّ قال: قال حكيم بن حزام:
كان في المقدار بين الحمصة والعدسة، حصاته نضح أحمر، مختم كالجزع، فلولا أنه عذب به قوم [لأخذت] منه ما أتخذه في مسجدي، أسلمت وهو بمكة كثير في بيوتكم.
وحدثنا سعيد بن حسان عن عطاء بن أبي رباح عن حبيب بن ميسرة، عن أم كرز الخزاعية قالت: رأيت الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل حمرا مختمة كأنها جزع ظفار، وحدثني ابن أبي سبرة عن عمر بن عبد اللَّه العيشي عن ابن كعب القرظي قال: جاءوا بفيلين، فأما محمود فربض، وأما الآخر فجثع فحصب.
وحدثني رباح بن مسلم عن من سمع وهب بن منبه قال: كانت الفيلة معهم، فكان محمود- وهو فيل الملك- إذا تقدم يربض لتقتدي به الفيلة فجثع منها فيل فحصب فرجعت الفيلة.
وحدثني سيف بن سليمان عن مجاهد قال: كان فيل حصب بالمغمّس.
وحدثني عبد اللَّه بن عمرو بن زهير الكعبي عن أبي مالك الحميري عن عطاء
__________
[ (1) ] جزع: خرز، وظفار: بلد باليمن قرب صنعاء، ينسب إليها هذا الخرز، وأن به سوادا وبياضا.

(4/79)


ابن يسار قال: حدثني من كلّم قائد الفيل وسائسه قال لهما: أخبراني خبر الفيل.
قالا: أقبلنا وهو فيل الملك النجاشي الأكبر، لم يسر به قط إلى جمع إلا هزمهم، فاخترت أنا وصاحبي هذا لجلدنا وحرفتنا بسياسة الفيل، قال: فلما دنونا من الحرم جعلنا كلما وجهناه إلى الحرم يربض، فتارة نضربه فينهض، وتارة نضربه حين برك ثم نتركه، فلما أتينا إلى المغمّس ربض فلم يقم، وطلع العذاب.
فقلت: نجا غيركما؟ قالا: نعم، ليس كلهم أصاب العذاب، وولى أبرهة ومن تبعه يريد بلاده، كلما دخلوا أرضا وقع منه عضو، حتى انتهى إلى بلاد خثعم وليس عليه غير رأسه فمات.
وحدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: أفلت نفيل والحميري. قال الواقدي: وسمعت أنه لما ولى أبرهة مدبرا جعل نفيل يقول:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب [ (1) ]
وذكر ابن الكلبي في (الجمهرة) أن ضبّة وعمرا وحميسا أبناء أدّ بن طائحة ابن إلياس بن مضر شهدوا الفيل فهلكوا، وأفلت منهم ستون رجلا، إذا ولد مولود مات منهم رجل.
قال الواقدي: وحدثني حزام بن هشام عن أبيه قال: لما رد اللَّه الحبشة عن البيت أعظمت قريشا وقالوا: هؤلاء أهل اللَّه لما كفاهم مؤنة عددهم، وجعلوا يقولون في ذلك الأشعار، وخرجت الحبشة يسقطون في كل طريق ويهلكون في كل منهل.
وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة ودم وقيح، حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرخ طير، فمات حين انصدع صدره عن قلبه فيما يقولون [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 150، (سيرة ابن هشام) : 1/ 172، وقال ابن هشام: قوله: «ليس الغالب» عن غير ابن إسحاق.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 173.

(4/80)


وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث قال: دخلت مع أبي على فاطمة بنت المنذر فحدثتنا أحاديث، وكان فيما حدثت أن قالت أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنها تقول: لما قدم أصحاب الفيل بالفيل وأصابهم ما أصابهم، دخل سائقه وقائده مكة، فلم يزالا بها حتى رأيتهما قبل أن ينبأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أعميين مقعدين يستطعمان الناس، يكونان حيث يذبح المشركون ذبائحهم، فقال لها: أي أين كانوا يذبحون؟ قالت: على إساف ونائله [ (1) ] .
وقد ذكر محمد بن إسحاق أن سبب غزو أبرهة البيت أنه بني القلّيس بصنعاء، فبني كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبق مثلها لمن كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة غضب رجل [من] [ (2) ] النّسأة (أحد بني فقيم بن علي بن عامر بن ثعلبة بن الحرث بن مالك ابن كنانة بن خزيمة) فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها (يعني سلح) [ (3) ] ، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنع هذا رجل من العرب أهل هذا البيت الّذي يحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك: «أصرف إليه حاج العرب» ، غضب فجاء فقعد فيها، أي لست لذلك بأهل.
فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وتجهزت ثم أمر الحبشة فتهيأت ثم ساروا، وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم لما رأوا أنه يريد هدم الكعبة بيت اللَّه الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت اللَّه، فأجابه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 176، (تفسير ابن كثير) : 4/ 590، وقال: كان اسم قائد الفيل [أنيسا] .
[ (2) ] زيادة للسياق، والنسأة: جمع ناسئ، وهم الذين كانوا ينسئون الشهور، أي يؤخرون حرمة أحد الأشهر الحرم، وقد سبق شرح ذلك.
[ (3) ] سلح: من السّلاح، وهو النّجو، [وهو الغائط] ، (ترتيب القاموس) : 2/ 592، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 151، قال أبو نعيم: «فقعد فيها أي تغوّط فيها) .

(4/81)


من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ فأتي به أسيرا، فلما أراد قتله قال له: لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي خيرا لك.
فتركه وحبسه عنده، ثم مضى حتى كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب في قتلى خثعم شهران وناهس [ (1) ] ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له أسيرا، فخلى سبيله وخرج معه يدله حتى [إذا] [ (2) ] مرّ بالطائف خرج ابنه مسعود بن معتب [ (3) ] فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة حتى أنزله المغمّس مات أبو رغال، وبعث أبرهة الأسود بن مسعود على خيل إلى مكة، فساق أموال أهل تهامة، وذكر القصة بمعنى ما تقدم.
وخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما أرسل اللَّه على أصحاب الفيل جعل لا يقع حجر على واحد منهم إلا تفطّر جسده، فذلك أول ما كان الجدري، فأرسل اللَّه سيلا فذهب بهم [ (4) ] فألقاهم في البحر.
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصّفاح [ (5) ] ، فأتاهم عبد المطلب جد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إن هذا بيت اللَّه لم يسلط عليه أحد، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر.
فدعا اللَّه بالطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلما حاذتهم صفّت عليهم ثم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك إنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه.
وقال قيس عن حصين بن عبد الرحمن في قوله: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً
__________
[ (1) ] يقال: إن خثعم ثلاث: شهران، وناهس، وأكلب، غير أن أكلب عند أهل النسب هو: ابن ربيعة ابن نزار، ولكنهم دخلوا في خثعم وانتسبوا إليهم. (ابن هشام) : 1/ 164.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] هو مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف.
[ (4) ] في (خ) : «بها» .
[ (5) ] الصّفاح بكسر الصاد: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش. (معجم البلدان) : 3/ 467، موضع رقم (7558) .

(4/82)


أبابيل [ (1) ] قال: طير خرجت من قبل البحر، لها رءوس مثل رءوس السباع ترميهم، فمن أصابت جدر [ (2) ] ، وذلك أول ما كان الجدري، لم ير قبله.
وقد روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عليهم السلام: أن قدوم الفيل للنصف من المحرم، وبين الفيل وبين مولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمس وخمسون ليلة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الفيل: 3.
[ (2) ] أصابه داء الجدري.
[ (3) ] ذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه صلّى اللَّه عليه وسلم ولد بعد مجيء الفيل بخمسين يوما، وهو الأكثر والأشهر، وأهل الحساب يقولون: وافق مولده من الشهور الشمسية نيسان (أبريل) ، فكانت لعشرين مضت منه، وولد بالغفر من المنازل «منازل القمر» . (ابن هشام) : 1/ 394، فصل ولادة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم (هامش) .

(4/83)


وأما الآيات التي ظهرت في مدة رضاعته صلّى اللَّه عليه وسلم
فقد روى محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي الجهم [ (1) ] ، عن عبد اللَّه بن جعفر [بن أبي طالب] [ (2) ] عن حليمة بنت الحرث السعدية [ (3) ] قالت: أصابتنا سنة شهباء [ (4) ] لم تبق لنا شيئا، فخرجت مع نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء [ (5) ] بمكة على أتان [ (6) ] لي قمراء [ (7) ] ، فلم تبق منا امرأة إلا عرض عليها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فتأباه، وعرض عليّ فأبيته، ذلك أن الظؤورة [ (8) ] إنما كانوا يرجون الخير من قبل الآباء ويقولون: لا أب له وما عسى أن تفعل أمه، فلم تبق منهن امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، وحان انصرافهن إلى بلادهن.
فقلت لزوجي: لو أخذت ذلك الغلام اليتيم كان أمثل من أن أرجع بغير رضيع، فأتيت أمه فأخذته ثم جئت بعد ذلك، إلى منزلي، فكان لي ابن صغير واللَّه لن ينام من الجوع، فلما ألقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على ثدي أقبلا عليه بما شاء من
__________
[ (1) ] هو جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحيّ.
[ (2) ] زيادة في النسب من (ابن هشام) .
[ (3) ] هي حليمة ابنة أبي ذؤيب، وأبو ذؤيب: عبد اللَّه بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة ابن فصيّة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان ابن مضر، قدمت عليه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد تزوج خديجة فشكت إليه جدب البلاد، فكلم خديجة فأعطتها أربعين شاة، وأعطتها بعيرا، ثم قدمت عليه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد النبوة فأسلمت وبايعت، وأسلم زوجها الحارث بن عبد العزى.
[ (4) ] سنة شهباء: يعني سنة قحط، لأن الأرض فيها تكون بيضاء.
[ (5) ] الرضعاء: جمع رضيع، وهم الأطفال حديثو الولادة.
[ (6) ] الأتان: أنثى الحمار.
[ (7) ] قمراء: أي يميل لونها إلى الخضرة.
[ (8) ] الظؤورة: جمع ظئر، وهي العاطفة على ولد غيرها، المرضعة له، في الناس وغيرهم، للذكر والأنثى، وتجمع على: أظؤر، وأظآر، وظؤور، وظؤورة، وظؤار، وظؤرة. (ترتيب القاموس) :
3/ 119.

(4/84)


اللبن حتى روي وروي أخوه وناما، وقام زوجي إلى شارف [ (1) ] لنا واللَّه ما أن تبضّ [ (2) ] بقطرة، فلما وقعت يده على ضرعها فإذا هي حافل [ (3) ] ، فحلب ثم أتاني فقال: واللَّه يا ابنة أبي ذؤيب ما أظن هذه النسمة التي أخذتها إلا مباركة! وأخبرني بخبر الشارف وأخبرته بخبر ثديي وما رأيت منهما.
ثم أصبحنا فغدونا، فكنت على أتان قمراء، واللَّه ما أن تلحق الحمر ضعفا، فلما أن وضعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عليها جعلت تتقدم الركب فيقولون: واللَّه إن لأتانك هذه لشأنا.
قالت: فقدمنا بلادنا- بلاد سعد بن بكر- لا نتعرف من اللَّه إلا البركة، حتى إن كان راعينا لينصرف بأغنامنا حفلا وتأتي أغنام قومنا ما أن تبضّ بقطرة، فيقولون لرعيانهم: ويحكم! ارعوا حيث يرعى راعي ابنة أبي ذؤيب، فلم يزل كذلك.
فبينما هما يوما يلعبان في بهم لنا وراء بيوتنا، إذ جاء أخوه يسعى فقال: ذاك أخي القرشي قد قتل، فانطلقت وأبوه فاستقبلنا وهو منتقع اللون، فجعلت أضمه إليّ مرة وأبوه مرة ويقول: ما شأنك؟ فيقول: لا أدري، إلا أنه أتاني رجلان فشقّا بطني وساطها [ (4) ] ، فقال أبوه: ما أظن هذا الغلام إلا قد أصيب، فبادرى به أهله من قبل أن يتفاقم به الأمر.
عند ذلك لم يكن له همة إلا أن أتيت مكة [فأتيت به أمه، فقلت: أنا ظئر ابني هذا، وقد فصلته، وخشيت أن تقع عليه العاهة فاقبليه، فقالت: مالك زاهدة فيه؟ وقد كنت قبل اليوم تسأليني أن أتركه عندك لعلك خفت على [ابني] [ (5) ] الشيطان- أو كلام هذا معناه- ألا أخبرك عني وعنه؟ إني رأيت حيث ولدته
__________
[ (1) ] الشارف: الناقة المسنة.
[ (2) ] تبضّ: ترشح.
[ (3) ] الحافل: الممتلئة الضرع من اللبن، والحفل: اجتماع اللبن في الضرع.
[ (4) ] في (خ) : «وساطا» ، وفي (ابن هشام) : «يسوطانه» ولعل ما قد أثبتناه يناسب المعنى، يقال:
سطت اللبن أو الدم أسوطه، إذا ضربت بعضه ببعض، والمسوط: عود يضرب به.
[ (5) ] السياق مضطرب في (خ) فيما بين الحاصرتين، وقد صوبناه من كتب السيرة.

(4/85)


أنه خرج مني نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام [ (1) ] . هذا لفظ زياد ابن عبد اللَّه البكائي عن ابن إسحاق.
وفي رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن ابن إسحاق، قالت أمه: إن لابني هذا لشأنا! ألا أحدثك عنه؟ فما زالت بنا حتى أخبرتنا خبره، قالت: إني حملت به، فلم أحمل حملا قط كان أخف منه ولا أعظم بركة منه، إني لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت له أعناق الإبل ببصرى، ثم وضعته، فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا يده بالأرض رافعا رأسه إلى السماء، وألحقا بشأنكما [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هذا آخر حديث آمنة في (خ) ، لكنه ليس آخر لفظ زياد بن عبد اللَّه البكائي عن ابن إسحاق، وتمامه:
«ثم حملت به، فو اللَّه ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة» .
[ (2) ] حديث حليمة السعدية ورد في كتب السيرة بسياقات مختلفة، بعضها مطول، وبعضها مختصر، وبروايات مختلفة، عن ابن إسحاق، وابن راهويه، وأبو يعلي، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، فذكره كل من:
* ابن الجوزي في (صفة الصفوة) : 1/ 28- 30، وقال في آخره. وظاهر هذا الحديث يدل [على] أن آمنة حملت غير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال الواقدي: لا يعرف عند أهل العلم أن آمنة وعبد اللَّه ولدا غير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
* القسطلاني في (المواهب اللدنية) : 1/ 150- 153، وقال في آخره: كانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول:
هذا أخ لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي
فديته من مخول معمي ... فأنمه اللَّهمّ فيما تنمي
وذكر من شعر حليمة ما كانت ترقّص به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
يا رب إذا أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا وأرقه
وأدحض أباطيل العدا بحقّه
* ابن هشام في (السيرة النبويّة) : 1/ 297- 303.
* البيهقي في (دلائل النبوة) : 1/ 133- 136.
* الطبري في (التاريخ) : 2/ 158- 160.
* ابن سيد الناس في (عيون الأثر) : 1/ 31- 35.
* أبو نعيم الأصفهاني في (دلائل النبوة) : 1/ 155- 157.
* ابن كثير في (البداية والنهاية) : 2/ 333- 335.
* ابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 110- 112.
* الدّيار بكري في (تاريخ الخميس) : 1/ 222- 223.
* ابن حجر في (الإصابة) : 7/ 722- 733، في ترجمة الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ابن رفاعة، رقم (11384) ، قال: وذكر محمد بن المعلى الأزدي في كتاب (الترقيص) ، قال:
وقالت الشيماء ترقّص النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو صغير:
يا ربنا أبق لنا محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا
ثم أراه سيد مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسّدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
قال: فكان أبو عروة الأزدي إذا أنشد هذا يقول: ما أحسن ما أجاب اللَّه دعاءها!.

(4/86)


وقال الواقدي: وقدم مكة عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن الرضعاء، وخرجت حليمة بنت عبد اللَّه بن الحرث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة ابن فصية بن نصر بن بكر بن هوازن، واسم أبيه الّذي أرضعه: الحرث بن العزى ابن رفاعة بن ملان [بن ناصرة] [ (1) ] بن فصية بن سعد بن بكر بن هوازن، وإخوته عبد اللَّه بن الحرث، وحذافة بنت الحرث- وهي الشيماء- وكانت الشيماء هي تحضنه مع أمها وتوركه.
وخرجوا في سنة حمراء [ (2) ] ، وخرجت بابنها عبد اللَّه ترضعه، وأتان قمراء تدعى سدرة، وشارف دلقاء لا سنّ لها، يقال لها السمراء، لقوح قد مات سقبها [ (3) ] بالأمس، ليس في ضرعها قطرة لبن قد يبس من العجف [ (4) ] ، وقالت أمه آمنة لظئره حليمة: يا ظئر! سلي عن ابنك فإنه يكون له شأن، فإنه لم يزل يذكر أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبي، ولقد حملت فما وجدت له ما تجد النساء من المشقة في الحمل، ولقد أتيت فقيل لي: قد حملت بسيد الأنام، ولقد قيل لي ثلاث ليال: استرضعي ابنك في بني سعد ثم في آل أبي ذؤيب.
قالت حليمة: فإن أبا هذا الغلام الّذي في حجري أبو ذؤيب وهو زوجي، فطابت نفس حليمة وسرت بكل ما سمعت، ثم قالت: واللَّه إني لأرجو أن يكون مباركا، فخرجت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى منزلها، فتجد حمارها قد قطعت رسنها فهي
__________
[ () ] * ابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 110- 112.
* الدّيار بكري في (تاريخ الخميس) : 1/ 222- 223.
* ابن حجر في (الإصابة) : 7/ 722- 733، في ترجمة الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى ابن رفاعة، رقم (11384) ، قال: وذكر محمد بن المعلى الأزدي في كتاب (الترقيص) ، قال:
وقالت الشيماء ترقّص النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو صغير:
يا ربنا أبق لنا محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا
ثم أراه سيد مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسّدا
وأعطه عزا يدوم أبدا
قال: فكان أبو عروة الأزدي إذا أنشد هذا يقول: ما أحسن ما أجاب اللَّه دعاءها!.
[ (1) ] زيادة للنسب.
[ (2) ] سنة حمراء: شديدة الجدب.
[ (3) ] سقبها: ما قاربها من العمر.
[ (4) ] العجف: الضعف.

(4/87)


تجول في الدار، وتجد شارفها قائمة تقصع بجرّتها [ (1) ] ، فقالت لزوجها: إن هذا المولود لمبارك! فقال أبوه: قد رأينا بعض بركته.
قال: ثم عمد إلى شاتها فحلبها قعبا فسقى حليمة، ثم حلبها قعبا آخر فشرب حتى روى، ولمس ضرعها فإذا هي بعد حافل، فحلب قعبا آخر فحقنه في سقاء [ (2) ] له ثم حدجوا [ (3) ] أتانها فركبتها حليمة، وركب الحرث شارفهم، وحملت حليمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين يديها على الأتان فطلعا على صواحبها بوادي السّرر مرتعات وهما يتواهقان في السير، فقلن: هي حليمة وزوجها، ثم قلن: هذا حمار أنجى من حمارتها، وهذا بعير أنجى من بعيرها، وما يقدران على أن يضبطا رءوسهما حتى نزلت معهن فقلن: يا حليمة! ماذا صنعت؟ قالت: أخذت واللَّه خير مولود رأيته قط وأعظمه بركة، فقالت النسوة: أهو ابن عبد المطلب؟ قالت: نعم، وأخبرتهن بما قالت آمنة في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما أمرتها أن تسأل عنه، وما رأت حليمة من إقبال درّها ودرّ لقوحها وما رأوا من نجاء الأتان واللقحة، فقالت حليمة: فما رحلنا من منزلنا حتى رأيت الحسد في بعض نسائنا [فيمرون بسنح [ (4) ] من هذيل على عراف كبير، فقالت النسوة: سلي هذا، فجاءت حليمة إليه برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخبرته خبره وما قالت فيه آمنة، فصاح الهذلي: يا آل هذيل! اقتلوه.. اقتلوه، وآلهته ليمكن في الأرض وإنه لينتظر من السماء أمرا، فرحن إلى بلادهن، وإنما اعتاف العائف في قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلم التراب حين ولد] [ (5) ] .
قالت: فقدمنا على عشرة أعنز ما يرمن البيت هزالا فإن كنا لتريح الإبل وإنها لحفل، فنحلب ونشرب، ونحلب شارفنا غبوقا وصبوحا [ (6) ] ، وإني لأنظر إلى الشارف قد نضبت في سنامها، وانظر إلى عجز الأتان فكأن فيها
__________
[ (1) ] تقصع بجرتها: تجتر، وذلك يعني أنها كانت قد أكلت فامتلأت.
[ (2) ] في (خ) : «سقاية» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] حدجوا: شدوا عليه الحدج، وهو الحمل.
[ (4) ] سنح: موضع في طرق من أطراق المدينة وهي منازل بني الحارث بن الخزرج.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وليس في رواية أبي نعيم.
[ (6) ] الغبوق: ما يشرب في المساء، والصبوح: ما يشرب في الصباح.

(4/88)


الأفهار [ (1) ] وإن كان عجزها لدبراء [ (2) ] مما ننخسها، وجعل أهل الحاضر يقولون لرعيانهم: ابلغوا حيث تبلغ غنم حليمة، فيبلغون، فلا تأتي مواشيهم إلا كما كانت تأتي قبل ذلك، ولقد كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يمس ضرع شاة لهم يقال لها «أطلال» ، فما يطلب منها ساعة من الساعات إلا حلبت غبوقا وصبوحا، وما على الأرض شيء تأكله دابة [ (3) ] .
فحدثني عبد الصمد بن محمد السعدي عن أبيه عن جده قال: حدثني بعض من كان يرعى غنم حليمة أنهم كانوا يرون غنمها ما ترفع رءوسها، ويرى الخضر في أفواهها وأبعارها، وما تزيد غنمنا على أن تربض [ (4) ] ، ما تجد عودا تأكله، فتروح الغنم أغرث [ (5) ] منها حين غدت، وتروح غنم حليمة يخاف عليها الحبط [ (6) ] .
قالوا: فمكث سنتين صلّى اللَّه عليه وسلم حتى فطم، فكأنه ابن أربع سنين، فقدموا به على أمه زائرين لها، وهم أحرص شيء على رده مكانه، لما رأوا من عظيم بركته، فلما كانوا بوادي السّرر لقيت نفرا من الحبشة وهم خارجون منها، فرافقتهم، فسألوها، فنظروا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نظرا شديدا، ثم نظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه، وإلى حمرة في عينيه، فقالوا: يشتكي أبدا عينيه للحمرة التي فيها؟ قالت:
لا، ولكن هذه الحمرة لا تفارقه، فقالوا: هذا واللَّه نبي، فغالبوها عليه، فخافتهم أن يغلبوها، فمنعه اللَّه عزّ وجلّ، فدخلت به على أمه، وأخبرتها بخبره، وما رأوا من بركته، وخبر الحبشة، فقالت أمه: ارجعي بابني فإنّي أخاف عليه وباء مكة، فو اللَّه ليكونن له شأن، فرجعت به.
__________
[ (1) ] أي أن لحمها قد تكتل كتلا من السّمن.
[ (2) ] الدبراء: التي بها قرحة.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 157- 159، حديث رقم (96) ، أخرجه ابن سعد في (الطبقات) :
1/ 110 مختصرا.
[ (4) ] تربض: تطوي قوائمها وتقيم.
[ (5) ] أغرث: أكثر جوعا، وفي شعر حسان يعتذر لعائشة رضي اللَّه تعالى عنها:
وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
[ (6) ] الحبط: الانتفاخ من كثرة الأكل.

(4/89)


وقام سوق ذي المجاز فحضرت به وبها يومئذ عراف يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم من هوازن، فلما نظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وإلى الحمرة التي في عينيه وإلى خاتم النبوة صاح: يا معشر العرب! فاجتمع إليه أهل الموسم فقال: اقتلوا هذا الصبي ولا يرون شيئا قد انطلقت به أمه، فيقال له: ما هو؟ فيقول: رأيت غلاما وآلهته ليغلبن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم.
فطلب بذي المجاز [ (1) ] فلم يوجد، ورجعت به حليمة إلى منزلها، فكانت بعد هذا لا تعرضه لأحد من الناس، ولقد نزل بهم عراف، فأخرج إليه صبيان أهل الحاضر وأبت حليمة أن تخرجه إليه، إلى أن غفلت عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فخرج من المظلة فرآه العراف فدعاه، فأبى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ودخل الخيمة، فجهد بهم العراف أن يخرج إليه فأبت، فقال: هذا نبي [هذا نبي] [ (2) ] ، قالوا: فلما بلغ أربع سنين كان يغدو مع أخيه وأخته في البهم قريبا من الحي.
فبينا هو يوما مع أخيه في البهم، إذ رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد أخذته غمية، فجعل يكلم رسول اللَّه فلا يجيبه، فخرج الغلام يصيح بأمه: أدركي أخي القرشي! فخرجت أمه تعدو، ومعها أبوه فيجدان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قاعدا منتقع اللون، فسألت أمه أخاه: ما رأيت؟ قال: رأيت طائرين أبيضين وقعا [ (3) ] ، فقال أحدهما: أهو هو؟ فقال: نعم، فأخذاه فاستلقياه على ظهره فشقا بطنه فأخرجا ما كان في بطنه، ثم قال أحدهما: ائتني بماء ثلج، فجاء به فغسل بطنه، ثم قال:
ائتني بماء برد [ (4) ] ، فجاء به فغسل بطنه ثم أعاده كما هو.
قال: فلما رأى أبواه [ (5) ] ما أصابه شاورت أمه أباه وقالت: نرى أن نرده على [ (6) ] أمه، إنا نخاف أن يصيبه عندنا ما هو أشد من هذا فنرده إلى أمه فيعالج،
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فطلب بعكاظ» .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] في المرجع السابق: «فوقنا» .
[ (4) ] في المرجع السابق: «بماء ورد» .
[ (5) ] في المرجع السابق: «أبوه» .
[ (6) ] في المرجع السابق: «إلى أمه» .

(4/90)


فإنّي أخاف أن يكون به لمم [ (1) ] ، [فقال أبوه: لا واللَّه ما به لمم] [ (2) ] إن هذا أعظم مولود رآه أحد بركة، واللَّه إن أصابه [ما أصابه] [ (2) ] إلا حسد من آل فلان، لما يرون من عظم بركته منذ كان بين أظهرنا [يا حليمة] [ (2) ] .
قال أبوه: يا حليمة! أخذناه ولنا عشر أعنز عجاف فغنمنا اليوم ثلاثمائة، قالت: إني أخاف عليه، فنزلت به إلى أمه فذكرت من بركته وخيره، ولكنه قد كان من شأنه فأخبرتها [ (3) ] خبره.
قال الواقدي: فحدثني معاذ بن محمد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: قالت حليمة: إنا لا نرده إلا على جدع أنفنا، ما رأينا مولودا أعظم بركة منه، ولكنا كرهنا أن نحدث به عند ما حدث.
قال ابن عباس: فرجعت فكان عندنا سنة أو نحوها، لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا، فغفلت عنه، فجاءتها أخته الشيماء في وقت الظهيرة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في البهم وقد ردت البهم، فخرجت أمه تطلبه حتى وجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه! ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع، تقول أمها: أحقا يا بنية؟ قالت: إي واللَّه.
قال: تقول حليمة: أعوذ باللَّه من شرّ ما نحذر على ابني، فكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين، وكان غيره يقول: ردّ على أمه وهو ابن أربع سنين، فكان معها إلى أن بلغ ست سنين.
وخرّج أبو محمد بن حبان من حديث الصلت بن محمد أبي همام قال: حدثنا
__________
[ (1) ] اللمم: ضرب من الجنون.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 159- 162، حديث رقم (97) ، وقال في آخره زيادة عن (خ) :
قال ابن عباس: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين. وكان غيره يقول: ردّ إلى أمه وهو ابن أربع سنين، وكان معها إلى أن بلغ ست سنين، (الخصائص الكبرى) : 1/ 144 وقال: أخرجه أبو نعيم من طريق الواقدي، عن عبد الصمد بن محمد السعدي عن أبيه عن جده، والواقدي متروك.

(4/91)


سلمة بن علقمة، أخبرنا داود بن أبي هند قال: لما ولدت آمنة ذهب عبد المطلب يطلب ظئرا، فوافق امرأة من بني سعد بن بكر يقال لها حليمة بنت الحرث فجاء بها فدفعه إليها وشيعها وهو يقول:
يا رب هذا الراكب المسافر ... محمد فاقلب بخير طائر
وازجره عن طريقة الفواجر ... واخل عنه كل خلق فاجر
أخنس ليس قلبه بطاهر ... وجنّة تصيد بالهواجر
إني أراه مكرمي وناصري [ (1) ]
فانطلقت به الظّئر، فذكر نحو حديث الجهم.
__________
[ (1) ] هذه الأبيات مضطربة السياق والوزن في (خ) ، وصوبناها من (دلائل أبي نعيم) .

(4/92)


وأما معرفة اليهود له وهو غلام مع أمه بالمدينة، واعترافهم إذ ذاك بنبوته
فقد قال اللَّه جل جلاله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ (1) ] ، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته، والضمير عائد على محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: وخص الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس، وإن كانت ألصق، لأن الإنسان يمر عليه في زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه، وقد روى أن عمر رضي اللَّه عنه قال لعبد اللَّه بن سلام: أتعرف محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ قال:
نعم وأكثر، بعث اللَّه أمينه في السماء إلى أمينه في الأرض فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ: يعني اليهود الذين أوتوا الكتاب ليكتمون الحق يعني محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم. قال مجاهد وقتادة وخصيف، وهم يعلمون ظاهر كفرهم عنادا. ومثله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [ (2) ] ، وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [ (3) ] .
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث، وعبد اللَّه بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وأبو بكر بن عبد اللَّه بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم العامري، وربيعة بن عبد اللَّه بن الهدير التيمي، وموسى بن يعقوب الزمعي في عدة [ (4) ] ، كل قد حدثه من هذا الحديث بطائفة، قالوا: [وغير هؤلاء المسمين قد حدثوني أيضا أهل ثقة وقناعة] [ (5) ] كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يكون مع أمه، فلما بلغ ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار
__________
[ (1) ] البقرة: 146.
[ (2) ] النمل: 14.
[ (3) ] البقرة: 89.
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «عن عدة من شيوخه» .
[ (5) ] زيادة في السّند من المرجع السابق.

(4/93)


بالمدينة تزور أخواله، ومعه أم أيمن [ (1) ] ، فنزلت به في دار النابغة- رجل من بني عدي بن النجار- فأقامت به شهرا، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يذكر أمورا كانت في مقامه، ذلك لما نظر إلى أطم بني عدي بن النجار عرفها،
قال صلّى اللَّه عليه وسلم: نظرت إلى رجل من يهود يختلف إليّ، ينظر إليّ ثم ينصرف عني، فلقيني يوما خاليا فقال:
يا غلام، ما اسمك؟ قلت: محمد، ونظر إلى ظهري فأسمعه يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى أخوالي فخبرهم الخبر، فأخبروا أمي فخافت عليّ وخرجنا من المدينة،
وكانت أم أيمن تحدث تقول: أتاني رجلان من يهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا: أخرجي لنا أحمد. فأخرجته فنظر إليه وقلّباه مليا، حتى أنهما لينظران إلى سوأته، ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم، قالت أم أيمن: فوعيت ذلك كله من كلامهما [ (2) ] .
__________
[ (1) ] وهي بركة، أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 163- 164، حديث رقم (99) ، وفيه الواقدي، متروك، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، منكر الحديث، وأبو بكر بن عبد اللَّه بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم العامري، رموه بالوضع، وأخرجه ابن سعد في (الطبقات) : 1/ 118 من طريق الواقدي أيضا.

(4/94)


وأما توسم جده فيه السيادة لما كان يشاهد منه في صباه من مخايل [ (1) ] الرّباء [ (2) ]
فقال الواقدي: فرجعت به أمه إلى مكة، فلما كان بالأبواء توفيت آمنة، فرجعت به أم أيمن على البعيرين اللذين قدما عليهما إلى مكة وكانت تحضنه. قالوا:
فلما توفيت آمنة قبضه عبد المطلب وضمه إليه، فرق له [عبد المطلب] [ (3) ] رقة لم يرقها على ولد، وكان يقربه ويدنيه، وكان عبد المطلب إذا نام لا يدخل عليه أحد إعظاما له، وإذا خلا كذلك أيضا، وكان له مجلس لا يجلس عليه غيره، وكان يفرش له في ظل الكعبة فراش، ويأتي بنو عبد المطلب فيجلسون حول ذلك الفراش ينتظرون عبد المطلب [ (4) ] ، ويأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [حتى] [ (3) ] يرقى على الفراش فيجلس عليه، فيقول له أعمامه: مهلا يا محمد عن فراش أبيك، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني، إنه ليؤنس ملكا. ويقال: إنه قال: إن ابني ليحدث نفسه بذلك [ (5) ] .
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني العباس بن عبد اللَّه بن سعيد ابن العباس بن عبد المطلب قال: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه فيذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول عبد المطلب: دعوا ابني، ويمسح على ظهره ويقول: إن لابني هذا لشأنا، وإنه ليحس من نفسه بخير، فتوفى عبد المطلب ورسول اللَّه ابن ثماني سنين.
__________
[ (1) ] تفرّس الخير فيه صلّى اللَّه عليه وسلم، (ترتيب القاموس) : 2/ 138.
[ (2) ] الربا: الزيادة والنماء، المرجع السابق: 297.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] في المرجع السابق: «ينظرون إلى عبد المطلب» .
[ (5) ] هذا الحديث امتداد للحديث رقم (99) من (دلائل أبي نعيم) ولعل إسنادهما واحد.

(4/95)


وروى الأزرقي أحمد بن محمد بن الوليد عن سعيد بن سالم القداح، حدثني ابن جريج قال: كنا جلوسا مع عطاء بن أبي رباح في المسجد الحرام فتذاكرنا ابن عباس وفضله.
وقال عطاء: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسن الناس وجها، ما يراه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه أحد غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الندى من قريش حرم بن أمية فمن دونه يجلسون دون المفرش، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما وهو غلام فجلس على المفرش فجبذه رجل فبكى، فقال عبد المطلب: ما لابني قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال: دعوا ابني أن يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه بشيء، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه غيره قبله ولا بعده.
قال: ومات عبد المطلب والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم ابن ثماني سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون.
وروى النضر بن سلمة عن محمد بن موسى أبي غزية، عن أبي عثمان سعيد ابن زيد عن ابن بريدة عن أبيه، وعن بريدة بن سفيان الأسلمي قال: لما ولد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عقّ [ (1) ] عبد المطلب عنه يوم السابع بكبش وسماه محمدا، ولم يسمه بأسماء آبائه، وقال: أردت أن يحمده اللَّه في السماء ويحمده الناس في الأرض. وقد فعل اللَّه تعالى ذلك، واللَّه خير الحامدين.
__________
[ (1) ] عقّ عنه: صنع له عقيقة، وقد سبق شرحها.

(4/96)


وأما إلحاق القافّة [ (1) ] قدمه بقدم إبراهيم عليه السلام وتحدّث يهود بخروج نبي من ضئضئ [ (2) ] عبد المطّلب
فقال الواقدي: وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يلعب مع الصبيان حتى بلغ الردم، فرآه قوم من بني مدلج، فدعوه فنظروا إلى قدميه وإلى أثره، ثم خرجوا في إثره فصادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه، وقالوا لعبد المطلب: ما هذا منك؟ قال:
ابني، قالوا: احتفظ به، فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم الّذي في المقام منه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول، فكان أبو طالب يحتفظ به [ (3) ] .
وقالوا: بينا يوما عبد المطلب جالس في الحجر وعنده أسقف نجران- وكان صديقا له- وهو يحادثه ويقول: إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل هذا [البلد] [ (4) ] مولده، من صفته كذا وكذا، وأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على بقية الحديث، فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه فقال: هو هذا! ما هذا منك؟ قال: ابني، قال الأسقف: لا، ما نجد أباه حيا، قال عبد المطلب:
هو ابن ابني، وقد مات أبوه وأمّه حبلى [به] [ (5) ] ، قال: صدقت، فقال عبد المطلب [لبنيه] [ (5) ] : تحفظوا بابن أخيكم، ألا تسمعون ما يقال فيه [ (6) ] ؟
قال: فحدثني موسى بن شيبة عن خارجة، بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك عن أبيه قال: حدثني شيوخ من قومي أنهم خرجوا عمارا وعبد المطلب يومئذ حي
__________
[ (1) ] القافّة: جمع قافّ، وهو الّذي يقتفي الأثر.
[ (2) ] الضئضئ: الأصل والمعدن، أو كثرة النسل وبركته. (ترتيب القاموس) : 3/ 3.
[ (3) ] جزء من الحديث رقم (92) من (دلائل أبي نعيم) : 1/ 165.
[ (4) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 165، حديث رقم (100) ، وهو بإسناد الحديث رقم (99) .

(4/97)


بمكة، ومعهم رجل من يهود تيماء [ (1) ] صحبهم للتجارة يريد مكة أو اليمن، فنظر إلى عبد المطلب فقال: إنا نجد في كتابنا الّذي لم يبدّل أنه يخرج من ضئضئي هذا نبي يقتلنا وقومه قتل عاد [ (2) ] .
ولأبي داود من حديث إسرائيل عن سماك بن [حرب] عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتى نفر من قريش امرأة كاهنة فقالوا: أخبرينا بأقربنا شبها من صاحب هذا المقام، قالت إن جردتم على السّهلة عباءة ومشيتم عليها، أنبئكم بأقربكم شبها، فجردوا عليها عباءة ثم مشوا عليها، فرأت أثر قدم محمد صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: هذا واللَّه أقربكم شبها به.
قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة، ثم بعث محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، قلت: ويؤيد هذا
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: ورأيت إبراهيم فإذا أقربكم شبها به أنا.
وذكر هشام بن الكلبي أن الّذي نظر قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: هذه القدم من تلك القدم التي في المقام- يعني قدم إبراهيم عليه السلام- هو كرز بن علقمة ابن هلال [ (3) ] ، الّذي قفا أثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبي بكر حين خرجا إلى الغار.
__________
[ (1) ] تيماء: قرية في أطراف بلاد الشام بين الشام ووادي القرى.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 165- 166، حديث رقم (101) ، وهو من طريق الواقدي وهو متروك، وفيه أيضا موسى بن شيبة لين الحديث.
[ (3) ] هو كرز بن علقمة بن هلال بن جريبة بن عبد نهم بن حليل بن حبشيّة بن سلول الخزاعي. أسلم يوم الفتح، وعمّر طويلا، وعمي في آخر عمره، وكان ممن جدّد أنصاب الحرم في زمن معاوية، فهي إلى اليوم. وذكر ابن الكلبي هذه القصة فقال: عمي على الناس بعض أعلام الحرم، وكتب مروان إلى معاوية بذلك، فكتب إليه: إن كان كرز حيا فله أن يقيمك على معالم الحرم، ففعل.
وقال أبو سعد في (شرف المصطفى) : أن المشركين كانوا استأجروه لما خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مهاجرا، فقفى أثره حتى انتهى إلى غار ثور، فرأى نسج العنكبوت على باب الغار، فقال: إلى هنا انتهى أثره، ثم لا أدري أخذ يمينا أو شمالا أو صعد الجبل.
وهو الّذي قال حين نظر إلى قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هذه القدم من تلك القدم التي في المقام. (الإصابة) :
/ 583- 584، ترجمة كرز بن علقمة بن هلال، رقم (7402) .

(4/98)


وأما رؤية عمه أبي طالب منذ كفله ومعرفته بنبوته
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة عن سليمان بن سحيم عن نافع بن جبير قال: سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: نعم وأنا ابن ثماني سنين [ (1) ] .
قالوا: فلما توفي عبد المطلب ضم أبو طالب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليه وهو يومئذ ابن ثماني سنين، وكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان له قطيعة من إبل تكون بعرنة [ (2) ] فيبدو إليها، فيكون [ينشأ فيها] [ (3) ] ويؤتي بلبنها إذا كان حاضرا بمكة.
وكان أبو طالب قد رق عليه وأحبه، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شبعوا، وكان إذا أراد أن يعشّيهم أو يغدّيهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيأكل معهم، وكانوا يفضلون من طعامهم.
وإن كان لبنا شرب رسول اللَّه أولهم، ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه، فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا وحده، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك، وكان الصبيان يصبحون شعثا رمصا، ويصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دهينا كحيلا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 161، حديث رقم (103) حديث مرسل، وهو من رواية الواقدي، وهو متروك.
[ (2) ] عرنة: وادي عرفة، والفقهاء يقولون: عرنة بضم الراء، وذلك خطأ. (معجم ما استعجم) :
2/ 935.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 166- 167، حديث رقم (104) ، وهو بإسناد الحديث رقم

(4/99)


قال: فحدثني على بن عمر بن [ (1) ] الحسين عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية، عن عقيل بن أبي طالب قال: سمعته يقول: كنا إذا أصبحنا وليس عندنا طعام لصبوحنا يقول أبو طالب: [أي بني] [ (2) ] ائتوا زمزم، [فنأتي زمزم] [ (2) ] فنشرب منها فنجتزئ به [ (3) ] .
قال: فحدثني محمد بن الحسن بن أسامة بن زيد عن أهله عن أم أيمن قالت:
ما رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شكا جوعا قط ولا عطشا، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغداء
فيقول: لا أريد، أنا شبعان [ (4) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث الحسين بن سفيان قال: حدثنا زهير بن سلام قال:
قال عمرو بن محمد: حدثنا طلحة بن عمرو بن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في حجر أبي طالب بعد جده عبد المطلب فيصبح ولد عبد المطلب غمصا [ (5) ] ويصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دهينا صقيلا [ (6) ] .
قال أبو نعيم: ورواه محمد بن حميد عن سلمة بن الفضل عن طلحة مثله، وبسند الحسن بن سفيان المذكور عن ابن عباس أن أبا طالب كان يقرب للصبيان يصبحهم فيضعون أيديهم فينتهبون، ويكف محمد صلّى اللَّه عليه وسلم يده، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه.
__________
[ () ] (99) ، (طبقات ابن سعد) : 1/ 119، باب ذكر أبي طالب وضمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليه، وخروجه معه إلى الشام في المرة الأولى، (الخصائص الكبرى) : 1/ 205، وقال: أخرجه ابن سعد وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس، ومن طريق مجاهد وغيره، [قال: وحدثنا محمد ابن صالح، وعبد اللَّه بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، دخل بعضهم في حديث بعض، قالوا: لما توفي عبد المطلب ... ] وذكر الحديث باختلاف يسير.
[ (1) ] في (خ) : «عمر بن علي بن الحسين» ، «عن ابن الحنفية» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 167، حديث رقم (105) وسنده كالحديث رقم (99) .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 167، حديث رقم (106) ، وهو من طريق الواقدي.
[ (5) ] الغمص في العين: ما سال منها من رمص.
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 167، حديث رقم (107) ، وهو من طريق طلحة بن عمرو، متروك، (طبقات ابن سعد) : 1/ 119.

(4/100)


وروى أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال يوما لعمه أبي طالب: إني أرى في المنام رجلا يأتيني معه رجلان فيقولان: هو هو، وإذا بلغ فشأنك به والرجل لا يتكلم، فوصف أبو طالب مقالته هذه لبعض أهل العلم، فلما نظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: هذه الروح الطيبة، هذا واللَّه النبي المنتظر؟
فقال أبو طالب: فأكتم على ابن أخي لا تغري به قومه، فو اللَّه إن قلت ما قلت، لعلّي ما قلت، ولقد أنبأني عبد المطلب أنه النبي المبعوث، وأمرني أن أستر ذلك كيلا تغرى به الأعادي.

(4/101)


وأما تظليل الغمام له في صغره واعتراف بحيرى ونسطورا بنبوته
فقد أوردت ذلك بطرقه في ذكر الأماكن التي حلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. قال الحافظ أبو نعيم: وما تضمن هذا الفصل من أحواله صلّى اللَّه عليه وسلم حين تزوجت آمنة وحملها به، ووضعها له [ (1) ] ، واسترضاعه وحضانته [ (2) ] هي وحليمة ظئره إلى أن بلغ خمسا وعشرين سنة، المقرونة بالآيات دالة على نبوته صلّى اللَّه عليه وسلم، لخروجها عن التعارف والمعتاد، مع توسّم أهل الكتاب وغيرهم الأمارات التي دوّنت في الكتب المتقدمة والأخبار السالفة بالبشارات به وترقبهم لمبعثه ومخرجه، علامات ودلائل لمن منّ اللَّه عليه بالإيمان، وصار به موقنا، ولنبوته محققا صلّى اللَّه عليه وسلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وحملها ووضعها به» ، وما أثبتناه من (خ) ، وهو أجود للسياق.
[ (2) ] في المرجع السابق: «وحضانة حليمة ظئره» .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 174.

(4/102)