إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع

[المجلد الخامس]
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

فصل جامع في معجزات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على سبيل التفصيل
[ (1) ]

أولا: إبطال الكهانة
[ (1) ]] فأما إبطال اللَّه تعالى الكهانة بمبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى انقطعت بعد ما كانت ظاهرة موجودة، قال ابن سيده: كهن له يكهن، وكهن كهانة، وتكهن تكهينا وتكهّنا: قضى له بالغيب، ورجل كاهن من قوم كهنة وكهان، وحرفته الكهانة.
واعلم أن الكهانة من خواص النفس الإنسانية، وذلك أن للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها، وأعلا هذا الانسلاخ صنف الأنبياء، فإنّهم فطروا على ذلك، فيحصل لهم من غير اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك، ولا من التصورات، ولا من الأفعال البدنية، ولا بأمر من الأمور، إنما هو انسلاخ من البشرية إلى [الملائكية] [ (2) ] بالفطرة الإلهية في لحظة أقرب من لمح البصر، فاقتضت القسمة العقلية حركتها الفكرية بالإرادة، عند ما يتبعها النزوع لذلك، وهي ناقصة عن إدراك الأنبياء بالجبلة، وعند ما يعوقها العجز عن ذلك، فإنّها تتشبث بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة تنظر فيها، كالأجسام الشفافة، وعظام الحيوان، وتتكلم بالسجع، أو ترى ما ينسلخ من طير أو حيوان، فلا تزال تستعين بذلك في الانسلاخ الّذي تقصده، فيكون كالمشيع له..، وهذه القوة التي في هذا الصنف مبدأ لذلك الإرادي، هي الكهانة.
ولما كانت هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال، كان إدراكها في الجزئيات أكثر من الكليات، وصارت متشبثة بها، غافلة عن الكليات، ولذلك تكون القوة المتخيلة فيهم في غاية القوة، لأنها آلة الجزئيات فتنفذ فيها نفوذا
__________
[ (1) ] هذه العناوين ليست في (خ) .
[ (2) ] زيادة للسياق.

(5/3)


تاما، إما في النوم أو في اليقظة، وتكون عندها أبدا حاضرة تحضرها المتخيلة حضورا يكون لها كالمرآة ينظر فيها دائما، ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات، لأن ما يوحى إليه من الشياطين.
وأرفع أحوال الكهان من يستعين بالكلام المسجوع الموزون، ليشتغل به عن الحواس، ويقوى على ذلك الاتصال الناقص، فيهجس في قلبه عن تلك الحركة، والّذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذفه على لسانه، فربما صدق ووافق الحق، وربما كذب، لأنه يتمم نقصه بأمر أجنبي عن ذاته المدركة، ومباين لها غير ملائم، فيعرض له الصدق والكذب جميعا، ويكون غير موثوق به جميعا، وربما فزع إلى الظنون والتخمينات، حرصا منه على الظفر بالإدراك، وتمويها على السائلين له.
وأصحاب السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات، فإن خفة المعين تدل على قرب ذلك الاتصال والإدراك، كما أن البعد فيه عجز ما، وإذا تقرر ذلك فنقول: قال اللَّه جل جلاله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً* وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً* وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً* وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً* وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً* وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً* وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [ (1) ] .
[ومعنى] هذه الآيات: قل يا محمد لأمتك: أوحى اللَّه إليّ على لسان جبريل، أنه استمع إليّ نفر من الجن- والنفر: الرهط كالحليل ما بين ثلاثة إلى عشرة- فقالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا، أي في فصاحته، وقيل عجبا في بلاغة مواعظه، وقيل: عجبا في عظيم بركته، وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله، يهدي
__________
[ (1) ] الجن: 1- 10.

(5/4)


إلى الرشد، أي إلى مراشد الأمور، وقيل: إلى معرفة اللَّه، فآمنا به أي فاهتدينا به، وصدقنا أنه الّذي من عند اللَّه، ولن نشرك بربنا أحدا، أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه، لأنه الّذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر [لما] [ (1) ] رمى الجن بالشهب.
وقيل: لا نتخذ مع اللَّه إلها آخر لأنه المنفرد بالربوبية، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا، أي عظمته وجلاله. قاله عكرمة ومجاهد وقتادة، وعن مجاهد أيضا ذكره.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا عنهم. وقال أبو عبيد: أي ذي الغناء منك الغنى. وقال ابن عباس: قدرته. وقال الضحاك: فعله. وقال القرطبي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيد والأخفش: ملكه وسلطانه. وقال السّدي: أمره. وقال سعيد بن جبير: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي تعالى ربنا. وقيل غير ذلك.
ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة أو ولدا للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما، فإن الرب يتعالى عن ذلك، كما يتعالى عن الأنداد والنظراء وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي إبليس. قاله مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة ابن أبي موسى عن [أبيه] [ (1) ] ، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقيل: سفيهنا: المشركون من الجن، والشّطط والاشتطاط: الغلو في الكفر. وقيل: الجور. وقيل: هو الكذب وَأَنَّا ظَنَنَّا أي حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على اللَّه كذبا، فلذلك صدقناهم أن للَّه صاحبة وولدا، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق، وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ أي أن [الرجل] [ (1) ] كان إذا نزل بواد قال:
أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، وكان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء اللَّه بالإسلام تعوذوا باللَّه وتركوهم، فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي إثما، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث اللَّه رسولا إلى خلقه، يقيم به الحجة عليهم، وكان هذا هو توكيد الحجة على قريش، أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد فأنتم أحق بذلك، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا، فوجدناها قد ملئت حرسا
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.

(5/5)


شديدا أي حفظة، يعني الملائكة، وشهبا جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عند استراق السمع، وشديدا: من نعت الحرس، أي ملئت ملائكة شدادا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ أي من السماء، مقاعد أي مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة، فحرسها اللَّه حين بعث رسوله محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم بالشهب المحرقة، فقالت الجن حينئذ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، يعني بالشهاب: الكوكب المحرق.
وقيل لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو آية من آياته، وأنه كان من مبعثه أن رأت قريش النجوم يرمى بها في السماع عشرين يوما، وقد اختلف السلف: هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث؟ أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟ وقيل: كان ذلك قبل المبعث، وإنما زادت بمبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إنذارا بحاله، وهو معنى قوله تعالى: [مُلِئَتْ] [ (1) ] أي زيد في حرسها، وهو قول الأكثرين، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي هذا الحرس الّذي حرست به لشر أريد بأهل الأرض أم أراد بهذا ربهم بهم رشدا؟
أي خيرا.
أخرج البخاري في التفسير من حديث سفيان، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة رضي اللَّه عنه قال: إن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إذا قضى اللَّه الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه [ (2) ] فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال يوم كذا وكذا وكذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة
__________
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] في (خ) : «بعضهم» .

(5/6)


التي سمع [ (1) ] من السماء [ (2) ] .
وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [ (3) ] وقال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [ (4) ] ، وقال: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ* وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ* إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [ (5) ] .
وخرج عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه! إن الكهان قد كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده [ (6) ] حقا، قال: تلك الكلمة الحق [ (7) ] يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ويزيد [ (8) ] فيها أكثر من مائة كذبة. خرجه مسلم [ (9) ] عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق، وخرجه البخاري [ (10) ] من وجه آخر عن معمر.
وقال الأوزاعي: حدثني ابن شهاب عن علي بن حسين، عن عباس رضي اللَّه عنه قال: حدثني رجال من الأنصار أنهم بيناهم جلوس مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما كنتم تقولون في الجاهلية إذ
__________
[ (1) ] (خ) : «سمعت» .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 689- 690، كتاب التفسير، باب (1) حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، حديث رقم (4800) .
[ (3) ] الصافات: 6- 10.
[ (4) ] الملك: 5.
[ (5) ] الحجر: 16- 18.
[ (6) ] (خ) : «فيكون» وهي رواية البخاري.
[ (7) ] (خ) : «من الحق» وهي رواية البخاري.
[ (8) ] في (خ) : «فيزيد» وهي رواية البخاري.
[ (9) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 475، كتاب السلام، باب (35) تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2228) .
[ (10) ] (فتح الباري) : 10/ 266، كتاب الطب، باب (46) الكهانة، حديث رقم (5762) .

(5/7)


رمي بمثل هذا؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم، ومات الليلة رجل عظيم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فإنّها [ (1) ] لا يرمي بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا عز وجل [ (2) ] إذا قضى أمرا سبحت [ (3) ] حملة العرش، ثم سبحت [ (3) ] أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا، ثم يقول الذين يلون حملة العرش [لحملة العرش:] [ (4) ] ماذا قال ربكم، [فيخبرونهم ماذا قال] [ (4) ] فيستخبر أهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، فيخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو الحق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون.
وفي رواية يونس بن يزيد عن الزهري: ولكنهم يرقون فيه ويزيدون. أخرجه مسلم من حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي [ (5) ] .
ورواه محمد بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين عن علي، عن عبد اللَّه بن عباس عن نفر من الأنصار، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال لهم: ما كنتم تقولون في هذا النجم الّذي يرمي به؟ قالوا: يا رسول اللَّه كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك ملّك ملك، ولد مولود مات مولود، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليس ذلك لذلك، ولكن اللَّه تبارك وتعالى، كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا، فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، ولا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا.
ثم يقول بعضهم لبعض: مم سبحتهم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم، فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك حتى
__________
[ (1) ] في (خ) : «فإنّه» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (مسلم) : «ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (مسلم) : «سبّح» .
[ (4) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 476- 477، كتاب السلام، باب (35) تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2229) وأخرجه الترمذي في صحيحه، في تفسير سورة سبإ، والإمام أحمد في (المسند) : 1/ 360، حديث رقم (1886) .

(5/8)


ينتهوا إلى حملة العرش، فيقولون لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى اللَّه في خلقه كذا وكذا- للأمر الّذي كان- فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثوا به فيسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض فيحدثوهم فيخطئوا ويصيبوا، فيتحدث به الكهان فيصيبوا بعضا ويخطئوا بعضا، ثم إن اللَّه حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقطعت الكهانة اليوم ولا كهانة [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن أبي جعفر، عن محمد بن عبد الرحمن ابن لبينة، عن علي بن الحسين، بمثل حديث شهاب عنه، وقد روى هذا الحديث [عبد] الرزاق عن معمر عن الزهري وقال في آخره: قال: فقلت للزهري:
أو كان يرمى به في الجاهلية؟ فقال: نعم، قلت: يقول اللَّه تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً، قال: غلّظت واشتد أمرها حين بعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
قال البيهقي: وهذا يوافق ظاهر الكتاب لأنه قال خبرا عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، فأخبرت الجن أنه زيد في حراس السماء وشهبها، حتى امتلأت منها، وفي ذلك دليل على أنه كان قبل ذلك فيها حراس وشهب معدة معهم، والشهاب في (لسان العرب) [ (2) ] النار المتوقدة.
ثم ذكر الحديث البخاري ومسلم والترمذي، من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على الجن ولا رآهم [ (3) ] ، انطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 235- 236، باب بيان الوجه الّذي كان يخرج قول الكهان عليه حقا، ثم بيان أن ذلك انقطع بظهور نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أو انقطع أكثره.
[ (2) ] (لسان العرب) : 1/ 510.
[ (3) ] قال النووي: لكن ابن مسعود أثبت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قرأ على الجن: فكأن ذلك كان مقدما على نفي ابن عباس، وقد أشار إلى ذلك مسلم، فأخرج في (الصحيح) في كتاب الصلاة، حديث رقم (450) عقب حديث ابن عباس
هذا حديث ابن مسعود عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: أتاني داعي الجن فانطلقت معه فقرأت عليه القرآن.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بالتعدد. قال العلماء هما قضيتان، وحديث ابن عباس في أول الأمر، وأول النبوة، ثم أتوا وسمعوا قُلْ أُوحِيَ.

(5/9)


عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، فقال: ما حال بيننا وبين خبر السماء إلا من [شيء] [ (1) ] حدث، فاضربوا مشارق الأرض، ومغاربها، فانظروا ما هذا الّذي حال بينكم وبين خبر السماء، قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الّذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو بنخلة، عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا واللَّه الّذي حال بينكم وبين خبر السماء، قال: فهنا لك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، فأنزل اللَّه على نبيه:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [ (2) ] ، [وإنما أوحي إليه قول الجن] [ (3) ] . هذه سياقة الترمذي، وقال: حسن صحيح. قال البيهقي: فقد ذكرنا أن ذلك في أول ما علموا به.
وأما قولهم حيل بيننا وبين خبر السماء، فإنما أرادوا بما زيد في الحرّاس والشهب، واستدل لذلك بحديث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو عن أبيه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنّ الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء فيستمعون الكلمة من الوحي فيهبطون بها إلى الأرض، فيزيدون معها تسعا، فيجد أهل الأرض تلك الكلمة حقا والتسع باطلا، فلم يزالوا بذلك حتى بعث اللَّه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (جامع الأصول) .
[ (2) ] الجن: 1- 2.
[ (3) ] قال الحافظ: هذه الزيادة من كلام ابن عباس، كأنه يقرر فيه ما ذهب إليه أولا: أنه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يجتمع بهم، وإنما أوحى اللَّه إليه بأنهم استمعوا، ومثله قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف: 49] ، ولكن لا يلزم من عدم ذكر اجتماعه بهم حين استمعوا، أن لا يكون اجتمع بهم بعد ذلك.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة الجن، وفي صفة الصلاة، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر، ومسلم في الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة الجن، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 225- 226، 239، والإمام أحمد في (المسند) : 1/ 417، حديث رقم (2271) ، من مسند عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تعالى عنه.

(5/10)


محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، فمنعوا تلك المقاعد، فذكروا ذلك لإبليس فقال: لقد حدث في الأرض حدث، فبعثهم فوجدوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يتلو القرآن بين جبلي نخل، قالوا:
هذا واللَّه الحدث، وإنهم ليرمون، فإذا توارى النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبدا ولكنه لا يقتله، يحرق وجهه، جنبه، يده [ (1) ] .
وخرجه الترمذي من حديث إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فذكره بمعناه ثم قال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
واستدل البيهقي أيضا بحديث آدم بن أبي إياس قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [ (3) ] ، قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة عل الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير، ثم يقول: يكون العام كذا، ويكون [كذا] [ (4) ] ، فتسمعه الجن فيخبرون الكهنة به، والكهنة [يقولون للناس] [ (5) ] :
يكون كذا [و] [ (4) ] كذا فيجدونه كذلك، فلما بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم دحروا، فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم شاة، حتى أسرعوا في أمواله، فقالت ثقيف- وكانت أعقل العرب-: أيها الناس، أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، وإن هذا ليس بانتثار ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي؟ والشمس والقمر والليل والنهار، قال:
فقال إبليس: لقد حدث اليوم في الأرض حدث، فأتوني من تربة كل أرض،
__________
[ (1) ] (دلائل النبوة للبيهقي) : 2/ 239- 240، وقال في هامشه: أخرجه أحمد في (المسند) ، ونقله ابن كثير في (البداية والنهاية) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 398، كتاب تفسير القرآن، حديث رقم (3324) ، وأخرجه أيضا النسائي في (الكبرى) ، في التفسير.
[ (3) ] سبأ: 33.
[ (4) ] زيادة للسياق من (البيهقي) .
[ (5) ] زيادة للبيان.

(5/11)


فأتوه بها، فجعل يشمها، فلما شم تربة مكة قال: من هاهنا جاء الحدث، فنصتوا فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد بعث [ (1) ] .
وقال محمد بن إسحاق: وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا تلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه اللَّه، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها، فلما تقارب أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر اللَّه في العباد، يقول اللَّه تعالى لنبيه- حين بعثه وهو يقص عليه خبر الجن إذ حجبوا عن السمع فعرفوا ما عرفوا وما أنكروا من ذلك حين رأوا ما رأوا- قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ... فذكر الآيات، فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك، لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللَّه فيه لوقوع الحجة وقطع التهمة، فآمنوا وصدقوا، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا: يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ [ (2) ] الآية.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدّث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها هذا الحي من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية- أحد بني علاج- قال: وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا، فقالوا له: يا عمرو! ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي [يهتدى] [ (3) ] بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو واللَّه طيّ الدنيا وهلاكها، وهلاك هذا الخلق الّذي فيها،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 240- 241.
[ (2) ] الأحقاف: 30.
[ (3) ] زيادة للسياق.

(5/12)


وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد اللَّه به الخلق [ (1) ] .
وخرج البيهقي من طريق سعيد بن منصور قال: حدثنا خالد عن حصين عن عامر الشعبي قال: كانت النجوم لا ترمى حتى بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، فرمي بها فسيبوا أنعامهم، وأعتقوا رقيقهم، فقال عبد يا ليل: انظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو من أمر حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف، قال: فأمسكوا ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [ (2) ] .
وخرّج من حديث عطية بن سعد العوفيّ، عن ابن عباس قال: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، وكانوا يقعدون منها مقاعد للسمع، فلما بعث اللَّه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم حرست السماء حرسا شديدا، ورجمت الشياطين فأنكروا ذلك وقالوا: لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [ (3) ] .
فقال إبليس لقد حدث في الأرض حدث [ (4) ] ، واجتمعت إليه الجن فقال:
تفرقوا في الأرض فأخبروني ما هذا الخبر الّذي حدث في السماء؟.
وكان أول بعث بعث ركب أهل نصيبين، وهم أشراف الجن وسادتهم، فبعثهم إلى تهامة، واندفعوا حتى بلغوا الوادي- وادي نخلة- فوجدوا نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة، فاستمعوا، فلما سمعوه يتلو القرآن قالوا: أنصتوا- ولم يكن نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن- فلما قضى، يقول:
فلما فرغ من الصلاة ولّوا إلى قومهم منذرين، يقول: مؤمنين [ (4) ] .
وقال عكرمة رحمه اللَّه: والسورة التي كان يقرأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... ، قال البيهقي: فهذا يوافق الحديث الثابت عن أبي اليسر عن
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 241.
[ (3) ] الجن: 10.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 241- 242.

(5/13)


سعيد بن جبير، عن ابن عباس، إلا أن فيه زيادة ينفرد بها عطية العوفيّ، وهي قوله: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد.
وروى ذلك عن غير ابن عباس، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنها لم تكن تحرس الحراسة الشديدة حتى بعث نبينا صلّى اللَّه عليه وسلم، فملئت حرسا شديدا وشهبا [ (1) ] .
وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولكنه لم يكن مثله في شدة الحراسة بعد مبعثه، وكانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث صلّى اللَّه عليه وسلم منعت من ذلك أصلا، وعلى هذا وجدنا الشعر القديم قاله بشر بن أبي حازم- وهو جاهلي-:
والعير يرهقها الغبار وحجبها ... ينقضّ خلفهما كانقضاض الكوكب
وقال أويس بن حجر- وهو جاهلي-:
فانقض كالدرى يتبعه ... نقع بنور يخالطه طيبا
وقال عوف بن الجزع- وهو جاهلي-:
يرد علينا العير من دون الغدا ... والنور كالدري يتبعه الدم
وفي أيدي الناس كتب من كتب الأعاجم وسيرهم تنبئ عن انقضاض النجوم في كل عصر وكل زمان.
وقال السهيليّ: وإن وجد اليوم كاهن ولا يدفع ذلك بما أخبره اللَّه تعالى من طرد الشياطين عن استراق السمع، فإن التغليظ والتشديد كان في زمن النبوة، ثم بقيت منه- أعني استراق السمع- بقايا يسيرة، بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وفي بعض البلاد.
وقد سئل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الكهان فقال: ليسوا بشيء، فقيل: إنهم يتكلمون بالكلمة فيكون كما قالوا: فقال: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة- بالدال- والزجاجة بالزاي أولى لما ثبت في الصحيح: فيقرها في أذن وليه
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 242.

(5/14)


كما تقر القارورة،
ومعنى يقرها، يصيبها ويفرغها. قال الراجز:
لا تقرعن في أذني بعدها ... ما يستقر فأريك فقدها
وفي تفسير ابن سلام عن ابن عباس قال: إذا رأى الشهاب الجنّيّ لم يخطئه ويحرق ما أصاب ولا يقتله. وعن الحسن: يقتله في أسرع من طرفة العين.
قال: والّذي انقطع اليوم وإلى يوم القيامة: أن تدرك الشياطين ما كانت تدركه في الجاهلية الجهلاء، وعند تمكنها من سماع أخبار السماء، وما يوجد اليوم من كلام الجن على ألسنة المجانين، إنما هو خبر منهم عما يرونه في الأرض مما لا نراه نحن، كسرقة سارق أو خبيئة في مكان خفي أو نحو ذلك، وإن أخبر أنما سيكون، كان [تخرصا] [ (1) ] وتظنينا، فيصيبون قليلا ويخطئون كثيرا.
وذلك القليل الّذي يصيبون فيه هو مما تتكلم به الملائكة في العنان، كما في حديث البخاري، فيطردون بالنجوم، فيضيفون إلى الكلمة الواحدة أكثر من مائة كذبة، - كما قال صلّى اللَّه عليه وسلم في الحديث-.
فإن قيل: قد كان صاف بن صياد، وكان يتكهن ويدعي النبوة، وخبأ له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خبيئا فعلمه، وهو الدخان، فقال: الدّخ، فأين انقطاع الكهانة في ذلك الزمان؟ قلنا: عن هذا جوابان.
أحدهما: ذكره الخطابي في أعلام الحديث، قال: الدخ نبات يكون بين النخل، وخبّأ له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [ (2) ] ، فعلى هذا لم يصب ما خبّأ له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
الثاني: أن شيطانه كان يأتيه بخبر السماء لمكان القذف والرجم، فإن كان أراد بالدخ الدخان، فليس هذا من أخبار السماء، إذ يمكن أن يكون قرب من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين ذكر الآية سرا، فسمع منها ذكر الدخان بقوة جعلت في أسماعهم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الدخان: 10.

(5/15)


ليست لنا، فألقى الكلمة على لسان صاف وحدها، إذ لم يمكن للجني سماع سائر الآية، ولذلك قال له صلّى اللَّه عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك، أي لن تعدو منزلتك من العجز عن علم الغيب، وإنما الّذي يمكن في حقه هذا القدر دون مزيد عليه. على هذا فسره الخطابي.

(5/16)


ثانيا: انشقاق القمر]
وأما انشقاق القمر، فإنه أول آيات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو غيظ لأهل الإلحاد، قال اللَّه تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [ (1) ] .
خرج عبد الرزاق من حديث ابن عيينة ومحمد بن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، شقة على أبي قيس وشقة على السويداء، فقالوا سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، يقول: كما رأيتم القمر منشقا فإن الّذي أخبركم عن اقتراب الساعة حق.
وقال وهب بن جرير عن شعبة عن الأعمش، عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما في قوله عزّ وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال:
قد كان ذلك على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، انشق فلقتين: فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد.
وقال هشيم: أخبرنا حصين عن جبير بن محمود بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وحديث انشقاق القمر رواه جماعة من الصحابة [منهم] : عبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عمر، وحذيفة رضي اللَّه عنهم، وعلى هذا جميع أئمة التفسير إلا ما روى عثمان بن عطية عن أبيه أنه قال: معناه:
سينشق القمر، وهو قول الحسن، وأهل العلم بالحديث والتفسير جميعهم على
__________
[ (1) ] القمر: 1- 2.

(5/17)


خلافه.
وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: انشقاقه: كسوفه على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وهذا خلاف لما في التنزيل، ولما جاءت به الأحاديث الصحيحة، ولو كان كسوفا لما قالت قريش: هذا سحر.
والأحاديث الصحيحة الثابتة بنقل الثقات ناطقة بأن هذه الآية قد مضت، ويؤيد ذلك قوله تعالى. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، فأتى بلفظ ماض، وحمل الماضي على المستقبل يحتاج إلى قرينة ودليل، فإنه لا يعدل عن ظاهر النص إلا بدليل.
وفي قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [ (1) ] دليل على أن انشقاق القمر وقع في هذه الدار، لأن انشقاقه في الآخرة لا يكون آية ومعجزة للعباد، لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولو كان قوله: انْشَقَّ، بمعنى سينشق، لكان معنى اقتربت: ستقترب، وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، ونبوته وزمانه من علامات اقتراب الساعة، ولا مدفع بعد ظاهر القرآن وثبوت الأحاديث بكونه وحصوله.
فإن قيل: لو انشق القمر لتواتر الخبر به، قلنا: هذه آية لتسليه، ولم تكن في مجلس غاص بأهله، بل جرى مع طائفة في جنح ليل ومعظم الناس نيام، والّذي شاهده من مشركي قريش عدد يمكن تواطؤهم مع كتمانه، أو أنهم اعتقدوا أنه تخييل، ومعظم الخلق في ذلك الوقت كانوا نياما، والقمر قد يعارضه غيم في بعض البلدان ولا يرى وهو في تلك الحالة، يرى في موضع آخر، كما يكون السحاب المطبق والمطر الوابل في بلد في يوم واحد، وفي ساعة واحدة، ولا يكون في بلد آخر.
قيل: هذا مما لا يلزم فيه نقل التواتر، ولا تقضي العادة والعرف فيه بوجوب التواتر، فهو كغيره من المعجزات ما عدا القرآن، ثم رب شيء ينتقل تواتره مدة ثم يندرس، ومع ذلك فقد روى هذه الآية من الصحابة الأعلام جماعة تقدم ذكرهم، ورواه عن كل واحد منهم عدد كثير.
__________
[ (1) ] القمر: 3.

(5/18)


وقد جاء القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام تكلم في المهد، والنصارى تنكر ذلك، فإذا قيل لنا: لو كان هذا حقا لتواتر الخبر به، قلنا: عدم التواتر في انشقاق القمر مثل ذلك، ومعنى اقتربت: دنت، والساعة: القيامة. قال الفراء:
فيه تقديم وتأخير تقديره: انشق القمر واقتربت الساعة. وقرأ بعضهم: اقتربت الساعة وقد انشق القمر، وهذا يؤيد قول الجمهور.
خرج البخاري في التفسير من حديث سعيد وسفيان عن الأعمش، عن إبراهيم عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول اللَّه: اشهدوا [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث شعبة عن الأعمش بهذا السند ولفظه: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلقتين فستر الجبل فلقة، [وكانت] [ (2) ] [فلقة] [ (3) ] فوق الجبل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اشهد [ (4) ] .
وخرجه من طرق، وفي بعضها فقال: [اشهد] [ (3) ] واشهدوا، وفي بعضها
عن عبد اللَّه بن مسعود قال: بينما نحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل وفلقة دونه، فقال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اشهدوا [ (5) ] .
وخرجه البخاري ولفظه: عن عبد اللَّه قال انشق القمر ونحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اشهدوا.
وخرج البخاري ومسلم من حديث سفيان ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه قال: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشقتين، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اشهدوا. ذكره
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 794، كتاب التفسير باب (1) وَانْشَقَّ الْقَمَرُ* وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، حديث رقم (4864) .
[ (2) ] في (خ) : «وصارت» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 150، كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (45) .
[ (5) ] المرجع السابق، حديث رقم (44) .

(5/19)


البخاري في المناقب [ (1) ] ، وذكره في التفسير أيضا، ولفظه: عن عبد اللَّه، انشق القمر ونحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فصار فرقتين فقال لنا اشهدوا [ (2) ] .
وخرج الحاكم هذا الحديث من طريق عبد الرزاق قال: حدثنا ابن عيينة، ومحمد ابن مسلم، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: رأيت القمر منشقا بشقين مرتين في مكة قبل مخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء فقالوا: سحر القمر فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، يقول: كما رأيتم القمر منشقا فإن الّذي أخبرتكم عن اقتراب الساعة حق. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما اتفقا على حديث أبي معمر عن عبد اللَّه مختصرا [ (3) ] .
وخرج أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق، عن عبد اللَّه قال:
انشق القمر على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، قال:
انتظروا ما يأتيكم به السّفار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال:
فجاء السّفار فقالوا كذلك.
ورواه هشيم عن مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد اللَّه قال: انشق القمر ونحن بمكة فقالت كفار قريش: سحر سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السّفار يأتوكم، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد من وجه من الوجوه إلا أخبروهم أنهم رأوا مثل ما رأوا.
ورواه عمرو بن أبي قبيس عن مغيرة مثله، وخرجه الحسن بن علي بن الوليد.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 5783، كتاب المناقب، باب (27) سؤال المشركين أن يريهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر، حديث رقم (3636) ، (3637) ، (3638) .
[ (2) ] المرجع السابق: 8/ 794، كتاب التفسير، حديث رقم (4865) .
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 512، كتاب التفسير، باب (54) تفسير سورة القمر، حديث رقم (3756/ 893) ، وزاد في آخره: وهذا حديث لا نستغني فيه عن متابعة الصحابة بعض لبعض، لمغايظة أهل الإلحاد، فإنه أول آيات الشريعة، فنظرت فإذا في الباب مما لم يخرجاه: عن عبد اللَّه ابن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو، وجبير بن مطعم، رضي اللَّه تعالى عنهم، ولم يخرجاه منها إلا من حديث أنس.

(5/20)


الفسوي فقال: حدثنا سعيد بن سليم، [حدثنا] هشيم عن مغيرة، عن الشعبي عن مسروق، عن عبد اللَّه قال: انشق القمر فرقتين ونحن بمكة، فقال كفار قريش:
هذا سحر سحركم ابن أبي كبشة، انظروا إلى السفّار، فإن كانوا قد رأوا ما رأيتم وإلا فإنه سحر سحركم، قال: فسئل السفار- وقدموا من غير وجه- فقالوا:
قد رأينا ما رأيتم.
وقال محمد بن إسحاق الثقفي: حدثنا قتيبة، أخبرنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: خمس قد مضين: الدخان، واللزام [ (1) ] ، والروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر.
وعن مسلم بن صبيح قال: سمعت مسروقا يقول: سمعت عبد اللَّه يقول:
خمس قد مضين: القمر، والبطشة، والروم، والدخان واللزام [ (2) ] .
وقال أسباط بن نصر عن سماك، عن إبراهيم عن الأسود، عن عبد اللَّه قال:
رأيت الجبل من فرج القمر حين انشق القمر.
وقال محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب، عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد اللَّه قال: انشق القمر فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر [ (3) ] .
وخرجه الحاكم بهذا السند، ولفظه: عبد اللَّه في قوله عزّ وجلّ: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال: رأيت القمر وقد انشق، فأبصرت الجبل من بين فرجتي القمر [ (3) ] ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [بهذه السياقة و] [ (4) ] بهذا اللفظ.
__________
[ (1) ] اللزام: العذاب اللازم. (لسان العرب) : 12/ 541، قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وقال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً [طه: 129، الفرقان: 77] .
[ (2) ] (الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) 3/ 148، حديث رقم (384) ، (الكشاف للزمخشري) : 3/ 430، عند تفسير سورة الدخان. وسياق بداية الفقرة مضطرب وقد صوبناه.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 512، تفسير سورة القمر، حديث رقم (3756/ 893) .
[ (4) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.

(5/21)


وقال المنصور بن المعتمر، عن يزيد بن وهب، عن عبد اللَّه بن مسعود قال:
رأيت القمر واللَّه منشقا فلقتين بينهما حراء.
وقال الليث بن سعد: حدثنا هشام بن سعيد، عن عتبة بن عبد اللَّه بن عتبة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الّذي [بمنى] ونحن بمكة [ (1) ] .
وخرج البخاري في التفسير من حديث يونس بن محمد قال: حدثنا شيبان عن قتادة، عن أنس رضي اللَّه عنه: سأل أهل مكة أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر [ (2) ] .
وخرجه مسلم بهذا السند، ولفظه: عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر [ (3) ] .
وخرجه في البعث، وخرجه في التفسير من حديث شعبة عن قتادة، عن أنس ابن مالك قال: انشق القمر فرقتين [ (4) ] .
وخرجه مسلم عن شعبة بمثله، وفي حديث أبي داود: انشق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (5) ] .
وخرج البخاري في المناقب [ (6) ] وفي التفسير [ (7) ] ، من حديث بكر بن مضر
__________
[ (1) ] قال الحاكم في (المستدرك) : 2/ 513: هذه الشواهد لحديث عبد اللَّه بن مسعود كلها صحيحة على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 794، حديث رقم (4867) في تفسير سورة القمر.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 151، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (2802) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 8/ 794، حديث رقم (4868) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 151، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (47) من أحاديث الباب.
[ (6) ] (فتح الباري) : 6/ 783، كتاب المناقب، باب (27) سؤال المشركين أن يريهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم آية، فأراهم انشقاق القمر، حديث رقم (3638) .
[ (7) ] (فتح الباري) : 8/ 794، كتاب التفسير، حديث رقم (4866) تفسير سورة القمر.

(5/22)


قال: حدثنا جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: إن القمر انشق في زمان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وخرجه مسلم بهذا السند وقال: على زمان رسول اللَّه [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاصي بن وائل، والعاصي بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير،
فقالوا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: إن كنت صادقا فشقّ القمر فرقتين: نصفا على أبي قبيس [ (2) ] ، ونصفا على قعيقعان [ (3) ] ، فقال لهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اللَّه عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس، ونصفا على قعيقعان، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ينادي: يا أبا سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، اشهدوا [ (4) ] !!.
وله من حديث إسماعيل بن أبي زياد، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول اللَّه؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة، فسيروا آية إن انتفعوا بها، فأخبرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام، فخرجوا ليلة أربعة عشر، فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا ونصفا على المروة، فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر، ثم مسحوا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 17/ 151، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (8) انشقاق القمر، حديث رقم (2803) .
[ (2) ] أبو قبيس: جبل بمكة.
[ (3) ] قعيقعان: جبل بالأهواز.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 279- 280، فصل فأما انشقاق القمر فكان بمكة لما افتتح المشركون أن يريهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (209) . ولم أجده عند غير أبي نعيم، وقال الحافظ في الفتح:
إسناده ضعيف.

(5/23)


أعينهم، ثم نظروا، فقالوا: يا محمد! ما هذا إلا سحر ذاهب، فأنزل اللَّه تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وله من حديث الزبير بن عدي، عن الضحاك عن ابن عباس قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن، فسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ربه عز وجل أن يريهم آية، فأراهم القمر قد انشق فصار قمرين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليهما، ثم غاب القمر فقالوا:
هذا سحر مستمر [ (1) ] .
وعن داود بن أبي هند عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال: قد مضى كان قبل الهجرة انشق حتى رآه الناس شقين [ (2) ] .
وخرج الترمذي من حديث شعبة عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: انفلق القمر على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اشهدوا. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وذكره في كتاب الفتن، وذكره أيضا في التفسير بهذا اللفظ وهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (3) ] .
وذكر بعده من حديث سليمان بن كثير عن حصين، عن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقال بعضهم: لئن كان سحرنا ما كان يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال أبو عيسى: وقد روى بعضهم
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 280، حديث رقم (210) ، ولم أجده عند غير أبي نعيم، وفيه بشر ابن الحسين، وهو متروك.
[ (2) ] في المرجع السابق عن عبد اللَّه بن مسعود: انشق القمر فرأيته فرقتين حديث رقم (207) ، قال الحافظ في الفتح: أخرجه الطبراني.
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 4/ 414، كتاب الفتن، باب (20) ما جاء في انشقاق القمر، حديث رقم (2182) ، وفي آخره: قال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن مسعود، وأنس، وجبير بن مطعم، وهذا حديث حسن صحيح.

(5/24)


هذا الحديث عن جبير بن مطعم نحوه [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وعبد الحميد ابن الحسن الهلالي، وخالد بن عبد اللَّه، وهمام بن يحيى، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي قالوا- كلهم عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال-:
خطبنا حذيفة بن اليمان رضي اللَّه عنه بالمدائن، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد أدنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق، فلما كانت الجمعة الثانية، انطلقت مع أبي إلى الجمعة، فحمد اللَّه وقال مثله وزاد:
إلا وإن السابق من سبق إلى الجنة. ورواه حماد بن زيد عن عطاء مثله.
وله من حديث وهب عن جرير قال: حدثنا شعبة، أخبرنا الأعمش عن مجاهد، عن عبد اللَّه بن عمرو في قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قال:
كان ذلك على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلقتين، فلقة دون الجبل، وفلقة وراء الجبل، وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اشهدوا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 370، كتاب التفسير، باب (54) ومن سورة القمر، حديث ابن مسعود رقم (3285) ، (3287) ، حديث أنس رقم (3286) ، وحديث ابن عمر رقم (3288) ، وحديث جبير بن مطعم رقم (3289) ، وقال أبو عيسى في آخره: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن حصين، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده جبير بن مطعم نحوه.
[ (2) ] (الصحيح المسند من دلائل النبوة) : 182، فصل (15) ومن دلائل النبوة انشقاق القمر.

(5/25)


[ثالثا: رد الشمس بعد غروبها]
وأما رد الشمس بعد غروبها بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقد روى من حديث أبي هريرة، وأسماء بنت عميس، وجابر بن عبد اللَّه، وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 185، (مشكل الآثار) : 4/ 388- 389.
* وفيه ما يدل على التغليظ في فوت العصر، فوقى اللَّه عليا ذلك بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لطاعته وكرامته لديه.
* وفيه لعلى المقدار الجليل والرتبة الرفيعة.
* وفيه إباحة النوم بعد العصر، وإن كان مكروها عن بعضهم بما
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: «من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه» ،
لأن هذا منقطع، وحديث أسماء متصل، ويمكن التوفيق بأن نفس النوم بعد العصر مذموم، وأما نوم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان لأجل وحي يوحى إليه، وليس غيره كمثله فيه.
والّذي يؤيد الكراهة قول عمرو بن العاص: النوم منه خرق، ومنه خلق، ومنه حمق، يعني الضحى، والقائلة، وعند حضور الصلوات، ولأن بعد العصر يكون انتشار الجن، وفي الرقدة يكون الغفلة.
وعن عثمان: الصبحة تمنع الرزق. وعن ابن الزبير أن الأرض تعجّ إلى ربها من نومة العلماء بالضحى، مخافة الغفلة عليهم، فندب اجتناب ما فيه الخوف، واللَّه أعلم. (المرجع السابق) .
قال بعض المحققين: هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج القاضي عياض له في (الشفاء) عن الطحاوي في (مشكل الآثار) من طريقين، فقد ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) :
1/ 355- 357، وقال إنه موضوع بلا شك، وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب، كما قال الدار الدّارقطنيّ. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث.
قال ابن الجوزي: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين، فذكره ثم قال: وهذا حديث باطل، قال:
ومن تغفل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة، ولم يلمح عدم الفائدة فيها، فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء.
وقد أفرد ابن تيمية تصنيفا مفردا في الرد على الروافض، ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله، وأنه موضوع، والعجب من القاضي عياض مع جلالة قدرة، وعلو خطره في علوم الحديث، كيف سكت عنه موهما صحته، ناقلا ثبوته، موثقا رجاله. وقال أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن

(5/26)


فأما حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه:
فمن طريق يحيى بن يزيد بن عبد الملك، عن أبيه عن داود بن فراهيج عن أبي هريرة، وعن عمارة بن فيروز، عن أبي هريرة، أنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنزل عليه حين انصرف من العصر- وعلي بن أبي طالب قريب منه، ولم يكن علي أدرك الصلاة- فاقترب عليّ إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلم يسرّ عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى غابت الشمس، فالتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: من هذا؟ فقال:
عليّ يا رسول اللَّه، أنا لم أصل العصر وقد غابت الشمس! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اللَّهمّ اردد الشمس على عليّ، فرجعت الشمس لموضعها الّذي كانت فيه حتى صلى علي رضي اللَّه عنه، وبعض أصحابه يمينا وشمالا يقولون: صل يا عليّ، فإنّ رحمك وقرابتك من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لن تغني عنك من اللَّه شيئا، فأخبر عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بذلك، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بين ظهرانيّ الناس فقال: من آذى ذوي رحم الرجل وقرابته فقد آذاه- مرارا يقولها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- ومن آذاني فقد آذى اللَّه عز وجل.
وأما حديث أسماء بنت عميس رضي اللَّه عنها فله طرق:
أحدها:
من طريق أحمد بن الوليد بن برد الأنطاكي، حدثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك قال: حدثني محمد بن موسى عن عون بن محمد، عن أمه أم جعفر، عن جدتها أسماء ابنة عميس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء ثم أنفذ عليا في حاجة، فرجع وقد صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم العصر، فوضع رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إن عبدك عليا احتسب بنفسه على نبيه، فردّ عليه شرقها، قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، فقام على فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس، وذلك في الصهباء في غزوة خيبر.
__________
[ () ] الجوزي فأورده في الموضوعات.
ولكن قد صححه الطحاوي والقاضي عياض، وأخرجه ابن مندة وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن مردويه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه.
ورواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن، كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب، عن أسماء بنت عميس (المواهب اللدنية) 2/ 528- 530 مختصرا.

(5/27)


[وثانيها] :
من طريق أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن أبي فديك قال: أخبرني محمد بن موسى، عن عون بن محمد، عن أمه أمّ جعفر، عن أسماء ابنة عميس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء، ثم أرسل عليا في حاجة، فرجع وقد صلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم العصر، فوضع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إن عبدك عليا احتسب بنفسه على نبيه، فردّ عليه شرقها، قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض فقام علي وتوضأ، فصلى العصر ثم غابت،
وذلك بالصهباء في غزوة خيبر، قال أحمد بن صالح: هذه دعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلا تستكثر، وهي فضيلة لعلي رضي اللَّه عنه.
[و] ثالثها:
من طريق عبد الرحمن بن شريك، حدثنا أبي حدثنا عروة بن عبد اللَّه بن قشيرة قال: دخلت على فاطمة ابنة علي الأكبر- وهي عجوز كبيرة- فرأيت في عنقها خرزات، وفي يدها مسكين غليظين، فقلت: ما هذا؟ فقالت:
إنا معشر النساء نكره أن نتشبه بالرجال، وقالت: حدثتني أسماء ابنة عميس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أوحي إليه فستره عليّ بثوبه حتى غابت الشمس، فلما سرّي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قال: يا علي! صليت العصر؟ قال: لا، قال: اللَّهمّ رد الشمس على عليّ، قالت: فرجعت الشمس حتى رأيتها في نصف الحجرة. أو قالت: نصف حجرتي.
[و] رابعها:
من طريق فضيل بن مرزوي عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن، عن فاطمة ابنة الحسن، عن أسماء ابنة عميس قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم [يصل] العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعليّ: صليت؟ قال: لا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إنه في طاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، قالت أسماء: فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.
وقال فضيل، عن إبراهيم ابن الحسن عن فاطمة عن أسماء: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يكاد [يغشى] عليه، فأنزل عليه يوما ورأسه في حجر علي حتى غابت الشمس، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم رأسه وهو في حجر علي فقال

(5/28)


له: صليت العصر يا عليّ؟ قال: لا يا رسول اللَّه، فدعى اللَّه فردّ عليه الشمس حتى صلى العصر، قالت: فرأيت الشمس بعد ما غربت حين ردّت حتى صلى العصر.
[و] خامسها:
من طريق صبّاح [ (1) ] المري، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن دينار، عن عبد اللَّه بن الحسن عن أمه فاطمة ابنة حسين، عن أسماء ابنة عميس قالت: اشتغل عليّ مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا عليّ! هل صليت العصر؟ قال: لا يا رسول اللَّه، قال: فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وجلس في المسجد، فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر، فقام عليّ فتوضأ وصلى العصر، ثم تكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت إلى مغربها، فسمعت لها صريرا كالمنشار في الخشبة، وطلعت الكواكب.
وقال صبّاح أيضا: عن عبد اللَّه بن الحسن بن جعفر، عن حسين المبتول عن فاطمة بنت على، عن أم الحسن بنت علي، عن أسماء بنت عميس قالت: لما كان يوم خيبر شغل عليّ بما كان من قسمة الغنائم حتى غابت الشمس أو كادت، فسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عليا: هل صليت العصر؟ قال: لا، فدعا اللَّه عزّ وجل فارتفعت حتى توسطت المسجد فصلى عليّ، فلما صلى غابت. قالت: فسمعت لها صريرا كصرير المنشار في الخشب.
وقال صبّاح [ (1) ] : عن أبي سلمة مولى آل عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، عن محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ، عن أمه أم جعفر بنت محمد، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: كانوا أقبلوا من ضيعة لهم حتى نزلوا إلى جبل، فقامت أسماء تصلي، فلما فرغت من صلاتها قالت: يا باي يا باي، قلت: يا جدة! لم تقولي يا باي وليس عندك أحد؟ قالت يا بنية ذكرت عليا، قلت: يا جدة، ما ذكرت من عليّ؟ مرتين أهلك فوجدت في نفسي إن ذكرت عليا وتركت أبي، قالت: شيء
__________
[ (1) ] لم أقف له على ذكر في كتب الرجال.

(5/29)


كان من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو في هذا المكان ومعه علي، إذ أغمي عليه فوضع رأسه في حجر عليّ، فلم يزل كذلك حتى غابت الشمس، ثم إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أفاق، فقعد فقال: يا علي! هل صليت؟ قال: لا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ إن عليا كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، قالت: فخرجت من تحت هذا الجبل كأنما خرجت من تحت سحابة، فقام علي فصلى، فلما فرغ آبت مكانها.
قال: فخرجت فلقيت أبا جعفر فذكرت ذلك له فقال: أنت سمعت هذا من أم جعفر؟ قلت نعم، فأخذ بيدي حتى استأذن عليها فقال: حدثيني الحديث الّذي حدثت هذا، فحدثته فخرج وهو مستبشر.
وأما حديث جابر: فمن طريق الوليد بن عبد الواحد، حدثنا معقل بن عبيد اللَّه عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللَّه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أمر الشمس أن تتأخر ساعة من النهار فتأخرت ساعة من النهار.
وأما حديث علي:
فمن طريق يحيى بن عبد اللَّه بن حسين بن حسن بن عليّ ابن أبي طالب قال: لما كنا بخيبر شهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قتال المشركين، فلما كان من الغد وكان مع صلاة العصر حمية، ولم أصل صلاة العصر، فوضع رأسه في حجري فنام فاستثقل، قال: فلم ينتبه حتى غربت الشمس، فلما استيقظ مع غروب الشمس قلت: يا رسول اللَّه! ما صليت صلاة العصر كراهية أن أوقظك من نومك، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده إلى اللَّه عزّ وجل ثم قال: اللَّهمّ إن عبدك تصدق بنفسه على نبيك، فاردد عليه شروقها، قال: فرأيتها على الحال في وقت العصر بيضاء نقية، حتى قمت ثم توضأت ثم صليت ثم غابت.
وقال إسحاق بن إبراهيم التيمي: حدثنا محل الضّبي عن إبراهيم النخعي، عن علقمة عن أبي ذر رضي اللَّه عنه قال: قال عليّ رضي اللَّه عنه يوم الشورى: أنشدتكم اللَّه هل فيكم من رفعت الشمس عندي حين نام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وجعل رأسه في حجري حتى غابت الشمس، فانتبه فقال: يا عليّ! صليت العصر؟
قلت: اللَّهمّ لا، فقال: اللَّهمّ ارددها عليه، فإنه كان في طاعتك وطاعة رسولك.
وأما ردها حين تبين لمكذبيه صدقه، فخرج البيهقي من طريق يونس بن بكير،

(5/30)


عن أسباط بن نصر الهمدانيّ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي قال: لما أسري برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة في العير قالوا: فمتى تجيء؟ قال:
يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم تجيء، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس.
فلم تردّ على أحد إلا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [يومئذ] [ (1) ] وعلى يوشع بن نون حين قاتل الجبارين يوم الجمعة، فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم، ويدخل السبت، ولا يحل له قتالهم فيه، فدعا اللَّه فردّ عليه الشمس حتى فرغ من قتالهم [ (2) ] .
قال الحاكم أبو عبد اللَّه الحافظ النيسابورىّ في كتاب (الجامع لذكر أئمة الأمصار المزكين لرواة الأخبار) : قرأت على قاضي القضاة أبي الحسن محمد بن صالح الهاشمي، حدثنا عبد اللَّه بن الحسين بن موسى، حدثنا عبد اللَّه بن علي المديني
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سنن البيهقي) .
[ (2) ] قال الحافظ ابن كثير: فيه أن هذا كان من خصائص يوشع، فيدل على ضعف الحديث الّذي رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى عليّ بن أبي طالب، وقد صححه أحمد بن صالح المصري، ولكنه منكر، ليس في شيء من الصحاح والحسان، وهو مما تتوافر الدواعي على نقله، وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت، مجهولة لا يعرف حالها. (المواهب اللدنية) : 2/ 530. وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 404، (السيرة الشامية) : 3/ 133.
ويحتمل الجمع: بأن المعنى لم تحبس الشمس على أحد من الأنبياء غيري إلا ليوشع. وكذا روى حبس الشمس لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم أيضا يوم الخندق، حين شغل عن صلاة العصر، فيكون حبس الشمس مخصوصا بنبينا وبيوشع، كما ذكره القاضي عياض في (الإكمال) ، وعزاه (لمشكل الآثار) ، ونقله النووي في (شرح مسلم) في باب حل الغنائم عن القاضي عياض، وكذا الحافظ ابن حجر في باب الأذان، في (تخريج أحاديث الرافعي) ، ومغلطاي في (الزهر الباسم) ، وأقروه.
وذكر البغوي في تفسيره: أنها حبست لسليمان عليه السلام أيضا لقوله: رُدُّوها عَلَيَّ [ص: 33] ، ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس في الآية، فالمراد: الصافنات الجياد. واللَّه تعالى أعلم.
قال القاضي عياض: واختلف في حبس الشمس المذكور هنا:
* فقيل: ردت على أدراجها.
* وقيل: وقفت ولم ترد.
* وقيل: بطء حركتها، قال: وكل ذلك من معجزات النبوة. (المواهب اللدنية) :
2/ 530- 531.

(5/31)


قال: سمعت أبي يقول: خمسة أحاديث يروونها ولا أصل لها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث: لو صدق السائل ما أفلح من ردّه [ (1) ] ، وحديث: لا وجع إلا وجع العين ولا غم إلا غم الدّين [ (2) ] ، وحديث: إن الشمس طلعت على عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه [ (3) ] ، وحديث:
أنه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: أنا أكرم على اللَّه من أن يدعني تحت الأرض مائتي عام [ (4) ] ،
وحديث: أفطر الحاجم والمحجوم [ (5) ] ...
__________
[ (1) ] روى كما قال ابن عبد البر في (الاستذكار) : من جهة جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده مرفوعا، ومن جهة يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رفعه أيضا: «لولا أن السؤال يكذبون ما أفلح من ردهم» . وحديث عائشة عند القضاعي بلفظ: «ما قدس» ، قال ابن عبد البر: وأسانيدها ليست بالقوية، وسبقه ابن المديني فأدرجه في خمسة أحاديث. قال إنه لا أصل لها، وكذا رواه العقيلي في (الضعفاء) من حديث عائشة وابن عمر، وقال: إنه لا يصح في هذا الباب شيء. وعند الطبراني بسند ضعيف أيضا، من حديث أبي أمامة مرفوعا: «لولا أن السائلين يكذبون ما أفلح من ردهم» ، (المقاصد الحسنة) : 547، (الفوائد المجموعة) : 64، حديث رقم (13) ، (الأسرار المرفوعة) : 289، حديث رقم (378) ، (الموضوعات لابن الجوزي) : 355، باب فضائل عليّ عليه السلام.
[ (2) ] البيهقي في (شعب الإيمان) ، والطبراني في (الصغير) ، من حديث سهل بن قرين عن أبيه، حدثنا ابن أبي ذئب، عن خالد بن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رفعه به.
وقال البيهقي: أنه منكر، وقرين- وهو بفتح القاف أو ضمها- منكر الحديث كذبه الأزدي، وأبوه لا شيء، (المقاصد الحسنة) : 728، حديث رقم (1316) ، (كشف الخفا) : 2/ 240، ترجمه سهل بن قرين رقم (3591) ، (الموضوعات لابن الجوزي) : 2/ 244، باب تعظيم أمر الدين، (الأسرار المرفوعة) : 386، حديث رقم (597) .
[ (3) ] قال الإمام أحمد: لا أصل له، وقال ابن الجوزي: موضوع، لكن خطّئوه، ومن ثم قال السيوطي:
أخرجه ابن مندة وابن شاهين، عن أسماء بنت عميس، وابن مندة وابن مردويه عن أبي هريرة، وإسنادهما حسن، وصححه الطحاوي والقاضي عياض. قال القاري: ولعل المنفي ردها بأمر على والمثبت بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، (كشف الخفا) : 1/ 220، حديث رقم (670) ، (الموضوعات لابن الجوزي) : 1/ 355- 356، (الأسرار المرفوعة) : 121، حديث رقم (77) ، (الفوائد المجموعة) : 350، حديث رقم (53) .
[ (4) ] (كشف الخفا) : 1/ 200، حديث رقم (608) ، قال الصّغاني: موضوع، ولفظه: «أنا أكرم على اللَّه من أن يتركني في التراب ألف عام» .
[ (5) ]
يروى كما علقه البخاري بصيغة التمريض عن الحسن: عن غير واحد مرفوعا، ثم قال: وقال لي عياش:
حدثنا عبد الأعلى، حدثنا يونس، عن الحسن مثله، فقيل له: عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم؟ قال: نعم ثم قال:
اللَّه أعلم.
وهذا بعينه قد رواه في تاريخه، ومن جهته البيهقي في سننه فقال: حدثني عياش ... وذكره،

(5/32)


[إنهما كانا يغتابان] [ (1) ] .
__________
[ () ] وبه يستدل على أن البخاري إذا قال: قال لي، يكون محمولا على السماع.
وللبيهقي أيضا، وكذا النسائي، من حديث علي بن المديني، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن غير واحد من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال- وذكره.
قال على بن المديني: رواه يونس عن الحسن، عن أبي هريرة، ورواه قتادة، عن الحسن، عن ثوبان، ورواه عطاء بن السائب، عن الحسن، عن معقل بن يسار، ورواه مطر، عن الحسن، عن علي.
قال البيهقي: ورواه أشعث عن الحسن عن أسامة.
وقال الحافظ ابن حجر: ورواه قتادة أيضا، عن الحسن، عن علي، أخرجه عبد الرزاق عن معمر عنه، ورواه أبو حرّة، عن الحسن، عن غير واحد من الصحابة، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وآخرون، كالحارث من حديث ثوبان وشداد مرفوعا في حديث.
وقال أحمد والبخاري: إنه عن ثوبان أصح. وصححه عن شداد إسحاق بن راهويه، وصححهما معا البخاري متبعا لابن المديني، ورواه الترمذي عن رافع بن خديج، ورواه غيرهم عن آخرين.
وتأوله بعض العلماء المرخصين في الحجامة على أن معناه: إن تعرضا للإفطار أما المحجوم فللضعف، وأما الحاجم فلأنه لا يأمن من أن يصل إلى جوفه شيء بالمص: ولكن جزم الشافعيّ في (الأم) بأنه منسوخ. (المقاصد الحسنة) : 131، حديث رقم (139) ، (فتح الباري) :
4/ 217- 218، كتاب الصوم، باب (32) الحجامة والقيء للصائم، (سنن الدارميّ) :
2/ 14، باب الحجامة تفطر الصائم، (تلخيص الحبير) : 2/ 205، باب ذكر الإشارة إلى طرق حديث أفطر الحاجم والمحجوم، (كشف الخفا) : 1/ 156، حديث رقم (461) ، (الأم للشافعي) : 2/ 93، (سنن أبي داود) : 2/ 770، كتاب الصوم، باب (28) في الصائم يحتجم، (صحيح سنن ابن ماجة) : 1/ 281، باب (18) ، حديث رقم (1361) ، (1362) ، (1363) ، (صحيح سنن الترمذي) : 1/ 234، باب (59) كراهية الحجامة للصائم، حديث رقم (621) ، (سنن البيهقي) : 4/ 264، كتاب الصوم باب الحديث الّذي روى في الحجامة. (المستدرك) : 1/ 428- 429، حديث رقم (1561/ 30) ، (1562/ 31) (1563/ 32) ، (1564/ 33) ، (1565/ 34) ، (1566/ 35) ، (1567/ 36) .
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) وليست في باقي المراجع.

(5/33)


[رابعا: انقياد الشجر]
وأما انقياد الشجر،
فخرج مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب ابن مجاهد أبي حزرة، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فذكر الحديث [ (1) ] إلى أن قال: عن جابر بن عبد اللَّه، وسرنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقضي حاجته، فاتبعته بأداوة من ماء، فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به، فإذا شجرتان [ (2) ] بشاطئ الوادي، فانطلق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى إحداهما [ (3) ] ، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليّ بإذن اللَّه، فانقادت معه [كالبعير المخشوش الّذي يصانع قائدة، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليّ بإذن اللَّه فانقادت معه كذلك] [ (4) ] حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما، لأم بينهما- يعني جمعهما- فقال: التئما عليّ بإذن اللَّه فالتأمتا، قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحسّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بقربي فيبتعد، فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفته، فإذا أنا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مقبلا
__________
[ (1) ] قال ابن الأثير الجزريّ: هذا حديث عبادة بن الوليد عن أبي اليسر وجابر: قد مرّ أوله في كتاب «الدّين والقرض» من حرف الدال، وبعضه في كتاب «فضيلة المسجد» ، وبعضه في كتاب «السّب واللعن» ، وبعضه في كتاب «الصلاة» ، لأن كل واحد من أحاديثه حديث منفرد مستقل بنفسه، وقد جاءت في بعض الصحاح متفرقة، قد ذكرناها كذلك، وسردها مسلم حديثا واحدا، وأوردها الحميدي في مسند أبي اليسر، وكان معظم معاني الحديث يتضمن ذكر المعجزات، فأوردناه بطوله في هذا الباب لئلا يخلو الكتاب من ذكر الحديث مسرودا على حالته وإن كان قد جاء مفرقا في أبوابه.
(جامع الأصول) : 11/ 384.
[ (2) ] في (خ) : «وإذا بشجرتين» ، وما أثبتناه من رواية مسلم.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي رواية مسلم: «إلى إحداهما» ، وكلاهما صحيح.
[ (4) ] ما بين الحاضرتين سقط في (خ) ، وأثبتناه من رواية مسلم.

(5/34)


وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقف وقفة فقال برأسه هكذا- وأشار أبو إسماعيل برأسه يمينا وشمالا- ثم أقبل، فلما انتهى إليّ قال: يا جابر، هل رأيت مقامي؟ قلت: نعم يا رسول اللَّه، قال فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما، حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك، قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحسرته فانذلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري، ثم لحقت فقلت: قد فعلت يا رسول اللَّه نعم ذاك، قال: إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفّه عنهما ما دام الغصنان رطبين [ (1) ] .
وذكر الحديث.
وخرج البيهقي وغيره من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان بالحجون وهو كئيب [حزين] [ (2) ] لما آذاه المشركون، فقال: اللَّهمّ أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها، قال: فأمر فنادى شجرة من قبل عقبه أهل المدينة، فأقبلت تخد الأرض حتى انتهت إليه [فسلمت عليه] [ (3) ] ، قال: ثم أمرها فرجعت إلى موضعها، فقال: ما أبالي من كذبني بعد هذا من قومي [ (4) ] .
وفي رواية: فنادى شجرة من جانب الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 351- 352، كتاب الزهد والرقاق، باب (18) حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 196- 197، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 392، حديث رقم (296) .
[ (2) ] في (خ) : «كان على الحجون كثيبا، وما أثبتناه من رواية أبي نعيم في (دلائل النبوة) .
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 389- 390، حديث رقم (290) ، (الخصائص الكبرى) :
1/ 302، والحجون: موضع بأعلى مكة، (دلائل البيهقي) : 6/ 13.
[ (5) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 198.

(5/35)


ومن حديث أبي معاوية عن الأعمش، عن أبي سفيان عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم- وهو خارج من مكة قد خضبه أهل مكة بالدماء- فقال: مالك؟ قال: خضبني هؤلاء بالدماء، وفعلوا وفعلوا، قال: تريد أن أريك آية؟ قال: نعم، قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجاءت تخط الأرض حتى قامت بين يديه، قال: مرها فلترجع، قال: فارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: حسبي [ (1) ] .
ومن حديث يونس بن بكير عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى شعاب مكة- وقد دخله من الغم ما شاء اللَّه من تكذيب قومه إياه- فقال: رب أرني ما أطمئن إليه ويذهب عني هذا الغم، فأوحى اللَّه إليه:
أدع أي أغصان هذه الشجرة شئت، فدعى غصنا فانتزع من مكانه، ثم خدّ في الأرض حتى جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ارجع إلى مكانك، فرجع الغصن فخدّ في الأرض حتى استوى كما كان، فحمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وطابت نفسه ورجع، وقد كان قال المشركون: أتضلل [ (2) ] آباءك وأجدادك يا محمد؟
فأنزل اللَّه عزّ وجل: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ، إلى قوله.
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [ (3) ] .
قال البيهقي: وهذا المرسل لما تقدم من الموصول شاهد، وقد سخر اللَّه تعالى الشجرة لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم حتى جعلها آية لنبوته لمن طلب منه آية، وشهدت له الشجرة بالنّبوّة في بعض الرواية.
فذكر من طريق محمد بن فضيل عن أبي حبان عن عطاء، عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي فلما دنا منه
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 154، باب مبتدإ البعث والتنزيل، وما ظهر عند ذلك من تسليم الحجر والشجر، وتصديق ورقة ابن نوفل إياه، (سنن الدارميّ) : 1/ 12- 13، باب كيف كان أول شأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، (المواهب اللدنية) : 2/ 539، (مسند أحمد) : 3/ 555- 556، حديث رقم (11702) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «أفضّلت» .
[ (3) ] الزمر: 164، والحديث أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 14.

(5/36)


قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أين تريد؟ قال: إلى أهلي، قال: هل لك إلى خير؟ قال:
ما هو؟ قال: تشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال: هذه الشجرة، فدعاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ الأرض خدّا، فقامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت له كما قال ثم رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني آتيك بهم، وإلا رجعت إليك فكنت معك [ (1) ] .
وخرجه أبو محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارميّ، عن محمد بن طريف قال:
حدثنا محمد بن فضيل بنحو ما أخرجه البيهقي.
وخرج البيهقي من حديث شريك عن سماك عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول اللَّه؟
قال أرأيت لو دعوت هذه العذق من هذه النخلة، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض، ثم جعل ينقر حتى أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم قال له: ارجع، فرجع حتى عاد إلى مكانه، فقال: أشهد أنك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وآمن [ (2) ] .
[و] رواه البخاري في (التاريخ) عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني قال:
أخبرني شريك فذكره.
وخرج البيهقي من حديث أبي معاوية عن الأعمش، عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أتى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم رجل من بني عامر فقال: إني من أطب الناس، فإن كان بك جنون داويتك! فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم، قال:
فادع ذاك العذق، فدعاه، فجاء ينقر على ذنبه حتى قام بين يديه، ثم قال: ارجع، فرجع، فقال: يا بني عامر! ما رأيت أسحر من هذا [ (3) ] .
وله من حديث الأعمش، عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: جاء رجل من
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 14- 15.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 15، (المستدرك) : 2/ 620 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، حديث رقم (4237/ 247) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 15- 16.

(5/37)


بني عامر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال: إن عندي طبا وعلما فما تشتكي؟ هل يريبك من نفسك شيء؟ إلى من تدعو؟ قال: أدعو إلى اللَّه عزّ وجل والإسلام، قال: إنك لتقول قولا، فهل لك من آية؟ قال: نعم إن شئت أريتك آية- وبين يديه شجرة- فقال لغصن منها: تعال يا غصن، فانقطع الغصن من الشجرة ثم أقبل ينقر حتى قام بين يديه، فقال: ارجع إلى مكانك فرجع، قال العامري: يا آل عامر بن صعصعة، لا [ألومك] [ (1) ] على شيء قلته أبدا [ (2) ] .
ومن طريق الأعمش عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ما هذا الّذي يقول أصحابك؟ قال: - وحول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أعذاق- قال: فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هل لك أن أريك آية؟ قال:
فدعا عذاقا منها فأقبل يخد الأرض ويسجد، ويرفع رأسه حتى وقف بين يديه، ثم أمره فرجع، قال: فخرج العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة! واللَّه لا أكذبه بشيء يقوله أبدا [ (3) ] .
قال البيهقي: كذا قال سالم بن أبي الجعد، وذكر في هذه الرواية تصديق الرجل إياه، كما هو في رواية سماك، ويحتمل أنه توهمه سحرا ثم علم أنه ليس بساحر، فآمن وصدّق، وروى في ذلك عن بريدة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [ (4) ] .
وخرج البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه [أحد] [ (1) ] فنزلنا منزلا بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر، فقال لي: يا جابر خذ الإداوة وانطلق بنا، فملأت الإداوة ماء فمشينا حتى لا نكاد نرى.
فإذا شجرتان بينهما أذرع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا جابر، انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 16.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 17.
[ (4) ] المرجع السابق.

(5/38)


ففعلت، فرجعت حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما حتى قضى حاجته.
ثم رجعنا [ (1) ] [فركبنا رواحلنا فسرنا كأنما علينا الطير يظلّنا، فإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ومعها صبي تحمله، فقالت يا رسول اللَّه! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرات لا يدعه، فوقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فتناوله، فجعله بينه وبين مقدمة الرحل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اخسأ عدوّ اللَّه! أنا رسول اللَّه، قال: فأعاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، ثم ناولها إياه، فلما رجعنا فكنا بذلك الماء، عرضت لنا المرأة معها كبشان تقودهما والصبي تحمله، فقالت:
يا رسول اللَّه، اقبل مني هديتي، فو الّذي بعثك بالحق إن عاد إليه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خذوا أحدهما وردوا الآخر] [ (2) ] وخرجه أبو محمد عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارميّ [ (3) ] .
وخرج البيهقي من حديث زمعة بن صالح [عن زياد] [ (4) ] ، عن أبي الزبير، أنه سمع يونس بن خبّاب الكوفي يحدث أنه سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أنه كان في سفر إلى مكة، فذهب إلى الغائط فكان يبعد حتى لا يراه أحد، قال: فلم يجد شيئا يتوارى به، فبصر بشجرتين، فذكر قصة الشجرتين وقصة الجمل بنحو من حديث جابر، وحديث جابر أصح، قال البيهقي: وهذه الرواية ينفرد به زمعة بن صالح عن زياد، أظنه ابن سعد عن أبي الزبير [ (5) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن الأعمش عن المنهال بن عمرو، عن يعلي ابن مرة عن أبيه قال: سافرت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سفرا، فرأيت أشياء عجبا، نزلنا منزلا فقال: انطلق إلى هاتين الأشاءتين فقل: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول لكما
__________
[ (1) ] في (خ) : «ثم رجعنا» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين تكملة الحديث من المرجع السابق.
[ (3) ] (سنن الدارميّ) : 1/ 10- 11، وقال فيه: ثم رجعتا إلى مكانهما فركبنا رواحلنا فسرنا ... إلخ الحديث.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20.

(5/39)


أن تجتمعا، فانطلقت فقلت لهما ذلك، وانتزعت كل واحدة منهما من أصلها، فنزلت كل واحدة إلى صاحبتها فالتقتا جميعا، فقضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حاجته من ورائها ثم قال: انطلق فقل لهما: فلتعد كل واحدة إلى مكانها، فأتيتهما فقلت لهما ذلك، فنزلت كل واحدة حتى عادت إلى مكانها.
وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين يأخذه في كل يوم مرتين، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أدنيه، فأدنته منه، فتفل في فيه وقال: اخرج عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، ثم قال لها: إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع، فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم استقبلته [ (1) ] ومعها كبشان وأقط وسمن فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: خذ هذا الكبش فأخذ منه ما أراد، فقالت: والّذي أكرمك، ما رأينا به شيئا منذ فارقتنا.
ثم أتاه بعير فقام بين يديه فرأى عينيه تدمعان، فبعث إلى أصحابه فقال:
ما لبعيركم هذا يشكوكم؟ فقالوا: كنا نعمل عليه فلما كبر وذهب عمله تواعدنا لننحره غدا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فلا تنحروه واجعلوه في الإبل يكون فيها [ (2) ] .
وخرج من حديث وكيع عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن [يعلي] ابن مرة عن أبيه قال: رأيت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثة أشياء: فذكر الحديث بمعنى رواية يونس، إلا أنه زاد: خذ أحد الكبشين ورد الآخر، وخذ السمن والأقط.
مرة بن يعلي هو مرة بن أبي مرة الثقفي، وقيل: فيه عن يعلي نفسه أنه قال:
رأيت ...
فذكر من طريق وكيع عن الأعمش عن المنهال بن عمرو، عن يعلي بن مرة قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عجبا: خرجت معه في سفر فنزلنا منزلا، فأتته امرأة بصبي لها به لمم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اخرج عدو اللَّه أنا رسول اللَّه، قال:
[فبرأ] [ (3) ] ، فلما رجعنا جاءت أم الغلام بكبشين وشيء من أقط وسمن، فقال
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «فاستقبله ومعه» ، وما أثبتناه من (خ) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20- 21.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.

(5/40)


النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا يعلي، خذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر، وخذ السمن والأقط، قال: ففعلت [ (1) ] .
هذا أصح، والأول وهم. قاله البخاري، يعني روايته عن أبيه وهم، إنما هو عن يعلي نفسه، وهم في وكيع مرة، ورواه على الصحة مرة. قال البيهقي:
وقد وافقه فيما زعم البخاري أنه وهم يونس بن بكير، فيحتمل أن يكون الوهم من الأعمش واللَّه أعلم.
وخرج من حديث شريك عن عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة عن أبيه، عن جده قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثة أشياء ما رآها أحد قبلي: كنت معه في طريق مكة ... الحديث. قال: ورواه عطاء بن السائب عن عبد اللَّه بن حفص، عن يعلي بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بينا نحن نسير معه ... ، فذكر قصة البعير وقال: ثم سرنا حتى نزلنا منزلا، فنام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له فقال: هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول اللَّه فأذن لها [ (2) ] ، ثم ذكر قصة المرأة.
وخرج الإمام أحمد هذا الحديث من طريق عبد الرزّاق قال: أخبرنا معمر عن عطاء.. فذكره [ (1) ] . قال البيهقي: الرواية الأولى عن يعلي بن مرة في أمر الشجرتين أصح لموافقتها رواية جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، إلا أن يكون أمر الشجرة في هذه.
الرواية حكاية عن واقعة أخرى [ (3) ] .
وخرج من حديث معاوية بن يحيى الصدفي قال: أخبرني الزهري عن خارجة ابن زيد، قال: قال أسامة بن زيد: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الحجة التي حجها، حتى إذا كنا ببطن الروحاء ... ، فذكر قصة المرأة بزيادة ثم قال: يا أسيم،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 21- 22، (مسند أحمد) : 5/ 182 حديث رقم (17113) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 23- 24، (المواهب اللدنية) : 2/ 540- 541، (دلائل أبي نعيم) :
2/ 391، حديث رقم (293) ، (مسند أحمد) : 5/ 183، حديث رقم (17115) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 24.

(5/41)


انظر هل ترى من خمر لمخرج رسول اللَّه؟ فقلت: يا رسول اللَّه، قد دحس الناس الوادي فما فيه موضع، فقال: انظر هل ترى من نخل أو حجارة؟ فقلت:
يا رسول اللَّه قد رأيت نخلات متفرقات ورجما من حجارة، قال: انطلق إلى النخلات فقل لهن: إن رسول اللَّه يأمر كن أن تدانين لمخرج رسول اللَّه، وقل للحجارة مثل ذلك، قال: فأتيتهن فقلت ذاك لهن، فو الّذي بعثه [ (1) ] بالحق نبيا، لقد جعلت انظر الى النخلات يخددن الأرض خدا حتى اجتمعن، وانظر إلى الحجارة يتقافزن حتى صرن رجما خلف النخلات، فأتيته فقلت ذاك له، قال:
خذ الإداوة وانطلق، فلما قضى حاجته وانصرف قال: يا أسيم، عد إلى النخلات والحجارة فقل لهن: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يأمركن أن ترجعن إلى مواضعكن [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث حيان بن علي، عن صالح بن حيّان عن ابن بريدة عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! قد أسلمت فأرني شيئا أزدد به يقينا، قال: ما الّذي تريد؟ قال: ادع تلك الشجرة فلتأتك، قال:
اذهب فادعها، فأتاها الأعرابي فقال: أجيبي رسول اللَّه قال فمالت على جانب من جوانبها فقطعت عروقها، ثم مالت على الجانب الآخر فقطعت عروقها، ثم أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول اللَّه، فقال الأعرابي: حسبي حسبي، فقال لها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ارجعي فرجعت فجلست على عروقها [وفروعها] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في المرجع السابق: «بعثك» .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 25- 26، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 393- 394، حديث رقم (298) ، (المطالب العالية) : 4/ 8- 10، حديث رقم (3830) ، (الخصائص الكبرى) :
2/ 302.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 390، حديث رقم (291) ، وصالح بن حيان ضعيف، وما بين الحاصرتين زيادة من المرجع السابق، وزاد بعدها:
فقال الأعرابي: ائذن لي يا رسول اللَّه أن أقبل رأسك ورجليك، ففعل، ثم قال: ائذن لي أن أسجد لك، قال: لا يسجد أحد لأحد، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها،
(المستدرك) : 4/ 190، حديث رقم (7326/ 87) ، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : بل واه، وفي إسناده صالح بن حيان: متروك.

(5/42)


وروى يحيى بن أبي عمرو [السيباني] [ (1) ] قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن مسعر عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد اللَّه قال: قال لي مسروق:
أخبرني أبوك أن شجرة أنذرت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالجن [ (2) ] .
__________
[ (1) ] تصويب للنسب من (تهذيب التهذيب) : 11/ 228، ترجمة رقم (425) .
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 197.
لكن قال ابن أبي حاتم في (علل الحديث) : 2/ 392- 393 حديث رقم (2687) :
سمعت أبي رضي اللَّه عنه ذكر حديثا رواه ابن فضيل عن أبي حيان، عن عطاء عن ابن عمر قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: هل لك إلى خير من الذهاب؟
قال: نعم، قال: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأني رسول اللَّه، قال الأعرابي فمن يشهد لك؟ قال هذه الشجرة ...
الحديث، قال أبي: وقد حدثنا على الطنافسىّ وعبد المؤمن بن علي، عن ابن فضيل هكذا، وأنا أنكر هذا، لأن أبا حيان لم يسمع من عطاء، ولم يرو عنه، وليس هذا الحديث من حديث عطاء، قلت: من تراه؟ قال: لحديث أبي جناد أشبه.
* وللَّه درّ الإمام الأبوصيريّ حيث قال:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم
فكأنما سطرت سطرا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم
واللقم: بفتح اللام والقاف: أوسط الطريق. فشبّه أثار مشي الشجر لما جاءت إليه صلّى اللَّه عليه وسلم بكتابة كانت أوقعها على نسبة معلومة، في أسطر منظومة. وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره صلّى اللَّه عليه وسلم حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أولى بالمبادرة لامتثال ما دعا إليه، زاده اللَّه شرفا لديه. وتأمل قول الأعرابي: «ائذن لي أن أسجد لك» لما رأى من سجود الشجرة، فرأى أنه أحرى بذلك حتى أعلمه صلّى اللَّه عليه وسلم أن ذلك لا يكون إلا للَّه، فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود للرب المعبود، ويقوم على ساق العبوديّة، وإن لم يكن له قدم كما قامت الشجرة. (بردة المديح للإمام الأبوصيري) ، (حاشية الباجوري على متن البردة) ، المواهب اللدنية) : 2/ 541- 542.

(5/43)


[خامسا: انقلاب العود والقضيب سيفا جيدا]
وأما انقلاب العود والقضيب سيفا جيدا: قال الواقدي: فحدثني عمر بن عثمان الحجني عن أبيه عن عمته قالت: [قال] عكّاشة بن محصن: انقطع سيفي في يوم بدر، فأعطاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عودا فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتلت به حتى هزم اللَّه المشركين، فلم يزل عنده حتى هلك [ (1) ] .
وقال يونس عن ابن إسحاق في تسمية من شهد بدرا، قال: وعكاشة بن محصن وهو الّذي قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأعطاه جذلا [ (2) ] من حطب فقال: قاتل بهذا يا عكّاشة، فلما أخذه من يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هزّه فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح اللَّه على رسوله، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى قتل- يعني في قتال أهل الردة- وهو عنده، فكان ذلك، السيف يسمى العون [ (3) ] .
قال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد، عن داود بن الحصين، عن رجال من بني الأشهل عدة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن سالم بن حربش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب [ (4) ] ، فقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 93.
[ (2) ] الجذل: أصل الشجرة.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 185، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 219.
[ (4) ] ابن طاب: ضرب من الرطب.
[ (5) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 93- 94.

(5/44)


وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي قال:
أخبرنا أشياخنا أن عبد اللَّه بن جحش [ (1) ] جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوم أحد وقد ذهب سيفه، فأعطاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عسيبا من نخل، فرجع في يده سيفا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «جحيش» ، وصوبناه من (الشفا) .
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 219.

(5/45)


[سادسا: حنين الجذع]
وأما حنين الجذع: فإنه من الآيات المشهورة، والأعلام الثابتة، التي نقلها خلف الأمة عن سلفها،
خرج البخاري من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي اللَّه عنه، أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول اللَّه! ألا تجعل لك شيئا تقعد عليه؟ فإن لي غلاما نجارا، قال: إن شئت، قال:
فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على المنبر الّذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أخذها، فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الّذي يسكّت حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر. ذكره في كتاب البيوع في باب النجار [ (1) ] .
وخرج في باب علامات النبوة من حديث يحيى بن سعيد قال: أخبرني حفص ابن عبيد اللَّه بن أنس بن مالك أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر فكان عليه، سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع يده عليها فسكت. وذكره في الجمعة في باب الخطبة على المنبر [ (2) ] .
قال البيهقي: ولهذا الحديث طرق، عن جابر بن عبد اللَّه، فذكر من طريق الشافعيّ رحمه اللَّه، قال: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 400، كتاب البيوع، باب (32) النجار، حديث رقم (2095) ، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 199.
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 504- 505، كتاب الجمعة، باب (26) الخطبة على المنبر، حديث رقم (918) ، (فتح الباري) : 6/ 746، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3584) ، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 199.

(5/46)


أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية كحنين الناقة، حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم واعتنقها فسكنت [ (1) ] .
وله من حديث آدم بن أبي إياس قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق الهمذاني عن سعد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب أسند ظهره إلى خشبة، فلما صنع له المنبر فقدته الخشبة فحنت حنين الناقة الخلوج إلى ولدها، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت [ (2) ] .
ومن طريق الأعمش عن أبي صالح، عن جابر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما جعل له المنبر خطب عليه حنت الخشبة حنين الناقة الخلوج [ (3) ] ، فاحتضنها فسكنت [ (4) ] .
ومن طريق أبي عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح عن جابر عن أبي إسحاق عن ابن أبي كرب عن جابر قال: كانت خشبة في المسجد فكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب عليها فقلنا له: لو جعلنا لك مثل العريش فقمت عليه، ففعل، فحنت الخشبة كما تحن الناقة، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاحتضنها ووضع يده عليها [ (5) ] .
ومن حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن جابر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يقوم إلى جذع نخلة فيخطب قبل أن يوضع المنبر، فلما وضع المنبر صعد
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 561، (سنن البيهقي) : 3/ 195 باب مقام الإمام في الخطبة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 560، (فتح الباري) : 2/ 504- 505، حديث رقم (918) من كتاب الجمعة، باب (26) الخطبة على المنبر.
[ (3) ] ناقة خلوج: جذب عنها ولدها بذبح أو موت، فحنت إليه، وقلّ لذلك لبنها، وقد يكون في غير الناقة، وفي ذلك ذهاب إلى قوله تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج] ، لسان العرب) : 2/ 256.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 562.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 562، وقال في هامشه: هذا الخبر رواه الطبراني في (الكبير) .

(5/47)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [عليه] فحنّ ذلك الجذع حتى سمعنا حنينه، قال: فأتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضع يده عليه فسكن [ (1) ] .
ومن حديث يحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن جابر مثله، غير أنه قال:
فحنّ حنين العشار [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث يحيى بن كثير أبي غسان، حدثنا أبو حفص عمر ابن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء، قال: سمعت نافعا عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه [ (2) ] .
وقال عبد الحميد: أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا معاذ بن العلاء عن نافع بهذا، ورواه أبو عاصم أيمن بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة من حديث حماد بن أبي سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع حتى أتاه فاحتضنه فسكن. قال:
لو لم احتضنه لحن إلى يوم القيامة [ (3) ] .
وخرج البيهقي من حديث سليمان بن بلال، عن سعد بن سعيد بن قيس، عن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين، أراها من دوم كانت في مصلاه فكان يتكىء إليها، فقال له أصحابه: يا رسول اللَّه! إن الناس قد كثروا فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس، فقال: ما شئتم، قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 556.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 557، ورواه الإمام البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، عن محمد بن المثنى، عن أبي غسان يحيى بن كثير.، وبهذا الإسناد أخرجه الترمذي في صلاة الجمعة، باب ما جاء في الخطبة على المنبر، حديث رقم (918) ، (فتح الباري) :
2/ 504- 505.
[ (3) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 199.

(5/48)


نجار واحد، قال: فذهبت أنا وذلك النجار إلى الغابة فقطعنا هذا المنبر من أثلة، قال: فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحنت الخشبة فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا تعجبون من هذه الخشبة؟ فأقبل الناس عليها فرقّوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأتاها فوضع يده عليها فسكنت، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بها فدفنت تحت منبره أو جعلت في السقف [ (1) ] .
ومن حديث عكرمة بن عمار قال: حدثني إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقوم مسندا ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يوم الجمعة، فخطب الناس فجاءه روميّ فقال:
يا رسول اللَّه! ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا درجتين ويقعد على الثالثة، فلما قعد على المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد بخوراه، فنزل إليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فالتزمه فسكن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: والّذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لما زال كذا إلى يوم القيامة حزنا على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم أمر به فدفن [ (2) ] .
ومن حديث ابن المبارك قال: حدثنا مبارك بن فضالة قال: حدثني الحسن عن أنس بن مالك، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة ويسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا، فسوي له منبرا إنما كانت له عتبتين، فتحول من الخشبة إلى المنبر، قال: فحنت واللَّه الخشبة حنين الواله [ (2) ] ، قال أنيس: وأنا في المسجد أسمع ذلك، قال: فو اللَّه ما زالت تحن حتى نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكنت،
فبكى الحسن وقال: يا معشر المسلمين! الخشبة تحن إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شوقا إليه! أفليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه [ (3) ] ؟
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 559- 560.
[ (2) ] في (خ) «حنين الوالدة» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 559، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 200.

(5/49)


ومن حديث إسحاق الأزرق، عن شريك بن عبد اللَّه، عن عمار الدهني، [ (1) ] عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت:
كان لرسول صلّى اللَّه عليه وسلم خشبة يستند إليها إذا خطب، فصنع له كرسي أو منبر، فلما فقدته خارت كما يخور الثور حتى سمعها أهل المسجد، فأتاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاحتضنها فسكنت [ (2) ] .
وخرج أبو محمد الدارميّ قال: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد اللَّه بن عمرو عن عبد اللَّه بن محمد عن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يصلي [ (3) ] ، إلى جذع [ويخطب عليه إذا كان المسجد عريشا] [ (4) ] ، فقال [له] رجل [ (4) ] من أصحابه [ (5) ] : ألا نجعل لك عريشا [ (6) ] تقوم
__________
[ (1) ] في (خ) : «الذهبي» ولعله تصحيف وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) ، و (تهذيب التهذيب) :
7/ 355.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 563 ثم قال: هذه الأحاديث التي ذكرناها في أمر الحنانة كلها صحيحة، وأمر الحنانة من الأمور الظاهرة، والأعلام النيرة، التي أخذها الخلف عن السلف، ورواية الأحاديث فيه كالتكليف، والحمد للَّه على الإسلام والسنة، وبه العياذ والعصمة.
ثم قال محققه: أحاديث حنين الجذع: رويت عن أنس، وجابر، وسهل بن سعد في البخاري، وحديث أبي بن كعب أخرجه ابن ماجة، وعبد اللَّه بن أحمد في زياداته على المسند، وحديثا ابن عباس وأم سلمة: أخرجهما الطبراني في (الكبير) .
وقد روى أحاديث حنين الجذع أيضا البيهقي في (السنن الكبرى) ، وأبو نعيم في (الدلائل:
بأسانيده عن جابر، وعن أبيّ بن كعب، وعن سهل بن سعد، وعن أبي سعيد الخدريّ وعن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها.
وفي الباب أحاديث كثيرة، وصحح كثير من العلماء بالسنة أن حديث حنين الجذع من الأحاديث المتواترة، لوروده عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة، تفيد القطع بوقوع ذلك.
وقال الحافظ ابن حجر: حنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كل منهما نقلا مستفيضا، يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم، ممن لا ممارسة له في ذلك. (دلائل البيهقي) : 2/ 563.
[ (3) ] في (خ) : «يخطب» وصوبناه من (سنن الدارميّ) .
[ (4) ] زيادة للسياق المرجع السابق.
[ (5) ] في (خ) : «من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (6) ] في (خ) : «هل لك أن نجعل لك منبرا» وما أثبتناه من المرجع السابق.

(5/50)


عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمع من خطبتك؟ قال: نعم، قال: فصنع له ثلاث درجات [هن اللواتي على المنبر] [ (1) ] ،
فلما صنع المنبر ووضع في موضعه، وأراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يقوم على المنبر [مرّ عليه فلما جاوزه] [ (2) ] ، خار [ (3) ] حتى تصدع وانشق، فنزل [ (4) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فكان [ (5) ] عنده في داره حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا [ (6) ] .
ومن حديث صالح بن حيان قال: حدثني ابن بريدة عن أبيه قال: قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا خطب قام فأطال القيام، فكان يشق عليه قيامه، فأتي بجذع نخلة فحفر له وأقيم إلى جنبه [قائما للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (7) ] ، فكان إذا خطب فطال القيام عليه استند إليه فاتكأ عليه، فبصر به رجل كان ورد المدينة [فرآه قائما إلى جنب ذلك الجذع] [ (7) ] فقال لمن يليه من الناس: لو أعلم أن محمدا يحمدني في شيء يرفق به لصنعت له مجلسا يقوم عليه، فإن شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام.
فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: ائتوني به، فأتوه به فأمره أن يصنع له هذه المراقي [الثلاث أو الأربع هي الآن في منبر المدينة] [ (7) ] ، فوجد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في ذلك راحة، فلما فارق النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الجذع وعمد إلى هذه التي صنعت له [ (8) ] ، جزع الجذع فحن كما تحن الناقة حين فارقه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فزعم ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حين سمع حنين الجذع رجع إليه فوضع يده عليه وقال: اختر أن أغرسك في المكان الّذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت [أن] [ (7) ] أغرسك في
__________
[ (1) ] في (خ) : «وتسمعهم خطبتك» وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن الدارميّ) .
[ (3) ] خرج منه صوت كصوت الثور.
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «فرجع إليه» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «فلم يزل عنده» .
[ (6) ] (مسند الدارميّ) : 1/ 17- 18، باختلاف يسير.
[ (7) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (8) ] في (خ) : «إلى الّذي صنع له» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.

(5/51)


الجنة فتشرب من أنهارها وعيونها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل كل أولياء اللَّه من ثمرك فعلت، فزعم أنه سمع من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يقول له: نعم قد فعلت مرتين، فسئل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اختار أن أغرسه في الجنة [ (1) ] .
وقال البغوي وعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: حدثنا عيسى بن سالم أبو سعيد الشاشي، حدثنا عبيد اللَّه بن عمر- يعني الرقي عن وهب عن عبد اللَّه بن محمد ابن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي إلى جذع [وكان المسجد عريشا] [ (2) ] ، فقال رجال من أصحابه: ألا نجعل شيئا تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمع خطبتك؟ فقال: نعم، فصنع له ثلاث درجات فقام عليها كما كان يقوم، فصغى [ (3) ] إليه الجذع فقال له: اسكن، ثم [ (4) ] قال لأصحابه: [هذا الجذع حنّ إليّ، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اسكن] [ (5) ] إن تشأ غرستك [ (6) ] في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك [ (7) ] رطبا كما كنت، فاختار الآخرة على الدنيا،
فلما قبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم دفع إلى أبيّ فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة [ (8) ] .
قال البيهقي رحمه اللَّه: هذه الأحاديث التي ذكرناها في أمر الحنانة كلها صحيحة، وأمر الحنانة من الأمور الظاهرة، والأعلام النيرة التي أخذها الخلف عن السلف، ورواية الأحاديث فيه كالتكليف، والحمد للَّه على الإسلام والسنة، وبه العياذ والعصمة [ (9) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الدارميّ) : 1/ 16.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «فأصغى» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (4) ] في (خ) : «ثم التفت فقال» ، وما أثبتناه من (المسند) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المسند) .
[ (6) ] في (خ) : «أن أغرسك» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (7) ] في (خ) : «أن أعيدك» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (8) ] (مسند أحمد) : 6/ 167، حديث رقم (20751) ، ورقم (20741) ، (20745) ، من حديث الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه.
[ (9) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 563.

(5/52)


وقال أبو [] [ (1) ] ابن عقيل: لا ينبغي أن يتعجب من حنين الجذع ومجيء الأشجار إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فإن من جعل في المغناطيس خاصية تجذب الحديد إليه، يجوز أن يجعل في الرسول خاصية تجذب ذلك إليه.
وقال عمرو بن سواد: قال لي الشافعيّ رحمه اللَّه: ما أعطى اللَّه عزّ وجلّ نبيا ما أعطى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم، فقلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال:
أعطى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم الجذع الّذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيئ له المنبر، فلما هيئ له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذاك [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولم أجدها في كني الرجال.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 68.

(5/53)


[سابعا: تسليم الأحجار والأشجار عليه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما تسليم الأحجار والأشجار عليه:
فخرج مسلم من حديث سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إني لأعرف [حجرا بمكة] كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن [ (1) ] .
وفي لفظ: إن بمكة لحجرا كان يسلم علي ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه [ (2) ]
وخرج الحاكم من حديث الوليد بن أبي ثور عن السّدي، عن عباد بن عبد اللَّه، عن علي رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه [ (3) ] .
وقال يونس بن بكير: عن إسحاق حدثني عبد الملك بن عبد الملك بن عبد اللَّه بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة الثقفي- وكان واعية عن بعض أهل العلم-
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 43، كتاب الفضائل، باب (1) فضل نسب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، حديث رقم (2277) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] وقد اختلف في هذا الحجر، فقيل: هو الحجر الأسود، وقيل: حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الّذي كان يسلم على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم متى اجتاز به.
وقد ذكر الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن رشيد- بضم الراء- في رحلته مما ذكره في (شفاء الغرام) عن علم الدين أحمد بن إسماعيل بن خليل قال: أخبرني عمي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل ابن أبي الصيف قال: أخبرني أبو حفص الميانشي قال: أخبرني كل من لقيته بمكة أن هذا الحجر هو الّذي كلم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وهو الحجر المبني في الجوار المقابل لدار أبي بكر المشهورة بسوق الليل.
(المواهب اللدنية) : 2/ 534.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 677، حديث رقم (4238/ 249) ، قال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.

(5/54)


أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين أراد اللَّه كرامته، وابتدأه بالنّبوّة، كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول اللَّه
وخرج الطبراني من حديث إبراهيم بن طهمان، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: لما كانت ليالي بعثت، ما مررت بشجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثنا علي بن محمد بن عبيد اللَّه بن عمر بن الخطاب، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن برة بنت أبي بحراة قالت:
لما ابتدأ اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم بالنّبوّة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى شيئا، وأفضى إلى الشعاب والأودية، ولا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه، فكان يلتفت عن يمينه وعن شماله، وخلفه فلا يرى أحدا [ (1) ] .
وتقدم عن قريب
حديث ابن بريدة عن أبيه قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول اللَّه، قد أسلمت فأرني شيئا أزدد به يقينا، قال: ما الّذي تريد؟ قال: ادع تلك الشجرة فلتأتك، قال: اذهب فادعها، فأتاها فقال: أجيبي رسول اللَّه، فمالت على جانب من جوانبها، فقطعت عروقها، ثم مالت على الجانب الآخر فقطعت عروقها، حتى أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول اللَّه.
وحديث يعلي ابن مرة أنه قال: سرنا حتى نزلنا منزلا، فقام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له، فقال، هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأذن لها [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أحاديث الباب تشهد على صحتهما.
[ (2) ] سبق تخريجه.

(5/55)


[ثامنا: تحرك الجبل لأجله وسكونه بأمره]
وأما تحرك الجبل لأجله وسكونه بأمره،
فخرج البخاري في مناقب أبي بكر رضي اللَّه عنه من حديث سعيد عن قتادة، أن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه حدثهم أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال: اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان [ (1) ] .
وذكر الترمذي هذا الحديث بهذا الإسناد، ونحو هذا اللفظ وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] .
وخرجه البخاري في مناقب عمر رضي اللَّه عنه ولفظه: عن أنس قال: صعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحدا [ (3) ] ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف [بهم فضربه برجله] ، وقال: اثبت فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد [ (4) ] .
وخرجه في مناقب عثمان رضي اللَّه عنه ولفظه: إن أنسا حدثهم قال: صعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف، فقال: أسكن أحد- أظنه ضربه برجله- فليس عليك [إلا نبي] وصديق وشهيدان [ (5) ] .
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 7/ 25- 26، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، باب (5) قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، حديث رقم (3675) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 583، كتاب المناقب، باب (19) في مناقب عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3697) .
[ (3) ] في (خ) : «حراء» ، وما أثبتناه من (فتح الباري) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 51، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، باب (6) مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشيّ العدوي رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3686) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 7/ 66، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم باب (7) ، مناقب عثمان بن عفان أبي عمرو القرشيّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3697) .

(5/56)


وخرج مسلم [ (1) ] والترمذي [ (2) ] من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان، وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اهدأ [ (3) ] ، إنما عليك وقال مسلم: فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [ (4) ] .
وخرج مسلم عن يحيى بن سعيد، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، وعليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنهم [ (5) ] .
قال أبو عبد اللَّه محمد بن نصر الحميدي: كذا عند مسلم في ما رأينا من نسخ كتابه.
وفي رواية سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، لم يذكر عليا
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 199، كتاب فضائل الصحابة، باب (6) من فضائل طلحة والزبير رضي اللَّه تعالى عنهما، حديث رقم (2417) .
[ (2) ] (سنن الترمذي) : 5/ 582، كتاب المناقب، باب (19) في مناقب عثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3696) . قال أبو عيسى: وفي الباب عن عثمان، وسعيد بن زيد، وابن عباس، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، وبريدة، وهذا حديث صحيح.
[ (3) ] في (خ) : «اهدئي» .
[ (4) ] وفي هذا الحديث معجزات لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منها: إخباره صلّى اللَّه عليه وسلم أن هؤلاء شهداء، وماتوا كلهم غير النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأبي بكر شهداء، فإن عمر، وعثمان، وعليا، وطلحة، والزبير رضي اللَّه تعالى عنهم، قتلوا ظلما شهداء، فقتل الثلاثة مشهور، وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفا تاركا للقتال، وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركا القتال، فأصابه سهم فقتله، وقد ثبت أن من قتل ظلما فهو شهيد، والمراد شهداء في أحكام الآخرة، وعظيم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم.
وفيه بيان فضيلة هؤلاء، وفيه إثبات التمييز في الحجاز، وجواز التزكية والثناء على الإنسان في وجهه، إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب ونحوه، وأما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء في الرواية الثانية، فقال القاضي: إنما سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة. (مسلم بشرح النووي) : 15/ 199- 200.
[ (5) ] (المرجع السابق) : الحديث الّذي يلي السابق من أحاديث ذات الباب بدون رقم.

(5/57)


رضي اللَّه عنه وزاد سعدا، وهكذا
أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه من حديث سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، كما أخرجه مسلم، وأخرجه البرقاني أيضا من رواية معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد بهذا الإسناد، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان على حراء، ومعه أبو بكر وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد اللَّه، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فتحرك الجبل فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اسكن حراء، فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، فسكن الجبل.
قال الحميدي: في هذا الحديث زيادة فوائد حسنة، وإسناده على شرط مسلم.
وخرج النسائي [ (1) ] من حديث جرير عن حصين عن هلال، عن عبد اللَّه بن ظالم قال: دخلت على سعيد بن زيد فقلت: ألا تعجب من هذا الظالم؟ أقام خطباء يشتمون عليا، فقال: أوقد فعلوها؟ أشهد على التسعة إنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لصدقت، كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على حراء فتحرك، فقال: اثبت فما عليك إلا نبي أو صدّيق أو شهيد، قلت: ومن كان على حراء؟ قال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، قلنا: فمن العاشر؟ قال: أخبرنا هلال بن يساف لم يسمعه من عبد اللَّه ابن ظالم.
وذكره النسائي [ (1) ] من حديث ابن إدريس عن حصين بهذا الإسناد مثله، وذكره [أيضا من حديث سفيان] عن منصور عن هلال بن يساف عن ابن حبان عن عبد اللَّه بن ظالم، عن سعيد بن زيد قال: تحرك حراء فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ... ، فذكر مثله.
وخرجه الترمذي من حديث هشيم قال: أخبرنا حصين عن هلال بن يساف [عن عبد اللَّه بن ظالم] [ (2) ] المازني، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال:
أشهد على التسعة أنهم في الجنة، ولو شهدت على العاشر لم آثم، قيل: وكيف ذاك؟
__________
[ (1) ] (السنن الكبرى للنسائي) ، كتاب المناقب، باب طلحة بن عبيد اللَّه، رضي اللَّه تعالى عنهم.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .

(5/58)


قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ... ، الحديث. وقال: هذا حديث حسن [صحيح] [ (1) ] .
قال القاضي عياض: وتحرك الجبل وكلام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم له، وقوله: اهدأ فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد، كله من آيات نبوته وإخباره بالغيوب، وانخراق العادات له، فكل من كان عليه بعد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والصديق ماتوا شهداء، وفيه كرامة عظيمة لهؤلاء الذين كانوا عليه وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وفيه أن من قتل ظلما في غير معترك شهيد، له اسم الشهيد وأجره، وإن لم يكن حكمه في الصلاة والغسل حكمه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 609، كتاب المناقب، باب (28) مناقب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3757) ، وأخرجه أيضا أبو داود في السنة، (سنن أبي داود) :
5/ 40، حديث رقم (4651) .
[ (2) ] وقد روى أنه صلّى اللَّه عليه وسلم حين طلبته قريش قال له ثبير: اهبط يا رسول اللَّه، فإنّي أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني اللَّه، فقال حراء: إليّ يا رسول اللَّه.
وروى ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قرأ على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ثم قال: يمجد الجبار نفسه يقول: أنا الجبار أنا الجبار، أنا الكبير المتعال، فرجف المنبر حتى قلنا: ليخرن عنه. (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 202،
وثبير وأحد: جبلان متقابلان والوادي بينهما، وهو على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلي ثبير مما يلي شمال الشمس. (المواهب اللدنية) : 2/ 538.

(5/59)


[تاسعا: رقم اسمه صلّى اللَّه عليه وسلم على صفحات المخلوقات]
وأما رقم اسمه صلّى اللَّه عليه وسلم على صفحات المخلوقات: فقال الفقيه الأديب أبو عبد اللَّه محمد بن عمر بن محمد بن أسيد في رحلته: حدثنا شيخنا الفقيه أبو عبد اللَّه محمد المصري قال: ولد عندنا [بتوزر] [ (1) ] ليلة غرة رجب الفرد من عام أربعة وسبعين وستمائة، جدّي أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة، وفيها مكتوب: محمد، بخط في غاية الحسن والبيان، فأفلت في ذلك تأليفا سميته: (الغرة اللائحة والمسكة الفائحة في الحظوظ الصمدية والمفاخر المحمدية) ، ونظمت في ذلك قصائد، منها قولي:
جدي غدا كالجدي أشرف جنسه ... فمحله فوق السماك الأعزل
رقمت به الأقدار صفحة وجهه ... رقما بديعا باسم لأكرم مرسل
فتلألأت أنواره الشريف موحد ... إلا وقبّل منه خير مقبّل
رويت به [الأنباء] كأنما ... وردت به الأفواه عذب منهل
عجب [أتى] رجب به فتأكدت ... بركاته في قلب كل مؤمّل
فكأن من قد قال: عش رجبا ترى ... عجبا عناه بالزمان المجمل
يا غرة كالصبح نمنم حسنها ... خط من الليل البهيم الأليل
أشهى وأحلى في النفوس من الكرى ... وألذ من عذب الدلال التعلل
طرز به ازدان الزمان بأسره ... في الحال والماضي وفي المستقبل
يا توزر الغراء فزت بغرّة ... غراء في زمن أغر محجّل
__________
[ (1) ] توزر- بالفتح، ثم السكون، وفتح الزاي، وراء- مدينة في أقصى إفريقية. (معجم البلدان) :
2/ 67، موضع رقم (2680) .

(5/60)


جرى ذيول العز من مرح بها ... جرّ الفتاة ذيول برد مسبل
أعطيت ما لم يعط مثلك مثله ... شكرا لمولاك العلي المفضل
شرف خصصت به وفضل باهر ... يبقى على مر الزمان الأطول
هذا طراز الحسن لا ما قاله ... حسّان في حسن الطراز الأول
قال جامعه- رحمه اللَّه تعالى-: أخبرني القاضي الأديب يعقوب بن يوسف ابن علي المكناسي قال: شاهدت بمدينة بجابة من بلاد إفريقية رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل [مكتوب بعرق أحمر] كتابة مليحة: محمد رسول اللَّه، وهذه الكتابة لا تظهر حتى يجبذ جفن عينه الأسفل، وأما ما دامت عينه على حالها فلا تظهر الكتابة فإن الجفن يسترها.
وقال الحافظ أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن هارون، المعروف بابن الصواف وبابن الطحان الحضرميّ المصري في كتاب (أخبار علماء مصر) ، وتوفي سنة ست عشرة وأربعمائة: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد ابن علي قال: سمعت أبا عمران موسى بن إبراهيم الوراق بالرملة يقول: سمعت أحمد ابن أحمد الطبري بطرسوس يقول: ظهر عندنا بطبرستان قوم يقولون: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، فأما محمد فلا نقرّ بنبوّته، واتفقنا طائفة أهل العلم على خلافهم، وكثروا وكثر الغوغاء منهم، وعمل جماعة منا على الرحيل من طبرستان خوفا منا على أنفسنا، وكان الرجل يهجر أباه، وأخاه، وولده، فنحن كذلك في يوم شديد الحر، إذ أظلتنا سحابة بيضاء شديدة البياض، فلم يزل ينشأ حتى أخذت ما بين الخافقتين، وأحالت بين السماء وبين البلد، فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط [مونق] [ (1) ] : لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فلم يزل كذلك إلى وقت العصر، فتاب كل من كان افتتن، وأسلم أكثر من كان عندنا من اليهود والنصارى [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] قام التليفزيون المصري بعرض صورة مشابهة قام بتسجيلها أحد المراصد، وكان ذلك يوم 12 أكتوبر 1993 حيث ظهرت عبارة لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، مكتوبة بقلم القدرة، مداده السحاب وذلك لمدة ثماني ساعات على مساحة قدرها (000، 700، 2) مليونان وسبعمائة ألف كيلومتر مربع، كما قدرتها أجهزة المرصد.

(5/61)


وذكر أن في سنة أربع وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد، انقلعت فيها الجبال وفرت الوحوش، فظن الناس أن القيامة قد قامت، وخافوا وهلعوا هلعا شديدا، وابتهلوا إلى اللَّه تعالى بالدعاء، ونظروا، فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال، ثم تأملوا الوحوش فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الّذي سقط فيه ذلك النور، فصاروا معها إليه، فوجدوا صخرة طولها ذراع في عرض ثلاث أصابع، وفيها ثلاثة أسطر: سطر فيه: لا إله إلا أنا فاعبدون، وسطر فيه: محمد رسول اللَّه القرشي، وسطر ثالث فيه: احذروا وقعة المغرب فإنّها تكون من سبعة أو تسعة، والقيامة قد أزفت. ذكر ذلك في كتاب (عجائب الحكايات وغرائب الماجريات) .
وذكر أيضا عن الحافظ السلفي قال: سمعت أبا الحسن الحمامي يقول: رأيت ببلاد سيلان شجرة لها أوراق خضر، وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، وكان مقدمهم من الأكابر، وكانوا عبدة أوثان فكانوا يقطعونها ويعقون [ (1) ] آثارها، فترجع إلى ما كانت عليه في أقرب وقت، فأذابوا الرصاص وأقلبوه في أصلها، فخرج من حول الرصاص أربع فروع، على كل فرع: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، فصاروا يتبركون بها ويستشفون من المرض إذا اشتد، [ويخلّقونها] [ (2) ] بالزعفران وأجلّ الطيب.
__________
[ (1) ] يعفون: يمحون.
[ (2) ] يخلقونها: يطيبونها.

(5/62)


[عاشرا: تظليل الغمام له]
وأما تظليل الغمام له، فقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر- يعني الواقدي- قال: حدثني معاذ بن محمد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: خرجت حليمة تطلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقد بدت إليهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أماه، ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف، وإذا سار سارت معه حتى انتهى إلى هذا الموضع [ (1) ] .
أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن صالح بن عبد اللَّه بن جعفر قال: وحدثنا ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قالوا: لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن ثنتي عشرة سنة، فلما نزل بصرى من الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا ببحيرا- وكانوا كثيرا ما يمرون به لا يكلمهم- حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلا قريبا من صومعته، قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مرّوا، فصنع لهم طعاما ثم دعاهم، وإنما حمله [على دعائهم] أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بين القوم، حتى نزلوا تحت شجرة ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت على تلك الشجرة، ثم أظلت أغصان الشجرة على النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام، فأتى به، وأرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم، ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا، حرا ولا عبدا، فإن هذا شيء تكرموني به، فقال رجل: إن لك لشأنا
__________
[ (1) ] (طبقات ابن سعد) : 1/ 152، باب ذكر علامات النبوة في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل أن يوحى إليه، (البداية والنهاية) : 2/ 335 عن الواقدي أيضا.

(5/63)


يا بحيرا! ما كنت تصنع بنا هذا، فما شأنك اليوم؟ قال: إني أحببت أن أكرمكم ولكم حق، فاجتمعوا إليه وتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنّه- ليس في القوم أصغر منه- في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرف، ولا يجد لها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم، ويراها مختلفة على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال بحيرى: يا معشر قريش! لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنّا في رحالهم، فقال: أدعوه فليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد، مع أني أراه من أنفسكم، فقال القوم: هو واللَّه أوسطنا نسبا، وهو ابن أخي هذا الرجل- يعنون أبا طالب- وهو من ولد عبد المطلب، فقال:
الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف: واللَّه إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام، والغمامة تسير على رأسه، وجعل بحيرى يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء في جسده، قد كان يجدها عنده من صفته، فلما تفرقوا عن طعامهم،
قام إليه الراهب فقال:
يا غلام! أسألك باللات والعزى ألا أخبرتني عما أسألك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
لا تسلني باللات والعزى، فو اللَّه ما أبغضت شيئا بغضهما، قال فباللَّه إلا أخبرتني عما أسألك عنه، قال: سلني عما [بدا لك، فجعل] [ (1) ] يسأله عن أشياء من حاله حتى نومه، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده، تم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي عنده، قال: فقبّل موضع الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا.. وذكر الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (طبقات ابن سعد) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 1/ 319- 322، قصة بحير، (طبقات ابن سعد) : 1/ 153- 155، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 168 حديث رقم (108) باب ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشام في المرة الأولى، وما اشتمل عليه ذلك من الدلائل المتقدمة لنبوته وهو ابن عشر سنين، (تاريخ الإسلام للذهبي) : جزء السيرة النبويّة باب سفره مع عمه ص 58- 60، (دلائل البيهقي) :
2/ 24- 25، (سنن الترمذي) : كتاب المناقب باب (3) ما جاء في بدء نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حديث رقم (3620) وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(5/64)


أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا موسى بن شيبة عن عميرة بنت عبد اللَّه بن كعب ابن مالك، عن أم سعد بنت سعد عن نفيسة بنت منية أخت يعلي بن منية قالت:
لما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمسا وعشرين سنة- فذكر الحديث في خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في تجارة لخديجة بنت خويلد، ومعه غلامها ميسرة، إلى أن قال-: وكان ميسرة يرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحرّ يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره، وكان اللَّه قد ألقى على رسوله المحبة في ميسرة، فكان كأنه عبدا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران قال: يا محمد! انطلق إلى خديجة فاسبقني فأخبرها بما صنع اللَّه لها على وجهك، فإنّها تعرف ذلك لك، فتقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها فخبرها بما ربحوا في وجههم، فسرت بذلك، فلما دخل ميسرة عليها أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام..، الحديث [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (تاريخ الطبري) : 2/ 280، باب ذكر تزويج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة رضي اللَّه تعالى عنها، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 172- 174 باب ذكر خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشام ثانيا مع ميسرة غلام خديجة رضي اللَّه تعالى عنها وقصة نسطورا الراهب، (سيرة ابن هشام) : 2/ 5، باب حديث تزويج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خديجة رضي اللَّه عنها، (طبقات ابن سعد) : 1/ 129- 130، باب ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشام في المرة الثانية، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 242.

(5/65)


[حادي عشر: رميه صلّى اللَّه عليه وسلم وجوه المشركين كفا من تراب فملأ أعينهم]
وأما رميه صلّى اللَّه عليه وسلم وجوه المشركين كفا من تراب فملأ أعينهم،
قال موسى بن عقبة في غزوة حنين: ولما غشي رسول اللَّه [صلّى اللَّه عليه وسلم] القتال قام في الركابين وهو على البغلة ويقولون: نزل فرفع يديه إلى اللَّه يدعوه يقول: اللَّهمّ إني أنشدك ما وعدتني، اللَّهمّ لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا، ونادى على أصحابه فذمّرهم [ (1) ] : يا أصحاب البيعة يوم الحديبيّة، يا أصحاب سورة البقرة، يا أنصار اللَّه وأنصار رسوله، يا بني الخزرج.
وقبض قبضة من الحصى فحصب بها وجوه المشركين ونواصيهم كلها وقال:
شاهت الوجوه، فأقبل إليه أصحابه سراعا يبتدرونه، وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: الآن حمي الوطيس، فهزم اللَّه أعداءه في كل ناحية حصبهم فيها رسول اللَّه، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم، وغنمهم اللَّه نساءهم [وذراريهم] [ (2) ] وشاءهم وإبلهم [ (3) ] .
وخرج مسلم والنسائي من حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب. قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال: قال عباس رضي اللَّه
__________
[ (1) ] ذمّرهم: حثهم على القتال، قال عنترة.
لما رأيت القوم أقبل جميعهم* يتذامرون كررت غير مذمّم
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 131- 132 وقال: هذا لفظ حديث موسى بن عقبة، وليس في رواية عروة: قيامه في الركابين، ولا قوله: يا أنصار اللَّه، وقال في الحصباء: فرمى من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، لا يرمي ناحية إلا انهزموا، وانهزم المشركون، وعطف أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين هزمهم اللَّه، واتبعهم المسلمون ... فذكره. قال محققه: رواية موسى بن عقبة ذكرها ابن عبد البر باختصار شديد في (الدرر) : 226.

(5/66)


عنه: شهدت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث ابن عبد المطلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم نفارقه، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار.
وقال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول اللَّه أكفها إرادة أن لا يسرع، وأبو سفيان أخذ بركاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أي عباس! ناد أصحاب الشجرة، فقال عباس- وكان رجلا صيتا-: فقلت بأعلى صوتي:
أين أصحاب السمرة؟ قال: فو اللَّه لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا [هم] [ (1) ] والكفار، والداعين [ (2) ] في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار.. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج [فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج، يا بني الحارث بن الخزرج] [ (3) ] فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم وقال:
هذا حين حمي والوطيس.
قال: ثم أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب محمد،
قال: فذهبت انظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فو اللَّه ما هو إلا أن رماهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بحصياته [ (4) ] فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا [ (5) ] . زاد النسائي بعد هذا: حتى يعني هزمهم اللَّه. لفظهما فيه متقارب. ذكره النسائي في الجهاد وترجم عليه: رمي الحصا في وجوه الكفار [ (6) ] .
__________
[ (1) ] زيادة في (خ) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي رواية (مسلم) : «والدعوة» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] في (خ) : «بحصيات» .
[ (5) ] (مسلم بشرح النوي) : 12/ 355- 359، كتاب الجهاد والسير، باب (28) غزوة حنين، حديث رقم (1775) : وقوله: «على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجزامي» ، قال القاضي:
واختلفوا في إسلامه، فقال الطبري: أسلم وعمّر طويلا، وقال غيرهم لم يسلم وقد أطال النووي في (شرح مسلم) الكلام في قبول هدية الكافر، فليراجع هناك.
[ (6) ] لم أجده في (سنن النسائي) ولعله في (الكبرى) .

(5/67)


وخرج مسلم من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال: فروة بن نعامة الجذامي، وقال: انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة، وزاد في الحديث: حتى هزمهم اللَّه، قال: وكأني انظر إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته [ (1) ] .
وذكره أيضا من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري قال: أخبرني كثير بن العباس عن أبيه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين.. وساق الحديث، غير أن حديث يونس وحديث معمر أكبر منه وأتم [ (2) ] .
وله من حديث عكرمة بن عماد قال: حدثني إياس بن سلمة قال: حدثني أبي قال: غزونا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو تقدّمت فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل من العدو فأرميته بسهم، فتوارى عني فما دريت ما صنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا مع [ (3) ] أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فولى أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأرجع منهزما وعليّ بردتان متزرا بإحداهما، مرتديا بالأخرى، فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعا، ومررت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لقد رأى ابن الأكوع فزعا، فلما غشوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه، فما خلق اللَّه منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من [ (4) ] تلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم اللَّه، وقسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين [ (5) ] .
وخرج البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن يعلي بن عطاء، عن عبد اللَّه ابن يسار- ويكنى أبا همام- عن أبي عبد الرحمن الفهري قال: كنا مع رسول
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 359، حديث رقم (17) .
[ (2) ] المرجع السابق، ص 360.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي رواية (مسلم) : «فالتقوا هم وصحابة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم» ، «فولى صحابة» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (مسلم) «بتلك» .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 364، حديث رقم (1777) .

(5/68)


صلّى اللَّه عليه وسلم في حنين، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته، قد حان الرواح يا رسول اللَّه، قال: أجل، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا بلال، فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طير فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك، قال: أسرج لي فرسي فأتاه برفّتين من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر.
قال: فركب فرسه ثم سرنا يومنا، فلقينا العدو وتشامّت الخيلان، فقاتلناهم فولى المسلمون مدبرين، كما قال اللَّه عزّ وجلّ، قال: فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول:
يا عباد اللَّه! أنا عبد اللَّه ورسوله، يا أيها الناس! إني أنا عبد اللَّه ورسوله، واقتحم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن فرسه.
وحدّث من كان أقرب إليه مني أنه أخذ حفنة من تراب فحثى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه، قال يعلي [ (1) ] بن عطاء: فأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم [ (2) ] أنهم قالوا: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب، وسمعنا صلصلة من السماء كمرّ الحديد على الطست الحديد، فهزمهم اللَّه عزّ وجلّ [ (3) ] .
ولأحمد، من حديث عفان بن مسلم قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحارث بن حصين، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال ابن مسعود: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم حنين، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فنكصنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل اللَّه عليهم السكينة، قال: ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على بغلته يمضي قدما، فحادت بغلته فمال عن السرج فقلت: ارتفع رفعك اللَّه، فقال: ناولني كفا من تراب، فناولته، فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا، ثم قال: أين المهاجرون
__________
[ (1) ] في (خ) : «يحيى» .
[ (2) ] في (خ) : «عن نسائهم» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 141، باب رمي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وجوه الكفار والرعب الّذي ألقي في قلوبهم، ونزول الملائكة، وما ظهر في كل واحد من هذه الأنواع من آثار النبوة، (مسند أحمد) : 6/ 387، حديث رقم (21961) .

(5/69)


والأنصار؟ قلت: هم هنا [ (1) ] ، قال: اهتف بهم، فهتفت بهم، فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنهم الشهب، وولى المشركون أدبارهم [ (2) ] .
وله من حديث أبي قلابة قال: حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن الطائفي قال: أخبرني عبد اللَّه بن عياض بن الحارث الأنصاري عن أبيه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أتى هوازن في اثنى عشر ألفا. فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، قال: فأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كفّا من حصباء فرمى بها وجوهنا فانهزمنا. قال البيهقي: رواه البخاري في التاريخ عن أبي عاصم ولم ينسب عياضا [ (3) ] .
وله من حديث البصري عن رجل من قومه شهد ذاك يوم حنين، وعمرو ابن سفيان الثقفي قالا: انهزم المسلمون يوم حنين ولم يبق مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلا عباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث، قال: فقبض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبضة من الحصباء فرمى بها في وجوههم، قال: فانهزمنا فما خيّل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا، قال الثقفي: فأعجرت على فرسي حتى دخلت الطائف [ (4) ] .
وله من حديث السائب بن يسار عن يزيد بن عامر الشوائي أنه قال: عند انكشافه انكشف المسلمون يوم حنين فتبعهم الكفار، أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبضة من الأرض ثم أقبل على المشركين فرمى بها وجوههم وقال: حم لا ينصرون، فانهزم القوم وما رميناهم بسهم ولا طعناهم برمح، وفي رواية: فما خلق اللَّه منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا.
وخرج الحاكم من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن عائشة بنت سعد عن أبيها سعد بن أبي وقاص قال: لما جال
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المسند) : «هم أولاء» .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 2/ 36، حديث رقم (4324) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 142.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 143.

(5/70)


الناس عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تلك الجولة يوم أحد، تنحيت فقلت: أذود عن نفسي فإما أن أستشهد وإما أن أنجو حتى ألقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فبينا أنا كذلك إذا برجل مخمر الوجه لا أدري [ (1) ] من هو، فأقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه، ملأ يده من الحصباء ثم رمى به في وجوههم فتنكبوا على أعقابهم القهقرى حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا ولا أدري من هو، وبيني وبينه المقداد بن الأسود، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه إذ قال المقداد: يا سعد! هذا رسول اللَّه يدعوك، فقلت:
وأين هو؟ [فأشار المقداد] [ (2) ] إليه، فقمت وكأني لم يصبني شيء من أذى، فقال: أين كنت اليوم يا سعد؟ فقلت: حيث رأيت يا رسول اللَّه، فأجلسني أمامه فجعلت أرمي وأقول: اللَّهمّ سهمك فارم به عدوك، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول: اللَّهمّ استجب لسعد، اللَّهمّ سدد رميته، [إيها سعد] [ (2) ] فداك أبي وأمي، فما من سهم أرمي به إلا قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ سدد رميته وأجب دعوته إيها سعد، حتى فرغت من كنانتي، نثر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما في كنانته، فنبلني سهما نضيا، قال: وهو الّذي قد ريش، وكان أشد من غيره.
قال الزهري:
إن السهام التي رمى بها سعد يومئذ كانت ألف سهم [ (3) ] . قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وللبزار من حديث يونس بن أرقم، حدثنا الأعمش عن سماك بن حرب، عن ابن عباس أن عليا ناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم التراب فرمى به في وجوه المشركين يوم حنين.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المستدرك) : «فحمر وجهه ما أدري» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (3) ] (المستدرك) : 3/ 28- 29، حديث رقم (4314/ 18) من كتاب المغازي والسرايا.

(5/71)


[ثاني عشر: إشارته صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الأصنام وسقوطها]
وأما إشارته إلى الأصنام وسقوطها،
فخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، عن أبي معمر عن عبد اللَّه قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً] [ (1) ] جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ذكره البخاري في باب: أين ركز النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الراية يوم الفتح. وذكره في التفسير. وذكره مسلم من طرق في بعضها: بدل نصب صنما، وذكر بعضها مطولا، وفيه: ثم طاف بالبيت، قال: فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه، قال: وفي يد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قوس- وهو آخذ بسية القوس- فلما أتى على الصنم جعل يطعن في عينه ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [ (2) ] .
وقال ابن إسحاق: حدثنا عبد اللَّه بن أبي بكر، عن علي بن عبد اللَّه بن عباس، عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى الكعبة ثلاثمائة صنم، قال: فأخذ قضيبه فجعل يهوي به إلى صنم صنم، وهو يهوي حتى مر عليها كلها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة لتكملة الآية الكريمة.
[ (2) ] رواه البخاري في المغازي، باب أين ركز النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الراية يوم الفتح، وفي المظالم، باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر أو تخرق الزقاق، وفي تفسير سورة بني إسرائيل، باب: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً. وأخرجه مسلم برقم (1781) في الجهاد، باب إزالة الأصنام من حول الكعبة، والترمذي في التفسير برقم (3137) ، باب ومن سورة بني إسرائيل.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) 5/ 80.

(5/72)


وذكر أبو الربيع بن سالم عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الفتح على راحلته فطاف عليها وحول الكعبة أصنام مشددة بالرصاص، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يشير بقضيب في يده وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، فقال تميم بن أوس الخزاعي:
وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا [ (1) ]
وخرج البيهقي من طريق سويد، قال القاسم بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة وستين صنما، فأشار إلى كل صنم بعصا وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، فكان لا يشير إلى صنم إلا سقط من غير أن يمسه بعصا.
قال البيهقي: هذا الإسناد وإن كان ضعيفا فالذي قبله يؤكده [ (2) ] .
وخرج ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن إسحاق المسيبي، حدثنا عبد اللَّه بن نافع، حدثنا عاصم بن عمر، عن ابن دينار عن ابن عمر، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة وستين صنما، فأشار بعصاه إلى كل صنم منها وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، فسقط الصنم ولا يمسه [ (2) ] .
وقال الواقدي- رحمة اللَّه عليه، وقد ذكر فتح مكة بأسانيده-: ثم طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبيت على راحلته آخذ بزمامها محمد بن مسلمة، وحول الكعبة ثلاثمائة صنم وستون صنما، مرصصة بالرصاص وكان هبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، ويساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح، فجعل رسول
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 72.
[ (2) ] (الإحسان) : 14/ 452 حديث رقم (6522) ، وهذا الحديث إسناده ضعيف، عاصم بن عمر:
هو العمري، ضعّفه أحمد وابن معين، وغيرهم، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الواقدي:
متروك. (المرجع السابق) : هامش ص 453 تعليقا على الحديث السابق.

(5/73)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كلما مر بصنم منها يشير بقضيب في يده [ويقول] [ (1) ] جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [ (2) ] ، فيقع الصنم لوجهه [ (3) ] .
قال [الواقدي] [ (1) ] : حدثني ابن أبي سبرة عن حسين بن عبد اللَّه، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما يزيد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أن يشير بالقضيب إلى الصنم، فيقع لوجهه [ (3) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث عبد اللَّه بن عمر العمري، عن نافع عن ابن عمر قال: وقف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم فتح مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما قد ألزقها الشياطين بالنحاس والرصاص، فكان كلما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسها ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، فتساقط على وجوهها [ (4) ] ، ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسيل [ (5) ] .
وقال ابن عائذ: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن بشير عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قال: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مكة كان أول شيء صنعه أي البيت، وكان حوله أصنام اتخذ كل بطن من قريش صنما وكان إساف ونائلة لخزاعة، وكان بين الركن الأسود واليماني، فصرعهما وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [ (2) ] ، ثم طاف بالبيت.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] الإسراء: 81.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 832.
[ (4) ] في (خ) «لوجوهها» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 519، باب ذكر ما كان في فتح مكة، حديث رقم (446) ، وأخرجه ابن حبان مختصرا (1702) من طريق عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر، وأخرجه الفاكهي، والطبراني، من حديث ابن عباس وفيه: فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه، مع أنها كانت ثابتة بالأرض، قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص.

(5/74)


[ثالث عشر: إلانة الصّخر له صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما إلانة الصخر له،
فخرج البخاري في غزوة الخندق، عن عبد الواحد ابن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كيدة شديدة، فجاءوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: هذه كيدة عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم المعلول، فضرب في الكدية فعاد كثيبا أهيل أو أهيم [ (1) ] . الحديث.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: وكان في الخندق أحاديث في تصديق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وتحقيق نبوته، وعاين ذلك المسلمون منه، وكان مما بلغني: أن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما كان يحدث أنه اشتد عليهم في بعض الخندق كدية [ (2) ] فشكوها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء اللَّه أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية [ (2) ] ، فقال من حضرها:
فو الّذي بعثه بالحق نبيا لا نهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة [ (3) ] .
وللبيهقي من حديث يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي قال:
حدثني أيمن المخزومي قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدانة- وهي الجبل- فقلنا: يا رسول اللَّه! إن كدانة قد عرضت فيه، فقال: رشّوا عليها، ثم قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة فسمّى ثلاثا ثم ضرب، فعادت كثيبا
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 502، حديث رقم (4101) ، باب (30) غزوة الخندق.
[ (2) ] الكدية: الأرض الصلبة، والجمع: كدي، وهذا الجمع سمّي به موضع بأسفل مكة، وفي (خ) :
«كداية» .
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 174 باب ظهور الكدية والتغلب عليها.

(5/75)


أهيل.
الحديث [ (1) ] .
وله من حديث يونس عن ابن إسحاق قال: حدّثت عن سلمان قال: ضربت في ناحية من الخندق، فعطف عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو قريب مني، فلما رآني أضرب ورأي شدة المكان عليّ نزل وأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة فلمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى، فقلت: يا رسول اللَّه! بأبي وأمي، ما هذا الّذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب به؟ فقال: هل رأيت ذلك يا سلمان؟ قلت: نعم، فقال:
أما الأولى فإنّ اللَّه عزّ وجلّ فتح عليّ [بها] [ (2) ] اليمن، وأما الثانية فإنّ اللَّه عزّ وجلّ فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن اللَّه فتح عليّ بها المشرق [ (3) ] .
قال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن أبي هريرة أنه كان يقول: في زمن عمر وزمن عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فو الّذي نفس أبي هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة ولا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا اللَّه عزّ وجل قد أعطى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلم مفاتحها. قال البيهقي: وهذا الّذي ذكره محمد بن إسحاق بن يسار من قصة سلمان قد ذكرنا معناه منقولا عن معاذ بن أبي الأسود، عن عروة، ومغازي موسى ابن عقبة [ (4) ] . قال جامعه رحمه اللَّه: وسيأتي لهذا الحديث طرق إن شاء اللَّه.
وقال أبو نعيم الأصفهاني رحمه اللَّه: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الغار مال برأسه إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم، فلين اللَّه الجبل حتى أدخل فيه رأسه، واستروح إلى الجبل من حجر أطم فلان له حتى أثّر فيه بذراعيه وساعده، وذلك مشهور يقصده [الحجاج] يزورونه. وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين، فربط دابته، والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 418، ورواه ابن هشام في (السيرة) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 418، ورواه ابن هشام في (السيرة) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 417- 418، وابن هشام في (السيرة) .

(5/76)


وقال محمد بن حزم- وقد ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الغار-: فلما فقدته قريش اتبعته بقائف معروف [فقفا] الأثر حتى وقف عند الغار، فقال:
هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا العنكبوت قد نسج على فم الغار من وقته، فأيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا، وفتح اللَّه تعالى في الوقت في جانب الغار بابا واسعا خرجا منه في صخرة صلبة صماء، لا تؤثر فيها المعاول، فأما لها اللَّه عزّ وجل إلى اليوم ظاهرة، لا يشك من رآها أنها لو ردّت لسدت المكان، ولا يختلف أحد أن ذلك الباب لو كان هنالك حينئذ لرأته قريش جهارا.

(5/77)


[رابع عشر: تسبيح الحصا في كفه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما تسبيح الحصا في كفه صلّى اللَّه عليه وسلم فخرج البيهقي وغيره، من قريش بن أنس قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، عن رجل يقال له سويد بن يزيد قال: سمعت أبا ذر رضي اللَّه عنه يقول: لا أذكر عثمان إلا بخير، تقدمني رأيته كنت أتتبع خلوات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فرأيته يوما جالسا وحده فاغتنمت خلوته، فجئت حتى جلست إليه، فجاء أبو بكر رضي اللَّه عنه فسلم ثم جلس عن يمين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم جاء عمر رضي اللَّه عنه فسلم ثم جلس عن يمين أبي بكر رضي اللَّه عنه، ثم جاء عثمان رضي اللَّه عنه فسلم وجلس عن يمين عمر رضي اللَّه عنه، وبين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبع حصيات- أو قال: تسع حصيات- فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن،
ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعت لهن حنينا كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هذه خرفة نبوة.
قال البيهقي: وكذلك رواه محمد بن بشار عن قريش بن أنس عن صالح بن أبي الأخضر، وصالح لم يكن حافظا، والمحفوظ رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كبير السن، كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة، ذكر له فذكر هذا الحديث عن أبي [ (1) ] ذر رضي اللَّه عنه.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6- 64- 65، باب ما جاء في تسبيح الحصيات في كفّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم في كف بعض أصحابه، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 201، فصل ومثل هذا في سائر الجمادات، والخبر ذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) عن البيهقي، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) ، والطبراني في (الأوسط) .

(5/78)


وخرج أبو نعيم من حديث أبي اليمان قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري، قال الوليد- وفي رواية: ذكر الوليد بن سويد- أن رجلا من سليم كبير السن ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر أنه بينما هو قاعد يوما في مجلس وأبو ذر في ذلك المجلس، إذ ذكر عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، قال السّلمي: وأنا أظن في نفسي أن في نفس أبي ذر على عثمان معتبة لإنزاله إياه بالربذة، فلما ذكر له عثمان عرض له بعض أهل المجلس بذلك، وهو يظن أن في نفسه عليه معتبة، فلما ذكر قال أبو ذر: لا تقل في عثمان إلا خيرا، فإنّي أحبه، لقد رأيت منه منظرا، وشهدت منه مشهدا لا أنساه حتى الموت: كنت رجلا ألتمس خلوات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لأسمع منه ولآخذ، فهجرت يوما من الأيام فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد خرج من بيته، فسألت عنه الخادم فأخبرني أنه في بيت، فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكان حينئذ أرى أنه في وحي، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام وقال لي: ما جاء بك، فقلت: جاء بي اللَّه ورسوله، فأمرني أن أجلس فجلست إلى جنبه لا أسأله عن شيء ولا يذكره لي، فمكثت غير كثير ثم جاء أبو بكر رضي اللَّه عنه مسرعا فسلم، فرد السلام ثم قال: ما جاء بك؟ قال: جاء بي اللَّه ورسوله، فأشار إليه بيده أن أجلس إلى ربوة مقابل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الطريق بينه وبينها، حتى إذا استوى أبو بكر جالسا أشار بيده فجلس إلى جنبي عن يميني، ثم جاء عمر رضي اللَّه عنه ففعل مثل ذلك، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر على تلك الربوة، ثم جاء عثمان رضي اللَّه عنه فسلم فرد عليه السلام، فقال: ما جاء بك؟ قال: جاء بي اللَّه ورسوله، فأشار إليه بيده فقعد إلى الربوة، ثم أشار إليه فجلس إلى جنب عمر رضي اللَّه عنه فتكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بكلمة لم أفقه غير أنه قال: قليل ما تبقين، ثم قبض على حصيات سبع أو تسع أو قريب من ذلك فسبحن في يده حتى سمع لهن حنين كحنين النحل في كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم ناولهن أبا بكر رضي اللَّه عنه فسبحن في كفه. كما سبحن في كف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم أخذهن منه، فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عمر رضي اللَّه عنه فسبحن في كفه كما سبحن في كف أبي بكر رضي اللَّه عنه، ثم أخذهن منه فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان رضي اللَّه عنه فسبحن في كفه

(5/79)


كما سبحن في كف عمر رضي اللَّه عنه، ثم أخذهن فوضعهن في الأرض فخرسن.
وقد روى هذا الحديث من وجه آخر عن أبي ذر [ (1) ] .
وخرج الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر من حديث عمرو بن حماد الفراهيدي قال: حدثنا محرز الغيّاث عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أخذ سبع حصيات في يده فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد أبو بكر، فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عمر رضي اللَّه عنه فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في أيدينا رجلا رجلا فما سبحت حصاه منهن.
وذكر من طريق يوسف بن الصباح قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد،
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 431- 432، تسبيح الحصى، حديث رقم (338) ، (339) باختصار شديد.
قال الحافظ في (الفتح) : وقد اشتهر تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر قال: «تناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينا، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن» أخرجه البزار والطبراني في (الأوسط) ، وفي رواية الطبراني: «فسمع تسبيحهن في الحلقة» وفيه «ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا» .
قال البيهقي في (الدلائل) : كذا رواه صالح بن أبي الأخضر- ولم يكن بالحافظ- عن الزهري، عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر، والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال:
«ذكر الوليد بن سويد أن رجلا من بني سليم كان كبير السن ممن أدرك أبا ذر بالربذة ذكر له عن أبي ذرّ بهذا» (فتح الباري) : 6/ 734، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام.
فائدة: ذكر ابن الحاجب عن بعض الشيعة: أن انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتسليم الغزالة، مما نقل آحادا مع توافر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم يكذب رواتها، وأجاب بأنه استغنى عن نقلها تواترا بالقرآن.
وأجاب غيره بمنع نقلها آحادا، وعلى تسليمه فمجموعها يفيد القطع كما تقدم في أول هذا الفصل، والّذي أقول: إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأما من حيث الرواية فليست على حد سواء، فإن حنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كل منهما نقلا مستفيضا، يفيد القطع عند من يطلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك.
وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسنادا لا من وجه قوي ولا من وجه ضعيف، واللَّه تعالى أعلم. (المرجع السابق) : 734- 735.

(5/80)


حدثنا سعيد عن الحسن عن أنس قال: تناول النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من الأرض سبع حصيات فسبحن في يده، ثم ناولهن أبا بكر رضي اللَّه عنه فسبحن في يده كما سبحن في يد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم ناولهن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عمر رضي اللَّه عنه فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر، ثم ناولهن عثمان رضي اللَّه عنه فسبحن في يده كما سبحن في يد أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهم أجمعين.

(5/81)


[خامس عشر: تأمين أسكفّة [ (1) ] الباب وحوائط البيت على دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما تأمين أسكفّة الباب وحوائط البيت على دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن يونس الكديمي [ (2) ] قال: حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن إسحاق بن سعيد بن أبي وقاص الوقاصيّ، حدثنا جدي أبو موسى مالك بن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبي أسيد الأنصاري، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه: يا أبا الفضل، لا ترم منزلك غدا أنت وبنوك حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة، فانتظروا حتى جاء [بعد ما أضحى فدخل عليهم] [ (3) ] فقال: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته، قال: كيف أصبحتم؟ قالوا: أصبحنا بخير نحمد اللَّه، فكيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: أصبحت بخير، أحمد اللَّه، فقال تقاربوا تقاربوا ليزحف بعضكم إلى بعض ثلاثا، حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته وقال: يا رب، هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه، قال: فأمّنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين ... آمين ... آمين [ (4) ] .
قال البيهقي: تفرد به عبد اللَّه بن عثمان الوقاصي هذا، وهو ممن سأل عنه عثمان الدارميّ يحيى بن معين فقال: لا أعرفه.
__________
[ (1) ] أسكفة الباب: عتبته.
[ (2) ] الكديمي: وضّاع.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 71- 72، باب ما جاء في تأمين اسكفة الباب وحوائط البيت على دعاء نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم لعمه العباس رضي اللَّه عنه ولبني عمه إن صحت الرواية، (ضعيف سنن ابن ماجة للألباني) : 299- 300، كتاب الأدب، باب (18) الرجل يقال له: كيف أصبحت، حديث رقم (812- 3711) ، قال الألباني: ضعيف- التعليق على ابن ماجة، (دلائل أبي نعيم) :
2/ 432- 433، باب تأمين اسكفة الباب، حديث رقم (340) .

(5/82)


قال المؤلف رحمه اللَّه: هذا الحديث خرجه ابن ماجة، وعبد اللَّه هذا يروي عن جده لأمه مالك بن حمزة، وصباح الرومي، ويروي عنه إبراهيم بن عبد اللَّه الهروي، وأحمد بن أخي ابن وهب، والكديمي وجملة. قال أبو حاتم: شيخ يروي أحاديث مشتبهة. وقد خرجه ابن ماجة رحمه اللَّه تعالى في الأدب، عن إسحاق ابن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حاتم الهروي، عن عبد اللَّه الوقاصي.

(5/83)


[سادس عشر: نبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما نبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج البخاري [ (1) ] ومسلم [ (2) ] من حديث حماد بن زيد عن ثابت، عن أنس رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم دعا بماء- وقال البخاري: بإناء من ماء- فأتى بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه، قال أنس رضي اللَّه عنه فجعلت انظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. قال أنس:
فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين، وقال مسلم: فأتى بقدح رحراح فجعل القوم يتوضءون فحزرتهم ما بين السبعين إلى الثمانين. ذكره البخاري في كتاب الطهارة في باب الوضوء من التور، وذكره مسلم في أول المناقب.
وللبخاريّ من حديث يزيد قال: أخبرنا حميد عن أنس قال: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله [ (3) ] ، وبقي قوم، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بمخضب من حجارة فيه ماء، [فوضع كفه] [ (4) ] فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، [فضم أصابعه فوضعها في المخضب] [ (5) ] فتوضأ القوم كلهم [جميعا] [ (5) ] ، قلت: كم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 402، كتاب الوضوء، باب (46) الوضوء من التّور، حديث رقم (200) ، رحراح: متسع الفم.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 43، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (2279) قوله في هذه الأحاديث في نبع الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم وتكثيره، وتكثير الطعام، هذه كلها معجزات ظاهرات، وجدت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مواطن مختلفة، وعلى أحوال متغايرة، وبلغ مجموعها التواتر. وأما تكثير الماء فقد صحّ من رواية أنس، وابن مسعود، وجابر، وعمران ابن الحصين. (المرجع السابق) : 43، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 413، حديث رقم (321) بسياقة أخرى وسند آخر.
[ (3) ] في (خ) : «قريب الدار من المسجد يتوضأ» وما أثبتناه من رواية (البخاري) .
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] زيادة من (خ) .

(5/84)


كانوا [ (1) ] ؟ قال: ثمانون رجلا [ (1) ] . ذكره في باب علامات النبوة في الإسلام، وذكره [في كتاب] الطهارة في باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، من حديث عبد اللَّه بن بكر قال: حدثنا حميد عن أنس ... الحديث، وقال: فقام من كان قريب الدار من أهله، وقال في آخره: قلنا: كم كنتم؟ قال:
ثمانين وزيادة [ (2) ] .
وله من حديث عبد الرحمن بن المبارك قال: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن [يقول:] حدثنا أنس قال: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في بعض مخارجه ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون فحضرت الصلاة ولم يجدوا ماء يتوضءون، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير فأخذه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فتوضأ ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: قوموا فتوضئوا، فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء، وكانوا سبعين أو نحوه. ذكره في باب علامات النبوة في الإسلام [ (3) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أنه قال: رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وحانت [ (4) ] صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بوضوء فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده في ذلك الإناء [ (5) ] ، وأمر الناس أن يتوضئوا منه، قال: فرأيت الماء
__________
[ (1) ] في (البخاري) : «قال: كم كنتم» ، «ثمانين وزيادة» ، والمخضب، بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة: هو الإناء الّذي يغسل فيه الثياب وقد يطلق على الإناء صغيرا أو كبيرا. (فتح الباري) : 1/ 398 كتاب الوضوء باب (45) الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، حديث رقم (195) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 721، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3575) ، والتصويبات، السابقة منه.
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 720- 721، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3574) .
[ (4) ] في (خ) : «وجاءت» .
[ (5) ] في (خ) : «في ذلك الإناء يده» ، وما أثبتناه من (البخاري) .

(5/85)


ينبع من تحت أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم، [فتوضأ الناس] [ (1) ] حتى توضئوا من عند آخرهم.
ذكره البخاري في المناقب [ (2) ] ، وفي الطهارة في باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة [ (3) ] . وخرجه الترمذي في المناقب وقال: حديث حسن صحيح [ (4) ] .
وخرج البخاري [ (5) ] ومسلم [ (6) ] من حديث ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة، عن أنس قال: أتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة.
وخرج مسلم من حديث معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة قال:
حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه بالزوراء قال: والزوراء بالمدينة عند السوق والمسجد فيها، ثم دعا بقدح فيه ماء فوضع كفه فيه فجعل ينبع بين أصابعه، فتوضأ جميع أصحابه، قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة [ (6) ] .
وخرج من حديث [سعيد] عن قتادة عن أنس أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان بالزوراء، فأتى بإناء ماء لا يغمر أصابعه أو قدر ما يواري أصابعه، ثم ذكر نحو حديث هشام [ (7) ] .
__________
[ (1) ] زيادة من (خ) في رواية أخرى.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 720، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام. حديث رقم (3573) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 1/ 359- 360، كتاب الوضوء، باب (32) التماس الوضوء إذا حانت الصلاة، حديث رقم (169) .
[ (4) ] (تحفة الأحوذي) : 10/ 75- 76، أبواب المناقب، باب (31) ، حديث رقم (3874) ، وقال:
وفي الباب عن عمران بن حصين، وابن مسعود، وجابر. (قال أبو عيسى) : حديث حسن صحيح.
[ (5) ] (فتح الباري) : 6/ 720، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3572) .
[ (6) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 44، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (6) .
[ (7) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (8) .

(5/86)


وخرج البيهقي من حديث إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثنا أخي عن سليمان- وهو ابن بلال- عن عبيد اللَّه بن عمر عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك قال: خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى قباء فأتى من بعض بيوتهم بقدح صغير، قال: فأدخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يده فلم يسعه القدح، فأدخل أصابعه الأربع ولم يستطع أن يدخل إبهامه ثم قال للقوم: [هلموا] إلى الشراب، قال أنس: بصر عينيّ نبع الماء من بين أصابعه، فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا منه جميعا [ (1) ] .
قال البيهقي: هذه الروايات عن أنس تشبه أن يكون كلها خبرا عن واقعة [واحده، وذلك حين خرج إلى قباء، ورواية قتادة عن أنس تشبه أن تكون خبرا عن واقعة أخرى، واللَّه أعلم] [ (2) ] .
وخرج عن الرزاق من حديث معمر عن ثابت وقتادة، عن أنس قال: نظر بعض أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وضوءا فلم يجدوا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم هاهنا ماء، فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وضع يده في الإناء الّذي فيه الماء، ثم قال: توضئوا باسم اللَّه، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه والقوم يتوضئون حتى توضئوا من آخرهم، قال ثابت: قلت لأنس: كم تراهم كانوا؟ قال: نحوا من سبعين [ (3) ] .
وخرج البخاري من حديث حصين عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: عطش الناس يوم الحديبيّة والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم بين يديه ركوة، فجهش الناس نحوه، قال: ما لكم؟ قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا،
قلت: كم كنتم قال: لو كنا مائة ألف لكفانا،
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 123، باب ذكر البيان أن خروج الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان غير مرة، وزيادة ماء البئر ببركة دعائه، كانت له عادة، وكل واحد فيهما دليل واضح من دلائل النبوة.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين تصويب للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 124، وأخرجه البخاري بنحو منه في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام وقد سبق ذكره.

(5/87)


كنا خمس عشرة مائة. ذكره في باب علامات النبوة [ (1) ] ، وذكره في عمرة الحديبيّة [ (2) ] أيضا، وقال: عن جابر عطش الناس ... الحديث إلى آخره بنحوه، وقال فيه: فجعل الماء يفور، وفيه: كم كنتم يومئذ ... الحديث مثله.
وخرج في كتاب الأشربة من حديث الأعمش قال: حدثني سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد اللَّه هذا الحديث قال: قد رأيتني مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقد حضرت العصر وليس معنا ماء غير فضلة، فجعل في إناء فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم به، فأدخل يده فيه وفرج أصابعه ثم قال: حي على أهل الوضوء والبركة من اللَّه، فلقد رأيت الماء ينفجر من بين أصابعه، فتوضأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه، فعلمت أنه بركة.
قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وأربعمائة. تابعه عمرو بن دينار عن جابر، وقال حصين عن جابر. ترجم عليه: باب شرب البركة والماء المبارك [ (3) ] .
وخرج البيهقي من حديث أبي عوانة، عن الأسود عن قيس عن نبيح [ (4) ] العنزي قال: قال جابر بن عبد اللَّه: غزونا أو سافرنا [ونحن] [ (5) ] مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ونحن يومئذ بضع عشرة مائة، فحضرت الصلاة فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هل في القوم من طهور؟ فجاء رجل يسعى باداوة فيها شيء من ماء ليس في القوم ماء غيره، وصب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في قدح ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، قال: فركب الناس ذلك القدح وقال: تسمحوا تمسحوا، فقال
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 721، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3576) ، جهش: أسرعوا لأخذ الماء.
[ (2) ] (فتح الباري) : 7/ 560، كتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، حديث رقم (4152) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 125، كتاب الأشربة، باب (31) ، شرب البركة والماء المبارك، حديث رقم (5639) .
[ (4) ] في (خ) : «نباح» وصوبناه من (دلائل البيهقي) ، (تهذيب التهذيب) : 10/ 372، وهو نبيح ابن عبد العنزي أبو عمرو الكوفي.
[ (5) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .

(5/88)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: على رسلكم حين سمعهم يقولون ذلك، قال: فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كفه في الماء والقدح وقال: سبحان اللَّه! ثم قال: أسبغوا الوضوء.
فو الّذي ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون: عيون الماء تخرج من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولم يرفعها حتى توضئوا أجمعون [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يعقوب بن مجاهد، عن عباد ابن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم [ (2) ] ، فذكر الحديث إلى أن قال: فأتينا العسكر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يا جابر ناد بوضوء، فقلت: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال: قلت: يا رسول اللَّه ما وجدت في الركب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد، قال: فقال لي: انطلق إلى فلان بن فلان الأنصاري، فانظر هل في أشجابه من شيء؟ قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسه.
فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أني أفرغه لشربه يابسة، فقال: اذهب فأتني به، فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو ويغمزه بيده، ثم أعطانيه فقال: يا جابر، ناد بجفنة، فقلت: يا جفنة الركب، فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده الجفنة هكذا فبسطها وفرق بين أصابعه ثم وضعها في قعر الجفنة وقال: خذ يا جابر فصب عليّ وقل: باسم اللَّه، فصببت عليه وقلت: باسم اللَّه، فرأيت الماء يتفوّر من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم فأرت الجفنة ودارت حتى أمتلأت، ثم قال: يا جابر، ناد من كان له حاجة بماء، قال: فأتى الناس فاستقوا
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 117- 118، باب ما ظهر في الحديبيّة بخروج الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين لم يكن لأصحابه ماء يشربونه ويتوضئون به من دلالات النبوة، والأشبه أن ذلك كان مرجعهم عام الحديبيّة حين دعا في أزوادهم بالبركة، (سنن الدارميّ) : 13- 14، باب ما أكرم اللَّه به النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من تفجير الماء من بين أصابعه باختلاف يسير.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 343، كتاب الزهد والرقاق، باب (18) حديث جابر الطويل، حديث رقم (3006) .

(5/89)


حتى رووا، قال: فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟ فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى [ (1) ] .
وذكر الحديث.
وخرج البيهقي- رحمه اللَّه- من حديث عبد اللَّه بن يزيد المقري قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن نعيم الحضرميّ قال: [ (2) ] سمعت زياد بن الحرث الصّدائي [صاحب رسول اللَّه] [ (3) ] ، يحدث قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فبايعته على الإسلام فذكر الحديث [إلى أن قال] [ (3) ] ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اعتشى من أول الليل- أي سار من أول الليل- فلزمته وكنت قويا، وكان أصحابه ينقطعون عنه ويستأخرون، حتى لم يبق معه أحد غيري، فلما كان أذان صلاة الصبح أمرني فأذّنت، فجعلت أقول: أقيم يا رسول اللَّه؟ فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر فيقول: لا، حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرّز ثم انصرف إليّ وقد تلاحق أصحابه فقال: هل من ماء يا أخا صداء؟ فقلت: لا، إلا شيء قليل لا يكفيك، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اجعله في إناء ائتني به، ففعلت، فوضع كفه في الماء، قال الصدائي: فرأيت بين إصبعين من أصابعه عينا تفور!! فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
لولا أني استحيي من ربي لسقينا واستقينا، ناد في أصحابي من كان له حاجة في الماء، فناديت فيهم، فأخذ من أراد منهم. فذكر الحديث [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 18/ 352- 353، كتاب الزهد والرقاق، باب (18) حديث جابر الطويل، حديث رقم (3013) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثنا زياد بن نعيم الحضرميّ، قال:» .
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 125- 127، باب ذكر البيان أن خروج الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كان غير مرة، وزيادة ماء البئر ببركة دعائه كانت له عادة، وكل واحد منها دليل واضح من دلائل النبوة.
والحديث أخرجه أيضا الترمذي في الصلاة، باب ما جاء أن من أذّن فهو يقيم، حديث رقم (199) مختصرا، وأبو داود في الصلاة، باب الرجل يؤذن ويقيم آخر، حديث رقم (514) مختصرا من طريق عبد اللَّه بن عمر بن غانم، ابن ماجة في كتاب الأذان، باب (3) السنة في الأذان، حديث رقم (717) ، ورواه البيهقي في (السنن) : 1/ 381، 1/ 399.

(5/90)


وخرج الإمام أحمد من حديث أبي كدينة عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ذات يوم وليس في العسكر ماء، فقال رجل: يا رسول اللَّه ليس في العسكر ماء، قال:
هل عندك شيء؟ قال: نعم، فأتى بإناء فيه شيء من ماء، قال: فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أصابعه في فم الإناء، وفتح أصابعه، قال: فلقد رأيت العيون تنبع من بين أصابعه، قال: فأمر بلالا ينادي في الناس: الوضوء المبارك [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فقلّ الماء فقال: اطلبوا فضله من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من اللَّه، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. ذكره في باب علامات النبوة [ (2) ] .
قال الحفاظ أبو عمر بن عبد اللَّه بن عبد البر: الّذي أوتي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من هذه الآية المعجزة، أوضح في آيات الأنبياء وأعلامهم مما أعطي موسى عليه السلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتي عشرة عينا، وذلك أن الحجارة مما يشاهد انفجار الماء منها، ولم يشاهد قط أحد من الآدميين يخرج من بين أصابعه الماء إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد برع بنحو ما قلت المزني وغيره.
قال الإمام الحافظ أبو نعيم: وهذه الآية من أعجب الآيات أعجوبة، وأجلها معجزة، وأبلغها دلالة، شاكلت دلالة موسى عليه السلام في تفجر الماء من الحجر حين ضرب بعصاه، لا بل هذا أبلغ من الأعجوبة، لأن نبع الماء من بين اللحم والعظم أعظم من خروجه من الحجر، لأن الحجر سنخ [ (3) ] من أسناخ الماء، مشهور في المعلوم، مذكور في المتعارف، وما رئي وما سمع بماء قط في ماضي
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 1/ 416، حديث رقم (2268) ، (دلائل البيهقي) : 4/ 127- 128.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 728، كتاب المناقب، باب (25) دلائل النبوة، حديث رقم (3579) .
[ (3) ] السنخ: الأصل.

(5/91)


الدهور نبع وانفجر من أجساد بني آدم، حتى صدر عنه الجم الغفير من الناس والحيوان رواء، وانفجار الماء من الأحجار ليس بمنكر ولا بديع، وخروجه وتفجره من بين الأصابع معجز بديع [ (1) ] .
قال المؤلف رحمه اللَّه: وحديث تفجر الماء من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يرتاب في صحته إلا فاسد العقيدة مدخول في دينه، فقد روي من طرق كثيرة عن عشرة من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنهم شاهدوا ذلك، هم: عبد اللَّه بن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو قتادة، وأنس بن مالك، وعبد اللَّه بن عباس، وأبو ليلى، والبراء بن عازب، وأبو رافع، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وسلمة بن الأكوع، رضي اللَّه عنهم.
قال القاضي عياض- رحمه اللَّه- ومثل هذا في هذه المواطن الحفلة، والجموع الكثيرة، لا تتطرق التهمة إلى المتحدث بها، لأنهم كانوا أسرع شيء إلى تكذيبه لما جبلت عليه النفوس من ذلك، لأنهم كانوا ممن لا يسكت على باطل، فهؤلاء قد رأوا هذا وأشاعوه، ونسبوا حضور الجماعة الغفير له، ولم ينكر أحد من الناس عليهم ما حدثوا به عنهم أنهم فعلوه، فصار كتصديق جميعهم له [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 405، الفصل الحادي والعشرون: في فوران الماء من بين أصابعه صلّى اللَّه عليه وسلم سفرا وحضرا.
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 188، فصل في نبع الماء بين أصابعه، وتكثيره ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم.

(5/92)


[سابع عشر: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في تكثير الماء القليل]
وأما ظهور بركته في تكثير الماء القليل الّذي كان في الميضأة،
فخرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت عن عبد اللَّه بن رباح، عن أبي قتادة قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء اللَّه غدا، فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، قال أبو قتادة: فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسير حتى ابهارّ [ (1) ] الليل وأنا إلى جنبه.
قال: فنعس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى تهوّر [ (2) ] الليل مال عن راحلته، قال: فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الأوليين حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك اللَّه بما حفظت به نبيه، ثم قال: هل ترانا نخفي على الناس؟ ثم قال: هل ترى من أحد؟ قلت:
هذا راكب آخر [ثم قلت هذا راكب آخر] [ (3) ] حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب.
قال: فمال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن الطريق [فوضع رأسه] [ (3) ] ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا، فكان أول من استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والشمس في ظهره، قال:
فقمنا فزعين، ثم قال: اركبوا، فركبنا فسرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، قال: فتوضأ منها وضوءا دون وضوء، قال:
__________
[ (1) ] ابهارّ الليل: انتصف.
[ (2) ] تهوّر الليل: ذهب أكثره.
[ (3) ] زيادة للسياق من (صحيح مسلم) .

(5/93)


وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة: احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة، فصنع كما يصنع كل يوم، قال: وركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وركبنا معه.
قال: وجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟
ثم قال: ما لكم فيّ أسوة؟ ثم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟.
قال: ثم قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما: يا رسول اللَّه، بعدكم لم يكن ليخلفكم، وقال الناس: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، قال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمى كل شيء وهم يقولون: يا رسول اللَّه! هلكنا عطشا، فقال: لا هلك عليكم، ثم قال: أطلقوا إلي غمري.
قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة، تكابوا عليها، فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أحسنوا الملأ، كلكم سيروى، قال: ففعلوا، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصب وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: ثم صب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال لي:
اشرب، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول اللَّه، فقال: ساقي القوم آخرهم.
قال: فشربت وشرب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وأتى الناس الماء جامين [ (1) ] .
رواء، قال: فقال عبد اللَّه بن رباح: إني لأحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، إذ قال عمران بن حصين: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإنّي أحد الركب تلك الليلة، قال: قلت: فأنت أعلم بالحديث، فقال من أنت؟ قلت: من الأنصار، قال: حدّث فأنت أعلم بحديثكم، قال: فحدثنا القوم، فقال عمران: لقد
__________
[ (1) ] جامين: نشاطا مستريحين.

(5/94)


شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدا حفظه كما حفظته [ (1) ] .
وخرجه البيهقي من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت عن عبد اللَّه بن رباح، عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر فقال: أن لا تدركوا الماء تعطشوا؟ فانطلق سرعان الناس يريد الماء، ولزمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تلك الليلة، فمالت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم راحلته، فنعس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمال فدعمته فادّعم، ومال فدعمته فادّعم، ثم مال [فدعمته] فادّعم ثم مال حتى كاد أن ينجفل عن راحلته فدعمته فانتبه فقال: من الرجل؟ فقلت: أبو قتادة، فقال: حفظك اللَّه بما حفظت به رسول اللَّه، ثم قال: لو عرسنا، فمال إلى شجرة فنزل فقال: انظر هل ترى أحدا؟ فقلت: هذا راكب، هذا راكبان، حتى بلغ سبعة، فقال: احفظوا علينا صلاتنا.
قال: فنمنا فما أيقظنا إلا حرّ الشمس، فانتبهنا فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وسار وسرنا هنيهة ثم نزل فقال: أمعكم ماء؟ فقلت: نعم ميضأة فيها شيء من ماء، قال: فأتني بها فأتيته بها فقال: صبوا منها، فتوضأ القوم وبقي في الميضأة جرعة فقال: ازدهر بها يا أبا قتادة، فإنه سيكون لها شأن.
ثم أذن بلال فصلى الركعتين قبل الفجر، ثم ركب وركبنا، فقال بعضنا لبعض: فرطنا في صلاتنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإليّ، قلنا: يا رسول اللَّه! فرطنا في صلاتنا، قال لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإذا كان ذلك فصلوها من الغد لوقتها، ثم قال: ظنوا بالقوم فقلنا: إنك قلت بالأمس: أن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا، فأتى الناس الماء، فقال: أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم.
فقال بعض القوم: إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا، فأتى الناس الماء وفي القوم أبو بكر وعمر قالا: أيها الناس، إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لم يكن ليسبقكم إلى
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) 5/ 1910- 193، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب (55) قضاء الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، حديث رقم (681) .

(5/95)


الماء ويخلّفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا- قالها ثلاثا- فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه! هلكنا عطشا، انقطعت الأعناق، قال: لا هلاك عليكم اليوم، ثم قال: يا أبا قتادة، ائتني بالميضأة، فأتيته بها، فقال: حل لي عن غمري- يعني قدحه- فحللته فأتيته به، فجعل يصب فيه ويسقي الناس، فقال: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أحسنوا الملأ فكلكم سيصدر عن ري، فشرب القوم حتى لم يبق غيري ورسول اللَّه، فصب لي فقال: اشرب يا أبا قتادة، قلت: اشرب أنت يا رسول اللَّه، فقال: إن ساقي القوم آخرهم، فشربت ثم شرب بعدي، وبقي في الميضأة نحو مما كان فيها، وهم يومئذ ثلاثمائة ...
الحديث.
قال حماد: وحدثنا حميد عن بكر بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن رباح، عن أبي قتادة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم مثله وزاد فيه: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، فإذا عرس قرب الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى وأقام ساعده [ (1) ] .
وخرجه أيضا من طريق الحافظ أبي أحمد عبد اللَّه بن عدي قال: أخبرنا أبو يعلي، حدثنا شيبان بن سعيد بن سليمان- يعني الضّبعيّ- حدثنا أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جهز جيشا إلى المشركين فيهم أبو بكر رضي اللَّه عنه، فقال لهم: اغذوا السير، فإن بينكم وبين المشركين ماء، إن سبق المشركون إلى ذلك الماء شق على الناس وعطشتم عطشا شديدا أنتم ودوابكم، قال:
وذكر الحديث [ (2) ] .
قال البيهقي: وتمام الحديث فيما ذكر شيخنا أبو عبد اللَّه الحافظ، عن أبي محمد المزني، عن أبي يعلى بهذا الإسناد، وقال تخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في ثمانية أنا تاسعهم، قال لأصحابه: هل لكم أن نعرّس قليلا ثم نلحق بالناس؟ قالوا: نعم
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 132- 134، باب حديث الميضأة وما ظهر في ذلك من آثار النبوة ودلالات الصدق.
[ (2) ] المرجع السابق: 134- 135.

(5/96)


يا رسول اللَّه، فعرسوا فما أيقظهم إلا حرّ الشمس، فاستيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، واستيقظ أصحابه فقال لهم: تقدموا واقضوا حاجتكم، ففعلوا ورجعوا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال لهم: هل مع أحد منكم ماء؟ قال رجل منهم: يا رسول اللَّه. معي ميضأة فيها شيء من ماء، قال: جيء بها، فأخذها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمسحها بكفه ودعا بالبركة فيها، فقال لأصحابه: تعالوا فتوضئوا، فجاءوا فجعل يصبّ عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى توضئوا، وأذن رجل منهم وأقام، فصلى بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال لصاحب الميضأة: ازدهر بميضأتك فسيكون لها نبأ.
وركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قبل الناس وقال لأصحابه: ما ترون الناس فعلوا؟
قال: اللَّه ورسوله أعلم، فقال لهم: فيهم أبو بكر وعمر وسيرشد الناس، وقد سبق المشركون إلى ذلك الماء فشق على الناس وعطشوا عطشا شديدا، ركائبهم ودوابهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أين صاحب الميضأة؟ قال: هو ذا يا رسول اللَّه، قال جئني بميضأتك، فجاء بها وفيها شيء من ماء، فقال لهم: تعالوا فاشربوا، فجعل يصب لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى شرب الناس كلهم، وسقوا دوابهم وركائبهم، وملئوا كل إداوة وقربة ومزادة، ثم نهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين، فبعث اللَّه ريحا، فهرب وجوه المشركين، وأنزل اللَّه نصره وأمكن من أدبارهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا أسارى واستاقوا غنائم كثيرة، فرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم والناس وافرين صالحين [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثني [عبد اللَّه بن عبد] [ (2) ] العزيز أخو عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي صعصعة المازني، عن خلاد بن سويد عن أبي قتادة قال: بينا نحن نسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الجيش ليلا وهو قافل من تبوك وأنا معه، إذ خفق خفقة وهو على راحلته، فمال على شقة فدنوت منه فدعمته، فانتبه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة يا رسول اللَّه، خفت أن تسقط فدعمتك، فقال:
حفظك اللَّه كما حفظت رسوله، ثم سار غير كثير ففعل مثلها فدعمته فانتبه فقال:
__________
[ (1) ] المرجع السابق: 134- 135.
[ (2) ] زيادة للنسب من (مغازي الواقدي) .

(5/97)


يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول اللَّه، فقال: انظر من خلفك، فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال: ادعهم، فقلت: أجيبوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجاءوا فعرّسنا ونحن خمسة برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وبقي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها، فما انتبهنا إلا بحر الشمس، فقلت: إنا للَّه! فاتنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لنغيظن الشيطان كما غاظنا، فتوضأ من الإداوة ففضل فضلة فقال:
يا أبا قتادة، احتفظ بما في الإداوة والركوة فإن لها شأنا، ثم صلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس، فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا، وذلك أن أبا بكر وعمر رضي اللَّه عنهما أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا عليهما، فنزلوا بفلاة من الأرض على غير ماء بفلاة من الأرض، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه، وقد كادت تقطع أعناق الرجال والدواب عطشا، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالركوة فأفرغ ما في الإداوة فيها، فوضع أصابعه عليها، فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى رووا هم ورواحلهم [ (1) ] ، وكان في العسكر اثنى عشر ألف بعير، ويقال: خمسة عشر ألف بعير، والناس ثلاثون ألفا، والخيل عشرة آلاف.
وذلك قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأبي قتادة: احتفظ بالركوة والإداوة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في (مغازي الواقدي) : «حتى تروّوا وأرووا خيلهم وركابهم» .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1040- 1041.

(5/98)


[ثامن عشر: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في مزادتي [ (1) ] المرأة]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في مزادتي المرأة،
فخرج البخاري ومسلم من حديث سلم بن زرير العطاردي قال: سمعت أبا رجاء العطاري عن عمران بن حصين قال: كنت مع نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مسيرته، فأدلجنا ليلتنا حتى إذا كان في وجه الصبح عرّسنا، فغلبتنا أعيننا حتى بزغت الشمس- وقال البخاري حتى ارتفعت الشمس- قال: فكان أول من استيقظ منا أبو بكر رضي اللَّه عنه، وكنا لا نوقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من منامه إذا نام حتى يستيقظ، ثم استيقظ عمر رضي اللَّه عنه فقام عند نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما رفع رأسه ورأى الشمس قال: ارتحلوا، فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل فصلى بنا الغداة، فاعتزل رجل من القوم ولم يصل معنا، فلما انصرف قال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا فلان! ما منعك أن تصلي معنا؟ فقال: يا نبي اللَّه أصابتني جنابة، فأمره رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فتيمم بالصعيد فصلى، ثم عجلني في ركب بين يديه، نطلب الماء وقد عطشنا عطشا شديدا، فبينما نحن نسير، إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين [ (1) ] ، فقلنا لها: أين الماء؟ قلت: أيهاه أيهاه [ (2) ] ، لا ماء لكم، قلنا:
فكم بين أهلك وبين الماء؟ قالت مسيرة يوم وليلة، قلنا: انطلقي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قالت: وما رسول اللَّه؟ فلم نملكها من أمرها شيئا حتى انطلقنا بها، فاستقبلنا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فسألها فأخبرته مثل الّذي أخبرتنا به، وأخبرته أنها مؤتمة لها
__________
[ (1) ] المزادتان: حمل البعير، سميت مزادة لأنه يزاد فيها من جلد آخر من غيرها.
[ (2) ] أيهاه أيهاه: بمعنى هيهات هيهات، ومعناه: البعد من المطلوب واليأس منه، كما قالت بعده: لا ماء لكم، أي ليس لكم ماء حاضر ولا قريب، وفي هذه اللفظة بضع عشرة لغة ذكرها الإمام النووي كلها مفصّلة، واضحة متقنة، مع شرح معناها وتصريفها، وما يتعلق بها، في (تهذيب الأسماء واللغات) : 4/ 185- 188، فليراجع لك.

(5/99)


صبيان أيتام، فأمر بروايتيها فأنيخت، فمجّ في العزلاوين العلياوين [ (1) ] ، ثم بعث براويتها فشربنا ونحن أربعون رجلا عطاش حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وإداوة، وغسّلنا صاحبنا [ (2) ] ، غير أنا لم نسق بعيرا وهي تكاد تنضرج [ (3) ] من الماء- يعني المزادتين- ثم قال: هاتوا ما كان عندكم، فجمعنا لها من كسر وتم، وصرّ لها صرّة فقال لها: اذهبي فأطعمي هذا عيالك، واعلمي أنا لم نرزأ من مائك، فلما أتت أهلها قالت: لقد لقيت أسحر البشر أو أنه نبي كما زعم، كان من أمره ذيت وذيت، فهدى اللَّه ذلك الصرم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا [ (4) ] .
اللفظ لمسلم، ذكره في كتاب الطهارة [ (5) ] ، وهو أتم من لفظ البخاري وأكثر.
وقال البخاري في حديثه: فاستيقظ عمر فقعد أبو بكر عند رأسه فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فنزل وصلى بنا الغداة، فاعتزل رجل. وقال فيه: فقلنا لها: أين الماء؟ فقالت: إنه لا ماء، ولم يقل: أيهاه أيهاه، ولم يقل فيه: غسلنا صاحبنا، وقال فيه: وهي تكاد من الماء. ذكره في باب علامات النبوة [ (6) ] .
وأخرجاه من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن الحصين قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فسرنا ليلة حتى إذا كنا من آخر الليل قبيل الصبح، وقعنا تلك الوقعة التي لا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس.
وساق الحديث بنحو حديث سلم بن زرير،
__________
[ (1) ] العزلاء بالمد: هو المشعب الأسفل للمزادة الّذي يفرغ منه الماء، ويطلق أيضا على فمها الأعلى.
[ (2) ] يعني الجنب: وفيه دليل على أن المتيمم عن الجنابة إذا أمكنه استعمال الماء اغتسل.
[ (3) ] تنضرج: تتشقق.
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 194- 196، كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها، باب (55) قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، حديث رقم (862) .
[ (5) ] كذا في (خ) ، والصواب ما أثبتنا في التعليق السابق.
[ (6) ] (فتح الباري) : 6/ 719- 720، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3571) ، (فتح الباري) : 1/ 589- 590، كتاب التيمم، باب (6) الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، حديث رقم (344) .

(5/100)


وزاد ونقص، وقال في الحديث: فلما استيقظ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه رأى ما أصاب الناس- وكان أجوف جليدا- فكبر ورفع صوته بالتكبير حتى استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لشدة صوته بالتكبير، فلما استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شكوا إليه الّذي أصابهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا ضير، ارتحلوا، واقتصّ الحديث.
لم يزد مسلم على هذا [ (1) ] .
وخرجه البخاري من حديث عوف قال، حدثنا أبو رجاء عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة، ولا وقعة عند المسافر أحلى منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف ثم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه الرابع، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو المستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس- وكان رجلا جليدا فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما استيقظ صلّى اللَّه عليه وسلم شكوا إليه الّذي أصابهم فقال:
لا ضير أو لا يضير، ارتحلوا فارتحل، فسار غير بعيد ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة بالناس، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلّ مع القوم، فقال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم سار رسول اللَّه فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانا، - كان يسميه أبو رجاء، نسيه عوف- ودعا عليا رضي اللَّه عنه فقال: اذهبا فابتغيا الماء، فانطلقا فلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفا، قالا لها: انطلقي إذا، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قالت إلى الّذي يقال له الصابيء؟ قالا: هو الّذي تعنين، فانطلقي، فجاءا بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.. وحدثنا الحديث. قال: فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 5/ 197، كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها باب (55) ، قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، الحديث الّذي يلي الحديث رقم (862) من أحاديث الباب بدون رقم:

(5/101)


بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأوكأ أفواههما، وأطلق العزالي ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء واستقى من شاء وأعطى، وكان آخر ذاك أن أعطى الّذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: اذهب فأفرغه عليك، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم اللَّه لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أجمعوا لها، فجمعوا لها ما بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا ولكن اللَّه هو الّذي أسقانا،
فأتت أهلها- وقد احتبست عنهم- قالوا: ما حبسك يا فلانة؟
قالت: العجب! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الّذي يقال له الصابيء، ففعل كذا وكذا، واللَّه إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى، والسبابة، فرفعتهما إلى السماء تعنى السماء والأرض، أو إنه لرسول اللَّه حقا، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصّرم الّذي هي منه، فقالت يوما لقومها: ما أدري أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام [ (1) ] .
وخرج عبد الرزاق من حديث معمر، عن عوف عن أبي رجاء، عن عمران قال: سرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر هو وأصحابه، قال: فأصابهم عطش شديد، فأقبل رجلان من أصحابه- قال: أحسبه عليا والزبير رضي اللَّه عنهما أو غيرهما- قال: إنكما ستجدان امرأة بمكان كذا وكذا، معها بعير عليه مزادتان فأتيا بها، قال: فأتيا المرأة فوجداها قد ركبت بين مزادتين على البعير، فقالا لها: أجيبي رسول اللَّه، قالت: ومن رسول اللَّه؟ أهذا الصابيء؟ قالا: هو الّذي تعنين وهو رسول اللَّه حقا، فجاءا بها، فأم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجعل في إناء من مزادتيها ثم قال فيه ما شاء اللَّه أن يقول، ثم أعاد الماء في المزادتين ثم أمر بعزلاء المزادتين ففتحتا، ثم أمر الناس فملئوا آنيتهم وأسقيتهم، فلم يدعوا يومئذ إناء ولا سقاء إلا ملئوه، قال عمران:
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 589- 590، كتاب التيمم، باب (6) الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، حديث رقم (344) .

(5/102)


فكان يخيل إليّ أنها لم تزدد إلا امتلاء. قال: فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بثوبها فبسط، ثم أمر أصحابه فجاءوا من زادهم حتى ملئوا لها ثوبها، ثم قال لها: اذهبي فإنا لم نأخذ من مائك شيئا، ولكن اللَّه عزّ وجلّ سقانا، قال فجاءت أهلها فأخبرتهم فقالت:
جئت من عند أسحر الناس أو أنه لرسول اللَّه حقا، قال: فجاء أهل ذلك الصّرم [ (1) ] حتى أسلموا كلهم.
وخرج البيهقي رحمه اللَّه من حديث يونس بن بكير، عن عباد بن منصور الناجي قال: حدثني أبو رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج في سبعين راكبا فسار بأصحابه، وأنهم عرّسوا قبل الصبح، فنام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه حتى طلعت الشمس، فاستيقظ أبو بكر رضي اللَّه عنه فرأى الشمس قد طلعت فسبّح وكبّر، كأنه كره أن يوقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى استيقظ عمر رضي اللَّه عنه، فاستيقظ رجل جهير الصوت، فسبح وكبر ورفع صوته جدا، حتى استيقظ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رجل من أصحابه: يا رسول اللَّه! فاتتنا الصلاة، قال: لم تفتكم، ثم أمرهم فركبوا وساروا هنيهة، ثم نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ونزلوا معه، وكأنه كره أن يصلي في المكان الّذي نام فيه عن الصلاة، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ائتوني بماء، فأتوه بجريعة من ماء في مطهرة، فصبها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في إناء ثم وضع يده في الماء ثم قال لأصحابه: توضئوا، فتوضأ قريب من سبعين رجلا، ثم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن ينادى بالصلاة، فنودي بها، ثم قام فصلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما انصرف إذا رجل من أصحابه قائم، فلما رآه قال له: ما منعك أن تصلي؟ قال: يا رسول اللَّه أصابتني جنابة، قال: فتيمم بالصعيد، فإذا فرغت فصل، وإذا أدركت الماء فاغتسل.
__________
[ (1) ] الصّرم: الأبيات المجتمعة من الناس، وقال الحافظ في (الفتح) : وفي هذه القصة مشروعية تيمم الجنب، وفيها جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، لأن سياق القصة يدل على أن التيمم كان معلوما عندهم، ولكنه صريح في الآية عن الحدث الأصغر، بناء على أن المراد بالملامسة ما دون الجماع، وأما الحدث الأكبر فليست صريحة فيه. فكأنه كان يعتقد أن الجنب لا يتيمم، فعمل بذلك مع قدرته على أن يسأل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن هذا الحكم، ويحتمل أنه كان لا يعلم مشروعية التيمم أصلا، فكان حكمه حكم فاقد الطهورين، ويؤخذ من هذه القصة أن للعالم إذا رأى محتملا أن يسأل فاعله عن الحال فيه ليوضح له وجه الصواب، وفيه التحريض على الصلاة في الجماعة، وفيه حسن الملاطفة، والرّفق في الإنكار. مختصرا من (فتح البخاري) : 1/ 594.

(5/103)


وأصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه لا يدرون أين الماء منهم، فبعث عليا رضي اللَّه عنه معه نفر من أصحابه يطلبون له الماء، فانطلق في نفر فسار يومه وليلته، ثم لقي امرأة على راحلة بين مزادتين، فقال لها علي رضي اللَّه عنه: من أين أقبلت؟
فقالت: [إني استقيت] [ (1) ] لأيتام، فلما قالت له وأخبرته أن بينه وبين الماء مسيرة ليلة وزيادة على ذلك، قال عليّ واللَّه لئن انطلقنا لا نبلغ حتى تهلك دوابّنا ويهلك من هلك منا، ثم قال: ننطلق بهاتين المزادتين إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى ينظر في ذلك، فلما جاء عليّ وأصحابه، وجاءوا بالمرأة على بعيرها بين مزادتين، قال عليّ: يا رسول اللَّه، بأبي وأمي، إنا وجدنا هذه بمكان كذا وكذا، فسألتها عن الماء فزعمت أن بينها وبين الماء مسيرة ليلة وزيادة، فظننا أن لم نبلغه حتى يهلك منا من هلك.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أنيخوا لها بعيرها، فأناخوا لها بعيرها، فأقبلت عليهم فقالت: استقيت لأيتام وقد احتبست عنهم جدا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ائتوني بإناء، فقال: افتحوا عزلاء هذه المزادة فخذوا منها ماء يسيرا، ثم افتحوا عزلاء هذه فخذوا منها ماء يسيرا أيضا ففعلوا، ثم إن رسول اللَّه دعا فيه وغمس يده فيه وقال: افتحوا لي أفواه المزادتين ففتحوا، فحثا في هذه قليلا وفي هذه قليلا ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لأصحابه: اشربوا، فشربوا حتى رووا، ثم قال: اسقوا ظهرهم، فسقوا الظهر حتى روى، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هاتوا ما كان لكم من قربة أو مطهرة فاملئوها، فجاءوا بقربهم ومطاهرهم فملئوها، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم شدوا عزلاء هذه وعزلاء هذه ثم قال: ابعثوا البعير فبعثوها، فنهضت وإن المزادتين لتكادان تقطران من ملئهما.
ثم أخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم كساء المرأة ثم قال لأصحابه: هاتوا ما كان عندكم من شيء، فجعلوا يجيئون بالكسرة، من الخبز والشيء من التمر حتى جمع لها، ثم أخذ كساءها ذلك فشده ثم دفعه إليها ثم قال: خذي هذه لأيتامك، وهذا ماؤك وافرا.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .

(5/104)


فجعلت تعجب مما رأت، ثم انطلقت حتى أتت أهلها فقالوا: [قد] [ (1) ] احتبست علينا! فما حبسك؟ قالت: حبسني أني رأيت عجبا من العجب، أرأيتم مزادتي هاتين؟ فو اللَّه لقد شرب منها قريب من سبعين نفرا، وأخذوا من القرب والمزاد والمطاهر ما لا أحصي، ثم لهما الآن أوفر منهما يومئذ، فلبثت شهرا أو نحوا من ذلك عند أهلها، ثم أقبلت في ثلاثين راكبا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأسلمت وأسلموا [ (2) ] .
قال المؤلف- عفى اللَّه عنه-: وقد اختلف في نوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عن صلاة الصبح في سفره، فروى مالك في (الموطأ) عن زيد بن أسلم أنه قال: عرّس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة ... ،
الحديث [ (3) ] .
قال ابن عبد البر: وأظنها قصة واحدة لم يعرض إلا مرة واحدة فيما تدل عليه الآثار، واللَّه أعلم أن بعضها فيه مرجعه من حنين، وبعضها فيه مرجعه من خيبر، لذلك قال ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب في حديثه هذا هو أقوى ما يروى في ذلك، وهو الصحيح إن شاء اللَّه.
وفي حديث ابن مسعود: من يوقظنا؟ فقلت: أنا أوقظكم، وليس في ذلك دليل على أنها غير قصة بلال، لأنه لم يقل له أيقظنا، ويحتمل أن لا يجيبه إلى ذلك ويأمر بلالا.
وقال ابن مسعود في هذا الحديث زمن الحديبيّة، وهو زمن واحد في عام واحد، لأنه منصرفه من الحديبيّة مضى إلى خيبر في عامه ذلك ففتحها اللَّه عليه، وفي الحديبيّة نزلت: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً [ (4) ] يعني خيبر، وكذلك فتحها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أهل الحديبيّة.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 279- 281، باب ذكر حديث عمران بن حصين وما ظهر في خبر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن صاحبة المزادتين، ثم في ماء المزادتين حين أتي به وفي بقية الماء التي كانت معه من علامات النبوة ودلالات الصدق.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 273.
[ (4) ] الفتح: 20.

(5/105)


وروى خالد بن شمير [ (1) ] عن عبد اللَّه بن رباح عن أبي قتادة في هذا الحديث أنه كان في جيش الأمراء، وهذا وهم عند الجميع، لأن جيش الأمراء كان في غزاة مؤتة، وكانت سرية لم يشهدها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، كان الأمير عليها زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد اللَّه بن رواحة، وفيها قتلوا- رضي اللَّه عنهم- وقد روى هذا الحديث ثابت البناني وسليمان التيمي عن عبد اللَّه بن رباح على غير ما رواه خالد بن شمير [ (1) ] ، وما قالوه فهو عند العلماء الصواب دون ما قاله خالد ابن شمير، وقد قال عطاء بن يسار أنها كانت في غزوة تبوك وهذا لا يصح، والآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة وقوله مرسل.
ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني سعيد بن إبراهيم، عن عطاء ابن يسار أنها غزوة تبوك، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر بلالا فأذن في [العسكر] [ (2) ] ، ثم مشوا قليلا ثم أقام فصلوا الصبح.
وقال البيهقي: وقد روينا عن يونس بن بكير عن المسعودي هذه القصة، بعد ذكر نزول سورة الفتح مرجعهم من الحديبيّة، فيشبه أن يكون التاريخ لنزول السورة دون هذه القصة، فإن كان التاريخ لهما جميعا فيشبهه، واللَّه أعلم أن يكون نومهم عن الصلاة وقع مرجعهم من الحديبيّة ثم وقع مرجعهم من خيبر، وقد روى عمران ابن حصين وأبو قتادة الأنصاري نومهم عن الصلاة وذكرا في تلك القصة حديث الميضأة، فلا أدري أكان ذلك مرجعهم من الحديبيّة أو مرجعهم من خيبر أو وقتا آخر [ (3) ] .
قال: وقد زعم الواقدي في قصة أبي قتادة أنها كانت مرجعهم من غزوة تبوك، وروى زافر بن سليمان عن شعبة عن جامع بن شداد في قصة ابن مسعود أن
__________
[ (1) ] في (خ) «خالد بن سمير» ، وصوبناه من (تهذيب التهذيب) : 3/ 84، وهو خالد بن شمير السدوسي البصري.
[ (2) ] هذه الكلمة غير واضحة في (خ) ، ولعل ما أثبتناه يناسب السياق.
[ (3) ] ثم قال الإمام البيهقي بعد ذلك: «واستخرت اللَّه تعالى في استخراج حديثهما هاهنا، فوقعت الخيرة على ذلك. وباللَّه التوفيق» .

(5/106)


ذلك كان في غزوة تبوك. واللَّه تعالى أعلم [ (1) ] .
وقال الواقدي رحمة اللَّه عليه: وكان في تبوك أربعة أشياء، فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يسير منحدرا إلى المدينة وهو في قيظ شديد، عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد للشّفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأرسل أسيد بن الحضير في يوم صائف وهو متلثم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: عسي أن تجد لنا ماء، فخرج أسيد وهو بين الحجر وتبوك فجعل يضرب في كل وجه، فيجد راوية من ماء امرأة من بلى، فكلمها أسيد فخبرها خبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد وصفت لهم الماء، وبينهم وبين الطريق هنية، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، بالبركة ثم قال: هلموا أسقيتكم، فلم يبق معهم شيئا إلا ملئوه، ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت [ (2) ] .
ويقال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أمر بما جاء به أسيد فصبه في قعب عظيم من عساس [ (3) ] أهل البادية، فأدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيه يديه، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى [ركعتين] [ (4) ] ، ثم رفع يديه مدا ثم انصرف، وإن القعب ليفور، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للناس: زوّدوا، فاتسع الماء وانبسط حتى يصف عليه المائة والمائتان فأرووا وإن القعب ليجيش بالرّواء، ثم راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [مبردا] [ (4) ] متروّيا من الماء.
قال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي [سهل] [ (5) ] عن عكرمة قال: خرجت الخيل في كل وجه يطلبون الماء، فكان أول من طلع به وبخبره صاحب فرس أشقر، ثم الثاني أشقر، ثم الثالث أشقر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اللَّهمّ بارك في الشّقر [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 275.
[ (2) ] في (خ) : «حتى فصلت» ، وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] العساس: جمع العس، وهو القدح الكبير. (النهاية) : 2/ 95.
[ (4) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (5) ] في (خ) : «إسماعيل» وصوبناه من المرجع السابق.
[ (6) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1041- 1042.

(5/107)


[تاسع عشر: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الماء بالحديبية]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الماء بالحديبية، فخرج البخاري من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء رضي اللَّه عنه [ (1) ] قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة [ (2) ] ، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبيّة، كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أربع عشر مائة، والحديبيّة بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا [ (3) ] ، وفي رواية قال: نزلنا يوم الحديبيّة وهي بئر فوجدنا الناس قد نزحوها فلم يدعوا فيها قطرة، فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، فدعا بدلو فنزع منها ثم أخذ منه بفيه فمجه، ودعا اللَّه فكثر ماؤها حتى صدرنا وركائبنا ونحن أربع عشرة مائة [ (4) ] .
وخرج مسلم من حديث عكرمة بن عمار العجليّ عن سلمة بن الأكوع قال:
أخبرني أبي قال: قدمنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم الحديبيّة ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها، قال: فقعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على جبا الركية، فإمّا دعا وإمّا بصق فيها فجاش، فسقينا واستقينا [ (5) ] .
وللبخاريّ من حديث معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة، وهارون يصدق كل منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم زمن الحديبيّة فذكر الحديث إلى أن قال: فعدل عنهم حتى نزل
__________
[ (1) ] في (خ) : «عن أنس» وما أثبتناه من البخاري.
[ (2) ] في (خ) : «بعد أن تم لنا الفتح فتح مكة» .
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 559، كتاب المغازي، باب (36) غزوة الحديبيّة، وقول اللَّه تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، حديث رقم (4147) .
[ (4) ] المرجع السابق، حديث رقم (4148) باختلاف يسير.
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 416، كتاب الجهاد والسير، باب (45) غزوة ذي قرد وغيرها، حديث رقم (1807) ، وهذا المقطع جزء صغير من حديث طويل جدا، وجبا الركية: يعني حول البئر، وجاشت: ارتفعت وفاضت.

(5/108)


لهم فيه، قال: فو اللَّه ما زال يجيش بالري حتى صدروا عنه [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثنا الزهري عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، ولمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج يريد زيارة البيت لا يريد حربا، فذكر الحديث وقال فيه: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أيها الناس انزلوا، فقالوا: يا رسول اللَّه ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس، فأخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فقال له: انزل في بعض هذه القلب [ (2) ] فاغرزه في حرفه، ففعل، فجاش بالماء والرواء حتى ضرب الناس [عنه] [ (3) ] بعطن [ (4) ] .
وخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود قال: قال عروة:
فذكر خروج النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وخرجت قريش من مكة فسبقوه إلى بلدح وإلى الماء فنزلوا عليه، فلما رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنه قد سبق نزل على الحديبيّة وذلك في حر شديد وليس بها إلا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ، والقوم كثير، فنزل فيها رجال يميجونها، ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بدلو من ماء فتوضأ في الدلو ومضمض فاه ثم مج فيها وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهما من كنانته فألقاه في البئر، ودعا اللَّه ففارت بالماء، حتى جعلوا يغترفون بأيديهم وهم جلوس على شفتيها [ (5) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 412- 413، كتاب الشروط، باب (5) الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، حديث رقم (2731) ، (2732) ، (مسند أحمد) : 5/ 430- 431، حديث رقم (18449) من حديث المسور بن مخرمة، (عون المعبود) : 8/ 317، كتاب الجهاد، باب (167) في صلح العدو، حديث رقم (2762) ، رواه أبو داود مختصرا ولم يذكر فيه معجزة تكثير الماء، قال الخطابي: «ثمد» بفتح المثلثة والميم، أي حفيرة فيها ماء مثمود، أي قليل الماء، وقوله: «قليل الماء» : تأكيد لدفع توهم أن يراد لغة من يقول: إن الثمد الماء الكثير.
[ (2) ] القلب: جمع قليب، وهو البئر.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 111- 112، باب ما ظهر في البئر التي دعا فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهي الحديبيّة من دلالات النبوة، والعطن برك الإبل.
[ (5) ] المرجع السابق: 112.

(5/109)


وقال ابن إسحاق رحمه اللَّه: حدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم، أن الّذي نزل البئر بسهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الّذي نزلت بسهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وأنشدت أسلم أبيات شعر قالها ناجية، فزعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها- وناجية في القليب يميح [ (1) ] [علي] [ (2) ] الناس: فقالت:
يا أيها المائح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
[يثنون خيرا ويمجدونكا] [ (2) ]
فقال ناجية وهو في القليب يميح على الناس:
قد علمت جارية يمانية ... أنى أنا المائح واسمي ناجية
وطعنة [ (3) ] ذات رشاش واهيه ... طعنتها تحت صدور العادية
وذكر موسى بن عقبة أن الّذي نزل في البئر خلّاد بن عبّاد الغفّاري، ودلّاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعمامته [فماح في البئر] [ (2) ] فكثر الماء حتى روى الناس، ويقال:
بل المائح في البئر ناجية بن جندب الأسلمي [ (4) ] .
وقال الواقدي رحمه اللَّه: حدثني معمر وعبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري عن المسور بن مخرمة قال: وسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلما دنا من الحديبيّة، فذكر الحديث إلى أن قال: حتى نزل بالناس على ثمد من ثماد الحديبيّة، ظنون [ (5) ] قليل الماء، يتبرض ماؤه تبرضا [ (6) ] ، فاشتكى الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قلة الماء، فانتزع سهما من كنانته فأمر به فغرز في الثمد، فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا
__________
[ (1) ] يميح على الناس: يملأهم الدلاء.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] في (خ) : «وقصعة» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (4) ] المرجع السابق: 113- 114، (ابن هشام) : 4/ 277- 278.
[ (5) ] الظنون: البئر لا يدري أفيها ماء أم لا.
[ (6) ] برض الماء من العين إذا خرج وهو قليل.

(5/110)


عنه بعطن، قال: وإنهم ليغترفون بآنيتهم جلوسا على شفير البئر.
ثم ذكر في الّذي نزل بالسهم مثل ما تقدم عن ابن إسحاق، ثم
قال: وحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أمه قال: حدثني أربعة عشر [ (1) ] رجلا من أسلم من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، أن ناجية بن الأعجم، وكان ناجية بن الأعجم يحدث- يقول: دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين شكي إليه قلة الماء، فأخرج سهما من كنانته ودفعه إليّ، ودعا بدلو من ماء البئر، فجئته به فتوضأ، فقال:
مضمض فاه ثم مجّ في الدلو، والناس في حرّ شديد، وإنما هي بئر واحدة- وقد سبق المشركون على بلدح فغلبوا على مياهه- فقال: انزل بالماء فصبه وأثر [ (2) ] ماءها بالسهم. ففعلت، فو الّذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى كاد يغمرني، وفأرت كما يفور القدر حتى طمّت واستوت بشفيرها، يغترفون من جانبها حتى نهلوا من آخرهم.
قال: وعلى الماء يومئذ نفر من المنافقين: الجدّ بن قيس، وأوس، وعبد اللَّه ابن أبيّ، وهم جلوس ينظرون إلى الماء، والبئر تجيش بالرواء وهم جلوس على شفيرها، فقال أوس بن خولى: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه أبعد هذا شيء؟ وردنا بئرا يتبرض ماؤها تبرضا، يخرج في القعب جرعة ماء، فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الدلو ومضمض فاه في الدلو ثم أفرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء.
قال: يقول ابن أبي قد رأيت مثل هذا، [ (3) ] فقال أوس: قبّحك اللَّه وقبّح رأيك فيقبل ابن أبي يريد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أي أبا الحباب أرأيت مثل ما رأيت اليوم؟
فقال: ما رأيت مثله قط، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فلم قلت ما قلت؟ قال ابن أبي: استغفر اللَّه، قال ابنه: يا رسول اللَّه استغفر له، فاستغفر له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) : وفي (مغازي الواقدي) : «حدثني رجل من أسلم» .
[ (2) ] أثر في الشيء: ترك فيه أثرا.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 587- 589.

(5/111)


[عشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في العين التي بتبوك]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في العين التي بتبوك،
[فخرج مسلم] من حديث مالك، عن أبي الزبير المكيّ، أن أبا الطفيل عامر بن وائلة أخبره أن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه.
أخبره قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا حتى إذا كان يوما أخّر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعا. ثم قال: إنكم ستأتون غدا إن شاء اللَّه [عينا] بتبوك [ (1) ] ، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها [شيئا] حتى آتي.
فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبضّ بشيء من ماء، قال: فسألها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا: نعم، فسبهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقال لهما ما شاء اللَّه أن يقول، قال: فغرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر- أو قال: غزير- قال: فاستقى الناس ثم قال: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد مليء جنانا [ (2) ] .
قال البيهقي: وروينا زيادة ماء تلك العين بمضمضته فيها، عن عروة بن الزبير، وقال: فهي كذلك حتى الساعة. وروى ابن عبد البر عن أبي وضاح أنه قال:
أنا رأيت ذلك الموضع كله [حول] تلك العين جنانا خضرة نضرة.
وخرج أبو نعيم من حديث ابن لهيعة، عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) : «عين تبوك» .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 46، كتاب الفضائل باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (706) ، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 522، حديث رقم (450) ، (دلائل البيهقي) : 5/ 236، باب إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلم عن وقت إتيانهم عين تبوك، وما ظهر في ذلك، وفي وضوئه من تلك العين حتى كثر ماؤها، وفيما قال لمعاذ فكان كما قال من آثار النبوة، (مسند أحمد) : 6/ 315، حديث رقم (21565) من حديث معاذ بن جبل رضي اللَّه تعالى عنه.

(5/112)


في قصة تبوك قال: وخرج حين خرج وهو يريد الروم، فكان أقصى أثره منزله من تبوك، وكان ذلك في زمان قل ماؤه، فاغترف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم غرفة بيده فمضمض بها فاه، وبصق فيها ففارت عينه حتى امتلأت، وهي كذلك حتى الساعة [ (1) ] .
وخرج من حديث إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: أقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروى الراكب والراكبين والثلاث، بواد يقال له: واد المشقّق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقينّ منه شيئا حتى نأتيه.
فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلم ير فيه شيئا قال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ قيل: فلان وفلان [ (2) ] ، قال: أو لم ننهاهم أن يستقوا منه شيئا حتى نأتيه؟ ثم لعنهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ودعا اللَّه عليهم.
ثم نزل، فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب في يده ما شاء اللَّه أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا اللَّه بما شاء اللَّه أن [يدعو] به، فانخرق الماء كما يقول من سمعه: إن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لئن بقيتم- أو من بقي منكم- ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه [ (3) ] ، [وذلك الماء فوارة تبوك إلى اليوم] [ (4) ] .
وقال الواقدي في غزوة تبوك: وأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قافلا حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له: وادي الناقة، وكان فيه وشل [ (5) ] يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين والثلاثة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئا حتى نأتي.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 237.
[ (2) ] قال السهلي: ذكر لي الواقدي قال: سبقه إليها أربعة من المنافقين هم: معتب بن قشير، والحارث ابن يزيد الطائي، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 5/ 208- 209، وادي المشقق وماؤه، والتعليق السابق منه.
[ (4) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (خ) .
[ (5) ] الوشل: حجر أو جبل يقطر منه الماء قليلا قليلا، والوشل أيضا القليل من الماء.

(5/113)


فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحرث بن يزيد الطائي حليف بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، ويزيد بن اللصيت، فاستقوا ما فيه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل ووضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه به، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء اللَّه أن يدعو به، فانخرق [ (1) ] الماء.
قال معاذ بن جبل: والّذي نفسي بيده، لقد سمعت له من شدة انخراقه مثل الصواعق، فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
لئن بقيتم- أو من يبقى منكم- ليسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب ما بين يديه ومما خلفه، قال: واستقى الناس وشربوا،
قال سلامة [ (2) ] بن وقش: قلت لوديعة ابن ثابت: ويلك أبعد ما ترى شيء؟ أما تعتبر؟ فقال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا. [ (3) ] .
__________
[ (1) ] انخرق: اشتدّ واتّسع.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (مغازي الواقدي) : «سلمة بن سلامة بن وقش» .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1039.

(5/114)


[حادي وعشرون: نزول المطر بطريق تبوك عند دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم، وإخباره بموضع ناقته لما ضلت، وبما قال أحد المنافقين]
وأما [نزول] المطر بطريق تبوك عند دعائه وقد اشتد عطش الناس، وإخباره بموضع ناقته لما ضلت، وبما قال المنافق، فخرج البيهقي من حديث ابن وهب قال:
أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنه، قيل لعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: حدثنا من شأن ساعة العسرة.
فقال عمر رضي اللَّه عنه: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل يذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما يبقى على كبده، فقال أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه:
يا رسول اللَّه، إن اللَّه عزّ وجلّ قد عودك في الدعاء خيرا، فادع اللَّه لنا، قال:
أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت، ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها قد جاوزت العسكر [ (1) ] .
وخرجه ابن حبان [ (2) ]- رحمه اللَّه- من حديث سعيد بن أبي هلال، عن نافع ابن جبير، فسقط بين سعيد وبين نافع رجل، وهو عتبة بن أبي عتبة، كما رواه البزار في مسندة، والطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك [ (3) ] ، قال الطبراني:
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 231، باب تسمية غزوة تبوك بالعسرة، وما ظهر بدعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في بقية الأزواد وفي الماء، وإخباره عن قول المنافقين في غيبته، ثم بموضع ناقته من آثار النبوة، ورواه أيضا الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 6/ 194- 195، وقال: رواه البزار، والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات.
[ (2) ] (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) : 4/ 223، كتاب الطهارة، باب (19) النجاسة وتطهيرها، ذكر الخبر الدال على أن فرث ما يؤكل لحمه غير نجس، حديث رقم (1383) ، وقال في هامشه: إسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين خلا حرملة بن يحيى، فإنه من رجال مسلم فقط.
[ (3) ] (المستدرك) : 1/ 263، كتاب الطهارة، حديث رقم (566/ 121) ، وقال في آخره: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد ضمّنه سنّة غريبة، وهو أن الماء إذا خالط-

(5/115)


لم يروه عن نافع بن جبير إلا عتبة لعروبة بن سعيد، وسئل عند الدار الدّارقطنيّ في (العلل) فذكر الاختلاف في زيادة عتبة فيه وسقوطه وقال: القول قول من ذكر عتبة بن أبي عتبة، وهو عتبة بن مسلم. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وخرج البيهقي من حديث يونس عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: أصبح الناس [ولا ماء معهم] ، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فدعا اللَّه تعالى فأرسل سحابة فأمطرت، حتى [ارتوى] الناس واحتملوا حاجتهم من الماء.
قال عاصم: وأخبرني رجال من قومي أن رجلا من المنافقين كان معروفا نفاقه، كان يسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين دعا، فأرسل اللَّه تعالى سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، فأقبلنا عليه فقلنا: ويحك! هل بعد هذا من شيء؟ قال: سحابة مارة [ (1) ] .
وقال الواقدي- عفا اللَّه عنه ورحمه-: وارتحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما أصبح ولا ماء معهم، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على غير ماء، قال عبد اللَّه بن أبي حدره: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم استقبل القبلة فدعا، ولا واللَّه ما أرى في السماء سحابا، فما برح يدعو حتى لأني انظر إلى السماء تأتلف من كل ناحية، فما رام مقامه حتى سحت علينا السماء بالرواء، فكأني أسمع تكبير رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في المطر، ثم كشفت السماء عنّا من ساعتها، وإن الأرض لغدر تناخس [ (2) ] ، فسقى الناس وارتووا من آخرهم، وأسمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول:
أشهد أني رسول اللَّه.
فقلت لرجل من المنافقين: ويحك! بعد هذا شيء؟ فقال سحابة مارة، وهو أوس بن قيظي، ويقال زيد بن اللّصيت.
قال: ثم ارتحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم موجّها لماء تبوك فأصبح في منزل، فضلت
__________
[ () ] فرث ما يؤكل لحمه لم ينجسه، فإنه لو كان ينجس الماء لما أجاز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمسلم أن يجعله على كبده حتى ينجس يديه.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 231- 232، (سيرة ابن هشام) : 5/ 202.
[ (2) ] غدر: جمع غدير، تناخس: أي يصب بعضها في بعض، (النهاية) : 4/ 133.

(5/116)


ناقة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [القصواء] ، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عمارة ابن حزم [عقبى بدريّ قتل يوم اليمامة شهيدا] [ (1) ] ، وكان في رحله زيد بن أبي اللصيت أحد بني قينقاع، كان يهوديا فأسلم ونافق، وكان فيه خبث اليهود وغشّهم- وكان مظاهرا لأهل النفاق- فقال زيد وهو في رحل عمارة، وعمارة عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء؟ وهو لا يدري أين ناقته!!.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن منافقا يقول: إن محمدا يزعم أنه نبي وهو يخبركم بأمر السماء؟ ولا يدري أين ناقته!! وإني واللَّه لا أعلم إلا ما علمني اللَّه، وقد دلني عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا- أشار لهم إليه- حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها،
فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: العجب من شيء حدثناه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم آنفا عن مقاله قائل أخبره اللَّه عنه، قال: كذا وكذا للذي قال زيد، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائل هذه المقالة زيد قبل أن يطلع علينا، قال: فأقبل عمارة على زيد بن اللصيت يجأه [ (2) ] في عنقه ويقول: واللَّه إن في رحلي لداهية، وما أدري، أخرج يا عدو اللَّه من رحلي.
وكان الّذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عمرو بن حزم، وكان في الرحل مع رهط من أصحابه، والّذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحارث بن خزمة الأشهلي، وجدها وزمامها قد تعلق في شجرة، فقال زيد بن اللصيت: لكأنّي لم أسلم إلا اليوم، قد كنت شاكا في محمد، وقد أصبحت وأنا فيه ذو بصيرة، فأشهد أنه رسول اللَّه، فزعم الناس أنه تاب، وكان خارجة بن زيد بن ثابت ينكر توبته ويقول: لم يزل فسلا [ (3) ] حتى مات [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] يجأه: أي يضربه.
[ (3) ] الفسل من الرجال: الرذل.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1008- 1010، (سيرة ابن هشام) : 5/ 202- 203، تقوّل ابن اللصيت، عن ابن إسحاق.

(5/117)


[ثاني وعشرون: استقاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد قحط المطر، فسقاهم اللَّه تعالى ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما استسقاؤه صلّى اللَّه عليه وسلم وقد قحط المطر فسقاهم اللَّه ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج أبو داود من حديث يونس عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: شكا الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة رضي اللَّه عنها: فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد اللَّه تعالى ثم قال: إنكم شكوت جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم اللَّه جل وعز أن تدعوه، وقد وعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد للَّه رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا اللَّه يفعل ما يريد، اللَّهمّ أنت اللَّه لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت إلينا قوة وبلاغا إلى حين.
ثم رفع يديه فلم ينزل الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلّب أو حوّل رداءه وهو رافع يده، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ اللَّه عزّ وجل سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن اللَّه فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكنّ ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن اللَّه على كل شيء قدير وأني عبد اللَّه ورسوله [ (1) ] .
وذكر ابن عساكر أنه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج من بقيع الغرقد متعمما بعمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين يديه، والآخر بين كتفيه، ممسكا قوسا عربية، فاستقبل القبلة فكبر، وصلى بأصحابه ركعتين جهر بالقراءة [فيهما] ، قرأ في الأولى إذا
__________
[ (1) ] (عون المعبود) : 4/ 25- 27، جمّاع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1170) ، قال أبو داود: هذا حديث غريب إسناده جيد.
أهل المدينة يقرءون ملك يوم الدين، وإن هذا الحديث حجّة لهم.

(5/118)


الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ (1) ] ، والثانية وَالضُّحى [ (2) ] ، ثم قلب رداءه، ثم حمد اللَّه وأثنى عليه، ثم رفع يديه فقال ... ، الحديث.
ذكره من حديث أحمد بن [] [ (3) ] ، حدثنا سعيد بن مسلم حدثني سلامة بن سليم- يقال: ابن سلمة- عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قحط الناس على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج من المدينة إلى بقيع الغرقد ...
وخرج مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت عن أنس رضي اللَّه عنه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء [ (4) ] ، وخرجه أبو داود أيضا ولفظه: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان يستسقي هكذا- يعني ومد يديه وجعل بطونها مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه [ (5) ] .
[وللإمام أحمد من حديث هارون بن معروف قال: قال ابن وهب: أخبرنا حيوة، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التميمي، عن عمير مولى أبي اللحم، أنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت [ (6) ] قريبا من الزوراء قائما يدعو، يستسقي رافعا كفيه لا يجاوز بهما رأسه، مقبل بباطن كفّيه إلى وجهه] [ (7) ] .
وخرجه الترمذي من حديث قتيبة قال: حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن يزيد بن عبد اللَّه، عن عمير مولى آبى اللحم، عن آبى اللحم، أنه رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عند أحجار الزيت [ (6) ] يستسقي، وهو مقنع بكفيه [ (8) ] يدعو [ (9) ] .
__________
[ (1) ] التكوير: 1.
[ (2) ] الضحى: 1.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 442، كتاب الاستسقاء، باب (1) رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (896) .
[ (5) ] (عون المعبود) : 4/ 24، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1167) ، (1168) .
[ (6) ] أحجار الزيت: موضع بالمدينة من الحرة، سميت بذلك لسواد أحجارها، كأنها طليت بالزيت.
[ (7) ] (مسند أحمد) : 6/ 293، حديث رقم (21437) ، وفي (خ) سياقه مضطرب ونسبه الناسخ للإمام مسلم.
[ (8) ] في (خ) : «مقنعا بكفيه يدعو» ، وما أثبتناه من رواية الترمذي.
[ (9) ] (تحفة الأحوذي) : 3/ 107- 108، باب صلاة الاستسقاء، حديث رقم (554) .

(5/119)


قال أبو عيسى: هكذا قال قتيبة في هذا الحديث عن آبي اللحم، ولا نعرف له عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد، وعمير مولى آبي اللحم قد روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أحاديث وله صحبة [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أنّ رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائما يخطب، فاستقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول اللَّه! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع اللَّه يغيثنا، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه ثم قال: اللَّهمّ أغثنا ... اللَّهمّ أغثنا ... اللَّهمّ أغثنا....
قال أنس: ولا واللَّه ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التّرس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فلا واللَّه ما رأينا الشمس ستّا، قال: دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما فقال:
يا رسول اللَّه! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع اللَّه يمسكها عنا.
قال: فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه ثم قال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمّ على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر،
قال:
فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ فقال: ما أدري [ (2) ] . ترجم عليه البخاري باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، وقال فيه مسلم: اللَّهمّ حولنا ولا علينا.
__________
[ (1) ] آبى اللحم بالمد: اسم رجل من قدماء الصحابة، سمى بذلك لامتناعه عن أكل اللحم أو لحم ما ذبح على النصب في الجاهلية، اسمه عبد اللَّه بن عبد الملك، استشهد يوم حنين.
وأخرجه أيضا النسائي في (السنن) : 3/ 177، حديث رقم (193) ، وأبو داود في (السنن) : 4/ 22، أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1165) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 645، كتاب الاستسقاء، باب (7) الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، حديث رقم (1014) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 443، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (897) ، (سنن النسائي) : 3/ 179- 180، كتاب الاستسقاء، باب (10) ذكر الدعاء، حديث رقم (1517) .

(5/120)


وخرجه البخاري من حديث أنس بن عياض قال: حدثنا شريك بن عبد اللَّه ابن أبي نمرّ، سمع أنس بن مالك يذكر أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قائما فقال: يا رسول اللَّه ... ، الحديث إلى آخره بنحو حديث إبراهيم بن جعفر غير أنه قال: اللَّهمّ اسقنا.. اللَّهمّ اسقنا.. اللَّهمّ اسقنا، وقال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، اللَّهمّ على الآكام والجبال، والظراب والأودية ومنابت الشجر، [فانقطعت] [ (1) ] ... ، الحديث.
وخرج البخاري [ (2) ] والنسائي [ (3) ] من حديث مالك، عن شريك بن عبد اللَّه بن أبي نمر، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع اللَّه، فدعا فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! تهدمت البيوت وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.
ترجم عليه البخاري باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم.
وخرج في باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء، وقال فيه: فقال:
تهدمت البيوت وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فقال: اللَّهمّ على الآكام والظراب والأودية [ (4) ] ... ، الحديث.
وخرجه في باب الدعاء إذا انقطعت السبل من كثرة المطر، وقال فيه: فدعا
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 636- 637، باب (6) الاستسقاء في المسجد الجامع حديث رقم (1013) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 647، كتاب الاستسقاء، باب (12) إذا استسقوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم، حديث رقم (1019) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 3/ 177، كتاب الاستسقاء، باب (9) كيف يرفع، حديث رقم (1514) .
[ (4) ] (فتح الباري) : 2/ 646، كتاب الاستسقاء، باب (9) من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء حديث رقم (1016) .

(5/121)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمطروا من جمعة إلى جمعة، فجاء رجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا رسول اللَّه ... ، الحديث، غير أن فيه: ورءوس الجبال [ (1) ] .
وخرج البخاري ومسلم من حديث الأوزاعي، قال: حدثني إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: أصاب الناس سنة على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فبينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، قام أعرابي- وقال مسلم: فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة إذا قال [أعرابي يا رسول اللَّه] ! هلك المال وضاع العيال فادع اللَّه لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة ماء، فو الّذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال.
ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد ومن بعد الغد، والّذي يليه حتى الجمعة الأخرى،
فقام ذلك الأعرابي- أو قام غيره- فقال يا رسول اللَّه! تهدم البناء وغرق المال، فادع اللَّه لنا، فرفع يديه [وقال] : اللَّهمّ حوالينا لا علينا، فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجونة، وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ترجم عليه البخاري باب: الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة. وقال فيه مسلم: فما يشير إلى ناحية إلا تفرجت حتى رأيت المدينة في مثل الجونة، وسال الوادي قناة شهرا، ولم يجيء أحد من ناحية إلا أخبر بجود. وخرجه البخاري أيضا في الاستسقاء في باب من تمطّر في المطر حتى يتحادر على لحيته، [بنحوه] أو قريب منه [ (2) ] .
وخرج البخاري ومسلم والنسائي رضي اللَّه عنهم من حديث ثابت عن أنس
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 646، كتاب الاستسقاء، باب (10) الدعاء إذا انقطعت السبل من كثرة المطر، حديث رقم (1017) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 524- 525، كتاب الجمعة، باب (35) الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، حديث رقم (933) ، 2/ 660، كتاب الاستسقاء، باب (24) من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته، حديث رقم (1033) ، وقوله: «تمطّر» بتشديد الطاء، أي تعرض لوقوع المطر، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 445، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (9) من أحاديث الباب.

(5/122)


ابن مالك قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقام الناس فصاحوا فقالوا:
يا رسول اللَّه! قحط المطر واحمرّت الشجر وهلكت البهائم، فادع اللَّه لنا أن يسقينا، فقال: اللَّهمّ اسقنا مرتين، وأيم اللَّه ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة وأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب، صاحوا إليه: تهدمت البيوت وانقطعت السبل، فادع اللَّه يحبسها عنا.
فتبسّم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، فكشطت المدينة فجعلت تمطر حولها، ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي شكل الإكليل.
ترجم عليه البخاري باب الدعاء إذا كثر المطر حوالينا ولا علينا [ (1) ] .
وخرجه مسلم بنحوه وزاد: وألف اللَّه بين السحاب ومكثنا، حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله [ (2) ] ، وخرجه من حديث أسامة أن حفص ابن عبد اللَّه بن أنس حدثه أنه سمع أنس بن مالك يقول: جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الجمعة وهو على المنبر ... ، واقتصّ الحديث وزاد: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى [ (3) ] .
وخرج البخاري [ (4) ] ، وأبو داود [ (5) ] وقاسم بن أصبغ من حديث حماد عن عبد
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 651، كتاب الاستسقاء، باب (14) الدعاء إذا كثر المطر: «حوالينا ولا علينا» ، حديث رقم (1021) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 446، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (10) من أحاديث الباب، والإكليل بكسر الهمزة:
قال أهل اللغة: هي العصابة، وتطلق على كل محيط بالشيء، (سنن النسائي) : 3/ 178- 179، كتاب الاستسقاء، باب (10) وذكر الدعاء، حديث رقم (1516) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 447، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (12) من أحاديث الباب.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 447، كتاب صلاة الاستسقاء، باب (2) الدعاء في الاستسقاء، حديث رقم (12) من أحاديث الباب.
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 729، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3582) .
[ (5) ] (عون المعبود) : 4/ 27- 28، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، باب (258) رفع اليدين في الاستسقاء، حديث رقم (1171) .

(5/123)


العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فبينما هو يخطب بهم جمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول اللَّه، هلك الكراع وهلك الشاء، فادع اللَّه لنا أن يسقينا، فمد يديه فدعا، قال أنس: وإن السماء كمثل الزجاجة، فهاجت ريح أنشأت سحابا، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماء عز اليها.
فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، فلم نزل نمطر إلى الجمعة الأخرى، فقام إليه ذلك الرجل فقال: يا رسول اللَّه! تهدمت البيوت فادع اللَّه أن يحبسه، فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ثم قال: حوالينا ولا علينا، فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة كأنه إكليل.
ولفظهم فيه متقارب جدا، وانتهى قاسم إلى قوله: إلى الجمعة الأخرى، ثم أحاله على حديث مالك المتقدم.
وخرج البخاري من حديث أبي عوانة، عن قتادة عن أنس، ومن حديث سعيد عن قتادة عن أنس، أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يخطب بالمدينة فقال: قحط المطر فاستسق ربك، فنظر إلى السماء وما نرى من سحاب، فاستسقي فنشأ السحاب بعضه إلى بعض ثم مطروا حتى سالت مثاعب المدينة، فما زالت إلى الجمة المقبلة ما تقلع.
ثم قام ذلك الرجل أو غيره والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم يخطب، فقال: غرقنا، فادع ربك يحبسها عنا، فضحك ثم قال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا- مرتين أو ثلاثا- فجعل السحاب يتصدع عن المدينة يمينا وشمالا، يمطر ما حوالينا ولا يمطر منها على شيء، يريهم اللَّه كرامة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلم وإجابة دعوته.
ذكره في كتاب الأدب في باب التبسم والضحك [ (1) ] ، وذكره في [كتاب] الدعاء في باب الدعاء غير مستقبل القبلة من حديث أبي عوانه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 618، كتاب الأدب، باب (68) التبسم والضحك، حديث رقم (6093) ، قال أهل اللغة: التبسم مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدم الفم الضواحك، وهي الثنايا والأنياب، وما يليها وتسمى النواجذ.
[ (2) ] (فتح الباري) : 11/ 172، كتاب الدعوات، باب (24) الدعاء غير مستقبل القبلة، حديث رقم (6342) .

(5/124)


وخرج قاسم بن أصبغ من حديث سهل بن يوسف، عن حميد قال: سئل أنس:
هل كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء؟ فقال: نعم، شكى الناس إليه ذات جمعة فقالوا يا رسول اللَّه! قحط المطر وأجدبت الأرض وهلك المال، قال: فرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، وما في السماء قزعة سحابة، فما صلينا حتى أن الشاب القوي القريب المنزل ليهمنه الرجوع إلى منزله، قال: فدامت علينا جمعة، قال:
فقالوا: يا رسول اللَّه؟ تهدمت الدور واحتبس الركبان، قال: فتبسم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من سرعة ملالة ابن آدم فقال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، فأصحت السماء.
وذكر البخاري- غفر اللَّه ذنوبه- في باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، من حديث سليمان بن بلال قال: قال يحيى بن سعيد: سمعت أنس ابن مالك [يقول:] أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوم الجمعة فقال: يا رسول اللَّه! هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه يدعو، ورفعوا أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه، يشق المسافر ومنع الطريق [ (1) ] .
وذكر أبو عمر بن عبد البر- رحمة اللَّه عليه- عن موسى بن عقبة، أن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وقد أجدبت عليهم السنة، فقال: يا رسول اللَّه! إنه مرت بنا سنون كسنى يوسف، فادع اللَّه لنا، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المنبر يجر رداءه وحوّله عن كتفه ثم قال: اللَّهمّ اسقنا غيثا مغيثا هزجا نجحا، فما استتم الدعاء حتى استقلت سحابة تمطر سحا، فلم يزل كذلك حتى قدم أهل الأسافل يصيحون: الغرق، فضحك عليه السلام حتى بدت نواجذه ثم قال: للَّه درّ أبو طالب! لو كان حاضرا لقرت عيناه، أما منكم أحد ينشدني شعره؟ فقام علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 656، كتاب الاستسقاء، باب (21) ، رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، حديث رقم (1029) ، وقد تضمنت هذه الترجمة الرد على من زعم أنه يكتفي بدعاء الإمام في الاستسقاء.

(5/125)


فقال: لعلك تريد [يا] رسول اللَّه قوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل
فقال الأعرابي- وكان من مزينة-:
للَّه الحمد والحمد ممن شكر ... سقينا بوجه النبي المطر
دعا ربه المصطفى دعوة ... فأسلم معها إليه البصر
فلم يك إلا أن ألقى أفردا ... وأسرع حتى لقينا الدرر
ولم ترجع الكف عند الدعا ... إلى النحر حتى أفاض الغدر
سحاب وما في أديم السما ... سحاب يراه الحديد النظر
فكان كما قال عمه ... وأبيض يسقي به ذو غدر
به ينزل اللَّه غيث السما ... فهذا العيان لذاك الخبر
فمن يشكر اللَّه يلقى المزيد ... ومن يكفر اللَّه [يلق] الغبر
قال موس بن عقبة: فأمر له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم راحلتين وكساه صلّى اللَّه عليه وسلم ثوبا.
قال أبو عمر- رضي اللَّه عنه-: وقد روي هذا الخبر عن مسلم الملائي، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه بغير هذه الألفاظ، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! أتيناك وما لنا صبي يصطبح، ولا بعير يئط [ (1) ] ، وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمي لبانها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
وألقى بكفيه وخرّ استكانة ... من الجوع هرما ما يمر وما يحلى
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العافي والغلمة الفشل
وليس لنا إلا إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل؟
فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه ثم قال: اللَّهمّ اسقنا غيثا مغيثا مريا مريعا طبقا واسعا، نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.
__________
[ (1) ] يئط: بفتح أوله وكسر الهمزة، وفي رواية: يغط بالمعجمة، والأطيط: صوت البعير المثقل، والغطيط:
صوت النائم كذلك، وكنّى بذلك عن شدة الجوع، لأنهما إنما يقعان غالبا عن الشبع، (فتح الباري) : 2/ 629.

(5/126)


قال: فما ردّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يديه حتى التفت السماء بأزواجها، وجاء أهل البطاح يضجون: الغرق ... الغرق، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل، فضحك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: للَّه در أبي طالب، لو كان حيا لقرت عيناه، من ينشدني قوله: فقال علي رضي اللَّه عنه: أنا يا رسول اللَّه، لعلك تريد قوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطيف به الهلّال من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل
كذبتم وبيت اللَّه يبزي محمدا ... ولما نقاتل حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أجل، فقام رجل من كنانة فقال:
لك الحمد والحمد ممن شكر ... [سقينا بوجه النبي المطر]
فذكر الأبيات، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إن بك شاعرا حسن، فقد أحسنت.
وخرج البخاري- رضي اللَّه عنه ورحمه- من حديث عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار، عن أبيه، سمعت أن عمر يتمثل بشعر أبي طالب يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل [ (1) ]
وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم عن أبيه، ربما ذكرت قول الشاعر وأنا انظر إلى وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 628، كتاب الاستسقاء، باب (3) سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث رقم (1008) .
[ (2) ] المرجع السابق، حديث رقم (1009) ، قال الحافظ في (الفتح) : قال السهيليّ: فإن قيل: كيف قال أبو طالب: «يستسقى الغمام بوجهه» ، ولم يره قط استسقى، إنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟
وأجاب بما حاصله: إن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم معه غلام.
ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد-

(5/127)


هكذا أورد البخاري- رحمه اللَّه تعالى- هذا الحديث تعليقا، وقد أسنده تقي ابن مخلد فقال: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا أبو النصر، حدثنا أبو عقيل عبد اللَّه بن عقيل، حدثنا علي بن حمزة، عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تعالى عنهما- حدثنا سالم عن أبيه- رحمة اللَّه تعالى عليه- قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا انظر إلى وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على المنبر يستسقى، فما ينزل- عليه الصلاة والسلام- حتى يجيش كل ميزاب، فأذكر قول الشاعر حيث يقول- وهو قول أبي طالب-:
وأبيض [ (1) ] يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال [ (2) ] اليتامى عصمة [ (3) ] للأرامل [ (4) ]
__________
[ () ] وقوعه. وذكر ابن التين أن في شعر أبي طالب هذا دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قبل أن يبعث، لما أخبره بحيرا أو غيره من شأنه.
ومعرفة أبي طالب بنبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جاءت في كثير من الأخبار، وتمسك بها الشيعة في أنه كان مسلما. ورأيت لعلي بن حمزة البصري جزءا جمع فيه شعر أبي طالب، وزعم في أوله أنه كان مسلما، وأنه مات على الإسلام، وأن الحشوية تزعم أنه مات على الكفر، وأنهم لذلك يستجيزون لعنه، ثم بالغ في سبهم والردّ عليهم، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه.
وقد بين الحافظ ابن حجر فساد ذلك كله في:
- ترجمة أبي طالب من كتاب (الإصابة) .
- ترجمة أبي طالب من كتاب مبعث النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في شرح البخاري، (فتح الباري) : 2/ 631 مختصرا.
[ (1) ] قوله: «وأبيض» بفتح الضاد، وهو مجرور بربّ مقدّرة، أو منصوب بإضمار أعنى أو أخص، والراجح أنه بالنصب عطفا على قوله: «سيدا» في البيت الّذي قبله:
وما ترك قوم لا أبا لك سيدا ... يحوط الذمار بين بكر ووائل
[ (2) ] قوله: «ثمال» بكسر المثلثة وتخفيف الميم: هو العماد، والملجأ، والمطعم، والمعين، والمغيث، والمكافئ، وقد أطلق على كل من ذلك.
[ (3) ] عصمة: أي يمنعهم مما يضرهم.
[ (4) ] الأرامل: جمع أرملة، وهي الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضا مجازا.
وهذا البيت من أبيات قصيدة طويلة، ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها، [وهي أكثر من تسعين بيتا] ، أولها:
ولما رأيت القوم لاودّ فيهم ... وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل
وآخرها
فإن تك كعب من لؤيّ صقيبة ... فلا بدّ يوما مرة من تزايل
قال ابن هشام بعد أن أوردها كاملة وشرح غريبها: هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها. (سيرة ابن هشام) : 2/ 108- 116، شعر أبي طالب في معاداة خصومه.

(5/128)


وخرج أبو محمد بن حبان من حديث مروان بن أبي معاوية قال: حدثنا محمد ابن أبي ذؤيب المدني، عن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن حاطب الجمحيّ، عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السلمي [ (1) ] قال: لما قفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من غزوة تبوك، أتاه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا، فيهم: خارجة بن حصن، والجدّ [ (2) ] ابن قيس- وهو أصغرهم، ابن أخي عيينة بن حصن- فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل ضعاف عجاف وهم مسنتون، فأتوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مقرين بالإسلام فسألهم عن بلادهم فقالوا: يا رسول اللَّه أسنتت بلادنا، وأجدب جنابنا، وعريت عيالنا، وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا وتشفّع لنا إلى ربك ويشفع ربك إليك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم سبحان اللَّه!! ويلك، أنا شفعت إلى ربي، فمن ذا الّذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرّحل الجديد [ (3) ] .
__________
[ (1) ] هو يزيد بن عبيد أبو وجزة- بفتح الواو وسكون الجيم بعدها زاي، كما في (التقريب) - السعديّ المدني الشاعر، ذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال الواقدي ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير وغيرهما: مات سنة ثلاثين ومائة، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة، وقال: كان ثقة قليل الحديث، شاعرا عالما، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وحكى المرزباني قولا: أن اسم أبيه مسلم. (تهذيب التهذيب) : 11/ 305، ترجمة رقم (569) .
ويزيد بن عبيد هذا له في (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) حديثان: رقم (5211، 5215) ، ليس من بينهما هذا الحديث. (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) : 18/ 272، فهرس الرواة.
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «الحرّ بن قيس» مضبوطة بضم الحاء والراء، وهو خطأ، وما أثبتناه من (خ) ، وابن هشام في (السيرة) ،
والجد بن قيس هذا هو الّذي قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا جدّ، هل لك العام في جلاد بني الأصفر- يعني الروم- فقال: يا رسول اللَّه، أو تأذن لي ولا تفتني؟ فو اللَّه لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدّ عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: قد أذنت لك.
ففي الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة: 49] ، أي إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه.
(سيرة ابن هشام) : 5/ 195- 196. غزوة تبوك.
[ (3) ] إنما هو كلام تقريب، أريد به تقريب عظمة اللَّه عزّ وجلّ، وفي الحديث: العرش على منكب إسرافيل وإنه ليئطّ أطيط الرّحل الجديد، يعني كور الناقة أي أنه ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان-

(5/129)


ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن اللَّه ليضحك من شعثكم وأذاكم وقرب غياثكم، فقال الأعرابي: أو يضحك ربنا يا رسول اللَّه؟ قال: نعم، فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول اللَّه من رب يضحك خيرا، فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من قوله، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فصعد المنبر، وتكلم بكلمات ورفع يديه- وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء- فرفع يديه صلّى اللَّه عليه وسلم رئي بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: اللَّهمّ اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللَّهمّ اسقنا غيثا مغيثا، مريا مريعا، طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللَّهمّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللَّهمّ اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء.
فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول اللَّه! إن التمر في المرابد فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا فقال أبو لبابة: يا رسول اللَّه إن التمر في المرابد [ثلاث مرات] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اللَّهمّ اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره.
قال: فلا واللَّه ما في السماء من قزعة سحاب، وما بين المسجد وسلع [ (1) ] من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع [ (1) ] سحابة مثل التّرس، فلما توسطت السماء انتشرت وهم ينظرون ثم أمطرت، فو اللَّه ما رأوا الشمس ستّا، فقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا [يخرج] [ (2) ] التمر منه.
فقال الرجل- يعني الّذي سأله أن يستسقى لهم-: [يا رسول اللَّه] [ (2) ] هلكت الأموال وانقطعت السبل، فصعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المنبر، فدعا ورفع يديه مدا حتى رئي بياض إبطيه ثم قال: اللَّهمّ حوالينا ولا علينا، على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانجابت السحابة عن المدينة انجياب الثوب [ (3) ] .
__________
[ () ] معلوما أن أطيط الرّحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله، وفي حديث الاستسقاء:
لقد أتيناك وما لنا بعير يئطّ، أي يحنّ ويصيح، يريد ما لنا بعير أصلا، لأن البعير لا بدّ أن يئط. وفي المثل: لا آتيك ما أطّت الإبل. (لسان العرب) : 7/ 256.
[ (1) ] اسم جبل.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 143- 144، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 449، حديث رقم (371) .

(5/130)


ولأبي عبد الرحمن بن أبي حاتم، من حديث عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي لبابة: عن عبد اللَّه بن المنذر الأنصاري [ (1) ] ، قال: استسقى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يوم الجمعة فقال: اللَّهمّ اسقنا، [اللَّهمّ اسقنا] [ (2) ] ، فقام أبو لبابة فقال: يا رسول اللَّه، إن التمر في المرابد وما في السماء سحاب نراه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا، فقام أبو لبابة فقال: يا رسول اللَّه، إن التمر في المرابد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا حتى يقوم أبو لبابة يسد ثعلب مربده بإزاره، فأزبدت السماء وأمطرت، وصلى بنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
ثم طاف الأنصار بأبي لبابة يقولون له: يا أبا لبابة، إن السماء واللَّه لن تقلع حتى تقوم عريانا تسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال فقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده [ (3) ] بإزاره، فأقلعت السماء [ (4) ] .
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن أيوب قال: حدثنا ابن زحر، عن علي ابن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة الباهلي قال: قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما ضحى في المسجد، فكبر ثلاث تكبيرات ثم قال: اللَّهمّ اسقنا- ثلاثا- اللَّهمّ ارزقنا سمنا، ولبنا، وشحما، وما نرى في السماء سحابا، فثارت ريح وغبرة، ثم اجتمع سحاب فغمت السماء، فصاح أهل الأسواق، فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وانصرفت أمشي بمشيه وهو يقول: هذا أحدثكم عهدا بربه [ (5) ] .
وخرج من حديث شبابة قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة: عن سالم ابن أبي الجعد، بن السبط قال لكعب بن مرة- أو مرة بن كعب- البهري، حدّثنا بحديث سمعته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم للَّه أبوك، واحذر، قال: دعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: يا رسول اللَّه! إن قومك قد هلكوا فادع اللَّه لهم، قال شعبة: وزاد حبيب بن أبي ثابت فيه بهذا الإسناد، أن أبا سفيان قال
__________
[ (1) ] في (دلائل البيهقي) : «عن أبي أمامة بن عبد المنذر الأنصاري» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] ثعلب المربد: مكان خروج الماء منه، والمربد: ما يجمع فيه التمر.
[ (4) ] المرجع السابق: 145.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 145.

(5/131)


للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم: إني أتيتك من عند قوم لم يخطم لهم فحل ولم يتزود له راع، ثم رجع إلى حديث عمرو، فقال [النبي] صلّى اللَّه عليه وسلم: اللَّهمّ اسقنا غيثا، مغيثا، غدقا طبقا مريعا نافعا، غير ضار، عاجلا غير رائث، قال شعبة: وزاد حبيب بن أبي ثابت قال: فما لبثنا غير جمعة حتى مطرنا [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث جرير [بن حازم] قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال: بينا نحن عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في بعض أسفاره إذ احتاج الناس إلى وضوء، فالتمسوا في الركب ماء فلم يجدوا، فجاءني عمي معوذ بن عفراء فقال لي: يا بنية هل في إداوتك ماء يتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقلت: لا، والّذي بعثه بالحق ما فيها شيء، فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: ما في الركب ماء، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأمطرت حتى استقى الناس وسقوا.
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 145- 146.

(5/132)


[ثالث وعشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في ركي قليل الماء حتى صارت نهرا يجري]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في ركي قليل الماء حتى صارت نهرا يجري، فخرج الإمام أحمد من حديث حميد، عن يونس عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مسير، فأتينا على ركي ذمة- يعني قليلة الماء- فنزل فيها ستة أنا سادسهم ماحة، قال: فأدليت إلينا دلو، قال: ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على شفة الركى، فجعلنا فيها نصفها أو قراب ثلثيها، فرفعت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [قال البراء: فكدت بإنائي هل أجد شيئا أجعله في حلقي؟ فما وجدت. فرفعت الدلو إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (1) ] فمس يده فيها فقال ما شاء اللَّه أن يقول، فأعيدت إلينا الدلو بما فيها، قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق، قال: ثم ساحت، يعني جرت نهرا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (مسند أحمد) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 5/ 372- 373، حديث رقم (18111) .

(5/133)


[رابع وعشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في البئر بقباء]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في البئر بقباء، فخرج البيهقي من حديث ابن هيثم بن طهمان، عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أتاهم بقباء فسألهم عن بئر هناك، قال: فدللته عليها فقال: لقد كانت هذه وإن الرجل لينضح على حماره فينزح [ (1) ] ، فيستخرجها له، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأمر بذنوب [ (2) ] فسقى، فإما أن يكون توضأ منه أو تفل فيه، ثم أمر به فأعيد في البئر، قال:
فما نزحت [ (3) ] بعد،
قال: فرأيته بال ثم جاء فتوضأ ومسح على خفيه ثم صلى [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «فيستريح» .
[ (2) ] الذنوب: هو الدلو.
[ (3) ] في (خ) : «فما برحت» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 136، باب ما ظهر في البئر التي كانت بقباء من بركته صلّى اللَّه عليه وسلم، (البداية والنهاية) : 6/ 101.

(5/134)


[خامس وعشرون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في بئر قليلة الماء، بعث إليها بحصيات ألقيت فيها فغزر ماؤها]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في بئر قليلة الماء، بعث إليها بحصيات ألقيت [فيها] فغزر ماؤها،
فخرج أبو نعيم من حديث الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، حدثنا عبد الرحمن بن زياد بن [أنعم] عن زياد بن نعيم الحضرميّ، عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فبايعته على الإسلام، ثم أتى وفد من قومي بإسلامهم، ثم قالوا: يا رسول اللَّه! إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها فاجتمعنا إليه، فإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وإنا لا نستطيع أن نتفرق اليوم [ولنا عدو] ، فادع اللَّه لنا أن يسقينا ماؤها، فدعى بسبع حصيات فعركهن بيده ودعا، ثم قال: إذا أتيتموها فألقوها واحدة واحدة واذكروا اسم اللَّه عليها، قال: فما استطاعوا أن ينظروا إلى قعرها بعدها [ (1) ]
وسيأتي حديث ابن زياد هذا بطوله.
وقال الواقدي في غزوة تبوك: قالوا: وقدم نفر من بني سعد هذيم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللَّه! إنا قدمنا عليك وتركنا أهلنا على بئر لنا قليل ماؤها، وهذا القيظ ونحن نخاف إن تفرقنا أن تقطع، لأن الإسلام لم يفش حولنا بعد، فادع اللَّه لنا في ماء بئرنا، وإن روينا به فلا قوم أعزّ منا، لا يعير بنا أحد مخالف لديننا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أبلغوني حصيات! فتناولت ثلاث حصيات فدفعتهن إليه، فعركهن بيده ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات إلى بئركم، فاطرحوها واحدة واحدة وسمّوا اللَّه.
قال: فانصرفوا من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ففعلوا ذلك، فجاشت بئرهم بالرواء، ونفوا من قاربهم من المشركين ووطئوهم، فما انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة حتى أوطئوا من حولهم غلبة ودانوا بالإسلام [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ذكره أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 412- 413، حديث رقم (321) بسنده لكن بسياقة أخرى.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1034- 1035.

(5/135)


قال المؤلف- عفى اللَّه عنه ورحمه: في حديث زياد بن الحرث الصدائي أنها بئر قومه، فإما أن يريد قبيلته من صداء، فهم بطن من مدحج، وصداء حلفاء بني الحرث بن كعب بن عمرو بن علة، وإما أن يريد بقومه اليمن، فإن صداء حي من اليمن، وأما الّذي خبّر الواقدي رحمه اللَّه: فإن البئر لسعد هذيم، وسعد هذيم من قضاعة، وقضاعة من اليمن، فإنّهم بنو سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وهذيم عبد حبشيّ حضن سعدا ورباه فغلب عليه فقيل: سعد هذيم، ومن بني سعد هذيم بنو عذرة، فاحتمل أن يكون ما في حديث زياد بن الحارث وما في خبر الواقدي قصة واحدة، واحتمل أن يكون ذلك كان مرتين في بئرين، واللَّه أعلم أيّ ذلك كان.

(5/136)


[سادس وعشرون: إفاقة جابر بن عبد اللَّه]
وأما إفاقة جابر بن عبد اللَّه- وقد أغمي عليه- لما صب عليه من وضوئه صلّى اللَّه عليه وسلم فخرج البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: مرضت فأتاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي عليّ فتوضأ ثم صب عليّ من وضوئه فأفقت فقلت:
يا رسول اللَّه! كيف أقضي في مالي؟ فلم يردّ عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ (1) ] .
وفي لفظ البخاري: عن محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد اللَّه يقول:
مرضت فعادني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وهما ماشيان، فأتاني وقد أغمي عليّ، فتوضأ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فصبّ عليّ وضوءه فأفقت فقلت: يا رسول اللَّه! كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني [النبي] صلّى اللَّه عليه وسلم حتى نزلت آية الميراث. وذكره في أول كتاب الفرائض [ (2) ] ، وذكره في كتاب المرضى [ (3) ] في باب عيادة المغمى عليه بنحو منه.
__________
[ (1) ] هذا لفظ مسلم، ذكره في كتاب الفرائض، باب (2) ميراث الكلالة، حديث رقم (1616) وذكره أيضا من طرق كلها عن محمد بن المنكدر (مسلم بشرح النووي) : 11/ 60- 62، وفي هذا الحديث فضيلة عيادة المريض واستحباب المشي فيها* وفيه التبرك بآثار الصالحين وفضل طعامهم وشرابهم ونحوهما، وفضل مؤاكلتهم ومشاربتهم ونحو ذلك* وفيه ظهور آثار بركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم* وفيه الاستدلال على طهارة الماء المستعمل في الوضوء والغسل، ردا على أبي يوسف القائل بنجاسته، وهي رواية عن أبي حنيفة، وفي الاستدلال به نظر، لأنه يحتم أنه صب من الماء الباقي في الإناء، ولكن قد يقال البركة العظمى فيما لاقى أعضاءه صلّى اللَّه عليه وسلم في الوضوء* وفيه جواز وصية المريض وإن كان يذهب عقله في بعض أوقاته، بشرط أن تكون الوصية في حال إفاقته وحضور عقله* وفيه دليل على عدم جواز اجتهاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في الأحكام، حيث لم يردّ عليه شيئا رجاء أن ينزل الوحي. (المرجع السابق مختصرا) ، والآية: 176. النساء.
[ (2) ] (فتح الباري) : 12/ 1، كتاب الفرائض، باب (1) قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، حديث رقم (6723) والآية: 11 من سورة النساء.
[ (3) ] (فتح الباري) : 10/ 140- 141، باب (5) عيادة المغمى عليه، حديث رقم (5651) ، و «المغمى عليه» أي الّذي يصيبه غشي تتعطل معه قوته الحساسة. قال ابن المنير: فائدة

(5/137)


وخرج البخاري ومسلم والنسائي، من حديث هشام بن أبي جريج، أخبرهم قال: أخبرني ابن المنكدر عن جابر قال: عادني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت فقلت: يا رسول اللَّه! ما تأمرني أن أصنع في [مالي؟ فنزلت] :
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الآية [ (1) ] .
وخرجه مسلم والنسائي من حديث حجاج بن محمد قال: حدثنا محمد بن جريج، فذكراه بنحو أو قريب منه [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث شعبة قال: أخبرني محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه يقول: دخل عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ فصبوا عليّ من وضوئه [فعقلت، فقلت] : يا رسول اللَّه! إنما ترثني كلالة، فنزلت آية الميراث فقلت لمحمد بن المنكدر: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ قال: هكذا أنزلت.
ذكره البخاري في مواضع، من كتاب الفرائض وغيره [ (3) ] .
__________
[ () ] الترجمة أن لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة الفائدة لكونه لا يعلم بعائده، ولكن ليس في حديث جابر التصريح بأنهما علما أنه مغمى عليه قبل عيادته، فلعله وافق حضورهما.
قال الحافظ ابن حجر: بل الظاهر من السياق وقوع ذلك حال مجيئهما وقبل دخولهما عليه، ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف مشروعية العيادة عليه، لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على المريض، والمسح على جسده، والنفث عليه عند التعويذ، إلى غير ذلك. (المرجع السابق) : 141.
[ (1) ] (فتح الباري) : 8/ 308، كتاب التفسير، باب (4) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ، حديث رقم (4577) ، (مسلم بشرح النووي) : 11/ 61، كتاب الفرائض، باب (2) ميراث الكلالة، حديث رقم (6) من أحاديث الباب، (سنن النسائي) : 1/ 93، كتاب الطهارة، باب (103) الانتفاع بفضل الوضوء، حديث رقم (136) .
[ (2) ] في (مسلم) : الحديث رقم (7) ، (8) من أحاديث الباب، وفي (النسائي) : الحديث رقم (138) من أحاديث الباب. ر: التعليق السابق.
[ (3) ] سبقت الإشارة إليه.

(5/138)


[سابع وعشرون: نشاط البعير الّذي قد أعيا ببركة وضوئه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما نشاط البعير الّذي قد أعيا ببركة وضوئه صلّى اللَّه عليه وسلم لما رشّه عليه وسقاه من وضوئه، فقال الواقدي في (كتاب المغازي) : حدثني عبيد بن يحيى عن معاذ بن رفاعة، عن أبيه قال: خرجت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بدر، وكان كل ثلاثة يتعاقبون بعيرا، فكنت أنا وأخي خلاد بن رافع على بكر لنا، ومعنا عبيد بن يزيد بن عامر، فكنا نتعاقب، فسرنا حتى إذا كنا بالروحاء [ (1) ] أذم بنا بكرنا فبرك علينا وأعيا، فقال أخي: اللَّهمّ إن لك عليّ نذرا لئن رددتنا المدينة لأنحرنّه.
قال: فمر بنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ونحن على تلك الحال، فقلنا يا رسول اللَّه برك علينا بكرنا، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بماء، فمضمض وتوضأ في إناء، قال: افتحا فاه، ففعلنا ثم صبّه في فيه، ثم على رأسه، ثم على عنقه، ثم على حاركه [ (2) ] ، ثم على سنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال: اركبا، ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فلحقناه أسفل المنصرف [ (3) ] ،
وإن بكرنا لينفر بنا حتى إذا كنا بالمصلى [ (4) ] راجعين من بدر برك علينا، فنحره أخي فقسم لحمه وتصدق به [ (5) ] .
__________
[ (1) ] الروحاء: موضع على ليلتين من مكة بينهما أحد وأربعون ميلا.
[ (2) ] الحارك: أعلى الكاهل، وهو عظم مشرف من جانبيه، ومنبت أدنى العرف إلى الظهر الّذي يأخذ به من يركبه.
[ (3) ] المنصرف: موضع بين مكة وبدر، وبينهما أربعة برد.
[ (4) ] المصلى: لغة: موضع الصلاة، وهو هنا موضع بعينه في عقيق المدينة كما ذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان) : 5/ 168، موضع رقم (11309) .
[ (5) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 25.

(5/139)


[ثامن وعشرون: عذوبة الماء بريقه المبارك]
فخرج أبو نعيم من حديث محمد بن عبد اللَّه الأنصاري قال: حدثني أبي عن ثمامة، عن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي فيطيل القيام، وإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بزق في بئر داره، قال: فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها، قال: وكانوا إذا حضروا استعذب لهم منها، وكانت تسمى في الجاهلية البرود [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 444، باب بوله وغائطه، حديث رقم (366) وقال فيه: «بال في بئر داره» ، وما أثبتناه من (خ) ، وهذا الحديث انفرد به أبو نعيم، حيث لم أجده عند غيره.
والبرود: بالفتح ثم الضم وسكون الواو ودال مهملة، قال يعقوب: البرود فيما بين ملل وبين طرف جبل جهينة. قال: والبرود أيضا بطرف حرة النار أودية يقال لهن البوادر. والبرود: واد فيه بئر بطرف حرة ليلى، قال: والبرود قرب رابغ، ورابغ بين الجحفة وودّان، (معجم البلدان) :
1/ 481، موضع رقم (1823) ، والبرود، اسم ماء لبني بدر، من بني ضمرة، (معجم ما استعجم) : 1/ 246.

(5/140)


[تاسع وعشرون: حبس الدمع بما نضحه صلّى اللَّه عليه وسلم في وجه امرأة]
وأما حبس الدمع بما نضحه صلّى اللَّه عليه وسلم في وجه امرأة، فخرج أبو نعيم من حديث بشار بن عبد الملك قال حدثتني جدتي أم حكيم قالت: سمعت أم إسحاق تقول:
هاجرت مع أخي إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمدينة، فلما كنت في بعض الطريق قال لي أخي: اقعدي يا أم إسحاق [ (1) ] ، فإنّي نسيت نفقتي بمكة، فقلت: إني أخشى عليك الفاسق زوجي، قال: كلا إن شاء اللَّه، قالت: فأقمت أياما فمرّ بي رجل قد عرفته ولا أسميه، فقال: يا أم إسحاق! ما يجلسك هاهنا؟ قلت: انتظر إسحاق، قال:
لا إسحاق لك، قد قتله زوجك، فتحملت حتى قدمت المدينة، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يتوضأ، فقمت بين يديه فقلت: يا رسول اللَّه! قتل إسحاق، وجعلت كلما انظر إليه نكّس [في الوضوء] [ (2) ] ثم أخذ كفا من ماء فنضحه في وجهي.
قال: قالت جدتي: فقد كانت تصيبها المصيبة فنرى الدموع في عينيها فلا تسيل على خديها [ (3) ] . [قال ابن عبد البر: أم إسحاق الغنوية هاجرت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، يروي عنها أهل البصرة] [ (4) ] ، [حديثها فيمن أكل ناسيا غريب الإسناد] [ (5) ] .
__________
[ (1) ] اسمها فاطمة، وقيل: جويرية، وهي التي هاجرت الهجرتين: إلى أرض الحبشة وإلى المدينة.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 467- 468، قصة أم إسحاق، حديث رقم (399) ، وذكره البخاري في (التاريخ الكبير) : 2/ 129، ترجمة رقم (1931) ، وبشار بن عبد الملك ذكره ابن حبان في (الثقات) : 6/ 113.
[ (4) ] زيادة من (خ) .
[ (5) ] زيادة من (الاستيعاب) : 4/ 1925، ترجمة رقم (4120) .

(5/141)


[ثلاثون: ذهاب الحزن وسرور النفس ببركة ما غمس فيه يده الكريمة صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما ذهاب الحزن وسرور النفس ببركة ما غمس فيه يده الكريمة صلّى اللَّه عليه وسلم، ومضمض فاه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال الواقدي- رحمه اللَّه- في غزوة بدر: بينا حارثة بن سراقة كارعا [ (1) ] في الحوض، إذ أتاه سهم غرب، فوقع في نحره، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه، فبلغ أمه وأخته- وهم بالمدينة- مقتله، فقالت أمه: واللَّه لا أبكي عليه حتى يقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأسأله، فإن كان ابني في الجنة لم أبك عليه، وإن كان ابني في النار بكيته [لعمر اللَّه] [ (2) ] فأعولته.
فلما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من بدر، جاءت أمه فقالت: يا رسول اللَّه، قد عرفت موقع حارثة من قلبي [فأردت أن] [ (2) ] ، أبكي عليه، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فإن كان في الجنة لم أبك عليه وإن كان في النار بكيته فأعولته، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أهبلت!؟ جنة واحدة، إنها جنان كثيرة، والّذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى، قالت: فلا أبكي عليه أبدا، ودعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بإناء من ماء، فغمس يده فيه ومضمض فاه، ثم ناول أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت، ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما ففعلتا، فرجعتا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسرّ. هكذا أورد محمد بن عمر الواقدي هذا الحديث في (كتاب المغازي) بغير إسناد [ (3) ] .
وقد خرج الإمام أبو عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري في (كتاب الجامع الصحيح) ، في كتاب الرقاق، في باب صفة الجنة والنار، من حديث إسحاق عن
__________
[ (1) ] كل خائض ماء شرب أو لم يشرب. (اللسان) : 8/ 308.
[ (2) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 94، وقد ذكره الواقدي معطوفا على الخبر الّذي قبله ولعلّ الخبرين بإسناد واحد وهو: «حدثني أسامة بن زيد عن داود بن الحصين: عن رجال عن بني عبد الأشهل عدة ... » .
وقد ذكره الإمام البخاري في الفقرة التالية مما يؤكد على صحته.

(5/142)


حميد قال: سمعت أنسا يقول: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك بالجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: ويحك! أهبلت؟ أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس [ (1) ]
ومن حديث إسماعيل بن جعفر، عن حميد عن أنس، أن أم حارثة أتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد هلك حارثة يوم بدر- أصابه سهم غرب- فقالت: يا رسول اللَّه! قد علمت موقع حارثة من قلبي، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإلا سوف ترى ما أصنع، فقال لها: أجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى [ (2) ] .
وحارثة هذا هو حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأمه أم حارثة عمه أنس بن مالك. قتله حبان ابن العرقة يوم بدر بسهم وهو يشرب من الحوض- وكان خرج نظّارا- رماه فأصاب حنجرته فقتله.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 506، كتاب الرقاق، باب (51) صفة الجنة والنار، حديث رقم (6550) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 509- 510، حديث رقم (6567) .

(5/143)


[حادي وثلاثون: عذوبة الماء ببركته عليه السلام]
وأما عذوبة الماء ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم،
فقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن حمزة عن إبراهيم بن قسطاس، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي قال: مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة ذي قرد على ماء يقال له بيسان [ (1) ] ، فسأل عنه فقيل: اسمه يا رسول اللَّه بيسان [ (1) ] ، وهو مالح، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا بل هو نعمان وهو طيب، فغيّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم اسمه، وغيّر اللَّه تبارك وتعالى الماء ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم، فاشتراه طلحة بن عبيد اللَّه رضي اللَّه عنه [ثم تصدق به] [ (2) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم! ما أنت يا طلحة إلا فيّاض،
فبذلك سمى رضي اللَّه عنه: طلحة الفياض.
وضبطه البكري- رحمة اللَّه تعالى عليه- بفتح أوله وبالسين المهملة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] موضعان: أحدهما بالشام، والثاني بالحجاز.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع التالي.
[ (3) ] ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان) : 1/ 625، موضع رقم (2354) ، وأبو عبيدة البكري في (معجم ما استعجم) : 1/ 292، كلاهما عن الزبير بن بكار.

(5/144)


[ثاني وثلاثون: زيادة بقية أزواد القوم ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما زيادة بقية أزواد القوم ببركة دعائه صلّى اللَّه عليه وسلم عند مرجعه من الحديبيّة ومرجعه من تبوك،
فخرج البخاري ومسلم من حديث حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال: خفّت أزواد الناس وأملقوا، فأتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر رضي اللَّه عنه، فأخبروه فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
[ناد] الناس فيأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك [نطعا] فجعلوه فوق النطع، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فدعا وبرّك، ثم دعاهم بأوعيتهم، فاجتنى الناس حتى فرغوا، ثم قال:
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه [ (1) ] .
وخرج مسلم والنسائي من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم قال: حدثنا عبيد اللَّه الأشجعي، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في مسير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتى هموا بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت اللَّه عليها؟ قال:
ففعل، قال: فجاءه ذو البر ببرّه، وذو التمر بتمره، قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه، قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: يمصونه ويشربون عليه الماء، قال:
فدعا عليها، قال: حتى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بهما عبد غير شاك إلا دخل الجنة [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 161- 162، كتاب الشركة، باب (1) الشركة في الطعام والنهد والعروض، حديث رقم (2484) ، (فتح الباري) : 6/ 159- 160، كتاب الجهاد والسير باب (123) حمل الزاد في الغزو، وقول اللَّه عز وجل: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة: 197] ، حديث رقم (2982) ، وقول عمر رضي اللَّه عنه: «ما بقاؤكم بعد إبلكم» أي لأن توالي المشي ربما أفضى إلى الهلاك. قال ابن بطال: استنبط منه بعض الفقهاء أنه يجوز للإمام في الغلاء إلزام من عنده ما يفضل عن قوته أن يخرجه للبيع، لما في ذلك من صلاح الناس، وفيه جواز المشورة على الإمام بالمصلحة، وإن لم يتقدم منه الاستشارة. مختصرا من (فتح الباري) : 6/ 161.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 332- 336، كتاب الإيمان، باب (10) الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، حديث رقم (27) .

(5/145)


وخرجه النسائي من حديث أبي أسامة عن مالك- وهو ابن مغول- عن طارق أبي صالح قال: بينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في مسير إذ نفذت أزواد القوم ... ، وساق الحديث مرسلا. ذكره في الجهاد [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة- أو عن أبي سعيد، شك الأعمش- قال: لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول اللَّه! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلناها وادّهنّا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: افعلوا، قال: فجاء عمر فقال: يا رسول اللَّه! إن فعلت قال الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع اللَّه عليها بالبركة، لعل اللَّه أن يجعل في ذلك.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: نعم، قال: فدعا بنطع فبسطه، ثم دعي بفضل أزوادهم، قال: جعل الرجل يجيء بكف ذره، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال:
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبركة وقال: خذوا في أوعيتكم، قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة [ (2) ] .
وخرج أيضا في آخر كتاب اللقطة [ (3) ] من حديث النّضر بن محمد اليمامي قال:
حدثني عكرمة- وهو ابن عمار- قال: حدثنا إياس بن سلمة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمر نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجمعنا أزوادنا، فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم على النطع، فتطاولت لأحرزه كم هو؟ فحزرته كربضة العنز، ونحن أربع عشرة مائة
__________
[ (1) ] لعله في (السنن الكبرى) .
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 1/ 337- 339، حديث رقم (45) من أحاديث الباب، وفي هذا الحديث جواز خلط المسافرين أزوادهم وأكلهم مجتمعين، وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض، وقد نصّ أصحابنا على أن ذلك سنة. واللَّه تعالى أعلم (المرجع السابق) .
[ (3) ] في (خ) : «الأقضية» ، وهو خطأ من الناسخ.

(5/146)


قال: فأكلنا حتى شبعنا، ثم حشونا جربنا، فقال نبيّ اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فهل من وضوء؟
قال: فجاء رجل بإداوة فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشر مائة، قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فرغ الوضوء [ (1) ] .
وقال البيهقي- رحمة اللَّه عليه-: ورواه عاصم بن عبيد اللَّه، عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه، وقال في غزوة تبوك، وروى عن عبد الرحمن ابن أبي عمرة الأنصاري عن أبيه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، وروى عن أبي حبيش الغفاريّ قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة تهامة حتى كنا بعسفان، فذكر القصة وزاد: ثم أذن بالرحيل فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا، فنزل ونزلوا، وشربوا من ماء السماء. والأحاديث كلها متفقة في دعائه في بقية الأزواد، وإجابة اللَّه تعالى دعاءه بظهور البركة فيها حتى ملئوا أوعيتهم وفضلت فضلة [ (2) ] .
وخرج مسلم من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: لما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من الحديبيّة، كلمه بعض أصحابه فقالوا:
جهدنا وفي الناس ظهر فانحره لنا فنأكل من لحومه، ولندهن من شحومه، ولنحتذي من جلوده، فقال عمر بن الخطاب: لا تفعل يا رسول اللَّه، فإن الناس إن يكن
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 11/ 276- 278، كتاب اللقطة، باب (5) استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمؤاساة فيها، حديث رقم (1729) ، وربضة العنز: أي كمبركها، أو كقدرها وهي رابضة، قوله: ندغفقه دغفقة: أي نصبّه صبّا شديدا، وفي هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هما تكثير الطعام، وتكثير الماء هذه الكثرة الظاهرة، قال المازري في تحقيق المعجزة: في هذا أنه كلما أكل منه جزء أو شرب جزء، خلق اللَّه تعالى جزءا آخر، وفي هذا الحديث استحباب المواساة في الزاد، وجمعه عند قلته، وجواز أكل بعضهم مع بعض في هذه الحالة، وليس هذا من الربا في شيء، وإنما هو من نحو الإباحة، وكل واحد مبيح لرفقته الأكل من طعامه، وسواء تحقق الإنسان أنه أكل أكثر من حصته أو دونها أو مثلها، فلا بأس بهذا، لكن يستحب له الإيثار والتعلل، ولا سيما إن كان في الطعام قلة، واللَّه تعالى أعلم، مختصرا من (المرجع السابق) : 287- 288، (دلائل البيهقي) : 4/ 118- 119.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) 5/ 230- 231.

(5/147)


معهم بقية ظهر أمثل، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أبسطوا أنطاعكم وعباءكم، ففعلوا، ثم قال: من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينتره، ودعا لهم ثم قال: قربوا أوعيتكم فأخذوا ما شاء اللَّه [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن أبي الطفيل، عن عبد اللَّه بن عباس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما نزل مرّ في صلح قريش، قال أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: يا رسول اللَّه، لو انتحرنا من ظهورنا فأكلنا من لحومها وشحومها وحسونا من المرق وأصبحنا غدا إذا غدونا عليهم وبنا جمام، قال: لا، [ولكن ائتوني] [ (2) ] بما فضل من أزوادكم، فبسطوا أنطاعا ثم صبوا عليها فضول ما فضل من أزوادهم، فدعا عليهم [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالبركة، فأكلوا حتى تضلعوا، [شبعا] [ (2) ] ثم لفّفوا ما فضل من أزوادهم في جربهم [ (4) ] .
وقال الواقدي في مغازيه: قام [ (5) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالحديبية بضعة عشرة يوما- ويقال: عشرين ليلة- فلما انصرف من الحديبيّة نزل بمر الظهران، ثم نزل عسفان فأرملوا [ (6) ] من الزاد، فشكى الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أنهم قد بلغوا [ (7) ] الجهد من الجوع، [وفي الناس ظهر وقالوا:] [ (8) ] ، ننحر يا رسول اللَّه وندّهن من شحومه، ونتخذ من جلوده حذاء، فأذن لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فأخبر بذلك عمر ابن الخطاب، فجاء إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يكن في الناس بقية ظهر يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم، ثم ادع اللَّه فيها، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالأنطاع فبسطت، ثم نادى مناديه: من كان عنده بقية من زاد
__________
[ (1) ] لم أجده بهذه السياقة في (صحيح مسلم) ، ولكن أحاديث الباب تؤيده وتشهد على صحته، وقد رواه البيهقي في (دلائل النبوة) : 4/ 119.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «عليها» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 4/ 120.
[ (5) ] في (خ) : «وأقام» .
[ (6) ] أرمل القوم: إذا نفد زادهم.
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي (مغازي الواقدي) : «قد بلغوا من الجوع» .
[ (8) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.

(5/148)


فلينثره على الأنطاع، قال أبو شريح الكعبيّ: فلقد رأيت من يأتي بالتمرة الواحدة، وأكثرهم لا يأتي بشيء، ويؤتي بالكف من الدقيق والكف من السويق، وذلك كله قليل، فلما اجتمعت أزوادهم، وانقطعت موادّهم،
مشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليها، فدعا فيها بالبركة، ثم قال: قربوا أوعيتكم فجاءوا بأوعيتهم.
قال أبو شريح: فأنا حاضر، فيأتي الرجل فيأخذ ما شاء من الزاد، حتى أن الرجل ليأخذ ما لا يجد له محملا، ثم أذن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائفون، فنزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ونزلوا معه، فشربوا من ماء السماء [ (1) ] ، فقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فخطبهم، فجاء ثلاثة نفر، فجلس اثنان مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وذهب واحد معرضا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا أخبركم خبر الثلاثة؟
قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: أما الأول فاستحيا، فاستحيا اللَّه منه، وأما الآخر فتاب فتاب اللَّه عليه، أما الثالث فأعرض فأعرض اللَّه عنه [ (2) ] .
وخرج الإمام أحمد- رحمه اللَّه- من حديث الأوزاعي قال: حدثني أبي قال:
كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، فأصاب الناس مخمصة فاستأذن الناس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في نحر بعض ظهرهم وقالوا: يبلغنا اللَّه به، فلما رأى عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قد همّ أن يأذن لهم في نحر ظهرهم.
قال: يا رسول اللَّه! كيف بنا إذا لقينا العدو غدا جياعا رجالا، ولكن إن رأيت يا رسول اللَّه، أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم، فتجمعها ثم تدعو اللَّه فيها بالبركة، فإن اللَّه تبارك وتعالى سيبلغنا بدعوتك- أو قال: سيبارك لنا في دعوتك- فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم الناس ببقايا أزوادهم.
فجعل الناس يجيئون بالحفنة- وقال بعضهم: بالحثية- من الطعام وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم قام فدعا ما شاء اللَّه أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم، وأمرهم أن يجيشوا [ (3) ] ، فما
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «من الماء» .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 616- 617.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (مسند أحمد) : «يحتثوا» .

(5/149)


بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه وبقي مثله، فضحك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بهما عبد مؤمن بهما إلا حجبته عن النار [ (1) ] .
وخرج البيهقي- رحمه اللَّه تعالى- من حديث سعيد بن سلمة قال: حدثني أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن [عبد اللَّه بن] [ (2) ] أبي ربيعة، أنه سمع أبا خنيس الغفاريّ يقول: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة تهامة، حتى إذا كنا بعسفان جاء أصحابه فقالوا: يا رسول اللَّه! جهدنا الجوع فأذن لنا في الظّهر أن نأكله، قال: نعم، فأخبر بذلك عمر رضي اللَّه عنه فقال: يا نبي اللَّه! ما صنعت؟ أمرت الناس أن يأكلوا الظهر، فعلام يركبون؟ قال: فما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: أن تأمرهم- وأنت أفضل رأيا- فيجمعوا فضل [ (3) ] أزوادهم في ثوب، ثم تدعو اللَّه لهم، فإنّ اللَّه يستجيب لك.
فأمرهم فجمعوا فضل أزوادهم في ثوب، ثم دعا اللَّه لهم ثم قال: ائتوا بأوعيتكم، فملأ كل إنسان وعاءه، ثم أذن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا، ونزل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ونزلوا معه، وشربوا من ماء السماء وهم بالكراع، ثم خطبهم به، فجاء ثلاثة، فجلس اثنان مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وذهب آخر معرضا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما واحد فاستحيا من اللَّه فاستحيا اللَّه منه، وأما الآخر فأقبل تائبا إلى اللَّه فتاب اللَّه عليه، وأما الآخر فأعرض فأعرض اللَّه عنه [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 4/ 429، حديث رقم (15023) ، ونحوه أو قريب منه في (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) : 14/ 464- 465، حديث رقم (6530) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] في المرجع السابق: «أفضل» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 122، والجزء الأخير من هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب العلم (فتح الباري) : 1/ 207، باب (8) من فعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجه في الحلقة فجلس فيها، حديث رقم (66) ، وفي كتاب الصلاة، باب (84) الحلق والجلوس في المسجد، حديث رقم (474) .

(5/150)


وقال الواقدي في مغازيه: فلما أجمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم المسير من تبوك أرمل الناس إرمالا شديدا فشخص على ذلك الحال حتى جاء الناس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم فيأكلوها، فأذن لهم، فلقيهم عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وهم على نحرها، فأمرهم أن يمسكوا عن نحرها، ثم دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في خيمة له فقال: أذنت للناس في نحر [حمولتهم يأكلونها] [ (1) ] ؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: شكوا إلى ما بلغ منهم من الجوع، فأذنت لهم ينحر الرفقة البعير والبعيرين، ويتعاقبون فيما فضل من ظهرهم وهم قافلون إلى أهليهم،
قال: يا رسول اللَّه! لا تفعل، فإن يك في الناس فضل من ظهر يكون خيرا، فالظهر اليوم رقاق [ (2) ] ، ولكن ادع بفضل أزوادهم ثم اجمعها، فادع فيها بالبركة، كما فعلت في منصرفنا من الحديبيّة حيث أرملنا، فإن اللَّه سبحانه وتعالى مستجيب لك.
فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: من كان عنده فضل زاد فليأت به، وأمر بالأنطاع فبسطت، فجعل الرجل يأتي بالمد الدقيق والسويق أو التمر، أو القبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر، فيوضع كل صنف من ذلك على حدة، وكل ذلك قليل، فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق والسويق والتمر ثلاثة أفراق [ (3) ] حرزا [ (4) ] ، ثم قام فتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا اللَّه تعالى أن يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يحدثون جميعا حديثا واحدا، حضروا ذلك وعاينوه: أبو هريرة، وأبو حميدي الساعدي، وأبو زرعة الجهنيّ معبد بن خالد، وسهل بن سعد الساعدي، قالوا: ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فنادى مناديه [هلموا] [ (1) ] إلى الطعام خذوا منه حاجتكم.
فأقبل الناس فجعل كل من جاء بوعاء ملأه، فقال بعضهم: لقد طرحت يومئذ كسرة من خبز، وقبضة من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت أحدهما سويقا والآخر خبزا، وأخذت في ثوبي دقيقا ما كفاني إلى المدينة،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] رقاق: جمع رقيق أي ضعيف.
[ (3) ] الأفراق: جمع فرق، وهو مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع، أو يسع ستة عشر رطلا أو أربعة أرباع.
[ (4) ] الحرز: التقدير والخرص.

(5/151)


فجعل الناس يتزودون الزاد حتى نهلوا عن آخرهم، حتى كان آخرهم ذلك أن أخذت الأنطاع ونثرنا [ (1) ] ما عليها، فجعل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقول- وهو واقف-:
أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني عبده ورسوله، وأشهد أنه لا يقولها أحد من حقيقة قلبه إلا وقاه اللَّه حر النار [ (2) ] .
وقد رويت هذه القصة من طرق: فرواها [أبو نعيم] من طريق عاصم بن عبيد اللَّه ابن عاصم بن عمر عن أبيه، عن جده عمر قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى إذا كنا بعين الروم- التي يقال لها غزوة تبوك- يقول: أصحابنا جوع شديد فقلت:
يا رسول اللَّه! نلقى العدو غدا وهم شباع ونحن جياع، فخطب الناس ثم قال:
من كان عنده فضل طعام فليأتنا به، وبسط نطعا فأتى بتسع وعشرين صاعا فجلس ودعا بالبركة، ثم دعا الناس وقال: خذوا، فأخذوا حتى جعل الرجل يربط كم قميصه ثم يأخذ فيه، ففضل فضلة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه، لا يقولها رجل فيدخل النار [ (3) ] .
وفي رواية ابن إسحاق رضي اللَّه عنه، عن يزيد مولى نوفل بن الحارث، عن عاصم بن عبيد اللَّه، عن عاصم بن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فقلت: يا رسول اللَّه! يخرج إلينا الروم وهم شباع ونحن جياع، وأرادت الأنصار أن ينحروا نواضحهم.
فإذا منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ينادي في الناس: من كان عنده فضل من زاد فليأتنا به، فحرزنا جميع ما جاءوا به فوجدناه سبعا وعشرين صاعا، فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى جنبه فدعا فيه ثم قال: أيها الناس، خذوا ولا تنتبهوا، قال: فأخذوا في الجرب والغرائر، حتى جعل الرجل يعقد قميصه فيأخذ فيه حتى صدروا، وإنه نحو مما كانوا أخذوه.
__________
[ (1) ] في (مغازي الواقدي) : «ونثر» .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1037- 1039، وهذه القصة جزء من حديث طويل سنده: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في الحضر والسفر ... ، وساق القصة من أولها. (المرجع السابق) 1036.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 418- 419، حديث رقم (325) ، (326) من الفصل الثاني والعشرين، في ربو الطعام بحضرته وفي سفره، لكن بسياقات مختلفة، وأسانيد مختلفة.

(5/152)


قال القاضي عياض- رحمه اللَّه- وقد أجمع على معنى حديث هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة، رواه عنهم أضعافهم من التابعين، ثم من لا يعد من بعدهم، وأكثرها في قصص مشهورة، ومجامع مشهودة، لا يمكن التحدث عنها إلا بالحق، ولا يسكت المحاضر لها على ما أنكر و [منها] [ (1) ] ، واللَّه تعالى أعلم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (الشفا) .
[ (2) ] (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 195، فصل ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه صلّى اللَّه عليه وسلم.

(5/153)


[ثالث وثلاثون: تكثير طعام صنعه جابر بن عبد اللَّه بالخندق]
وأما تكثير طعام صنعه جابر بن عبد اللَّه بالخندق،
فخرج البخاري في غزوة الخندق، من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرا فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كيدة شديدة، فجاءوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقالوا، هذه كيدة عرضت الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولنا ثلاثة أيام لا نذوق ذوقا، فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل- أو أهيم- فقلت:
يا رسول اللَّه؟ ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم شيئا ما في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول اللَّه ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيب، قال:
قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، قال: قوموا، فقام المهاجرون.
فلما دخل على امرأته قال لها: ويحك! جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، قال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمّر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، فقال:
كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة [ (1) ] .
وخرج البخاري في غزوة الخندق، ومسلم في الأشربة [ (2) ] من حديث أبي قاصم، أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، أخبرنا سعيد بن مينا، سمعت جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه قال: لما حفر الخندق رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم خميصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت رسول
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 502- 503، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع، حديث رقم (4101) ، والكيدة: القطعة الشديد الصلبة من الأرض.
[ (2) ] في (خ) : الأطعمة، والصواب ما أثبتناه.

(5/154)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خمصا شديدا فأخرجت إلى جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن، فذبحتها وطحنت الشعير، وفرغت إلى فراغي، وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول [ (1) ] اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وبمن معه.
قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول اللَّه! ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت [ونفر] [ (2) ] معك، فصاح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق، إن جابرا قد صنع سورا [فحي هلا] [ (2) ] بكم، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء.
قال: فجئت وجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت:
بك وبك، فقلت: قد فعلت الّذي قلت لي، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال: ادع خابزة فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم باللَّه لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينا ليخبز [كما هو] [ (1) ]
لفظهما فيه متقارب [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «مع رسول» ، وما أثبتناه من رواية البخاري.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 503، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، حديث رقم (4102) ، قوله: «فعاد كثيبا» أي رملا، قوله: «أهيل أو أهيم» شك من الراويّ، في رواية الإسماعيلي «أهيل» بغير شك، وكذا عند يونس، وفي رواية أحمد «كثيبا يهال» ، والمعنى أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك. قال تعالى: وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا، [المزمل: 4] ، وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الجهاد والسير باب (188) من تكلم بالفارسية والرطانة، وقول اللَّه عزّ وجلّ: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: 22] ، وقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] ، حديث رقم (3070) ، وذكره الإمام مسلم في (الصحيح) ، كتاب الأشربة، باب (20) جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه ذلك، ويتحقق تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، حديث رقم (2039) . وشرح الغريب:
(الخمص والخميص) : الضامر البطن.
(البهيمة) : تصغير البهمة، وهي ولد الضأن، ويقع على المذكر منها والمؤنث، والسخال: أولاد المعزي، فإذا اجتمعت البهائم والسّخال، قلت لها جميعا: بهام وبهم.
(الداجن) : الشاة التي تألف البيت وتتربى فيه.

(5/155)


وقال الواقدي رحمه اللَّه: فحدثني محمد بن زياد بن أبي هنيدة، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، عن جابر بن عبد اللَّه قال: أصاب الناس كدية يوم الخندق فضربوا فيها جميعا بمعاولهم حتى انكسرت، فدعوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لها فدعا بماء فصبه عليها فعادت كثيبا.
قال جابر: فرأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يحفر ورأيته خميصا، ورأيت بين كعنه الغبار، فأتيت امرأتي فأخبرتها بما رأيت من خمص بطن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت:
واللَّه ما عندنا شيء إلا هذه الشاة، ومدّ من شعير، قال جابر: فاطحني وأصلحي، فطبخنا، وشوينا بعضها وخبزنا الشعير ثم أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمكثت حتى رأيت أن الطعام قد بلغ، فقلت يا رسول اللَّه! قد صنعت لك طعاما فأت أنت ومن أحببت من أصحابك، فشبك أصابعه في أصابعي ثم قال: أجيبوا جابرا يدعوكم.
قال: فأقبلوا معه فقلت: واللَّه إنها الفضيحة! فأتيت المرأة فأخبرتها فقالت:
أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟ فقلت: بل هو دعاهم، قالت: دعهم فهو أعلم.
قال: فأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأمر أصحابه فكانوا فرقا عشرة عشرة، ثم قال لنا، اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه، ففعلنا، فجعلنا نغرف ونغطي البرمة، ثم نفتحها فما نراها نقصت شيئا، ونخرج الخبز من التنور ثم نغطيه فما نراه ينقص شيئا، فأكلوا حتى شبعوا، وأكلنا وأهدينا،
__________
[ () ] (السور) : لفظة فارسية معناها: الوليمة، والطعام الّذي يدعى إليه، قال الأزهري: في هذا أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قد تكلم بالفارسية.
(حيهلا) : كلمتان جعلتا في كلمة واحدة، ومعناها: تعالوا وعجلوا، وفي حديث الأذان: «أن يحوقل بين الحيعلتين» .
(اقدحي) : قدحت القدر: إذا ما غرفت ما فيها، والقديح: المرق، فعيل بمعنى مفعول، والمقدحة:
المغرفة.
(لتغط) : غطّت القدر تغط: غلت، وغطيطها: صوتها.
(الكدية) : حجر صلب يعرض لحافر البئر فيتعبه حفره.
(الكثيب) : المجتمع من الرمل.
(أهيل) : انهل وانهال الرمل: إذا سال وجرى، وهلته أنا فانهال، وأهلته: لغة فيه، وأما «أهيم» فهو من الهيام، وهو الرمل الّذي يكون ترابا دقاقا يابسا (جامع الأصول) : 11/ 353- 356، حديث رقم (8909) .

(5/156)


فعمل الناس يومئذ كلهم، والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم معهم، وجعلت الأنصار ترجز وتقول:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اللَّهمّ لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة [ (1) ]
وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، من حديث عبد الرحمن بن محمد البخاري، عن عبد الرحمن بن أيمن عن أبيه، عن جابر بمعناه، ثم قال: أخبرني جابر أنهم كانوا ثمانمائة أو ثلاثمائة- شك أيمن.
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 452- 453.

(5/157)


[رابع وثلاثون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الأكل من القصعة]
وأما ظهور بركته في الأكل من القصعة، فخرج الترمذي من حديث يزيد ابن هارون، قال: حدثنا سليمان التيمي عن أبي العلاء، عن سمرة بن جندب قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم نتداول في قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم [ (1) ] عشرة ويقعد [ (1) ] عشرة، [قلنا فما كانت] [ (2) ] تمد؟ قال: من أي شيء تعجب ما كانت تمد إلا من هاهنا- وأشار بيده إلى السماء- قال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو العلاء اسمه يزيد بن عبد اللَّه بن الشّخّير [ (3) ] .
وخرجه النسائي [ (4) ] بهذا الإسناد في الأطعمة، وخرجه البيهقي [ (5) ] والحاكم [ (6) ] وصححه من حديث عبد الأعلى بن حماد النّرسيّ قال: حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي العلاء عن سمرة بن جندب، أن قصعة كانت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فجعل الناس يأكلون منها.
قال: فكلما شبع قوم قاموا وجلس مكانهم أناس آخرون، كذلك إلى صلاة الأولى، فقال رجل: أما كانت تمد بشيء؟ فقال سمرة فمم تعجب؟ لو كانت تمد بشيء لم تتعجب، ما كانت تمد إلا من هاهنا- فأومأ إلى السماء- أو كما قال.
__________
[ (1) ] في (خ) : «نقوم» ، و «نقعد» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (سنن الترمذي) .
[ (3) ] (سنن الترمذي) : 5/ 553، كتاب المناقب، باب (5) في آيات إثبات نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما قد خصه اللَّه عزّ وجلّ به، حديث رقم (3625) .
[ (4) ] لم أجده في (سنن النسائي) ، ولعله في (الكبرى) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 93، وفي (خ) : «فأوحى إلى السماء» .
[ (6) ] المستدرك) : 2/ 675، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، باب ذكر أخبار سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب المصطفى، صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، حديث رقم (4233/ 243) ، قال الحاكم، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.
وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 5/ 648، حديث رقم (19684) ، وحديث رقم (19622) .

(5/158)


وخرج أبو بكر بن شيبة من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا سليمان التيمي عن أبي العلاء، عن سمرة، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أتى بقصعة من ثريد فوضعت بين يدي القوم، فتعاقبوها إلى الظهر من غدوة، يقوم قوم ويجلس آخرون، فقال رجل لسمرة: أكانت تمد؟ فقال سمرة: من أي شيء تعجب؟ ما كانت تمد إلا من هاهنا- وأشار بيده إلى السماء.

(5/159)


[خامس وثلاثون: أكل مائة وثمانون رجلا من صاع طعام]
وأما أكل مائة وثمانين رجلا من صاع طعام وأخذ كل منهم حزّة من سواد بطن شاه،
فخرج البخاري ومسلم من حديث المعتمر بن سليمان قال: حدثنا أبي عن أبي عثمان، حدث أيضا عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: [ (1) ] كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي: هل مع أحد منكم طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم:
أبيع أم عطية- أو قال: أم هبة- قال: لا بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بسواد البطن أن يشوي.
قال: وأيم اللَّه ما في الثلاثين ومائة إلا حزّ له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حزّة من سواد بطنها، إن كان شاهدا أعطاه إياه، وإن كان غائبا خبأه له، قال: وجعل منها قصعتين فأكلنا منها أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين فحملته على البعير، أو كما قال. ذكره البخاري في كتاب الأطعمة في باب من أكل حتى شبع، وذكره في كتاب الهبة في باب قبول الهدية من المشركين، قال بعقبه في رواية المستملي:
مشقان طويل جدا فوق الطول.
واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 4/ 516، كتاب البيوع، باب (99) الشراء والبيع مع المشركين وأهل الحرب، حديث رقم (2216) ، 5/ 287- 288، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب (28) قبول الهدية من المشركين، حديث رقم (2618) ، 9/ 658 كتاب الأطعمة، باب (6) من أكل حتى شبع، حديث رقم (5382) ، مشقان: إذا كان منتفش الشعر ثائر الرأس، سواد البطن:
الكبد، (جامع الأصول) : 11/ 363. حديث رقم (8912) ، (مسلم بشرح النووي) :
14/ 260- 261، كتاب الأشربة، باب (32) إكرام الضيف وفضل إيثاره، حديث رقم (2056) .

(5/160)


[سادس وثلاثون: ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في طعام أبي بكر]
وأما ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلم في الطعام الّذي كان في دار أبي بكر رضي اللَّه عنه،
فخرج البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام، وخرج مسلم في كتاب الأشربة [ (1) ] ، من حديث المعتمر بن سليمان قال أبي: حدثنا أبو عثمان أنه حدثه عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، وأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم قال من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس، أو كما قال، وأن أبا بكر رضي اللَّه عنه جاء بثلاثة، وانطلق نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر بثلاثة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، فلا أدري هل قال وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر. قال: وإن أبا بكر رضي اللَّه عنه تعشى عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء اللَّه.
قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ - أو قالت: ضيفك- قال: وما عشيّتيهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، قال: فذهبت أنا فاختبأت فقال: يا غنثر، فجدّع وسبّ وقال له: كلوا لا هنيئا، فقال: واللَّه لا أطعمه أبدا، قال وأيم اللَّه ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال:
[يعني حتى شبعوا] [ (2) ] ، فصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر رضي اللَّه عنه فإذا هي كما هي أو أكثر، قال لامرأته: يا أخت بني فراس ما هذا؟
قالت: لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر رضي اللَّه عنه وقال: إنما كان ذلك من الشيطان- يعني يمينه- ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأصبحت عنده، قال: وكان بيننا وبينهم عهد فمضى الأجل ففرقنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس اللَّه أعلم كم مع كل
__________
[ (1) ] في (خ) : «الأطعمة» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .

(5/161)


رجل، غير أنه بعث معهم، قال فأكلوا منها أجمعون أو كما قال [ (1) ] .
وخرجه البخاري في كتاب الصلاة في باب السمر مع الأهل والضيف، وقال فيه: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربع فخامس أو سادس، وأن أبا بكر رضي اللَّه عنه جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعشرة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، فلا أدري هل قال: وامرأتي وخادم. الحديث، وقال فيه [ثم حملها] إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عقد] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 728- 729، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (87) ، ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف، حديث رقم (6140) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 95- 96، كتاب مواقيت الصلاة، باب (41) السمر مع الضيف والأهل، حديث رقم (602) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق مه، (مسلم بشرح النووي) : 13/ 261، كتاب الأشربة، باب (32) ، إكرام الضيف وفضل إيثاره حديث رقم (2057) قوله:
«غنثر» : هو ذباب أزرق، شبهه به لتحقيره. قوله: «فجدع وسب» : أي دعا عليه بالجدع، وهو قطع الأذن، أو الأنف، أو الشفة. قوله: «يا أخت بني فراس» خاطب أبو بكر بذلك امرأته أم رومان، وبنو فراس- بكسر الفاء وتخفيف الراء وآخره مهملة- ابن غنم بن مالك بن كنانة، وقال النووي: يا من هي من بني فراس، أو المعنى: يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
* التجاء الفقراء إلى المساجد عند الاحتياج إلى المواساة، إذا لم يكن في ذلك إلحاح، ولا إلحاف، ولا تشويش على المصلين.
* وفيه استحباب مواساتهم عند اجتماع هذه الشروط.
* وفيه جواز الغيبة عن الأهل، والولد، والضيف، إذا أعدت لهم الكفاية.
* وفيه تصرف المرأة فيما تقدم للضيف، والإطعام بغير إذن خاص من الرجل.
* وفيه جواز سب الوالد للولد على وجه التأديب، والتمرين على أعمال الخير وتعاطيه.
* وفيه جواز الحلف على ترك المباح.
* وفيه توكيد الرجل الصادق لخبره بالقسم، وجواز الحنث بعد عقد اليمين.
* وفيه التبرك بطعام الأولياء والصلحاء.
* وفيه عرض الطعام الّذي تظهر فيه البركة على الكبار وقبولهم ذلك.

(5/162)


[سابع وثلاثون: رزق اللَّه تعالى أهل بيت من الأنصار ذوي حاجة ببركته صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما رزق اللَّه تعالى أهل بيت من الأنصار ذوي حاجة من حيث لا يحتسبوا ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البيهقي من حديث أبي بكر بن عياش، عن هشام بن حسّان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: أتى رجل أهله فرأى ما بهم من الحاجة، فخرج إلى البرية فقالت امرأته: اللَّهمّ ارزقنا ما نعجن ونختبز، قال: فإذا الجفنة ملأى خميرا، والرحى تطحن، والتنور ملأى خبزا وشواء، فجاء زوجها فقال:
هل عندكم [ (1) ] شيء؟ قالت: نعم، رزق اللَّه [ (2) ] ، فرفع الرحى فكنس ما حوله، فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: لو تركها لدارت إلى يوم القيامة [ (3) ] .
ومن حديث أبي صالح عبد اللَّه بن صالح قال: حدثني الليث بن سعد رضي اللَّه عنه ورحمه، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رجلا من الأنصار كان ذا [ (4) ] حاجة، فخرج يوما وليس عنده أهله شيء،
__________
[ () ] * وفيه العمل بالظن الغالب، لأن أبا بكر ظن أن عبد الرحمن فرّط في أمر الأضياف، فبادر إلى سبه، وقوى القرينة عنده اختباؤه منه.
* وفيه ما يقع من لطف اللَّه تعالى بأوليائه. وذلك أن خاطر أبي بكر تشوش، وكذلك ولده وأهله، وأضيافه، بسبب امتناعهم من الأكل وتكدر خاطر أبي بكر من ذلك حتى احتاج إلى ما تقدم ذكره من الحرج بالحلف، وبالحنث، وبغير ذلك.
فتدارك اللَّه ذلك، ورفعه عنه، بالكرامة التي أبداها له، فانقلب ذلك الكدر صفاء، والنكد سرورا، وللَّه الحمد والمنة. (فتح الباري) : 6/ 745، مختصرا.
وأخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 103- 104، باب ما جاء في البركة التي ظهرت في الطعام الّذي قدّم في دار أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه إلى أضيافه في زمان النبي صلّى اللَّه عليه وسلم.
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «عندكم شيء» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «رزق فرفع» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 105، باب ما جاء في دعاء المرأة بالرزق في زمن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، ودعاء الآخر برد إبله وابنه عليه، وقول اللَّه عزّ وجلّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 3] ، والحديث نقله ابن كثير في (التاريخ) عن البيهقي.
[ (4) ] في (خ) : «في حاجة» .

(5/163)


فقالت امرأته: لو أني حركت رحاي وجعلت في تنوري سعفات، فسمع جيراني صوت الرحى ورأوا الدخان فظنوا أن عندنا طعاما وليس بنا [ (1) ] خصاصة، فقامت إلى تنورها فأوقدته وقعدت [ (2) ] تحرك الرحى، فأقبل زوجها وسمع الرحى، فقامت إليه لتفتح له الباب، فقال: ما كنت تطحنين؟ فأخبرته فدخل، وإن رحاهما لتدور وتصب دقيقا، فلم يبق في البيت وعاء إلا مليء،
ثم خرجت إلى تنورها فوجدته مملوءا خبزا، فأقبل زوجها فذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فما فعلت الرحى؟
قال: رفعتها ونفضتها، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: لو تركتموها ما زالت كما هي لكم حياتكم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «وما بنا» .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «وقد تحرك الرحى» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 105- 106، والحديث نقله ابن كثير في التاريخ عن البيهقي أيضا، وقال:
«هذا الحديث غريب سندا ومتنا» .

(5/164)


[ثامن وثلاثون: أكل سبعين رجلا من قليل أقراص خبز شعير]
وأما أكل سبعين أو ثمانين رجلا في بيت أبي طلحة الأنصاري من قليل أقراص خبز شعير قد فتّ وأدم بيسير من أدام حتى شبعوا، وبقيت كما هي ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البخاري ومسلم من حديث مالك، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك رضي اللَّه عنه يقول: قال أبو طلحة لأم سليم رضي اللَّه عنها، لقد سمعت صوت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخذت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه ثم دسّته تحت ثوبي، وردّتني [ (1) ] ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم جالسا في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: بطعام؟.
وقال البخاري: قالت: بطعام؟ - فقلت: نعم، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لمن معه:
قوموا، قال: فانطلق وانطلقت بين يديه حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت:
اللَّه ورسوله أعلم، قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
فأقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم معه، حتى دخلا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: هلمّي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ففتّ وعصرت عليه أم سليم عكّة لها فأدمته، ثم قال فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما شاء اللَّه أن يقول، ثم قال:
ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم أذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلا أو ثمانون. وقال البخاري: والقوم ثمانون رجلا [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ردّتني: أي جعلت بعضه رداء على رأسي.
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 727، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3578) ، 9/ 658، كتاب الأطعمة، باب (6) من أكل حتى شبع، حديث رقم (5381) ، باب (48) من أدخل الضيفان عشرة عشرة، والجلوس على الطعام عشرة عشرة، 11/ 698- 699، كتاب الأيمان والنذور، باب (22) إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرا بخبز، وما يكون منه الأدم، حديث رقم (6688) ، (مسلم بشرح النووي) : 13/ 266، كتاب

(5/165)


وخرجه البخاري أيضا في المناقب، في باب علامات النبوة في الإسلام، بهذا الإسناد وقال فيه: ثم دسّته تحت يدي ولاثتنى ببعضه، وقال: قال بطعام؟ قلت:
نعم، وفي آخره: والقوم سبعون أو ثمانون رجلا [ (1) ] .
وخرجه في كتاب الأيمان والنذور، في باب إذا حلف أن لا يأدم فأكل تمرا بخبز، وما يكون منه الأدم بنحو ذلك وقال: والقوم سبعون أو ثمانون رجلا [ (1) ] .
وخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث معن قال: عرضت على مالك بن أنس عن إسحاق إلى آخره، وقال: والقوم سبعون رجلا. وقال: هذا حديث حسن صحيح [ (2) ] . وخرجه البخاري في الصلاة، في باب من دعي لطعام في المسجد، من حديث مالك، وقال فيه: وجدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في المسجد ومعه ناس فقمت،
__________
[ () ] الأشربة، باب (20) جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه ذلك، ويتحقق تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، حديث (2040) ، (تحفة الأحوذي) : 10/ 73، أبواب المناقب، باب (30) بدون ترجمة، حديث رقم (3873) ، (شرح الزرقاني على الموطأ) :
4/ 375، كتاب الجامع، باب (646) جامع ما جاء في الطعام والشراب، حديث رقم (1789) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 88، باب ما جاء في دعوة أبي طلحة الأنصاري- رضي اللَّه عنه- رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما ظهر في طعامه ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار النبوة.
قوله: «سمعت صوت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع» ، كأنه لم يسمع في صوته لما تكلم إذ ذاك الفخامة المألوفة منه، فحمل ذلك على الجوع بقرينة الحال التي كانوا فيها.
وفيه ردّ على دعوى ابن حبان أنه لم يكن يجوع، واحتج بحديث: «أبيت يطعمني ربي ويسقيني» ، وتعقب بالحمل على تعدد الحال: فكان يجوع أحيانا ليتأسى به أصحابه، ولا سيما من لا يجد مددا وأدركه ألم الجوع صبر فضوعف له.
قال الطبراني: غير أن الشبع وإن كان مباحا فإن له حدا ينتهي إليه، وما زاد على ذلك فهو سرف، والمطلق منه ما أعان الآكل على طاعة ربه، ولم يشغله ثقله عن أداء ما وجب عليه.
وفيه دليل على جواز الشبع، وما جاء من النهي عنه محمول على الشبع الّذي يثقل المعدة، ويثبط صاحبه عن القيام للعبادة، ويفضي إلى البطر والأشر، والنوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة.
وذكر الكرماني تبعا لابن المنير أن الشبع المذكور محمول على شبعهم المعتاد منهم، وهو أن الثلث للطعام، والثلث للشراب، والثلث للنفس، ويحتاج في دعوى أن تلك عبادتهم إلى نقل خاص.
(فتح الباري) : 9/ 659- 660 مختصرا.
[ (1) ] انظر هامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
[ (2) ] انظر التعليق السابق، وأخرجه أيضا أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 415، الفصل الثاني والعشرون في ربوّ الطعام بحضرته وفي سفره لإمساسه بيده صلّى اللَّه عليه وسلم ووضعها عليه، حديث رقم (322) .

(5/166)


فقال لي: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: لطعام؟ قلت: نعم، قال لمن معه: قوموا، فانطلق وانطلقت بين أيديهم [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث ابن نمير قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سعد بن سعيد قال: حدثني أنس بن مالك قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [لأدعوه] [ (2) ] ، وقد جعل طعاما، قال: فأقبلت ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مع الناس، فنظر إليّ فاستحييت، فقلت: أجب أبا طلحة، فقال للناس: قوموا، فقال أبو طلحة: يا رسول اللَّه! إنما صنعت لك شيئا.
فمسّها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ودعا فيها بالبركة ثم قال: أدخل [نفرا] [ (2) ] من أصحابي عشرة وقال: كلوا، وأخرج لهم شيئا من بين أصابعه، فأكلوا حتى شبعوا فخرجوا، فقال: أدخل عشرة، فأكلوا حتى شبعوا [ (3) ] ، فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع، ثم هيأها فإذا هي مثلها حين أكلوا منها [ (4) ] .
وخرجه أيضا من حديث سعيد بن يحيى الأموي قال: حدثنا أبي قال: حدثني سعيد بن سعيد قال: سمعت أنس بن مالك قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. وساق الحديث بنحو حديث ابن نمير، غير أنه قال في آخره: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة، قال: فعاد كما كان، ثم قال: دونكم هذا [ (5) ] .
وأخرجه أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى ويحيى بن عمارة، وعبد اللَّه بن أبي عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، وفي حديث بعضهم: ثم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 681، كتاب الصلاة، باب (43) من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب منه، حديث رقم (422) .
[ (2) ] زيادة للسياقة من (صحيح مسلم) .
[ (3) ] في (خ) : «خرجوا» وما أثبتناه من (صحيح مسلم) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 13/ 229- 230، كتاب الأشربة، باب (20) جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، حديث رقم (143) من أحاديث الباب.
[ (5) ] (المرجع السابق) : 231 الحديث الّذي بعده من أحاديث الباب.

(5/167)


أكل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأكل أهل البيت، وأفضلوا ما بلّغ [ (1) ] جيرانهم [ (2) ] .
وخرج من حديث حجاج بن الشاعر، عن موسى بن محمد المؤدب قال:
حدثنا حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس قال: قالت أم سليم: اذهب إلى نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إن رأيت أن تغدى عندنا فافعل، فقال: ومن عندي؟
فقلت: نعم، قال: فجئت فدخلت على أم سليم وأنا مدهش لمن أقبل مع نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت أم سليم: ما صنعت يا أنس؟ فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على أثر ذلك، فذكرت له الّذي أرسلتني إليك، وهذا غداؤك، قال: هل عندك سمن؟ قالت:
نعم، قد كان عندي منه عكة، وفيها شيء من سمن.
قال: فأتها، قال: فجئته بها، ففتح رباطها فقال: بسم اللَّه، اللَّهمّ أعظم فيه البركة، فقال: أقلبيها، فأقلبتها، فعصرها نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وهو يسمي، فأخذت [منها] [ (3) ] ، قدر، فأكل منها بضع وثمانون رجلا وفضل منها، فدفعها إلى أم سليم فقال: كلي وأطعمي جيرانك [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (صحيح مسلم) : «ما أبلغوا جيرانهم» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 233.
[ (3) ] هذه الكلمة مطموسة في (خ) ، ولعل الصواب يناسب السياق.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 234- 235 مختصرا جدا عن (خ) ،
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «أرسلك أبو طلحة فقلت:
نعم» ،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «الطعام فقلت: نعم» ،
هذان علمان من أعلام النبوة، وذهابه صلّى اللَّه عليه وسلم بهم علم ثالث، وتكثير الطعام علم رابع.
* وفيه ما تقدم من حديث أبي هريرة وحديث جابر من ابتلاء الأنبياء صلوات اللَّه عليهم وسلامه، والاختبار بالجوع وغيره من المشاق ليصيروا، فيعظم أجرهم ومنازلهم، * وفيه ما كانوا عليه من كتمان ما بهم. * وفيه ما كانت الصحابة- رضي اللَّه تعالى عنهم- عليه من الاعتناء بأحوال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. * وفيه استحباب بعث الهدية وإن كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه، لأنها وإن قلت فهي خير من العدم. * وفيه جلوس العالم لأصحابه يفيدهم ويؤدبهم، واستحباب ذلك في المساجد.
* وفيه انطلاق صاحب الطعام بين يدي الضيفان، وخروجه ليتلقاهم. * وفيه منقبة لأم سليم رضي اللَّه تعالى عنها، ودلالة على عظيم فقهها، ورجحان عقلها، لقولها: اللَّه ورسوله أعلم، ومعناه أنه قد عرف الطعام، فهو أعلم بالمصلحة، فلو لم يعلمها في مجيء الجمع العظيم لم يفعلها فلا تحزن من ذلك. * وفيه استحباب فتّ الطعام واختيار الثريد على الغمس باللقم.
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «فإنّ اللَّه سيجعل فيه البركة»
* فيه علم ظاهر من أعلام النبوة،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلم: «ثم أكل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأكل أهل البيت»
* فيه أنه يستحب لصاحب الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان، واللَّه تعالى أعلم. (مسلم بشرح النووي) : 13/ 232- 234 مختصرا.

(5/168)


قال المؤلف- رحمه اللَّه- هذا الحديث من الأحاديث التي اشتهرت عند أهل العلم، فرواه عن أنس بن مالك سوى من ذكرنا: يعقوب بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، ومحمد بن كعب، وعمرو بن يحيى بن عمارة المازني عن أبيه، وبكر بن عبد اللَّه، وثابت البناني، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومحمد بن سيرين، والجعد أبو عثمان، وسنان أبو ربيعة، كلهم عن أنس، يزيد بعضهم وينقص.

(5/169)


[تاسع وثلاثون: أكل أصحاب الصفة من كسر يسيرة حتى شبعوا]
وأما أكل أهل الصفة من كسر يسيرة حتى شبعوا، فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث هشام بن علي قال: حدثنا أبو حفص عمر بن الدرفس قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي قسيمة عن واثلة بن الأسقع الليثي رضي اللَّه عنه، أنه حدثه قال: كنا في محرس يقال له الصفة- وهم عشرون رجلا- فأصابنا جوع، وكنت من أحدث أصحابي سنا، فبعثوا بي إلي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أشكو جوعهم.
فالتفت في بيته فقال: هل من شيء؟ فقالوا: نعم، هاهنا كسرة أو كسر، أو شيء من لبن، فأتى به ففت فتا رقيقا، ثم صب عليه اللبن، ثم جبنه بيده حتى جعله [كالثريد] [ (1) ] ، ثم قال: يا واثلة، أدع لي عشرة من أصحابك وخلّف عشرة، [ففعلت] [ (1) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اجلسوا [بسم اللَّه] [ (1) ] ، فجلسوا، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم برأس الثريد فقال: كلوا بسم اللَّه من حواليها وأعفوا رأسها. فإن البركة تأتيها من فوقها وإنها تمدّ، قال: فرأيتهم يأكلون ويتخللون أصابعهم [ (2) ] حتى تملئوا شبعا.
فلما انتهوا قال لهم: انصرفوا إلى مكانكم وابعثوا أصحابكم، فانصرفوا، فقمت متعجبا لما رأيت، فأقبل علي العشرة، فأمرهم بمثل الّذي أمر به أصحابهم وقال لهم مثل الّذي قال لهم، فأكلوا منها حتى [ (3) ] تملئوا شبعا وحتى انتهوا، وإن فيها فضلة [ (4) ] .
وخرج من حديث إسماعيل بن عياش قال: حدثنا سليمان بن حبان العذري قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: كنت من أصحاب الصفة، فشكى أصحابي
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (خ) : «أصابعه» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «حتى انتهوا» .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 241- 422، حديث رقم (328) ، وقال في هامشه: أخرجه الطبراني وابن عساكر، وقال في مجمع الزوائد 8/ 315، رواه الطبراني بإسنادين، وإسناده حسن.

(5/170)


الجوع فقالوا: يا واثلة، اذهب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاستطعم لنا، فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه، إن أصحابي يشكون الجوع، فقال: يا عائشة، هل عندك من شيء؟ فقالت: يا رسول اللَّه، ما عندي إلا فتات خبز، قال: هاته.
فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بصحفة فأفرغ الخبز في [الصحفة] [ (1) ] ، ثم جعل يصلح الثريد بيده وهو يربو، حتى امتلأت [الصحفة] [ (1) ] ، فقال: يا واثلة، أذهب فجيء بعشرة من أصحابك وأنت عاشرهم، فذهبت فجئت بعشرة من أصحابي أنا عاشرهم، فقال: اجلسوا، خذوا بسم اللَّه، خذوا من حواليها ولا تأخذوا [من أعلاها] ، فإن البركة تنحدر من أعلاها.
فأكلو حتى شبعوا، ثم قاموا وفي الصحفة مثل ما كان فيها، ثم جعل يصلحها بيده وهي تربو حتى امتلأت، فقال: يا [واثلة] [ (1) ] ، اذهب فجئ بعشرة من أصحابك، فذهبت فجئت بعشرة فقال: اجلسوا، فجلسوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، فقال: اذهب فجئ بعشرة من أصحابك، فذهبت فجئت بعشرة، ففعلوا مثل ذلك، فقال: هل بقي أحد؟ قلت: نعم، عشرة، قال: اذهب فجيء بهم، فذهبت فجئت بهم، فقال: اجلسوا، فجلسوا فأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، وبقي في [الصحفة] [ (1) ] مثل ما كان، ثم قال: يا واثلة، اذهب بها إلى عائشة رضي اللَّه عنها.
وخرج الحاكم من طريق واثلة هذا، من طريق محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا عبد اللَّه بن يوسف التنيسي، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه أنه حدثه عن واثلة بن الأسقع، فذكره بمعناه وسياقة غير هذه السياقة، ثم قال: هذا حديث صحيح [الإسناد ولم يخرجاه] [ (2) ] .
وخرج من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبي يحيى، عن إسحاق بن سالم، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: خرج
__________
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 130، كتاب الأطعمة، حديث رقم (7119/ 48) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه، وقال الذهبي في (التلخيص) : خالد وثقه بعضهم، وقال النسائي: ليس بثقة.

(5/171)


على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يوما فقال لي: ادع أصحابك من أصحاب الصفة، فجعلت أتتبعهم رجلا رجلا حتى جمعتهم، فجئنا باب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فاستأذنا، فأذن لنا.
قال أبو هريرة: ووضعت بين أيدينا صحفة إن فيها قدر مدّ من شعير، قال:
فوضع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يده فقال: خذوا باسم اللَّه، فأكلنا ما شئنا ثم رفعنا أيدينا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين وضعت [الصحفة] : والّذي نفس رسول اللَّه بيده، ما أمسى في آل محمد طعام ليس ترونه، قيل لأبي هريرة: قدركم كانت حين فرغتم؟
قال: مثلها حين وضعت، إلا أن فيها أثر الأصابع.

(5/172)


[أربعون: أكل بضع وسبعين رجلا من حيس فيه قدر مدّ تمر]
وأما أكل بضع وسبعين رجلا من حيس فيه قدر مد تمر وفضل عنهم [كما كان] قبل أكلهم، فخرج الطبراني من حديث شيبان بن فروخ، حدثنا محمد بن عيسى العندلي، حدثنا ثابت البناني قال: قلت لأنس بن مالك رضي اللَّه عنه أخبرني بأعجب شيء رأيته، قال: نعم يا ثابت. خدمت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عشر سنين فلم يعيّر عليّ في شيء أسأت فيه، قال: فأعجب شيء رأيته منه ما هو؟.
قال: إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش رضي اللَّه عنها قالت لي أمي:
يا أنس، إن نبي اللَّه أصبح عروسا ولا أرى أصبح له غذاء، فهلمّ تلك العكة وتمرا قدر مدّ، فجعلت له حيسا [ (1) ] فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وامرأته،
فلما أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بتور من حجارة فيه ذلك الحيس، قال: ضعفه في ناحية البيت، واذهب فادع أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، ونفرا من أصحابه، ثم ادع لي أهل المسجد ومن رأيت في الطريق، فجعلت أتعجب من قلة الطعام وكثرة من يأمرني أن يدعو من الناس، وكرهت أن أعصيه، فدعوتهم حتى امتلأ البيت والحجرة، فقال:
يا أنيس، هل ترى من أحد؟ فقلت: لا يا نبي اللَّه، فقال: هلمّ ذلك، فجئت بذلك التّور إليه، فجعلته قدامه، فغمس ثلاثة أصابعه في التّور، فجعل التّور يربو ويرتفع، فجعلوا يتغدون ويخرجون حتى إذا فرغوا أجمعون بقي في ذلك التّور نحو ما جئت به. [ (2) ]
قال: ضعه قدام زينب، فخرجت، فأصفقت الباب عليها بابا من جريد، قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة! كم ترى كانوا الذين يأكلون من ذلك التّور؟
قال: أحسبه قال: واحد وسبعين أو اثنان وسبعون.
__________
[ (1) ] الحيس: طعام يصنع من تمر ينزع نواه، ويدق مع أقط ويعجنان بالسمن، وربما جعل معه سويق.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 424، الفصل الثاني والعشرون في ربوّ الطعام بحضرته وفي سفره لإمساسه بيده.
ووضعها عليه، حديث رقم (330) ، (فتح الباري) : 8/ 676- 677، كتاب التفسير، باب (8) تفسير سورة الأحزاب، حديث رقم (4793) ، 9/ 282- 283، كتاب النكاح، باب (65) الهدية للعروس، حديث رقم (5163) ، (تحفة الأحوذي) : 9/ 59- 60، أبواب تفسير القرآن، سورة الأحزاب، حديث رقم (3436) ، (المواهب اللدنية) : 2/ 574- 575.

(5/173)


[حادي وأربعون: أكل أربعين رجلا من صاع طعام ورجل شاة حتى شبعوا ولم ينتقص منه شيء]
وأما أكل أربعين رجلا من صاع طعام ورجل شاة حتى شبعوا ولم ينتقص منه شيء، وإن منهم لمن يأكل الجذعة [ (1) ] ويشرب الفرق [ (2) ] :
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث المنهال بن عمرو، عن عبد اللَّه بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، عن عبد اللَّه بن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (3) ] ، دعاني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
يا علي، إن اللَّه تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، قال: فضقت لذلك ذراعا، وعلمت أني متى أبادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فضقت عليها حتى جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا علي، فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واجمع لنا عسّا [ (4) ] من لبن، واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له- وهم يومئذ أربعون رجلا أو ينقصون- منهم أعمامه: أبو طالب وحمزة وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [حذية] [ (5) ] من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة وقال: خذوا [باسم اللَّه] ، فأكل القوم حتى ما [بقي] [ (5) ] لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلا مواضع
__________
[ (1) ] الجذعة: هي التي أوجبها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في صدقة الإبل إذا جاوزت ستين، وأما الجذع من الضّأن- وهو المراد في هذا الحديث- فإنه يجزئ في الضحية، وقد اختلفوا في وقت إجذاعه، فقال أبو زيد:
في أسنان الغنم المعزى خاصة إذا أتى عليها الحول، وقال ابن الأعرابي: الجذع من الغنم لسنة. (لسان العرب) : 48/ 44.
[ (2) ] الفرق والفرق: مكيال ضخم لأهل المدينة معروف، وقيل: هو أربعة أرباع، وقيل: هو ستة عشر رطلا، والجمع فرقان. (المرجع السابق) : 10/ 305- 306.
[ (3) ] الشعراء: 214.
[ (4) ] العسّ: القدح الكبير.
[ (5) ] زيادة للسياقة من (دلائل أبي نعيم) ، وهي القطعة.

(5/174)


أيديهم، ثم قال: اسقهم، فجئت بذلك العسّ فشربوا حتى رووا منه جميعا، وأيم اللَّه الّذي نفسي بيده، إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلما أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: يا قوم! لقد سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال الغد: يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت [من القول] [ (1) ] ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام مثل ما صنعت، ثم اجمعهم لي، قال:
ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعا بالطعام فقربته لهم كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما [بقي] [ (1) ] لهم منه حاجة، ثم قال: اسقهم، فجئت بذلك العسّ فشربوا حتى رووا منه جميعا، ثم تكلم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ (2) ] .
وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد اللَّه الأسدي، وعبد اللَّه بن عباد الأسدي عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (3) ] ، قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 425- 426، الفصل الثاني والعشرون في ربوّ الطعام بحضرته وفي سفره، لإمساسه بيده ووضعها عليه، حديث رقم (331) ، قال محققه، وفيه عبد الغفار بن قاسم، رافضي، ليس بثقة، قال عنه ابن المديني: كان يضع الحديث، وقال الهيثمي بعد أن أخرج نحو حديث الباب: رواه البزار واللفظ له، وأحمد في (المسند) باختصار شديد: 1/ 178، حديث رقم (885) ، مسند علي بن أبي طالب، 2/ 637، حديث رقم (8197) ، مسند أبي هريرة، 3/ 325، حديث رقم (10347) ، مسند أبي هريرة أيضا، 6/ 51، حديث رقم (20082) من، حديث قبيصة بن مخارق، البيهقي في (السنن الكبرى) : 6/ 280، باب الوصية للقرابة، من كتاب الوصايا، 371، كتاب قسم الفيء والغنيمة باب إعطاء الفيء على الديوان ومن يقع به البداية.
وأما
ما تكلم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقد ذكره كل من الإمام أحمد في (المسند) على النحو السابق، والإمام البيهقي في (السنن الكبرى) ولفظه: يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغنى عنكم من اللَّه شيئا، يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من اللَّه شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من اللَّه شيئا، يا صفية عمة رسول اللَّه، لا أغني عنك من اللَّه شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت، لا أغني عنك من اللَّه شيئا.
رواه البخاري في (الصحيح) عن أبي اليمان، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن الزهري. وهذا الحديث حجة في دخول بني الأعمام في الأقربين.
والعسّ: القدح الكبير.
[ (3) ] الشعراء: 214.

(5/175)


يا علي، اصنع رجل شاه بصاع من طعام، وأعد قعبا من لبن، ففعلت، قال:
اجمع بني عبد المطلب، فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا- يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا-.
قال: فوضعت بينهم الطعام فأكلوا حتى شبعوا وإن منهم لمن يأكل الجذعة ويشرب العس- ثم جئت بالقعب فشربوا حتى رووا عنه، فقال بعضهم: ما رأينا كالسحر اليوم- ترون أنه أبو لهب- ثم قال: يا علي، اصنع لنا غداء مثل ما صنعت، فأكلوا مثل ما أكلوا في المرة الأولى، وشربوا [مثل] ما شربوا، ثم عرض عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ما عرض.
وخرجه من حديث أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ (1) ] جمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون، منهم العشرة يأكلون المسنّة [ (2) ] ويشربون العس، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عليا برجل شاة فصنعها لهم، ثم قربها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخذ منها بضعة، فأكل منها ثم تتبع بها جوانب القصعة ثم قال: ادنوا، فدنا القوم عشرة عشرة.
فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعا فناولهم فقال:
اشربوا باسم اللَّه، فشربوا حتى رووا عن آخرهم، فقطع أبو لهب كلامهم فقال لهم: ما سحركم مثل هذا الرجل، فأسكت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يومئذ فلم يتكلم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام والشراب، ثم بدرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالكلام [ (3) ] .
وخرجه من حديث أبي عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق عن ربيعة ابن ناجذ، عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لما نزلت:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، جمع بني عبد المطلب، وأمرني فصنعت مدا من طعام- ومنهم نفر يأكل كل واحد منهم الجذعة ويشرب الفرق- فأكلوا وكأن
__________
[ (1) ] الشعراء: 214.
[ (2) ] سنّت البدنة: إذا نبتت أسنانها.
[ (3) ] الحديث السابق يشهد على صحته، وقد سبق ذكر كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعشيرته الأقربين في التعليق السابق.

(5/176)


لم ينقص منه شيء، وأتوا بالغمر- وهو زي الراكب- فشربوا وكأن لم ينقص منه شيء، ثم قال: يا بني عبد المطلب، إني بعثت إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي؟ قال علي رضي اللَّه عنه: فقلت: أنا، فقال:
اجلس، فلما كان آخر ذلك ضرب يده على يدي [ (1) ] .
__________
[ (1) ] الحديث السابق يشهد على صحته، وقد سبق ذكر كلام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لعشيرته الأقربين في التعليق السابق.

(5/177)


[ثاني وأربعون: أخذ أربعمائة رجل ما أحبوا من تمر قليل ولم ينقض]
وأما أخذ أربعمائة رجل ما أحبوا من تمر قليل ولم ينقص،
فخرج أبو نعيم من حديث الحميدي ويحيى بن عبد الحميد قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا إسماعيل قال: سمعت قيسا يقول: حدثني دكين بن سعيد قال: أتينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في أربعمائة راكب نسأله الطعام فقال: يا عمر، اذهب فأطعمهم، فقال:
يا رسول اللَّه! ما عندي إلا آصع [ (1) ] تمر مما يقتات عيالي، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: اسمع وأطع، فقال عمر رضي اللَّه عنه: سمعا وطاعة.
فانطلق حتى أتى عليّة، فأخرج مفتاحا من حزّته [ (2) ] فقال للقوم: ادخلوا، فدخلوا- وكنت آخر القوم دخولا- فقال: خذوا، فأخذ كل رجل منهم ما أحب، ثم التفتّ إليه وإني لمن آخر القوم، وكأنا لم نرزأ تمرة قال أبو نعيم: رواه عيسى بن يونس، وعبد اللَّه بن نمير، ووكيع، ويعلي، ومحمد أبناء عبيد، والمعتمر في آخرين عن إسماعيل مثله [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «صاع» .
[ (2) ] حزّته: عنقه.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 427، حديث رقم (333) ، (مسند أحمد) : 5/ 185- 186، من حديث دكين بن سعيد الخثعميّ، حديث رقم (17126) ، وقال فيه: ونحن أربعون وأربعمائة، وحديث رقم (17127) ، وحديث رقم (17128) ، وحديث رقم (17129) ، وحديث رقم (17130) .

(5/178)


[ثالث وأربعون: أكل مائة وثمانين رجلا من الأنصار حتى صدروا من طعام صنعه أبو أيوب الأنصاري]
أما أكل مائة وثمانون رجلا من الأنصار حتى صدروا من طعام صنعه أبو أيوب الأنصاري لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولأبي بكر رضي اللَّه عنه قدر ما يكفيهما،
فخرج الحافظان أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأصبهاني، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي من حديث عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد الجريريّ، عن أبي الورد، عن أبي محمد الحضرميّ، عن أبي أيوب الأنصاري قال: صنعت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: اذهب فادع لي بثلاثين من أشراف الأنصار، فشق ذلك عليّ وقلت: ما عندي شيء أزيده، فكأني تثاقلت، فقال: اذهب فادع لي بثلاثين من أشراف الأنصار، فدعوتهم فجاءوا، فقال: أطعموا، فأكلوا [حتى صدروا] [ (1) ] ثم شهدوا أنه رسول اللَّه، ثم بايعوه قبل أن يخرجوا.
ثم قال: اذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار، فدعوتهم، فو اللَّه لأنا بالستين أخوف مني بالثلاثين، قال: فدعوتهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: ترفعوا، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول اللَّه، فبايعوه قبل أن يخرجوا.
ثم قال: اذهب فادع لي تسعين من الأنصار، فلأنا أخوف بالتسعين والستين من الثلاثين، قال: فدعوتهم، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول اللَّه، وبايعوه قبل أن يخرجوا، قال: فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (الدلائل) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 428، حديث رقم (334) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 94، باب ما جاء في دعوة أبي أيوب الأنصاري وما ظهر في طعامه ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.

(5/179)


[رابع وأربعون: أكل نفر حتى شبعوا من طعام يسير صنعه صهيب]
وأما أكل نفر حتى شبعوا من طعام يسير صنعه صهيب،
فخرج أبو نعيم من حديث محمد بن المثنى قال: حدثنا سالم بن نوح عن الجريريّ، عن أبي السليل، عن صهيب رضي اللَّه عنه قال: صنعت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم طعاما فأتيته به وهو في نفر من أصحابه جالس، فقمت حياء له، فلما نظر إليّ أو مات إليه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال:
وهؤلاء؟ فقلت: لا، فسكت وقمت مكاني، فلما نظر إليّ أومأت إليه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: وهؤلاء- مرتين أو ثلاثا- قال: فقلت: نعم، وإنما كان شيئا يسيرا صنعته لك- صلى اللَّه وسلم عليك- فأكلوا، قال: فأحسبه وفضل منهم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] لم أجده في النسخة المحققة من (دلائل أبي نعيم) ، لكن أحاديث الباب تشهد على صحته.

(5/180)


[خامس وأربعون: أكل طائفة في بيت عائشة من حيس يسير وشربهم لبنا حتى شبعوا ورووا]
وأما أكل طائفة في بيت عائشة رضي اللَّه عنها من حيس يسير وشربهم لبنا حتى شبعوا ورووا،
فخرج أبو نعيم من حديث يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن الحرث بن عبد الرحمن قال: بينما أنا مع [أبي] [ (1) ] سلمة بن عبد الرحمن، إذ طلع رجل من بني غفار ابن لعبد اللَّه بن طهفة، فقال أبو سلمة: حدثنا حديثك عن أبيك.
فقال: حدثني عبد اللَّه بن طهفة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم كان إذا اجتمع الضيفان قال: لينقلب كل رجل بضيفه حتى إذا كان في ليلة اجتمع في المسجد ضيفان كثيرة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: لينقلب كل رجل مع جليسه، قال: فكنت أنا ممن انقلب مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فلما دخل قال: يا عائشة، هل من شيء؟ قالت نعم، حويسة [ (2) ] كنت أعددتها لإفطارك، قال: فأتيني بها، فأتت بها في قعيبة لهم.
فأكل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم منها شيئا ثم قدمها إلينا ثم قال: باسم اللَّه كلوا، فأكلنا منها حتى واللَّه ما ننظر إليها، ثم قال: هل عندك من شراب؟ قالت: لبينة أعددتها لإفطارك، قال: هاتيها [ (3) ] ، فجاءت بها، فشرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم منها شيئا ثم قال:
باسم اللَّه اشربوا، فشربنا حتى واللَّه ما ننظر إليها، ثم خرجنا إلى الصلاة- وكان صلّى اللَّه عليه وسلم يوقظنا [ (4) ] إذا خرج- فقال: الصلاة الصلاة، فرأى رجلا متكئا على وجهه فقال: من هذا؟ قلت: أنا عبد اللَّه، قال: إنها ضجعة يكرهها اللَّه عزّ وجلّ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] الحويسة: تصغير حيس، وهو طعام يتخذ من التمر والسمن والأقط. والأقط: هو اللبن المجفف، وطهفة: هو طخفة بن قيس الغفاريّ، وفي بعض المراجع طهفة وفي بعضها الآخر طخفة.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «هلميها» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «يوقظ أهله» .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 429- 430، حديث رقم (336) ،.

(5/181)


وخرج من حديث هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي سلمة، عن يعيش بن طخفة [بن قيس الغفاريّ] [ (1) ] قال: كان أبي من أهل الصفة، قال: فأمرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجعل الرجل يذهب برجل، والرجل يذهب بالرجلين، حتى بقيت خامس خمسة، فقال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: انطلقوا.
فانطلقنا معه إلى منزل عائشة رضي اللَّه عنها، فقال: يا عائشة أطعمينا، فجاءت بحشيشة فأكلنا، ثم جاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم قال: يا عائشة: اسقينا، فجاءت بعسّ فشربنا، ثم قال: يا عائشة اسقينا، فجاءت بقدح صغير من لبن فشربنا، ثم قال:
إن شئتم بتمّ وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد، فقلنا: لا، بل ننطلق إلى المسجد [ (2) ] ، قال أبو نعيم: رواه ابن علية، وعبد الوهاب، وعبد الصمد، عن هشام مثله ورواه الأوزاعي وشيبان ومعمر ومحمد بن جابر عن يحيى بن أبي كثير على اختلاف بينهم فيه.
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (مسند أحمد) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 4/ 448، حديث رقم (15115) ، من حديث طخفة بن قيس الغفاريّ، رضي اللَّه تعالى عنه، وزاد فيه بعد قوله: بل ننطلق إلى المسجد: فبينا أنا من السحر مضطجع على بطني، إذا رجل يحركني برجله فقال: إن هذه ضجعة يبغضها اللَّه تبارك وتعالى، فنظرت فإذا هو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وذكره ابن حبان في (الإحسان) : 12/ 358- 359، حديث رقم (5550) ، كتاب التطيّب والزينة، باب (1) آداب النوم، ذكر بغض اللَّه جل وعلا النائمين على بطونهم، وقال محققه:
إسناده ضعيف لجهالة ابن قيبس بن طهفة ويقال: ابن طخفة، لكنه يتقوى بما قبله، وقد سماه ابن حبان في (الثقات) : 5/ 59: عبد اللَّه، وهو في عداد المجهولين، وأخرجه النسائي في الوليمة من (الكبرى) . وأخرجه الحاكم في (المستدرك) : 4/ 301- 302، كتاب الأدب، حديث رقم (7708/ 30) ، وقال في آخره: هذا حديث مختلف في إسناده على يحيى بن أبي كثير، وآخره أن الصواب قيس بن طخفة الغفاريّ، وشاهده حديث أبي هريرة، رضي اللَّه عنه، والبخاري في (التاريخ الكبير) : 4/ 365- 366، ترجمة طخفة الغفاريّ رقم (3167) ، (الإصابة) :
3/ 544، ترجمة رقم (4300) ، (الاستيعاب) : 2/ 774، ترجمة رقم (1294) ، حيث قال ابن عبد البر: طهفة الغفاريّ اختلف فيه اختلافا كثيرا، واضطرب فيه اضطرابا شديدا، فقيل:
طهفة بن قيس بالهاء، وقيل: طخفة بن قيس بالخاء، وقيل: طغفة بالغين، وقيل: طقفة بالقاف والفاء، وقيل: قيس بن طخيفة، وقيل: يعيش بن طخفة عن أبيه، وقيل: عبد اللَّه بن طخفة عن أبيه، ... ثم قال: وإنه صاحب القصة، حديثه عند يحيى بن أبي كثير، وعليه اختلفوا فيه.

(5/182)


[سادس وأربعون: غرسه لسلمان الفارسيّ نخلا أطعم من سنته]
وأما غرسه صلّى اللَّه عليه وسلم لسلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه نخلا أطعم من سنته،
فخرج البيهقي من حديث عبد اللَّه بن أبي شيبة قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن الحسين ابن واقد قال: حدثني عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه، أن سلمان رضي اللَّه عنه لما قدموا إلى المدينة أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بهدية على طبق، فوضعها بين يديه فقال:
ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة عليك وعلى أصحابك، قال: إني لا آكل الصدقة.
فرفعها ثم جاءه من الغد بمثلها فوضعها بين يديه فقال: ما هذا؟ قال: هدية لك، قال: فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأصحابه: كلوا، قالوا: لمن أنت؟ قال:
لقوم، قال: فاطلب إليهم أن يكاتبوك، قال: فكاتبوني على كذا وكذا نخلة أغرسها لهم، ويقوم عليها سلمان حتى تطعم، فجاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فغرس النخل كله إلا نخلة واحدة غرسها عمر رضي اللَّه عنه، فأطعم نخله [ (1) ] من سنته إلا تلك النخلة، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: من غرسها؟ قالوا: عمر، فغرسها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بيده فحملت من عامها.
قال البيهقي: وروينا عن أبي عثمان عن سلمان أنه قال: فجعل يغرس إلا واحدة غرستها بيدي، فعلقن جميعا إلا واحدة [ (2) ] .
قال المؤلف رحمه اللَّه: قد خرج الحاكم [ (3) ] من حديث أبي عثمان أن هذا من طريق عفان بن مسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن سليمان وعلي بن يزيد
__________
[ (1) ] في (خ) : «النخل» .
[ (2) ] أخرج البيهقي طرفا من هذا الحديث مختصرا في (دلائل النبوة) : 2/ 90، باب ذكر إسلام سلمان الفارسيّ رضي اللَّه تعالى عنه، ثم ذكره بتمامه في (دلائل النبوة) : 6/ 97- 98، باب ما ظهر في النخل التي غرسها النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لسلمان الفارسيّ رضي اللَّه عنه، وأطعمت من سنته من آثار النبوة، واستبرائه عند قدومه عليه، وما وصف له من حاله.
[ (3) ] (المستدرك) : 2/ 237، كتاب المكاتب، حديث رقم (2862/ 4) .

(5/183)


عن أبي عثمان النّهدي، عن سلمان قال: كاتبت أهلي على أن أغرس لهم خمسمائة فسيلة، فإذا علقت فأنا حرّ، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: اغرس واشترط لهم، فإذا أردت الغرس فأذني، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فجعل يغرس إلا واحدة غرستها بيدي، فعلقت جميعا إلا الواحدة.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح من [حديث عاصم] [ (1) ] بن سليمان الأحول، على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد خرجه الإمام أحمد [ (2) ] من حديث عفان به نحوه.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 6/ 614 من حديث سلمان الفارسيّ، حديث رقم (23218) .

(5/184)


[سابع وأربعون: ظهور البركة في تمرات يسيرة بمزود [ (1) ] أبي هريرة]
وأما ظهور البركة في تمرات يسيرة بمزود أبي هريرة حتى حمل منها عدة أوساق
فخرج البيهقي من حديث علي بن المديني قال: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا المهاجر- مولى آل أبي بكرة- عن أبي العالية، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بتمرات فقلت: ادع لي فيهن بالبركة.
قال فقبضهن ثم دعا فيهن بالبركة ثم قال: خذهن فاجعلهن في مزود، أو قال في مودك، فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ ولا تنثرهن نثرا،
قال:
فحملت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا، في سبيل اللَّه، وكنا نأكل ونطعم، وكان المزود معلقا بحقوي [ (2) ] ، لا يفارق حقويّ، فلما قتل عثمان رضي اللَّه عنه انقطع [ (3) ] .
وخرج من حديث أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في غزوة، فأصابهم عوز من الطعام، فقال: يا أبا هريرة، عندك شيء؟ قال: قلت: شيء من تمر في مزود لي، قال: جيء به، قال: فجئت بالمزودة، قال: هات نطعا، فجئت بالنطع فبسطته، فأدخل يده الشريفة فقبض على التمر، فإذا هو إحدى [ (4) ] وعشرين تمرة.
ثم قال: باسم اللَّه، فجعل يضع كل تمرة ويسمي، حتى أتى على التمر فقال:
به هكذا فجمعه، وقال: ادع فلانا وأصحابه، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، ثم
__________
[ (1) ] المزود: هو وعاء من جلد وغيره، يجعل فيه الزاد.
[ (2) ] الحقو: الوسط، والمراد: موضع شد الإزار.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 109، باب ما جاء في مزود أبي هريرة رضي اللَّه عنه، وما ظهر فيه ببركة دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار النبوة، وأخرجه الترمذي في مناقب أبي هريرة، وقال: هذا حديث حسن غريب، وقد روى من غير هذا الوجه عن أبي هريرة، (سنن الترمذي) : 5/ 643، 644، كتاب المناقب باب (47) مناقب أبي هريرة، حديث رقم (3839) .
[ (4) ] في (خ) : «واحد» .

(5/185)


قال: به هكذا فجمعه، وقال: ادع فلانا وأصحابه، فأكلوا وشبعوا وخرجوا، وفضل تمر فقال لي: اقعد، فقعدت، فأكل وأكلت، قال: وفضل تمر فأخذه فأدخله في المزودة فقال لي: يا أبا هريرة إذا أردت شيئا فأدخل يدك فخذ، ولا تكفأ فيكفأ عليك،
قال: فما كنت أريد تمرا إلا أدخلت يدي فأخذت منه خمسين وسقا في سبيل اللَّه، وكان معلقا خلف رجلي، فوقع في زمن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه [فذهب] [ (1) ] .
وخرجه من حديث سهل بن أسلم العذريّ، عن زيد بن أبي منصور، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أصبت بثلاث مصائب في الإسلام لم أصب بمثلهن: بموت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وكنت صويحبه، وقتل عثمان، والمزود، قالوا: وما المزود يا أبا هريرة؟ قال:
كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر، فقال: يا أبا هريرة أمعك شيء؟ قال:
قلت: تمر في مزود، قال: جيء به، فأخرجت منه تمرا فأتيته به، قال: فمسّه فدعا فيه ثم قال: ادع عشرة، فدعوت عشرة، فأكلوا حتى شبعوا، ثم كذلك حتى أكل الجيش كله وبقي تمر المزود، قال: يا أبا هريرة، إذا أردت أن تأخذ منه شيئا فأدخل يدك فيه ولا تكبّه [ (2) ] .
قال: فأكلت منه حياة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، وأكلت منه حياة أبي بكر رضي اللَّه عنه كلها، وأكلت منه حياة عمر رضي اللَّه عنه كلها، وأكلت منه حياة عثمان رضي اللَّه عنه كلها، فلما قتل عثمان انتهب ما في بيتي وانتهب المزود، ألا أخبركم كم أكلت منه؟ أكلت منه أكثر من مائتي وسق [ (3) ] [لفظ حديث المقرئ] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 110، باب ما جاء في مزود أبي هريرة رضي اللَّه عنه وما ظهر فيه ببركة دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من آثار النبوة، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.
[ (2) ] في (خ) : «تكفئه» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 110- 111، ذات الباب.
[ (4) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.

(5/186)


[ثامن وأربعون: امتلاء النّحي [ (1) ] الّذي أهريق ما فيه]
[وأما امتلاء النحى الّذي أهريق ما فيه]
فخرج البيهقي من حديث سفيان ابن حمزة، عن كثير بن يزيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال: كان طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يدور على أصحابه، على هذا ليلة، وعلى هذا ليلة، فدار عليّ فعلمت طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ثم ذهبت به فتحرك النحي فأهريق ما فيه، فقلت: على يدي أهريق طعام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم:
اجلس، فقلت: لا أستطيع يا رسول اللَّه، فرجعت فإذا النحي يقول: قب قب، فقلت: فضلة فضلت فيه، فاجتبذته فإذا هو قد مليء إلى يديه فأوكيته، ثم جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أما إنك لو تركته لملئ إلى فيه فأوكه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] النّحى: زقّ السمن.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 112، باب ما جاء في امتلاء النحي الّذي أهريق ما فيه.

(5/187)


[تاسع وأربعون: البركة التي ظهرت في الشعير الّذي خلّفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته في بيت عائشة رضي اللَّه عنها]
وأما البركة التي ظهرت في الشعير الّذي خلفه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته في بيت عائشة رضي اللَّه عنها، فخرج البخاري في باب فضل الفقر من كتاب الرقاق، وخرج مسلم من حديث أبي أمامة، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: لقد توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- وقال مسلم-: توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وما في رفّي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي، فأكلت منه حتى طال عليّ فكلته ففني. لفظهما فيه سواء [ (1) ] .
وذكره البخاري أيضا بهذا الإسناد في كتاب فرض الخمس في باب نفقة نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته [ (2) ] ، وقال: توفي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وقال: وما في بيتي من شيء ... ،
والحكمة من ذلك أن كثيره مضاد للتوكل، فعوقب فاعله بزواله.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 11/ 329، كتاب الرقاق، باب (16) فضل الفقر، حديث رقم (6451) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 257، كتاب فرض الخمس، باب (3) نفقة نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم بعد وفاته، حديث رقم (3097) ، (مسلم بشرح النووي) : 18/ 316- 317، كتاب الزهد والرقاق، حديث رقم (2793) ، (سنن الترمذي) : 4/ 554، كتاب صفة القيامة والرقاق والورع باب (31) ، حديث رقم (2467) ، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قولها:
شطر: تعني شيئا، (دلائل البيهقي) : 6/ 113، باب ما ظهر فيما خلّف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على عائشة رضي اللَّه عنها من الشعير ... ، وزاد في آخر روايته المسندة: وليتني لم آكله.

(5/188)


[خمسون: البركة التي حلت في شطر وسق شعير دفعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لرجل استطعمه]
وأما البركة التي حلت في شطر وسق شعير دفعه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم لرجل استطعمه،
فخرج مسلم من حديث سلمة بن شبيب قال: حدثنا الحسن بن محمد بن أعين، حدثنا معقل عن أبي الزبير عن جابر رضي اللَّه عنه، أن رجلا أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يستطعمه فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم [ (1) ] . ذكره في المناقب.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 15/ 45- 46، كتاب الفضائل، باب (3) في معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، حديث رقم (2281) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 114.

(5/189)


[حادي وخمسون: أكل نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعياله من شعير دفعه له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نصف سنة لم ينقص لما كاله]
وأما أكل نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعياله من شعير دفعه له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم نصف سنة ولم ينقص لما كاله،
فخرج البيهقي من حديث ابن لهيعة قال: حدثنا يونس بن يزيد، حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن الحرث بن عكرمة عن جده نوفل ابن الحرث بن عبد المطلب، أنه استعان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في التزويج، فأنكحه امرأة فالتمس شيئا فلم يجده، فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبا رافع وأبا أيوب رضي اللَّه عنهما بدرعه فرهناه عند رجل من اليهود بثلاثين صاعا من شعير، فدفعه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليه، قال: فطعمنا منه نصف سنة ثم كلناه، فوجدناه كما أدخلناه، قال نوفل:
فذكرت ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقال: لو لم تكله لأكلت منه ما عشت [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 114.

(5/190)


[ثاني وخمسون: شبع أعرابي بشيء من كسرة قد يبست]
وأما شبع أعرابي بشيء من كسرة قد يبست،
فخرج البيهقي من حديث حفص ابن غياث، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: ضاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم [أعرابي] [ (1) ] ، قال: فطلب له شيئا فلم يجد إلا كسرة في كوة، قال: فجزّأها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أجزاء ودعا عليها وقال: كل، فأكل وأفضل، قال: فقال: يا محمد، إنك لرجل صالح، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: أسلم، قال:
إنك لرجل صالح [ (2) ] .
وفي رواية، قال: أتى أعرابي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فسأله، فدخل فلم يجد إلا كسرة قد يبست في جحر، فأخرجها ففتها أجزاء، ثم وضع يده عليها، ثم دعا، ثم قال:
كل يا أعرابي، فجعل الأعرابي يأكل حتى شبع وفضل منه فضلة، فجعل الأعرابي يرفع رأسه ينظر إليه ويقول: إنك لرجل صالح، وجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، ويقول: إنك لرجل صالح [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] كلا الروايتين بسندهما في (دلائل البيهقي) : 6/ 117- 118.

(5/191)


[ثالث وخمسون: أمره قوما كانوا لا يشبعون بأن اجتمعوا]
وأما أمره قوما كانوا لا يشبعون بأن اجتمعوا إذا أكلوا، ففعلوا فشبعوا بامتثالهم أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج أبو داود من حديث الوليد بن مسلم، حدثنا وحشي ابن حرب، عن ابنه عن جده، أن أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم قالوا: يا رسول اللَّه! إنا نأكل ولا نشبع، قال: فلعلكم تفترقون؟ قالوا: نعم، قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم اللَّه عليه، يبارك لكم فيه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (عون المعبود) : 10/ 170، كتاب الأطعمة، باب (15) في الاجتماع على الطعام، حديث رقم (3758) ،
(سنن ابن ماجة) : 2/ 1093، كتاب الأطعمة، باب (17) الاجتماع على الطعام، حديث رقم (3286) ، وأخرج ابن ماجة أيضا حديث رقم (3287) بسنده، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: «كلوا جميعا ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة» .
وخرجه الإمام أحمد في (المسند) : 4/ 560، من حديث وحشي الحبشي، حديث رقم (15648) ، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 119، باب ما جاء في القوم الذين كانوا لا يشبعون، فأمرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالاجتماع على الطعام وتسمية اللَّه تعالى عليه ففعلوا فشبعوا.

(5/192)


[رابع وخمسون: ظهور البركة في شعير أم شريك]
وأما ظهور البركة في شعير أم شريك وعكتها، وريها من عند اللَّه ببركة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن عبد الأعلى، عن أبي المساور القرشي، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كانت امرأة من دوس يقال لها: أم شريك، أسلمت في رمضان، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فلقيت رجلا من اليهود فقال: ما لك يا أم شريك؟
قالت: أطلب رجلا يصحبني إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: فتعالي فأنا أصحبك، قالت: فانتظرني حتى أملأ سقائي ماء، قال: معي ماء، لا تريدين ماء.
قال: فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشّى وقال: يا أم شريك، تعالي إلى العشاء، فقالت: اسقني من الماء فإنّي [عطشى] [ (1) ] ، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب، فقال: لا أسقيك حتى تهودي، فقالت: لا جزاك اللَّه عني خيرا، غررتني [ (2) ] ومنعتني أن أحمل ماء، فقال: لا واللَّه لا أسقيك منه قطرة حتى تهودين، فقالت: لا واللَّه لا أتهود أبدا بعد أن هداني اللَّه إلى الإسلام، وأقبلت إلى بعيرها فعقلته، ووضعت رأسها على ركبته فنامت، قالت: فما أيقظني إلا [برد] [ (3) ] دلو قد وقع على جبيني.
فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، فشربت حتى رويت، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل، ثم ملأته، ثم رفع بين يدي وأنا انظر حتى توارى مني في السماء، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال: يا أم شريك، قلت: واللَّه قد سقاني اللَّه، فقال: من أين؟ أنزل عليك من السماء؟ قلت: نعم، واللَّه لقد أنزل اللَّه عزّ وجلّ عليّ من السماء، ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء.
ثم أقبلت حتى دخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقصت عليه القصة، فخطب إليها نفسها، فقالت: يا رسول اللَّه، لست أرضى نفسي لك، ولكن بضعي لك،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «غربتني» .
[ (3) ] في (خ) : «تردد» .

(5/193)


فزوجني من شئت، فزوجها زيدا، وأمر لها بثلاثين صاعا وقال: كلوا ولا تكيلوا، وكان معها عكة سمن هدية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فقالت لجارية لها: بلغي هذه العكة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قولي: أم شريك تقرئك السلام، وقولي: هذه عكة سمن هديتها لك، فانطلقت بها فأخذوها ففرغوها، وقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم علقوها ولا توكوها [ (1) ] ، فعلقوها في مكانها.
فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمنا، فقالت: يا فلانة! أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم؟ فقالت: قد واللَّه انطلقت بها كما قلت، ثم أقبلت بها أصوبها ما يقطر منها شيء، ولكنه قال: علقوها ولا توكوها، فعلقتها في مكانها، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة، فأكلوا منها حتى فنيت، ثم كالوا الشعير، فوجدوه ثلاثين صاعا لم ينقص منه شيء [ (2) ] . [قلت: وقد روى ذلك من وجه آخر، ولحديثه في العكة شاهد صحيح عن جابر بن عبد اللَّه في أم مالك.] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «ولا يأكلوها» ، ورواية (خ) أقرب وأنسب للسياق.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 123، باب فيما ظهر من الكرامات على أم شريك في هجرتها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وما ظهر من دلالات النبوة في العكة التي أهدتها له.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.

(5/194)


[خامس وخمسون: إشباع أبي أمامة تكرمة له صلّى اللَّه عليه وسلم]
وأما إشباع اللَّه تعالى أبي أمامة رضي اللَّه عنه تكرمة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فخرج البيهقي من حديث علي بن الحسن بن شقيق بن دينار- أبي عبد اللَّه المزوي- قال: أنبأنا الحسين ابن واقد قال: حدثني أبو غالب عن أبي أمامة قال: أرسلني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم- أظنه قال: إلى أهله- وهم على طعام- يعني الدم في خوان- فقالوا لي: كل، قال: قلت:
إني لأنهاكم عن هذا الطعام، وأنا رسول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إليكم، وكذبوني وزبروني، قال: فانطلقت [عن ذا] [ (1) ] وأنا جائع ظمآن، وقد نزل بي جهد فنمت، فأتيت في منامي بشربة من لبن فشبعت ورويت وعظم بطني، فقال القوم: أتاكم رجل من خياركم وأشرافكم فرددتموه؟ اذهبوا إليه فأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي، فأتوني بطعام، قال: قلت: لا حاجة لي في طعامكم، فإن اللَّه عزّ وجلّ قد أطعمني وسقاني، فانظروا إلى حالتي التي أنا عليها، فآمنوا بي وبما جئتهم من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
وخرجه من حديث صدقة بن هرمز، عن أبي غالب، عن أبي أمامة رضي اللَّه عنه قال: بعثني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى قومي، فانتهيت إليهم وأنا طاو، وهم يأكلون الدم، فقالوا: هلم، فقلت: إنما جئتكم لأنهاكم عن هذا، قال: فاستهزءوا بي، وكنت [مجهدا] [ (2) ] ، فسمعتهم يقول بعضهم لبعض: أتاكم رجل من سراة قومكم فما لكم بد من أن تسقوه [ (3) ] ولو مذقة، قال: فوضعت رأسي فنمت، فأتاني آت في منامي فناولني إناء فأخذته فشربته فاستقيت وقد كظّني بطني، فناولوني إناء قالوا: خذ، قلت: لا حاجة لي فيه، قالوا: قد رأيناك بجهد، قلت:
إن اللَّه عزّ وجلّ أطعمني وسقاني، فأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «وكنت بجهد» .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «تطعموه» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) 6/ 126- 127، باب ما جاء فيما ظهر على أبي أمامه حين بعث رسولا إلى قومه من الكرامات. وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) : 3/ 744، كتاب معرفة الصحابة، ذكر أبي أمامة الباهلي رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (6705/ 2303) ، قال الذهبي في (التلخيص) : صدقة بن هرمز ضعفه ابن معين. وأبو غالب قد وثقه.

(5/195)


[سادس وخمسون: إغاثة اللَّه له صلّى اللَّه عليه وسلم عند ما نزل به ضيف]
وأما إغاثة اللَّه عز وجل نبيه الكريم صلّى اللَّه عليه وسلم عند ما نزل به ضيفه وليس عنده ما يقربه،
فخرج البيهقي من حديث عبيد اللَّه بن موسى، عن مسعر عن زبيد عن مرة، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: أضاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضيفا، فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاما، فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فقال: اللَّهمّ إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت، قال: فأهديت إليه شاة مصلية [ (1) ] فقال: هذه من فضل اللَّه عزّ وجل، ونحن ننتظر الرحمة. قال البيهقي:
والصحيح عن زبيد قال: أضاف النبي صلّى اللَّه عليه وسلم. مرسلا من قول زبيد [ (2) ] .
وخرج من حديث الوليد بن سليمان بن أبي السائب، حدثنا واثلة بن الخطاب عن أبيه عن جده واثلة بن الأسقع رضي اللَّه عنه قال: حضر رمضان، ونحن في أهل الصفة، فصمنا فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل الصفة فأخذه فانطلق به فعشّاه، فأتت علينا ليلة لم يأتنا أحد [ (3) ] ، فانطلقنا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها: هل عندك شيء؟ فما بقيت منهن امرأة إلا أرسلت تقسم: ما أمسى في [بيتها] [ (4) ] ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: [اجتمعوا،] فاجتمعوا، فدعا وقال: اللَّهمّ إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنّهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك، فلم يكن إلا ومستأذن يستأذن، وإذا بشاة مصلّية ورغف، فأمر بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فوضعت بين أيدينا، فأكلنا حتى شبعنا، فقال لنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: إنا سألنا اللَّه من فضله ورحمته فهذا فضله، وقد ذخر لنا عنده رحمته [ (2) ] .
__________
[ (1) ] وفي رواية المقرئ: فأهوت إليه شاة مصلية. (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 128- 129، باب ما جاء في إجابة اللَّه تعالى دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حين ضافه ضيف ولم يكن عنده شيء.
[ (3) ] [فأصبحنا صياما، ثم أتت علينا القائلة فلم يأتنا أحد] . (المرجع السابق) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(5/196)


[سابع وخمسون: ظهور البركة في التمر الّذي خلفه عبد اللَّه بن عمرو بن حرام]
وأما ظهور البركة في التمر الّذي خلفه عبد اللَّه بن عمرو بن حرام رضي اللَّه عنه، حتى قضى دينه ولم يكد ينقص،
فخرج البخاري من حديث أبي عوانه، عن مغيرة عن عامر، عن جابر رضي اللَّه عنه قال: أصيب عبد اللَّه وترك عيالا ودينا، فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضا من دينه، فأبوا، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فاستشفعت به عليهم فأبوا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: صنف تمرك كل شيء منه على حدته، عذق ابن زيد على حدة، واللين على حدة، والعجوة على حدة، ثم أحضرهم حتى آتيك، ففعلت، ثم جاء صلّى اللَّه عليه وسلم فقعد عليه وكال لكل رجل حتى [استوفى] [ (1) ] وبقي التمر كما هو كأنه لم يمس [ (2) ] .
وغزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على ناضح لنا فأزحف الجمل فتخلف عليّ، فوكزه النبي صلّى اللَّه عليه وسلم من خلفه، قال: بعنيه ولك ظهره إلى المدينة، فلما دنونا استأذنت قلت: يا رسول اللَّه! إني حديث عهد بعرس، قال: فما تزوجت؟ بكرا أم ثيبا؟
قلت: ثيبا، قلت: أصيب عبد اللَّه وترك جواري صغار، فتزوجت ثيبا تعلّمهنّ وتؤدبهن، ثم قال: ائت أهلك،
فقدمت فأخبرت خالي ببيع الجمل فلامني، فأخبرته بإعياء الجمل وبالذي كان من النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ووكزه إياه، فلما قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلم غدوت إليه بالجمل فأعطاني ثمن الجمل، والجمل، وسهمي مع القوم. ترجم عليه باب: الشفاعة في وضع الدين [ (3) ] .
وخرج البخاري في كتاب البيوع، في باب الكيل على البائع والمعطى، وفخرج النسائي في كتاب الوصايا، كلاهما من حديث جرير عن مغيرة عن الشعبي، عن
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من رواية (البخاري) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 5/ 85- 86، كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب (18) الشفاعة في وضع الدين، حديث رقم (2405) .
[ (3) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (2406) .

(5/197)


جابر رضي اللَّه عنه قال: توفى عبد اللَّه بن حرام وعليه دين، فاستعنت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم على غرمائه أن يضعوا من دينه، فطلب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم إليهم فلم يقبلوا، فقال لي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اذهب فصنف تمرك أصنافا: العجوة على حدة، وعذق ابن زيد [ (1) ] على حدة، ثم أرسل إليّ، ففعلت، ثم أرسلت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فجاء فجلس إلى أعلاه- أو في وسطه- ثم قال: كل للقوم، فكلتهم حتى أوفيتهم الّذي لهم وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء [ (2) ] .
وقال النسائي: فاستشفعت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم على غرمائي أن يضعوا من دينه شيئا، فطلب إليهم وأبوا [ (3) ] .
وخرجه البخاري في غزوة أحد من حديث عبيد اللَّه بن موسى، حدثنا شيبان أبو معاوية [ (4) ] عن فراس عن الشعبي فذكره [ (5) ] . وخرجه في آخر كتاب الوصايا، من حديث شيبان عن فراس قال: قال الشعبي: حدثني جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي اللَّه عنه أن أباه استشهد يوم أحد وترك ستّ بنات وترك عليه دينا، فلما حضره جذاذ النخل أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه! قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد وترك عليه دينا كثيرا، وإني أحب أن يراك الغرماء، قال:
اذهب فبيدر كل تمر على ناحية ففعلت، ثم دعوته، فلما نظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات ثم جلس عليه، ثم قال: ادع أصحابك، فما زال يكيل لهم حتى أدى اللَّه أمانة والدي،
وأنا واللَّه راض أن يؤدي اللَّه أمانة والدي ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم واللَّه البيادر كلها حتى انظر إلى البيدر الّذي كان عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم،
__________
[ (1) ] ابن زيد: شخص نسب إليه النوع المذكور من التمر، وتمر المدينة أصنافه كثيرة جدا تزيد على الستين، والتمر الأحمر أكثر من الأسود عندهم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 4/ 432- 433، باب (51) الكيل على البائع والمعطي، حديث رقم (2127) .
[ (3) ] (سنن النسائي) : 6/ 556، كتاب الوصايا، باب (4) قضاء الدين قبل الميراث، وذكر اختلاف الناقلين لخبر جابر فيه، حديث رقم (3640) .
[ (4) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 7/ 453- 454، كتاب المغازي، باب (18) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، حديث رقم (4053) .

(5/198)


كأنه لم ينقص تمرة واحدة [ (1) ] . قال أبو عبد اللَّه: أغروا بي: يعني هيجوا بي.
فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ ترجم عليه في الوصايا باب قضاء الوصي ديون الميت بغير محضر من الورثة وذكره في غزوة أحد [ (2) ] : حتى أدى اللَّه عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي اللَّه أمانة والدي، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم اللَّه البيادر كلها.. حتى [آخر] الحديث.
وقال في باب علامات النبوة في الإسلام: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زكريا قال: حدثني عامر، قال: حدثني جابر أن أباه توفي وعليه دين، فأتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقلت: إن أبي ترك عليه دينا وليس عندي إلا ما يخرج نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكي لا يفحش عليّ الغرماء، فمشى حول بيدر من بيادر التمر فدعا، ثم أخّر ثم جلس عليه فقال: انزعوه، فأوفاهم الّذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم [ (3) ] .
وخرج في كتاب الأطعمة، من حديث أبي حازم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن أبي ربيعة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في [تمري] إلى الجذاذ، وكان لجابر الأرض التي بطريق رومة، فجلست فخلا عاما، فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا، فجعلت استنظره إلى قابل فيأبى، فأخبر بذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فقال لأصحابه: امشوا نستنظر لجابر من اليهودي، فجاءوني في نخلي، فجعل النبي صلّى اللَّه عليه وسلم يكلم اليهودي، فيقول يا أبا القاسم لا أنظره، فلما رأى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم قام فطاف في النخل، ثم جاءه فكلمه فأبى، فقمت فجئت بقليل من رطب، فوضعته بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، فأكل ثم قال: أين عريشك يا جابر؟
فأخبرته فقال: افرش لي فيه، ففرشته فدخل فرقد ثم استيقظ، فجئته بقبضة أخرى، فأكل منها ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرّطاب في النخل
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 5/ 518- 519، كتاب الوصايا، باب (36) ، حديث رقم (2781) قضاء الوصي دين الميت بغير محضر الورثة.
[ (2) ] سبق الإشارة إليه تعليق رقم (5) من الصفحة السابقة
[ (3) ] (فتح الباري) : 6/ 728، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3580) ، ونحوه في (دلائل أبي نعيم) : 2/ 435- 436، باب قصة غرماء جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه، حديث رقم (435) .

(5/199)


الثانية ثم قال: يا جابر، خذ واقض، فوقف في الجذاذ، فجذذت منها ما قضيته وفضل منه، فخرجت حتى جئت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فبشرته فقال: أشهد أني رسول اللَّه [ (1) ] .
قال أبو عبد اللَّه: عرش وعريش: بناء، وقال ابن عباس: معروشات ما يعرش من الكروم وغير ذلك، ويقال: عروشها: أبنيتها، وقال أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف: [قد وقع] [ (2) ] في هذا الحديث إشكال في لفظه ومعناه، أما المعنى:
فلأن جابر لم يداين أولئك اليهود، وإنما كان أبوه مات وترك الدين عليه، وهي قضية مشهورة.
وخرج البيهقي من حديث محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكيم قال: أخبرنا عروة عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد اللَّه أنه أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ليشفع إليه، فجاءه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمشى فيها ثم قال: يا جابر، جذّ له فأوفه الّذي له، فجذّ بعد ما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا وفضلت له سبعة عشرة وسقا.
فجاء جابر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليخبره بالذي فعل، فوجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم يصلي العصر، فلما انصرف [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم] [ (2) ] جاءه فأخبره أنه قد وفّاه، وأخبره بالفضل الّذي فضل له، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أخبر ذلك ابن الخطاب، فذهب جابر إلى عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فأخبره، فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم ليباركن اللَّه عزّ وجلّ فيها [ (3) ] .
قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 706- 707، كتاب الأطعمة، باب (41) الرطب والتمر، وقول اللَّه تعالى:
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا، حديث رقم (5443) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 150، باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم في التمر الموروث عن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام رضي اللَّه عنه حتى قضى منه دينه وكأنه لم ينقص منه شيء، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.

(5/200)


عياض،
وهذا لا يخالف الأول، فإن الأول في سائر الغرماء الذين حضروا وحضر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم حتى أوفاهم ديونهم، وهذا في اليهودي الّذي أتاه بعدهم، وطالب بدينه، فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلم جابراً بجذ ما بقي على النخلات وإيفائه حقه، واللَّه أعلم [ (1) ] .
وقال الواقدي- وقد ذكر غزوة ذات الرقاع-: وحدثني إسماعيل بن عطية ابن عبد اللَّه بن أنيس [عن أبيه] عن جابر بن عبد اللَّه قال: لما انصرفنا راجعين فكنا بالشّقرة، قال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: يا جابر، ما فعل دين أبيك؟ فقلت:
عليه انتظرت يا رسول اللَّه أن يجذّ له نخله، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إذا جذذت فأحضرني، قال: قلت: نعم، ثم قال: من صاحب دين أبيك؟ فقلت: أبو الشحم اليهودي، له على أبي سقة [ (2) ] من تمر، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: فمتى تجذّها؟ قال: قلت: غدا، قال: يا جابر، إذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها، وألوان التمر على حدتها.
قال: ففعلت، فجعلت الصّيحانيّ على حدة، وأمهات الجرادين على حدة، والعجوة على حدة، ثم عمدت إلى جمّاع من التمر مثل نخبة وقرن وشقحة وغيرها من الأنواع- وهو أقل التمر- فجعلته حبلا [ (3) ] واحدا، ثم جئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرته فانطلق ومعه عليه أصحابه، فدخلوا الحائط، وحضر أبو الشحم.
قال: فلما نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى التمر مصنفا قال: اللَّهمّ بارك له، ثم انتهى إلى العجوة فمسها بيده، وأصناف التمر، ثم جلس وسطها، ثم قال: ادع غريمك.
فجاء أبو الشحم، فقال: اكتل، فاكتال حقه كله من حبل واحد وهو العجوة، وبقية التمر كما هو، فقال: يا جابر، هل بقي على أبيك شيء؟ قال: قلت:
__________
[ (1) ] المرجع السابق.
[ (2) ] سقة من تمر: قال ابن الأثير: السقة جمع وسق، وهو الحمل، وقدّره الشرع بستين صاعا، وقد صحّفه بعضهم بالشين المعجمة وليس بشيء، مختصرا من (النهاية) : 2/ 169.
[ (3) ] الحبل: قطعة من الرمل ضخمة ممتدة، (المرجع السابق) : 1/ 197.

(5/201)


لا، قال: وبقي سائر التمر فأكلنا منه دهرا وبعنا منه حتى أدركت الثمرة من قابل، ولقد كنت أقول: لو بعت أصلها ما بلغت ما على أبي من دين، فقضى اللَّه ما كان على أبي من الدين، فلقد رأيتني والنبي صلّى اللَّه عليه وسلم ليقول لي: ما فعل دين أبيك؟ فقلت:
قد قضاه اللَّه، قال: اللَّهمّ اغفر لجابر، فاستغفر لي في ليلة خمسا وعشرين مرة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 401- 402.

(5/202)


[ثامن وخمسون: سماع الصحابة تسبيح الطعام وهم يأكلونه]
وأما سماع الصحابة رضي اللَّه عنهم تسبيح الطعام وهم يأكلونه مع المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم،
فخرج البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام، من حديث إسرائيل عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: كنا نعد الآيات بركة وكنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: حيّ على الطهور المبارك والبركة من اللَّه، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيع الطعام وهو يؤكل [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 728، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3579) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 62- 63، باب ما جاء في تسبيح الطعام الّذي كانوا يأكلون مع نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلم، وما في ذلك من آثار النبوة، (سنن الترمذي) : 5/ 557، كتاب المناقب، باب (5) في إثبات نبوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وما قد خصّه اللَّه عز وجل، حديث رقم (3633) ، وقال في آخره: هذا حديث حسن صحيح.

(5/203)


[تاسع وخمسون: مسحه ضرع شاة أم معبد فدرّت باللبن]
وأما مسحه صلّى اللَّه عليه وسلم ضرع شاة أم معبد فدرت باللبن، بعد ما كانت في جهد لا تبض بقطرة، فخرجه الأئمة الحفاظ: خرجه الحرث بن أبي أسامة، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، من حديث أبي أحمد بشر بن محمد السكري المزوي قال:
حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، حدثنا الحرّ بن الصباح، عن أبي معبد الخزاعي [ (1) ] ، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي اللَّه عنه وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد اللَّه بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية [ (1) ]- وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة، تحتبي [ (2) ] وتجلس بفناء الخيمة، فتطعم وتسقى- فسألوها: هل معها لحم أو لبن يشتروا منها؟
فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، فقالت: لو كان عندنا شيئا ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فإذا شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: فهل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذاك، قال: تأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، قال: فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالشاة فمسحها، وذكر اسم اللَّه ومسح ضرعها، وذكر اسم اللَّه ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت [ (3) ] ودرّت واجترت، فحلب فيه
__________
[ (1) ] أم معبد الخزاعية، هي عاتكة، بنت خالد بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، وقيل: عاتكة بنت خالد ابن خليف، بن منقذ بن ربيعة، وهي أخت حبيش بن خالد الأشعر الخزاعي القديدي، وله صحبة ورواية، وهو راوي حديثها. وزوجها أبو معبد الخزاعي مختلف في اسمه، وتوفى في حياة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وكان يسكن قديدا، وهي موضع قرب مكة، وفي (معجم ما استعجم) : 3/ 1054، أن هذه القرية سميت قديدا لتقدد السيول بها، وهي لخزاعة.
[ (2) ] تحتبي: تجلس على أليتها، وتضم فخذيها إلى بطنها بذراعيها لتستند.
[ (3) ] تفاجّت: فرّجت ما بين رجليها للحلب.

(5/204)


ثجا حتى علاه البهاء، فسقاها وسقى أصحابه فشربوا جميعا حتى أراضوا، وشرب صلّى اللَّه عليه وسلم آخرهم وقال: ساقي القوم آخرهم، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا،
قال: فقل ما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا حيلا عجافا يتساوكن هزلا [ (1) ] ، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوبة في البيت والشاة عازب؟ فقالت: لا واللَّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت وكيت.
قال: صفيه لي يا أم معبد، فو اللَّه إني أراه صاحب قريش الّذي يطلب، فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق، مبلج الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل، أحور أكحل، أزجّ أقرن، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سماه وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هزر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدّرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة، لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أجمل الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفنّد.
قال: هذا واللَّه صاحب قريش الّذي تطلب، ولو صادفني لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
قال: وأصبح صوت بمكة عاليا بين السماء والأرض، يسمعونه ولا يدرون من يقوله وهو ينشد ويقول:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبرّ وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما روى اللَّه عنكم ... به من فعال لا تجاري وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
__________
[ (1) ] ضعافا.

(5/205)


فغادرها رهنا لديها لحالب ... يردّدها في مصدر ثم مورد
قال: فأصبح الناس وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال: وأجابه حسان بن ثابت يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى إليهم ويغتدى
ترحّل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا ... عمى، وهداة يقتدون بمهتدى
لقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في صحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد اللَّه يسعد
ويهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمسلمين بمرصد [ (1) ]
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 337- 340، حديث رقم (238) ، وقال في آخره: قال أبو أحمد بن بشر بن محمد، حدثنا عبد الملك بن وهب: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت، ولحقت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم. ورواه أبو أمية محمد بن إبراهيم بن بشر بن محمد مثله.
حدثنا سليمان بن أحمد، إملاء وقراءة، قال حدثنا على بن عبد العزيز قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام:
البرزة من النساء: الجلدة، التي تظهر للناس، ويجلس إليها القوم.
مرملين مسنتين: المرمل الّذي قد نفد زاده، والمسنت الّذي أصابته السّنة، وهي الأزمة والمجاعة.
قال أبو عبيد: إذا قال: يال فلان: فذلك في الاستغاثة بالفتح، ويال المسلمين. وإذا أراد التعجب والنداء قال: بال فلان بالكسرة.
كسر الخيمة: وهو مؤخرها، وفيه لغتان: كسر، وكسر.
وقال بعضهم: الكسر هو في مقدم الخيمة.
فتفاجّت عليه: يعني فرجت رجليها كما تفعل التي تحلب.
بإناء يربض الرهط: أي ينهنههم مما يجتريهم لكثرته إذا شربوه.
فحلب فيها ثجا: يعني سيلا، وكذلك كل سيل، ومنه
قوله صلّى اللَّه عليه وسلم وقد سئل عن الحجّ فقال: العجّ والثّجّ،

(5/206)


وخرج قاسم بن أصبغ من حديث أبي هاشم محمد بن سليمان بن الحكم، عن جده أيوب بن الحكم عن حرام بن هشام عن أبيه هشام، عند جده حبيش ابن خالد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، فذكره بمعناه.
__________
[ () ] فالعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثّجّ: سيل دماء الهدي، وقال تعالى: ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: 14] .
أراضوا: أصل هذا في صبّ اللبن على اللبن، ومعنى قولها: أراضوا: هو شرب لبن صبّ على لبن.
فغادره عندها: تركه عندها.
تساوكن هزلا: التساوك: المشي الضعيف.
الشاة عازب: يعني قد عزبن عن البيت فخرجن إلى المرعى.
الحيّل: التي ليست بحوامل.
وقولها في صفة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم.
ظاهر الوضاءة: يعني الجمال، والوضيء: الجميل.
المتبلّج الوجه: الّذي فيه إضاءة ونور. رجل مبلّج وأبلج، قال الأعشى:
حكّمتوه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر
لم تعبه ثجلة: ومعناه عظم البطن، تقول: فليس هو كذلك.
لم تزر به صعلة: تريد صغر الرأس، يقال: رجل صعل.
وسيم قسيم: كلاهما هو الجمال.
في عينيه دعج: وهو سواد الحدقة، يقال: رجل أدعج، امرأة دعجاء.
في أشفاره عطف: كان بعض الناس يظنها معطوفة، وأنا أظنها وطفا، وكذلك كل مستطيل مسترسل، وأيضا السحابة الدانية من الأرض وطف.
في صوته صهل: إنه صحل، وهو شبيه بالبحح، وليس بالشديد منه، ولكنه حسن، وبذلك توصف الظباء.
في عنقه سطع: هو الطول، يقال منه رجل أسطع، وامرأة سطعاء، وهذا مما يمدح به الناس.
الأزجّ: هو المقوس الحاجبين، والأقرن: هو الّذي التقى حاجباه بين عينيه.
منطقه لا نزر ولا هزر: فالنزر: القليل: والهزر: الكثير، تقول: قصد بين ذلك.
لا تقتحمه عين من قصر: تقول: لا تزدريه فتنبذه ولكن تقبله وتهابه.
محفود محشود: فالمحفود: المخدوم، قال اللَّه عزّ وجل: بَنِينَ وَحَفَدَةً، ومحشود: هو الّذي قد حشده أصحابه وحفّوا حوله، (المرجع السابق) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 491- 496، باب اجتياز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمرأة وابنها، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، 6/ 84- 86، باب ما جاء في ظهور بركته في الشاة التي لم يكن فيها لبن حتى نزل لها لبن، وقد مضى ذلك في ذكر نزوله بمخيمتي أم معبد، ونزوله قبل ذلك بالأغنام التي كان يرعاها ابن أم معبد، (المستدرك) : 3/ 10- 12، كتاب الهجرة، حديث رقم (4274/ 18) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويستدل على صحته وصدق رواته بدلائل: منها: نزول المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلم بالخيمتين متواترا في أخبار صحيحة ذوات عدد. ومنها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يهتمون بوضع الحديث، والزيادة والنقصان، وقد

(5/207)


وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من مكة، لم يعلم أهل مكة أين وجّه، حتى سمعوا مغردا بين أخشبي [ (1) ] مكة يقول:
جزى اللَّه خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتديا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهنئ بني كعب مكان فنائهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد [ (2) ]
قال ابن إسحاق: فعرف أهل مكة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم توجه قبل المدينة.
وقال الواقدي: حدثني حزام بن هشام عن أبيه عن أم معبد- واسمها عاتكة بنت خالد بن حبيب- قالت: لما طلعوا الأربعة على راحلتين، نزلوا بنا، فجئت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بشاة أريد أن أذبحها، فإذا هي ذات در، فأدنيتها منه فلمس ضرعها فقال: لا نذبحها،
فأرسلتها وجئت بأخرى فذبحتها فطبخت لهم، فأكل هو وأصحابه، قلت: ومن معه؟ قالت: ابن أبي قحافة ومولى ابن أبي قحافة وابن أريقط- وهو على شركه بعد- قالت: فتغدى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، منها وأصحابه، وسفرتهم منها، ما وسعته سفرتهم، وأبقى عندنا لحمها أو أكثره.
فبقيت الشاة التي لمس ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمان عمر بن
__________
[ () ] أخذوه لفظا بعد لفظ، عن أبي معبد وأم معبد، ومنها: أن له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه، والأب عن جده، لا إرسال ولا وهن في الرواة. ومنها: أن الحرّ بن الصباح النخعي، أخذه عن أبي معبد، كما أخذه ولده عنه، فأما الإسناد الّذي رويناه بسياقة الحديث عن الكعبيين، فإنه إسناد صحيح عال للعرب الأعاربة، وقد علونا في حديث الحرّ بن الصباح، (عيون الأثر) : 1/ 190، (سيرة ابن هشام) : 3/ 14، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 337- 343، حديث رقم (238) .
[ (1) ] الأخشبان: جبلان بمكة.
[ (2) ] هذه الأبيات في (عيون الأثر) : 1/ 188- 189، هكذا:
جزى اللَّه خيرا والجزاء بكفه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما رحلا بالحق وانتزلا به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
وأكسي لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأعطى برأس السابح المتجرد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
وفي بعض المراجع: «السانح» بدلا من «السابح» .

(5/208)


الخطاب رضي اللَّه عنه، وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة، كنا نحلبها صبوحا وغبوقا، وما في الأرض قليل ولا كثير. قال حزام: وكانت أم معبد يومئذ مسلمة.
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: هكذا أورد أبو نعيم هذا الخبر من حديث أم معبد- رضي اللَّه عنها- عن الواقدي، وفيه ما يخالف ما تقدم، على أن فيه علما من أعلام النبوة.
وخرج أبو نعيم من حديث إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: حدّثت عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنه أنها قالت: لما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر رضي اللَّه عنه فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري واللَّه أين أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة خرم قرطي.
قالت: ثم انصرفوا، فمضى ثلاث ليال ما ندري أين توجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات شعر غنى بها العرب، وأن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج بأعلى مكة:
جزى اللَّه رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتديا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمة من محمد
وأكسي لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأغطى برأس السانح المتجرد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وعامر ابن فهيرة، وعبد اللَّه بن أريقط دليلهما [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: سمعت عبد الرحمن بن
__________
[ (1) ] (عيون الأثر) : 1/ 189، حيث رواه بعد حديث أم معبد ثم قال في آخره: وبه قال أبو بكر الشافعيّ: حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان، حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثت عن أسماء ... ، وساق الحديث، وزاد بيتين.

(5/209)


أبي ليلى يحدث عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم من مكة فأتينا إلى حيّ من أحياء العرب، فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبدي اللَّه، إنما أنا امرأة وليس عندي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال: فلم يجبها- وذلك عند المساء- فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها فقالت له: انطلق يا بني بهذه العنز والشاة إلى هذين الرجلين فقل لهما: تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.
فلما جاء، قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلم: انطلق بالشفرة وجئني بالقدح، قال: إنها عزبت وليس لها لبن، قال: انطلق، فانطلق فجاء بقدح، فمسح النبي صلّى اللَّه عليه وسلم ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ثم قال: انطلق به إلى أمك، فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: انطلق بهذه وجئني بأخرى، ففعل بها كذلك، ثم جاء بأخرى فسقا أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قال:
فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا، فكانت تسمية المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أماه، إن هذا الرجل الّذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد اللَّه، من الرجل الّذي كان معك؟ قال: وما تدرين من هو؟
قالت: لا، قال: هو النبي صلّى اللَّه عليه وسلم، قالت فأدخلني عليه، قال: فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها [ (1) ] .
وفي رواية: قالت: دلني عليه، فانطلقت معي وأهدت له شيئا من أقط ومتاع الأعراب، قال: فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلم إلا قال: أسلمت [ (2) ] .
قال البيهقي- رحمة اللَّه عليه-: هذه القصة وإن كانت تنقص عما روينا في قصة أم معبد وتزيد في بعضها فهي قريب منها، وتشبه أن تكونا واحدة، وقد ذكر
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 491- 492 باب اجتياز رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالمرأة وابنها- وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] هي رواية ابن عبدان كما صرح بذلك البيهقي في المرجع السابق.

(5/210)


محمد بن إسحاق بن يسار من قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه القصة قصة واحدة سواء بها [ (1) ] .
وذكر من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: لما نزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بخيمتي أم معبد- وهي التي غرد بها الجن بأعلى مكة- واسمها عاتكة بنت حنيف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، فأرادوا القرى،
قالت: واللَّه ما عندنا طعام ولا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم [ببعض غنمها، فمسح ضرعها بيده، ودعا اللَّه، وحلب في العس حتى رغى وقال: اشربي يا أم معبد، فقالت: اشرب فأنت أحق به، فردّه عليها فشربت. ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشرب، ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم يروح.
وطلبت قريش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوها عنه، فقالوا:
رأيت محمدا وحليته كذا؟ فوصفوه لها فقالت: ما أدري ما تقولون، قد ضافني حالب الحائل، قالت قريش: فذاك الّذي نريد] .
[قال البيهقي: فيحتمل أن يكون أولا، أي التي في كسر الخيمة، كما روينا في حديث أم معبد، ثم رجع ابنها بأعنز، كما روينا في حديث ابن أبي ليلى، ثم لما أتى زوجها وصفته له، واللَّه تعالى أعلم] [ (2) ] .
وخرج الحاكم قصة أم معبد من طريق [أبي سعيد، أحمد بن محمد بن عمرو الأخمسيّ بالكوفة، حدثنا الحسين بن حميد بن الربيع الخزار، حدثنا سليمان بن الحكم
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) ، وقد رجح هذا أيضا الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 3/ 238.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 493- 494، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) وقد أثبتناه منه.
وقد سجّل شاعر العروبة والإسلام [أحمد محرم] في (ديوان مجد الإسلام) هذا الحدث الجليل من خيمة أم معبد فقال:
ما حديث لأمّ معبد تستقيه ... ظمأى النفوس عذبا نميرا
سائل الشاة كيف درّت وكانت ... كزّة الضرع لا ترجّى الدرورا
بركات السّمح المؤمّل يقرى ... أمم الأرض زائرا أو مزورا
مظهر الحق للنّبوّة سبحانك ... ربّا فرد الجلال قديرا
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.

(5/211)


ابن أيوب بن سليمان بن ثابت بن بشار الخزاعي، حدثنا أخي أيوب بن الحكم، وسالم بن محمد الخزاعي، جميعا، عن حزام بن هشام، عن أبيه حزام بن حبيش ابن خويلد صاحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، وأبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه، ومولى أبي بكر: عامر بن فهيرة، ودليلهما: الليثي عبد اللَّه بن أريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية- وكانت امرأة برزة جلدة، تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم- فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين.
فنظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الشاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى اللَّه تعالى، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه ودرّت فاجترّت.
فدعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم حتى أراضوا، ثم حلب فيه الثانية على هدة حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلّ ما لبث حتى جاء زوجها أبو معبد ليسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزالا، مخّهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاء عازب حائل، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا واللَّه إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: - رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزريه صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزجّ أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق،] [ (1) ]
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.

(5/212)


فصلا لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة، لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال أبو معبد: هذا واللَّه صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى اللَّه عنكم ... به من فعال لا تجازي وسؤدد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد اللَّه يسعد
وليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحا ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر بعد مورد]
[فلما سمع حسان الهاتف بذلك شبب يجاوب الهاتف فقال رضي اللَّه تعالى عنه:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدّس من يسري إليهم ويغتدى
ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... فأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمى، وهداة يهتدون بمهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب اللَّه في كل مشهد

(5/213)


وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد [ (1) ]
قال ابن هشام: وأم معبد هي: أم معبد بنت كعب، امرأة من بني كعب، من خزاعة] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (المستدرك) : 3/ 10- 11، حديث رقم 4274/ 18، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التخليص) : صحيح، ونزول المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بالخيمتين متواترا في أخبار صحيحة، ولذلك دلائل منها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون، وقد أخذوه عن أبي معبد وأم معبد. ومنها: أن له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه، لا إرسال ولا وهن في الرواة، ومنها: أن الحرّ بن الصباح النخعي أخذه عن أبي معبد، كما أخذه ولده عنه. وقد سبق شرح غريب هذا الحديث.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 14، وأم معبد اسمها: عاتكة بنت خالد، إحدى بنى كعب من خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد، وله صحبة ورواية، ويقال له الأشقر، وأخوها حبيش بن خالد وخالد الأشعر أبو هما، هو ابن حنيف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب ابن عمرو، وهو أخو خزاعة. (هامش المرجع السابق) .
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.

(5/214)


[ستون: حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم عناقا [ (1) ] لا لبن فيها مع عبد يرعى غنما]
وأما حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم عناقا لا لبن فيها مع عبد يرعى غنما،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن غالب، حدثنا أبو الوليد: حدثنا عبيد اللَّه بن إياد بن لقيط، عن قيس ابن النعمان قال: لما انطلق النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر رضي اللَّه عنه مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء وقد أخدجت [ (2) ] وما بقي لها لبن، فقال: ادع بها، فاعتقلها النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسح ضرعها، ودعا اللَّه حتى أنزلت.
قال: وجاء أبو بكر رضي اللَّه عنه بمجن فحلب صلّى اللَّه عليه وسلّم فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: باللَّه من أنت؟ فو اللَّه ما رأيت مثلك قط! قال: أو تراك تكتم عليّ حتى أخبرك؟ قال: نعم، قال: فإنّي محمد رسول اللَّه.
قال: أنت الّذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: إنهم ليقولون ذلك، قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك.
قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا [ (3) ] .
وخرجه أبو داود الطيالسي من حديث عبد اللَّه بن إياد بن لقيط، فذكره وقال في آخره:
فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد ما ظهر بالمدينة. وخرجه الحاكم وقال: حديث صحيح الإسناد [ (4) ] .
__________
[ (1) ] العناق: هي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة.
[ (2) ] أخدجت: ولدت قبل أوانها.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 2/ 497، باب اجتيازه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع صاحبه بعبد يرعى غنما، وما ظهر عند ذلك من آثار النبوة.
[ (4) ] (المستدرك) : 3/ 9- 10، حديث رقم 4273/ 17، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (البداية والنهاية) : 3/ 238 نقلا عن البيهقي، (عيون الأثر) : 1/ 190- 191.

(5/215)


[حادي وستون: حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم اللبن من شاة لم ينز عليها الفحل]
وأما حلبة صلّى اللَّه عليه وسلّم اللبن من شاة لم ينز عليها الفحل،
فخرج أبو نعيم من حديث أبي داود قال: حدثنا حماد [بن سلمة] [ (1) ] عن عاصم، عن زرّ عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبي معيط بمكة، فأتى عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه- وقد فرا من المشركين- فقال: يا غلام، عندك لبن تسقينا؟ فقال: إني مؤتمن، [ولست بساقيكما، قالا: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الضرع فمسحه، ودعا، فحفل الضرع، وأتى أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص، فلما كان الغد، أتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: علّمني هذا القول الطيب- يعني القرآن- فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
إنك غلام معلّم، فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (دلائل أبي نعمي) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 329، حديث رقم 233، (البداية والنهاية) : 3/ 238- 239 عن البيهقي، (مسند أحمد) : 1/ 626، حديث رقم (3587) ، حديث رقم (3588) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 150- 151، باب: ومن حلفاء بني زهرة بن كلاب من قبائل العرب: عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، وقد أثبتناه من كتب السيرة.

(5/216)


[ثاني وستون: ظهور الآية في اللبن للمقداد رضي اللَّه عنه]
وأما ظهور الآية في اللبن للمقداد- رضي اللَّه عنه-
فخرج مسلم من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المقداد قال: أقبلت أنا وصاحبان لي وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فليس أحد منهم يصلنا، فأتينا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: احتلبوا هذا اللبن بيننا، فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم نصيبه.
قال فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما، [ويسمع اليقظان، قال:
ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلما أن وغلت في بطني، وعلمت أنه ليس إليها سبيل.
قال: ندّمني الشيطان، فقال: ويحك ما صنعت! أشربت شراب محمد، فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك؟ وعليّ شملة، إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم كما كان يسلّم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه، فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال:
اللَّهمّ أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني.
قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإذا هي حافلة، وإذا هنّ حفّل كلهن، فعمدت إلى إناء لآل محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما كانوا يطعمون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتى علته رغوة، فجئت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟.

(5/217)


قال: قلت: يا رسول اللَّه اشرب، فشرب، ثم ناولني، فقلت: يا رسول اللَّه اشرب، فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قد روى، وأصبت دعوته، ضحكت حتى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إحدى سوءاتك يا مقداد، فقلت: يا رسول اللَّه! كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذه إلا رحمة من اللَّه، أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها، قال: فقلت: والّذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 14/ 257- 260، كتاب الأشربة، باب (32) إكرام الضيف وفضل إيثاره، حديث رقم (174) ، وفي هذا الحديث: آداب السلام على الأيقاظ في موضع فيه نيام أو من في معناهم، وأنه يكون سلاما متوسطا بين الرفع والمخافتة، بحيث يسمع الأيقاظ ولا يهوش به على غيرهم، وفيه: الدعاء للمحسن والخادم، ولمن سيفعل خيرا، وفيه: ما كان عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من الحلم، والأخلاق والمحاسن المرضية، وكرم النفس، والصبر، والإغضاء عن حقوقه، فإنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يسأل عن نصيبه من اللبن. والشاة الحافل: الممتلئ ضرعها باللبن، (دلائل البيهقي) : 6/ 84- 86، باب ما جاء في ظهور بركته صلّى اللَّه عليه وسلّم في الشاة التي لم يكن فيها لبن، حتى نزل لها لبن، (طبقات ابن سعد) : 1/ 184، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.

(5/218)


[ثالث وستون: سرعة سير الإبل بعد جهدها بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما سرعة سير الإبل بعد جهدها بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرج أبو نعيم من حديث المعتمر قال: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو نضرة عن جابر، وحدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال:
حدثنا أبو كامل [الجحدريّ] ، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال:
حدثنا الجريريّ عن أبي نضرة، عن جابر رضي اللَّه عنه، وحدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن صالح بن الوليد النرسي، قال: حدثنا جميل بن الحسن قال:
حدثنا غسان بن مضر، عن سعيد بن يزيد أبي سلمة، عن أبي نضرة، عن جابر رضي اللَّه عنه قال:] [كنا في مسير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: وأنا على ناضح لي، إنما هو في أخريات الناس، قال: فضربه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أو نخسة، أراه قال: بشيء كان معه، قال: فجعل بعد ذلك يتقدم الناس ينازعني حتى أني لأكفّه [ (1) ] .] .
[وخرّج من حديث أحمد بن محمد بن الحسن الماسرجسي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا جرير عن مغيرة، عن الشعبي، عن جابر رضي اللَّه عنه، قال:] [غزوت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلاحق بي وتحتي ناضح لي قد أعيا، ولا يكاد يسير، قال: فقال لي: ما لبعيرك؟ قلت: عليل، قال: فتخلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير، قال: فكيف ترى بعيرك؟
قال: قلت: بخير قد أصابته بركتك [ (2) ] .] .
وخرّج من حديث سليمان بن أحمد، قال: حدثنا أحمد بن داود المكيّ قال:
حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا الصعق بن حزن، وأبو هلال الراسبي، قالا: حدثنا سيار أبو الحكم عن الشعبي، عن جابر قال:]
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 437- 438، باب قصة البعير المتخلف لجابر بن عبد اللَّه وأبي طلحة رضي اللَّه عنهما، حديث رقم (348) ، وأخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 438، حديث رقم (349) .

(5/219)


[كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزاة، وأنا على بعير لي قطوف [ (1) ] ، فمر بي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فغمز بعيري بعصا في يده، فإذا هو في أول الركاب [ (2) ] .
وخرج من حديث يوسف القاضي قال: حدثنا أبو الربيع، حدثنا حماد، حدثنا أيوب عن أبي الزبير، عن جابر قال:] .
[أتى عليّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أعيى بعيري، قال: فنخسه فوثب، قال:
فكنت أحبس بعد ذلك خطامه فما أقدر عليه [ (3) ] .] .
[ومن حديث جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه قال: فزع الناس، فركب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرسا لأبي طلحة بطيئا، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فقال: لن تراعوا وإنه لبحر، قال: فو اللَّه ما سبق بعد ذلك اليوم [ (4) ]] .
[وخرج البيهقي من حديث أبي نعيم، حدثنا زكريا، قال: سمعت عامرا يقول:
حدثني جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه: أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيّبه فقال: فلحقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فضربه ودعا له، فسار سيرا لم يسر مثله.
ثم قال: بعنيه بأوقية، قلت: لا، قال: بعنيه بأوقيتين، فبعته واشترطت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل على أثري وقال: أترى أني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك، ودراهمك، فهو لك [ (5) ]] .
[وخرج من حديث حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر
__________
[ (1) ] قطوف: بطيء.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 438، حديث رقم (350) ولم أجده عند غير أبي نعيم.
[ (3) ] المرجع السابق، حديث رقم (351) ، وأخرجه مسلم.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 439، حديث رقم (352) ، وأخرجه البخاري بسند حديث الباب، كما أخرجه من حديث أنس من طرق أخرى بألفاظ متقاربة.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 151، باب دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعير جابر بن عبد اللَّه وقد أعيا، حتى صار ببركة دعائه في أول الركب ... ، وقد أخرجه البخاري في (54) كتاب الشروط، (4) باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة، ومسلم في (22) كتاب المساقاة، (21) باب بيع البعير واستثناء ركوبه، (الإحسان) : 14/ 450، باب ذكر البيان بأن جابر بن عبد اللَّه استثنى حملان راحلته التي وصفناها إلى المدينة بعد البيع، حديث رقم (6519) .

(5/220)


رضي اللَّه عنه قال: أتى عليّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد أعيا بعيري، فنخسه فوثب، فكنت بعد ذلك أحبس خطامه فما أقدر عليه، فلحقني النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: بعنيه، فبعته منه بخمس أواق، قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولك ظهره إلى المدينة، فلما قدمت المدينة، أتيت فزادني أوقية، ثم وهبه لي. [ (1) ]] .
[وله من حديث عبد اللَّه بن أبي الجعد الأشجعي، عن جعيل الأشجعي، قال: غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض غزواته وأنا على فرس لي جعفاء ضعيفة، قال: فكنت في أخريات الناس، فلحقني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: سر يا صاحب الفرس، فقلت: يا رسول اللَّه! جعفاء ضعيفة، قال: فرفع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مخفقة معه، فضربها بها، وقال اللَّهمّ بارك له فيها، قال: فلقد رأيتني ما أمسك رأسه إن تقدم الناس، قال فلقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا] [ (2) ] .
وله من حديث أبي سهل بن زياد القطان، حدثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدثنا زكريا بن علي، حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال:] .
جاء رجل إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- أو قال: فتى- فقال: إني تزوجت امرأة فقال:
هل نظرت إليها؟ فإن في أعين الأنصار شيئا، قال: قد نظرت إليها، قال: على كم تزوجتها؟ فذكر شيئا، قال: فكأنكم تنحتون الذهب والفضة من عرض هذه الجبال، ما عندنا اليوم شيء نعطيكه، ولكن سأبعثك في وجه تصيب فيه، فبعث بعثا إلى بني عبس، وبعث الرجل فيهم فأتاه فقال: يا رسول اللَّه، أعيتني ناقتي أن تنبعث، قال: فناوله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كالمعتمد عليه للقيام، فأتاها، فضربها برجله،
قال أبو هريرة: والّذي نفسي بيده، لقد رأيتها تسبق القائد [ (3) ]] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 152، وأخرجه مسلم أيضا.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 153، (التاريخ الكبير) : 2/ 249، ترجمة رقم (2356) ، جعيل، قال رافع بن زياد بن أبي الجعد، أخى سالم بن أبي الجعد، قال: حدثني جعيل، قال: غزوت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأنا في أخريات الناس....
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 154، (صحيح مسلم) : (16) كتاب النكاح، (12) باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد النكاح، حديث رقم (75) .

(5/221)


[وله من حديث جعفر بن عوف، قال: أنبأنا الأعمش، عن مجاهد، أنّ رجلا اشترى بعيرا، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إني اشتريت بعيرا، فادع اللَّه أن يبارك لي فيه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ بارك له فيه، فلم يلبث إلا يسيرا أن نفق، ثم اشترى بعيرا آخر، فأتى به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللَّه! إني اشتريت بعيرين، فدعوت اللَّه أن يبارك لي فيهما، فادع اللَّه أن يحملني عليه، قال: فقال: اللَّهمّ احمله عليه، قال فمكث عنده عشرين سنة] [ (1) ] .
[قال البيهقي: هذا مرسل، ودعاؤه صار إلى أمر الآخرة في المرتين الأوليين، ثم سأله صاحب البعير الدعاء بأن يحمله عليه، وقعت الإجابة إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل زكاة، وأطيبها، وأنماها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 154- 155. وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) واستدركناه من كتب السيرة.

(5/222)


[رابع وستون: شرب أهل الصفة من قدح لبن حتى رووا]
[وأما شرب أهل الصفة من قدح لبن حتى رووا، فخرج البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد اللَّه إسحاق بن محمد بن يوسف السوسيّ قراءة عليه من أصله، حدثنا أبو جعفر: محمد بن محمد بن عبد اللَّه البغدادي، أنبأنا عل بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمرو بن ذر، حدثنا مجاهد أن أبا هريرة كان يقول:] [ (1) ] .
[واللَّه الّذي لا إله إلا هو، إن كنت لاعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الّذي يخرجون فيه، فمرّ بي أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب اللَّه، ما سألته إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب اللَّه، ما سألته إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي.
ثم قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول اللَّه، قال: ألحق، ومضى فاتبعته، فدخل واستأذنت، فأذن لي، فدخلت، فوجد لبنا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة.
قال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول اللَّه، قال: ألحق بأهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال، إذا أتته صدقة يبعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتتهم هدية أرسل إليهم، فأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك. قلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وإني لرسول، فإذا جاءوا أمرني أن أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة اللَّه وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا حتى استأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.

(5/223)


من البيت، فقال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول اللَّه، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، ثم يردّ عليّ القدح، فأعطيه للآخر فيشرب حتى يروى، ثم يردّ عليّ القدح، حتى انتهيت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، وقد روى القوم كلهم.
فأخذ القدح فوضعه على يده، ونظر إليّ وتبسّم وقال: يا أبا هر! قلت:
لبيك يا رسول اللَّه، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول اللَّه! قال:
اقعد فاشرب، فقعدت وشربت فقال: اشرب، فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول اشرب، فأشرب، حتى قلت: لا والّذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: فأرني فأعطيته القدح فحمد اللَّه وسمّى، وشرب الفضلة] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 101- 102، باب ما جاء في دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلم أهل الصفة على لبن يسير، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، وأخرجه البخاري في صحيحه عن أبي نعيم، في (81) كتاب الرقاق، (17) باب كيف كان عيش النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا، حديث رقم (6452) .

(5/224)


[خامس وستون: وجود عنز في مكان لم تعهد فيه]
[وأما وجود عنز في مكان لم تعهد فيه،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن الفرج الأزرق، حدثنا عصمة بن سليمان الخزاز، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن نافع، وكانت له صحبة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم، قال:] .
[كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم في سفر لنا كنا أربعمائة رجل، فنزلنا في موضع ليس فيه ماء، فشقّ ذلك على أصحابه فقالوا: رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أعلم، قال: فجاءت شويهة [ (1) ] لها قرنان، فقامت بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم فحلبها، فشرب حتى روى، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم قال: يا نافع! أملكها الليلة، وما أراك تملكها، قال: فأخذتها فوتدت لها وتدا، ثم قمت في بعض الليل فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا، فجئت النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فأخبرته من قبل أن يسألني، فقال يا نافع! ذهب بها الّذي جاء بها] [ (2) ] .
وفي كتاب محمد بن سعد: أنبأنا خلف بن الوليد أبو الوليد الأزدي، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبان بن بشير، عن شيخ من أهل البصرة، عن نافع فذكره] . [ (3) ]
[وخرّج البيهقي أيضا من حديث العباس بن محمد بن العباس، حدثنا أحمد ابن سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو حفص الرماحيّ، حدثنا عامر بن أبي عامر الخزار، عن أبيه، عن الحسن بن سعد- يعني مولى أبي بكر- قال:
__________
[ (1) ] شويهة: تصغير شاة.
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 137، باب ما جاء في الشاة التي ظهرت، فحلبت، فأروت، ثم ذهبت، فلم توجد، (البداية والنهاية) : 6/ 112- 113، نقلا عن البيهقي من المرجع السابق، وقال في آخره: حديث غريب جدا، إسنادا، ومتنا، (طبقات ابن سعد) : 1/ 179- 180.
[ (3) ] (طبقات ابن سعد) : 7/ 70- 71، عند ترجمة نافع بن الحارث بن كلدة بن عمرو.

(5/225)


[قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: احلب لي العنز، قال: وعهدي بذلك الموضع لا عنز فيه، قال فأتيت بعنز حافل، قال: فاحتلبتها وأوصيت بها، قال: فاشتغلت بالرحلة ففقدت العنز، فقلت: يا رسول اللَّه! فقدت العنز، قال: فقال إن لها ربا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 138، (البداية والنهاية) : 6/ 113، نقلا عن البيهقي من المرجع السابق، وقال في آخره: حديث غريب جدا، إسنادا ومتنا، وفي إسناده من لا يعرف حاله.

(5/226)


[سادس وستون: ظهور البركة في السمن الّذي كان لأم سليم [ (1) ]]
[قال أبو نعيم: حدثنا محمد بن سليمان إملاء، حدثنا يحيى بن محمد الحنائي قال:
حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا محمد بن زياد البرجمي، قال: حدثنا أبو ظلال، عن أنس بن مالك، عن أمه أم سليم قالت: كانت لي شاة فجمعت سمنها في عكّة، فبعثت بها مع زينب، فقلت: يا زينب، أبلغي هذه العكّة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتدم بها، فجاءت زينب بها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللَّه، هذه عكّة سمن قد بعثت بها إليك أمّ سليم.
قال: فرغوا لها عكتها، ففرّغت العكة، ودفعت إليها، فجاءت- وأم سليم ليست في البيت- فعلقت في وتد، فجاءت أم سليم، فرأت العكة ممتلئة تقطر سمنا، وقالت:
__________
[ (1) ] هي أم سليم بنت ملحان، واسمها: سهله، ويقال: رميلة، ويقال رميثة، ويقال: أنيثة، ويقال:
مليكة. وهي والدة أنس بن مالك، وزوج أبي طلحة الأنصاري، يقال: أنها هي الغميصاء، أو الرميصاء، ثبت ذلك في البخاري،
في حديث ابن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة.
وفي صحيح مسلم، من حديث ثابت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت:
من هذا؟ فقالوا: هذه الرميصاء. وفي رواية: الرميصاء بنت ملحان، أم أنس بن مالك.
روت عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعنها ابنها أنس بن مالك، وعبد اللَّه بن عباس، وعمرو بن عاصم الأنصاري، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
قال ابن عبد البر: كانت تحت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت له أنسا، فلما جاء اللَّه تعالى بالإسلام أسلمت، وعرضت على زوجها الإسلام فغضب عليها، وخرج إلى الشام فهلك، فتزوجت بعده أبا طلحة، خطبها وهو مشرك، فأبت عليه إلا أن يسلم، فأسلم، فولدت له غلاما كان أعجب به، فمات صغيرا وأسف عليه، وقيل: إنه أبو عمير صاحب التغير، ثم ولدت له عبد اللَّه بن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن أبي طلحة الفقيه، وإخوته كانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم، وروى عن أم سليم قالت: لقد دعا لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى ما أريد زيادة. ومناقبها كثيرة وشهيرة. (تهذيب التهذيب) : 12/ 497، ترجمة رقم 2953، (الإصابة) : 8/ 227، ترجمة رقم (12073) ، (الاستيعاب) : 4/ 1940- 1941، ترجمة رقم (4163) .
والعكّة: من السمن والعسل، قال ابن الأثير في (النهاية) : وهي وعاء من جلود مستدير يختصّ بهما، وهو بالسمن أخصّ. (لسان العرب) : 10/ 469. وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.

(5/227)


يا زينب! أليس أمرتك أن تبلّغي هذه العكّة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأتدم بها؟ قالت: قد فعلت، فإن لم تصدقيني فتعالي معى إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: فذهبت أمّ سليم وزينب معها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه! إني قد بعثت إليك بعكة فيها سمن.
فقال: قد جاءت بها، فقالت: والّذي بعثك بالهدى ودين الحق، إنها ممتلئة سمنا تقطر، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتعجبين يا أم سليم؟ إن اللَّه أطعمك كما أطعمت نبيّه] .
قال أبو نعيم: زاد البغوي عن شيبان: كلي وأطعمي، قالت: فجئت إلى بيتي، فقسمتها في قعب [ (1) ] لنا كذا وكذا، وتركت فيها ما ائتدمنا به شهرا أو شهرين] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] القعب: القدح الضخم الغليظ.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 558- 559، باب قصة أم سليم، حديث رقم (499) ، (البداية والنهاية) : 6/ 113، باب تكثيره صلّى اللَّه عليه وسلّم السمن لأم سليم، (الخصائص الكبرى) : 2/ 247، وفي بعض النسخ «ربيبة بدلا من «زينب» ، ومحمد بن زياد البرجمي غير محمد بن زياد اليشكري الكذاب، واللَّه تعالى أعلم.

(5/228)


[سابع وستون: امتلاء عكّة أم مالك الأنصارية سمنا]
[قال أبو نعيم: حدثنا أحمد بن إسحاق: وعبد اللَّه بن محمد، قالا: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن يحيى بن جعدة، عن جدته قالت:] .
[جاءت أم مالك الأنصارية [ (1) ] بعكّة سمن إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بلالا فعصرها، ثم دفعها إليها، فرجعت، فإذا هي مملوءة، فأتت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: نزلت فيّ شيء يا رسول اللَّه؟ قال: وما ذاك يا أم مالك؟ قالت:
رددت عليّ هديتي، قال: فدعا بلالا فسأله عن ذلك، فقال: والّذي بعثك بالحق لقد عصرتها حتى استحييت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هنيئا لك يا أمّ مالك، هذه بركة عجّل اللَّه لك ثوابها [ (2) ] ، [ثم علمها تقول في دبر كل صلاة: سبحان اللَّه عشرا، والحمد للَّه عشرا، واللَّه أكبر عشرا] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لها ذكر في صحيح مسلم، في حديث جابر بن عبد اللَّه أنها كانت تهدي للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في عكة لها سمنا، وروى عبد الرحمن بن سابط الجمحيّ عن أم مالك الأنصارية (تهذيب التهذيب) : 12/ 505، ترجمة رقم (2984) ، (الاستيعاب) : 4/ 1956، ترجمة رقم (4206) ، (الإصابة) : 8/ 298، ترجمة رقم (12238) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 559، حديث رقم (500) ، (الخصائص الكبرى) : 2/ 247 وقال السيوطي: أخرجه ابن أبي شيبة برقم (11809) ، والطبراني، وأبو نعيم، عن يحيى بن جعدة، عن رجل حدثه عن أم مالك الأنصارية.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (الإصابة) : 8/ 298، ترجمة أم مالك الأنصارية رقم (12238) .

(5/229)


[ثامن وستون: امتلاء عكّة أم أوس البهزية]
[قال البيهقي: أخبرنا محمد بن عبد اللَّه الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا علي بن نجيح القطان، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن يوسف بن خالد، عن أوس بن خالد، عن أم أوس البهزية [ (1) ] ، قالت:] .
[سليت سمنا لي، فجعلته في عكّة، وأهديته للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقبله وترك في العكة قليلا، ونفخ فيه ودعا بالبركة ثم قال: ردّوا عليها عكتها، فردوها عليها وهي مملوءة سمنا، فظننت أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يقبلها، فجاءت ولها صراخ، قالت: يا رسول اللَّه! إنما سليته لك لتأكله، فعلم صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قد استجيب له.
فقال: اذهبوا فقولوا لها: فتأكل سمنها، وتدعو بالبركة،
فأكلت بقية عمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وولاية أبي بكر- رضي اللَّه تعالى عنه- وولاية عمر- رضي اللَّه تعالى عنه- وولاية عثمان- رضي اللَّه تعالى عنه، حتى كان من أمر علي- رضي اللَّه تعالى عنه- ومعاوية ما كان] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] هي أم أوس البهزية، روى أوس بن خالد حديثها من أعلام النبوة، وأخرج الطبراني وابن مندة من طريق عصمة بن سليمان، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرّمّاني، عن أوس بن خالد البهزي، عن أم أوس بن خالد البهزية، أنها أسلت سمنا لها، فجعلته في عكة، ثم أهدته إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ...
(الإصابة) : 8/ 168- 169، ترجمة رقم (11895) ، (الاستيعاب) : 4/ 1925، ترجمة رقم (4122) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 115، (الخصائص الكبرى) : 2/ 54، وعزاه للطبراني والبيهقي، (البداية والنهاية) : 6/ 113- 114، نقلا عن البيهقي.

(5/230)


[تاسع وستون: أكل أهل الخندق من حفنة تمر]
[قال الواقدي: حدثني عمر بن عبد اللَّه بن رياح الأنصاري، عن القاسم ابن عبد الرحمن بن رافع- من بني عديّ بن النجار- قال: كان المسلمون قد أصابتهم مجاعة شديدة، فكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدورا عليه، فأرسلت عمرة بنت رواحة ابنتها بجفنة تمر عجوة في ثوبها، فقالت: يا بنية اذهبي إلى أبيك بشير ابن سعد، وخالك عبد اللَّه بن رواحة بغدائهما.
فانطلقت الجارية حتى تأتي الخندق، فتجد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالسا في أصحابه وهي تلتمسهما، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: بعثتني أمي إلى أبي وخالي بغدائهما. فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هاتيه! قالت: فأعطيته، فأخذه في كفيه، ثم أمر بثوب فبسط له، وجاء بالتمر فنشره عليه فوق الثوب، فقال لجعال ابن سراقة: ناد بأهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه يأكلون منه، حتى صدر أهل الخندق، وإنه ليفيض من أطراف الثوب] [ (1) ] .
[وحدثني شعيب، عن عبد اللَّه بن معتب، قال: أرسلت أمّ عامر الأشهلية بقعبة فيها حيس [ (2) ] إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو في قبته وهو عند أم سلمة، فأكلت أمّ سلمة حاجتها، ثم خرج بالبقية، فنادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا، وهي كما هي] [ (3) ] .
[قال أبو نعيم: حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أحمد ابن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، أنه حدّث أن ابنة لبشير بن سعد، أخت النعمان بن بشير قالت:]
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 276.
[ (2) ] الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط، فيعجن شديدا، ثم يندر منه نواه، وربما جعل فيه سويق. (القاموس المحيط) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 476- 477.

(5/231)


[دعتني عمرة بنت رواحة [زوج بشير بن سعد] ، فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: يا بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبد اللَّه بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها فانطلقت بها، فمررت برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ فقلت: يا رسول اللَّه، هذا تمر، بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبد اللَّه بن رواحة يتغديان به.
قال: هاتيه، فصببته في كفّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسط، ثم دحا التمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق هلمّ إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب [ (1) ] .
[قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق، قال: حدثنا سعيد بن مينا، عن ابنة بشير بن سعد، قالت: بعثتني أمي بتمر في طرف ثوبي إلى أبي وخالي وهم يحفرون الخندق، فمررت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فناداني فأتيته، فأخذ التمر مني في كفيه، وبسط ثوبا فنثره عليه، فتساقط في جوانبه، ثم أمر بأهل الخندق، فاجتمعوا، وأكلوا منه حتى صدروا عنه] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 499- 500، حديث رقم (431) ، (سيرة ابن هشام) : 4/ 174، فصل ما تحقق من البركة في تمر ابنة بشير، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 3/ 427، (البداية والنهاية) : 4/ 113- 114، نقلا عن البيهقي، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) .

(5/232)


[سبعون: شهادة الذئب له صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة]
[قال أبو نعيم: حدثنا فاروق الخطابي، قال: حدثنا عباس، قال: حدثنا هشام بن علي السيرافي، قال: حدثنا هريم بن عثمان، وأبو عمر الحوضيّ، وهدب ابن خالد، وحدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا عباس الأسفاطي، قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قالوا: حدثنا القاسم بن الفضل الحداني، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ، قال] :
بينما راع يرعى بالحرّة، إذ انتهز الذئب شاة فتبعه الراعي، فحال بينه وبينها، فأقبل الذئب على الراعي فقال: يا راعي، ألا تتقي اللَّه؟ تحول بيني وبين رزق ساقه اللَّه إليّ؟ فقال الراعي: العجب من ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بما هو أعجب من هذا؟
هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين الحرّتين يدعو الناس إلى أنباء ما قد سبق، فساق الراعي شاءه حتى أتى إلى المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها،
ثم دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره بما قال الذئب، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صدق الراعي، ألا إنه من أشراط الساعة كلام السباع الإنس، والّذي نفسي بيده، لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل شراك نعله، ويحدثه سوطه، ويخبره بما أحدث أهله بعده] [ (1) ] .
[وقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الأشعث بن عبد اللَّه، عن شهر بن حوشب، عن
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 373- 374، الفصل الثامن عشر في ذكر الأخبار من شكوى البهائم والسباع، وسجودها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما حفظ من عهده من كلامها حديث رقم (270) ، (مسند أحمد) : 3/ 504، حديث رقم (11383) ، (المستدرك) : 4/ 514، حديث رقم (8442/ 150) ، (8444/ 152) وقال الذهبي في (التخليص) : «كلاهما» على شرط مسلم.

(5/233)


أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال:] [جاء ذئب إلى غنم فأخذ منها شاة، فطلبها الراعي حتى انتزعها من فيه، فصعد الذئب على تلّ فأقعى، ثم قال: عمدت إلى رزق رزقنيه اللَّه فأخذته مني، فقال الرجل: واللَّه ما رأيت مثل اليوم قط، ذئب يتكلم! فقال [الذئب] : أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبر بما مضى، وبما هو كائن بعدكم، فأتى الرجل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره وأسلم، فصدقه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إنها أمارة من أمارات ما بين يدي الساعة، قد يوشك أن يخرج الرجل فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 374، حديث رقم (271) ، (الخصائص الكبرى) : 2/ 267، (الإحسان) : 14/ 418- 419، حديث رقم (6494) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 42- 43، من طرق كلها عن أبي سعيد الخدريّ، (تحفة الأحوذي) : 6/ 340- 341، أبواب الفتن، باب (17) ما جاء في كلام السباع، حديث رقم (2272) ، ولم يذكر فيه قصة الذئب، وقال في آخره: وهذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل، والقاسم بن الفضل ثقة مأمون عند أهل الحديث، وثّقه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، (دلائل البيهقي) : 6/ 41- 43، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) واستدركناه من كتب السيرة.

(5/234)


[حادي وسبعون: مجيء الذئب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما مجيء الذئب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج أبو نعيم والبيهقي من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري، عن محمد بن خالد الأنصاري، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار إلى البقيع، فإذا الذئب مفترش ذراعيه على الطريق، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا أويس يستفرض فأفرضوا له، قالوا: رأيك يا رسول اللَّه، قال: من كل سائمة شاة في كل عام، قالوا: كثير، فأشار إليه أن خالسهم، فانطلق الذئب [ (1) ] .
ولأبي نعيم من حديث محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان، أخبرنا الأعمش عن شمر بن عطية، عن رجل من مزينة أو جهينة قال: أتت وفود الذئاب قريبا من مائة ذئب حين صلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الفجر فأقعين فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه وفود الذئاب جئنكم يسألنكم لتفرضوا لهن من قوت طعامكم وتأمنوا على ما سوى ذلك، فشكوا إليه الحاجة، قال: فأدبروهم، قال: فخرجن ولهن عواء [ (2) ] .
وله من طريق الواقدي، عن رجل سماه، عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب قال: بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس بالمدينة في أصحابه، إذ أقبل ذئب فوقف بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يعوي بين يديه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه [واحترزتم] منه، فما أخذ فهو رزقه، فقالوا: يا رسول اللَّه، ما تطيب أنفسنا له بشيء، [فأومأ] إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصابعه الثلاث، أن خالسهم، فولّى وله عسلان [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 40، باب ما جاء في مجيء الذئب مجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يطلب شيئا، (البداية والنهاية) : 6/ 161، باب حديث آخر عن أبي هريرة في الذئب، ونقله ابن كثير عن البيهقي.
[ (2) ] (البداية والنهاية) : 6/ 161- 162، عن الواقدي.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 161- 162، وقال فيه: «وله عواء» . بدلا من «عسلان» ، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 374- 375، حديث رقم (272) ، (سنن الدارميّ) : 1/ 12 باب ما أكرم اللَّه به نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم من إيمان الشجر به والبهائم والجن، (طبقات ابن سعد) : 1/ 359، باب وفد السباع، من حديث محمد بن عمر الواقدي. والعسلان: الاضطراب.

(5/235)


قال الواقدي: وحدثني داود بن خالد، عن يعقوب بن عنبة، عن سليمان ابن يسار قال: أشرف النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الحرة، فإذا الذئب واقف بين يديه، فقال:
هذا أويس يسأل من كل سائمة شاة، قالوا: يا رسول اللَّه! ما تطيب له أنفسنا بشيء، [فأومأ] إليه بأصابعه فولى [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة عن عبد الملك ابن عمير عن الحارثي، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: إني لست أنا أصلى في نعلي، ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم صلى في نعليه، إني لست أنا الّذي أنهي [عن صيام] يوم الجمعة ولكن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نهى، قال: وجاء ذئب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم واقفا غير بعيد، ثم جعل كأنه يطلب شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا ليريد شيئا، فقال رجل: لا نجعل له يا رسول اللَّه نصيبا في أموالنا، فأخذ حجرا فرماه به، فانطلق الذئب يسعى وهو يعوى، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الذئب وما الذئب [ (2) ] .
قال البيهقي: الحارثي هذا هو أبو الأدبر، اسمه زياد. وخرجه أيضا من حديث عبد الملك بن عمير، عن أبي الأدبر الحارثي، عن أبي هريرة قال: أتاه رجل فقال:
يا أبا هريرة! أنت الّذي نهيت الناس ... فذكر الحديث.
قال: وجاء الذئب ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جالس، فأقعى بين يديه، ثم جعل يبصبص بذنبه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذا وافد الذئاب جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئا، قالوا: لا واللَّه لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرا فرماه به، فأدبر الذئب وله عواء، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الذئب وما الذئب [ (3) ] .
قال أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن رجل من بني الحرث بن كعب يقال له: أبو الأدبر، قال: كنت قاعدا عند أبي هريرة ... ، فذكر قصة ثم أنشأ يحدث قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما جالسا،
__________
[ (1) ] نحوه مختصرا في (دلائل البيهقي) : 6/ 40.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 39، باب ما جاء في مجيء الذئب مجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يطلب شيئا.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 49- 40.

(5/236)


وجاء ونحن عنده إذا جاءه الذئب حتى أقعى بين يديه، ثم بصبص بذنبه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم هذا الذئب وهذا وافد الذئاب، فما ترون؟ أتجعلون له في أموالكم شيئا؟ فقال الراعي: لا واللَّه يا رسول اللَّه، لا نجعل له من أموالنا شيئا، فقام إليه رجل من الناس فرماه بحجر، فأدبر وله عواء، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: الذئب وما الذئب ثلاث مرات [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 40، (البداية والنهاية) : 6/ 161، باب حديث آخر عن أبي هريرة في الذئب، نقلا عن المرجع السابق.
قال القسطلاني في (المواهب اللدنية) في باب معجزات كلام الحيوانات: ومنها قصة كلام الذئب، وشهادته له بالرسالة، ثم قال: اعلم أنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب في عدة طرق من حديث أبي هريرة، وأنس، وابن عمر، وأبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنهم.
فأما حديث أبي سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وأما حديث ابن عمر، فأخرجه أبو سعيد الماليني والبيهقي، وأما حديث أنس، فأخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ، وأما حديث أبي هريرة، فرواه سعيد بن منصور في سننه، ورواه البغوي في (شرح السنة) ، وأحمد وأبو نعيم بسند صحيح عن أبي هريرة أيضا، قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منه شاة ... الحديث، (المواهب اللدنية) :
2/ 552.
وقال القاضي عياض: وفي بعض الطرق عن أبي هريرة: فقال الذئب: أنت أعجب مني، واقفا على غنمك، وتركت نبيا لم يبعث اللَّه قط أعظم منه عنده قدرا، وقد فتحت له أبواب الجنة، وأشرف أهلها على أصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب، فتصير من جنود اللَّه. قال الراعي:
من لي بغنمي؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، وذكر قصته وإسلامه ووجوده النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقاتل،
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: عد إلى غنمك تجدها بوفرها، فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها.
وقد روى ابن وهب مثل هذا، أنه جرى لأبي سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، مع ذئب وجداه أخذ ظبيا، فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجبا من ذلك، فقال الذئب: أعجب من ذلك: محمد بن عبد اللَّه بالمدينة! يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار، فقال أبو سفيان: واللات والعزى، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنها خلوفا. (المواهب اللدنية) : 2/ 552- 553، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 204- 205، فصل في الآيات في ضروب الحيوانات، خلوفا- بضم الخاء المعجمة- أي فاسدة متغيرة، بمعنى الفساد والتغير في أهلها.

(5/237)


[ثاني وسبعون: كلام الظبية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما كلام الظبية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فخرج أبو نعيم من حديث زكريا بن خلاد قال: أخبرنا حبان بن أغلب بن تميم السعدي قال: حدثني أبي عن هشام بن حبان، عن الحسين عن ضبة بن المحصن، عن أم سلمة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: بينما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في صحراء، إذا هاتف يهتف به: يا رسول اللَّه! فاتبعت الصوت فهجمت عليّ ظبية مشدودة في وثاق، وإذا أعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس، فقالت الظبية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا الأعرابي صادني قبيل، ولي خشفان في هذا الجبل، فإن رأيت أن تطلقني حتى أرضعهما ثم أعود إلى وثاقي! قال: وتفعلين؟ قالت:
عذبني اللَّه عذاب العشّار إن لم أفعل.
فأطلقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمضت وأرضعت الحشفين، قال: فبينما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوثقها إذ انتبه الأعرابي فقال: يأبى أنت وأمي، إني أصبتها قبيلا فلك فيها حاجة؟ قلت: نعم، قال: هي لك، وأطلقها فخرجت تعدو في الصحراء فرحا وهي تضرب برجلها الأرض وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه. قال أبو نعيم: رواه آدم بن أبي إياس، عن نوح بن الهيثم- ختنه- قال:
حدثني ختني الصدوق نوح بن الهيثم، عن حبان بن أغلب، عن أبيه، ولم يجاوز به هشاما [ (1) ] .
وخرج أبو نعيم والبيهقي من حديث أبي حفص عمرو بن على الفلاس قال:
أخبرنا [ (2) ] يعلى بن إبراهيم الغزال، أخبرنا [ (2) ] الهيثم بن حماد، عن أبي كثير، عن زيد ابن أرقم رضي اللَّه عنه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض سكك المدينة،
__________
[ (1) ] (البداية والنهاية) : 6/ 163، باب حديث الغزالة. والعشّار: هو صاحب المكس، الّذي يقف في مداخل المدن، فلا يدع أحدا من التجار ونحوهم يدخلها، إلا أخذ منه شيئا ليس له به حق.
[ (2) ] (في دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .

(5/238)


فمررنا بخباء أعرابي فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء فقالت: يا رسول اللَّه! إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان [ (1) ] في البرية، وقد انعقد هذا اللبن في أخلافي [ (2) ] ، فلا هو يذبحني فأستريح ولا يدعني فأرجع إلى خشفيّ [ (1) ] في البرية، فقال لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن تركتك ترجعين؟ قالت: نعم، وإلا عذبني اللَّه بعذاب العشّار.
فأطلقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يلبث أن جاءت تلمّظ [ (3) ] ، فشدها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الخباء، فأقبل الأعرابي ومعه قربة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتبيعنيها؟
قال: هي لك يا رسول اللَّه، فأطلقها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال زيد بن أرقم: فأنا واللَّه رأيتها تسبح في الأرض وهي تقول: [أشهد أن] [ (4) ] لا إله إلا اللَّه [وأن] [ (4) ] محمدا رسول اللَّه [ (5) ] .
ولأبي نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا إبراهيم بن محمد [محمود] [ (1) ] بن ميمون، أخبرنا [ (6) ] عبد الكريم بن هلال الجعفي، عن صالح المري، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: مر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] الخشف: ولد الظبي أول ما يولد.
[ (2) ] أخلاف: مفردها خلف بكسر الخاء، وهو حلمة الثدي.
[ (3) ] لمّظ: أخرج لسانه بعد الأكل أو الشرب فمسح به شفتيه.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) ، وفي (البيهقي) بدون هذه الزيادة.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 273، فصل في ذكر الظبي والضب، حديث رقم 273، (دلائل البيهقي) : 6/ 34- 35، باب ما جاء في كلام الظبية التي فجعت بخشفها، وشهادتها لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة، (البداية والنهاية) : 6/ 163- 165، باب حديث الغزالة، وقد نقله عن أبي نعيم والبيهقي، وذكر له طرق أخرى، والسيوطي في (الخصائص) عن أنس بن مالك، وعن أم سلمة، وغيرهما. وقال الذهبي: يعلى بن إبراهيم الغزال: لا أعرفه، له خبر باطل، عن شيخ واه، أخبرنا تسعة عشر، أخبرنا ابن عبد الدائم، أخبرنا يحيى حضورا، أخبرنا الحداد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو على الصواف من أصله، أخبر بسر بن موسى، حدثنا عمر بن على الفلاس، حدثنا يعلى بن إبراهيم، حدثنا الهيثم بن حماد عن أبي كثير، عن زيد بن أرقم، قال: كنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمرّ بخباء، فإذا ظبية مشدودة ... الحديث. (ميزان الاعتدال) : 4/ 456، ترجمة يعلى بن إبراهيم الغزال رقم (9844) وقد أخرجه أيضا القاضي عياض في (الشفا) من حديث أم سلمة، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 207.
قال ابن كثير: وفي بعضه نكارة واللَّه أعلم. (البداية والنهاية) : 6/ 164.
[ (6) ] في (دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .

(5/239)


على قوم قد اصطادوا ظبية، فشدوها على عمود فسطاط، فقالت: يا رسول اللَّه! إني أخذت ولي خشفان، فاستأذن لي أرضعهما وأعود، فقال: أين صاحب هذه؟
قال القوم: نحن يا رسول اللَّه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: خلوا عنها حتى [تأتي] [ (1) ] خشفيها ترضعهما وترجع إليكم، قالوا: ومن لنا بذلك [يا رسول اللَّه] [ (1) ] ؟ قال: أنا، فأطلقوها، فذهبت فأرضعت ثم رجعت إليهم فأوثقوها، فمر بهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال:
أين صاحب هذه؟ قالوا: هو ذا يا رسول اللَّه، قال تبيعونها؟ قالوا: يا رسول اللَّه هي لك، قال خلوا عنها، فأطلقوها فذهبت [ (2) ] .
وللبيهقي من حديث أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاريّ قال: حدثنا على ابن قادم، حدثنا أبو العلاء خالد بن طهمان، عن عطية، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بظبية مربوطة إلى خباء، فقالت يا رسول اللَّه! حلّني حتى أذهب فأرضع خشفيّ، ثم أرجع فتربطني، فقال رسول
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 376، فصل في ذكر الضب والظبي، حديث رقم 274.
وصالح المري هو: صالح بن بشير بن وادع بن أبي الأقعس، أبو بشر البصري القاصّ، المعروف بالمري- بضم الميم وتشديد الراء- قال عباس عن ابن معين: ليس به بأس. وقال المفضل الغلابي وغيره عن ابن معين: ضعيف. وقال محمد بن إسحاق الصغاني وغيره عن ابن معين: ليس بشيء.
وقال جعفر الطيالسي، عن يحيى: كان قاصّا، وكان كل حديث يحدث به عن ثابت باطلا.
وقال عبد اللَّه بن علي المديني: ضعفه أبي جدا. وقال محمد بن عثمان بن أبي ثابت، عن علي: ليس بشيء، ضعيف، ضعيف. وقال عمرو بن علي: ضعيف الحديث، يحدث بأحاديث مناكير عن قوم ثقات، وكان رجلا صالحا، وكان يتهم في الحديث. وقال الجوزجاني: كان قاصا واهي الحديث.
وقال البخاري منكر الحديث.
وقال أبو إسحاق الحربي: إذا أرسل فبالحرىّ أن يصيب، وإذا أسند فاحذروه. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم. وقال عفان: كنا عند ابن علية، فذكر المريّ فقال: رجل ليس بثقة، فقال له آخر: مه! اغتبت الرجل، فقال ابن علية: اسكتوا، فإنما هذا دين.
وقال الدار الدّارقطنيّ: ضعيف. له ترجمة في: (الضعفاء والمتروكين) : 2/ 46، ترجمة رقم (1653) ، (المغني في الضعفاء) : 1/ 302، ترجمة رقم (2817) ، (الضعفاء الكبير) : 2/ 199، ترجمة رقم (723) ، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 4/ 60، ترجمة رقم (5/ 912) ، (المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين) : 1/ 371- 372، (التاريخ الكبير للبخاريّ) :
4/ 273 ترجمة (2782) ، (الجرح والتعديل) : 4/ 395- 396، ترجمة رقم (1730) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 334- 335، ترجمة رقم (651) .

(5/240)


اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: صيد قوم وربيطة قوم، قال: فأخذ عليها فحلفت له، فحلها.
فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها، فربطها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له، فحلها، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا [ (1) ] .
[وروى من وجه آخر ضعيف] [ (2) ] .
وروى ابن شاهين من حديث يحيى بن حبيب بن عديّ قال: حدثنا حماد بن زيد عن منصور بن طاووس عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: مرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم في بعض شأنه، فإذا هو بظبية في رحال قوم، فنادته: يا رسول اللَّه! فوقف وقال: ما شأنك؟ قالت: يا رسول اللَّه إن لي خشفين وهما جياع فأطلقني لأنطلق فأرويهما وأرجع فتشدني، فقال: رحال قوم وربيطة قوم، وأراد أن يولى فنادته ثانيا: يا رسول اللَّه! لي خشفان وهما جياع فحلني أنطلق فأرويهما وارجع إليك فتشدني ثانيا، فقال: أتفعلين؟ قالت: نعم وإلا يعذبني اللَّه عذاب العشار.
فحلها وجلس مكانه، فما لبثت أن رجعت وضرعها فارغ من اللبن، فرق لها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فاستوهبها من الرجل فوهبها له، فأطلقها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «ما أكلتم سمينها أبدا» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين من (المرجع السابق) ، والحديث أخرجه البيهقي في (دلائل النبوة) : 6/ 34، ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 164، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 61 عن البيهقي أيضا.
[ (3) ] لم أجده فيما بين يدي من كتب السيرة بهذه الألفاظ أو السياقة.
قال على القاري في (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) : حديث تسليم الغزالة: اشتهر على الألسنة، وفي المدائح النبويّة. قال ابن كثير: وليس له أصل، ومن نسبه إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقد كذب، وقال في هامشه: وقال ابن حجر في (فتح الباري) : وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسنادا، لا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف.
وقال السخاوي في (المقاصد الحسنة) بعد نقله كلام الحافظ ابن كثير، وإقراره له: ولكن قد ورد الكلام- يعني: ورد تكليم الغزالة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لا تسليمها- في الجملة في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض أوردها شيخنا- الحافظ بن حجر- في المجلس الحادي والستين من (تخريج أحاديث المختصر) ، ويعني (مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه) .

(5/241)


وقد روى أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لقي في سفره قانصا قد صاد ظبية، فقال: ما اسمك؟
قال: عبد هبل، فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال الأعرابي: أنت الّذي جئت بالسّحر؟
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: أرأيت إن آمنت جيداؤك هذه أتؤمن؟ قال: نعم، وإلا فلا.
فأمر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بيده المباركة عليها وقال: أيتها الجيداء الغيداء! من أنا؟
قالت: أنت رسول اللَّه وأنا ظبية ذات غيداء، أفزعني هذا الأعرابي فقصدت عسكرك عائذة بك، فأدركني فمره يطلقني أحدث بخشفيّ عهدا، وله عليّ أن أرجع إليه، فقال الأعرابي: أتكلمك ظبية وأعاندك؟ فأسلّم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
هبّ يستحكم إيمانك فيما شيئا، ومضت الظبية فلاذ بها خشفان، وأخبرتهما بما كان، فبكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [وقال] : لولا أن أحرم ما أحل اللَّه لحرمت قنص ظباء هذا الموضع [ (1) ] .
__________
[ () ] قال محقق (الموضوعات الصغرى) : هي أحاديث ضعيفة واهية، لا يصح الاعتماد عليها في إثبات ما هو خرق للعادة، وإذا كانت لتعدد طرقها لا يحكم الحديثيّ عليها بالوضع، فإن إثبات مضمونها لا يقبل ولا يثبت إلا بالحديث الصحيح الرجيح، ولدى النظر في أسانيدها، يتبين أنها لا تخلو من مطاعن شديدة مردية، فلا تغفل. وبالنظر في متونها يتبدى تعارض شديد فيما بينها، وفي الجمع بينها تعسّف ظاهر، كما أشار إليه العلامة الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية) .
ويبعد أن يكون الحافظ ابن كثير أراد بكلامه المذكور أن هذا المعنى- تسليم الغزالة أو تكليمها- لا أصل له. كما فهمه المؤلف عليّ القاري رحمه اللَّه تعالى في شرحه على (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضي عياض: 1/ 639، واللَّه تعالى أعلم. (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) :
80، حديث تسليم الغزالة رقم (91) .
[ (1) ] انظر الهامش السابق ص (241) .

(5/242)


[ثالث وسبعون: شهادة الضّبّ برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما شهادة الضّبّ برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج أبو نعيم من حديث أبي بكر بن أبي عاصم قال: أخبرنا يحيى بن خلف، أخبرنا معمر قال: سمعت كهمس يحدث عن داود بن أبي هند، عن عامر قال: صحبت ابن عمر سنتين فما سمعته يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا حديث الضّبّ، وكان إذا حدثنا يحدثنا عن عمر، ولم يكن يحدث إلا عن فقه، قال أبو نعيم: كذا رواه يحيى بن خلف عن معتمر مختصرا، وطوله محمد بن عبد الأعلى.
وخرج من حديث محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا معتمر بن سليمان، حدثنا كهمس بن الحسن، أخبرنا داود بن أبي هند، قال: حدثنا عامر الشعبي قال: حدثنا عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه بحديث الضب، قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان في محفل من أصحابه، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد أصاب ضبا وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله فيأكله، فقال على من هذه الجماعة؟ قالوا: على هذا الّذي يزعم أنه نبيّ، فشقّ الناس ثم أقبل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا محمد، ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك ولا أبغض إليّ منك، ولولا أن تسميني عجولا لعجلت عليك فقتلتك فسررت بقتلك الناس جميعا! فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه، دعني أقتله، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا عمر لو علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا.
ثم أقبل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: واللات والعزى لا آمنت بك، قال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولم يا أعرابي؟ ما حملك على الّذي قلت ما قلت؟ وقلت غير الحق ولم تكرم مجلسي؟ فقال: وتكلمني أيضا- استخفافا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم-، واللات والعزى لا آمنت بك إلا أن يؤمن بك هذا الضّبّ- فأخرج الضب من كمه فطرحه بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: إن آمن بك هذا الضّبّ آمنت.

(5/243)


فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا ضب، فتكلم الضب بلسان عربي مبين يفهمه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين! فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ومن تعبد يا ضبّ؟ قال: اللَّه الّذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه.
قال: فمن أنا يا ضبّ؟ قال: أنت رسول رب العالمين، وخاتم المرسلين، قد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه حقا، واللَّه لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض إليّ منك، [و] واللَّه لأنت الساعة أحب إليّ من نفسي ومن ولدي، وقد آمنت بشعري وبشري، وداخلي وخارجي، وسرّي وعلانيتي.
فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: الحمد للَّه الّذي هداك إلى هذا الدين، الّذي يعلو ولا يعلى، لا يقبله اللَّه إلا بالصلاة، ولا تقبل الصلاة إلا بالقرآن، فعلمه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الحمد، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فقال: يا رسول اللَّه! ما سمعت في البسيط ولا في الرّجز أحسن من هذا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، فإذا قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فكأنما قرأت ثلث القرآن، وإذا قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرتين، فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإذا قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مرات فكأنما قرأت القرآن كله.
فقال الأعرابي: نعم الإله إلهنا، يقبل اليسير ويعطي الجزيل، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أعطوا الأعرابي، فأعطوه حتى أبطروه.
فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أعطيه ناقة أتقرب بها إلى اللَّه عز وجل، دون البختي [ (1) ] وفوق العربيّ، وهي عشراء تلحق ولا تلحق أهديت لي.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: قد وصفت ما تعطي، أفأصف لك ما يعطيك اللَّه عزّ وجل جزاء؟ قال: نعم، فقال: لك ناقة من درة جوفاء، قوائمها من الزبرجد
__________
[ (1) ] البختيّ: جمعها بخاتي: وهي الإبل الخراسانية، وفي رواية البيهقي: وفوق الأعرى.

(5/244)


الأخضر، عليها الهودج من السندس والإستبرق، وتمرّ بك على الصراط كالبرق الخاطف.
فخرج الأعرابي من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فلقيه ألف أعرابي على ألف دابة، بألف رمح وألف سيف، فقال لهم: أين تريدون، فقالوا: نقاتل هذا الّذي يكذب ويزعم أنه نبيّ، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فقالوا: صبوت؟ قال: ما صبوت، وحدثهم الحديث، فقالوا بأجمعهم: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه.
فبلغ ذلك النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فتلقاهم، فنزلوا عن ركبهم يقبلون ما ولوا منه [ (1) ] وهم يقولون: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، قالوا: مرنا بأمر تحب يا رسول اللَّه، قال: تكونون تحت راية خالد بن الوليد، قال: فليس أحد من العرب آمن منهم ألف رجل إلا من بني سليم [ (2) ] .
قال كاتبه: إن الوضع بين على هذا الحديث. قال البيهقي: وروى ذلك في حديث عائشة وأبي هريرة، وما ذكرناه هو أمثل الإسناد فيه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «منهم» وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 376- 379، حديث رقم (275) (دلائل البيهقي) : 6/ 36- 38، باب ما جاء في شهادة الضب لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة، وما ظهر في ذلك من دلالات النبوة، وقال البيهقي: قد أخرجه شيخنا أبو عبد اللَّه الحافظ في (المعجزات) ، بالإجازة عن أبي أحمد بن عدي الحافظ، فقال: كتب إليّ أبو عبد اللَّه بن عدي الحافظ يذكر أن محمد بن علي بن الوليد السّلمى حدثهم، فذكره وزاد في آخره: قال أبو أحمد: أنبأنا محمد بن علي السلمي، كان ابن عبد الأعلى يحدث بهذا مقطوعا، وحدثنا بطوله من أصل كتابه مع رعيف الوراق. (دلائل البيهقي) : 6/ 38.
[ (3) ] المرجع السابق، وقال الذهبي: محمد بن علي بن الوليد السلميّ البصري، عن العدني محمد بن أبي عمر، عن محمد بن عبد الأعلى، وعنه الطبراني، وابن عبدي، روى أبو بكر البيهقي حديث الضب من طريقه بإسناد ضعيف، ثم قال البيهقي: الحمل فيه على السّلميّ هذا، قلت: صدق واللَّه البيهقي، فإنه خبر باطل. (ميزان الاعتدال) : 3/ 651، ترجمة محمد بن عليّ بن الوليد السلميّ، رقم (7964) .
وقال عليّ القاري: حديث الضبّ وشهادته له عليه الصلاة والسلام، قيل: إنه موضوع، وقال المزيّ: لا يصح إسنادا ولا متنا، لكن رواه البيهقي بسند ضعيف، وذكره القاضي عياض في (الشفا) ، فغايته الضعف لا الوضع، (الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) : 238،

(5/245)


وروى عثمان بن أبي شيبة، من حديث ابن نمير عن مجالد عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: خرج أعرابي من بني سليم يبتدأ في البرية، فإذا هو بضب فاصطاده، ثم جعله في كمه، وجاء إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فناداه: يا محمد! أنت الساحر؟ لولا أني أخاف أن قومي يسموني العجول لضربتك بسيفي هذا، فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ليبطش به، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اجلس يا أبا حفص، فقد كاد الحليم أن يكون نبيا، ثم التفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الأعرابي وقال له: أسلّم تسلّم من النار، فقال: واللات والعزى لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب، ثم رمى الضب عن كمه، فولى الضب هاربا، فناداه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيها الضب! أقبل، فأقبل، فقال له: من أنا؟ قال: أنت محمد بن عبد اللَّه، ثم أنشأ الضب يقول:
ألا يا رسول اللَّه إنك صادق ... فبوركت مهديا وبوركت هاديا
شرعت لنا دين الحنيفة بعد ما ... عبدنا كأمثال الحمير الطواغيا
فيا خير مدعو ويا خير مرسل ... إلى الجن ثم الإنس لبيك داعيا
أتيت ببرهان من اللَّه واضح ... فأصبحت فينا صادق القول واعيا
فبوركت في الأحوال حيا وميتا ... وبوركت مولودا وبوركت ناشيا
ثم سكت الضب، فقال الأعرابي: وا عجبا! ضبا اصطدته من البرّ، ثم أتيت [به في] كمي، يكلم محمدا هذا الكلام، ويشهد له بهذه الشهادة، أنا لا أطلب أثرا بعد عين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلّم وحسن إسلامه، ثم التفت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أصحابه فقال: ألا علّموا الأعرابي سورا من القرآن [ (1) ] .
__________
[ () ] حديث رقم (272) ، (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) : 1/ 204، فصل في الآيات في ضروب الحيوانات.
وذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 165- 166، وترجم عليه: حديث الضب على ما فيه من النكارة والغرابة!!، نقلا عن البيهقي.
[ (1) ] لم أجد هذا الخبر بهذه السياقة فيما بين يدي من كتب السيرة.

(5/246)


[رابع وسبعون: سجود الغنم له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما سجود الغنم له،
فخرج أبو نعيم من حديث جعفر بن محمد [الفريابي] [ (1) ] قال: أخبرنا [ (2) ] إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثنا عباد بن يوسف الكندي، أخبرنا [ (2) ] أبو جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: دخل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حائطا للأنصار، ومعه أبو بكر وعمر- رضي اللَّه عنهما- في رجال من الأنصار، وفي الحائط غنم فسجدن له، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه [يا رسول اللَّه كنا] [ (1) ] نحن أحق بالسجود لك من هذه الغنم، فقال: إنه لا ينبغي من أمتي أن يسجد أحد لأحد، لو كان ينبغي أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] في (دلائل البيهقي) : «حدثنا» .
[ (3) ] انفرد به أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 379، حديث رقم (276) ، وعنه نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 158، وقال: غريب، وفي إسناده من لا يعرف. وذكره بمعناه من حديث أنس بن مالك، القاضي عياض في (الشفا) : 1/ 206، وعنه نقله القسطلاني في (المواهب اللدنية) : 2/ 551.

(5/247)


[خامس وسبعون: سكون الوحش إجلالا له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما الوحش الّذي أحسّ بالمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج أبو نعيم من حديث الحسن ابن سفيان، أخبرنا [ (1) ] هشام بن عمارة، حدثنا عيسى بن يونس عن أبيه، أنه حدثه عن مجاهد عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان لآل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحش، فإذا خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قفز ولعب، فإذا أحسّ برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض [ (2) ] .
وخرجه البيهقي من حديث أبي نعيم قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان لأهل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحش، فإذا خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أقبل وأدبر، وإذا أحس برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض فلم يترمرم [ (3) ] .
ومن حديث محمد بن فضيل عن يونس، عن مجاهد عن عائشة قالت: كان لآل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وحش، فإذا خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعب وذهب وجاء، فإذا جاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض فلم يترمرم ما دام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في البيت [ (3) ] .
قال أبو نعيم: رواه ابن فضيل وعمر بن الهيثم في آخرين، عن يونس عن مجاهد، وذكره أيضا من حديث المعافي بن عمران، وأبي أحمد الزبير عن يونس عن مجاهد.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 380، حديث رقم (277) ، ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 162، وترجم عليه: قصة الوحش الّذي كان في بيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان يحترمه صلّى اللَّه عليه وسلّم ويوقره ويجله، وقال في آخره: وهذا الإسناد على شرط الصحيح ولم يخرجوه، وهو حديث مشهور واللَّه أعلم، وأخرجه أيضا الإمام أحمد في (المسند) : 7/ 163، حديث رقم (24297) ، 7/ 215، حديث رقم (24643) .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 31، باب ذكر الوحش الّذي كان يقبل ويدبر فإذا أحس برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ربض فلم يترمرم. أي سكن ولم يتحرك، وقال في حاشيته: أخرجه الإمام أحمد في (مسندة) ورواه الهيثمي في (مجمع الزوائد) وعزاه لأحمد، وأبي يعلي والبزار، والطبراني في (الأوسط) ، وذكره السيوطي في (الخصائص) عن البيهقي، وأبي نعيم، وأحمد- وأبي يعلي، والبزار، والدار الدّارقطنيّ، وابن عساكر.

(5/248)


[سادس وسبعون: سجود البعير وشكواه للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما سجود البعير وشكواه ما به للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج أحمد من حديث عفان، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي اللَّه عنها، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان في نفر من المهاجرين والأنصار، فجاء بعير فسجد له، فقال أصحابه: يا رسول اللَّه! تسجد لك البهائم والشجر، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم، ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أمرها أن تنتقل من جبل أصفر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أبيض كان ينبغي لها أن تفعله [ (1) ] .
وعن ابن ماجة بعضه بغير هذا السياق [ (2) ] . وخرج مسلم في المناقب من حديث مهدي بن ميمون قال: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن أبي يعقوب، عن الحسن ابن سعد- مولى الحسن بن علي- عن عبد اللَّه بن جعفر رضي اللَّه عنهما قال:
أردفني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذات يوم خلفه، فاسرّ إليّ حديثا لا أحدّث به أحدا من الناس، هكذا ذكره مسلم في المناقب، وذكره في الطهارة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مسند أحمد) : 7/ 111- 112، حديث رقم (23950) ، وسنده في (المسند) : حدثنا عبد اللَّه، حدثني أبي، حدثنا عبد الصمد وعفان، قالا: حدثنا حماد قال عفان: أنبأنا المعنى عن علي بن زيد، عن سعيد. عن عائشة.
[ (2) ] لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد ... قال في (الزوائد) : في إسناده علي بن زيد وهو ضعيف، لكن للحديث طرق أخر. وله شاهدان من حديث طلق بن علي، رواه الترمذي والنسائي، ومن حديث أم سلمة، رواه الترمذي وابن ماجة وفي ابن ماجة: «لكان نولها أن تفعل» أي حقها والّذي ينبغي لها.
والحديث في (صحيح ابن ماجة) : 1/ 311، كتاب النكاح، باب (4) حق الزوج على المرأة، حديث رقم (1502- 1852) ، قال الألباني: ضعيف، لكن الشطر الأول منه صحيح. (ضعيف سنن ابن ماجة) : 143، كتاب النكاح، باب (4) حق الزوج على المرأة، حديث رقم (406- 1852) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 274- 275، كتاب (3) الحيض، باب (20) ما يستتر به لقضاء الحاجة، حديث رقم (79) ، 15/ 206- 207، كتاب (44) فضائل الصحابة باب (11) فضائل عبد اللَّه بن جعفر رضي اللَّه عنهما، حديث رقم (68) ، وتمامه: وكان أحبّ ما استتر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجته هدف أو حائش نخل، قال ابن أسماء في حديثه: يعني حائط نخل.

(5/249)


وخرجه أبو داود وزاد فيه: وكان أحب ما استتر به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لحاجته هدف أو حايش نخل، بعد هذا قال: فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حنّ وذرفت عيناه، قال: فأتاه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومسح سراته إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال: من ربّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول اللَّه، قال: أفلا تتقي اللَّه في هذه البهيمة التي ملكك اللَّه إياها؟ فإنه قد شكى إليّ أنك تجيعه وتدئبه.
ذكره أبو داود في باب: ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم [ (1) ] .
وخرج أبو بكر بن أبي شيبة، من حديث أبي نمير قال: حدثنا الأجلح عن [الدربال] بن حرمة، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال: أقبلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سفر، حتى إذا دفعنا إلى حائط من حيطان بني النجار، إذا جمل قطم- يعني هائجا- لا يدخل الحائط أحد عليه.
قال: فجاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى أتى الحائط فدعى البعير فجاء واضعا مشفره في الأرض حتى برك بين يديه، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هاتوا خطاما فخطمه، ودفعه إلى أصحابه، ثم التفت إلى الناس، وقال: إنه ليس بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول اللَّه غير عاصي الجن والإنس.
وخرجه الإمام أحمد من حديث مصعب بن سلام قال: حدثنا الأجلح.. فذكره.
وخرجه أحمد بن عمرو بن أحمد بن عبد الخالق البزار قال: حدثنا محمد بن المستنير الكندي، أخبرنا الوليد بن القثم، أخبرنا الأجلح عن أبي الزبير، عن جابر [ (2) ] .
قال أبو نعيم: ورواه شريك [بن عبد اللَّه] [ (3) ] بن أبي نمر عن جابر قال: خرجنا في غزوة ذات الرقاع ثم أقبلنا حتى إذا كنا بمهبط من الحرة أقبل جمل يرقل [ (4) ] حتى برك بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومد جرانه [ (5) ] .. فذكره [ (6) ] .
__________
[ (1) ] (سنن أبي داود) : 3/ 50، كتاب (9) الجهاد، باب (47) ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، حديث رقم (2549) .
[ (2) ] (مسند أحمد) : 1/ 335، حديث رقم (1748) .
[ (3) ] زيادة للنسب من أبي نعيم.
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «يرقد، وارقدّ بتشديد الدال: أسرع، وأما رواية (خ) ، كما في مجمع الزوائد: «يرقل» أي يعدو.
[ (5) ] الجران من البعير: مقدم العنق.
[ (6) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 381، حديث رقم (280) ، وقد أخرجه الطبراني في الأوسط، مطولا والبزار مختصرا.

(5/250)


وخرجه أبو نعيم من حديث أبي بكر بن عياش عن الأجلح عن الذّيال بن حرملة. عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: جاء قوم إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: إن بعيرا لنا قطن في حائط لنا قد غلبنا، فجاء إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: تعالى، فجاء مطأطئا رأسه حتى خطمه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأعطاه أصحابه، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! كأنه علم أنك نبي، فقال ما بين لابتيها أحد إلا يعلم أني نبي، إلا كفرة الجن والإنس [ (1) ] . قال: كذا في كتاب (الذيال) عن ابن عباس، والحديث مشهور بالذيال عن جابر [ (2) ] .
وخرج من حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد اللَّه بن موسى، أخبرنا [ (3) ] إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، ثم سرنا ورسول اللَّه بيننا كأنما على رءوسنا الطير تظلنا، فإذا جمل نادّ [ (4) ] ، حتى إذا كان بين السماطين [ (5) ] خرّ ساجدا فجلس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عليه ثم قال [على الناس] [ (6) ] : من صاحب هذا الجمل؟ فإذا فتية من الأنصار فقالوا: هو لنا يا رسول اللَّه، قال: فما شأنه؟ قالوا: أسنينا [ (7) ] عليه منذ عشرين سنة فكانت به شحيمة [ (8) ] ، فأردنا أن ننحره فيقسم [ (9) ] بين غلماننا فانفلت عنا، قال: تبيعونيه؟ قالوا: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، قال: أما لا، فأحسنوا
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 380- 381، حديث رقم (279) ، (مسند أحمد) : 4/ 248، حديث رقم (13923) ، لكن بسياقة أخرى قريبة، وهي رواية جابر بن عبد اللَّه، (البداية والنهاية) : 6/ 150، برواية ابن عباس وقال: هذا من هذا الوجه عن ابن عباس غريب جدا، والأشبه رواية الإمام أحمد عن جابر، إلا أن يكون الأجلح قد رواه عن الذيال عن جابر، (دلائل البيهقي) : 6/ 30، باب ذكر البعير الّذي سجد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأطاع أهله بعد ما امتنع عليهم ببركته، وذكر رواية ابن عباس.
[ (2) ] انظر تعليق رقم (1) . وقطن: أقام.
[ (3) ] في (دلائل أبي نعيم) : «حدثنا» .
[ (4) ] ندّ البعير: نفر وذهب شاردا.
[ (5) ] السماط: الصف.
[ (6) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (7) ] (في أبي نعيم) : «أسنيناه» ، أي هو عندنا نستقي عليه منذ عشرين سنة.
[ (8) ] الشحيمة: السمنة.
[ (9) ] في (أبي نعيم) : «فنقسمه» .

(5/251)


إليه حتى يأتيه أجله [ (1) ] .
ومن حديث الحسن بن بشر، حدثنا أبي عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي الزبير عن جابر قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في سرية، ورسول اللَّه فينا وكأنما على رءوسنا الطير، فأقبلنا حتى إذا ساوينا المدينة فإذا بعير مقبل فجاء يضرب بنفسه الأرض بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [أيكم صاحب] هذا البعير؟ فقام فتية من الأنصار فقالوا: نحن يا رسول اللَّه، قال: إن بعيركم هذا يشكوكم، يزعم أنكم استعملتموه شابا حتى إذا كبر أردتم نحره.
فقالوا: يا رسول اللَّه! إن فيه شحيمة فأردنا أن نقسمها [بين رعائنا] ، قال:
فتبيعونيه؟ قالوا: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، فقلنا: هذا البعير يا رسول اللَّه سجد لك، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو أمرت بذلك لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها [ (2) ] .
وخرج من حديث يحيى بن بكير قال: حدثني الليث بن سعد، عن [ابن] [ (3) ] الهاد عن ثعلبة بن أبي مالك [ (4) ] قال: اشترى إنسان من بني سلمة جملا
__________
[ (1) ]
(دلائل أبي نعيم) : 2/ 381- 382، حديث رقم (281) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 18، باب ذكر المعجزات الثلاث التي شهدهن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري وغيره في الشجرتين، والصبي، والجمل، وما كان في كل واحدة منهن من آثار النبوة، وزاد فيه: قالوا: يا رسول اللَّه نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن،
ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 155- 156، وقال في آخره: وهذا إسناد جيد، ورجاله ثقات، (سنن أبي داود) : 1/ 14، كتاب الطهارة باب (1) التخلي عند قضاء الحاجة، حديث رقم (2) ، ذكره مختصرا جدا، ولم يذكر فيه قصة سجود الجمل، (سنن ابن ماجة) : 1/ 121، كتاب الطهارة وسننها، باب (22) التباعد للبزار في الفضاء، حديث رقم (335) ، ذكره مختصرا جدا، ولم ينكر فيه قصة سجود الجمل، أما مطولا، فقد ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 9/ 7- 8، لكن باختلاف يسير، عن جابر، وقال: في الصحيح بعضه، ورواه الطبراني والبزار مختصرا.
[ (2) ] لم أجده بهذه السياقة، ولكن أحاديث الباب تشهد له.
[ (3) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (4) ] ثعلبة بن مالك: تابعيّ ثقة، حديثه مرسل، ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمته في (تهذيب التهذيب) : 2/ 22- 23، ترجمة رقم (39) ، (الإصابة) : 1/ 407، ترجمة رقم (953) .

(5/252)


ينضح عليه، فأدخله في مربد [ (1) ] فجرد كيما يحمل عليه، فلم يقدر أحد أن يدخل عليه إلا يخبطه، فجاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر ذلك له، فقال: افتحوا عنه، فقالوا:
إنا نخشى عليك يا رسول اللَّه [منه] [ (2) ] ، فقال: افتحوا عنه، ففتحوا، فلما رآه الجمل خرّ ساجدا فسبح [ (3) ] القوم وقالوا: يا رسول اللَّه! نحن كنا أحق بالسجود من هذه البهيمة، قال: لو ينبغي لشيء من الخلق أن يسجد لشيء دون اللَّه، لا نبغى [ (4) ] للمرأة أن تسجد لزوجها [ (5) ] .
وخرج من طريق [ابن] أبي شيبة، وأحمد بن حنبل قالا: حدثنا عبد اللَّه ابن نمير، حدثنا عثمان بن حكيم قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن يعلي ابن مرة قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثا ما رآهن أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي، قال: كنت معه ذات يوم حتى جاء جمل فضرب بجرانه بين يديه ثم ذرفت عيناه فقال: انظر [] لمن هذا الجمل إن له لشأنا، قال: فخرجت فالتمست صاحبه فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه فقال: ما شأن جملك هذا؟ قال: وما شأنه؟ قال: لا أدري ما شأنه؟ قال: عملنا عليه ونضحنا حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: فلا تفعل، هبه لي أو بعنيه، قال:
بل هو لك يا رسول اللَّه، فوسمه سمة الصدقة، ثم بعث به [ (6) ] .
ومن حديث أحمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عطاء بن السائب، عن عبد اللَّه بن حفص، عن يعلي بن مرة الثقفي قال: ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسن [ (7) ] عليه، فلما رآه البعير جرجر [ (8) ] ووضع جرانه، فوقف عليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فجاء، فقال: بعنيه، فقال: لا بل أهبه، فقال: لا، بل بعنيه، قال: لا بل أهبه لك،
__________
[ (1) ] المربد: مكان جلوس الإبل.
[ (2) ] زيادة في (خ) .
[ (3) ] في (خ) : «فضج» .
[ (4) ] في (أبي نعيم) : «ينبغي» وما أثبتناه من (خ) .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 382، حديث رقم (282) ، ونقله عنه السيوطي في (الخصائص) : 2/ 257.
[ (6) ] (مسند أحمد) : 5/ 170- 171، حديث رقم (17097) ، وابن كثير في (البداية والنهاية) :
6/ 153- 154، وما بين الحاصرتين بياض بالأصل (خ) .
[ (7) ] يسنى: يستقى عليه.
[ (8) ] جرجر: ردّد صوته في حنجرته.

(5/253)


وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، قال: أما [إذ] [ (1) ] ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل وقلّة العلف، فأحسنوا إليه [ (2) ] .
وخرجه من حديث حجاج بن منهال وهدبة بن خالد قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء عن يعلي قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم شيئا لم يره أحد إلا من كان معي: كنا في سفر حتى إذا كنا بمكان كذا وكذا، جاء بعير فجرجر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل تدرون ما يقول؟ قلنا: وما قال؟ قال: شكا أهله، فبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى أهله فقال: أتبيعونيه؟ قالوا: نهبه لك، ثم قال: أتبيعونيه؟ قالوا:
بل نهبه لك- مرتين أو ثلاثا- قلنا: ما لنا غيره، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فافعلوا به معروفا- أو قال: خيرا.
وخرجه من حديث شريك، عن عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة، عن أبيه عن جده قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أشياء ما رآها أحد قبلي: كنت معه في طريق مكة: فمر عليه بعير ماد جرانه، فقال: عليّ بصاحب هذا، فجيء به فقال: هذا يقول: نتجت عندهم فاستعملوني، حتى إذا كبرت عندهم أرادوا أن ينحروني، ثم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما من شيء إلا يعلم أني رسول اللَّه، إلا كفرة أو فسقة الجن والإنس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من أبي نعيم.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 382- 383، حديث رقم (283) ، وأخرجه الإمام أحمد والبيهقي وابن كثير بالرواية التامة، وذكروا فيها الأشياء الثلاثة (مسند أحمد) : 5/ 183، حديث رقم (17115) ، ورجاله رجال الصحيح، (دلائل البيهقي) : 6/ 22- 24 باب ذكر المعجزات الثلاث التي شهدهن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري وغيره في الشجرتين، والصبي، والجمل، وما كان في كل واحدة منهن من آثار النبوة، وذلك بروايتين ثم قال: الرواية الأولى عن يعلي بن مرة في أمر الشجرتين أصح، لموافقتها رواية جابر بن عبد اللَّه الأنصاري، إلا أن يكون أمر الشجرة في هذه الرواية حكاية عن واقعة أخرى، (البداية والنهاية) : 6/ 152، رواية يعلي بن مرة الثقفي من طريق أخرى عنه.
[ (3) ] ذكره البيهقي مطولا في (دلائل النبوة) : 6/ 22- 23، ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) :
6/ 154، (سنن الدارميّ) : 1/ 11، (المستدرك) : 2/ 674- 675، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه الصياغة، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 380- 381، حديث رقم (279) لكن بسياقة أخرى.

(5/254)


وخرجه من حديث الأعمش، عن المنهال بن عمرو قال: حدثني ابن يعلي عن مرة عن أبيه. ومن حديث وكيع قال: حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلي بن مرة. وقال وكيع: مرة عن أبيه. ومن حديث يحيى بن سليم عن عبد اللَّه بن عثمان بن خيثم، عن يونس بن حراب، عن يعلي بن مرة، فذكره وقال:
رواه الثوري والعرزميّ [عن أبي الزبير] نحوه [ (1) ] .
وحدث مطلب بن زيادة قال: حدثنا عمر بن عبيد اللَّه بن يعلي بن مرة حكاية، كذا عن يعلي بن [مرة قال] : خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما فجاء بعير يرغو حتى سجد له، فقال المسلمون: نحن أحق أن نسجد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير اللَّه لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، أتدرون ما يقول هذا؟ زعم أنه خدم مواليه أربعين سنة، حتى إذا كبر أنقصوا من علفه وزادوا في عمله، حتى إذا كان لهم عرس أخذوا الشّفار لينحروه، فأرسل إلى مواليه فقصّ عليهم، فقالوا:
صدق يا رسول اللَّه، قال إني أحب أن تدعوه لي فتركوه [ (2) ] .
وخرجه من حديث علياء بن أحمر، عن علي عن عبد اللَّه بن بريدة، أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: يا رسول اللَّه، إن لنا جملا [شارد] في الدار وليس أحد منا يستطيع أن يقربه أو يدير أنفه، فقام معه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقمنا معه، فأتى ذلك الباب ففتحه، فلما رآه الجمل جاء إليه فسجد له، ووضع جرانه فأخذ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم برأسه فمسحه، ثم دعا بالخطام فخطمه، ثم دفعه إلى أصحابه، فقال له أبو بكر رضي اللَّه عنه: قد عرفك يا رسول اللَّه أنك نبي، واللَّه إنك رسول اللَّه، فقال:
إنه ليس من شيء إلا يعرف أني رسول اللَّه غير كفرة الجن والإنس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 383، حديث رقم (284) ، والسيوطي في (الخصائص) : 2/ 258، وفيه عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة، ضعّفه أحمد، ويحيى، والنسائي، وقال الدّارقطنيّ: متروك.
[ (2) ] انظر هامش رقم (3) في الصفحة السابقة.
[ (3) ] نحوه باختلاف ألفاظ في (سنن الدارميّ) : 1/ 11، في روايته عن الأجلح عن الذيال بن حرملة:
«إلا عاصي الجن والإنس» . وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من كتب السيرة، ونحوه باختلاف يسير في (دلائل أبي نعيم) : 2/ 380- 381 حديث رقم (279) وقد سبق الإشارة إليه.

(5/255)


ومن حديث معلّى [ (1) ] بن منصور قال: حدثني شبيب بن شبيبة قال: حدثني بشر بن عاصم، عن غيلان بن سلمة الثقفي قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بعض أسفاره فرأينا عجبا، من ذلك: أنا مضينا فنزلنا منزلا فجاء رجل فقال:
يا نبي اللَّه! إنه كان لي حائط فيه عيشي وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فاغتلما عليّ [ (2) ] ، فمنعاني أنفسهما وحائطي وما فيه، فلا يقدر أحد أن يدنو منهما، فنهض نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأصحابه حتى أتى الحائط، فقال لصاحبه: افتح، فقال: يا نبي اللَّه! أمرهما أعظم من ذلك، قال افتح، فلما حرك الباب أقبلا لهما جلبة كحفيف الريح، فلما انفرج الباب، ونظرا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بركا ثم سجدا.
فأخذ نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم برءوسهما، ثم دفعهما إلى صاحبهما، فقال:
[استعملهما] [ (3) ] وأحسن علفهما، فقال القوم: يا نبي اللَّه! تسجد لك البهائم؟
فبلاء اللَّه عندنا بك أحسن حين هدانا من الضلالة، واستنقذنا بك من الهلكة [ (4) ] ، أفلا تأذن [لنا] [ (3) ] في السجود لك؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن السجود ليس إلا للحي الّذي لا يموت، ولو كنت آمرا أحدا من هذه الأمة بالسجود لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها [ (5) ] .
ومن حديث النضر بن شميل، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل حائطا من حوائط الأنصار، فإذا
__________
[ (1) ] في (خ) : «يعلي» ، وصوبناه من هامش أبي نعيم و (الإصابة) وغيرهما.
[ (2) ] اغتلما عليّ: تمردا عليّ.
[ (3) ] زيادة للسياق من أبي نعيم.
[ (4) ] كذا في (خ) وفي أبي نعيم: «من المهالك» .
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 383- 384، حديث رقم (285) ، وأخرجه الطبراني، وفيه شبيب ابن شيبة بن عبد اللَّه بن عمرو بن الأهتم، واسمه سنان بن شمر بن سنان بن خالد بن منقر التميمي المنقري الأهتمي، أبو معمر البصري الخطيب. قال الدوري عن ابن معين: ليس بثقة، وقال أبو زرعة أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي والدار الدّارقطنيّ والبرقاني: ضعيف.
وقال صالح بن محمد البغدادي: صالح الحديث، وقال الساجي: صدوق يتّهم، وقال ابن المبارك:
خذوا عنه فإنه أشرف من أن يكذب ... ، له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 4/ 270، ترجمة رقم (535) ، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 4/ 31- 32، ترجمة رقم (12/ 892) ، (تاريخ بغداد) : 9/ 274، ترجمة رقم (4836) .

(5/256)


فيه جملان يصرمان ويواعدان، فاقترب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منهما فوضعا جرانيهما بالأرض، فقال من معه: نسجد له؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما ينبغي لأحد [أن] يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لما عظّم اللَّه تعالى عليها من حقه [ (1) ] .
ومن حديث خلف بن خليفة، عن حفص بن أخي أنس- وهو حفص بن عمر بن عبد اللَّه بن أبي طلحة- عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه، قال: كان أهل بيت من الأنصار، وإنه كان لهم جمل يسنون عليه، وإن الجمل استصعب عليهم ومنعهم ظهره، فجاءت الأنصار إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه! إنه كان لنا جمل نسنى عليه، وإنه قد استصعب علينا، ومنعنا ظهره، وقد يبس النخل والزرع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأصحابه: قوموا.
فقاموا معه، فجاء إلى الحائط، والجمل قائم في ناحية، فجاء يمشي نحوه، فقالوا: يا رسول اللَّه! إنه صار مثل الكلب [الكلب] [ (2) ] ، وإنا نخاف عليك صولته، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: ليس عليّ منه بأس، فجاء الجمل يمشي حتى خرّ ساجدا بين يديه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال أصحابه: هذه بهيمة لا تعقل، ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقّه عليها [ (3) ] ، [والّذي نفسي بيده، لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته، ما أدت حقّه] [ (4) ] .
وخرجه من حديث سلام بن أبي الصهباء، عن أبي الضلال قال: حدثني أنس ابن مالك أن رجلا من الأنصار كان له بعير قد شرد عليه، فأتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
__________
[ (1) ] ذكره ابن كثير بسياقة أخرى وسند آخر عن ابن عباس في (البداية والنهاية) : 6/ 150، وقال في آخره: هذا إسناد غريب ومتن غريب.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المسند) ، (البداية والنهاية) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 385، حديث رقم (287) ، (مسند أحمد) : 3/ 633، حديث رقم (12203) ، (البداية والنهاية) : 6/ 149، باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوّة: قصة البعير النادّ وسجوده له صلّى اللَّه عليه وسلّم، وشكواه إليه.
[ (4) ] زيادة للسياق من (المسند) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 29 بسياقة أخرى وسند آخر.

(5/257)


يا رسول اللَّه، إن لي بعيرا قد شرد عليّ وهو في أقصى أرضي، وأنا لا أستطيع أن أدنو منه خشية أن يتناولني، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: انطلقوا بنا إليه.
فلما مشى الأنصاريّ هنيهة، استرجع ثم قال: ما صنعت يا رسول اللَّه؟ أخاف عليك البعير. قال: فبينما هم يمشون إذ قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: كلا يا فلان، إن لو قد رآني رأيت منه، فلما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الأرض ودخلوا، مشى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ نظر البعير إليه، فأقبل يحمحم، فألقى بجرانه حتى برك عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجعلت عيناه تسيلان، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم، يا فلان! بعيرك يشكوك فأحسن إليه، فجاء بحبل فألقاه في رايته ثم قال: ها دونك أحسن إليه [ (1) ] .
وخرجه من حديث مكي، حدثنا فائد أبو الورقاء عن عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: بينما نحن قعود مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، إذ أتاه آت فقال: يا رسول اللَّه! ناضح [آل فلان] [ (2) ] قد أتى عليهم، فنهض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ونهضنا معه فقلنا: يا رسول اللَّه! لا تقربه فإنا نخافه عليك، فدنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من البعير، فلما رآه البعير سجد له، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وضع يده على رأس البعير فقال: هات الشفار، فجيء بالشفار فوضعه في رأسه.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادعوا [إليّ صاحب البعير] [ (2) ] فدعي، فقال له أصحابه: يا رسول اللَّه! بهيمة من البهائم تسجد لتعظيم حقك؟ فنحن أحق أن نسجد لك، قال: لا، لو كنت آمرا أحدا من أمتي أن يسجد بعضهم لبعض، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن [ (3) ] .
ومن حديث العرمري وسفيان الثوري- كلاهما عن أبي الزبير عن جابر- قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نسير، إذا أقبل بعير فسجد لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثم
__________
[ (1) ] لم أجده بهذه السياقة، وله شواهد من أحاديث الباب.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 384، حديث رقم (286) ، وعنه نقله السيوطي في (الخصائص) 2/ 255، (دلائل البيهقي) : 6/ 29، وفيه فائد أبو الورقاء: قال البخاري: منكر الحديث، وتركه أحمد، وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه.

(5/258)


ذلك جرانه بالأرض وأرخى عينيه وبكى وجرجر، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم، قال يزعم أنه كان لبني سلمة بكرا صغيرا يحتطبون عليه وينتضحون عليه، فلما كبرت سنه ورقّ عظمه، أرادوا أن ينحروه على عروس لهم.
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابغوني بعض بني سلمة، فإذا رجل منهم قد أقبل، فقال: لمن هذا البعير؟ فقال الرجل: لي يا رسول اللَّه، قال: ومتى كان لك؟
قال: كان لي بكرا صغيرا، قال: فما كنت تعمل عليه؟ قال: كنا نحتطب وننتضح عليه، قال: فما أردتم به؟ قال: أردنا أن ننحره على عروس لنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بعنيه، فقال: لا، بل هو لك يا رسول اللَّه، فردّد عليه: بعنيه، فقال:
هو لك يا رسول اللَّه، قال: فإنّي قد قبلته على أن تعمل عليه ما كنت تعمل عليه أولا فيما خلا، قال: نعم.
فأخذ برأسه وولى، فقلنا: يا رسول اللَّه! هذه بهيمة تسجد لك، فنحن أحق بالسجود، فقال: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون اللَّه لسجدت المرأة لزوجها لما له عليها من الفضل [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة قال: سمعت شيخا من قيس يحدث عن أبيه أنه قال: جاءنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعندنا بكرة صعبة لا يقدر عليها، قال: فدنا منها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فمسح ضرعها، فحفل فاحتلب فشرب [ (2) ] .
ومن حديث يونس بن بكير، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن أبي [الزبير] [ (3) ] عن جابر قال: خرجت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، وكان رسول اللَّه
__________
[ (1) ] ذكره أبو نعيم مختصرا عن يعلي بن مرة، وفيه عمر بن عبد اللَّه بن يعلي بن مرة: ضعفه أحمد ويحيى والنسائي، وقال الدار الدّارقطنيّ: متروك، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 383، حديث رقم (284) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 29، باب ذكر البعير الّذي سجد للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وأطاع أهله بعد ما امتنع عليهم ببركته، ونقله السيوطي عنه في (الخصائص) : 2/ 57.
[ (3) ] زيادة يقتضيها السياق من البيهقي.

(5/259)


صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد البراز تباعد حتى لا يراه أحد، فنزلنا منزلا بفلاة من الأرض ليس فيها علم ولا شجر، فقال لي: يا جابر، خذ الإداوة وانطلق بنا، فملأت الإداوة ماء [فانطلقنا] [ (1) ] فمشينا حتى لا نكاد نرى، فإذا شجرتان بينهما أذرع، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يا جابر، انطلق فقل لهذه الشجرة: يقول لك رسول اللَّه: ألحقي بصاحبتك حتى أجلس خلفكما، [ففعلت فرجعت] [ (1) ] حتى لحقت بصاحبتها، فجلس خلفهما حتى قضى حاجته.
ثم رجعنا فركبنا رواحلنا، فسرنا كأنما علينا الطير تظلنا، فإذا نحن بامرأة قد عرضت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، معها صبي تحمله فقالت: يا رسول اللَّه! إنّ ابني هذا يأخذه الشيطان ثلاث مرات كل يوم لا يدعه، فوقف [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] فتناوله فجعله بينه وبين مقدمة الرّحل، فقال [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (1) ] : اخسأ عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، وأعاد ذلك ثلاث مرات ثم ناولها إياه.
فلما رجعنا فكنا بذلك الماء، عرضت لنا المرأة معها كبشان تقودهما، والصبي تحمله، فقالت: يا رسول اللَّه! [اقبل من هديتي] [ (1) ] ، فو الّذي بعثك بالحق إن عاد إليه بعد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خذوا أحدهما منها وردّوا الآخر.
ثم سرنا، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، بيننا، فجاء جمل نادّ، فلما كان بين السماطين خرّ ساجدا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أيها الناس، من صاحب هذا الجمل؟ فقال فتية من الأنصار: هو لنا يا رسول اللَّه، قال: فما شأنه؟ قالوا: سنونا عليه منذ عشرين سنة، فلما كبرت سنّه وكانت عليه شحيمة [و] [ (2) ] أردنا نحره لنقسمه بين غلمتنا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تبيعونيه؟ فقالوا: يا رسول اللَّه، هو لك، قال: فأحسنوا إليه حتى يأتيه أجله- قالوا: يا رسول اللَّه: نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال: لا ينبغي لأحد [ (3) ] أن يسجد لأحد [ (3) ] ، ولو كان ذلك لكان النساء لأزواجهن [ (4) ] .
__________
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق من البيهقي.
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (3) ] في المرجع السابق: «لبشر» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 18- 19، باب ذكر المعجزات الثلاث التي شهدن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري وغيره، في الشجرتين، والصبي، والجمل، وما كان في كل واحد منهن من آثار النبوة، وأخرجه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 155- 156، وقال في آخره: وهذا إسناد جيد

(5/260)


وخرج من حديث زمعة بن صالح، عن زياد عن أبي الزبير، أنه سمع يونس ابن خبّاب الكوفي يحدث: أنه سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، أنه كان في سفر إلى مكة، فذهب إلى الغائط- وكان يبعد حتى لا يراه أحد- قال: فلم يجد شيئا يتوارى به، فبصر بشجرتين ... ،
فذكر قصة الشجرتين وقصة الجمل بنحو من حديث جابر.
قال البيهقي: وحديث جابر أصحّ، وهذه الرواية ينفرد بها زمعة بن صالح عن زياد، أظنه ابن سعد عن أبي الزبير [ (1) ] .
__________
[ () ] رجاله ثقات. وبهذا الإسناد أخرجه أبو داود في أول كتاب الطهارة مختصرا، وابن ماجة في كتاب الطهارة باب (22) التباعد للبراز في الفضاء، حديث رقم (335) مختصرا أيضا.
أما مطولا، فقد ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 9/ 7- 8، باختلاف يسير عن جابر، وقال: في الصحيح بعضه، ورواه الطبراني والبزّار باختصار كثير.
والخبر يبدو أن به نقصا في آخره في قصة سجود الجمل له صلّى اللَّه عليه وسلّم،
ذكرها الهيثمي عن أنس بن مالك قال: وعن ابن عباس قال: جاء قوم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللَّه، إن لنا بعيرا فطم في حائط، فجاء إليه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: تعال، فجاء مطأطأ رأسه حتى خطمه وأعطاه أصحابه، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا رسول اللَّه! كأنه علم أنك نبي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما بين لابتيها أحد إلا يعلم أني نبي، إلا كفرة الجن والإنس. رواه الطبراني، وو رجاله ثقات، وفي بعضهم ضعف، (دلائل البيهقي) : 6/ 19 «هامش» .
وعن ابن عباس، أن رجلا من الأنصار كان له فحلان فاغتلما، فأدخلهما حائطا، فسدّ عليهما الباب، ثم جاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأراد أن يدعو له والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قاعد مع نفر من الأنصار، فقال: يا نبي اللَّه، إني جئت في حاجة، وإن فحلين لي اغتلما، وإني أدخلتهما، حائطا وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما اللَّه لي، فقال لأصحابه: قوموا معنا، فذهب حتى أتى الباب فقال:
افتح، فأشفق الرجل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: افتح، ففتح الباب، فإذا أحد الفحلين قريب من الباب، فلما رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم سجد له، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: ائتني بشيء أشدّ برأسه وأمكنك منه، فجاء بخطام فشدّ رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر، فلما رآه وقع له ساجدا، فقال للرجل: ائتني بشيء أشدّ رأسه، فشدّ رأسه وأمكنه منه، ثم قال: اذهب فإنّهما لا يعصيانك، فلما رأى أصحاب النبي ذلك قالوا: هذان فحلان لا يعقلان سجدا لك! أفلا نسجد لك؟ قال: لا آمر أحدا أن يسجد لأحد، ولو أمرت أحدا يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. رواه الطبراني، وفيه أبو عزّة الدباغ، وثّقه ابن حبان، واسمه الحكم بن طهمان، وبقية رجاله ثقات.
(المرجع السابق) : 6/ 20.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20، وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار بنحوه، إلا أنه قال: في غزوة حنين وزاد فيه: ثم أصاب الناس عطش شديد

(5/261)


وخرج من حديث يونس بن بكير عن الأعمش عن المنهال بن عمرو، عن يعلي بن مرة عن أبيه قال: سافرت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفرا فرأينا منه أشياء عجبا:
نزلنا منزلا فقال: انطلق إلى هاتين الأشاءتين فقل: إن رسول اللَّه يقول لكما:
أن تجتمعا، فانطلقت فقلت لهما ذلك، فانتزعت كل واحدة منهما من أصلها، فنزلت كل واحدة إلى صاحبتها فالتفتا جميعا، فقضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حاجته من ورائهما ثم قال: انطلق فقل لهما: [فلتعد] كل واحدة إلى مكانها، فأتيتهما فقلت لهما ذلك، فنزلت كل واحدة حتى عادت إلى مكانها.
وأتته امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين، يأخذه في كل يوم مرتين، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أدنيه، فأدنته منه، فتفل في فيه وقال: أخرج عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، ثم قال لها صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع.
فلما رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم استقبلته ومعه كبشان وأقط وسمن، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: خذ هذا الكبش، فأخذ منه ما أراد، فقالت: والّذي أكرمك ما رأيناه به شيئا منذ فارقتنا. ثم أتاه بعير فقام بين يديه فرأى عينيه تدمعان، فبعث إلى أصحابه فقال: ما لبعيركم، هذا يشكوكم؟ فقالوا: كنا نعمل عليه فلما كبر وذهب عمله تواعدنا لننحره غدا، فقال: لا تنحروه واجعلوه في الإبل يكون فيها [ (1) ] .
وخرجه من حديث وكيع عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن يعلي بن مرة عن أبيه قال: رأيت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة أشياء ... ، فذكر الحديث،
__________
[ () ] فقال لي: يا عبد اللَّه، التمس لي ماء، فأتيته بفضل ماء وجدته في إداوة، فأخذه فصبه في ركوة، ثم وضع يده فيها وسمّى، فجعل الماء يتحادر من بين أصابعه، فشرب الناس وتوضّئوا ما شاءوا. ورواه البزار بنحوه، وفي إسناد الأوسط زمعة بن صالح، وقد وثّق على ضعفه، وبقية رجاله حديثهم حسن وأسانيد الطريقين ضعيفة.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 20- 21، ذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) : 9/ 6، وقال: رواه أحمد بإسنادين، والطبراني بنحوه، وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، (مسند أحمد) : 6/ 182- 183، حديث رقم (17113) ، (17114) ، (17115) ، (17117) ، بسياقات مختلفة، كلها من حديث يعلي بن مرة الثقفي.

(5/262)


يعنى رواية يونس، إلا أنه زاد: خذ أحد الكبشين ورد الآخر، وخذ السمن والأقط [ (1) ] .
قال البيهقي: مرة أبو يعلى هو مرة بن أبى مرة الثقفي، وقيل فيه عن يعلى نفسه أنه قال: رأيت ... ، فذكر من طريق وكيع عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة قال: رأيت من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عجبا: خرجت معه في سفر، فنزلنا منزلا فأتته امرأة بصبي لها به لمم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أخرج عدوّ اللَّه، أنا رسول اللَّه، قال: فبرأ، فلما رجعنا جاءت أم الغلام بكبشين وشيء من أقط وسمن، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا يعلى، خذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر، وخذ السمن والأقط، قال: ففعلت [ (2) ] .
قال البيهقي: هذا الأصح، والأول وهم. قاله البخاري: يعنى روايته عن أبيه وهمّ، إنما هو عن يعلى نفسه، وهم فيه وكيع مرّة، ورواه على الصحة مرّة.
قال البيهقي: وقد وافقه فيما زعم البخاري أنه وهم يونس بن بكير، فيحتمل أن يكون الوهم عن الأعمش. واللَّه أعلم [ (2) ] .
وذكر البيهقي من طرق ثم قال: ولما روينا من حديث يعلى بن مرة في أمر البعير الّذي شكى إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حاله بإسناد صحيح، وكأنه غير البعير الّذي أرادوا نحره، واللَّه أعلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) : 6/ 22، (مجمع الزوائد) : 9/ 5- 6، والحاكم في (المستدرك) : 2/ 674- 675، حديث رقم (4232/ 242) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 22.
[ (3) ] (المرجع السابق) 6/ 26.
قال الحافظ ابن كثير: وقد اعتنى الحافظ أبو نعيم بحديث البعير في كتابه (دلائل النبوة) ، وطرقه من وجوه كثيرة. (البداية والنهاية) : 6/ 155.
وقال الحافظ أبو نعيم في (دلائل النبوة) : فيما تضمنت هذه الأخبار من الآيات والدلائل الواضحة، من سجودهن، وشكايتهن، وما في معناه، ليس يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعطى علما بنغم هذه البهائم وشكايتهن، كما أعطى سليمان عليه السلام علما بمنطق الطير، فذلك له آية كما كان نظيرها لسليمان عليه السلام، أو أنه علم ذلك بالوحي، وأي ذلك كان فيه أعجوبة، وآية ومعجزة.
فإن اعترض بعض الطاعنين فزعم أن فيه قسما ثالثا، وهو أنه استدلّ بالحال على سوء إمساكهم، قيل:
هذا محتمل، لكن الاستدلال لا يعلم به أن صاحب البهيمة رجل من بنى فلان، وأنه استعملها كذا سنة، وأنه يريد لينحرها للعرس، فإن ذلك لا يصل إليه بالاستدلال بالحال، فهذا قسم باطل. (دلائل أبي نعيم) :
2/ 386.

(5/263)


[سابع وسبعون: مخاطبة الناقة له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما مخاطبة الناقة له صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج الحاكم من حديث يحى بن عبد اللَّه المصري، حدثنا عبد الرزاق عن معمر [عن] [ (1) ] الزهري، عن سالم عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما، قال: كنا جلوسا حول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ دخل عليه أعرابى جهوريّ [الصوت] [ (2) ] بدويّ يمانيّ على ناقة حمراء، فأناخ بباب المسجد، فدخل فسلّم [على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] ثم قعد ثم قضى نحبه، قالوا: يا رسول اللَّه إن الناقة التي تحت الأعرابي سرقه، قال: أثمّ بيّنة؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال: يا على، خذ حق اللَّه من الأعرابي إن قامت عليه البينة، وإن لم تقم فردّه إليّ.
قال فأطرق الأعرابي ساعة، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: قم يا أعرابي لأمر اللَّه وإلا فأدل بحجتك، فقالت الناقة من خلف الباب: والّذي بعثك بالكرامة يا رسول اللَّه! إنّ هذا ما سرقني وما يملكني أحد سواه، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أعرابى! بالذي أنطقها بعذرك ما الّذي قلت؟ قال: قلت: اللَّهمّ إنك لست برب استحدثناك، ولا معك إله أعانك على خلقنا، ولا معك رب فنشكّ في ربوبيتك، أنت ربنا كما تقول، وفوق ما يقول القائلون، أسألك أن تصلى على محمد وأن تريني براءتي [ (3) ] ، فقال له النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم والّذي بعثني بالكرامة يا أعرابى، لقد رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك، فأكثر الصلاة عليّ [ (4) ] .
قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، ويحى بين عبد اللَّه المصري هذا، لست أعرفه
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (المستدرك) .
[ (2) ] ليست في المرجع السابق.
[ (3) ] كذا في (خ) . وفي المرجع السابق: «أن تبرئنى ببراءتي» .
[ (4) ] (المستدرك) : 2/ 676، كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، فصل: ومن كتاب آيات رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم التي هي دلائل النبوة، حديث رقم (4236/ 246) . وقال الذهبي في (التلخيص) بعد أن ساق جزءا من الخبر: وذكر باقي الخبر وهو كذب، قال الحاكم: رواة هذا الحديث ثقات، ويحى لست أعرفه بعدالة ولا جرح، قلت: هو الّذي اختلقه.
قال محققه: يحى بن عبد اللَّه بن بكير القرش المخزومي، مولاهم أبو زكريا، المصري الحافظ

(5/264)


أعرفه بعدالة ولا جرح.
__________
[ () ] وقد ينسب إلى جده. روى عن مالك والليث وبكر بن مضر، وحماد بن زيد، وعبد اللَّه بن سويد المصري، وعبد اللَّه بن لهيعة ومغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، ويعقوب بن عبد الرحمن القارئ وعبد العزيز الدراوَرْديّ وعون بن سليمان القاضي، ومفضل بن فضالة، وضمرة بن ربيعة، وجماعة.
روى عنه البخاري، وروى مسلم وابن ماجة له بواسطة محمد بن عبد اللَّه هو الذهلي، ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير، ومحمد بن إسحاق الصغاني، وسهل بن زنجلة، وحرملة بن يحيى، وأبو زرعة الرازيّ، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ومات قبله ابنه عبد الملك بن يحى بن بكير، ويحى بن معين، ودحيم ويونس ابن عبد الأعلى الصدفي، وبقي بن مخلد، وإسماعيل سمويه، ويحى بن أيوب بن بادى العلاف، ومحمد ابن إبراهيم البوشنجي، وأبو على الحسن بن الفرج الغزى وآخرون.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وكان يفهم في هذا الشأن، وقال النسائي: ضعيف، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر في (تهذيب التهذيب) :
وقال أبو داود: سمعت يحى بن معين يقول: أبو صالح أكثر كتبا، ويحى بن بكير أحفظ منه. وقال الساجي: قال ابن معين: سمع يحى بن بكير الموطّأ بعرض حبيب كاتب الليث، وكان شرّ عرض، كان يقرأ على مالك خطوط الناس، ويصفح ورقتين ثلاثة، وقال يحى: سألني عنه أهل مصر فقلت:
ليس بشيء.
وقال الساجي: هو صدوق، روى عن الليث فأكثر، وقال ابن عدي: كان جار الليث بن سعد، وهو أثبت الناس فيه، وعنده عن الليث ما ليس عند أحد. وقال مسلمة بن قاسم: تكلم فيه، لأن سماعه من مالك إنما كان بعرض حبيب. وقال الخليلي: كان ثقة، وتفرد عن مالك بأحاديث. وقال البخاري في تاريخه الصغير: ما روى ابن بكير عن أهل الحجاز، في التاريخ فإنّي أنفيه. وقال ابن قانع:
مصرى ثقة. له ترجمة في (تهذيب التهذيب) : 11/ 208، ترجمة رقم (388) ، (الجرح والتعديل) : 9/ 165، ترجمة رقم (682) ، (المغنى في الضعفاء) : 2/ 739، ترجمة رقم (7005) ، (لسان الميزان) : 6/ 2325 ترجمة رقم (92/ 9166) ، وقال: شيخ مصرى عن عبد الرزاق، فذكر حديثا باطلا بيقين فلعله افتراه، والحديث المذكور أورده الحاكم في (المستدرك) في علامات النبوة ... وهذا موضوع على الإسناد المذكور، (ميزان الاعتدال) : 4/ 391، ترجمة رقم (9564) .

(5/265)


[ثامن وسبعون: ازدلاف البدن إلى المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم ليبدأ بنحرهنّ]
وأما ازدلاف البدن إلى المصطفى ليبدأ بنحرهن،
فخرج أبو نعيم من حديث أبي عاصم النبيل، ويحى بن سعيد القطان، عن نور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن عبد اللَّه بن يحى، عن عبد اللَّه بن قرط قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفضل الأيام عند اللَّه يوم النحر، ثم يوم القر [يستقر فيه الناس- وهو الّذي يلي يوم النحر] وقدم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيه بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ بها فلما وجبت جنوبها قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كلمة خفيفة لم أفهمها، فقلت للذي إلى جنبي، ما قال؟ قال: من شاء اقتطع [ (1) ] .
وخرجه الحاكم من حديث مسدد، حدثنا يحى عن ثور به نحوه، ثم قال:
هذا حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
قال أبو نعيم: فما تضمنت هذه الأخبار من الآيات والدلائل الواضحة من سجود الإبل وشكايتهن وازدلافهن وما في معناه، لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أعطى علما [بمنطق] هذه البهائم وشكايتهن كما أعطى سليمان عليه السلام علما بمنطق الطير، فذلك له آية كما كان يظهرها لسليمان آية، أو علم ذلك بالوحي، وأي ذلك كان، ففيه أعجوبة [وآية] ومعجزة.
فإن اعترض بعض الطاعنين فزعم أن فيه قسما ثالثا وهو أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم استدل بالحال على سوء إمساكهم، قيل: هذا يحتمل، ولكن الاستدلال لا يعلم به أن صاحب البهيمة رجل من بنى فلان، وأنه استعملها [كذا] سنة، وأنه مريد لنحرها، فإن ذلك لا يتوصل إليه بالاستدلال، فهذا القسم باطل، وأحد الأولين ثابت صحيح، واللَّه أعلم، حسبنا اللَّه تعالى ونعم الوكيل، والحمد للَّه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] لم أجده في (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 246، كتاب الأضاحي، حديث رقم (3522/ 6) ، وما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، وقال الحاكم: «أعظم الأيام» ، وقال عنه الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (3) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 386، عقب الحديث رقم (287) .

(5/266)


[تاسع وسبعون: مخاطبة الحمار له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما مخاطبة الحمار له،
فخرج أبو نعيم من حديث إبراهيم بن سويد الجدوعى قال: حدثني عبد اللَّه بن أذينة الطائي، عن تور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل رضي اللَّه عنه قال: أتى النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بخيبر حمار أسود فوقف بين يديه فقال: من أنت؟ قال:
أنا عمرو بن فلان، كنا سبعة إخوة. كلّنا ركبنا الأنبياء عليهم السلام، وأنا أصغرهم وكنت لك، فملكنى رجل من اليهود، فكنت إذا ذكرتك كبوت به فيوجعنى ضربا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: فأنت يعفور [ (1) ] .
__________
[ (1) ]
(دلائل أبي نعيم) : 2/ 386- 387، حديث رقم (288) ، وقد انفرد به أبو نعيم، قال الحافظ ابن كثير: وقد أنكره غير واحد من الحفاظ الكبار، فقال أبو محمد بن عبد اللَّه بن حامد: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن حمدان السحركى، حدثنا عمر بن محمد بن بجير، حدثنا أبو جعفر محمد بن يزيد- إملاء- أنبأنا أبو عبد اللَّه محمد بن عقبة بن أبى الصهباء، حدثنا أبو حذيفة عن عبد اللَّه بن حبيب الهذليّ، عن أبى عبد الرحمن السلمي، عن أبى منظور قال: لما فتح اللَّه على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال، وأربعة أزواج خفاف، وعشر أواق ذهب وفضة، وحمار أسود، ومكتل، قال:
فكلم النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم الحمار فكلمه الحمار، فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج اللَّه من نسل جدي ستين حمارا، كلهم لم يركبهم إلا نبي، لم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت قبلك لرجل يهودىّ، وكنت أعثر به عمدا، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: سميتك يعفور يا يعفور، قال لبيك، قال تشتهي الإناث؟ قال: لا، فكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يركبه لحاجته،
فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل، فيأتى الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار، أومأ إليه أن أجب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، جاء إلى بئر كانت لأبى الهيثم بن التيهان فتردى فيها، فصارت قبره، جزعا منه على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. (البداية والنهاية) : 6/ 166- 167 باب حديث الحمار. ويعفور: على وزن عصفور: اسم ولد الظبي، وسمى به لسرعته.
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع. فلعن اللَّه واضعه، فإنه لم يقصد إلا القدح في الإسلام، والاستهزاء به. قال أبو حاتم بن حبان: لا أصل لهذا الحديث، واسناده ليس بشيء، ولا يجوز الاحتجاج بمحمد بن يزيد. (الموضوعات) : 1/ 293، باب تكليم حماره يعفور له.
قال القسطلاني: ومن ذلك حديث الحمار: أخرج ابن عساكر عن أبى منظور قال، لما فتح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خيبر، أصاب حمارا أسود ... ثم ذكر الحديث، وقال: لكن الحديث مطعون فيه

(5/267)


[ثمانون: نسج العنكبوت على الغار]
وأما نسج العنكبوت على الغار، فخرج أبو نعيم من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرنى عثمان الجزرىّ، أن مقسما مولى ابن الحارث [ (1) ] أخبره عن ابن عباس رضي اللَّه عنه في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... [ (2) ] الآية.
قال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق- يريدون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه.
فأطلع اللَّه نبيه على ذلك، فبات عليّ رضي اللَّه عنه على فراش رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك الليلة، وخرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا- يحسبون أنه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ () ] (المواهب اللدنية) : 2/ 554.
قال الزرقاني في شرحه على (المواهب) : لا أصل له. (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية) : 8/ 297.
وقال كمال الدين الدميري بعد قصة الحمار هذه: قال الإمام الحافظ أبو موسى: هذا حديث منكر جدا، إسنادا، ومتنا، لا يحل لأحد أن يرويه إلا مع كلامي عليه. (حياة الحيوان الكبرى) : 1/ 319.
وقال الذهبي: عبد اللَّه بن أذينه، عن ثور بن يزيد، قال ابن حبان: حدثنا حمزة بن داود، حدثنا إسماعيل بن عيسى بن زاذان الأيلي، حدثنا عبد اللَّه بن أذينة بنسخة لا يحلّ ذكرها إلا على سبيل القدح ...
(ميزان الاعتدال) : 2/ 391 ترجمة رقم (4204) ترجمة عبد اللَّه بن أذينة.
وقال ابن عدي: هو عبد اللَّه بن عطارد بن أذينة الطائي، بصريّ منكر الحديث، وقال الأزدي:
قال أبو زكريا في (تاريخ أهل الموصل) : قال خضر بن حسّان: أتيت عليّ بن حرب أسأله عن ابن أذينة فضعّفه. وقال الحاكم: والنقاش: روى أحاديث موضوعة، وقال الدار قطنى: متروك الحديث.
(لسان الميزان) : 3/ 321، ترجمة رقم (131/ 4482) ، (الكامل في ضعفاء الرجال) : 4/ 214، ترجمة رقم (54/ 1021) .
[ (1) ] هذه الكلمة مطموسة في (خ) ، وأثبتناها من (تهذيب التهذيب) : 10/ 256 ترجمة (509) ، مقسم بن بجرة، ويقال: ابن نجدة، أبو القاسم، ويقال: أبو العباس للزومه له.
[ (2) ] سورة الأنفال الآية: 30.

(5/268)


فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه عليا ردّ اللَّه مكرهم فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدرى،
فاقتفوا [ (1) ] أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه [ (1) ] ثلاثا [ (2) ] .
وخرج من طريق الواقدي قال: فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: لما فقدت قريش النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، طلبوه بمكة في أعلاها وأسفلها، وبعثوا إلى قائفين [ (3) ] يتبعان أثره: أحدهما كرز بن علقمة، والآخر رجل من خزاعة، فذهب الخزاعي قبل حراء أو ثور.، وذهب كرز بن علقمة فأصاب أثره قبل ثور، فلم يزل عليه يتبعه، فلما انتهوا إلى ثور انقطع أثره ومعه جماعة.
قال: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين دخل الغار، ضرب العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض، فلما انتهوا إلى الغار قال قائل منهم: أدخل الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار؟ إن عليه لعنكبوت كان قبل ميلاد [محمد] ، ثم قام فبال في صدع الغار حتى سال بوله بين يدي النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر رضي اللَّه عنه،
فنهى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ عن قتل العنكبوت وقال: إنها جند من جنود اللَّه.
وقال أبو جهل: أما واللَّه إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا، فانصرفوا، ورجع اليهم الخزاعي بين ثور وحراء [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي ابن كثير: «فاقتصوا» ، «ثلاث ليال» .
[ (2) ] (تفسير ابن كثير) : 2/ 314- 316، تفسير سورة الأنفال.
[ (3) ] هم قصّاص الأثر.
وقال ابن كثير بعد أن ذكره: وهذا إسناد حسن، وهو من أجود ما روى في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية اللَّه لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، (البداية والنهاية) : 3/ 221.
[ (4) ] لم أجده بهذه السياقة، لكن أحاديث الباب تشهد له.

(5/269)


[حادي وثمانون: وقوف الحمام بفم الغار، وقيام شجرة على باب الغار]
وأما وقوف الحمام بفم الغار، وقيام شجرة على باب الغار، فخرج الأئمة:
أبو نعيم والبيهقي وغيرهما من حديث مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا عون بن عمر القيسي قال: سمعت أبا مصعب المكيّ يقول: أدركت أنس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنهم، فسمعتهم يحدثون أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليلة الغار، أمر اللَّه سبحانه وتعالى شجرة فنبتت في وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسترته، وأمر اللَّه سبحانه العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسترته، وأمر اللَّه حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار.
وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل، بعصيّهم وهراواتهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قدر أربعين ذراعا، فعجل بعضهم لينظر في الغار، فرأى حمامتين بفم الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد، فسمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قال، فعلم أن اللَّه عزّ وجلّ درأهم عنه بهما، فدعا لهما النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وسمّت عليهنّ وفرض جزاءهن، وانحدرن إلى الحرم، وأفرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم [ (1) ] .
يشعر قوله: وأفرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم، أن حمام الحرم كله من هذا الزوج، وفيه نظر، فإنه روى في قصة نوح عليه السلام: أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض، فوقعت بوادي الحرة، فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فأخضبت رجليها ثم جاءته، فمسح عنقها [وطوقها]
__________
[ (1) ] (عيون الأثر) : 1/ 182، حديث الغار، (طبقات ابن سعد) : 1/ 228- 229، ذكر خروج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبى بكر رضي اللَّه عنه إلى المدينة، عن مسلم بن إبراهيم بسنده وفيه زيادة قصة العنكبوت، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 325، باب ومما ظهر من الآيات في مخرجه إلى المدينة، وفي طريقه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (229) ، (دلائل البيهقي) : 2/ 481- 482، وقال ابن كثير في (السيرة) : 1/ 240: رواه ابن عساكر عن طريق يحى بن محمد بن صاعد، عن عمرو بن على، عن عمرو بن عون، فذكره ثم قال: هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.

(5/270)


ووهب لها الحمرة في رجليها وأسكنها الحرم، ودعا لها بالبركة. وفي شعر الحارث ابن فنحاص الّذي أوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ويبكى لبيت ليس يؤذى حمامه ... تظل به أمنا وفيه العصافر
ففي هذا أن الحمام كانت في الحرم من عهد جرهم.
وقال ابن عائذ: أخبرنى الوليد قال: أخبرنى طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبى رباح قال: خرجت عليهم من البحر فوجا فوجا، قال: فسألت طلحة:
أي طير هو؟ قال: سمعت أشياخنا يقولون: حمام الحرم بقية منه، يعنى بقية من الطير الأبابيل التي أرسلها اللَّه على أصحاب الفيل.
وخرج أبو نعيم من حديث الحكم بن عيينة، عن مقسم عن [ابن عباس] رضي اللَّه عنه قال: لما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الليل فلحق بغار ثور، قال:
وتبعه أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلما سمع رسول اللَّه حسّه خلفه، خاف أن يكون الطلب، فلما رأى أبو بكر رضي اللَّه عنه تنحنح، فلما سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عرفه، فقام له حتى تبعه، فأتيا الغار فأصبحت قريش في طلبه، فبعثوا إلى رجل قافة من بني مدلج فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار وعلى بابه شجرة، فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز صاحبكم الّذي تطلبون هذا المكان.
قال: فعند ذلك حزن أبو بكر رضي اللَّه عنه، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا،
قال: فمكث هو وأبو بكر في الغار يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة، وعليّ رضي اللَّه عنه يجهزهم [ (1) ] .
ومن طريق الواقدي قال: فحدثني موسى بن محمد عن أبيه قال: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الغار، دعا شجرة كانت أمام الغار، فقال: ائتيني، فأقبلت حتى وقفت على باب الغار، فقامت على باب الغار وهم يطوفون بالجبل، فأقبل بعضهم فبال [مستقبل باب] الغار، فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: ما نراه يرانا، فقال
__________
[ (1) ] لم أجده عند أبي نعيم.

(5/271)


رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لو رآنا ما استقبلنا بفرجه [ (1) ] ، [سيعيننا اللَّه عليهم] .
قال: فكان الّذي بال عقبة بن أبى معيط، قال: فلم يلق أحد من الجزع بخروج رسول اللَّه ما لقي الخبيث أبو جهل، وبعث مناديا ينادى أسفل مكة وأعلاها:
من جاء بمحمد فله مائة بعير أو دل عليه، أو جاء بابن أبى قحافة أو دلّ عليه فله مائة بعير.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 14، كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، باب مناتب المهاجرين وفضلهم منهم.
أبو بكر عبد اللَّه بن أبى قحافة التيمي رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3652) تعليقا، نقلا عن (السير للواقدي) : وما بين الحاصرتين زيادة من (خ) ، (المطالب العالية) : 4/ 206، باب هجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة حديث رقم (4292) ، وقال فيه: «لم يستقبلنا بعورته» وعزاه الأبي يعلى، (كنز العمال) : 16/ 661، كتاب الهجرتين من قسم الأفعال حديث رقم (46280) وأشار إلى ضعفه.

(5/272)


[ثانى وثمانون: وقوف الحية له وسلامها عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما وقوف الحية له وسلامها عليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال الواقدي في كتاب المغازي- وقد ذكر غزوة تبوك-: قالوا: وعارض الناس في مسيرهم حية ذكر من عظمها وخلقها وانصاع الناس عنها، فأقبلت حتى واقفت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق، فقامت قائمة.
فأقبل الناس حتى لحقوا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال لهم: هل تدرون من هذا؟
قالوا: اللَّه ورسوله أعلم! قال: فإن هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا يستمعون القرآن [ (1) ] ، فرأى عليه من الحق حين ألمّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببلده أن يسلم عليه، وها هو [ذا] [ (2) ] يقرئكم السلام فسلّموا عليه، فقال الناس جميعا. وعليه السلام ورحمة اللَّه، يقول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أجيبوا [ (3) ] عباد اللَّه من كانوا [ (4) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (مغازي الواقدي) : «الذين يريدون أن يسمعوا القرآن» .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة من المرجع السابق.
[ (3) ] في (خ) : «أحبوا» ، وما أثبتناه من المرجع السابق.
[ (4) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1015.

(5/273)


[ثالث وثمانون: شكوى الحمّرة حالها للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم لما فجعت بفرخيها]
وأما شكوى الحمرة [ (1) ] حالها للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم لما فجعت بفرخيها،
فخرج أبو داود من حديث الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، عن عبد اللَّه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فدخل رجل غيضه [ (2) ] فأخرج بيضة حمرة، فجاءت الحمرة ترفرف على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فقال: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضتها، فقال: [ردّه رحمة] [ (3) ] لها [ (4) ] .
وخرجه البخاري في الأدب المفرد ولفظه: عن عبد اللَّه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل منزلا، فأخذ رجل بيض حمرة فجاءت ترفرف على رأس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
أيكم فجع هذه ببيضتها؟ فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه أخذت بيضتها، فقال النبي:
اردده رحمة لها [ (4) ] .
وخرجه البيهقي من حديث أبى معاوية، عن أبى إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فمررنا بشجرة فيها فرخا حمرة، فأخذناهما، فجاءت الحمرة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وهي تعرض، فقال: من فجع هذه بفرخيها؟ قال: فقلنا: نحن، قال ردوهما، قال: فرددناهما
__________
[ (1) ] الحمّرة والحمرة: طائر من العصافير، وفي (الصحاح) : الحمّرة ضرب من الطير كالعصافير، وجمعها الحمر والحمّر، والتشديد أعلى. وفي الحديث: نزلنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فجاءت حمّرة، هي بضم الحاء وتشديد الميم وقد تخفف: طائر صغير كالعصفور. (القاموس) 4/ 214- 215.
[ (2) ] الغيضة: مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر، وفي حديث عمر رضي اللَّه تعالى عنه: لا تنزلوا المسلمين الغياض، والغياض جمع غيضة، وهي الشجر الملتف، لأنهم إذا نزلوها تفرقوا فيها فتمكّن منهم العدو.
قال ابن الأثير: الغابة غيضة ذات شجر كثير. وهي على تسعة أميال من المدينة (المرجع السابق) :
7/ 202.
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (4) ] (صحيح سنن أبى داود) : 2/ 508، باب (122) في كراهية حرق العدو بالنار، حديث رقم (2675) وقال الألباني: وأخرجه أيضا في كتاب الأدب بنفس الإسناد السابق، حديث رقم (5268) ، وقال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبى داود) : 3/ 988، باب (176) في قتل الذرّ.

(5/274)


إلى مواضعهما. قال البيهقي: كذا في كتابي: تعرض، وقال غيره: تفرش، يعنى تقرب إلى الأرض وترفرف بجناحيها [ (1) ] .
وخرجه الحاكم من حديث عثمان بن أبى شيبة، حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، حدثنا الحسين بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن أبيه فذكره قريبا منه ثم قال: حديث صحيح الإسناد [ (2) ] .
وقال الواقدي- وقد ذكر غزوة ذات الرقاع-: فكان جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه يقول: إنا لمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذ جاء رجل من أصحابه بفرخ طائر، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ينظر إليه، فأقبل أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه بين يدي الّذي أخذ فرخه، فرأيت الناس عجبوا من ذلك! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه، واللَّه لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 32- 33، باب ما جاء في الحمرة التي فجعت ببيضتها أو بفرخيها، فشكت إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حالها. وقال فيه قوله: وترفرف بجناحيها: ورواه أبو إسحاق الفزارىّ، عن أبى إسحاق الشيباني، عن الحسن بن سعد، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه، عن أبيه، وقال في الحديث: فجعلت تفرش، وهو في السادس والثلاثين من سنن أبى داود. وأخرجه ابن كثير في (البداية والنهاية) :
6/ 167، باب حديث الحمرة وهو طائر مشهور عن البيهقي، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 63، وعزاه للبيهقي، وأبى نعيم، وأبى الشيخ في (كتاب العظمة) كلهم عن ابن مسعود.
[ (2) ] (المستدرك) : 4/ 217، حديث رقم (7599/ 30) وزاد: ولم يخرجاه، ذكره في آخر كتاب الذبائح.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 398.

(5/275)


[رابع وثمانون: تسخير الأسد لسفينة (أحد الموالي) كرامة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما تسخير الأسد لسفينة [ (1) ]- أحد الموالي- كرامة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البيهقي وغيره من حديث أسامة بن زيد، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن سفينة- مولى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم- قال: ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبت لوحا منها فأخرجنى إلى أجمة [ (2) ] فيها أسد، إذ أقبل الأسد فلما رأيته قلت: يا أبا الحارث [ (3) ] ! أنا سفينة مولى رسول اللَّه، فأقبل نحوي حتى ضربني بمنكبه، ثم مشى معى حتى أقامنى على الطريق، ثم همهم [ (4) ] ساعة وضربني بذنبه، فرأيت أنه يودعنى [ (5) ] .
__________
[ (1) ] مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم أبو عبد الرحمن، كان عبدا لأم سلمة رضي اللَّه تعالى عنها، فأعتقته، وشرطت عليه خدمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما عاش. روى له في (مسند بقي) أربعة عشر حديثا وحديثه مخرّج في الكتب سوى صحيح البخاري.
وسفينة لقب له. واسمه مهران، وقيل: رومان، وقيل قيس. قيل: إنه حمل مرة متاع الرفاق، فقال له النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما أنت إلا سفينة» ، فلزمه ذلك. توفى بعد سنة سبعين، في زمن الحجاج.
له ترجمة في: (طبقات خليفة) : ت 32، 117، (التاريخ الكبير) : 4/ 209، 7/ 427، (التاريخ الصغير) : 1/ 197، (المعارف) : 146- 147 (الجرح والتعديل) : 4/ 320، 8/ 300، (المستدرك) : 3/ 606، (الاستيعاب) 684- 685، ترجمة رقم (1135) ، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 225، (تاريخ الإسلام) : 2/ 484، (الإصابة) : 3/ 132، ترجمة رقم (3336) ، (خلاصة تذهيب الكمال) : 137، (المطالب العالية) : 4/ 125- 126، ترجمة رقم (4127) ، (تهذيب التهذيب) : 4/ 110، ترجمة رقم (212) ، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 172- 173، ترجمة رقم (29) .
[ (2) ] الأجمة: المكان الّذي فيه شجر مجتمع كثير كثيف.
[ (3) ] أبو الحارث: اسم من أسماء الأسد.
[ (4) ] همهم: ردّد زئيره في صدره.
[ (5) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 583- 584، قصة سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (535) ، (حلية الأولياء) : 1/ 369، ترجمة سفينة أبو عبد الرحمن رقم (74) ، المطالب العالية: 4/ 125- 126، باب سفينة، حديث رقم (4127) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 45، باب ما جاء في تسخير اللَّه عزّ وجلّ الأسد لسفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كرامة لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما روى في معناه،

(5/276)


ومن طريق عبد اللَّه بن وهب، عن أسامة بن زيد أن محمد بن عبد اللَّه بن عمرو ابن عثمان حدثه عن محمد بن المنكدر، أن سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: ركبت البحر فانكسرت بى سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح إلى أجمة فيها الأسد، فدخلت فخرج إليّ الأسد فأقبل إليّ، فقلت: يا أبا الحارث: أنا مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فطأطأ رأسه وأقبل إليّ يدفعني بمنكبيه، فأخرجنى من الأجمة، ووقفني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعنى، فكان هذا آخر عهدي به [ (1) ] .
وخرجه الحاكم به نحوه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم [ (2) ] .
ومن طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحجبي، عن ابن المنكدر، أن سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أخطأ الجيش بأرض الروم أو أسر بأرض الروم، فانطلق هاربا يلتمس الجيش فإذا هو بالأسد! قال له: يا أبا الحارث، إني مولى رسول اللَّه، كان من أمرى كيت وكيت، فأقبل الأسد يبصبصه حتى قام إلى جنبه كلما سمع صوتا أهوى إليه ثم أقبل يمشى إلى جنبه، فلم يزل كذلك حتى بلغ الجيش ثم رجع الأسد [ (3) ] .
__________
[ () ] (المستدرك) : 2/ 675- 676، كتاب تواريخ المتقدمين، من الأنبياء والمرسلين، حديث رقم (4235/ 245) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 46 ذات الباب المذكور في التعليق السابق ونقله عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 162- 163.
[ (2) ] (المستدرك) : 3/ 702، كتاب معرفة الصحابة، حديث رقم (6550/ 2148) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التلخيص) : على شرط مسلم.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 46 ذات الباب المذكور في التعليق السابق ونقله عنه ابن كثير أيضا في (البداية والنهاية) : 6/ 163.

(5/277)


[خامس وثمانون: احتمال سفينة ما ثقل من متاع القوم ببركته صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وظهرت في سفينة معجزة أخرى
خرجها النسائي والحاكم [وصحح روايتها] من حديث سعيد بن [جمهان قال] : قلت لسفينة: ما اسمك؟ قال: ما أنا بمخبركم، ثم قال: سماني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سفينة، قلت: ولم سمّاك سفينة؟
قال: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومعه أصحابه، فثقل عليهم متاعهم، فقال لي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ابسط كساءك، فبسطته، فجعلوا فيه متاعهم فحملوه عليّ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم احمل فإنما أنت سفينة، فلو حملت من يومئذ. وقر بعير، أو بعيرين، أو ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة، ما ثقل عليّ [ (1) ] .
[إلا أن يخفوا] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 47، باب ما جاء في معجزة أخرى ظهرت له في مولاه سفينة، وبذلك سمّى سفينة، (المستدرك) : 3/ 701، كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر سفينة مولى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (6548/ 2146) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : صحيح، (حلية الأولياء) : 1/ 369) ترجمة سفينة أبو عبد الرحمن رقم (74) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة من كتب السيرة.
وقال أبو تميلة يحى بن واضح، عن أبى طيبة عبد اللَّه بن مسلم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: كنت مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فثقل على القوم بعض متاعهم، فجعلوا يطرحونه عليّ، فمرّ بى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: أنت زاملة. والزاملة البعير الّذي يحمل عليه الطعام والمتاع. وقال حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان: سمعت سفينة يقول: ثقل على القوم متاعهم ... وذكر الحديث. (تاريخ الإسلام) :
2/ 484، باب في مزاحه ودماثة أخلاقه الزكية صلّى اللَّه عليه وسلّم.

(5/278)


[سادس وثمانون: إحياء شاة جابر بعد ما طبخت وأكلت]
وأما إحياء شاة جابر بعد ما طبخت وأكلت، فقال الحافظ أبو نعيم: فان قلت إن عيسى عليه السلام كان يحى [الموتى بإذن] [ (1) ] اللَّه، فأعجب منه ما رفع اللَّه تعالى به شأن محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وجعله [ (2) ] آية بينة شهدها الجماعة الكثيرة على [ (3) ] إحياء شاة جابر بن عبد اللَّه، وما أحيا اللَّه لامرأة من الأنصار ابنها على عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم آية عجيبة لنبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
ثم ذكر من حديث أبى برّة [ (5) ] محمد بن أبى هاشم مولى بنى هاشم [بمكة] [ (1) ] قال: حدثنا أبو كعب البداح بن سهل الأنصاري، عن أبيه سهل بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك قال:
أتى جابر بن عبد اللَّه النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلم عليه فرد عليه السلام، قال: جابر فرأيت وجه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم متغيرا، وما أحسب وجه رسول اللَّه تغير إلا من الجوع [ (6) ] ، فأتيت منزلي فقلت للمرأة: ويحك! لقد رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، فرأيت [ (7) ] وجهه متغيرا، وما أحسب وجه رسول اللَّه متغيرا إلا من الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: واللَّه ما لنا إلا هذا الداجن وفضلة من زاد نعلّل بها الصبيان.
قال: فقلت لها هل لك أن نذبح هذا الداجن وتصنعين ما كان عندك ثم نحمله إلى رسول اللَّه؟ قالت: أفعل من ذلك ما أحببت، فذبحت الداجن وصنعت ما
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] في (المرجع السابق) : «وجعلت له آية ... » .
[ (3) ] في (المرجع السابق) «في» .
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 616، فصل ما أوتى عيسى عليه السلام.
[ (5) ] في (خ) : «برزة» وصوبناه من المرجع السابق.
[ (6) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «من جوع» .
[ (7) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «ووجهه متغيرا» .

(5/279)


كان عندها، وطحنت وخبزت، ثم ردنا في جفنة لنا،
فوضعت الداجن ثم حملتها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فوضعناها بين يديه، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: يا رسول اللَّه! أتيتك فسلمت عليك فرأيت وجهك متغيرا، فظننت أن وجهك لم يتغير إلا من الجوع، فذبحت داجنا كانت لنا، ثم حملتها إليك.
قال: يا جابر، اذهب فاجمع لي قومك، قال: فأتيت أحياء العرب فلم أزل أجمعهم فأتيته بهم، ثم دخلت إليه فقلت: يا رسول اللَّه، هذه الأنصار قد اجتمعت، فقال: أدخلهم عليّ أرسالا، فأدخلتهم عليه أرسالا فكانوا يأكلون منها، فإذا شبع قوم خرجوا ودخل آخرون، حتى أكلوا جميعا، وفضل في الجفنة شبيه ما كان فيها، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول لهم: كلوا ولا تكسروا عظما.
ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جمع العظام في وسط الجفنة، ووضع يده عليها، ثم تكلم بكلام لم أسمعه إلا أنى أرى شفتيه تتحركان، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها، فقال لي: خذ شاتك يا جابر، بارك اللَّه لك فيها.
فأخذتها ومضيت، وإنها لتنازعنى أذنها حتى أتيت بها البيت، فقالت لي المرآة:
ما هذا يا جابر؟ قلت: واللَّه هذه شاتنا التي ذبحناها لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، دعا اللَّه فأحياها لنا، قالت: أنا أشهد أنه رسول اللَّه، أنا أشهد أنه رسول اللَّه، أنا أشهد أنه رسول اللَّه، صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 616- 617، حديث رقم (560) ، وذكره السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 283، وعزاه إلى أبى نعيم.
وقال ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 325: قلت: وقد ذكرت في قصة سخلة جابر يوم الخندق وأكل الألف منها ومن قليل شعير ما تقدم، وقد أورد الحافظ محمد بن المنذر المعروف بيشكر في كتابه (الغرائب والعجائب) بسنده كما سبق أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جمع عظامها ثم دعا اللَّه تعالى فعادت كما كانت، فتركها في منزله. واللَّه تعالى أعلم. وقد أخرج البخاري في صحيحه قصة شاة جابر لكن بغير معجزة إحيائها. (فتح الباري) : 7/ 503، كتاب المغازي، باب (30) غزوة الخندق وهي الأحزاب، حديث رقم (4102) .

(5/280)


[سابع وثمانون: تسخير الطائر له صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما تسخير الطائر له،
فخرج البيهقي من حديث حبان قال: حدثنا أبو سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أراد الحاجة أبعد، قال: فذهب يوما فبعد تحت سمرة فنزع خفيه ولبس أحدهما، فجاء طائر فأخذ الخف الآخر فحلّق به في السماء، فانسلت منه أسود سالخ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هذه كرامة أكرمنى اللَّه بها، اللَّهمّ إني أعوذ بك من شر ما يمشى على رجلين، ومن شر ما يمشى على أربع، ومن شر ما يمشى على بطنه [ (1) ] .
__________
[ (1) ] ونقله ابن كثير عن البيهقي بسنده ولفظه في (البداية والنهاية) : 6/ 167 وعنوان له: حديث آخر في ذلك وفيه غرابة.

(5/281)


[ثامن وثمانون: كثرة غنم هند [بنت عتبة] [ (1) ] بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما كثرة غنم هند بدعائه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فقال أبو الوليد الواقدي: حدثني عبد اللَّه ابن يزيد عن أبى حصين الهذليّ قال: لما أسلمت هند بنت عتبة، أرسلت إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهدية وهو بالأبطح مع مولاة [ (2) ] لها، بجديين مرضوفين [ (3) ] وقد [ (4) ] ، فانتهت الجارية إلى خيمة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم. فسلّمت واستأذنت فأذن لها، فدخلت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو بين نسائه: أم سلمة [زوجته] [ (5) ] وميمونة، ونساء من نساء بنى عبد المطلب، فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك وتقول: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بارك اللَّه لكم في غنمكم، وأكثر والدتها.
فرجعت المولاة إلى هند فأخبرتها بدعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسرت بذلك، فكانت المولاة تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتنا ما لم نكن نرى قبل ولا
__________
[ (1) ] هي هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية، والدة معاوية بن أبى سفيان. أخبارها قبل الإسلام مشهورة، وشهدت أحدا، وفعلت بحمزة ما فعلت، ثم كانت تؤلب على المسلمين إلى أن جاء اللَّه تعالى بالفتح فأسلم زوجها، ثم أسلمت هي يوم الفتح.
ومن طرق ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح مرسل عن الشعبي، وعن ميمون بن مهران، ففي رواية الشعبي لما سمعت قوله تعالى: وَلا يَزْنِينَ، قالت هند: وهل تزني الحرة، وعند قوله تعالى:
وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ، قالت هند: أنت قتلتهم، وفي رواية نحوه، لكن قالت: وهل تركت لنا ولدا يوم بدر؟
وسؤالها عن أخذها من مال زوجها بغير إذنه ما يكفيها، وهل عليها فيه من حرج؟ مخرّج في الصحيحين، وفيه: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك، وهو من رواية هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، ترجمتها في: (الإصابة) : 8/ 2155 ترجمة رقم (11856) ، (طبقات ابن سعد) : 8/ 170، (الاستيعاب) : 4/ 1922- 1923، ترجمة رقم (4113) .
[ (2) ] في (خ) : «مولاتها» وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] المرضوف: الّذي يشوى على الرضف، والرضف الحجارة المحماة على النار. (النهاية) : 2/ 85.
[ (4) ] القدّ: جلد السخلة. (القاموس المحيط) .
[ (5) ] زيادة من (مغازي الواقدي) .

(5/282)


قريبا، فتقول هند: هذا دعاء رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبركته، فالحمد للَّه الّذي هدانا للإسلام، ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أنى في الشمس أبدا قائمة والظلّ منىّ قريب لا أقدر عليه، فلما دنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منا رأيت كأنى دخلت الظل [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 2/ 868- 869.

(5/283)


[تاسع وثمانون: إحياء الحمار الّذي نفق]
وأما الّذي أحيا اللَّه تعالى له حماره، فخرج البيهقي من حديث الحسن بن عرفة، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن أبى سبرة النخعي قال:
أقبل رجل من أهل اليمن، فلما كان في بعض الطريق نفق حماره فقام فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قال: اللَّهمّ إني خرجت من الدثينة [ (1) ] مجاهدا في سبيلك [و] ابتغاء مرضاتك، وأشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليّ اليوم منّة، أطلب إليك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه [ (2) ] .
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومثل هذا يكون كرامة لصاحب الشريعة، حيث يكون في أمته مثل هذا. وقد رواه محمد بن يحى الذهلي، وغيره، عن محمد ابن عبيد عن إسماعيل، عن الشعبي [ (2) ] . [وكأنه سمعه منهما] [ (3) ] .
وخرجه من طريق أبى بكر بن أبى الدنيا قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، وأحمد بن بجير وغيرهما، قالوا: حدثنا [ (4) ] محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبي، أن قوما أقبلوا من اليمن متطوعين في سبيل اللَّه، فنفق حمار رجل منهم، فأرادوه أن ينطلق معهم [فأبى] [ (3) ] ، قال: فقام فتوضأ وصلى وقال: اللَّهمّ إني جئت من الدثينة- أو قال- الدفينة- مجاهدا في سبيلك وابتغاء مرضاتك، وإني أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد عليّ منّة، وإني أطلب إليك أن تبعث لي حماري، ثم قام إلى الحمار فضربه، فقام الحمار ينفض أذنيه، فأسرجه ثم ألجمه ثم ركبه، [فأجراه فلحق] [ (5) ] بأصحابه، فقالوا: ما شأنك؟
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، (دلائل البيهقي) ، وفي (البداية والنهاية) : «الدفينة» .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 48، باب ما جاء في المجاهد في سبيل اللَّه الّذي بعث حماره بعد ما نفق.
[ (3) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «أنبأنا» .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(5/284)


قال: شأنى [ (1) ] أن اللَّه بعث لي حماري [ (2) ] .
قال الشعبي: فأنا رأيت الحمار بيع أو يباع بالكناسة [ (3) ] ، قال ابن أبى الدنيا:
أخبرنى العباس بن هشام عن أبيه عن جده، عن مسلم [ (4) ] بن عبد اللَّه بن شريك النخعي، أن صاحب الحمار رجل من النخع يقال له: نباته بن يزيد، خرج في زمن عمر رضي اللَّه عنه غازيا، حتى إذا كان بسرّ [ (5) ] عميرة نفق حماره، فذكر القصة غير أنه قال: فباعه [بعد] [ (6) ] بالكناسة، فقيل له: تبيع حمارا أحياه اللَّه لك؟ قال: فكيف أصنع؟ فقال رجل من رهطه ثلاثة أبيات فحفظت هذا البيت:
ومنّا الّذي أحيا الإله حماره ... وقد مات منه كل عضو ومفصل [ (7) ]
وفي كتاب (الجمهرة لابن الكلبي) : وولد عامر بن سعد بن مالك بن النخع عوفا ومالكا والحارث وحزنا، منهم نباته بن يزيد الّذي أحيا اللَّه حماره في زمن عمر بن الخطاب وقد نفق بسنّ سميرة فأحياه اللَّه حتى غزا قزوين ثم رجع فباعه بعد بالكوفة [ (8) ] وذكر البكري أن سنّ سميرة بالقرب من عانات [ (9) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «قال: ما شأني» وما أثبتناه أجود للسياق، وهو حق اللغة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 49، باب ما جاء في المجاهد في سبيل اللَّه الّذي يعث حماره حق بعد ما نفق.
[ (3) ] الكناسة: موضع مشهور بالكوفة.
[ (4) ] في (خ) : «سلمة» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (5) ] في (خ) : «ببئر» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (6) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (7) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 49، في ذات الباب، وعنه نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 169، 170 باب حديث فيه كرامة لولىّ من هذه الأمة، ثم قال: وقد ذكرنا في باب رضاعه عليه السلام، ما كان من حمارة حليمة السعدية، وكيف كانت تسبق الركب في رجوعها لما ركب معها عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو رضيع، وقد كانت أدمت بالركب في مسيرهم إلى مكة، وكذلك ظهرت بركته عليه في شارفهم- وهي الناقة التي كانوا يحلبونها- وشياههم، وسمنهم، وكثرة ألبانها، صلوات اللَّه وسلامه.
عليه.
[ (8) ] (اللباب) : 2/ 306، قال: وقد فاته عامر بن سعد بن مالك بن النخع، بطن من النخع، ومنهم نباته بن يزيد الّذي أحيا اللَّه حماره ...
[ (9) ] (معجم ما استعجم) : 2/ 761. قال كثيّر:

(5/285)


[تسعون: إحياء اللَّه ولد المهاجرة بعد موته، وإجابة دعاء العلاء بن الحضرميّ [ (1) ]]
وأما إحياء اللَّه ولد المهاجرة بعد موته، وإجابة دعاء العلاء بن الحضرميّ حتى سقى اللَّه المسلمين وقد عطشوا، وحتى جاز بهم البحر للقاء عدوهم، ومشي مسلم الخولانيّ على الماء تكرمة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البيهقي من طريق أبى أحمد بن عدي الحافظ قال: حدثنا محمد بن طاهر بن أبى الدميك، حدثنا عبيد اللَّه بن عائشة، حدثنا صالح المري، حدثنا ثابت عن أنس قال: عدنا شابا من الأنصار وعنده أم له عجوز عمياء، قال فما برحنا أن فاض- يعنى مات- ومددنا على وجهه الثوب وقلنا لأمه: يا هذه، احتسبي مصابك عند اللَّه، قالت: أمات ابني؟ قلنا نعم.
قالت: اللَّهمّ إن كنت تعلم أنى هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعينني عند كل شديدة، فلا تحمل على هذه المصيبة اليوم. قال أنس، فو اللَّه ما برحت حتى
__________
[ () ]
خيل بعانات فسنّ سميرة ... له لا يردّ الذائدون نهالها
وعانات: موضع من أرياف العراق، قال الخليل: مما يلي ناحية الجزيرة تنسب إليه الخمر الجيدة.
(المرجع السابق) : 2/ 914.
[ (1) ] هو العلاء بن الحضرميّ، وكان اسمه عبد اللَّه بن عماد [أو عباد أو هنماد] بن أكبر بن ربيعة بن مالك ابن عوين الحضرميّ، وكان عبد اللَّه الحضرميّ أبوه قد سكن مكة، وحالف حرب بن أمية والد أبى سفيان، وكان للعلاء عدة إخوة، منهم عمرو بن الحضرميّ، وهو أول قتيل من المشركين، وماله أول مال خمّس في المسلمين، وبسببه كانت وقعة بدر، واستعمل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم العلاء على البحرين، وأمّره أبو بكر، ثم عمر. مات سنة أربع عشرة، وقيل سنة إحدى وعشرين.
روى عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وروى عنه من الصحابة السائب بن يزيد، وأبو هريرة، وكان يقال: أنه مجاب الدعوة، وخاض البحر بكلمات قالها، وذلك مشهور في كتب الفتوح. له ترجمة في:
(الإصابة) : 4/ 541، ترجمة رقم (5646) ، (الاستيعاب) : 3/ 1085، ترجمة رقم (1841) ، (أسماء الصحابة الرواة) : 227- 228، ترجمة رقم (313) ، (تهذيب التهذيب) ، 8/ 159 ترجمة رقم (320) .

(5/286)


كشف الثوب عن وجهه وطعم وطعمنا معه [ (1) ] .
ومن طريق ابن أبى الدنيا قال: حدثنا خالد بن خداش بن عجلان المهلبي، وإسماعيل بن إبراهيم بن بسام قالا: حدثنا صالح المري عن ثابت البناني عن أنس ابن مالك قال: عدت شابا من الأنصار فما كان أسرع من أن مات فأغمضناه ومددنا عليه الثوب فقال بعضنا لأمه: احتسبيه، قالت: وقد مات؟ قلنا: نعم، قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا نعم.
فمدت يدها إلى السماء وقالت: اللَّهمّ إني آمنت بك وهاجرت إلى رسولك، فإذا نزلت بى شديدة دعوتك ففرجتها، فأسألك اللَّهمّ لا تحمل عليّ هذه المصيبة اليوم، قال: فكشف الثوب عن وجهه، فما برحنا حتى أكلنا، وأكل معنا [ (2) ] .
قال البيهقي: صالح بن بشير المري من صالحي أهل البصرة وقصاصهم، تفرد بأحاديث مناكير عن ثابت وغيره [ (3) ] ، وقد روى هذا من وجه آخر مرسلا بين ابن عون وأنس بن مالك، فذكر حديث أبى حمزة إدريس بن يونس قال: حدثنا محمد ابن يزيد بن مسلمة، حدثنا عيس بن يونس، عن عبد اللَّه بن عون عن أنس قال:
أدركت في هذه الأمة ثلاثا لو كان [ (4) ] مثلها في بنى إسرائيل [لما تقاسمتها الأمم] [ (4) ] ولكان عجبا، قلنا [ (5) ] ما هن يا أبا حمزة؟
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 50، باب ما جاء في المهاجرة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التي أحياء اللَّه تعالى بدعائها ولدها بعد ما مات، وما جاء في الكرامات التي ظهرت على العلاء الحضرميّ وأصحابه، (دلائل أبي نعيم) :
2/ 617- 618، حديث رقم (561) .
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 50- 51، وفي (خ) : «خالد بن خداش» .
[ (3) ] صالح بن بشير المري: بصرى، واعظ شهير، ضعفه ابن معين، والدار قطنى، والعقيلي، وابن حبان، وقال أحمد: هو صاحب قصص، ليس هو بصاحب حديث ولا بعرف الحديث، وقال الفلاس: منكر الحديث جدا، وقال النسائي: متروك. له ترجمة في: (التاريخ الكبير) : 4/ 273، ترجمة رقم (2782) ، (الضعفاء الكبير للعقيليّ) : 2/ 199، ترجمة رقم (723) ، (المجروحين) : 1/ 371، (الميزان) : 2/ 289، ترجمة رقم (3773) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «كانوا» .
[ (5) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «قلن» ، وما أثبتناه أجود للسياق.

(5/287)


قال: كنا في الصفة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة، فمرض أياما ثم قبض، فغمّضه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسّله قال: يا أنس، ائت أمّه فأعلمها، قال: فأعلمتها،
فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت اللَّهمّ إني أسلمت لك طوعا، وخلعت الأوثان زهدا، وهاجرت إليك رغبة، اللَّهمّ لا تشمت بى عبدة الأوثان، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها.
قال: فو اللَّه [ما انقضى] [ (1) ] كلامها حتى حرك قدميه وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض اللَّه رسوله وحتى هلكت أمه، ثم [قال:] [ (2) ] جهز عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يعنى جيشا- واستعمل عليه العلاء بن الحضرميّ.
قال: وكنت في غزاته فأتينا مفازة [ (3) ] فوجدنا القوم قد نذروا بنا فعفوا آثار الماء، قال: والحرّ شديد فجهدنا [العطش] [ (2) ] ودوابّنا، وذلك يوم الجمعة [قال:] [ (2) ] [فلما مالت] [ (2) ] الشمس لقرنها [ (4) ] صلى بنا ركعتين ثم مد يده وما نرى في السماء شيئا، قال: فو اللَّه ما حط يده حتى بعث اللَّه ريحا وأنشأ سحابا.
فأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب، فشربنا، وسقينا واستقينا، ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجا في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا عليّ يا عظيم [يا حليم] [ (2) ] يا كريم، ثم قال: أجيزوا بسم اللَّه. قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فأصبنا العدوّ غيلة، فقتلنا، وأسرنا وسبينا، ثم أتينا الخليج، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا. فلم يلبث إلا يسيرا حتى رئي في دفنه، فحفرنا له وغسّلناه ودفنّاه.
فجاء رجل يعدو [بعد] فراغنا من دفنه فقال: من هذا؟ فقلنا: هذا خير البشر.
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «ما تقضّى» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «مغازينا» .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «لغربها» .

(5/288)


هذا ابن الحضرميّ، فقال: إن هذه الأرض تلفظ الموتى، فلو نقلتموه إلى ميل أو ميلين إلى أرض تقبل الموتى، فقلنا: ما جزاء صاحبنا أن نعرضه للسباع تأكله؟ قال:
فاجتمعنا على نبشه، فلما وصلنا إلى اللحد إذا صاحبنا ليس فيه. وإذا اللحد مدّ البصر نورا [ (1) ] يتلألأ، فأعدنا التراب إلى القبر ثم ارتحلنا.
قال البيهقي: وقد روى عن أبى هريرة في قصة العلاء بن الحضرميّ واستسقائه ومشيهم على الماء، دون قصة الموت بنحو من هذا، وقال في الدعاء: يا عليم يا حليم يا عظيم يا على، إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، فاسقنا غيثا نشرب منه ونتوضأ، وإذا تركناه فلا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا. وقال في البحر: فاجعل لنا سبيلا إلى عدوك. وقال في الموت: أخف جثتي ولا تطلع على عورتي أحد فلم يقدر عليه [ (2) ] .
وخرج أيضا من حديث ابن نمير عن الأعمش، عن بعض أصحابه قال: انتهينا إلى دجلة، وهي مادّة والأعاجم خلفها، فقال رجل من المسلمين: بسم اللَّه، ثم اقتحم فرسه فاندفع على الماء، فقال الناس: بسم اللَّه، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فلما ظهر إليهم الأعاجم قالوا: ديوان ديوان، ثم ذهبوا على وجوههم، فما فقدوا إلا قدحا كان معلقا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء بيضاء؟ [ (3) ] .
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق «نور» ، وما أثبتناه أجود للسياق فهو حق اللغة.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 53.
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 53- 54، ثم قال البيهقي: قلت: كل هذا يرجع إلى إكرام اللَّه تعالى نبيه وإعزازه دينه الّذي بعث به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتصديقه ما وعده من إظهاره وإظهار شريعته.
وعن البيهقي ذكر ابن كثير قصة العلاء بن الحضرميّ في (البداية والنهاية) : 6/ 171- 172، وذكرها أبو نعيم في (الحلية) : 1/ 807، وذكر أيضا في (دلائل النبوة) : 2/ 573، الفصل التاسع والعشرون: ما جرى على يدي أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعده، كعبور العلاء بن الحضرميّ وجيش سعد على البحر، وما جرى على يد خالد في أيام أبى بكر، ونوحة الجن، وغيره، حديث رقم (521) .
قال محققا (دلائل النبوة لأبى نعيم) :
هذا الفصل يتحدث لنا عن الأمور الخارقة لقوانين الطبيعة التي حصلت لبعض أصحاب نبينا محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بعد وفاته، والخوارق على خمسة أنواع:
أ- فإن ظهرت لرسول قبل بعثته سميت إرهاصا، أي تأسيسا للرسالة.

(5/289)


وقال سيف بن عمر عن الصعب بن عطية بن بلال، عن سهم بن منجاب، عن منجاب بن راشد، قال: بعث أبو بكر رضي اللَّه عنه العلاء بن الحضرميّ على قتال أهل الردة بالبحرين، فذكره إلى أن قال: وخرج مع العلاء سعد والرباب مثل عسكره، وسلك بنا الدّهناء حتى إذا كنا في بحبوحتها [والحنّانات والعزافات] [ (1) ] ، أرادا اللَّه عزّ وجل أن يرينا آية [ (2) ] ، نزل وأمر الناس بالنزول فنفرت الإبل في جوف الليل، فما بقي عندنا بعير ولا ناد ولا مزاد، ولا بناء إلا ذهب عليها في عرض الرمل، وذلك حين نزول الناس وقبل أن يحطوا، فما علمت جمعا هجم عليهم من الهم والغم ما هجم علينا، وأوصى بعضنا إلى بعض، ونادى منادى العلاء: اجتمعوا، فاجتمعنا إليه فقال: ما هذا الّذي قد ظهر فيكم وغلب عليكم؟ فقال الناس [وكيف] [ (1) ] نلام ونحن غدا لم تحم شمسه [ (3) ] حتى نصير حديثا؟
فقال: أيها الناس! لا تراعوا، ألستم [ (4) ] مسلمين؟ ألستم في سبيل اللَّه؟ ألستم أنصار اللَّه قالوا: [بلى] ، قال: فأبشروا، فو اللَّه لا يخذل اللَّه من كان [في] [ (1) ]
__________
[ () ] ب- وإن ظهرت لرسول بعد بعثته سميت معجزة.
ج- وإن ظهرت لمؤمن ظاهر الصلاح ولم يدّع النبوة سمّيت كرامة، وهذا ما يسمى ب «كرامات الأولياء» ، وإنما قلنا: «ظاهر الصلاح» لأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء، والأولياء يخطئون، لكنهم سرعان ما يهرعون إلى التوبة، والمذكور في هذا الفصل كله كرامات لأولئك الصفوة الأخيار من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإن كنا نؤمن بوجود الكرامة إلا أننا نلحّ في إثبات صحتها بالسند الصحيح، لأن الخرافة قد شاعت وانتشرت، فيجب تمييز الكرامة عنها بالنقل الصحيح.
ج- وإن ظهرت الخوارق لمن ظاهره الفسق كان استدراجا، حيث يملى اللَّه تعالى له، فيتمادى في غيّه، حتى إذا أخذه اللَّه كان أخذه له شديدا، [قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم 44- 45] .
هـ- وإن ظهرت الأمور الخارقة على يد رجل على نقيض ما يريد، كمن تفل في عين أرمد ليبرئها فاعوّرت العين، كانت إخزاء وتبكيتا.
وذكرها الذهبي في (تاريخ الإسلام) : 3/ 235- 236، في ترجمة العلاء بن الحضرميّ.
[ (1) ] زيادة للسياق من (تاريخ الطبري) .
[ (2) ] في (خ) : «إبانة» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (3) ] في (خ) : «شمسها» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (4) ] في (خ) : «السنا» وما أثبتناه من (المرجع السابق) .

(5/290)


مثل حالكم ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر، [فصلى] [ (1) ] بنا- ومنا المتيممون [ (2) ] ومنا من لم يزل على طهوره- فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس، فنصب في الدعاء [ (3) ] ، ونصبوا معه، فلمع [لهم] [ (1) ] سراب [مع] [ (4) ] الشمس، فالتفت إلى الصف فقال: رائد ينظر ما هذا؟ ففعل ثم رجع [فقال سراب] [ (5) ] ، فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر فكذلك، ثم لمع لهم آخر، فقال: ماء، فقام وقام الناس، فمشينا إليه حتى نزلنا عليه، فشربنا واغتسلنا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل تكرد [ (6) ] من كل وجه، فأناخت إلينا، فقام رجل إلى ظهره [فأخذه] [ (7) ] ، فما فقدنا سلكا [ (8) ] فأرويناها وأسقيناها العلل بعد النّهل، وتروينا ثم تروحنا.
وكان أبو هريرة رضي اللَّه عنه رفيقي، فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي:
كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ فقلت: أنا من أهدى العرب بهذه البلاد، قال: فكرّ معى حتى يقيمنى عليه، قال فكررت به، فأتيت [به] [ (7) ] على ذلك المكان [بعينه، فإذا هو لا غدير به، ولا أثر للماء، فقلت له] [ (9) ] : واللَّه لولا الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء ناقعا قبل اليوم، وإذا إداوة مملوءة، فقال: يا أبا سهم! هذا واللَّه [ذلك] [ (10) ] المكان، ولهذا رجعت ورجعت بك، ملأت إداوتي ثم وضعتها على شفيره، فقلت: إن كان منا من المنّ وكانت آية عرفتها، وإن كان غياثا عرفته، فإذا من من المنّ فحمد اللَّه ثم سرنا حتى ننزل هجر، فذكر سيف الخبر إلى أن قال: وندب الناس إلى
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (تاريخ الطبري) .
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «المتيمم» .
[ (3) ] نصب في الدعاء: إذا تعب فيه واجتهد، قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7] .
[ (4) ] زيادة في (خ) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (تاريخ الطبري) .
[ (6) ] الكرد: الطرد.
[ (7) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (8) ] السلك: جمع سلكة وهو الخيط الّذي يخاط به الثوب.
[ (9) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) ، واستدركناه من (المرجع السابق) .
[ (10) ] زيادة من (خ) .

(5/291)


دارين.
ثم جمعهم فخطبهم وقال: إن اللَّه عزّ وجلّ قد جمع لكم أحزاب الشياطين وشرّد الحرب في هذا البحر، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوكم، ثم استعرضوا البحر اليهم، فإن اللَّه عز وجلّ قد جمعهم فقالوا: نفعل ولا نهاب واللَّه بعد الدّهناء هؤلاء ما بقينا، فارتحل وارتحلوا حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموه على الصاهل [ (1) ] والجامل [ (2) ] ، والشاحج [ (3) ] والناهق، والراكب والراجل، ودعا ودعوا، وكان دعاؤه ودعاؤهم:
يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم، يا أحد يا [صمد] [ (4) ] يا حىّ يا محيي الموتى، يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت يا ربّنا، [فأجازوا ذلك] [ (4) ] الخليج بإذن اللَّه جميعا، يمشون على مثل رملة ميثاء فوقها ماء [يغمر] [ (4) ] أخفاف الإبل، وإنما بين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن [ (5) ] البحر في بعض الحالات، فالتقوا بها فاقتتلوا [قتالا شديدا] [ (4) ] فما تركوا بها مخبرا [ (6) ] وسبوا الذراري واستاقوا الأموال، فبلغ نفل الفارس ستة آلاف، والراجل، ألفين قطعوا ليلهم [ (7) ] ، وساروا يومهم، فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا، وقال في ذلك [ (8) ] عفيف بن المنذر:
ألم تر أن اللَّه ذلّل بحرة ... وأنزل بالكفّار إحدى الجلائل
دعونا الّذي شقّ البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل
قال: وكان مع المسلمين راهب في هجر فأسلّم يومئذ [ (9) ] ، فقيل [له] [ (10) ] :
__________
[ (1) ] الصاهل: الفرس، والصهيل صوته.
[ (2) ] الجامل: القطيع من الإبل.
[ (3) ] الشاحج: البغل، والشحيح صوته.
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (5) ] في (خ) : «بسقن» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (6) ] مخبرا، أي أحدا يخبر بما كان، يريد أنهم استأصلوهم.
[ (7) ] في (خ) : «إليهم» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (8) ] في (خ) : «إليهم» ، وصوبناه من (المرجع السابق) .
[ (9) ] في (خ) : «أياسئذ» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (10) ] زيادة من (خ) .

(5/292)


ما دعاك إلى الإسلام؟ قال: ثلاثة أشياء، خشيت أن يمسخنى اللَّه بعدها إن أنا لم أفعل: فيض في الرمال، وتمهيد أثياج البحار، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السّحر، قالوا وما هو؟ قال:
اللَّهمّ أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك، والبديع ليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، والحىّ الّذي لا يموت، خالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللَّهمّ كلّ شيء بغير تعليم، فعلمت أن القوم لم يغاثوا [ (1) ] بالملائكة إلا وهم على أمر اللَّه، فلقد كان أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسمعون من ذلك الهجريّ بعد.
وكتب العلاء إلى أبى بكر رضى اللَّه عنه:
أما بعد، فإن اللَّه عز وجل فجّر لنا الدّهناء فيضا لا ترى غواربه، وأرانا آية وعبرة بعد غمّ وكرب، لنحمد اللَّه ونحمده، فادع اللَّه واستنصره لجنوده وأعوان دينه، فحمد [أبو بكر] [ (2) ] اللَّه ودعاه وقال: ما زالت العرب [فيما] [ (2) ] تحدث عن بلدانها، يقولون: إن لقمان حين سئل عن الدّهناء: أيحتفرونها أو يدعونها؟
نهاهم وقال: لا تبلغها الأرشية، ولم تقر العيون، وقال: إن شأن هذا الفيض من عظيم الآيات، وما سمعنا به في أمة قبلنا، اللَّهمّ اخلف محمدا فينا [ (3) ] ، فلما عبر العلاء البحر إلى دارين [ (4) ] كتب إليه:
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي المرجع السابق: «لم يعانوا» .
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] (تاريخ الطبري) : 3/ 301 وما بعدها، من أحداث سنة (11 هـ) ، ذكر خبر أهل البحرين، وردّة الحطم، ومن تجمع معه بالبحرين، وقال فيه بعد قول أبى بكر: اللَّهمّ اخلف محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم فينا: ثم كتب إليه العلاء بهزيمة أهل الخندق، وقتل الحطم، قتله زيد ومعمر: أما بعد، فإن اللَّه تبارك اسمه سلب عدوّنا عقولهم، وأذهب ريحهم بشراب أصابوه من النهار، فاقتحمنا عليهم خندقهم، فوجدناهم سكارى، فقتلناهم إلا الشريد، وقد قتل اللَّه الحطم.
فكتب إليه أبو بكر: أما بعد، فإن بلغك عن بنى شيمان بن ثعلبة تمام على ما بلغك، وخاض فيه المرجفون، فابعث إليهم جندا فأوطئهم، وشرّد بهم من خلفهم، فلم يجتمعوا، ولم يصر ذلك من إرجافهم شيء. (المرجع السابق) 3/ 313، (الكامل في التاريخ) : 2/ 368- 372، ذكر ردّة، أهل البحرين.
[ (4) ] دارين: فرضة بالبحرين تجلب إليها المسك من الهند، والنسبة إليها: داريّ. قال الفرزدق.
كأن تريكة من ماء مزن ... ودارىّ الزكىّ من المدام
وفي كتاب سيف: أن المسلمين اقتحموا إلى دارين البحر مع العلاء بن الحضرميّ فأجازوا ذلك الخليج

(5/293)


أما بعد، فإن اللَّه عزّ وجلّ حفظ محمدا فيمن لزم عهده، وقام على أمره، وكفاهم فقده، وأحسن عليهم الخلافة من بعده، فكنا فيمن حفظ منه، ومنا كمن كان معه نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيمن قبلنا، وانتهينا إلى البحر فتوكلنا على اللَّه فركبناه، فمهّد لنا أثباجه، وأرانا آياته، فعبرنا إلى عدونا بدارين، فلم ندع مقاتلا إلا قتلناه، وسبينا الذراري والنساء، وقسمنا ذلك على المسلمين، فبلغ سهم الفارس ستة آلاف والراجل ألفين، سوى ما نفلت من الأخماس أهل البلاد، وبعث إليه بالخمس.
قال كاتبه: تأمل كتاب العلاء بن الحضرميّ إلى أبى بكر رضي اللَّه عنهما تجده قد عدّ عبورهم إلى البحر معجزة، وعلما من أعلام نبوة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وتصديقه ما وعده من إظهاره وإظهار شريعيه [ (1) ] .
وخرج من حديث أبى العباس السراج، حدثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد اللَّه قالا: حدثنا أبو النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولانيّ رحمه اللَّه، جاء إلى الدجلة وهي ترمى الخشب من مدها، فمش على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعوا اللَّه؟ قال البيهقي: هذا إسناد صحيح [ (1) ] .
__________
[ () ] بإذن اللَّه جميعا يمشون على رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل ... ثم قال ياقوت الحموي: وهذه صنفة أوال، أشهر مدن البحرين اليوم، ولعل اسمها أول ودارين، واللَّه أعلم، فتحت في أيام أبى بكر رضي اللَّه تعالى عنه سنة (12 هـ) . (معجم البلدان) : 2/ 492، موضع رقم (4658) ، وقال في هامشه: قال محمد بن عبد المنعم الحميري في كتاب (الروض المعطار) : 230: دارين: وبعضهم يقول دارون، قرية في بلاد فارس على شاطئ البحر، فيقال مسك دارين وطيب دارين، وليس بدارين، طيب. قال الأصمعي: سأل كسرى عن هذه القرية من بناها. فقالوا: دارين، أي عتيقة بالفارسية، وقيل: بل كسرى قال: دارين لما لم يدر أوليتها.
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 54، وعنه نقلها ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 173. والعبارة السابقة على هذا الخبر من كلام المقريزي رحمه اللَّه، ولعله اقتبسها من كلام البيهقي، حيث قال في ذات الموضع:
قلت: كل هذا يرجع إلى إكرام اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم وإعزازه دينه الّذي بعث به رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وتصديقه ما وعده من إظهاره وإظهار شريعته.

(5/294)


[حادي وتسعون: شهادة الميّت للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة]
وأما شهادة الميت للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة، فخرج البيهقيّ وغيره من حديث القعنبيّ، قال: حدثنا سليمان بن بلال عن يحى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أن زيد بن خارجة الأنصاري، من بنى الحارث بن الخزرج، توفى زمن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه فسجى في ثوبه [ (1) ] ، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الصديق الضعيف في نفسه القوى في أمر اللَّه في الكتاب الأول، صدق صدق عمر بن الخطاب القول الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجهم، مضت أربع وبقيت اثنتان، أتت الفتن، وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة وسيأتيكم من جيشكم خبر بئر أريس [ (2) ] ، وما بئر أريس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «بقوبه» ، وما أثبتناه من (دلائل البيهقي) .
[ (2) ] بئر أريس: يفتح الهمزة، وكسر الراء، وسكون الياء آخر الحروف، وسين مهملة: بئر بالمدينة، ثم بقباء مقابل مسجدها، قال أحمد بن يحى بن جابر: نسبت إلى أريس رجل من المدينة من اليهود، عليها مال لعثمان بن عفان رضى اللَّه عنه، وفيها سقط خاتم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من يد عثمان، في السنة السادسة من خلافته، واجتهد في استخراجه بكل ما وجد إليه سبيلا، فلم يوجد إلى هذه الغاية، فاستدلوا بعد به على حادث في الإسلام عظيم، وقالوا: إن عثمان لما مال عن سيرة من كان قبله، كان أول ما عوقب به ذهاب خاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من يده، وقد كان قبله في يد أبى بكر، ثم يد عمر، ثم في يد عثمان.
وقصة خاتم عثمان مذكورة في (صحيح مسلّم) كتاب اللباس والزينة، باب لبس النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خاتما من ورق، من حديث ابن عمر، وسيأتي ذلك في موضعه مفصلا إن شاء اللَّه تعالى.
ولبئر أريس أيضا من الفضل أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يضع رجليه فيها، ويتوضأ منها، وعندها بشّر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان بالجنة، رضي اللَّه عنهم أجمعين، كما ورد ذلك في (صحيح البخاري) ، وسيأتي ذلك في موضعه مفصلا إن شاء اللَّه تعالى.
والأريس في لغة أهل الشام: الفلّاح، وهو الأكار، وجمعه أريسيون، وأرارسة وأرارس، في الأصل جمع أرّيس بتشديد الراء، وأظنها لغة عبرانية، وأحسب أن الرئيس مقدم القرية تعريبه، وفي كتاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى هرقل عظيم الروم: «وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» . (معجم البلدان) : 1/ 354، موضع رقم (1209) ، (المصباح المضيء) : 2/ 74
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 55، باب ما جاء في شهادة الميت لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة والقائمين بعده بالخلافة، والرواية في ذلك صحيحه ثابتة، وفي ذلك دلالة ظاهرة من دلالات النبوة.

(5/295)


قال يحى: قال سعيد: ثم هلك رجل من بنى خطمة فسجّى بثوبه، فسمع جلجله في صدره ثم تكلم فقال: إن أخا بنى الحارث بن الخزرج صدق صدق [ (1) ] .
قال البيهقي: وهذا صحيح وله شواهد، فذكر من طريق أبى بكر بن أبى الدنيا قال: حدثنا أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس، عن إسماعيل بن أبى خالد قال: جاءنا يزيد بن النعمان بن بشير إلى حلقة القاسم بن عبد الرحمن [بكتاب أبيه] [ (2) ] النعمان بن بشير:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من النعمان بن بشير إلى أم عبد اللَّه بنت أبى هاشم، سلام عليك فإنّي أحمد إليك اللَّه الّذي لا إله إلا هو، فإنك كتبت إلى لأكتب إليك بشأن زيد بن خارجة، وأنه كان من شأنه أنه أخذه وجع في حلقه، وهو يومئذ من أصحّ أهل المدينة، فتوفى بين صلاة الأولى وصلاة العصر، فأضجعناه لظهره وغشّيناه بردين وكساء، فأتانى آت في مقامي وأنا أسبّح بعد العصر فقال:
إن زيدا تكلم بعد وفاته، فانصرفت إليه مسروعا وقد حضره قوم من الأنصار وهو يقول- أو يقال على لسانه-:
الأوسط أجلد القوم الّذي كان لا يبالي في اللَّه عز وجل لومة لائم، كان لا يأمر الناس أن يأكل قويهم ضعيفهم، عبد اللَّه أمير المؤمنين صدق صدق، كان ذلك في الكتاب الأول، قال: ثم قال: عثمان أمير المؤمنين وهو يعافى الناس من ذنوب كثيرة، خلت ليلتان وبقي [ (3) ] أربع، ثم اختلف الناس وأكل بعضهم بعضا فلا نظام، وأبيحت الأحماء ثم ارعوى المؤمنون وقالوا: كتاب اللَّه وقدرة الناس، أقبلوا على أميركم واسمعوا وأطيعوا، فمن تولى فلا يعهدنّ [ذما] [ (4) ] ، وكان أمر اللَّه
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) . والخبر نقله ابن كثير عن البيهقي في (البداية والنهاية) : 6/ 173، قصة زيد ابن خارجة وكلامه بعد الموت وشهادته بالرسالة لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبالخلافة لأبى بكر الصديق، ثم لعمر، ثم لعثمان رضي اللَّه تعالى عنهم.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «وهي أربع» .
[ (4) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .

(5/296)


قدرا مقدورا، اللَّه أكبر، هذه الجنة وهذه النار، وهؤلاء النبيون والصديقون، سلام عليكم يا عبد اللَّه ابن رواحة، هل احتسبت [ (1) ] لي خارجة لأبيه؟ وسعدا للذين قتلا يوم أحد، كَلَّا إِنَّها لَظى * نَزَّاعَةً لِلشَّوى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى* وَجَمَعَ فَأَوْعى.
ثم خفض صوته فسألت الرهط عما سبقني من كلامه فقالوا: سمعناه يقول:
أنصتوا أنصتوا، فنظر بعضنا إلى بعض فإذا الصوت من تحت الثياب، فكشفنا عن وجهه فقال: هذا أحمد رسول اللَّه، سلام عليك يا رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته، ثم قال: أبو بكر الصدّيق الأمين خليفة رسول اللَّه، كان ضعيفا في جسمه، قويا في أمر اللَّه، صدق صدق، وكان في الكتاب الأول [ (2) ] .
وذكر من حديث المعافى بن سليمان قال: حدثنا زهير بن معاوية قال:
أخبرنا [ (3) ] إسماعيل بن أبى خالد ... ، فذكره بإسناده ومعناه، وزاد في وسط الحديث: وكان ذلك على تمام سنتين خلتا من إمارة عثمان، وقال في آخره: فأما قوله: خلت ليلتان وبقي أربع، فالسنتان: اللتان خلتا من إمارة عثمان، قال: فلم أزل أحفظ العدة للأربع البواقي وأتوقع ما هو كائن فيهن، فكان فيهن انتزاء أهل العراق وخلافهم، وإرجاف المرجفين وطعنهم على أميرهم الوليد بن عقبة، والسلام ورحمة اللَّه [ (4) ] .
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، وروى أيضا عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، وذكر فيه بئر أريس، كما ذكر في رواية ابن المسيب، قال: والأمر فيها أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم اتخذ خاتما وكان في يده، ثم كان في يد أبى بكر رضي اللَّه عنه من بعده، ثم كان في يد عمر رضي اللَّه عنه، ثم كان في يد عثمان رضي اللَّه عنه حتى وقع في بئر أريس بعد ما مضى من خلافته ست سنين، فعند ذلك تغيرت
__________
[ (1) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «أحسست» .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 56- 57.
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المرجع السابق) : «أنبأنا» .
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 57.

(5/297)


عماله، وظهرت الفتن كما قيل على لسان زيد بن خارجة [ (1) ] .
قال البخاري في كتاب التاريخ: زيد بن خارجة الخزرجي الأنصاري، شهد بدرا، توفى في زمن عثمان، هو الّذي تكلم بعد الموت [ (2) ] .
قال البيهقي: وقد روى في التكلم بعد الموت عن جماعة بأسانيد صحيحة، فذكر من طريق ابن أبى الدنيا قال: حدثنا خلف بن هشام البزار، حدثنا خالد الطحان، عن حصين عن عبد اللَّه بن عبيد الأنصاري، أن رجلا من قتلى مسيلمة تكلم فقال: محمد رسول اللَّه، أبو بكر الصديق، عثمان الأمين الرحيم، لا أدرى أيش قال لعمر [ (3) ] .
ومن حديث على بن عاصم قال: أخبرنا حصين [بن عبد الرحمن] [ (4) ] بن عبد اللَّه بن عبيد الأنصاري قال: بينما هم يصورون القتلى يوم صفين أو يوم الجمل، تكلم رجل من الأنصار من القتلى فقال: محمد رسول اللَّه، أبو بكر الصديق، عمر الشهيد، عثمان الرحيم، ثم سكت [ (5) ] .
قال البيهقي: خالد الطحان أحفظ من على بن عاصم وأوثق. واللَّه أعلم [ (5) ] .
قال كاتبه: وقد صنّف أبو بكر بن أبى الدنيا كتابا فيمن عاش بعد الموت.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 57.
[ (2) ] (المرجع السابق) ، (التاريخ الكبير) : 3/ 383، ترجمة رقم (1281) ، ونقله ابن كثير عن البيهقي في (البداية والنهاية) : 6/ 173.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 58.
[ (4) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 58، ونقله ابن كثير عن البيهقي في (البداية والنهاية) : 6/ 175.
وأما زيد بن خارجة: فهو زيد بن خاجة بن أبى زهير بن مالك بن امرئ القيس بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، شهد بدرا، وتوفى في زمن عثمان، وهو الّذي يقال أنه تكلم بعد الموت، وأبوه من شهداء أحد، وكان أبو بكر تزوج أخته، فولدت له أم كلثوم، وكذا ذكره في البدريين وأنه المتكلم بعد الموت: ابن سعد، وابن أبى حاتم، والترمذي، ويعقوب بن سفيان، والبغوي، والطبري، وأبو نعيم، وغيرهم. له ترجمة في: (تهذيب التهذيب) : 3/ 353- 354، ترجمة رقم (747) ، (الإصابة) 2/ 223، ترجمة والده خارجة بن زيد رقم (2138) ، 603 ترجمة رقم (2896) ، 3/ 53، ترجمة أخيه سعد بن خارجة رقم (3145) (أسماء الصحابة الرواة) :

(5/298)


[ثانى وتسعون: شهادة الرضيع والأبكم برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما شهادة الرضيع والأبكم برسالة المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج البيهقي من حديث محمد بن يونس الكديمي [ (1) ] قال: حدثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليماني، وانصرفنا من عدن بقرية يقال لها الحردة، قال: حدثني معرّض بن عبد اللَّه بن معرّض بن معيقيب اليماني، عن أبيه عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة، فرأيت فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ووجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجبا: جاءه رجل بغلام يوم ولد، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا غلام! من أنا؟ قال: رسول اللَّه، قال: صدقت بارك اللَّه فيك، قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شبّ،
قال: قال أبي: فكنا نسميه مبارك اليمامة، قال شاصونة بن عبيد: وكنت قد أمرّ على معمر فلا أسمع منه [ (2) ] .
ومن حديث أبى الحسين محمد بن أحمد بن جميع الغساني [بثغر صيدا] [ (3) ] قال: حدثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، حدثنا أبى حدثنا جدي شاصونة بن عبيد قال: حدثني معرّض بن عبد اللَّه بن معيقيب عن أبيه عن جده قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة، فرأيت فيها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (441،) ] ترجمة رقم (767) ، (الثقات) : 3/ 140، (التاريخ الكبير) : 3/ 383، ترجمة رقم (1281) ، (الاستيعاب) : 2/ 547، ترجمة رقم (844) ، (مسند أحمد) : 1/ 327، حديث رقم (1716) ، (جمهرة أنساب العرب) 3640، (الكامل في التاريخ) : 3/ 199 ذكر خلافة عثمان، (تاريخ الإسلام) : 3/ 340- 341.
[ (1) ] محمد بن يونس الكديمي أحد المتروكين، كان يضع الحديث على الثقات وضعا، ولعله وضع أكثر من ألف حديث. وسئل عنه الدار قطنى فقال: يتهم بوضع الحديث، وأورد له في (الميزان) عددا من منكراته، وذكره ابن عراق في (الوضاعين) عن ابن عدي وابن حبان. (المجروحين) : 2/ 312- 313، (ميزان الاعتدال) : 4/ 74.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 59، باب شهادة الرضيع والأبكم لنبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم بالرسالة إن صحت فيه الرواية.
[ (3) ] زيادة للسياق من المرجع السابق، وفيه: «أنبأنا العباس» .

(5/299)


وجهه كدارة القمر، فسمعت منه عجبا: أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد وقد لفّه في خرقة، فقال له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا غلام! من أنا؟ فقال: أنت رسول اللَّه، فقال له: بارك اللَّه فيك، ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها [ (1) ] .
قال البيهقي: ورواه أبو الفضل أحمد بن خلف بن محمد المقرئ القزويني، عن أبى الفضل العباس بن محبوب بن شاصونة، قال: ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل بخلافه في وقت الكلام، فذكر من حديث إبراهيم بن عبد اللَّه العبسيّ قال: أخبرنا [ (2) ] وكيع بن الجراح عن الأعمش عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أتى بصبىّ قد شبّ لم يتكلم قط، فقال: من أنا؟
قال: أنت رسول اللَّه [ (3) ] .
ومن حديث يونس بن بكير عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه قال: جاءت امرأة بابن لها إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد تحرك، فقالت: يا رسول اللَّه! إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ادنيه، فأدنته منه، فقال: من أنا؟ فقال: أنت رسول اللَّه [ (4) ] .
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 60، وعنه نقله ابن كثير في (البداية والنهاية) : 6/ 175- 176 باب في كلام الأموات وعجائبهم، وقال: هذا الحديث مما تكلم الناس في محمد بن يونس الكديمي بسببه، وأنكروه عليه، واستغربوا شيخه هذا، وليس هذا مما ينكر عقلا ولا شرعا، فقد ثبت في الصحيح في قصة جريج العابد أنه أستنطق ابن تلك البغي، فقال له: يا أبا يونس، ابن من أنت؟ قال: ابن الراعي، فعلم بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه ... على أنه قد روى هذا الحديث من غير طريق الكديمي، إلا أنه بإسناد غريب أيضا.
[ (2) ] كذا في (خ) ، وفي (دلائل البيهقي) : «أنبأنا» .
[ (3) ] (المرجع السابق) : 6/ 60- 61.
[ (4) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 61، (البداية والنهاية) : 6/ 176 نقلا عن المرجع السابق. والحديث مرسل، وشمر بن عطية الأسدي الكاهلي، الكوفي: وثقه النسائي وابن حبان، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير، وابن معين، والعجليّ. (تهذيب التهذيب) : 4/ 319، ترجمة رقم (625) .

(5/300)


[ثالث وتسعون: وجود رائحة الطيب حيث سلك]
وأما وجود رائحة الطيب حيث سلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم طريقا، وسجود ما يمرّ به من حجر أو شجر له، ومجّه أطيب من المسك في الدلو، فخرج البيهقي من حديث إسحاق بن الفضل الهاشمي قال: أخبرنى المغيرة بن عطية عن أبى الزبير عن جابر بن عبد اللَّه قال: كان في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خصال: لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه أو ريح عرقه- الشك من إسحاق- ولم يكن مرّ بحجر ولا شجر إلا سجد له [ (1) ] .
ومن حديث أبى أسامة عن مسعر، عن عبد الجبار بن وائل الحضرميّ عن أبيه قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يمضمض في دلو مجّ فيه مسكا أو أطيب من المسك، قال: أبو أسامة: يقول في ذلك الماء استنثر خارجا منه [ (2) ] . وقد تقدم شيء من ذلك.
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 69، باب ما جاء في وجود رائحة الطيب من كل طريق سلكه نبينا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وسجود الحجر والشجر الّذي يمر عليه ومجّه مسكا أو أطيب من المسك في الدلو الّذي كان يشرب منه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (المرجع السابق) : 6/ 69، وقال أبو نعيم بسنده: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كنا نعرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا أقبل بطيب ريحه. (دلائل أبي نعيم) : 2/ 443، حديث رقم (362) ، ومن حديث إسحاق بن الفضل الهاشميّ، حدثنا المغيرة بن عطية، عن أبى الزبير، عن جابر قال: كان في رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خصال، لم يكن في طريق فسلكه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرفه، أو ريح عرقه، وبالسند السابق ذكره الدارميّ في (السنن) : 1/ 32، باب في حسن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وابن سعد في (الطبقات) : 1/ 398- 399، باب حبّب إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من النساء والطيب، والسيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 166.

(5/301)


[رابع وتسعون: ابتلاع الأرض ما يخرج منه إذا ذهب لحاجته صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما ابتلاع الأرض ما يخرج منه إذا ذهب لحاجته،
فخرج الدار قطنى من حديث عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت يا رسول اللَّه، إني أراك تدخل الخلاء ثم يجيء الّذي يدخل بعدك فلا يرى لما يخرج منك أثرا، فقال: يا عائشة! أما علمت أن اللَّه أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء؟ [ (1) ] .
وخرجه أبو نعيم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن أبان، حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن ابن محمد بن زاذان، عن أم سعد عن عائشة قالت: قلت: يا رسول اللَّه! تأنى الخلاء فلا نرى شيئا من الأذى؟ قال: يا عائشة! أما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شيء؟
وقال ابن السائب عن أبى صالح عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لم يحدث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في موضع قط إلا ابتلعته الأرض.
وخرج البيهقي من حديث الحسين بن علوان قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا دخل الغائط دخلت في إثره فلا أرى شيئا إلا أنى كنت أشم رائحة الطيب، فذكرت ذلك له فقال: يا عائشة! أما علمت أن أجسادنا نبتت على أرواح أهل الجنة، وما خرج منها من شيء ابتلعته
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 2/ 443- 444، حديث رقم (364) تحت عنوان: بوله وغائطه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقال السيوطي في (الخصائص الكبرى) 1/ 176: لهذا الحديث عدة طرق، هذه التي أخرجها أبو نعيم، وأخرى أخرجها البيهقي من طريق حسين بن علوان، وأخرى أخرجها الحاكم في (المستدرك) ، وطريق رابع أخرجه الدار قطنى في (الأفراد) ، قال: حدثنا محمد بن سليمان الباهلي، حدثنا محمد بن حسان الأموي، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، فذكر نحوه، ثم قال ابن ادحية في (الخصائص) بعد إيراده: هذا سند ثابت، محمد بن حسان بغدادي ثقة صالح، وعبدة من رجال الشيخين.

(5/302)


الأرض؟ [ (1) ] .
قال البيهقي: فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغي ذكره، ففي الأحاديث الصحيحة والمشهورة في معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان [ (2) ] .
قال كاتبه: هو الحسين بن علوان أبو على الكوفي الكلبي، قال ابن معين: كذاب، وقال النّسائى متروك الحديث، وقال ابن عدي: وللحسين هذا أحاديث كثيرة، وعامتها موضوعة، وهو في عدد من يضع الحديث [ (3) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث شهاب بن معمر العوفيّ، حدثنا عبد الكريم الخزار، حدثنا أبو عبد اللَّه المديني، عن ليلى- حاجبة عائشة وخادمتها ومولاتها- قالت:
قلت: يا رسول اللَّه! إنك تدخل الخلاء، فإذا خرجت دخلت إثرك فما أرى شيئا إلا أنى أجد رائحة المسك، قال: إنا معشر الأنبياء بنيت أجسادنا على أرواح الجنة، فما خرج منا شيء إلا ابتلعته الأرض [ (4) ] .
وذكر ابن سبع في (كتاب الشفا) عن بعض الصحابة أنه قال: صحبته صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر، فلما أراد قضاء حاجته عاينته وقد وجد مكانا فقضى حاجته، فدخلت في الموضع الّذي خرج منه فلم أر له أثر غائط ولا بول، ورأيت في ذلك
__________
[ (1) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 70.
[ (2) ] (المرجع السابق) .
[ (3) ] هو الحسين بن علوان. من أهل الكوفة، كان يضع الحديث على هشام بن عروة وغيره من الثقات وضعا، لا تحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب، كذبه أحمد بن حنبل- رحمه اللَّه-
روى عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أكثر الحيض عشرة وأقله ثلاثة.
وروى عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أربع لا يشبعن من أربع: أرض من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وطالب علم من علم.
[ (4) ] وروى غير ذلك من الأحاديث التي أوردها الحافظ محمد بن حبان بن أحمد أبى حاتم في كتاب (المجروحين) ، ثم قال: وليس لهذه الأحاديث كلها أصول، لأنها كلها موضوعة إلا حديث السخاء، فإنه يعرف من حديث الأعرج عن أبى هريرة. (المجروحين) : 1/ 244- 246، وقال الذهبي:
قال يحى: كذاب، وقال عليّ: ضعيف جدا، وقال أبو حاتم، والنسائي، والدار قطنى: متروك الحديث.
(ميزان الاعتدال) : 1/ 542- 543، ترجمة رقم (2027) .

(5/303)


الموضع ثلاثة أحجار، فأخذتهن في كفى فتعلقت رائحتهن رائحة طيب عطرة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق رقم (1) ، من أحاديث هذا الباب.
وذكر ابن الجوزي في (العلل المتناهية) : 1/ 187- 188، باب ابتلاع الأرض لحدثه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث عائشة رضي اللَّه عنها من طريقين ثم قال: هذا لا يصح.

(5/304)


[خامس وتسعون: رؤيته صلّى اللَّه عليه وسلّم من خلفه كما يرى من أمامه]
وأما أنه يرى من خلفه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما يرى من أمامه،
فخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الوارث قال: حدثنا عبد العزيز- وهو ابن صهيب- عن أنس رضى اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: أتموا الصفوف فإنّي أراكم خلف ظهري. وقال البخاري: أقيموا الصفوف. ذكره في باب تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث زهير، عن حميد عن أنس، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أقيموا صفوفكم، فإنّي أراكم من وراء ظهري،
وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. ترجم عليه باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف [ (2) ] قال: النعمان بن بشير رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه [ (3) ] .
وخرج في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف من حديث زائدة ابن قدامة، حدثنا حميد الطويل، حدثنا أنس بن مالك قال: أقيمت الصلاة
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 263، كتاب الأذان، باب (71) تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، حديث رقم (718) ،
قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم «فإنّي أراكم» ،
فيه إشارة إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك لأني تحققت منكم خلافه. قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: بل حملها على ظاهرها أولى، لأن فيه زيادة في كرامة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] (فتح الباري) : 2/ 268، كتاب الأذان، باب (76) إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، حديث رقم (725) .
[ (3) ] قوله: «وقال النعمان بن بشير» هذا طرف من حديث
أخرجه أبو داود، وصححه ابن خزيمة من رواية أبى القاسم الجدلي، واسمه حسين بن الحارث، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: أقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على الناس بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم ثلاثا، واللَّه لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن اللَّه بين قلوبكم،
قال: فلقد رأيت الرجل منا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه.
واستدل بحديث النعمان هذا، على أن المراد بالكعب في آية الوضوء. العظم الناتئ في جانبي الرّجل- وهو عند ملتقى الساق والقدم- وهو الّذي يمكن أن يلزق بالذي جنبه، خلافا لمن ذهب إلى أن المراد بالكعب مؤخر القدم، وهو قول شاذ ينسب إلى بعض الحنفية، ولم يثبته محققوهم، وأثبته بعضهم في مسأله الحج لا الوضوء، وأنكر الأصمعي قول من زعم أن الكعب في ظهر القدم- (فتح الباري) : 2/ 269.

(5/305)


فأقبل علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصّوا فإنّي أراكم من وراء ظهري [ (1) ] .
ومن حديث إسماعيل عن حميد عن أنس قال: أقبل علينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بوجهه حين قام إلى الصلاة يريد أن يكبر، فقال مثله سواء [ (2) ] .
وخرج مسلّم من حديث أبى أمامة عن الوليد- يعنى ابن كثير- قال:
حدثني سعيد بن أبى سعيد المقبري، عن أبيه عن أبى هريرة رضي اللَّه عنه قال: صلى [رسول اللَّه] صلّى اللَّه عليه وسلّم يوما ثم انصرف فقال: يا فلان! ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلى إذا صلى كيف يصلى؟ فإنما يصلى لنفسه، إني واللَّه لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي [ (3) ] .
وخرج البخاري [ (4) ] ومسلم [ (5) ] من حديث مالك بن أنس عن أبى الزناد عن الأعرج، عن أبى هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: هل ترون قبلتي هاهنا؟
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 264، كتاب الأذان، باب (72) إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف، حديث رقم (719) .
[ (2) ] وفي هذا الحديث: جواز الكلام بين الإمامة والدخول في الصلاة، وفيه: مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة.
و (مسلم بشرح النووي) : 4/ 399، كتاب الصلاة، باب (28) نسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها، والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها، وتقديم أولى الفضل وتقريبهم من الإمام، حديث رقم (125) .
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 392، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، حديث رقم (108) ، قال العلماء: معناه أن اللَّه تعالى خلق له صلّى اللَّه عليه وسلّم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلّى اللَّه عليه وسلّم، بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره، فوجب القول به.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقة،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: إني لأراكم من بعدي،
أي من ورائي كما في الروايات الباقية. قال القاضي عياض: وحمله بعضهم على بعد الوفاة، وهو بعيد عن سياق الحديث.
[ (4) ] (فتح الباري) : 2/ 286، كتاب الأذان، باب (88) الخشوع في الصلاة، حديث رقم (741) .
[ (5) ] (مسلم بشرح النووي) : 4/ 392، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة، حديث رقم (109) .

(5/306)


فو اللَّه ما يخفي عليّ ركوعكم ولا خشوعكم-
ولم يذكر السجود-.
وأخرجا معا من حديث شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أقيموا الركوع والسجود، فو اللَّه إني أراكم من بعدي- وربما قال: من بعد ظهري- إذا ركعتم أو سجدتم. ذكره البخاري في باب الخشوع في الصلاة [ (1) ] .
وخرج مسلم بعد حديث شعبة، من حديث معاذ- يعنى ابن هشام- ومن حديث ابن أبى عدي عن سعيد، كلاهما عن قتادة عن أنس، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أتموا الركوع والسجود، فو اللَّه إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم. وفي حديث سعيد: إذا ركعتم أو سجدتم [ (2) ] .
وخرج البخاري من حديث همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس بن مالك أنه سمع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: أتموا الركوع والسجود، فو الّذي نفسي بيده إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم. ذكره في كتاب الأيمان [والنذور] في آخر باب كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (3) ] .
وخرج في باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة، من حديث فليح بن سليمان، عن هلال بن على عن أنس بن مالك قال: صلى لنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم صلاة ثم رقى المنبر فقال: في الصلاة وفي الركوع، إني أراكم من ورائي كما أراكم.
وقال سيف بن عمرو، عن عمرو بن محمد عن الشعبي، عن مسروق قال:
سألت عائشة عن [إطباق عبد اللَّه بن مسعود] بيديه بين ركبتيه إذا ركع، فقال:
إن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، زيادة من اللَّه عزّ وجل، زادها إياه في حجته، فرأى أناسا يصنعون كما يصنع البرهان فحولهم من ذلك إلى
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 2/ 286- 287، كتاب الأذان، باب (88) الخشوع في الصلاة، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة وإتمام الخشوع فيها، حديث رقم (110) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : حديث رقم (111) .
[ (3) ] (فتح الباري) : 11/ 644، كتاب الأيمان والنذور، باب (10) كيف كانت يمين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم؟
حديث رقم (6644) .

(5/307)


ما عليه الناس اليوم من إطباق الركب بالأكفّ، وتفريج الأصابع.
قال الشافعيّ- رحمة اللَّه عليه-:
في رواية حرملة قوله: إني لأراكم من وراء ظهري،
كرامة من اللَّه أبانه بها من خلفه. وقال الأثرم: قلت لأبى عبد اللَّه- يعنى أحمد بن حنبل رحمه اللَّه-:
قول النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إني لأراكم من وراء ظهري
فقال:
كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، قلت له: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم كما ينظر الإمام من عن يمينه، فأنكر ذلك إنكارا شديدا.
وقال أبو عمر يوسف بن عبد البر هذا كما قال صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولا سبيل إلى كيفية ذلك، وهو علم من أعلام نبوته صلّى اللَّه عليه وسلّم وخرج من طريق قاسم بن أصبغ عن سفيان عن داود وحميد وابن أبى نجيح، عن مجاهد، [في] قوله عزّ وجل: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [ (1) ] قال: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى من خلفه في الصلاة كما يرى من بين يديه.
وخرج البيهقي من حديث فضيل عن عبد الملك بن أبى سليمان، عن قيس عن مجاهد، في قوله تعالى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
[ (1) ] ، قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى من خلفه من الصفوف كما يرى من بين يديه [ (2) ] وقال الحبر أبو زكريا النووي- رحمه اللَّه-: قال العلماء: معناه أن اللَّه تعالى خلق له صلّى اللَّه عليه وسلّم إدراكا في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلّى اللَّه عليه وسلّم بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به [ (3) ] .
__________
[ (1) ] سورة الشعراء الآية: 219.
[ (2) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 74. وقال مجاهد: المراد تقلب بصره في من يصلي خلفه. (البحر المحيط) :
8/ 198،
وقال مجاهد أيضا: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى من خلفه كما يرى من أمامه. ويشهد لذلك ما صح في الحديث: «سوّوا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري» (تفسير ابن كثير) : 3/ 365.
[ (3) ] (شرح الإمام النووي على صحيح مسلم) : 4/ 392- 393، كتاب الصلاة، باب (24) الأمر بتحسين الصلاة وإتمامها والخشوع فيها، شرح الحديث رقم (108) ، (109) ، (110) ، (111) .

(5/308)


قال القاضي- يعنى أبا الفضل عياض [بن موسى اليحصبى] قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: هذه الرؤية بالعين حقيقة [ (1) ] ، فخرج الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث زهير بن عباد قال: حدثنا عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة، عن المعلى بن علاء، عن هشام بن عروة عن عبد اللَّه عن عائشة رضي اللَّه عنها.
قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء [ (2) ] . وأورده البيهقي من طريق ابن عدي ثم قال: وهذا إسناد فيه ضعف [ (3) ] .
قال كاتبه: محمد بن المغيرة أبو الحسن، قال ابن عدي: وسائر أحاديثه مما لا يتابع عليه، ومع ضعفه يكتب حديثه.
قال البيهقي: وروى في ذلك من وجه آخر ليس بالقوى، فذكر من حديث مغيرة بن مسلم عن عطاء، عن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى بالليل في الظلمة كما يرى في النهار في الضوء [ (4) ] .
وخرج الحافظ أبو بكر بن ثابت البغدادي، من حديث زهير بن عباد الروائى، عن عبد اللَّه بن المغيرة، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه
__________
[ (1) ] انظر التعليق السابق والمرجع السابق.
[ (2) ] (كنز العمال) : 7/ 160، حديث رقم (18519) ، وعزاه إلى البيهقي في (دلائل النبوة) عن ابن عباس، وابن عدي عن عائشة.
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 74- 75.
[ (4) ] (المرجع السابق) : 6/ 75، قال ابن عدي في (الكامل) : 4/ 217- 218، في ترجمة عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة رقم (28/ 1025) : وهذا الحديث عن هشام بن عروة، يرويه ابن المغيرة، وعنه زهير بن عباد، وقال عنه ابن حجر في (لسان الميزان) : 3/ 410: هو عمّ علان بن المغيرة.
وقال أبو حاتم: ليس بقوى، وقال ابن يونس: منكر الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، ثم أورد في أحاديثه: «كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء» . ترجمة عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة الكوفي رقم (391/ 4742) من المرجع السابق.
وأورده ابن الجوزي في (العلل المتناهية) : 1/ 173- 174، باب أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم يبصر في الظلمة، حديث رقم (266) ثم قال: هذا حديث لا يصح، قال العقيلي: عبد اللَّه بن محمد بن المغيرة يحدث بما لا أصل له، وعباس بن الوليد كان المديني يتكلم فيه. ثم قال محقق (العلل المتناهية) : وثقه الدار قطنى، وابن قانع، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين:
صدوق كما في (التهذيب) ، وتليين ابن المديني مبهم فلا يعتبر به.

(5/309)


عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء. رواه عن زهير عن حسين بن صالح بن أبى الدواهي، وعنه محمد بن عبد اللَّه بن سليمان الحضرميّ وقال: لم أكتب عنه غير هذا الحديث. مات سنة إحدى ومائتين. أهـ
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن عن القسم بن عبد اللَّه، عن حسين بن عبد اللَّه عن أبيه عن جده، أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خطب أم سلمة فقال: كيف يا رسول اللَّه ورجالي بمكة؟ قال: يزوجك ابنك ويشهد لك رجال من أصحاب رسول [اللَّه] ، ثم دخل عليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في الظلمة، فوطئ على ابنتها زينب فصاحت، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ما هذا؟ قالوا: زينب، ثم دخل عليها في ليلة أخرى في ظلمة فقال: انظروا، زنى بكم بهذه، لا أضاء عليها؟؟
قال السهيليّ:
وفي هذا الحديث توهين لرواية من روى أنه كان يرى بالليل كما يرى بالنهار.

(5/310)


[سادس وتسعون: إضاءة طرف سوط الطفيل بن عمرو الدوسيّ]
وأما إضاءة طرف سوط الطفيل بن عمرو الدوسيّ،
فخرج ابن الكلبي في نسب دوس بن عدنان بن عبد اللَّه بن زهران بن كعب بن الحرث بن كعب بن عبد اللَّه ابن مالك بن نضر بن الأزد: وطفيل بن ذي النون واسمه عمرو بن طريف بن العاص ابن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس.
وفد إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: إن دوسا قد غلب عليها الزنا، فادع اللَّه عليهم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ اهد دوسا، فقال: يا رسول اللَّه، ابعثني إليهم، ففعل، فقال: اجعل لي آية يهدون بها، فقال: اللَّهمّ نور له، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب! أخاف أن يقولوا مثله، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء في الليلة الظلماء،
فقال: يا رسول اللَّه! اجعلنا يمنتك واجعل شعارنا مبرور، ففعل، فشعار الأزد اليوم كلها مبرور، ثم قتل يوم اليمامة، وقتل ابنه عمرو بن الطفيل يوم اليرموك. [ (1) ]
وقد خرج أبو عمر بن عبد البر هذا الحديث في ترجمة الطفيل من طريق هشام ابن الكلبي [ (2) ] كما أوردته، على ما نقلته في كتاب (الجامع) ، ثم قال أبو عمر:
للطفيل بن عمرو الدوسيّ في معنى ما ذكر ابن الكلبي خبر عجيب، ذكره الأموي في مغازيه عن الكلبي عن أبى صالح، عن ابن عباس عن الطفيل بن عمرو.
وذكره ابن إسحاق عن عثمان بن الحويرث، عن صالح بن كيسان، عن
__________
[ (1) ] لم أجد هذه السياقة في (جمهرة النسب) للكلبي. برواية السكرى عن ابن حبيب، (جمهرة أنساب العرب) لابن حزم: 382، باب: وهؤلاء بنو سليم بن فهم بن غنم بن دوس، (التعريف بالأنساب) :
176.
[ (2) ] لعله برواية أخرى غير رواية السّكّرى عن ابن حبيب.

(5/311)


ابن عمرو، قال: كنت رجلا شاعرا سيدا في قومي، قال: فقدمت مكة فمشيت إلى رجالات قريش فقالوا: يا طفيل، إنك امرؤ شاعر مطاع في قومك، وإنا قد خشينا أن يراك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه، فإنما حديثه كالسحر، فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك كما دخل علينا وعلى قومنا، فإنه يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وابنه، فو اللَّه ما زالوا يحدثون في شأنه وينهوني أن أسمع منه شيئا حتى قلت: واللَّه لا أدخل المسجد إلا وأنا سادّ أذنى، قال: فعمدت إلى أذني فحشوتهما كرسفا [ (1) ] ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قائما في المسجد.
قال: فقمت منه قريبا، وأبى اللَّه أن لا يسمعني، فقال: فقلت في نفسي: واللَّه إن هذا لمعجزة، واللَّه إني امرؤ [ثبتت] [ (2) ] عليّ الأمور، وما يخفى حسنها ولا قبيحها، واللَّه لأسمعن منه، فإن كان أمره رشدا أخذت منه، وإن كان غير ذلك اجتنبته.
قال: فقلت بالكرسفة [ (3) ] فنزعتها من أذنى فألقيتها ثم استمعت له، فلم أسمع كلاما قط أحسن من كلام يتكلم به، قال: فقلت في نفسي: - يا سبحان اللَّه! ما سمعت كاليوم لفظا أحسن منه ولا أجمل، قال: ثم انتظرت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انصرف، فاتبعته فدخلت معه بيته فقلت له: يا محمد! إن قومك جاءوني فقالوا لي: كذا وكذا- فأخبرته بالذي قالوا- وقد أبى اللَّه إلا أن يسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق، فأعرض عليّ دينك وما تقول. وما تأمر به، وما تنهى عنه.
قال: فعرض عليّ الإسلام فأسلمت ثم قلت: [يا رسول اللَّه] [ (3) ] ، إني راجع إلى دوس وأنا فيهم مطاع. وأنا داعهم إلى الإسلام، لعل اللَّه أن يهديهم، فادع اللَّه أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللَّهمّ اجعل
__________
[ (1) ] الكرسف: القطن ونحوه.
[ (2) ] كذا في (خ) ، في (الاستيعاب) : «واللَّه إني امرؤ ثبت، ما يخفى عليّ من الأمور حسنها ولا قبيحها» .
[ (3) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) .

(5/312)


له آية تعينه على ما ينوى من الخير.
قال: فخرجت حتى أشرفت [على ثنية أهلي] [ (1) ] ، التي تهبط بى على حاضرة دوس، قال: وأبى هناك شيخ كبير وامرأتي وولدى، قال: فلما علوت الثنية، وضع اللَّه بين [عيني] [ (1) ] نورا [كالشهاب] [ (2) ] يتراءاه [ (3) ] الحاضر في ظلمة الليل وأنا منهبط [من الثنية] [ (1) ] ، فقلت: اللَّهمّ في غير وجهي، فإنّي أخشى أن يظنوا أنها مثلة لفراق دينهم، فتحول فوقع في رأس سوطي، فلقد رأيتني أسير على بعيري إليهم، وإنه على رأس سوطي كأنه قنديل معلق فيه حتى قدمت عليهم، قال: فأتانى أبى فقلت: إليك عنى فلست منك ولست منى.
قال: وما ذاك أي بنىّ؟ قلت أسلمت واتبعت دين محمد، قال: أي بنى، فإن ديني دينك، قال: فحسن إسلامه، ثم أتتني صاحبتي فقلت: إليك عنى، فلست منك ولست منى، قالت: وما ذاك؟ بأبي أنت وأمى، فقلت: أسلمت واتبعت دين محمد، فلست تحلين لي ولا أحل لك، قالت: فديني دينك، قال:
فقلت اعهدى إلى هذه المياه فاغتسلي منها وتطهرى وتعالى، ففعلت ثم جاءت فأسلمت وحسن إسلامها، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام، فأبت عليّ وتعاصت.
قال: ثم قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة، فقلت: يا رسول اللَّه، غلب على دوس الزنا والربا، فادع اللَّه عليهم فقال: اللَّهمّ اهد دوسا.
قال: ثم رجعت إليهم، وهاجر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة فأقمت [بين ظهرانيهم] [ (1) ] أدعوهم إلى الإسلام حتى استجاب لي منهم من استجاب، وسبقتني بدر، وأحد، والخندق، مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قدمت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بثمانين أو تسعين أهل بيت من دوس إلى المدينة، فكنت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى فتح [اللَّه] [ (1) ] مكة،
فقلت: يا رسول اللَّه! ابعثني إلى [ذي الكفين] [ (1) ] صنم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (الاستيعاب) .
[ (2) ] زيادة في (خ) .
[ (3) ] سياق العبارة مضطرب في هذا الموضع وصوبناه من (المرجع السابق) .

(5/313)


عمرو بن حممة حتى أحرقه، قال: أجل، فاخرج إليه فحرّقه،
قال: فخرجت حتى قدمت عليه فجعلت أوقد عليه النار- واسمه ذو الكفين- قال: وأنا أقول: [ (1) ] .
يا ذا الكفين لست من [عبادكا] ... ميلادنا أكبر من [ميلادكا] [ (2) ]
إني حشوت النار في [فؤادكا] [ (2) ]
ثم [قدمت على] رسول اللَّه فأقمت معه حتى قبض.
قال: فلما بعث أبو بكر رضي اللَّه عنه بعثه إلى مسيلمة الكذاب، خرجت مع المسلمين ومعى ابني عمرو بن الطفيل، حتى إذا كنا ببعض الطريق رأيت رؤيا، فقلت لأصحابنا: إني قد رأيت رؤيا، عبّروها، قالوا: وما رأيت؟ قلت: رأيت رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأن امرأة لقيتني وأدخلتنى في فرجها، وكأن ابني يطلبني طلبا حثيثا فحيل بيني وبينه، قالوا: خيرا أما واللَّه فقد أولتها:
أما حلق رأسي [فقطعه] [ (3) ] وأما الطائر فروحى، وأما المرأة التي أدخلتنى في فرجها فالأرض تحفر لي وأدفن فيها، فقد رجوت أن أقتل شهيدا [وأما طلب ابني إياي فلا أراه إلا سيغدو في طلب الشهادة، ولا أراه يلحق بى في سفرنا هذا، فقتل الطفيل شهيدا يوم اليمامة، وجرح ابنه، ثم قتل باليرموك بعد ذلك في زمن عمر بن الخطاب شهيدا] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «أقول، وهو يشتعل بالنار» وما أثبتناه رواية ابن عبد البرّ في (الاستيعاب) .
[ (2) ] نصويبات من (الاستيعاب) .
[ (3) ] في (خ) : «فقتلى» ، وما أثبتناه من (الاستيعاب) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، واستدركناه من (المرجع السابق) ، (الاستيعاب) : ترجمة الطفيل بن عمرو الدوسيّ رقم (4258) ، وقال في نسبه: الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس الدوسيّ. وقيل: هو ابن عبد عمرو بن عبد اللَّه بن مالك بن عمرو بن فهم لقبه: ذو النور (طبقات ابن سعد) : 4/ 237- 240، باب الطفيل بن عمرو، وفيه «أنا حششت النار (سيرة ابن هشام) : 2/ 226- 229، باب إسلام الطفيل بن عمرو الدوسيّ، من رواية ابن إسحاق، (دلائل البيهقي) : 5/ 359- 363، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو رضي اللَّه عنه وما ظهر بين عينيه من النور، ثم رأس سوطه، وما كان في رؤياه وفي دعاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من براهين الشريعة، (فتح الباري) : 8/ 127، باب (76) قصة دوس والطفيل بن عمرو الدوسيّ، حديث رقم (6392)

(5/314)


وقد روى هذا الحديث من طريق أبى نعيم [ (1) ] ، إلا أن هذه السياقة أتمّ وأكثر فائدة، واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] (دلائل أبي نعيم) : 1/ 238، الفصل الخامس عشر: ذكر أخذ القرآن ورؤية النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقلوب، حتى دخل كثير من العقلاء في الإسلام في أول ملاقاة، حديث رقم (191) .

(5/315)


[سابع وتسعون: إضاءة عصا أسيد بن حضير [ (1) ] وعباد بن بشر [ (2) ]]
وأما إضاءة عصا أسيد بن حضير وعباد بن بشر لما خرجا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] هو أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي.
اختلف في كنيته، فقيل فيها خمسة أقوال: أبو عيسى، وأبو يحيى، وأبو عتيك، وأبو الحضير، وأبو الحصين. قال ابن عبد البر: وأخشى أن يكون تصحيفا، والأشهر أبو يحيى، وهو قول ابن إسحاق وغيره.
أسلم قبل سعد بن معاذ على يدي مصعب بن عمير، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وهو من النقباء ليلة العقبة، وكان بين العقبة الأولى والثانية سنة، ولم يشهد بدرا. كذلك قال ابن إسحاق.
وغيره يقول: إنه شهد بدرا، وشهد أحدا، وما بعدهما من المشاهد، وجرح يوم أحد سبع جراحات، وثبت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين انكشف الناس.
وكان أسيد بن حضير أحد العقلاء الكلمة من أهل الرأي، وآخى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينه وبين زيد بن حارثة، وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتا بالقرآن، وحديثه في استماع الملائكة قراءته حين نفرت فرسه حديث صحيح، جاء عن طرق صحاح من نقل أهل الحجاز والعراق.
وذكر البخاري عن عبد العزيز الأويس، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: ثلاثة من الأنصار لم يعتد أحد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.
توفى أسيد بن حضير في شعبان سنة عشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وحمله عمر بن الخطاب بين العمودين من عبد الأشهل، حتى وضعه بالبقيع، وصلى عليه. وأوصى إلى عمر بن الخطاب، فنظر عمر في وصيته فوجد عليه أربعة آلاف دينار، فباع نخله أربع سنين بأربعة آلاف، وقضى دينه. وقيل: إنه حمل نعشه بنفسه بين الأربعة أعمدة وصلى عليه.. له ترجمة في:
(الاستيعاب) : 1/ 92، باب أسيد، ترجمة رقم (54) ، (الإصابة) : 1/ 83، ذكر من اسمه أسيد بالضم، ترجمة رقم (185) ، (طبقات ابن سعد) : 3/ 135، (تاريخ الإسلام) :
2/ 33، (تهذيب التهذيب) : 1/ 347، (خلاص تذهيب الكمال) : 38، (كنز العمال) :
13/ 277- 280، (شذرات الذهب) : 1/ 31، (سير أعلام النبلاء) : 1/ 340- 343، ترجمة رقم (74) .
[ (2) ] هو عباد بن بشر بن وقش بن زغبة بن زعوراء بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي، يكنى أبا بشر، ويكنى أبا الربيع.
قال أبو عمر: لا يختلفون أنه أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير، وذلك قبل إسلام سعد ابن معاذ، وأسيد بن حضير، وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف اليهوديّ، وكان من فضلاء الصحابة.

(5/316)


في ليلة مظلمة حتى مشيا في ضوئهما كرامة للمصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البخاري في كتاب الصلاة [ (1) ] ، وفي كتاب المناقب [ (2) ] من حديث معاذ [ (3) ] قال: حدثني أبي عن قتادة، حدثنا أنس رضي اللَّه عنه أن رجلين من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرجا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد، حتى أتى أهله.
وخرج أيضا في مناقب أسيد بن حضير من حديث حبان قال: حدثنا همام قال: أخبرنا قتادة عن أنس، أن رجلين خرجا من عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النور معهما [ (4) ] .
وقال معمر: عن ثابت عن أنس، أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار، وقال حماد: أخبرنا ثابت عن أنس، كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (4) ] .
__________
[ () ] روى أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن عصاه كانت تضيء له إذا كان يخرج من عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بيته ليلا، وعرض له ذلك مرة مع أسيد بن حضير، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه.
عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعتدّ عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل:
سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر. هكذا ذكر البخاري.
قال ابن إسحاق: شهد بدرا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عباد بن بشر، وقتل يوم اليمامة شهيدا، وكان له يومئذ بلاء وعناء، فاستشهد يومئذ وهو ابن خمس وأربعين سنة. له ترجمة في: (الاستيعاب) :
2/ 801- 804، باب العين بعدها الباء، ذكر من اسمه عبّاد بفتح أوله والتشديد، ترجمة رقم (4458) ، (تاريخ الإسلام) : 1/ 370، (طبقات ابن سعد) : 3/ 16، (التاريخ الصغير) :
36، (الجرح والتعديل) : 6/ 77.
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 734، كتاب الصلاة، باب (79) [فضل المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة] ، حديث رقم (465) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 6/ 784، كتاب المناقب، باب (28) (بدون ترجمة) ، حديث رقم (3639) .
[ (3) ] هو معاذ بن هشام.
[ (4) ] (فتح الباري) : 7/ 157- 158، كتاب مناقب الأنصار، باب (13) منقبة أسيد بن حضير، وعباد بن بشر رضي اللَّه عنهما، حديث رقم (3805) ، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وفي الصحابة عباد بن بشر بن قيظي، وعباد بن بشر بن نهيك، وعباد بن بشر بن وقش، وصاحب هذه القصة هو هذا الثالث، ووهم من زعم خلاف ذلك. (فتح الباري) : 7/ 158، (دلائل

(5/317)


[ثامن وتسعون: إضاءة العصا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه]
وأما إضاءة العصا للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه، فخرج أبو نعيم من حديث شبابة عن [نضر بن طريف] ، عن ثابت عن أنس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعمر رضي اللَّه عنه سهرا عند أبي بكر رضي اللَّه عنه يتحدثان عنده حتى ذهب ثلث الليل ثم خرجا، وخرج أبو بكر معهما في ليلة مظلمة ومع أحدهما عصا، فجعلت تضيء لهما وعليها نور حتى بلغوا المنزل [ (1) ] .
__________
[ () ] أبي نعيم) : 2/ 561، باب ذكر إضاءة العصا وغيرها، حديث رقم (503) ، (مسند أحمد) :
3/ 598، حديث رقم (11996) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 77، باب ما جاء في إضاءة عصا الرجلين من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى خرجا من عنده في في ليلة مظلمة، حتى مشيا في ضوئها كرامة لنبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما روى في إضاءة عصا أبي عبس، ثم ما جاء في إضاءة أصابع حمزة بن عمرو الأسلمي حتى جمعوا ظهورهم.
[ (1) ] لم أجده عند أبي نعيم أو غيره، وأحاديث الباب الصحيحة تشهد لصحته، واللَّه تعالى أعلم.

(5/318)


[تاسع وتسعون: إضاءة عصا أبي عبس الأنصاري]
وأما إضاءة عصا أبي عبس الأنصاري، فخرج أبو نعيم والبيهقي والحاكم، كلهم من حديث زيد بن الحباب قال: حدثني عبد المجيد بن أبي عبس [بن جبر] [ (1) ] الأنصاري قال: أخبرني ميمون بن زيد بن أبي عبس قال: أخبرني أبي أن أبا عبس كان يصلي مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الصلوات ثم يرجع إلى بني حارثة، فخرج في ليلة [مظلمة مطرية] [ (1) ] فنورت له عصاه حتى دخل دار بني حارثة [ (2) ] .
قال كاتبه: أبو عبس هذا هو ابن جبر اسمه عبد الرحمن بن جبر، ويقال:
ابن جابر بن عمرو بن زيد بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الحارثي، شهد بدرا وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وشهد المشاهد كلها، وهو معدود من كبار الصحابة من الأنصار، مات سنة أربع وثلاثين وهو ابن سبعين سنة بالمدينة، وصلى عليه عثمان رضي اللَّه عنه، روى عنه غيابة بن رافع بن خديج، وكان أبو عبس يكتب بالعربية قبل الإسلام، وكان فيمن قتل كعب بن الأشرف [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للنسب من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 562، باب ذكر إضاءة العصا وغيرها، حديث رقم (504) ، (دلائل البيهقي) : 6/ 78، وقال فيه: «فنور له في عصاه» ، (المستدرك) : 3/ 394، باب ذكر مناقب عبد اللَّه أبي عبس بن جبر الأنصاري الخزرجي، رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (5495/ 1093) ، وقال الذهبي في (التلخيص) : مرسل.
[ (3) ] له ترجمة في: (الاستيعاب) : 2/ 827، ترجمة رقم (1396) ، (الإصابة) : 4/ 295، ترجمة رقم (5099) ، 7/ 310، ترجمة رقم (10364) .

(5/319)


[تمام المائة: إضاءة العرجون الّذي أعطاه الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم لقتادة]
وأما إضاءة العرجون الّذي أعطاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لقتادة بن النعمان الأنصاري،
فخرج أبو نعيم من حديث فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللَّه عنه قال: كانت ليلة مطيرة، فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لصلاة العشاء برقت برقة، فرأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتادة ابن النعمان، فقال: يا قتادة، إذا صليت فاثبت حتى آمرك، فلما انصرف [من صلاته] [ (1) ] أعطاه العرجون فقال: خذ هذا يضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا. [ (2) ] [فأضاء له] [ (1) ] .
وخرجه الإمام أحمد من حديث يونس وسريج قالا: حدثنا فليح عن سعيد [ابن الحارث] [ (3) ] عن أبي سلمة قال: كان أبو هريرة يحدثنا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: إن في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو في صلاة يسأل اللَّه خيرا إلا أتاه إياه،
قال: وقللها أبو هريرة بيده.
قال: فلما توفي أبو هريرة قلت: واللَّه لو جئت أبا سعيد فسألته عن هذه الساعة أن يكون عنده منها علم، فأتيته فأجده [ (4) ] ، [يقوّم عراجين] [ (5) ] فقلت:
يا أبا سعيد! ما هذه العراجين التي أراك تقوّم؟ قال: هذه عراجين جعل اللَّه لنا فيها بركة، كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحبها ويتخصّر بها، فكنا نقومها ونأتيه بها، فرأى بصاقا في قبلة المسجد وفي يده عرجون من تلك العراجين، فحكه
وقال: إذا كان أحدكم في صلاته فلا يبصقن أمامه فإن ربه أمامه، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، قال: ثم قال سريج: فإن لم يجد مبصقا ففي ثوبه أو نعله، [قال:] [ (6) ] ثم هاجت
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 562، حديث رقم (505) .
[ (3) ] زيادة في النسب من (المسند) .
[ (4) ] في (خ) : «فوجدته» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (5) ] زيادة للسياق من (المسند) .
[ (6) ] زيادة للسياق من (المسند) .

(5/320)


السماء من تلك الليلة، فلما خرج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة برقت برقة، فرأى قتادة بن النعمان فقال: ما السّرى يا قتادة [ (1) ] ؟ قال: علمت يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن شاهد الصلاة قليل، فأحببت أن أشهدها، قال: فإذا صليت يا رسول اللَّه فاثبت حتى أمرّ بك، فلما انصرف أعطاني العرجون، قال: خذ هذا فسيضيء لك أمامك عشرا وخلفك عشرا، فإذا دخلت البيت وتراءيت [ (2) ] سوادا في زاوية البيت فاضربه قبل أن تتكلم [ (3) ] فإنه شيطان [ (4) ] ، قال: ففعل، فنحن نحب هذه العراجين لذلك.
قلت: يا أبا سعيد، إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في الجمعة، فهل عندك منها علم؟ فقال: سألت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عنها فقال: إني كنت أعلمها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر. أ. هـ، وحديث أبي هريرة في الساعة التي في الجمعة وقع في الصحيح، وحديث أبي سعيد في البصاق وقع فيه أيضا [ (5) ] .
__________
[ (1) ] في (خ) : «يا أبا قتادة» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (2) ] في (خ) : «ورأيت» وما أثبتناه من (المسند) .
[ (3) ] كذا في (خ) ، وفي (المسند) : «يتكلم» .
[ (4) ] في (خ) : «الشيطان» وصوبناه من (المسند) .
[ (5) ] (مسند أحمد) : 3/ 474، حديث رقم (11230) ، وزاد في آخره: قال: ثم خرجت من عنده فدخلت على عبد اللَّه بن سلام.

(5/321)


[الأول بعد المائة: البرقة التي أضاءت للحسنين رضي اللَّه عنهما]
وأما البرقة التي أضاءت للحسنين حتى مشيا لأمهما كرامة لجدهما صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج أبو نعيم من حديث موسى بن عثمان عن الأعمش [ (1) ] ، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: كان الحسن عند النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة ظلماء، وكان يحبه حبا شديدا، فقال: أذهب إلى أمي، فقلت: أذهب معه يا رسول اللَّه؟ قال:
لا، فجاءت برقة من السماء فمشى في ضوئها حتى بلغ أمه [ (2) ] .
وخرج أبو نعيم من حديث كامل بن العلاء، عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: بينما نحن نصلي مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العشاء، فكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين [رضي اللَّه عنهما] [ (3) ] على ظهره، فإذا أراد أن يرفع أخذهما فوضعهما وضعا رفيقا، فإذا عاد عادا حتى قضى صلاته فانصرف ووضعهما على فخذيه، قال أبو هريرة: فقمت إليه فقلت: يا رسول اللَّه! أذهب بهما إلى أمهما؟
قال: لا، فبرقت برقة فقال: الحقا بأمكما [فما زالا يمشيان في] [ (4) ] ضوئها حتى دخلا [ (5) ] . وخرجه الحاكم من حديث كامل بن العلاء وقال: هذا حديث حسن صحيح الإسناد.
__________
[ (1) ] سنده في أبي نعيم: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا موسى بن عثمان عن الأعمش عن أبي هريرة.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 562- 563، حديث رقم (506) ، وفيه: «أذهب معه يا رسول اللَّه؟
قال: فجاءت برقة..» . قال السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 2/ 324: انفرد به أبو نعيم.
[ (3) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] ما بين الحاصرتين سياقة مضطرب، وصوبناه من (دلائل البيهقي) .
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 76، باب ما جاء في البرقة التي برقت لابني ابنة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرجا من عنده حتى مشيا في ضوئها كرامة للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم. (مسند أحمد) : 3/ 315، حديث رقم (10281) باختلاف يسير، حديث رقم (10282) وفيه: «حتى دخلا على أمهما» .

(5/322)


[الثاني بعد المائة: إضاءة أصابع حمزة بن عمرو الأسلمي]
وأما إضاءة أصابع حمزة بن عمرو الأسلمي، وهو بطريق مكة حتى جمع ما سقط من متاع رحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما تفرق من إبل أصحابه في الليلة التي مكر المنافقون برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج البيهقي من حديث سفيان بن حمزة عن كثير ابن زيد، عن محمد بن حمزة الأسلمي، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في سفر فتفرقنا في ليلة ظلماء دحمسة [ (1) ] ، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي [ (2) ] لتنير [ (3) ] .
وفي رواية قال: نفرت دوابنا في سفر ونحن مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في ليلة ظلماء دحمسة، فأضاءت إصبعي حتى جمعوا عليها ظهورهم، وإن إصبعي لتنير [ (3) ] وخرجه أبو نعيم أيضا [ (4) ] .
وقال الواقدي في مغازيه- وقد ذكر غزوة تبوك وعود النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قافلا منها-:
قالوا: لما كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببعض الطريق مكر به أناس من المنافقين، وأتمروا أن يطرحوه في عقبة في الطريق، فلما بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خبرهم، فقال للناس: اسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي، وسلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه.
فبينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يسري بالعقبة، إذ سمع حسّ القوم قد غشّوه، فغضب وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع حذيفة إليهم- وقد رأوا غضب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، وظن القوم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قد أطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فساق به.
__________
[ (1) ] دحمسة: شديدة الظلام.
[ (2) ] في (خ) : «أصابعهم» .
[ (3) ] (دلائل البيهقي) : 6/ 79.
[ (4) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 563، حديث رقم (507) ، وأخرجه البخاري في التاريخ.

(5/323)


فلما خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من العقبة نزل الناس فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا حذيفة، هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال: يا رسول اللَّه، عرفت راحلة فلان وفلان،
وكان القوم متلثمين [فلم] [ (1) ] أبصرهم من أجل ظلمة الليل، وكانوا قد أنفروا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فسقط بعض متاع رحله، فكان حمزة بن عمرو الأسلمي رضي اللَّه عنه يقول: فنوّر لي في أصابعي الخمس فأضاءت، حتى كنا نجمع ما سقط: السوط والحبل وأشباههما، حتى ما بقي من المتاع شيء إلا جمعناه، وكان لحق بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم في العقبة [ (2) ] . واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 3/ 1042- 1043.

(5/324)


[الثالث بعد المائة: رؤية أنس بن مالك النور بأيدي قوم في الدعاء]
فخرج أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا عمران بن زيد التغلبي، عن خطاب بن عمير [ (1) ] ، عن الحسن [ (2) ] ، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: خرجت مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من البيت إلى المسجد، وقوم في المسجد رافعي أيديهم يدعون اللَّه عزّ وجل [ (3) ] ، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أنس! هل ترى ما بأيدي القوم [ (4) ] ؟ قلت: ما ترى بأيديهم نورا [ (5) ] ؟ قلت: ادع اللَّه أن يرينه، قال: فدعا اللَّه فرأيته، فقال: يا أنس [ (6) ] [استعجل بنا حتّى نشرك القوم، فأسرعت مع نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرفعنا أيدينا] [ (7) ] .
وخرجه البيهقي من طريق البخاري، قال: حدثنا يوسف بن راشد، حدثنا أحمد ابن عبد اللَّه، حدثنا عمران بن زيد بسنده ومتنه، ثم قال البخاري: لا يتابع عليه [ (7) ] .
__________
[ (1) ] هو خطاب بن عمير الثوري. وقيل: ابن عمر.
[ (2) ] هو الحسن بن الحسن الثوري.
[ (3) ] في (الضعفاء الكبير) : «فإذا قوم جلوس في المسجد رافعي أيديهم يدعون اللَّه» .
[ (4) ] في (خ) : «هل ترى ما أرى بأيدي القوم» ، وما أثبتناه من (المرجع السابق) .
[ (5) ] في (المرجع السابق) : «قلت ما أرى؟ قال: بأيديهم نور.
[ (6) ] ما بين الحاصرتين في (المرجع السابق) : «فقال أسرع حتى تنشر يدك مع القوم، قال: فأسرعنا فنشرنا أيدينا مع القوم» ، وما أثبتناه من (خ) ، ولعلها رواية أبي نعيم.
[ (7) ] هذا الحديث ذكره أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي في (الضعفاء الكبير) : 2/ 24- 25، في ترجمة خطاب بن عمير الثوريّ رقم (444) ، عن الحسن ولا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا بهذا الحديث، وذكره البخاري في (التاريخ الكبير) : 3/ 202، ترجمة خطاب بن عمير رقم (692) وقال: ولا يتابع عليه، (لسان الميزان) 2/ 489، ترجمة خطاب بن عمير رقم (109/ 3163) ، وقال: ذكره ابن الجارود في (الضعفاء) ، وابن حبان في (الثقات) : 6/ 272.

(5/325)


[الرابع بعد المائة: تسليم الملائكة على عمران بن حصين تكرمة للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم]
وأما تسليم الملائكة على عمران بن حصين تكرمة للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج الإمام أحمد من حديث وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت حميد بن هلال يحدث عن مطرف، عن عبد اللَّه قال: قال لي عمران بن حصين: أنه كان يسلّم عليّ، فلما اكتويت انقطع التسليم، [فقلت له: أمن قبل رأسك كان يأتيك التسليم] أو من قبل رجلك؟ قال: بل من قبل رأسي، فقلت: لا أرى أن تموت حتى يعود ذلك، فلما كان بعد قال [لي] : أشعرت أن التسليم عاد لي؟ ثم لم يلبث يسيرا حتى مات رضي اللَّه عنه [ (1) ] .
قال أبو نعيم: وقد رواه شعبة عن قتادة، وحميد بن هلال عن مطرف نحوه، وروى غندر ويحيى بن سعيد عنه.
ومن حديث مسدد قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: ما قدم علينا البصرة رجل من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أفضل فضلا من عمران بن حصين، أتت
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب (23) جواز التمتع، حديث رقم (167) ، (168) ، وقال في الحديث الأول: «وقد كان يسلّم عليّ حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكيّ فعاد» وقال في الحديث الثاني مخاطبا مطرف: «فإن عشت فأكتم عني، وإن متّ فحدث بها إن شئت، إنه قد سلّم عليّ» .
قال الإمام النووي: قوله «وقد كان يسلّم عليّ حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكيّ فعاد» ، فقوله: يسلّم عليّ، بفتح اللام المشددة، وقوله: فتركت، هو بضم التاء، أي انقطع السلام عليّ، ثم تركت- بفتح التاء- أي تركت الكي فعاد السلام عليّ.
ومعنى الحديث: أن عمران بن حصين رضي اللَّه تعالى عنه، كانت به بواسير، فكان يصبر على المهمات، وكانت الملائكة تسلّم عليه، فاكتوى، فانقطع سلامهم عليه ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه.
أما قوله: فإن عشت فأكتم عني، فأراد به الإخبار بالسلام عليه، لأنه كره أن يشاع عنه ذلك في حياته، لما فيه من التعرض للفتنة، بخلاف ما بعد الموت. (مسلّم بشرح النووي) : 8/ 456- 457.
وفي (خ) : «إني لا أرى» ، وما أثبتناه من (الطبقات) ، وما بين الحاصرتين زيادة للسياق منه.

(5/326)


عليه ثلاثون سنة تسلم عليه الملائكة من حوانيت بيته. قال أبو نعيم: عني يحيى ابن سعيد المستوطنين من الصحابة لا المجتازين [ (1) ] .
__________
[ (1) ] وعمران بن حصين هو: عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم بن خريبة بن جهمة بن غاضرة بن حبشية بن كعب بن عمرو، ويكنّى عمران أبا نجيد. أسلم قديما هو وأبوه وأخته، وغزا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزوات. ولم يزل في بلاد قومه، وينزل إلى المدينة كثيرا إلى أن قبض النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ومصّرت البصرة فتحول إليها فنزلها إلى أن مات بها سنة ثنتين وخمسين في خلافة معاوية.
وحديث تسليم الملائكة عليه مشهور في كتب الطبقات والتراجم، له ترجمة في: (طبقات ابن سعد) : 7/ 9- 12 في تسمية من نزل البصرة من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، (الاستيعاب) 3/ 1208، ترجمة رقم (1969) ، (الإصابة) : 4/ 705، ترجمة رقم (6014) .

(5/327)


[الخامس بعد المائة: نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن]
وأما نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن في زمن المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم،
فخرج البخاري ومسلم من حديث أبي خيثمة زهير عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين، فغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن.
قال البخاري: وإلى جانبه فرس مربوط بشظيين، وقال: فجعلت تدنو وتدنو، وقال: نزلت بالقرآن. ترجم عليه باب فضل [سورة] الكهف [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 9/ 69- 70، كتاب فضائل القرآن، باب (11) فضل [سورة] الكهف، حديث رقم (5011) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 329، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (36) نزول السكينة لقراءة القرآن، حديث رقم (240) .
قوله: «وعنده فرس مربوط بشطنين» ، هو بفتح الشين المعجمة، والطاء، وهما تثنية شطن [وجمعه أشطان] ، وهو الحبل الطويل المضطرب.
قال محققه: [قال عنترة] :
[لما رأيت القوم أقبل جمعهم ... يتذامرون كررت غير مذمّم]
[يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم]
قوله: «وجعل فرسه تنفر» ، وفي الرواية الثانية: «فجعلت ينفر» ، وفي الثالثة «وجعل فرسه ينفر» ، غير أنهما قالا: «ينقز، أما الأوليان: فبالفاء والراء بلا خلاف، وأما الثالثة: فبالفاء المضمومة وبالزاي، وحكاه القاضي عياض عن بعضهم وغلّطه، ومعنى «ينقز» بالقاف والزاي: يثب.
قوله: «فتغشّته سحابة فجعلت تدور وتدنو،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: تلك السكينة نزلت للقرآن» ، وفي الرواية الأخيرة: «تلك الملائكة كانت تستمع لك ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم» .
قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء، المختار منها: أنها شيء من مخلوقات اللَّه تعالى، فيه طمأنينة ورحمة، ومعه الملائكة. واللَّه أعلم.
وفي هذا الحديث: جواز رؤية آحاد الأمة الملائكة، وفيه فضيلة القراءة، وأنها سبب نزول الرحمة، وحضور الملائكة، وفيه فضيلة استماع القرآن.
قوله: «اقرأ يا فلان» ، وفي الرواية الأخرى: «اقرأ» ثلاث مرات، معناه: كان ينبغي أن تستمر على القرآن، وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتستكثر من القراءة التي هي سبب بقائها.
قوله: «وفي الرواية السابقة: «أي وثبت» ، وقال هنا: «جالت» ، فأنّث الفرس، وفي الرواية السابقة: «وعنده فرس مربوط» ، فذكّره، وهما صحيحان، والفرس يقع على الذكر والأنثى.
(مسلم بشرح النووي) : 6/ 329- 331: باختصار.

(5/328)


وأخرجاه أيضا من حديث شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، ذكره البخاري في باب علامات النبوة في الإسلام، ولفظهما: قال: سمعت البراء يقول: قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته.
قال: فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: اقرأ فلان، فإنّها السكينة تنزلت عند القرآن، أو تنزلت للقرآن، وقال البخاري: فسلم فإذا ضبابة أو سحابة، وقال في آخره: فإنّها السكينة نزلت أو تنزلت للقرآن [ (1) ] .
وخرج البخاري من حديث الليث قال: حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عن أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوط عنده، إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت، فقرأ فجالت [الفرس] [ (2) ] ، فسكت وسكت [الفرس] [ (2) ] ، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه، فلما اجترّه رفع رأسه [ (3) ] إلى السماء حتى يراها.
فلما أصبح حدّث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال له: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير، قال: فأشفقت [يا رسول اللَّه] [ (3) ] أن تطأ يحيى- وكان منها قريبا- فرفعت رأسي فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلمة [ (4) ] فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ [قال: لا] [ (2) ] ، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم [ (5) ] .
قال ابن الهاد: وحدثني هذا الحديث عبد اللَّه بن خبّاب، عن أبي سعيد الخدريّ، عن أسيد بن حضير هكذا [ (5) ] . [ذكره غير متصل الإسناد] ، وترجم
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 6/ 771، كتاب المناقب، باب (25) علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3614) ، (مسلم بشرح النووي) : 6/ 329، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (36) نزول السكينة لقراءة القرآن، والرواية المذكورة في (خ) ، هي رواية مسلم.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق من (البخاري) .
[ (3) ] في (خ) : «طرفة» ، وما أثبتناه من (البخاري) .
[ (4) ] في (خ) : «الظلة» ، وما أثبتناه من (البخاري) .
[ (5) ] (فتح الباري) : 9/ 77، كتاب فضائل القرآن، باب (15) نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، حديث رقم (25018) . قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : ودل سياق الحديث على

(5/329)


عليه باب نزول السكينة والملائكة عند القراءة [ (1) ] .
وخرج مسلم من حديث يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبي حدثنا يزيد بن الهاد، أن عبد اللَّه بن خبّاب حدثه أن أبا سعيد الخدريّ حدثه أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مربده، إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى [ثم جالت أيضا] [ (2) ] ، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى، فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السّرج عرجت في الجوّ حتى ما أراها.
قال: فغدوت على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللَّه! بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت ثم جالت أيضا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: اقرأ ابن حضير، قال: فانصرفت- وكان يحيى قريبا منها خشيت أن تطأه- فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السّرج، عرجت في الجوّ حتى ما أراها، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: تلك الملائكة
__________
[ () ] محافظة أسيد على خشوعه في صلاته، لأنه كان يمكنه أول ما جالت الفرس أن يرفع رأسه، وكان كان بلغه حديث النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عن رفع المصلى رأسه إلى السماء، فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب، ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته، فلهذا تمادي به الحال ثلاث مرات (المرجع السابق) .
ولما قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة، كذا أطلق، وهو صحيح، لكن الّذي يظهر التقييد بالصالح مثلا، والحسن الصوت، قال: وفيه فضيلة القراءة، وأنها سبب نزول الرحمة، وحضور الملائكة، فقال الحافظ في (الفتح) : الحكم المذكور أعم من الدليل، فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة، من سورة خاصة، بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية ما لم يذكر، وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قارئ.
وقد أشار في آخر الحديث بقوله: «ما يتوارى منهم» ، إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الّذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير، وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة، وأن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوّت الخير الكثير، فكيف لو كان بغير الأمر المباح؟.
[ (1) ] أما عن قول المقريزي رحمه اللَّه: [ذكره غير متصل الإسناد] ، فقد قال الحافظ في الفتح: «عن محمد بن إبراهيم» ، هو التميمي، وهو من صغار التابعين، ولم يدرك أسيد بن حضير، فروايته عنه منقطعة، لكن الاعتماد في وصل الحديث المذكور على الإسناد الثاني.
قال الإسماعيلي: محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير مرسل، وعبد اللَّه بن خباب عن أبي سعيد متصل، ثم ساقه عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، عن يزيد بن الهاد بالإسنادين جميعا وقال:
هذه الطريق على شرط البخاري. (فتح الباري) : 9/ 77- 78.
[ (2) ] زيادة يقتضيها السياق من (صحيح مسلم) .

(5/330)


كانت تسمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم [ (1) ] .
وخرجه أبو نعيم من حديث يحيى بن بكير قال: حدثني الليث بن سعد عن يزيد بن عبد اللَّه، عن أسامة عن عبد اللَّه بن خبّاب، عن أبي سعيد الخدريّ، عن أسيد بن حضير أنه كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، قال: وقرأت ليلة سورة البقرة ... فذكره [ (2) ] .
وخرجه من حديث يحيى بن أيوب عن ابن الهاد ... ، الحديث وزاد: اقرأ يا أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود [ (3) ] .
وخرجه من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن يحيى عن أبي سلمة قال: بينا أسيد بن حضير الأنصاري يصلي بالليل، قال: إذ غشيتني مثل السحابة فيها أمثال المصابيح، والمرأة نائمة إلى جانبي، والفرس مربوط في الدار، فخشيت أن ينفر الفرس فتفزع المرأة فتلقى ولدها، فانصرفت من صلاتي، فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم حين أصبحت، فقال: اقرأ يا أسيد، فإن ذلك ملك استمع القرآن. وفي رواية تسمّع القرآن.
وخرجه أيضا من حديث عبيد اللَّه بن عمر، عن زيد بن أسلم، عن أسيد ابن حضير قال: كنت أصلي في ليلة قمرة وقد أوثقت فرسي، فجالت جولة ففزعت، ثم جالت أخرى فرفعت رأسي، وإذا ظلة قد غشيتني، وإذا هي قد حالت بيني وبين القمر، ففزعت، فدخلت البيت.
فلما أصبحت ذكرت ذلك للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: تلك الملائكة جاءت تسمع قراءتك من آخر الليل [سورة] البقرة، وكان أسيد بن حضير حسن الصوت.
وذكره أيضا من عدة طرق بزيادات ونقص، والمعنى متقارب.
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 330- 331، كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب (36) نزول السكينة لقراءة القرآن، حديث رقم (242) . وقد سبق شرحه.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 560- 561، قصة فرس أسيد بن حضير، حديث رقم (502) .
[ (3) ] سند هذه الفقرة في (دلائل أبي نعيم) : «وفي حديث سليمان بن أحمد» ولم يذكر باقي السند.
ذكرها عقب الحديث السابق (502) .

(5/331)


[السادس بعد المائة: انقلاب بضعة لحم فهرا [ (1) ]]
وأما انقلاب بضعة لحم فهرا،
فخرج الحافظ أبو نعيم من حديث قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الربيع بن بدر، عن الجريريّ عن بعض أشياخه قال: أهدي لأم سلمة رضي اللَّه عنها بضعة من لحم مشوية، فقالت: ارفعيها [حتى] يأتينا اليوم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فوافق مسكين بابنا، فقال: بورك فيه ولم تطعمه، فجاء صلّى اللَّه عليه وسلّم فقالت:
خبيئة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فجاءت بها فإذا هي فهر، فقلت: إنا للَّه! واللَّه إنها لبضعة أهدت لنا أم فلان، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فلعلك وافقك سائل؟ فقالت: أجل، قال:
فإنما وعظتم بذا، قال: فما زال حجرا في ناحيته بيتها تدق به حتى ماتت رضي اللَّه عنها [ (2) ] .
قال أبو نعيم: رواه عاصم بن علي، وخارجة بن مصعب، عن الجريريّ- مولى لعثمان- عن أم سلمة.
واللَّه أعلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] الفهر: الحجر.
[ (2) ] (دلائل أبي نعيم) : 2/ 560، باب انقلاب اللحم إلى حجر، حديث رقم (501) باختلاف في اللفظ، وهذا الحديث انفرد به أبو نعيم ولم أجده عند غيره، وهو منقطع السند، والربيع بن بدر متروك كما قال النسائي، وقال غيره: ضعيف.
[ (3) ] هنا ينتهي الجزء الثالث من تقسيم أجزاء النسخة (خ) .

(5/332)