إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر غزوات رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم
[اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم غزا بنفسه سبعا وعشرين غزوة [
(1) ] ، وكانت سراياه التي بعث فيها، سبعا وأربعين سرية، وكان ما قاتل فيه
من المغازي تسع غزوات] [ (2) ] .
قال البخاري: وقال محمد بن إسحاق: أول ما غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة [ (3) ] .
وخرّج من طريق شعبة، عن أبى إسحاق [قال:] كنت إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل
له: كم غزا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من غزوة؟ قال: تسع عشرة، [قيل:]
كم [غزوت] أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قلت: فأيهم كانت أول؟ قال:
[العشيراء] أو العشير، فذكرت ذلك لقتادة فقال: العشيرة [ (3) ] . وخرجه
مسلم بمعناه [ (4) ] .
وقال محمد إسحاق: قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة يوم
الاثنين حين اشتد [الضحى] وكادت الشمس تعتدل لثنتى عشرة مضت من شهر ربيع
الأول، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ابن ثلاث وخمسين سنة، وذلك بعد
أن بعثه اللَّه
__________
[ (1) ] اصطلح الرواة وأصحاب السّير، أن الغزوة: هي الحرب التي يحضرها رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنفسه. وأما البعث أو السرية: فإنه يرسل
فيها طائفة من أصحابه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (ج) ، وأثبتناه من (خ) ، و (عيون الأثر
في فنون المغازي والشمائل والسير) : 1/ 223، ذكر الخبر عن عدد مغازي رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبعوثه.
[ (3) ] (فتح الباري) : 7/ 354، كتاب المغازي، باب (1) غزوة العشيرة أو
العشيرة، قال ابن إسحاق:
أول ما غزا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الأبواء، ثم بواط، ثم العشيرة،
حديث رقم (3949) .
[ (4) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 435- 436، كتاب الجهاد والسير، باب (49)
عدد غزوات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم (1254) .
(8/330)
بثلاث عشرة سنة، فأقام بقية ربيع الأول،
وشهر ربيع الآخر، وجمادين، ورجبا، وشعبان، وشهر رمضان، وشوال، وذا القعدة،
وذا الحجة [وولى تلك الحجة المشركون] [ (1) ] .
ثم خرج غازيا في صفر، على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة [ (2) ] ،
حتى بلغ ودّان، وهي: [غزوة الأبواء] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 3/ 125.
(8/331)
غزوة الأبواء
[ (1) ] يريد قريشا وبنى ضمرة، بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فوادعته فيها
بنو ضمرة، وكان الّذي وادعه منهم مخشىّ بن عمرو الضمريّ، وكان سيدهم في
زمانه ذلك.
__________
[ (1) ] الأبواء بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد: قرية من عمل الفرع،
بينها وبين الجحفة من جهة المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. قيل: سميت بذلك لما
كان فيها من الوباء، وهي على القلب، وإلا لقيل:
الأوباء. (فتح الباري) .
وقال ثابت بن أبى ثابت اللغوي: سميت الأبواء لتبوّئ السيول فيها، وهذا
أحسن، وقال غيره:
الأبواء فعلاء من الأبواة، أو أفعال كأنه جمع بوّ، وهو الجلد الّذي يحشى
ترأمه الناقة فتدر عليه إذا مات ولدها، أو جمع بوى، وهو السواء، إلا أن
تسمية الأشياء بالمفرد ليكون مساويا لما سمّى به، أو لا ترى أنا نحتال
لعرفات وأذرعات، مع أن أكثر أسماء البلدان مؤنثة، ففعلاء أشبه به، مع أنك
لو جعلته جمعا لاحتجت إلى تقدير واحده أو مفردة.
وسئل كثير الشاعر: لم سميت الأبواء أبواء؟ فقال: لأنهم تبوءوا بها منزلا،
والأبواء قرية من أعمال الفرع في المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي
المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.
وقيل: الأبواء جبل على آرة، ويمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة، وهناك
جبل ينسب إلى هذا الجبل، وقد جاء ذكره في حديث الصعب بن جثامة وغيره.
قال السكرى: الأبواء جبل شامخ مرتفع، ليس عليه شيء من النبات غير الخزم
والبشام، وهو لخزاعة وضمرة.
وبالأبواء قبر أم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم آمنة بنت وهب، وكان السبب
في دفنها هناك، أن عبد اللَّه والد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كان
قد خرج إلى المدينة يمتار تمرا، فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة بنت وهب
بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، تخرج في كل
عام إلى المدينة تزور قبره، فلما أتى على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم ست سنين خرجت زائرة لقبره، ومعها عبد المطلب، وأم أيمن حاضنته صلّى
اللَّه عليه وسلّم، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة، ماتت بها.
ويقال: إن أبا طالب زار أخواله صلّى اللَّه عليه وسلّم بنى النجار
بالمدينة، وحمل معه آمنة أم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما رجع
منصرفا إلى مكة ماتت آمنة بالأبواء. (معجم البلدان) : 1/ 102، موضع رقم
(152) .
(8/332)
ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
إلى المدينة، ولم يلق كيدا، [فأقام بها بقية صفر، وصدرا من شهر ربيع الأول،
وهي أول غزو غزاها] [ (1) ] .
وقال الواقدي: وفي هذه الغزاة، وادع بنى ضمرة من كنانة، على أن لا يكثروا
عليه، ولا يعينوا عليه أحدا، ثم كتب بينهم كتابا [ (2) ] ، ثم رجع، وكانت
غيبته خمس عشرة ليلة [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ]
(مجموعة الوثائق السياسية) : 158، ونصّ كتاب الموادعة: «بسم اللَّه الرحمن
الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول اللَّه لبني ضمرة، فإنّهم آمنون على أموالهم
وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم، أن لا يحاربوا في دين اللَّه ما بلّ
بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة اللَّه ورسوله.
(المواهب اللدنية) : 1/ 340.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 125، (مغازي الواقدي) : 1/ 12.
(8/333)
[غزوة بواط]
[ (1) ] قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في شهر
ربيع الأول يريد قريشا حتى بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة، ولم
يلق كيدا [ (2) ] .
وقال الواقدي: ثم غزا بواط- وبواط حيال ضبّه من ناحية ذي خشب، بين بواط
والمدينة ثلاثة برد- يعترض لعير قريش، فيها أمية بن خلف، ومائة رجل من قريش
وألفان و [خمسمائة] بعير، [في ربيع الأول، على رأس ثلاث عشر شهرا] ، [ثم
رجع ولم يلق كيدا] [ (3) ] .
وقال ابن إسحاق: فلبث بها- يعنى المدينة-[بقية] [ (4) ] شهر ربيع الآخر،
وبعض [جمادى الأولى] ، ثم غزا قريشا، فسلك نقب بنى دينار، ثم على فيفاء
الخبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها،
فثم مسجده صلّى اللَّه عليه وسلّم وصنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل
الناس منه، فموضع أثافى البرمة معلوم [هنالك] [ (4) ] ، واستقى له من ماء
به يقال له: المشترب، ثم ارتحل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فترك
الخلائق بيسار، [وسلك
__________
[ (1) ] بالضم وآخره طاء مهملة: واد من أودية القبيلة، عن الزمخشريّ عن على
العلويّ، ورواه الأصيلي، والعذري، والمستملي- من شيوخ المغاربة- بواط، بفتح
أوله، والأول أشهر، وقالوا: هو جبل من جبال جهينة بناحية رضوى، غزاه النبي
صلّى اللَّه عليه وسلّم في شهر ربيع الأول في السنة الثانية من الهجرة يريد
قريشا، ورجع ولم يلق كيدا. (معجم البلدان) : 1/ 596، موضع رقم (2209) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 142، وقال: «فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر
وبعض جمادى الأولى» .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 12.
[ (4) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) 3/ 143، والضبوعة: اسم موضع،
وملل: اسم موضع، يقال:
إنما سمى مللا لأن الماشي إليه من المدينة لا يبلغه إلا بعد جهد وملل.
(المرجع السابق) : هامش ص 143.
(8/334)
شعبة يقال لها: شعبة عبيد اللَّه، ثم صبّ
لليسار حتى هبط بليل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة] [ (1) ] واستقى من بئر
بالضبوعة، ثم سلك الفرش، فرش [ملل] [ (1) ] ، حتى لقي الطريق بصحيرات
اليمام، ثم اعتدل [به] [ (1) ] الطريق حتى نزل العشيرة [واستعمل على
المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) 3/ 143.
(8/335)
غزوة بدر الأولى
ثم غزا في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا، في طلب كرز بن جابر الفهري،
أغار على سرح المدينة، وكان يرعى بالجماء ونواحيها، حتى بلغ بدرا ولم
يدركه] [ (1) ] .
وذكر الواقدي أن غارة كرز في ربيع الأول بعد بواط، أغار كرز بن جابر الفهري
على سرح المدينة، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طلبه، حتى
بلغ واديا يقال له: سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، وهي
غزوة بدر الأولى، ثم رجع إلى المدينة [ (2) ] ، [وكان قد استخلف عليها زيد
بن حارثة رضى اللَّه عنه] .
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (خ) وليس في (ج) .
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 12.
(8/336)
غزوة ذي العشيرة
[ثم غزا] العشيرة في جمادى الآخرة، على رأس ستة عشر شهرا، يعترض لعيرات
قريش حين أبدأت إلى الشام، وكان قد جاءه الخبر بفصول العير من مكة تريد
الشام، قد جمعت قريش أموالها، فهي في تلك العير، فسلك على نقب من بنى
دينار، يريد بيوت السّقيا وهي غزوة ذي العشيرة، [واستخلف على المدينة في
هذه الغزوة، أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي رضى اللَّه عنه] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ولم يقم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة حين
قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر
الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في طلبه،
حتى بلغ واديا يقل له:
سفوان [ (2) ] ، من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر فلم يدركه، وهي غزوة بدر
الأولى، ثم رجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة، فأقام بها
بقية جمادى الآخرة، ورجبا، وشعبان] .
[قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بنى دينار، ثم على فيفاء الخبار، فنزل تحت
شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثم مسجده صلّى
اللَّه عليه وسلّم، وصنع له عندها طعام، فأكل منه، وأكل الناس معه،
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 145- 146.
[ (2) ] وسفوان واد من ناحية بدر، قال ابن إسحاق: ولما أغار كرز بن
الفهري.. إلخ. (معجم البلدان) : 3/ 254.
(8/337)
فموضع أثافىّ البرمة معلوم هنالك، واستقى
له صلّى اللَّه عليه وسلّم من ماء به، يقال له:
المشترب [ (1) ]] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
(8/338)
غزوة بدر الكبرى
ثم خرج إلى غزاة بدر، [وهي البطشة التي أعزّ اللَّه تعالى بها الإسلام،
وأهلك رءوس الكفر] [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وبلغ [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [بدارا- ماء كان
ليخلد بن النضر، ويقال لرجل من جهينة- وبين بدر والمدينة ثمانية برد] [ (2)
] ، وبلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن أبا سفيان بن حرب، مقبل من
الشام، في عير لقريش عظيمة، فيها أموال لقريش، وتجارة من تجارتهم، وفيها
ثلاثون رجلا من قريش، أو أربعون، منهم: مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف
بن زهرة، و [عمرو] بن العاص بن وائل،
فلما سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بأبي سفيان مقبلا من الشام،
ندب إليهم المسلمين، وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل
اللَّه ينفلكموها،
فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز، يتحسس [ (3) ] الأخبار، ويسأل من لقي من
الركبان، تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان، أن محمدا قد
استنفر أصحابه لك ولعيرك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاريّ،
فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتى قريشا
__________
[ (1) ] ما بين الحاصرتين سقط في (خ) وأثبتناه من (ج) .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين سقط في (ج) وأثبتناه من (خ) .
[ (3) ] التحسس بالحاء: أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم: هو أن
تفحص عنها بغيرك،
وفي الحديث: «لا تجسسوا ولا تحسسوا» .
(8/339)
فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا
قد عرض لها في أصحابه.
فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، فصرخ ببطن الوادي يقول: يا معشر قريش!! اللطيمة
اللطيمة، أموالكم مع أبى سفيان، قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن
تدركوها، الغوث الغوث.
فتجهز الناس سراعا، فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، فلم
يتخلف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب قد تخلف، وبعث مكانه
العاصي بن هشام بن المغيرة، وكان قد لاط [ (1) ] له بأربعة آلاف درهم، كانت
له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها، على أن يجزئ [عنه] بعثه، فخرج عنه، وتخلف
أبو لهب.
وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة [يوم الاثنين] [ (2) ]
لثمان ليالي خلون من رمضان، فساروا حتى التقوا مع المشركين ببدر.
وقال الواقدي: ولما [تحين] [ (3) ] رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
انصراف العير من الشام، ندب أصحابه للعير، وبعث طلحة بن عبيد اللَّه، وسعيد
بن زيد، قبل خروجه من المدينة بعشر ليال، يتحسسان خبر العير، قال: وخرج
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمن معه، حتى انتهى إلى نقب بنى دينار،
ثم نزل بالبقيع- وهي بيوت السّقيا- يوم الأحد لثنتى عشرة [ليلة] خلت من
رمضان، فضرب عسكره هناك، وعرض المقاتلة.
[قال:] وقدم عدي بن أبى الزغباء، وبسبس بن عمرو، وراح عشية الأحد من بيوت
السقيا، وخرج المسلمون معه، وهم ثلاثمائة وخمسة،
__________
[ (1) ] لاط له: أي أربى له، وقال أبو عبيد: وسمى الرّبا لياطا لأنه ملصق
بالبيع، وليس بيع، وقيل للربا:
لياطا لأنه لاصق بصاحبه، لا يقتضيه، ولا يوضع عنه.
[ (2) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (3) ] في (الأصلين) : «تحقق» وما أثبتناه من (مغازي الواقدي) .
(8/340)
وثمانية تخلفوا ضرب لهم بسهامهم وأجورهم،
وكانت الإبل سبعين بعيرا، وكانوا يتعاقبون الإبل، الاثنين، والثلاثة،
والأربعة، وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى بن أبى طالب رضى
اللَّه عنه، [ومرثد] ، ويقال: زيد بن حارثة، يتعاقبون بعيرا واحدا، واستعمل
على الماء قيس [بن] أبي صعصعة عمرو ابن زيد بن عوف بن مبذول، وأمره حين فصل
من بيوت السقيا أن يعد المسلمين، فوقف لهم، فعدّهم، وأخبر النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم.
ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى إذا كان [دوين] [ (1) ] ماء
بدر، أتاه الخبر بمسير قريش،
فأخبرهم [رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ]] بمسيرهم، واستشار
[رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم [ (2) ]] الناس، قال: فلما فرغ سعد من
المشورة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
سيروا على بركة اللَّه، فإن اللَّه وعدني إحدى الطائفتين، واللَّه لكأنّي
انظر إلى مصارع القوم،
قال: ونزل بأدنى بدر، عشاء ليلة الجمعة، ولسبع عشرة ليلة من رمضان، واستشار
في المنزل، فأشار الحباب بن المنذر بنزوله على قليب بدر، فتحول إليه، وبنى
له عريش من جريد، فدخله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأبو بكر رضى
اللَّه عنه [ (3) ] .
وخرّج البخاري من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم قال وهو في قبته يوم بدر: اللَّهمّ أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهمّ
إن تشأ لا تعبد بعد اليوم، فأخذ أبو بكر رضى اللَّه عنه بيده فقال: حسبك يا
رسول اللَّه، ألححت على ربك، فخرج وهو ثبت في الدرع، فخرج وهو يقول:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ذكره في كتاب التفسير [ (4) ]
، وفي غزوة
__________
[ (1) ] دوين: تصغير دون، أي على مسافة أقل.
[ (2) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 19- 49 مختصرا.
[ (4) ] (فتح الباري) : 8/ 796، كتاب التفسير، باب (5) قوله تعالى:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
(8/341)
بدر، في باب ما قيل في درع النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم [ (1) ] .
__________
[ () ] حديث رقم (4875) ، قال الحافظ في (الفتح) : هذا من مرسلات ابن عباس
لأنه لم يحضر القصة،
وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، إن عمر قال: لما نزلت
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما
كان يوم بدر رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يثب في الدرع وهو يقول:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، فكأن ابن عباس حمل ذلك عن
عمر، وكأن عكرمة حمله عن ابن عباس عن عمر، وقد أخرج مسلم من طريق سماك بن
الوليد عن ابن عباس: حدثني عمر ببعضه.
[ (1) ] (فتح الباري) : 7/ 364، كتاب المغازي، باب (4) إذ تستغيثون ربكم
فاستجاب لكم ... حديث رقم (3953) .
قوله: «اللَّهمّ إني أنشدك»
- بفتح الهمزة وسكون النون والمعجمة وضم الدّال، أي أطلب منك.
وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: «ما سمعنا منا شدا ينشد ضالة
أشدّ منا شدة من محمد لربه يوم بدر: «اللَّهمّ إني أنشدك ما وعدتني» .
قال السهيليّ: سبب شدة اجتهاد النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ونصبه في
الدعاء لأنه رأى الملائكة تنصب في القتال، والأنصار يخوضون في غمرات الموت،
والجهاد تارة يكون بالسلاح وتارة بالدعاء، ومن السنة أن يكون الإمام وراء
الجيش، لأنه لا يقاتل معهم فلم يكن ليريح نفسه، فتشاغل بأحد الأمرين وهو
الدعاء.
قوله: «اللَّهمّ إن شئت لم تعبد»
إنما قال ذلك لأنه صلّى اللَّه عليه وسلّم علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك
هو ومن معه حينئذ. لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان، واستمر المشركون
يعبدون غير اللَّه، فالمعنى: لا تعبد في الأرض بهذه الشريعة.
قوله: «فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك» قال الخطّابى: لا يجوز أن يتوهم أحد
أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك الحال،
بل الحامل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على ذلك شفقته على أصحابه، وتقوية
قلوبهم، لأنه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن
نفوسهم عند ذلك، لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة.
فلما قال له أبو بكر ما قال كفّ عن ذلك وعلم أنه استجيب له، لما وجد أبو
بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقب بقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ.
وقال غيره: وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في تلك الحالة في مقام
الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده
بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. (فتح الباري) مختصرا.
(8/342)
وخرج مسلم [ (1) ] والترمذي، من حديث ابن
المبارك، عن عكرمة بن عمار قال: حدثني سماك الحنفي قال: قال يونس: سمعت ابن
عباس رضى اللَّه عنهما يقول: لما كان يوم بدر. وذكر مسلم من طريق عمر بن
يونس الحنفي [قال:] حدثنا عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه قال: لما كان يوم
بدر، نظر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف،
وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم القبلة، ثم مدّ يديه، فجعل يهتف بربه: اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني،
اللَّهمّ آتني ما وعدتني، اللَّهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا
تعبد في الأرض.
فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه،
فأتاه أبو بكر رضى اللَّه عنه، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من
ورائه وقال: يا نبي اللَّه! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك،
فأنزل اللَّه [تعالى:] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ
أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، فأمده اللَّه
[تعالى] بالملائكة [ (1) ] .
زاد مسلم: قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس قال: [بينما] رجل من المسلمين
يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت
الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخرّ مغشيا، فنظر إليه،
فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه بضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري
فحدث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين، وأسروا سبعين [ (1)
] .
قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى، قال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 327- 330، كتاب الجهاد والسير، باب (18)
الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإتاحة الغنائم، حديث رقم (1763) .
(8/343)
لأبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما: ما ترون
في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر رضى اللَّه عنه: يا نبي اللَّه! هم بنو
العم والعشيرة، أرى أن نأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى
اللَّه أن يهديهم للإسلام، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ما
ترى يا ابن الخطاب: قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه، ما أرى الّذي رأى أبو
بكر، ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه،
وتمكني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها،
فهوى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت،
فلما كان من الغد، جئت فإذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأبو بكر
قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول اللَّه! أخبرنى من أي شيء تبكى أنت وصاحبك؟
فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم: أبكى الّذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد
عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة
- شجرة قريبة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم- فأنزل اللَّه عزّ
وجل: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ [ (1) ] إلى قوله: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً
[ (1) ] فأحل اللَّه تعالى الغنيمة لهم [ (2) ] .
قال الواقدي: كان انهزام القوم وتوليهم حين زالت الشمس، فأقام رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم ببدر، وأمر عبد اللَّه بن كعب بقيض الغنائم وحملها،
[وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نفرا من أصحابه أن يعينوه [ (3)
]] فصلى العصر ببدر، ثم راح فمر
__________
[ (1) ] الأنفال: 67- 69.
[ (2) ] (مسلم الشرح النووي) : 12/ 327- 330، كتاب الجهاد والسير، باب (18)
الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث رقم (1763) .
[ (3) ] زيادة للسياق من (مغازي الواقدي) .
(8/344)
بالأثيل [ (1) ] قبل غروب الشمس، فنزل به،
وبات به، وأقبل بالأسرى، حتى إذا كان بعرق الظبية [ (2) ] ، أمر عاصم بن
ثابت أن يضرب عنق عقبة بن أبى معيط، فقدمه فضرب عنقه، ولما نزلوا يسيرا
بشعب بالصفراء، قسم الغنائم بها بين أصحابه، [وقدم] زيد بن حارثة، وعبد
اللَّه بن رواحة، وتلقاه الناس يهنئونه بالروحاء حتى قدم المدينة [ (3) ]
[واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر] [ (4) ] .
__________
[ (1) ] الأثيل: واد طوله ثلاثة أميال، بينه وبين بدر ميلان، فكأنه بات على
أربعة أميال من بدر. (المرجع السابق) .
[ (2) ] عرق الظبية: موضع بالصفراء، وهناك قتل رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم عقبة بن أبى معيط. قال ابن هشام: وغير ابن إسحاق يقول: عرق
الظّبية- بضم أوله- وكان عقبة بن أبى معيط قد تفل في وجه النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم،
فقال له صلّى اللَّه عليه وسلّم: لئن أخذتك خارج الحرم لأقتلنك، فلما أسره
ببدر وبلغ عرق الظبية، ذكر نذره فقتله صبرا، وقتل حين خرج من مضيق الصفراء
النضر بن الحارث. (معجم ما استعجم) : 2/ 903.
[ (3) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 114- 115.
[ (4) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
(8/345)
غزوة بنى قينقاع
ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة بنى قينقاع من اليهود،
في يوم السبت، النصف من شوال بعد البدر، فحصرهم إلى هلال ذي القعدة
وجلالهم.
وقيل: كانت في صفر سنة ثلاث من الهجرة، وجعلها ابن إسحاق بعد غزاة قرارة
الكدر، ولم يتجاوز أرض المدينة.
[قال ابن الأثير: لما عاد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من بدر،
أظهرت يهود له الحسد بما فتح عليه، وبغوا ونقضوا العهد، وكان قد وادعهم حين
قدم المدينة مهاجرا] .
[فلما بلغه حسدهم جمعهم بسوق بنى قينقاع، فقال لهم: احذروا ما نزل بقريش
وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنى نبي مرسل. فقالوا: يا محمد! لا يغرنك أنك لقيت
قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة] .
[فكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبينه، فبينما هم على مجاهرتهم، إذ جاءت
امرأة مسلمة إلى سوق بنى قينقاع، فجلست عند صائغ لأجل حلىّ لها، فجاء رجل
منهم فحل درعها إلى ظهرها، وهي لا تشعر، فلما قامت بدت عورتها، فضحكوا
منها، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله، ونبذوا العهد إلى رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم وتحصنوا في حصونهم، فغزاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فنزلوا على حكمه، فكتفوا وهو يريد قتلهم،
وكانوا حلفاء الخزرج،
فقام إليه عبد اللَّه بن أبىّ بن سلول، فكلمه فيهم، فلم يجبه، فأدخل يده
إلى جيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فغضب رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم وقال: ويحك! أرسلنى، فقال: لا أرسلك حتى تحسن إلى موالىّ،
(8/346)
أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعونى
من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، وإني واللَّه لأخشى الدوائر، فقال
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: هم لك، خلوهم، لعنهم اللَّه ولعنه معهم] [
(1) ] .
[وغنم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون ما كان لهم، ولم يكن
لهم أرضون، إنما كانوا صاغة، وكان الّذي أخرجهم عبادة بن الصامت الأنصاري،
فبلغ بهم ذباب [اسم موضع] ، ثم ساروا إلى أذرعات من أرض الشام، فلم يلبثوا
إلا قليلا حتى هلكوا] [ (1) ] .
[وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم قد استخلف على المدينة أبا لبابة، وكان لواء
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع حمزة، وقسم الغنيمة بين أصحابه
وخمسها، وكان أول خمس أخذه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في قول] [
(1) ] .
[ثم انصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحضر الأضحى، وخرج إلى
المصلّى، فصلى بالمسلمين، وهي أول صلاة عيد صلاها، وضحى فيه رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم بشاتين، وقيل بشاة، وكان أول أضحى رآه المسلمون،
وضحى معه ذو اليسار، وكانت الغزاة في شوال بعد بدر، وقيل: كانت في صفر سنة
ثلاث، وجعلها بعضهم بعد غزوة الكدر] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (الكامل في التاريخ) : 2/ 137- 139.
(8/347)
غزوة السويق
ثم خرج إلى غزوة السويق [ (1) ] ، يوم الأحد الخامس من ذي الحجة، على رأس
اثنتين وعشرين شهرا من مهاجره صلّى اللَّه عليه وسلّم، فغاب خمسة أيام في
طلب أبى سفيان بن حرب ومن معه [ (2) ] ، و [استخلف على المدينة أبا لبابة
بن عبد المنذر العمرى] [ (3) ] .
[قال ابن هشام: [لما] فل [المنهزمون] من قريش من بدر نذر أبو سفيان أن لا
يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، فخرج في
مائتي راكب من قريش ليبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل
يقال له: ثيب، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل حتى أتى بنى
النضير تحت الليل، فأتى حيىّ بن أخطب فضرب على بابه، فأبى أن يفتح له بابه
وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مكشم- وكان سيد بنى النضير في زمانه ذلك
وصاحب كنزهم- فاستأذن عليه فأذن له. فقراه وسقاه، وبطنه من خبر الناس
[أعلمه بسرهم] ، ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالا من قريش
إلى المدينة، فأتوا ناحية منها يقال لها: العريض، فحرقوا أصوار نحل بها [أي
نخل مجتمع] . ووجدوا بها رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما،
ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] السويق: طعام عبارة عن حنطة، أو شعير محمص مطحون، ممزوج بعسل وسمن.
[ (2) ] (سيرة بن هشام) : 3/ 310- 311.
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
(8/348)
[فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
في طلبهم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر، وهو أبو لبابة فيما قال
ابن هشام، حتى بلغ قرارة الكدر [أرض ملساء]- ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو
سفيان وأصحابه، وقد رأوا أزوادا من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخففون
منها للنجاة،
فقال المسلمون حين رجع بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا رسول
اللَّه أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: نعم] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: وإنما سميت غزوة السويق، فيما حدثني أبو عبيده، أن أكثر ما
طرح القوم من أزوادهم السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسميت غزوة
السويق] [ (1) ] .
[وفي هذا الحديث أن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية، بقية من
دين إبراهيم وإسماعيل، كما بقي فيهم الحج، والزواج، ولذلك سموها جنابة،
وقالوا: رجل جنب، وقوم جنب، لمجانبتهم في تلك الحال البيت الحرام، ومواضع
قرباتهم، ولذلك عرف معنى هذه الكلمة في القرآن الكريم، في قوله تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [ (2) ] ، وقوله تعالى:
وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من (سيرة ابن هشام) .
[ (2) ] المائدة: 6.
[ (3) ] النساء: 43.
(8/349)
غزوة قرارة الكدر
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة قرارة الكدر، للنصف من المحرم، على
رأس ثلاثة وعشرين شهرا من هجرته في قول الواقدي. وعند ابن إسحاق: أنه خرج
في شوال سنة اثنتين بعد بدر، في طلب غطفان وسليم، وعاد بعد خمس عشرة ليلة
بغنائم [ (1) ] ، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم المعيصى] [ (2) ] .
[قال الواقدي: خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى قرارة الكدر إلى
بنى سليم وغطفان للنصف من المحرم، على رأس ثلاثة وعشرين شهرا، وغاب خمس
عشرة ليلة، وكان الّذي هاجه على ذلك أنه بلغه أن بها جمعا من غطفان وسليم،
فسار رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إليهم، وأخذ عليهم الطريق حتى جاء
فرأى أثار النعم ومواردها، ولم يجد في المجال أحدا، فأرسل في أعلى الوادي
نفرا من أصحابه، واستقبلهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بطن
الوادي، فوجد رعاء فيهم غلام يقال له يسار، فسألهم عن الناس، فقال يسار: لا
علم لي بهم، إنما أورد لخمس وهذا يوم ربعي، والناس قد ارتيعوا إلى المياه]
[ (1) ] .
[فانصرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد ظفر بنعم، فانحدر إلى
المدينة حتى إذا صلى الصبح، فإذا هو بيسار، فرآه يصلى، فأمر القوم أن
يقسموا غنائمهم، فقال القوم: يا رسول اللَّه! إن أقوى لنا أن نسوق النعم
جميعا، فإن فينا من يضعف عن حظه الّذي يصير إليه] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 183- 184.
[ (2) ] زيادة للسياق من (المرجع السابق) .
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
(8/350)
[فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اقتسموا، فقالوا: يا رسول اللَّه: إن كان أنمّ بك العبد الّذي رأيته يصلى،
فنحن نعطيكه في سهمك، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم:
قد طبتم نفسا؟ قالوا: نعم، فقبله رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأعتقه، وارتحل الناس،
فقدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، واقتسموا غنائمهم، فأصاب
كل رجل منهم سبعة أبعرة، وكان القوم مائتين] [ (1) ] .
[وعن أبى أروى الدوسيّ قال: كنت في السرية، وكنت ممن يسوق النعم، فلما كنا
بصرار- على ثلاثة أميال من المدينة- خمس النعم، وكان النعم خمسمائة بعير،
فأخرج خمسة، وقسم أربعة أخماس على المسلمين- فأصابهم بعيران] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
(8/351)
غزوة ذي أمر [وهي
غزوة غطفان]
ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة ذي أمر- وهي غزوة
غطفان- وكانت يوم الخميس الثامن عشر من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين
شهرا في قول الواقدي [ (1) ] ، وعند ابن إسحاق [ (2) ] : أنها كانت في
المحرم سنة ثلاث من الهجرة، يريد ثعلبة ومحارب، وعاد من غير أن يلقى كيدا،
بعد إحدى عشرة ليلة، [واستخلف على المدينة عثمان بن عفان- رضى اللَّه تعالى
عنه] [ (3) ] .
[سببها أن جمعا من بنى ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور بن
الحارث المحاربي، وكان شجاعا] [ (3) ] .
[فندب صلّى اللَّه عليه وسلّم المسلمين، وخرج في أربعمائة وخمسين فارسا،
واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، فلما سمعوا بمهبطه صلّى اللَّه عليه
وسلّم عليهم هربوا في رءوس الجبال، فأصابوا رجلا منهم يقال له: حبان من بنى
ثعلبة، فأدخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فدعاه إلى الإسلام
فأسلم، وضمه إلى بلال رضى اللَّه تعالى عنه- ليعلمه الشرائع-] [ (3) ] .
[وأصاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مطر، فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة
ليجفّا، واضطجع تحتها، وهم ينظرون إليه، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد
فعليك
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 193.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 312.
[ (3) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
(8/352)
به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه صلّى
اللَّه عليه وسلّم فقال: من يمنعك منى؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللَّه، فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم فقال: من يمنعك منى؟ فقال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا
اللَّه وأنك رسول اللَّه، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام.
وأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ (1) ] ، ويقال:
كان ذلك في ذات الرقاع] [ (2) ] .
[وقال ابن إسحاق: فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك، ثم رجع إلى المدينة
ولم يلق كيدا، فلبث بها شهر ربيع الأول كله إلا قليلا منه] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] المائدة: 11.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 388- 389.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 312.
(8/353)
غزوة بحران
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بحران من ناحية الفرع، في سادس [جمادى]
الأولى على رأس سبعة وعشرين شهرا، ثم عاد بعد عشر ليالي، ولم يلق صلّى
اللَّه عليه وسلّم كيدا، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[وسببها: أنه بلغه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن بها جمعا كبيرا من بنى سليم،
فخرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، فرجع ولم يلق
كيدا] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: حتى بلغ بحران من ناحية الفرع بضمتين، يقال: هي أول قرية
مارت إسماعيل وأمه التمر بمكة، وهي من ناحية المدينة، وفيها عينان يقال
لهما: الربض والنجف، يسقيان عشرين ألف نخلة، كانت لحمزة بن عبد اللَّه بن
الزبير، والفرع بفتحتين موضع بين الكوفة والبصرة، فأقام بها شهر ربيع الآخر
وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 389.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 3/ 313.
(8/354)
غزوة أحد
ثم كانت غزاة أحد، يوم السبت لسبع خلون من شوال، على رأس اثنتين وثلاثين
شهرا ظاهر المدينة، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال الواقدي: وقد روى كثير من الصحابة ممن شهد أحدا قال كل واحد منهم:
واللَّه إني لأنظر إلى هند وصواحبها منهزمات، وكلما أتى خالد من قبل مسيرة
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليجوز حتى يأتى من قبل السفح فيرده الرماة،
حتى فعلوا ذلك مرارا، ولكن المسلمين أتوا من قبل الرماة. إن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم أو عز إليهم فقال: قوموا على مصافكم هكذا فاحموا
ظهرنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا]
[ (2) ] .
[فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون، يضعون السلاح فيهم، حيث شاءوا حتى
أجهضوهم عن العسكر، ووقعوا ينتهبون العسكر] [ (2) ] .
[قال بعض الرماة لبعض: لم تقيمون هنا في غير شيء؟ قد هزم اللَّه العدو،
وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا عسكر المشركين فاغنموا مع إخوانكم،
فقال بعض الرماة لبعض: ألم تعلموا أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قال لكم: احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا،
وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا، احموا ظهورنا؟] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 229 وما بعدها مختصرا.
(8/355)
[فقال الآخرون: لم يرد رسول اللَّه هذا،
وقد أذل اللَّه المشركين وهزمهم، فادخلوا العسكر فانتهبوا مع إخوانكم يقول
رافع بن خديج: فكنا أتينا من قبل أنفسنا ومعصية نبينا، واختلط المسلمون
وصاروا يقتلون ويضرب بعضهم بعضا، ما يشعرون به من الدهشة والعجل. ولقد جرح
يومئذ أسيد بن حضير جرحين، ضربه أحدهما أبو بردة وما يدرى، يقول: خذها وأنا
الغلام الأنصاري!
وكر أبو زغنة في حومة القتال فضرب أبا بردة ضربتين وما يشعر، إنه يقول:
خذها وأنا أبو زغنة! حتى عرفه بعد ذلك، فكان إذا لقيه قال: انظر إلى ما
صنعت بى، فيقول له أبو زغنة: أنت ضربت أسيد ابن حضير ولا تشعر، ولكن هذا
الجرح في سبيل اللَّه] [ (1) ] .
[فذكر ذلك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال صلّى اللَّه عليه
وسلّم: هو في سبيل اللَّه، يا أبا بردة لك أجره، حتى كأنه ضربك أحد من
المشركين، ومن قتل فهو شهيد] [ (1) ] .
[وكانت عائشة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرجت في نسوة تستروح الخبر-
ولم يضرب الحجاب يومئذ- حتى إذا كانت بمنقطع الحرة وهي هابطة من بنى حارثة
إلى الوادي، لقيت هند بنت عمرو بن حرام، أخت عبد اللَّه بن عمرو ابن حرام
تسوق بعيرا لها، عليه زوجها عمرو بن الجموح، وابنها خلاد بن عمرو، وأخوها
عبد اللَّه بن عمرو بن حرام أبو جابر، فقالت عائشة- رضى اللَّه عنها- عندك
الخبر، فما وراءك؟ فقالت: هند: خيرا، أما رسول اللَّه فصالح، وكل مصيبة
بعده جلل] [ (1) ] .
[واتخذ اللَّه من المؤمنين شهداء، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً [ (2) ]] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 229 وما بعدها مختصرا.
[ (2) ] الأحزاب: 25.
(8/356)
غزوة حمراء الأسد
وخرج يوم الأحد، صبيحة أحد إلى حمراء الأسد، في طلب قريش، ثم عاد بعد ثلاث،
ولم يلق كيدا، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال الواقدي: وكانت يوم الأحد لثمان خلون من شوال، على رأس اثنين وثلاثين
شهرا، ودخل المدينة يوم الجمعة وغاب خمسا] [ (2) ] .
[وقال جابر بن عبد اللَّه: يا رسول اللَّه، إن مناديا نادى ألا يخرج معنا
إلا من حضر القتال بالأمس، وقد كنت حريصا على الحضور، ولكن أبى خلفنى على
أخوات لي وقال: يا بنى، لا ينبغي لي ولك أن ندعهن ولا رجل عندهن، وأخاف
عليهنّ وهن نسيات ضعاف، فأذن لي يا رسول اللَّه أن أسير معك، فأذن له رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] .
[قال جابر: فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري، واستأذنه رجال لم
يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم] [ (2) ] .
[وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو مجروح، في وجهه أثر
الحلقتين، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد شطيت، وشفته قد كلمت
من باطنها، وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه محجوشتان] [
(2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 334 وما بعدها مختصرا.
(8/357)
[فدخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
المسجد فركع ركعتين، والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ،
وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار
القوم، فلحقوهم بحمراء الأسد، ولهم زجل، وهم يأتمرون بالرجوع] [ (1) ] .
[ومضى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه حتى عسكروا بحمراء
الأسد، قال جابر: وكان عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة ثلاثين جملا
حتى وافت الحمراء، وساق جزرا فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثا] [ (1) ] .
[وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يأمرهم في النهار بجمع الحطب،
فإذا أمسوا أمرنا أن نوقد النيران، فيوقد كل رجل نارا، فلقد كنا تلك
الليالي نوقد خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا
ونيراننا في كل وجه حتى كان مما كبت اللَّه تعالى عدونا] [ (1) ] .
[ومر بأبي سفيان نفر من عبد القيس يريدون المدينة، فقال: هل أنتم مبلغون
محمدا وأصحابه ما أرسلكم به، على أن أوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ، إن
أنتم جئتمونى؟ قالوا: نعم، قال: حيثما لقيتم محمدا وأصحابه فأخبروهم أنا قد
أجمعنا الرجعة إليهم، وأنا في آثارهم، فانطلق أبو سفيان] [ (1) ] .
[وقد الركب على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه بالحمراء، فأخبروهم
الّذي أمرهم أبو سفيان، فقالوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، وفي ذلك أنزل
اللَّه عز وجل:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ
الْقَرْحُ [ (2) ] ، وقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ (3) ]] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 334 وما بعدها.
[ (2) ] آل عمران: 172.
[ (3) ] آل عمران: 173.
(8/358)
غزوة بنى النضير
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزوة بنى النضير من اليهود، في ربيع
الأول، على رأس سبعة وعشرين شهرا من الهجرة، في قول الواقدي. وقال الزهري:
[هي] غزوة كانت على رأس ستة أشهر من وقعة [بدر] قبل أحد. وجعلها ابن إسحاق
بعد بئر معونة وأحد، فحصرهم ست ليالي، حتى أنزلهم وجلاهم عن المدينة، ثم
عاد بعد خمسة عشر يوما [ (1) ] ، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (2)
] .
[قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بنى النضير
يستعينهم في دية القتيلين من بنى عامر، فلما أتاهم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم قالوا: نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا
عليه] [ (3) ] .
[ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه- ورسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد- فمن رجل يعلو
على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه؟] [ (3) ] .
[فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقى عليه
صخرة كما قال، ورسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في نفر من أصحابه،
فيهم: أبو بكر، وعمر وعلى- رضوان اللَّه تعالى عليهم] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] قال الواقدي: كانت في ربيع الأول، على رأس سبعة وثلاثين شهرا من
مهاجرة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(المغازي) : 1/ 363.
[ (2) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (3) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 43- 146 مختصرا.
(8/359)
[فأتى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة، فلما استلبث
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه، قاموا في طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من
المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة، فأقبل أصحاب رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم حتى انتهوا إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخبرهم
الخبر بما كانت اليهود أرادت من الغدر به، وأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بقطع النخيل والتحريق فيها، فنادوه: أن يا محمد! قد كنت تنهى عن
الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟] [ (1) ] .
[قال أهل التأويل: وقع في نفوس المسلمين من هذا الكلام شيء، حتى أنزل
اللَّه تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً
عَلى أُصُولِها، واللينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرني، ففي هذه
الآية: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يحرق من نخلهم إلا ما ليس بقوت
للناس، وكانوا يقتاتون العجوة، وقال تعالى: لِينَةٍ، ولم يقل: نخلة على
العموم، تنبيها على كراهة قطع ما يقتات ويغذو من شجر العدو، إذا رجى أن
يصير إلى المسلمين] [ (1) ] .
[وخلوا الأموال لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فكانت لرسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف
وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا، فأعطاهما رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم] [ (1) ] .
[ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان: يامين بن عمير، أبو كعب بن عمرو بن
جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 143- 146 مختصرا.
(8/360)
[قال ابن إسحاق: وقد حدثني بعض آل يامين:
أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن
عمك، وما هم به؟
فجعل يامين بن عمير لرجل جعلا على أن يقتل له عمرو بن جحاش، فقتله فيما
يزعمون] .
[ونزل في بنى النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم اللَّه به من
نقمته، وما سلط عليهم به رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وما عمل به
فيهم [ (1) ]] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام: 4/ 143- 146 مختصرا.
(8/361)
غزوة بدر الموعد
وخرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بدر الموعد لهلال ذي القعدة، على رأس خمسة
وأربعين شهرا، فأقام بها ليوافيه أبو سفيان، فلم يأته، وعاد بعد ست عشرة
ليلة إلى المدينة، ولم يلق كيدا. [واستعمل على المدينة عبد اللَّه بن أبى
ابن سلول الأنصاري] [ (1) ] .
[خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لملاقاة أبى سفيان في شعبان إلى
بدر لميعاد أبى سفيان، قال ابن إسحاق: فأقام عليه ثماني ليال ينتظر أبا
سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، من ناحية الظهران] [ (2) ]
.
[وبعض الناس يقول: قد بلغ عسفان، ثم بدا له في الرجوع، فقال: يا معشر قريش،
إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم
هذا عام جدب، وإني راجع، فارجعوا، فرجع الناس.
فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق] [ (2) ] .
[وأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على بدر ينتظر أبا سفيان
لميعاده، فأتاه مخشى بن عمرو الضمريّ، وهو الّذي كان وادعه على بنى ضمرة في
غزوة ودان، فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: نعم يا أخا
بنى ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى
يحكم اللَّه بيننا وبينك، قال: لا واللَّه يا محمد، ما لنا بذلك منك حاجة [
(2) ]] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 165.
(8/362)
غزوة ذات الرقاع
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، ليلة السبت،
لعشر خلون من المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهرا، يريد أنمارا وثعلبة، فبلغ
صرار، وعاد يوم الأحد لخمس بقين منه، [فكانت] غيبته خمسة عشرة ليلة، ولم
يلق كيدا، [واستخلف على المدينة عثمان بن عفان- رضى اللَّه عنه] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة بعد
غزوة بنى النضير شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى، ثم غرا نجدا يريد بنى محارب
وبنى ثعلبة من غطفان، حتى نزل نخلا [موضع بنجد] ، وهي غزوة ذات الرقاع] [
(2) ] .
[قال ابن هشام: وإنما قيل لها غزوة ذات الرقاع، لأنهم رفعوا فيها راياتهم،
ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع] [ (2) ] .
[وذكر غيره: أنها أرض فيها يقع سود، ويقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة،
فسميت ذات الرقاع لذلك، وكانوا قد نزلوا في تلك الغزاة] [ (2) ] .
[وأصح من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخاري في صحيحه من طريق أبى موسى
الأشعري، قال: «خرجنا مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزاة ونحن ستة
نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفارى، فكنا
نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من
__________
[ (1) ] قال ابن إسحاق: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاريّ، ويقال: عثمان
بن عفان، فيما قال ابن هشام، (المرجع السابق) .
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165.
(8/363)
الخرق على أرجلنا، فحدق أبو موسى بهذا، ثم
كره ذلك فقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، كأنه كره أن يكون شيئا من عمله
أفشاه] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلقى بها جمعا عظيما من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن
بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وحدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن جابر بن عبد اللَّه، أن
رجلا من بنى محارب، يقال له: غورث، قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل
لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف نقلته؟ قال: أفتك به، قال: فأقبل إلى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهو جالس، وسيف رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم في حجره، فقال: يا محمد، انظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم- وكان
محلى بفضة، فيما قال ابن هشام- قال: فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه، ويهم
فيكبته اللَّه تعالى، ثم قال: يا محمد! أتخافنى؟ قال: لا، وما أخاف منك؟
قال: أما تخافنى وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني اللَّه منك، ثم عمد إلى
سيف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فرده عليه] [ (1) ] .
[قال: فأنزل اللَّه تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش،
أخى بنى النضير، وما هم به، فاللَّه أعلم أي ذلك كان] [ (1) ] .
[ثم
حكى ابن إسحاق قصة جمل جابر بن عبد اللَّه- رضى اللَّه عنه- وتخلفه، وأنه
سبق بعد ذلك ببركة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ثم قال صلّى اللَّه
عليه وسلّم: يا جابر،
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165.
(8/364)
هل تزوجت بعد؟ قال: قلت: نعم يا رسول
اللَّه، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أثيبا أم بكرا؟
قال: لا، بل ثيبا، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك! قال: قلت: يا رسول
اللَّه، إن أبى أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة تجمع
رءوسهن، وتقوم عليهنّ، قال: أصبت إن شاء اللَّه] [ (1) ] .
[قال: فلما جئنا صرارا [موضع قريب من المدينة] أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم بجزور فنحرت، وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم دخل ودخلنا] [ (1) ] .
[فترك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منزلا، فقال: من رجل يكلؤنا
ليلتنا هذه؟ فانتدب رجل من المهاجرين، رجل آخر من الأنصار، فقالا: نحن يا
رسول اللَّه، قال:
فكونا بفم الشعب،
قال: وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من
الوادي، وهما: عمار بن ياسر، وعباد بن بشر، فيما قال ابن هشام] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب، قال الأنصاري للمهاجرى: أي
الليل تحب أن أكفيكه: أوله أم آخره؟ قال: بل اكفني أوله، قال: فاضطجع
المهاجري فنام، وقام الأنصاري يصلى، قال: وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل
عرف أنه ربيئة القوم أي الطليعة الّذي يحرس القوم من مكان مرتفع] [ (1) ] .
[قال: فرمى بسهم فوضعه فيه، قال: فنزعه ووضعه، فثبت قائما، قال:
ثم رماه بسهم آخر، فوضعه فيه، قال: فنزعه ووضعه فيه، وثبت قائما، ثم عادله
بالثالث، فوضعه فيه، قال: فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبة فقال:
اجلس قد أثبت «أي جرحت جراحة بالغة» ] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165.
(8/365)
[قال: فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد
نذرا به، فهرب، قال: ولما رأى المهاجري، بالأنصاري من الدماء، قال: سبحان
اللَّه! أفلا أهببتنى أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن
أقطعها حتى أنفذها «أتم قراءتها» ، فلما تابع على الرمي ركعت فأذنتك، وأيم
اللَّه لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحفظه
لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها] [ (1) ] .
[وفي هذا الحديث من الفقه صلاة المجروح، وفيه متعلق لمن يقول: إن غسل
النجاسة لا يعد في شروط صحة الصلاة، وفيه من الفقه أيضا تعظيم حرمة الصلاة،
وأن للمصلى أن يتمادى عليها وإن جر إليه ذلك القتل، وتفويت النفس، مع أن
التعرض لفوات النفس لا يحل إلا في حالة المحاربة، ألا ترى إلى قوله: «لولا
أن أضيع ثغرا أمرنى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بحفظه لقطع نفسي
قبل أن أقطعها أو أنفذها» يعنى السورة التي كان يقرأها] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة من
غزوة الرقاع، أقام بها بقية جمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ورجبا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 157- 165 مختصرا.
(8/366)
غزوة دومة الجندل
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة دومة الجندل، في الخامس والعشرين
من ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهرا، وعاد في العشرين من ربيع الآخر،
[واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة] [ (1) ] .
[دومة الجندل: بينها وبين المدينة خمس عشر ليلة بسير الإبل، وسميت بدومى بن
إسماعيل عليه السلام، لأنها نزلها] [ (2) ] .
[كانت غزوة دومة الجندل- كما قال الواقدي- في ربيع الأول على رأس تسعة
وأربعين شهرا، خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لخمس ليال بقين من
ربيع الأول، وقدم لعشر بقين من ربيع الآخر] [ (2) ] .
[[لما] أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يدنو إلى الشام، وقيل
له: إنها طرف من أفواه الشام، فلو دنوت لها كان ذلك مما يفزع قيصر، وقد ذكر
له أن بدومة الجندل جمعا كثيرا، وأنهم يظلمون من مرّ بهم من الضافطة [جمع
ضافط، وهو الّذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري الّذي يكرى
الأحمال، وكانوا يؤمئذ قوما من الأنباط، يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت]
، وكان بها سوق عظيم وتجار، وضوى إليهم قوم من العرب كثير، وهم يريدون أن
يدنوا من المدينة] [ (2) ] .
[فندب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس، فخرج في ألفين من
المسلمين، فكان يسير الليل ويمكن النهار، ومعه دليل من بنى عذرة يقال له:
مذكور، هاد خرّيت [ماهر بالطرق ومسالكها] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 402- 404 مختصرا.
(8/367)
[فخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
مغذّا للسير، ونكب عن طريقهم، ولما دنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
من دومة الجندل- وكان بينه وبينها يوم أو ليلة سير الراكب المعتق-[السريع]
،
قال له الدليل: يا رسول اللَّه: إن سوائمهم ترعى، فأقم لي حتى أطلع لك، قال
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم] [ (1) ] .
[فخرج العذري طليعة حتى وجد آثار النعم والنساء وهم مغربون، ثم رجع إلى
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأخبره، وقد عرف مواضعهم، فسار النبي صلّى
اللَّه عليه وسلّم حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة
الجندل فتفرقوا] [ (1) ] .
[ونزل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بساحتهم، فلم يجد بها أحدا،
فأقام بها أياما وبث السرايا، وفرقها، حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه،
ولم يصادفوا منهم أحدا، وترجع السرية بالقطعة من الإبل، إلا أن محمد بن
مسلمة أخذ رجلا منهم، فأتى به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسأله عن
أصحابه فقال: هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم] [ (1) ] .
[فعرض عليه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الإسلام أياما فأسلم، فرجع
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (مغازي الواقدي) : 1/ 402- 404.
(8/368)
غزوة المريسيع
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة المريسيع، يوم الاثنين لليلتين
خلتا من شعبان سنة خمس من الهجرة، فأوقع بنى المصطلق من خزاعة، وعاد لهلال
رمضان، فغاب شهرا إلا ليلتين، وعند ابن إسحاق: أنها كانت في شعبان من السنة
السادسة، [واستخلف على المدينة زيد بن حارثة] [ (1) ] .
[المريسيع] : بضم أوله وفتح ثانيه بعده ياء ساكنة، وسين مكسورة مهملة،
بعدها ياء أخرى، وعين مهملة، على لفظ التصغير: قرية من وادي القرى، كان
الزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد اللَّه بن الزبير نازلا في ضيعته بالمريسيع،
مقيما في مسجدها، لا يخرج منها إلا إلى وضوء، فكان دهره كالمعتكف] [ (2) ]
.
[قال البخاري: المريسيع: ماء بنجد، في ديار بنى المصطلق من خزاعة] [ (2) ]
.
[قال ابن إسحاق: من ناحية قديد إلى الشام، غزاة رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم سنة ست، فهي غزوة المريسيع، وغزوة بنى المصطلق، وغزوة نجد، قال
ابن إسحاق: سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع، قال الزهري: وفيها كان
حديث الإفك] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: فأقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة بعض
جمادى الآخرة ورجبا، ثم غزا بنى المصطلق من خزاعة، في شعبان سنة ست] [ (2)
] .
__________
[ (1) ] قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاريّ، ويقال: نميلة
بن عبد اللَّه الليثي.
[ (2) ] المرجع السابق (سيرة ابن هشام) : 4/ 252.
(8/369)
[قالوا: [لما] بلغ رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم أن بنى المصطلق يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبى ضرار، أبو
جويرية بنت الحارث، زوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلما سمع رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء لهم يقال
له:
المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم اللَّه بنى
المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
أبناءهم، ونساءهم، وأموالهم] [ (1) ] .
[وقد استشهد رجل من المسلمين يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار
من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ] [ (1) ] .
[ثم راح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالناس، وسلك الحجاز حتى نزل
على ماء بالحجاز فويق النقيع يقال له: بقعاء، فلما راح رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم هبت على الناس ريح شديدة آذتهم، وتخوفوها] [ (1) ] .
[فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا تخافوها، فإنما هبت لموت
عظيم من عظماء الكفار، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت،
أحد بنى قينقاع، وكان عظيما من عظماء اليهود، وكهفا للمنافقين، مات في ذلك
اليوم] [ (1) ] .
[وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما- فيما يظهر- فقال: يا رسول اللَّه، جئتك
مسلما، وجئتك أطلب دية أخى، قتل خطأ، فأمر له رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا] [ (1)
] .
__________
[ (1) ] (المرجع السابق) .
(8/370)
[وكان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قد أصاب منهم سبيا كثيرا، فشا قسمه بين المسلمين، وكان فيمن أصيب من
السبايا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار زوج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم] [ (1) ] .
[وقد أقبل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من سفره ذلك، حتى إذا كان
قريبا من المدينة، وكانت معه عائشة في سفره ذلك، قال فيها أهل الإفك ما
قالوا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 252 وما بعدها مختصرا، وحديث الإفك معروف
أمسكنا عن ذكره لطوله واشتهاده.
(8/371)
[غزوة الخندق]
ثم كانت غزاة الخندق، ظاهر المدينة، في ذي القعدة سنة خمس، وقيل:
كانت في شوال، وقيل: بل كانت في سنة أربع، فأقام فيها خمسة عشر يوما، وقيل:
عشرين يوما، وقيل: نحو شهر، ولم يتجاوز أرض المدينة، [وهي آخر غزاة غزاها
أهل الكفر إليه صلّى اللَّه عليه وسلّم] ، [واستخلف على المدينة ابن أم
مكتوم] [ (1) ] .
[لم يكن حفر الخندق من عادة العرب، ولكنه من مكايد الفرس وحربها، ولذلك
أشار به سلمان الفارسي رضى اللَّه عنه] [ (2) ] .
[كان من حديث الخندق: أن نفرا من اليهود حزّبوا الأحزاب على رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى
نستأصله] [ (2) ] .
[فلما سمع بهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وما أجمعوا له من الأمر،
ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فدأب فيه ودأبوا، وأبطأ عن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من
المنافقين، وظهر أثناء حفر الخندق كثير من المعجزات ودلائل النبوة، سبق
ذكرها في أبواب معجزات النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم] [ (2) ] .
ولما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من الخندق، أقبلت قريش حتى
نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف وزغابة [أسماء مواضع] في عشرة آلاف
من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.
(8/372)
أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة، وأهل
تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب
أحد، وخرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم
إلى سلع [جبل بالمدينة] في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره،
والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآكام،
[الحصون] .] [ (1) ] .
[وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم، ومن أسفل منهم،
حتى ظن المؤمنون كل الظن، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن
قشير، أخو بنى عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر،
وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: وأخبرنى من أثق به من أهل العلم أن معتب بن قشير لم يكن من
المنافقين، واحتج بأنه كانت من أهل بدر] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وحتى قال أوس بن قيظى أحد بنى حارثة بن الحارث:
يا رسول اللَّه، إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن
لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنّها خارج من المدينة، فأقام رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم، وأقام عليه المشركون بضعا وعشرين ليلة، قريبا من
شهر، لم تكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: وكانت عائشة أم المؤمنين في حصن بنى حارثة يوم الخندق،
وكان من أحرز حصون المدينة. قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن،
فقالت عائشة وذلك قبل أن يضرب عليها الحجاب: فمرّ سعد وعليه درع له مقصلة
[قصيرة قد ارتفعت عن حدها] ، قد خرجت منها ذراعه كلها، وفي يده حربته يرفل
بها ويقول:] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.
(8/373)
[لبّث قليلا يشهد الهيجا جمل ... لا بأس
بالموت إذا حان الأجل] [ (1) ]
[فقالت له أمه: ألحق أي بنى، فإنك واللَّه أخّرت!] [ (1) ] [قالت عائشة:
فقلت لها يا أم سعد، واللَّه لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ مما هي؟ قال:
وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرمى سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل
[عرق في وسط الذراع] ، رماه كما حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة: حبان بن قيس
بن العرقة، أحد بنى عامر بن لؤيّ، فلما أصابه قال: خذها منى وأنا ابن
العرقة، فقال له سعد: عرّق اللَّه وجهك في النار، اللَّهمّ إن كنت أبقيت من
حرب قريش شيئا فأبقنى لها، فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا
رسولك وكذبوه وأخرجوه.
اللَّهمّ إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتنى
حتى يقرّ عيني من بنى قريظة.] [ (1) ]
[فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنع اللَّه لرسوله صلّى
اللَّه عليه وسلّم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة:
عكرمة بن أبى جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام،
قد هلك الخف والحافر [الإبل والخيل] ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا،
ونفرغ ما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نفعل
فيه شيئا، وقد كان أحدث بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك
بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا، ثقة
لنا نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرّتكم الحرب [نالت منكم] ، واشتد عليكم
القتال أن تنشمروا [ترجعوا] إلى بلادكم، وتتركونا، والرجل في بلادنا، ولا
طاقة لنا بذلك منه.] [ (1) ]
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.
(8/374)
[فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو
قريظة، قالت قريش وغطفان:
واللَّه إن الّذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا
واللَّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال
فاخرجوا فقاتلوا] [ (1) ] .
[فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذين ذكر لكم نعيم بن
مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان
غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، خلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى
قريش وغطفان إنا واللَّه لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا، فأبوا
عليهم، وخذّل اللَّه بينهم] [ (1) ] .
[وبعث اللَّه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ
قدورهم، وتطرح أبنيتهم، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم واللَّه ما
أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأحلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم
الّذي نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا
نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنّي مرتحل] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: ولما أصبح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم انصرف عن
الخندق راجعا إلى المدينة، والمسلمين، ووضعوا السلاح [ (1) ]] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 170- 192 مختصرا.
(8/375)
[غزوة بنى قريظة]
وخرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى غزاة بنى قريظة من اليهود، يوم الأربعاء
لسبع خلون من ذي الحجة، سنة خمس، فحصرهم خمسا وعشرين ليلة، وقيل:
خمسة عشر يوما، وقيل: شهرا، حتى نزلوا، فقتل المقاتلة، وسبى النساء
والذّرية، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلما كانت الظهيرة أتى جبريل عليه السلام رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم كما حدثني الزرى، معتجرا [الاعتجار التعمم على الرأس فقط
دون جوانب الوجه أو اللحية] بعمامة من إستبرق [ديباج غليظ حسن] على بغلة
عليها رحالة [سرج] عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول
اللَّه؟ قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت
الآن إلا من طلب القوم، إن اللَّه عزّ وجلّ يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى
قريظة، فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم] [ (2) ] .
[فأمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مؤذنا، فأذن في الناس: من كان
سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة، وقدّم رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم عليّ بن أبى طالب برايته إلى بنى قريظة، وابتدرها الناس،
فسار عليّ بن أبى طالب حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرجع حتى لقي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم بالطريق، فقال: يا رسول اللَّه، لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث،
قال: لم؟ أظنك سمعت منهم لي أذى؟ قال: نعم يا رسول اللَّه، قال: لو رأوني
لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 192- 212 مختصرا.
(8/376)
حصونهم قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم
اللَّه وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم. ما كنت جهولا] [ (1) ] .
[ومرّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بنفر من أصحابه قبل أن يصل إلى
بنى قريظة، قال:
هل مرّ بكم أحد؟ قالوا: يا رسول اللَّه قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي
على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة دباج، فقال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم:
ذلك جبريل بعث إلى بنى قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم،
وحاصرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم
الحصار، وقذف اللَّه في قلوبهم الرعب] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: حدثني بعض من أثق به من أهل العلم: أن على بن أبى طالب صاح
وهم محاصرو بنى قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام،
وقال: واللَّه لأذوقن ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم،
فقالوا: يا محمد، ننزل على حكم سعد بن معاذ، ثم استنزلوا فحبسهم رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة في دار بنت الحارث، - امرأة من بنى
النجار- ثم خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى سوق المدينة، التي
هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك
الخنادق، ثم يخرج بهم أرسالا [طائفة بعد أخرى] وفيهم عدو اللَّه حيىّ بن
أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول:
كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة، وأتى بحييّ بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه
بحبل، فلما نظر إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: أما واللَّه
ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل اللَّه يخذل، ثم أقبل على الناس
فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر اللَّه، كتاب وقدر، ملحمة كتبها اللَّه
على بنى إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه، قال ابن إسحاق:] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 912- 212 مختصرا.
(8/377)
[ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قسم أموال بنى قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأخرج منها الخمس،
فعلى سنتها وما مضى من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيها وقعت
المقاسم، ومضت السنة في المغازي] [ (1) ] .
[ثم بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سعد بن زيد الأنصاري بسبي من
سبايا بنى قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا] [ (1) ] .
[قال ابن إسحاق: فلما انقضى شأن بنى قريظة، انفجر بسعد بن معاذ جرحه، فمات
منه شهيدا [ (1) ] .]
__________
[ (1) ] (سيرة ابن هشام) : 4/ 192- 212 مختصرا.
(8/378)
[غزوة بنى لحيان]
ثم خرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى غزوة بنى لحيان من هذيل، لهلال ربيع
الأول سنة ست، فنزل عسفان وعاد بعد أربع عشرة ليلة، وقيل: كانت في [جمادى]
بعد بنى قريظة، [واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[قال ابن هشام: ثم أقام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بالمدينة ذا
الحجة والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وخرج في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من
فتح قريظة، إلى بنى لحيان يطلب بأصحاب الرجيع: خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر
أنه يريد الشام، ليصيب من العدو غرّة] [ (2) ] .
[قال ابن إسحاق: فسلك على غراب، - جبل بناحية المدينة على طريقه إلى
الشام-، ثم على محيص، ثم على البتراء، ثم صفّق [عدل] ذات اليسار، فخرج على
بين، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق على المحجّة من طريق مكة،
إلى بلد يقال له: ساية، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فلما
نزلها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأخطأه من غرتهم ما أراد، قال:
لو أنّا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنّا قد جئنا مكة،
فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى
بلغ كراع الغميم، ثم كرّ وراح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قافلا] [
(2) ] .
[فكان جابر بن عبد اللَّه يقول: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
يقول حين وجه راجعا: آئبون تائبون إن شاء اللَّه لربنا حامدون، أعوذ
باللَّه من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال] [
(2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] المرجع السابق.
(8/379)
[غزوة الغابة]
ثم خرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى الغابة، في طلب عيينة بن حصن الفزاري،
لما أغار على لقاح رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، في يوم الأربعاء
لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة ست، ورجع ليلة الإثنين، وقيل: بل خرج إلى
غزاة المريسيع في شعبان، بعد غزوة الغابة هذه، [واستخلف على المدينة ابن أم
مكتوم] [ (1) ] .
[وتعرف بذي قرد- بفتح القاف وبالدال المهملة- وهو ماء على بريد من المدينة،
في ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبيّة] [ (2) ] .
[وعند البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه. قال مغلطاى:
وفي ذلك نظرا لإجماع أهل السير على خلافهما. قال القرطبي- شارح مسلم- لا
يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبيّة. وقال الحافظ ابن حجر:
ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكر أهل السير] [ (2) ] .
[وسببها أنه كان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عشرون لقحة- وهي ذوات
اللبن، القريبة العهد بالولادة- ترعى بالغابة، وكان أبو ذرّ فيها، فأغار
عليهم عيينة بن حصن الفزاري ليلة الأربعاء، في أربعين فارسا فاستاقوها،
وقتلوا ابن أبى ذرّ] [ (2) ] .
[ونودي: يا خيل اللَّه اركبي، وكان أول ما نودي بها، وركب رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم في خمسمائة، وقيل: سبعمائة وخلف سعد بن عبادة في
ثلاثمائة
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 474- 476.
(8/380)
يحرسون المدينة] [ (1) ] .
[وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء في رمحه وقال له: امض حتى تلحقك هذه
الخيول، وأنا على أثرك، فأدرك أخريات العدو، وأدرك سلمة ابن الأكوع القوم
وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل وهو يقول:] [ (1) ]
[خذها وأنا بن الأكوع ... واليوم يوم الرّضع] [ (1) ]
[يعنى هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أي راضع اللؤم في بطن أمه، وقيل:
معناه: اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره] [ (1) ]
.
[وذهب الصريخ إلى بنى عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتى
والرجل على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم بذي قرد، فاستنفذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر] [
(1) ] .
[وصلّى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام يوما
وليلة ورجع.
وقد غاب خمس ليال، وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 474- 476، مختصرا.
(8/381)
[غزوة خيبر]
ثم خرج [صلّى اللَّه عليه وسلّم] إلى غزوة خيبر في صفر سنة سبع، وقيل: كانت
في سنة ست، فحاصر اليهود حتى غنّمه اللَّه ديارهم، وأموالهم، ومضى منها إلى
وادي القرى، فقابل يهود، وأخذها عنوة، وانصرف بعد ما أقام بوادي القرى
أربعة أيام، فقدم المدينة، [واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ] [
(1) ] .
[أخرج البخاري من حديث أبى هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم لرجل ممن معه يدّعى الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر
القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب،
فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر
نفسه، فاشتدّ رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول اللَّه، صدّق اللَّه حديثك،
انتحر فلان فقتل نفسه، فقال: قم يا فلان فأذّن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن
اللَّه يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر] [ (2) ] .
[وقاتل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل خيبر، وقاتلوه أشدّ القتال،
واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون، وفتحها اللَّه
حصنا حصنا، وهي: النطاة، وحصن الصعب، وحصن ناعم، وحصن قلعة الزبير، والشق،
وحصن أبىّ، وحصن البريء، والقموص، والوطيح،
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] رواه البخاري برقم (4203) .
(8/382)
والسلام، وهو حصن بنى أبى الحقيق] [ (1) ]
.
[وأخذ كنز آل بنى الحقيق الّذي كان في مسك [جلد] الحمار، وكانوا غيبوه في
خربة، فدل اللَّه رسوله عليه فاستخرجه] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 4/ 517- 524 مختصرا.
(8/383)
[غزوة الفتح]
ثم كانت غزاة الفتح، خرج إليها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من
المدينة، يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان سنة ثمان من الهجرة، ونزل الحجون
يوم الجمعة، لعشر بقين منه، وقيل: لثلاث عشرة مضت منه، وكان يأتى المسجد من
الحجون لكل صلاة، وقد فتح اللَّه عليه مكة عنوة، وقيل:
صلحا، وقيل: بعضها عنوة، وبعضها صلحا، [واستخلف ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[خرج رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض
قريش العهد الّذي وقع بالحديبية، فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن
يدخل في عقد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وعهده فعل، ومن أحب أن
يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت
خزاعة في عقد رسول اللَّه وعهده] [ (2) ] .
[ثم خرج عليه السلام فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت:
فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقال: واللَّه ما أدرى،
فقال: واللَّه ما هذا زمان غزو بنى الأصفر، فأين يريد رسول اللَّه؟ قالت:
واللَّه لا علم لي] [ (2) ] .
[وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة
يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة، فأبى عليه فانصرف إلى مكة، فتجهز رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 580 مختصرا.
(8/384)
من غير إعلام أحد بذلك. فكتب حاطب كتابا
وأرسله إلى مكة يخبر بذلك، فأطلع اللَّه نبيه على ذلك، فقال عمر رضى اللَّه
عنه: دعني يا رسول اللَّه أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان من عند عمر من القوة في
الدين، وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم استحق القتل، لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه
منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر، وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا
أن لا ضرر فيه] [ (1) ] .
[وبعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى من حوله من العرب فجلبهم:
أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة،
ومنهم من لحقه بالطريق، فكان المسلمون في غزوة الفتح ما بين العشرة آلاف
والاثني عشر ألفا على خلاف بين أهل السير] [ (1) ] .
[وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان، قال
الواقدي: وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبى سعيد قال:
خرجنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح لليلتين خلتا من
شهر رمضان، ثم سار صلّى اللَّه عليه وسلّم فلما كان بقديد عقد الألوية
والرايات، ودفعها إلى القبائل. ثم نزل مرّ الظهران عشاء، فأمر أصحابه
فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره، وهم مغتمون لما يخافون من
غزوهم إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى
أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم] [ (1) ] .
[فرآهم ناس من حرس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأدركوهم، فأخذوهم،
فأتوا بهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأسلم أبو سفيان، فلما
سار قال للعباس: احبس أبا
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 180 باختصار.
(8/385)
سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى
المسلمين، فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع النبي صلّى اللَّه عليه
وسلّم كتيبة كتيبة على أبى سفيان] [ (1) ] .
[قال الخطّابى: تمنى أبو سفيان أن تكون له يد فيحمى قومه ويدفع عنهم، وقيل
هذا يوم الغضب للحريم والأهل، والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم
يلزمك فيه حفظي وحمايتى من أن ينالني مكروه] [ (1) ] .
[وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم
تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول اللَّه! ما آمن أن
يكون لسعد في قريش صولة، فقال لعلىّ: أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل
بها] [ (1) ] .
[وقد روى أن أبا سفيان قال للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم لما حاذاه: أمرت
بقتل قومك؟
قال: لا، فذكر له ما قال سعد بن عبادة، ثم ناشده اللَّه والرحم، فقال: يا
أبا سفيان: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز اللَّه قريشا، وأرسل إلى سعد فأخذ
الراية منه، فدفعها إلى ابنه قيس] [ (1) ] .
[وفي يوم فتح مكة اغتسل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بيت أم هانئ
ثم صلّى الضحى ثماني ركعات، قالت: لم أره صلّى صلاة أخفّ منها، غير أنه يتم
الركوع والسجود] [ (1) ] .
[ولما كان الغد من يوم الفتح، قام صلّى اللَّه عليه وسلّم خطيبا في الناس
فحمد اللَّه وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إن اللَّه
حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة،
فلا يحل لامرئ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها
شجرة، فإن أحد
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 580 باختصار.
(8/386)
ترخص فيها لقتال رسوله صلّى اللَّه عليه
وسلّم فقولوا: إن اللَّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت ساعة من
نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب] [ (1)
] .
[ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن
أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 560- 580 باختصار.
(8/387)
[غزوة حنين]
ثم سار إلى غزاة حنين، وقد اجتمع بها هوازن وثقيف، فأوقع بهم، وغنم ما
بأيديهم، في يوم [الثلاثاء] ، لعشر خلون من شوال، ثم نزل على الطائف ثمانية
عشر يوما، وقيل: تسعة عشر يوما، وقيل: خمسة عشر يوما، وقيل: أربعين يوما،
ثم رحل عن ثقيف، وعاد إلى الجعرانة، وقسّم غنائم هوازن، وأقام بها ثلاثة
عشر يوما، وخرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة، ودخل مكة
محرما بعمرة، وخرج منها يوم الخميس، فسلك على سرف إلى مرّ الظهران، وقد يوم
الجمعة، لثلاث بقيت من ذي القعدة، [واستخلف يومئذ ابن أم مكتوم] [ (1) ] .
[حنين- بالتصغير- واد قرب ذي المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال
قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن] [ (2) ] .
[لما فرغ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة
أهلها، مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة
المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصري] [ (2) ] .
[فخرج إليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من مكة يوم السبت لست ليال
خلون من شوال، في اثنى عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف من أهل المدينة،
وألفان ممن أسلم من أهل مكة، وهم الطلقاء، يعنى الذين خلى عنهم يوم فتح مكة
وأطلقهم، فلم يسترقهم، واحدهم طليق- فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق
سبيله] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] زيادة للسياق من كتب السيرة.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 596- 605 مختصرا.
(8/388)
[وخرج معه صلّى اللَّه عليه وسلّم ثمانون
من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم استعار منه
مائة درع بأداتها، فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال، فبعث
مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب، ووجه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم عبد اللَّه بن أبى حدرد الأسلمي، فدخل عسكرهم، فطاف به،
وجاء بخبرهم] [ (1) ] .
[وقال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة، فشقّ ذلك على النبي صلّى اللَّه
عليه وسلّم، ثم ركب بغلته البيضاء [دلدل] ، ولبس درعين والمغفر والبيضة،
فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك في غبش
الصبح، وخرجت الكتائب من مضيق الوادي، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بنى
سليم مولية، وتبعهم أهل مكة والناس] [ (1) ] .
[ولم يثبت معه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب،
وعلى بن أبى طالب، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب،
وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد، في أناس من أهل بيته وأصحابه صلّى اللَّه
عليه وسلّم] [ (1) ] .
[قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، لأنه
صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يتقدم في نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ
بركابه، وجعل عليه السلام يقول للعباس: ناديا معشر الأنصار، يا أصحاب
السمرة [يعنى شجرة بيعة الرضوان] التي بايعوه تحتها أن لا يفروا عنه] [ (1)
] .
[فجعل ينادى تارة: يا أصحاب السمرة، وتارة: يا أصحاب سورة البقرة- وكان
العباس رجلا صيتا- فلما سمع المسلمون نداء العباس، أقبلوا كأنهم الإبل إذا
حنت على أولادها] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 596- 605 مختصرا.
(8/389)
[فأمرهم صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يصدقوا
الحملة، فاقتتلوا مع الكفار،
فأشرف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فنظر إلى قتالهم فقال: الآن حمى
الوطيس،
وهو التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الّذي يشبه حرها حرّه، وهذه من
فصيح الكلام الّذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
وتناول صلّى اللَّه عليه وسلّم حصيات من الأرض ثم قال: شاهت الوجوه
- أي قبحت- ورمى بها في أوجه المشركين، فما خلق اللَّه تعالى منهم إنسانا
إلا ملأ عينيه من تلك القبضة] [ (1) ] .
[وفي البخاري [4316، 4317] عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم حنين؟ فقال ولكن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم لم يفر، كانت هوازن رماة، ولما حملنا عليهم انكشفوا
فأكببنا على الغنائم فاستقبلتنا بالسهام، ولقد رأيت رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ
بزمامها، وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أبا ابن عبد المطلب] [ (1) ] .
[وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال:
أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن
أن الّذي وعدني اللَّه به من النصر حق، فلا يجوز عليّ الفرار] [ (1) ] .
[وأمر صلّى اللَّه عليه وسلّم بطلب العدوّ، فانتهى بعضهم إلى الطائف،
وبعضهم نحو نخلة، وقوم منهم إلى أوطاس، واستشهد من المسلمين أربعة، وقتل من
المشركين أكثر من سبعين قتيلا] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 596- 605 مختصرا.
(8/390)
[غزوة تبوك]
ثم خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى غزاة تبوك، في رجب سنة تسع، فأقام بها
عشرين ليلة وعاد ولم يلق كيدا، وهي آخر غزوة خرج إليها بنفسه [ (1) ] صلّى
اللَّه عليه وسلّم، [واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة، وقيل: على بن أبى
طالب، وقيل: سباع بن عرفطة] [ (2) ] .
وقاتل صلّى اللَّه عليه وسلّم مع هذه في تسع، وهي: بدر المعظمة، وأحد،
والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وقيل أنه صلّى
اللَّه عليه وسلّم قاتل في وادي القرى والغابة، ولم يكن في سائرها قتال
أصلا.
[تبوك: مكان معروف، وهي نصف طريق المدينة إلى دمشق وهي غزوة العسرة، وتعرف
بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها] [ (2) ] .
[كانت يوم الخميس في رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وكان حرا شديدا،
وجدبا كثيرا، فلذلك لم يور عنها كعادته صلّى اللَّه عليه وسلّم في سائر
الغزوات] [ (2) ] .
[وفي (تفسير عبد الرزاق) ، عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر
وفي حرّ شديد، حيث كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء، فكان
ذلك عسرة في الماء، وفي الظهر، وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] المرجع السابق) : 629.
[ (2) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 625- 638 مختصرا.
(8/391)
[وسببها أنه بلغه صلّى اللَّه عليه وسلّم
من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، أن الروم تجمعت
بالشام مع هرقل، فندب صلّى اللَّه عليه وسلّم الناس إلى الخروج، وأعلمهم
بالمكان الّذي يريد، ليتأهّبوا لذلك] .
[وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين
فرسا] .
[وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه حين جهز
جيش العسرة، فنثرها في حجره صلّى اللَّه عليه وسلّم، فرأيت رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم يقلبها في حجره وهو يقول: ما ضرّ عثمان ما عمل بعد
اليوم] .
[ولما تأهب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم للخروج، قال قوم من
المنافقين لا تنفروا في الحر، فنزل قوله تعالى: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ] [
(1) ] .
[وأرسل صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى مكة وقبائل العرب يتنفرهم، وجاء
البكاءون يستحملونه، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: لا أجد ما أحملكم عليه،
وهم الذين قال اللَّه فيهم تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ] [ (2) ] .
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان
وثمانون رجلا، وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة، جرأة على
اللَّه ورسوله، وهو قوله تعالى: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ] [ (3) ] .
وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب، منهم: كعب بن
__________
[ (1) ] [التوبة: 81] .
[ (2) ] [التوبة: 91] .
[ (3) ] [التوبة: 90] .
(8/392)
مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية،
وفيهم نزل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا] [ (1) ] .
[ولما رأى أبا ذر الغفاريّ- وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم نزل في بعض
الطريق- فقال:
يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، فكان كذلك] [ (1) ] .
[ولما انتهى صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة فصالحه وأعطاه
الجزية، وأتاه أهل جرباء، وأذرح [بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال] فأعطوه
الجزية وكتب لهم صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا] [ (1) ] .
[وفي هذه الغزوة كتب صلّى اللَّه عليه وسلّم كتابا إلى هرقل يدعوه إلى
الإسلام، فقارب الإجابة ولم تجب] [ (1) ] .
[وفي (مسند أحمد) أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
أنى مسلم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: كذب، وهو على نصرانيته] [
(1) ] .
[وفي كتاب (الأموال) لأبى عبيد بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد اللَّه نحوه،
ولفظه: فقال: كذب عدوّ اللَّه، ليس بمسلم] [ (1) ] .
[ثم انصرف صلّى اللَّه عليه وسلّم من تبوك، بعد أن أقام بها بضع عشر ليلة
وأقبل حتى نزل بدى أوان [بينها وبين المدينة ساعة] جاءه خبر مسجد الضرار من
السماء، فدعا مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي العجلاني فقال: فخرجا فحرّقاه
وهدماه، وذلك بعد أن أنزل اللَّه فيه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِراراً وَكُفْراً] [ (2) ] .
[ولما دنا من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج الناس والصبيان والولائد
يقلن:] [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (المواهب اللدنية) : 1/ 625- 638 مختصرا.
[ (2) ] التوبة: 107.
(8/393)
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا للَّه داع
[وقد وهم بعض الرواة وقال: إنما كان هذا عند مقدمه المدينة وهو وهم ظاهر،
لأن ثنيات الوداع [ (1) ] إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة
إلى المدينة، ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام]
[وفي البخاري [ (2) ] : «لما رجع صلّى اللَّه عليه وسلّم من غزوة تبوك فدنا
من المدينة قال:
إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم.
قالوا: يا رسول اللَّه، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر] .
[وهذا يؤيد معنى ما
ورد: «نية المؤمن خير من عمله»
[ (3) ] ، والمسابقة إلى اللَّه تعالى وإلى الدرجات العلا بالنيات والهمم،
لا بمجرد الأعمال] .
[وجاء من كان تخلف عنه- فحلفوا له فعذرهم، واستغفر لهم، وأرجأ أمر كعب
وصاحبيه، حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى
النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما
رَحُبَتْ
__________
[ (1) ] ثنية الوداع: بفتح الواو، وهو اسم من التوديع عند الرحيل: وهي ثنية
مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة، واختلف في تسميتها بذلك، فقيل: لأنها
موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة، وقيل:
لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ودع بها بعض من خلفه بالمدينة في آخر
خرجاته، وقيل: في بعض سراياه المبعوثة عنه، وقيل: الوداع اسم واد بالمدينة،
والصحيح أنه اسم جاهلي قديم، سمي لتوديع المسافرين (معجم البلدان) : 2/
100، موضع رقم (2846) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 8/ 159، كتاب المغازي- باب (82) بدون ترجمة، حديث
رقم (4423) .
[ (3) ] قال ابن دحية: لا يصح، وقال البيهقي: إسناده ضعيف، ورواه العسكري
في (الأمثال) عن أنس به مرفوعا وسنده ضعيف، وله طريق ضعيف عن النواس بن
سمعان، كما ذكره الزركشي.
وإنما كانت نية المؤمن خير من عمله، لأنها بانفرادها تصير عبادة يترتب
عليها الثواب، بخلاف أعمال الجوارح، فإنّها إنما تكون عبادة إذا صاحبت
النية لخبر: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبها اللَّه عنده حسنه كاملة» ولأن
مكانها مكان المعرفة، أعني قلب المؤمن. (الموضوعات لابن الجوزي) : 3/ 375-
376 حديث رقم (568) .
(8/394)
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ (1) ]
.
[وعند البيهقي في (الدلائل) : من حديث ابن عباس في قوله تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [ (2) ] . قال: كانوا عشرة
رهط تخلفوا عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، فلما رجع أوثق
سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد،
وكان ممر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا رجع من المسجد عليهم، فلما رآهم
قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسوارى؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له،
تخلفوا عنك يا رسول اللَّه، حتى يطلقهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
ويعذرهم] قال: وأنا أقسم باللَّه لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون اللَّه
تعالى هو الّذي يطلقهم: رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين!! فلما أن
بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون اللَّه تعالى هو الّذي
يطلقنا، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (3) ] فلما نزلت، أرسل إليهم
النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم، فقالوا: يا
رسول اللَّه! هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، قال:
ما أمرت أن آخذ أموالكم، فأنزل اللَّه تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يقول:
استغفر لهم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ (4)
] .
وبمعناه رواه عطية بن سعد عن ابن عباس- رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما-[
(5) ] .
__________
[ (1) ] التوبة: 117- 118.
[ (2) ] التوبة: 102.
[ (3) ] التوبة: 102.
[ (4) ] التوبة: 103.
[ (5) ] (دلائل البيهقي) : 5/ 272، حديث أبى لبابة وأصحابه.
(8/395)
|