إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ذكر مواساة
الأنصار المهاجرين بأموالهم لما قدموا عليهم المدينة
قال تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ،
يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ
خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [
(1) ] قال أبو عبد اللَّه القرطبي: لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم
الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين. قال: والتبوؤ، التمكن
والاستقرار، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، لا يحسدون المهاجرين على
ما خصوا به [من] الفيء وغيره.
وخرج البخاري ومسلم، من حديث يونس عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه قال: لما قدم المهاجرون من مكة [إلى] المدينة، قدموا وليس
بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن
أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤنة، وكانت أم أنس
[بن مالك وهي تدعى أم سليم، وكانت أم عبد اللَّه بن أبى طلحة، كان أخا
لأنس] [ (2) ] لأمه، كانت أعطت [أم أنس] [ (2) ] رسول اللَّه [صلّى اللَّه
عليه وسلّم عذاقا لها، فأعطاها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أم
أيمن، مولاته، أم أسامة بن زيد، فلما فرغ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار
منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال: فرد اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم إلى أمى عذاقها، وأعطى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أم أيمن
مكانهم من حائطه. وفي رواية: من خالصة [ (3) ] زاد مسلم: قال ابن شهاب:
وكان من
__________
[ (1) ] الحشر: 9.
[ (2) ] زيادة للسياق من (البخاري) .
[ (3) ] رواه البخاري في الهبة، باب فضل المنيحة، ومسلم في الجهاد، باب
(24) رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها
بالفتوح، حديث رقم (1771) ، والعذاق:
(9/204)
شأن أم أيمن- أم أسامة بن زيد- أنها كانت
وصيفة لعبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم بعد ما توفى أبوه، كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت
بعد ما توفى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بخمسة أشهر وفي رواية قال:
«كان الرجل يجعل للنّبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم النخلات من أرضه حتى افتتح
قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليهم، وأن أهلي أمرونى أن آتى رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فأسأله ما كان أهله أعطوه أو بعضه؟
وكان نبي اللَّه قد أعطاه أم أيمن فأتيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي، وقالت واللَّه لا
يعطيكهن وقد أعطانيهن، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: يا أم
أيمن، اتركيه، ولك كذا،
وتقول:
كلا، واللَّه الّذي لا إله إلا هو، فجعل يقول كذا حتى أعطاها عشرة أمثاله،
أو قريبا من عشرة أمثاله.
__________
[ () ] جمع عذق- بفتح العين، وهو النخلة بما عليها من الحمل، منائحهم:
المنائح جمع منحية، وهو العطية، والأصل فيه الناقة أو الشاة تعيرها غيرك
لينتفع بلبنها ثم يردها. (جامع الأصول) :
5/ 11- 13، حديث رقم (2989) .
(9/205)
فصل في ذكر من بعثه رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم يعلم الأنصار وغيرهم القرآن ويفقههم في الدين
اعلم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بعث عدة من أصحابه يعلمون
الناس القرآن، ويفقهونهم في الدين، وكان أول من بعثه لذلك مصعب بن عمير بن
هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، القرشي، العبديّ، أبو عبد اللَّه،
أحد الجلة من الصحابة، الذين أسلموا قديما، وهاجر إلى الحبشة، ثم بعثه رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى المدينة قبل الهجرة، بعد العقبة
الثانية. يقرئهم القرآن [ويفقههم في الدين] وكان يدعى: القارئ والمقرئ وهو
أول من سمى المقرئ، ويقال:
إنه أول من جمّع- أي صلاة الجمعة- بالمدينة قبل الهجرة، وشهد بدرا، واستشهد
يوم أحد [ (1) ] .
قال الواقدي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، وبكر بن الهيثم، قالا: حدثنا
أبو الوليد الطيالسي، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق عن البراء بن عازب رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم من المدينة، مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم [ (2) ] .
__________
[ (1) ] له ترجمة في: (تاريخ خليفة) : 69، (حلية الأولياء) : 1/ 106- 108،
(تهذيب الأسماء واللغات) : 2/ 96- 97، (الإصابة) : 6/ 123- 124، ترجمة رقم
(808) .
[ (2) ] أخرجه أبو عبد اللَّه الحاكم في (المستدرك) : 2/ 683، كتاب تواريخ
المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، من كتاب الهجرة الأولى إلى الحبشة، حديث
رقم (4254) ولفظه: «حدثنا أبو الطيب محمد بن محمد الشعيري، حدثنا محمد بن
عصام، حدثنا حفص بن عبد اللَّه، حدثني إبراهيم ابن طهمان، عن شعبة بن
الحجاج، عن أبى إسحاق، عن البراء بن عازب أنه قال: أول من قدم علينا
المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فكانوا يقرءوننا، فقدم
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وقد قرأت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى وسورا من المفصّل، ثم قدم سعد بن مالك، وعمار ابن ياسر، ثم قدم
عمر بن الخطاب في عشرين، ثم قدم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فما
فرحنا بشيء فرحنا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، جعل النساء
والصبيان يسعون يقولون: هذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(9/206)
قال الواقدي: وقد روى أن مصعبا سار من
المدينة إلى مكة، هاجر إليها مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
وأصحابه. وقال نصر بن على: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبى عن ابن إسحاق قال:
ثم انصرفوا، وبعث معهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمران، أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم، إنما بعثه بعدهم، وإنما كتبوا إليه: أن الإسلام قد فشا فينا، فابعث
إلينا رجلا من أصحابك، يقرئنا القرآن، ويفقهنا في الإسلام، ويقيمنا بسننه
وشرائعه، ويؤمنا في صلاتنا، فبعث مصعب بن عمير، وكان منزل مصعب على أبى
أمامة أسعد بن زرارة، وكان مصعب يسمى بالمدينة: المقرئ، وكان أبو أمامه
يذهب به إلى دور الأنصار، يدعوهم إلى الإسلام، ويفقه من أسلم منهم.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: يزيد بن أبى حبيب قال: لما انصرف عن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القوم، وبعث معهم مصعب بن عمير، فحدثني عاصم
بن عمر، عن ابن قتادة، أن مصعب بن عمير، كان يصلى بهم،
__________
[ () ] قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه
السياقة، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص) : على شرط البخاري ومسلم.
وأما عبد اللَّه بن أم مكتوم فإنه مختلف في اسمه، فأهل المدينة يقولون: عبد
اللَّه بن قيس بن زائدة الأصم بن رواحة القرشيّ العامرىّ.
وأما أهل العراق فسموه عمرا وأمه أم مكتوم هي عاتكة بنت عبد اللَّه بن
عنكثة بن عامر ابن مخزوم بن يقظة المخزومية. كانت من السابقين المهاجرين،
وكان ضريرا مؤذنا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع بلال وسعد القرظ،
وأبى محذورة مؤذن مكة. هاجر بعد وقعة بدر بيسير، وقد كان رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم يحترمه ويستخلفه على المدينة، فيصلي بيقايا الناس.
عن أبى إسحاق، سمع البراء يقول: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم
مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن.
قال عروة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مع رجال من قريش فيهم
عتبة بن ربيعة فجاء ابن أم مكتوم يسأل عن شيء، فأعرض عنه، فأنزلت: عَبَسَ
وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى [عبس: 12] .
عن أنس: أن عبد اللَّه بن أم مكتوم يوم القادسية، كانت معه راية سوداء،
عليه درع له.
(9/207)
وذلك أن الأوس كره بعضهم أن يؤمه بعض،
وحدثني عبد اللَّه بن أبى بكر بن حزم، وعبد اللَّه بن المغيرة بن معيقب
قال: بعث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مصعب بن عمير. مع النفر
الاثني عشر، الذين بايعوه في العقبة الأول إلى المدينة، [يفقه] أهلها،
ويقرئهم القرآن. وذكر الخبر، ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، أن مصعب بن عمير، كان أول من جمع الجمعة
بالمدينة للمسلمين، قبل أن يقدمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وذكر
غير الواقدي: أن الأنصار صلت قبل الهجرة سنتين إلى بيت المقدس وابن أم
مكتوم كان ممن قدم المدينة معه مصعب بن عمير، قال الواقدي: قدمها بعد بدر
بيسير [ (1) ] . ومعاذ بن جبل، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
قاضيا الى الجند باليمن يعلم الناس القرآن. وشرائع الإسلام ويقضى بينهم،
وقد تقدم التعريف به.
وعمرو [بن] [حزم بن] زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم ابن مالك بن
النجار، الأنصاريّ، الخزرجىّ، النجارىّ، ومنهم من ينسبه في مالك بن جشم بن
الخزرج، ومنهم من ينسبه في ثعلبة بن زيد بن مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن
مالك [يكنى] أبا الضحاك، أول مشاهده الخندق، واستعمله رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم على نجران، وهو ابن سبع عشرة سنة، ليفقههم في الدين،
ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم، وذلك في سنة عشر، وكتب له كتابا، فيه
الفرائض، والسنن والديات، ومات [بالمدينة] سنة إحدى وخمسين وقيل: غير ذلك [
(2) ] .
__________
[ (1) ] راجع التعليق السابق.
[ (2) ] وقيل سنة (51) ، وقيل: سنة (54) ، وقيل: سنه (53) ، والصحيح أنه
توفى بالمدينة بعد الخمسين، في خلافة عمر بن الخطاب رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والدارميّ، وغير واحد،
روى عنه ابنه محمد، وجماعة. له ترجمة في:
(الإصابة) : 4/ 621، ترجمة رقم (5814) ، (الاستيعاب) : 3/ 1172- 1173،
ترجمة رقم (1907) ، (الثقات) : 3/ 267، (أسماء الصحابة الرواة) : 217،
ترجمة رقم (292) ،
(9/208)
عقوبة من سب أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم
[حدثنا] [ (1) ] محمد بن الحسن بن زبالة، عن أبيه، أنبانا عبد اللَّه بن
موسى بن جعفر، عن على بن موسى، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن على بن الحسين،
عن أبيه، عن الحسين بن على، عن أبيه رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: من سب نبيا فاقتلوه، ومن سب أصحابى
فاضربوه [ (2) ] .
ومن حديث أبى برزة: كنت يوما عند أبى بكر، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه،
فغضب على رجل، حكى القاضي إسماعيل وغيره في هذا الحديث، أنه سب أبا بكر رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه، وفي رواية النسائي
__________
[ () ] (تلقيح فهوم أهل الأثر) : 372، (الجرح والتعديل) : 6/ 24، (التاريخ
الكبير) : 6/ 305، (تهذيب التهذيب) : 8/ 18- 19، ترجمة رقم (31) (الأعلام)
: 5/ 76.
[ (1) ] زيادة يقتضيها السياق.
[ (2) ] قال العلامة نور الدين على بن محمد بن سلطان المشهور بالملا على
القاري: حديث: «سب أصحابى ذنب لا يغفر» ، قال ابن تيمية: هذا كذب على رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وقد قال اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
[النساء: 48] .
قال: وقد يوجه معناه إن صحّ مبناه بأنه ذنب عظيم تعلق به حق الأصحاب، بل
وحق سيد الأحباب صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أن الغالب في الساب، أن يستحله
ويرجو به الثواب، به يكفر ويستحق به العقاب، وللصادق أن يخبر عن بعض الذنوب
بأنه سبحانه لا يغفره، حيث عظّم شأنه. وهو لا ينافي قوله تعالى: وَيَغْفِرُ
ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وقد كتبت في المسألة رسالة مستقلة، ولا يبعد
أن يكون المعنى: سب أصحابى ذنب لا يغفر، أي لا يسامح، لحديث: «من سب أصحابى
فاضربوه، ومن سبني فاقتلوه» . (الأسرار المرفوعة) : 213- 214، حديث رقم
(223) .
وقال في هامشه: ذكره السيوطي في (الجامع الصغير) بلفظ: «من سب الأنبياء
قتل، ومن سب أصحابى جلد» ، أخرجه الطبراني في (الأوسط) و (الصغير) عن
العمرى، شيخ الطبراني، قال في (الميزان) : رماه النسائي بالكذبة وقال في
(اللسان) : ومن مناكيره هذا الخبر، وساقه، ثم قال: رواته كلهم ثقات إلا
العمرى.
(9/209)
قال: [أغلظ رجل لأبى بكر الصديق فقلت:
أقتله] ؟ فانتهزنى، وقال: ليس هذا لأحد بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم [ (1) ] .
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 7/ 25، كتاب التحريم، باب (16) الحكم فيمن سب رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حديث رقم (4082) ، وسياقه مضطرب في (الأصل)
، وما بين الحاصرتين تصويب للسياق من (سنن النسائي) .
وأخرج النسائي في باب (17) ذكر الاختلاف على الأعمش في هذا الحديث: الحديث
رقم (4083) ، (4084) ، (4085) بسياقات مختلفة من طرق كلها عن أبى برزة.
وعن أبى برزة أيضا أخرجه أبو داود في (السنن) : 4/ 530- 531، كتاب الحدود،
باب (2) الحكم فيمن سب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، حديث رقم
(4363) . وقال الخطابي في (معالم السن) : أخبرنى الحسن بن يحى عن ابن
المنذر قال: قال أحمد بن حنبل في معنى هذا الحديث: أي لم يكن لأبى بكر رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه أن يقتل رجلا إلا بإحدى الثلاث التي قالها رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس
بغير نفس» ، وكان لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أن يقتل.
قال: وفيه دليل على أن التعزير ليس بواجب، وللإمام أم يعزر فيما يستحق به
التأديب، وله أن يعفو فلا يفعل ذلك. (معالم السنن) .
وقال الإمام ابن تيمية في (الصارم المسلول) : من سبّ رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله، هذا مذهب عليه عامة أهل
العلم. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن حدّ من سبّ رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم القتل. وممن قاله: مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق،
وهو مذهب الشافعيّ. قال:
وحكى عن النعمان: لا يقتل، يعنى الّذي هم عليه من الشرك أعظم، وقد حكى أبو
بكر الفارسي من أصحاب الشافعيّ إجماع المسلمين على أن حدّ من سب رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم القتل، كما أن حدّ من سبّ غيره الجلد.
وإن الإجماع الّذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة
والتابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن سابّ رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم يجب قتله إذا كان مسلما، وكذلك قيد القاضي عياض، فقال: أجمعت
الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابّه، وكذلك حكى عن غير واحد الإجماع
على قتله وتكفيره. -
(9/210)
__________
[ () ] وقال الإمام إسحاق بن راهويه- أحد الأئمة الأعلام- أجمع المسلمون
على أن من سبّ اللَّه، أو سب رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو دفع شيئا
مما أنزل اللَّه عزّ وجل، أو قتل نبيا من أنبياء اللَّه عزّ وجل: أنه كافر
بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل اللَّه.
قال الخطّابى: لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله. وقال محمد بن
سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب اللَّه له، وحكمه عند الأمة
القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.
وتحرير القول فيه: أن السابّ إن كان مسلما فإنه يكفّر ويقتل بغير خلاف، وهو
مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم من حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن
راهويه وغيره، وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة،
وسيأتي حكاية ألفاظهم، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. وقد نصّ أحمد على ذلك
في مواضع متعددة.
قال حنبل: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: كل من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا
يستتاب. قال: وسمعت أبا عبد اللَّه يقول: كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام
حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل، وليس على هذا أعطوا العهد والذمة.
وكذلك قال أبو الصفراء: سالت أبا عبد اللَّه عن رجل من أهل الذمة شتم رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت البينة عليه يقتل
من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مسلما كان أو كافرا، رواهما
الخلّال.
وفي رواية عبد اللَّه وأبى طالب وقد سئل عن شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم، قال: يقتل، قيل له:
فيه أحاديث؟ قال: نعم، أحاديث منها: حديث الأعمى الّذي قتل المراة، قال:
سمعتها تشتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وحديث حصين أن ابن عمر
قال: من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قتل.
وكان عمر بن العزيز يقول: يقتل، وذلك أنه من شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم فهو مرتد عن الإسلام، ولا يشتم مسلم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم. زاد عبد اللَّه: سألت أبى عمن شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم، يستتاب؟ قال: قد وجب عليه القتل، ولا يستتاب، لأن خالد بن
الوليد قتل رجلا شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم يستتبه،
رواهما أبو بكر في (الشافي) .
وفي رواية أبى طالب: سئل أحمد عمن شتم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
قال: يقتل، قد نقض العهد وقال جرير: سالت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، قال: يقتل إذا شتم رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم، رواهما الخلال، وقد نصّ على هذا في غير هذه الجوابات،
فأقواله كلها نصّ في وجوب
(9/211)
وفي صحيح مسلم، من طريق عبد اللَّه بن
نمير، عن نافع، عن ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، أن رسول اللَّه
صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما [ (1)
] .
وأخرجه البخاري [ (2) ] من حديث على بن المبارك، عن يحيى بن أبى كثير، عن
أبى سلمة، عن أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أن رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم قال: إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما.
وقال عكرمة بن عمار، عن يحيى، بن عبد اللَّه بن يزيد: سمع أبا سلمة، سمع
أبا هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يحدث عن رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم، ذكره البخاري في كتاب الأدب.
وخرج مسلم [ (3) ] من حديث إسماعيل بن جعفر، عن عبد اللَّه بن دينار، أنه
سمع ابن عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، يقول: قال رسول اللَّه صلّى
اللَّه عليه وسلّم أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما إن
كان كما قال، وإلا رجعت عليه.
وخرجه البخاري [ (4) ] من حديث عبد الوارث، حدثنا حسين [المعلم] ، عن [عبد
اللَّه بن بريدة] ، عن يحيى بن يعمر، أن أبا الأسود [الدؤلي] حدثه، عن أبى
ذر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه
وسلّم
__________
[ () ] قتله، وفي أنه قد نقض العهد وليس عنه في هذا اختلاف. (الصارم
المسلول على شاتم الرسول) : 3- 5.
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 408- 409، كتاب الإيمان، باب (26) بيان
حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر، حديث رقم (111) .
[ (2) ] (فتح الباري) : 10/ 630 كتاب الأدب باب (73) من أكفر أخاه بغير
تأويل فهو كما قال، حديث رقم (6103) ، (6104) .
[ (3) ] مسلم بشرح النووي) : 2/ 408 كتاب الإيمان باب (26) بيان حال إيمان
من قال لأخيه المسلم:
يا كافر الحديث. الّذي يلي رقم (111) [بدون رقم] .
[ (4) ] (فتح الباري) : 6/ 669 كتاب المناقب باب (5) [بدون ترجمة] ، حديث
رقم (3508) .
(9/212)
يقول: ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه
إلا كفر، [ومن ادعى ما ليس له فيهم نسب فليتبوَّأ مقعده من النار] .
وخرجه البخاري [ (1) ] أيضا من حديث عبد الوارث، عن الحسين، عن عبد اللَّه
بن بريدة، قال: حدثني يحيى بن يعمر، أن أبا الأسود [الدؤلي] ، حدثه عن أبى
ذر، أنه سمع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: لا يرمى رجل رجلا
بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك.
قال الشيخ أبو زكريا النووي: هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات،
من حيث أن ظاهره غير مراد، وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم
بالمعاصي كالقتل، والزنا، وكذا قوله لأخيه: كافر من غير اعتقاد بطلان [دين]
الإسلام، فإذا عرف ما ذكرناه [فقيل] في تأويل الحديث أوجه:
أحدهما: أنه محمول على المستحل لذلك، وهذا يكفر، فعلى هذا معنى [باء] بها،
أي بكلمة الكفر، وكذا، حار عليه، وهو بمعنى رجعت عليه، أي رجع عليه الكفر،
فباء، وحار، ورجع بمعنى واحد.
والوجه الثاني: معناه، رجعت عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره.
والوجه الثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا الوجه نقله
القاضي عياض، عن الإمام مالك بن أنس، وهو ضعيف، لأن المذهب الصحيح المختار،
الّذي قاله الأكثرون، والمحققون، أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع.
والوجه الرابع: معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر، وذلك أن [المعاصي]- كما
قالوا- بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها، المصير إلى
[الكفر] ، ويؤيد هذا الوجه، ما جاء في رواية أبى عوانة الأسفراييني، في
كتابه (المخرج على صحيح مسلم) : فإن كان
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 569، كتاب الأدب، باب (44) ما ينهى عن السباب
واللعن، حديث رقم (6045) .
(9/213)
كما قال، وإلا فقد باء بالكفر،
وفي رواية: إذا قال لأخيه: يا كافر، وجب الكفر على أحدهما.
والوجه الخامس: معناه، فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع عليه حقيقة الكفر،
بل التكفير، لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من
هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر، يعتقد بطلان دين الإسلام
واللَّه أعلم [ (1) ] .
قال الشيخ الإمام أبو الفتح السبكى: كون الخوارج لا يكفرون، لست موافقا
عليه، لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، صح عنه
في صحيح مسلم [ (2) ] ، من حديث على رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، قال:
سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: سيخرج في آخر الزمان قوم،
أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرءون القرآن،
لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، فإذا
لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند اللَّه لمن قتلهم يوم القيامة.
وقد رويت آثارا تدل على أنهم هم الذين قاتلهم عليّ رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه، وهم الخوارج، وهم ومن كان مثلهم بهذه المنزلة، يجوز قتلهم بهذا
الحديث، وإن ادعى الإسلام، ولا نترك ما عندنا إلا اعتقاده، ولا يلتفت إليه
بنص هذا الحديث، فإن هذا نص في القتل، وأما مجرد سب أبى بكر وعمر رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وغيرهما من الصحابة، فلم يجئ قط ما يقتضي قتل
قاتله ولا كفره، والحديث الّذي يروى: من سب صحابيا فاجلدوه، إن صح فمعناه
صحيح، لان واجبه التعزير، وهو يقتضي أنه لا يقتضي كفرا ولا قتلا، وحديث أبى
برزة يدل على أن إغضاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 409، كتاب الإيمان، باب (26) بيان حال من
قال لأخيه المسلم:
يا كافر، شرح الحديث رقم (111) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : 8/ 175، كتاب الزكاة، باب (48) التحريض على قتل
الخوارج، حديث رقم (1066) .
(9/214)
يوجب القتل دون غيره من الناس.
قال: وفي الصحيحين [ (1) ] عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: ولعن
المؤمن كقتله.
قال الشيخ تقى الدين ابن دقيق العيد [سؤال] . لا يمكن أن يزاد في أحكام
الدنيا، لأن اللعن لا يوجب القصاص [في الدنيا] ولا في الآخرة، لأن الإثم
يتفاوت. قال المازرنى: يشبهه في الإثم، لأن اللعن قطع الرحمة، والموت قطع
التصرف. وقيل: لعنة، تقتضي قصد إخراجه من المسلمين، وقطع منافعه الأخروية
عنه، وقيل: استواؤهما في التحريم، فاقتضى كلام ابن دقيق العيد، أن اللعنة
تعريض بالدعاء، الّذي قد يقع في ساعة إجابة، إلى البعد من رحمة اللَّه
تعالى، وهو أعظم من القتل الّذي هو تفويت الحياة.
قال السبكى الشيخ محيي الدين: أخذ بظاهر المنقول من عدم التكفير، وذلك
محمول على ما إذا لم يصدر منهم سبب يكفر، كما إذا لم يحصل إلا مجرد الخروج
[والقتال] ، ونحوه، أما مع التكفير لمن تحقق إيمانه، فمن أين ذلك؟.
فإن قلت: قد قال الأصوليون في أصول الدين- ومنهم سيف الدين المزي- جوابا عن
قول المكفرين: كيف لا نكفر الشيعة والخوارج بتكفيرهم أعلام الصحابة، رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهم؟ وبتكذيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في
قطعه لهم بالجنة؟ وأجاب: أن ذلك إنما هو إذا كان المكفر يعلم بتزكية من
كفره، قطعا على الإطلاق إلى مماته، وليس كذلك، وهذا الجواب يمنع ما قلتم،
قلت: هذا الجواب، إنما ننظر فيه إلى أن المكفر لا يلزمه بذلك تكذيب رسول
اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولم ينظر إلى ما قلناه من الحكم عليه بالكفر
[بالحديث] الّذي ذكرناه، إن لم يكن في باطنه تكذيب، كما قاله إمام الحرمين
وغيره في الحكم بالكفر على السجود للصنم والملقى للمصحف في القاذورات، وإن
لم يكن في باطنه تكذيب.
__________
[ (1) ] (فتح الباري) : 10/ 570، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن السباب
واللعن، حديث رقم (604) ، (مسلم بشرح النووي) : 2/ 478 كتاب الإيمان، باب
(47) غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به، حديث رقم
(110) .
(9/215)
فإن قلت: يلزم على هذا أن كل من قال لمسلم
أنه كافر يحكم بكفره، قلت: إن كان ذلك المسلم مقطوعا بإيمانه، كالعشرة
المشهود لهم بالجنة، فنعم، وكذا عبد اللَّه بن سلام [ونحوه] ، ممن ثبت عن
رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم الشهادة لهم بالجنة، وكذا كل من بايع
تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر، وكذا أهل بدر، وأما إذا لم يكن ذلك
المسلم مقطوعا بإيمانه، بل هو من عرض المسلمين، فلا قول فيه، ذلك، وإن كان
إيمانه ثابتا من حيث الحكم الظاهر،
لأن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أشار إلى اعتبار الباطن بقوله: إن
كان كما قال، وإلا رجعت عليه، وبقوله: فقد باء بها أحدهما.
بقي قسم آخر، وهو أن لا يكون من الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم،
المشهود لهم بالجنة، ولكن ممن [أجمعت] الأمة على جلالته وإمامته، كسعيد بن
المسيب، والحسن، وابن سيرين، وأقرانهم من التابعين، ومن بعدهم من علماء
المسلمين، المجمع عليهم، فهذا عندي أيضا ملتحق بمن ورد النص فيه، فيكفّر من
كفّره.
وحاصله أنّا نكفّر من يكفّر من نحن نقطع بإيمانه، إما بنص أو إجماع، فإن
قلت: هذا طريق لم يذكره أحد من المتكلمين، ولا من الفقهاء، قلت الشريعة
كالبحر، كل وقت يعطى جواهر، وإذا صح دليل، لم يضره خفاؤه على كثير من الناس
في مدة طويله، على أننا قد ذكرنا من كلام مالك- رحمه اللَّه- ما يشهد له،
فإن قلت: الكفر هو جحد الربوبية [أو الوحدانية] ، أو الرسالة، وهذا رجل
موحد- يعنى الرافضيّ- مؤمن برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكثير من
صحابته، فكيف يكفّر.
قلت: التكفير، حكم شرعي، سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية، أو الرسالة، أو
قول، أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحدا، وهذا منه، فهذا دليل لم
يرد في هذه المسألة [أحسن] منه، لسلامته عن اعتراض صحيح قادح فيه، وينضاف
إليه قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم [فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى] : من
آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب، ولكن لا يقال بظاهره، بل هو
(9/216)
كقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ (1) ] ، على أنه يمكن
التزامه، وأن المراد إذا لم يترك [الربا] ، ولا أقر به، كفر.
ولا شك أن أبا بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ولى اللَّه، [فإن] مبارزته
مبارزة للَّه تعالى ومحاربته محاربة للَّه تعالى،
وقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «ولعن المؤمن كقتله»
وأبو بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه مؤمن، وفي الحديث الأول كفاية، وهو
في (صحيح مسلم) [ (2) ] .
الدليل الثاني: استحلاله لذلك، ومن استحل ما حرمه اللَّه تعالى، فقد كفر،
ولا شك أن لعنه الصديق، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، وسبه محرم.
قال ابن حزم: واللعن، أشد من السب،
وقد صح عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: سباب المسلم فسوق،
فسب أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه فسق، واستحلال الفسق كفر، فإن
قلت: إنما يكون استحلال الحرام كفر، إذا كان تحريمه معلوما من الدين
بالضرورة، بالنقل المتواتر، من حسن إسلامه، وأفعاله أدلة على إيمانه، وأنه
دام على ذلك، إلى أن قبضه اللَّه تعالى، هذا مما لا يشك فيه معلوم من الدين
بالضرورة، فيكون مستحله كافرا.
ولا يرد على هذا إلا شيء واحد، وهو أن يكفر مستحل ما علم تحريمه بالضرورة،
فذلك كفرت الجهميّ والرافضيّ، لم يكن ذلك العلم الضروريّ بالتحريم، حاصلا
عنده، فلم يلزم منه تكذيبه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا ينفصل
من هذا إلا بأن يقال: إن تواتر ذلك عند عموم الخلق يكفى فلا يعذر الرافضيّ
بالشبهة الفاسدة، التي غطت على قلبه، حتى لم يعلم ذلك، وهذا محل نظر وجدل،
وان كان القلب يميل إلى بطلان هذا العذر [وهذا هو الدليل الثالث] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] البقرة: 279.
[ (2) ] (مسلم بشرح النووي) : 2/ 480، كتاب الإيمان، باب (47) غلط تحريم
قتل إنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار الحديث الّذي يلي رقم
(176) بدون رقم.
[ (3) ] زيادة للبيان.
(9/217)
[الدليل] الرابع: مذهب أبى حنيفة- رحمه
اللَّه- أن من أنكر خلافة الصديق، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فهو كافر،
وكذلك من أنكر خلافة عمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، ومنهم من لم يحك في
ذلك خلافا، ومنهم من ذكر في ذلك خلافا، وقال: الصحيح أنه كافر، [والمسألة]
مذكورة في (الغاية) للسروجى، وفي (الفتاوى الطهيرية) ، وفي (الأصل) لمحمد
بن الحسن، رحمه اللَّه، والظاهر أنهم أخذوا ذلك عن إمامهم أبى حنيفة، وهو
أعلم بالروافض، لأنه كوفى، والكوفة منبع الروافض، والروافض طوائف منهم من
يجب تكفيره ومنهم من لا يجب تكفيره فإذا قال أبو حنيفة [رحمه اللَّه]
بتكفير من ينكر إمامة الصديق فتكفير لا عنه أولى.
والظاهر أن المستند، أن منكر امامة الصديق رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
مخالف للإجماع، بناه على أن جاحد [الحكم] المجمع عليه كافر، وهو المشهور
عند الأصوليين، وإمامة الصديق مجمع عليها، من حين بايعه عمر ابن الخطاب،
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، ولا يمنع من ذلك تأخر بيعة بعض الصحابة،
فإن الذين تأخرت بيعتهم، لم يكونوا مخالفين في صحة إمامته، ولهذا كانوا
يأخذون [عطاءه] ويتحاكمون إليه، فالبيعة شيء، والإجماع شيء، لا يلزم من
أحدهما الآخر، ولا من عدم أحدهما عدم الآخر، فافهم ذلك، فإنه قد يغلط فيه.
وهذا قد يعترض عليه شيء من شيئين:
أحدهما: قول: بعض الأصوليين: أن جاحد الحكم المجمع عليه، إنما يكفر إذا كان
معلوما من الدين بالضرورة، وأما المجمع عليه الّذي ليس معلوما من الدين
بالضرورة، فلا يكفر بإنكاره، مثل كون بنت الابن لها السدس مثل البنت، مجمع
عليه، وليس معلوما بالضرورة، فلا يكفر منكره، ويجاب على هذا [بأن] خلافة
الصديق، وبيعة الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم له، ثبتت بالتواتر
المنتهى إلى حد الضرورة، فصارت كالمجمع عليه: المعلوم بالضرورة، وهذا لا شك
فيه، ولم يكن أحد من الروافض في أيام الصديق، ولا في أيام عمر، ولا في أيام
عثمان، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، وإنما حدثوا بعده، وحدثت مقالتهم بعد
حدوثهم.
(9/218)
الشيء الثاني: أن خلافة الصديق، رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنه، وإن علمت بالضرورة، فالخلافة من الوقائع الحادثة، ليست
حكما شرعيا، والّذي يكفر جاحده إذا كان معلوما بالضرورة، إنما هو الحكم
الشرعي، لأنه من الدين، كالصلاة، والزكاة، والحج، لأنه لا يلزم من جحده،
تكذيب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وهذا محل يجب التمهل [فيه]
والنظر، نعم، وجوب الطاعة وما أشبهه حكم شرعي يتعلق بالخلافة.
قال: فإن قلت: قد جزم- يعنى القاضي حسين- في كتاب (الشهادات) بفسق سابّ
الصحابة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، ولم يحك فيه خلافا، وكذلك ابن
الصباغ في (الشامل) ، وغيره.
وحكوه عن الشافعيّ، رحمه اللَّه، فيكون ذلك ترجيحا لعدم الكفر، قلت: لا،
وهما مسألتان المسألة المذكورة في (الشهادات) في السب المجرد دون التكفير
وهو موجب لفسق، ولا فرق في الحكم بالفسق بين ساب أبى بكر، [وغيره من] أعلام
الصحابة، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم.
والمسألة المذكورة في كلام القاضي حسين، في كتاب (الصلاة) - في الابتداء في
ساب الشيخين [ (1) ] ، أو الحسنين [ (2) ] ، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم،
وهي محل الوجهين في الكفر، أو الفسق، ولا مانع من أن يكون سب مطلق
[الصحابة] رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم موجبا للفسق، وسب بهذا الصحابي
مختلف في كونه موجبا للفسق أو الكفر.
وأما المسألة الثالثة. وهي تكفير أبى بكر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه،
ونظرائه من الصحابة، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم، فهذه لم يتكلم فيها
أصحابنا في كتاب (الشهادات) ولا في كتاب (الصلاة) ، وهي مسألتنا، والّذي
أراه، أنه موجب للكفر قطعا، عملا بمقتضى الحديث المذكور.
__________
[ (1) ] الشيخان: في السيرة: أبو بكر وعمر رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما،
وفي الحديث: البخاري ومسلم، وفي الشعر الحديث: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم.
[ (2) ] الحسنان: الحسن والحسين سبطي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم.
(9/219)
قال: فتلخص أن سب أبى بكر رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه، على مذهب أبى حنيفة، وأحمد [رحمهما اللَّه] ، وأحد الوجهين عند
الشافعيّ، كفر، أما مالك، فالمشهور أنه أوجب به الجلد فيقتضى أنه ليس كفر
ولم أر عنه خلاف ذلك إلا ما قدمته في الخوارج فيخرج عنه أنه كفر فتكون
[المسألة] عنده على حالين: إن اقتصر على سبّ من غير تكفير، يكفروا، إن كفر
فالرافضي قد زاد إلى تكفير فهو كافر عند مالك وأبى حنيفة، وأحد وجهي
الشافعيّ، وزنديق عند أحمد، بتعرضه إلى عثمان رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه
المتضمن تخطئة المهاجرين والأنصار، وكفره كفر ردة، لأن حكمه قبل ذلك حكم
المسلمين والمرتد يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل وهذا استتيب، فلم يتب، يعنى في
رافضي قتل في زمانه.
قال: فكان قتله على مذهب جمهور العلماء، أو جمعيهم، لأن القائل بأن الساب
لا يكفر، لم يتحقق منه أنه يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنهم، فأحد الوجهين عندنا، إنما اقتصر على الفسق، في مجرد السب دون
التكفير، وكذلك الإمام أحمد، إنما عن قتل من لم يصدر منه إلى السب والّذي
صدر من هذا أعظم من السب.
ومن جملة المنقول: قول الطحاوي- أحد أئمة الحنفية- في (عقيدته) [ (1) ] في
الصحابة: وبعضهم كفّر، وهذا يحتمل أن يحمل على مجموع الصحابة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنهم، ويحتمل أن يحمل على كل واحد منهم إذا أبغضه [لا] لأمر
خاص به، لا بل مجرد صحبته رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولا شك أن
ذلك كفر، لأنه لا يبغضه لصحبته رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلا وهو
يبغض رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبغض رسول اللَّه صلّى اللَّه
عليه وسلّم كفر.
ويحتمل أن يحمل على ما إذا أبغض صحابيا، لا لأمر من الأمور، والقول بأن هذا
وحده كفر يحتاج إلى دليل، وأما إذا أبغضه لشحناء بينهما دنيوية، ونحوها،
فلا يظهر كفره، والرافضيّ ومن أشبهه، بغضهم لأبى بكر، وعمر، وعثمان رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنهم، لا شك أنه ليس لأجل
__________
[ (1) ] العقيدة الطحاوية.
(9/220)
الصحبة، لأنهم يحبون عليا، والحسن، والحسين، رضى اللَّه تبارك وتعالى تعالى
عنهم، ويحبون [غيرهم] ولكنه لهوى في أنفسهم، واعتقادهم بجهلهم، ظلمهم لأهل
بيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فالظاهر أنهم إذا اقتصروا على
السب من غير تكفير، ولا جحد لمجمع عليه، لا يكفرون.
واعلم أن من كان كفره للطعن في الدين، فإن توبته مقبولة، لقوله تعالى:
وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا
أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [ (1) ] دليل لقبول توبتهم، وهذا
الرافضيّ، لم ينته، ولم يتب، واللَّه تبارك وتعالى أعلم. |