إمتاع
الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع فصل في ربط الأسير بمسجد رسول اللَّه صلى
اللَّه عليه وسلّم
خرج البخاري من حديث الليث، حدثني سعيد بن أبى سعيد، انه سمع أبا هريرة رضى
اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلّم خيلا قبل
نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة، بن أثال، فربطوه بسارية من
سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: أطلقوا ثمامة،
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله
إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه. ذكره في الصلاة في باب الأسير أو الغريم
يربط في المسجد [ (1) ] ، وذكره في باب دخول المشركين في المسجد [ (2) ] .
وأخرجه مسلم أيضا، وله طرق في كتاب الجهاد، وفيه قصة [ (3) ] .
وقال ابن زبالة: حدثني محمد بن جعفر عن عمر بن هارون، عن عثمان بن أبى
سليمان. قال: إن مشركي قريش حين أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في
فداء أساراهم
__________
[ () ] وفي الباب أيضا حديث آخر، أخرجه ثابت في (الدلائل) بلفظ: إن النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم الأمر من كل حائط بقنو يعلق في المسجد. يعنى
للمساكين. وفي رواية له: وكان عليها معاذ بن جبل، أي على حفظها أو على
قسمتها. (فتح الباري) : 1/ 680.
[ (1) ] (فتح الباري) : 1/ 730- 731، كتاب الصلاة، باب (76) الاغتسال إذا
أسلم، وربط الأسير أيضا في المسجد، وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى
سارية المسجد، حديث رقم (642) .
[ (2) ] (المرجع السابق) : باب (82) دخول المشرك المسجد، حديث رقم (469) .
وفي دخول المشرك المسجد مذاهب: فعن الحنفية الجواز مطلقا، وعن المالكية
والمزني المنع مطلقا، وعن الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره للآية:
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
بَعْدَ عامِهِمْ هذا. وقيل: يؤذن للكتابى خاصة، وحديث الباب يرد عليه، فإن
ثمامة ليس من أهل الكتاب.
[ (3) ] (مسلم بشرح النووي) : 12/ 330- 331، كتاب الجهاد والسير، باب (19)
ربط الأسير وحبسه، وجواز المن عليه، حديث رقم (59) ، (60) من طريقين.
(10/172)
الذين أسروا ببدر وكانوا يلبثون في المسجد،
فمنهم جبير بن مطعم رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [قال:] كنت أبيت في
المسجد، فكنت أسمع قراءة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وكان يومئذ مشركا مع
المشركين.
فصل في ذكر جلوس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في مقعد بنى له
خرج النسائي من حديث جرير، عن أبى فروة، عن أبى زرعة، عن أبى هريرة وأبى ذر
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما قالا: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدرى أيهم هو حتى يسأل،
فطلبنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أن نجعل له مجلسا يعرفه
الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه، ونجلس بجانبه
سماطين [ (1) ] .
قال ابن سيده: والدكة بناء يسطح أعلاه، والدكان من البناء: مشتق من ذلك.
وقال الجوهري: الدكان الّذي يقعد عليه [ (2) ] .
فصل في ذكر مصلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الأعياد
خرج أبو داود من حديث حماد عن حميد عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه، قال: قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم المدينة ولهم يومان
يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية،
فقال
__________
[ (1) ] (سنن النسائي) : 8/ 475- 476، كتاب الإيمان، باب (6) صفة الإيمان
والإسلام، حديث رقم (5006) . والسماط بكسر السين: الصف من الناس.
وأخرجه أبو داود في السنة، باب (17) في القدر، حديث رقم (4698) وزاد فيه:
وكنا نجلس بجنبتيه، وذكر نحو هذا الخبر، فأقبل رجل، فذكر هيئته، حتى سلم من
طرف السماط، فقال: السلام عليك يا محمد، قال: فرد عليه النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم.
[ (2) ] (لسان العرب) : 10/ 425.
(10/173)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: إن
اللَّه تبارك وتعالى قد أبدلكم خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر [ (1) ]
.
وخرجه النسائي من حديث إسماعيل قال: حدثنا حميد عن أنس بن مالك قال: كان
لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم المدينة قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم اللَّه
بهما خيرا منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى [ (2) ] .
وقال الواقدي: أول عيد صلاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بالمصلى سنة
اثنتين من مقدمة المدينة من مكة.
وخرج أبو زيد عمر بن شبة من حديث أبى ضمرة الليثي، عن حمزة ابن عبد الواحد،
عن داود بن بكر، عن خالد بن عبد اللَّه، عن أنس بن مالك رضى اللَّه تبارك
وتعالى عنه، قال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم خرج إلى المصلى
يستسقى، فبدأ بالخطبة، ثم صلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة، فقال: هذا
مجمعنا، ومستمطرنا، ومدعانا لعيدنا، ولفطرنا، وأضحانا، [فلا.....] .
وخرج البخاري [ (3) ] من حديث زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد اللَّه بن أبى
سرح، عن أبى سعيد الخدريّ، قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
يخرج يوم الفطر
__________
[ (1) ] (سنن أبى داود) : 1/ 675، كتاب الصلاة، باب (245) صلاة العيدين،
حديث رقم (1134) .
[ (2) ] (سنن النسائي) : 3/ 199، كتاب العيدين، باب (1) بدون ترجمة، حديث
رقم (1555) ، وأخرجه أيضا البيهقي في (السنن الكبرى) : 3/ 277، كتاب صلاة
العيدين.
[ (3) ] (فتح الباري) : 2/ 570، كتاب العيدين، باب (6) الخروج إلى المصلى
بغير منبر، حديث رقم (956) .
وفي هذا الحديث من الفوائد بنيان المنبر، قال الزين بن المنير: وإنما
اختاروا أن يكون باللبن لا من الخشب لكونه يترك بالصحراء في غير حرز فيؤمن
عليه النقل، بخلاف خشب منبر الجامع. وفيه أن الخطبة على الأرض عن قيام في
المصلى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلى يكون
بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر، بخلاف المسجد فإنه يكون في مكان
محصور فقد لا يراه بعضهم، وفيه الخروج إلى المصلى
(10/174)
والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به
الصلاة حدثنا سعيد بن أبى مريم قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: أخبرنى زيد عن
عياض بن عبد اللَّه بن أبى سرح عن أبى سعيد الخدريّ قال: «وكان رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ
به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم- فيعظهم،
ويوصيهم، ويأمرهم. فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به، ثم
ينصرف. «قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان- وهو أمير
المدينة- في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت،
فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلى، فجبذت بثوبه، فجبذنى، فارتفع فخطب
قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم واللَّه، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت
ما أعلم واللَّه خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد
الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة.
__________
[ () ] في العيد، وأن صلاتها في المسجد لا تكون إلا عن ضرورة، وفيه إنكار
العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة، وفيه حلف العالم على صدق ما
يخبر به، والمباحث في الأحكام، وجواز عمل العالم بخلاف الأولى إذا لم
يوافقه الحاكم على الأولى لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيستدل به
على أن البداءة بالصلاة فيه ليس بشرط في صحتها. واللَّه أعلم.
واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد وأن ذلك أفضل من
صلاتها في المسجد، لمواظبة النبي صلى اللَّه عليه وسلّم على ذلك مع فضل
مسجده. وقال الشافعيّ في (الأم) :
بلغنا أن روسل اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يخرج في العيدين إلى
المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل
البلدان خلا أهل مكة. ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة
قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه،
فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه وإلا إعادة، ومقتضى هذا أن العلة تدور
على الضيق والسعة، لا لذات الخروج إلى الصحراء، لأن المطلوب حصول عموم
الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى.
(10/175)
وخرجه مسلم [ (1) ] من حديث إسماعيل بن
جعفر، عن داود بن قيس، عن عياش بن عبد اللَّه بن سعد.
حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا حدثنا إسماعيل بن جعفر عن داود
بن قيس عن عياش بن عبد اللَّه بن سعد عن أبى سعيد الخدريّ أن رسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة فإذا
صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم فإن كان له حاجة
ببعث ذكره للناس أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها وكان يقول تصدقوا
تصدقوا تصدقوا
وكان أكثر من يتصدق النساء ثم ينصرف فلم يزل كذلك حتى كان مروان بن الحكم
فخرجت مخاصرا مروان حتى أتينا المصلى فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرا من
طين ولبن فإذا مروان ينازعني يده كأنه يجرنى نحو المنبر وأنا أجره نحو
الصلاة فلما رأيت ذلك منه قلت أين الابتداء بالصلاة فقال لا يا أبا سعيد قد
ترك ما تعلم، قلت: كلا والّذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم «ثلاث مرار
ثم انصرف» .
وخرج أبو داود [ (2) ] من حديث الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن
أبى سعيد، وعن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبى
__________
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 6/ 427، كتاب صلاة العيدين، باب (1) بدون
ترجمة، حديث رقم (889) .
وهذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وأنه أفضل من
فعلها في المسجد وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار وأما أهل مكة فلا
يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول ولأصحابنا وجهان:
أحدهما: الصحراء أفضل لهذا الحديث.
والثاني: وهو الأصح عند أكثرهم المسجد أفضل إلا أن يضيق قالوا وإنما صل أهل
مكة في المسجد لسعته وإنما خرج النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلى المصلى
لضيق المسجد فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع، وفيه أن الخطبة للعيد بعد
الصلاة، وفيه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأن كان المنكر عليه واليا،
وفيه أن الإنكار عليه يكون باليد لمن أمكنه ولا يجزى عن اليد اللسان مع
إمكان اليد.
(10/176)
سعيد الخدريّ، قال: أخرج مروان المنبر في
يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال: يا مروان خالفت السنة،
أخرجت المنبر في يوم عيد، ولم يكن يخرج فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة،
فقال أبو سعيد الخدريّ: من هذا؟ قالوا: فلان بن فلان، فقال: أما هذا فقد
قضى ما عليه، سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقول: «من رأى منكرا
فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع
فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
وقد ذكر مسلم نحو هذا من حديث سفيان الثوري وشعبة، عن قيس بن مسلم عن طارق
بن شهاب.
وذكر عمر بن شبة من حديث داود بن قيس عن عياض بن عبد اللَّه بن أبى سرح
قال: أول من قام بالمصلى على منبر عثمان بن عفان رضى اللَّه تبارك وتعالى
عنه على منبر بناه له كثير بن الصلت من طين، ثم بناه كثير لمعاوية بن أبى
سفيان، فتكلم عليه، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فكلمه في ذلك أبو سعيد
الخدريّ رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، فقال: الصلاة قبل [الخطبة] ، فقال:
اترك ما كنت يعهد قلبك، ولتسمع أذن، فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذنى....
وذكر الحديث.
فصل في نوم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم
فإن قيل: إذا كان نومه صلى اللَّه عليه وسلّم يساوى نومنا في انطباق الجفن
وعدم السماع، حتى أنه نام عن الصلاة فما أيقظه إلا حر الشمس، فما الفرق
بيننا وبينه في النوم؟ أجيب بأن النوم يتضمن أمرين:
أحدهما: راحة البدن، وهو الّذي يشاركنا فيه.
__________
[ () ] (2) (سنن أبى داود) : 1/ 677، كتاب الصلاة، باب (248) ، الخطبة يوم
العيد، حديث رقم (1140) .
(10/177)
والثاني: غفلة القلب، وقلبه صلى اللَّه
عليه وسلّم متيقظ إذا نام، سليم من الأحلام في شغل، يتلقى الوحي، والتفكير
في المصالح، على مثل حال غيره إذا كان منتبها، فما يتعطل قلبه بالنوم عما
وضع له، كما يتعطل قلب غيره.
ألا ترى إلى حاله صلى اللَّه عليه وسلّم في نزول الوحي عليه كيف كان يغشى
عليه؟
وهي حالة لو أصابت غيره لانتقض وضوؤه، وهو صلى اللَّه عليه وسلّم في تلك
الحال حافظ محفوظ من غلبة الطبع البشرى عليه، واسترخاء مخارج الحدث، فهو
غائب عنا بحال، واللَّه سبحانه ييسر إليه حينئذ ما يشاء.
وأما نومه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى طلعت الشمس
فإنه يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه أريد بذلك التشريع لنا، لنعلم ما حكم اللَّه تعالى فيمن سها،
وغفل عن الصلاة، كما بين اللَّه تعالى لنا حكمه عند عدم الماء، فأعدمه نبيه
صلى اللَّه عليه وسلّم حتى أنزل عليه [آية حكم] التيمم [ (1) ] .
قال ابن عبد البر: ونومه صلى اللَّه عليه وسلّم في ذلك الوقت عن صلاة الصبح
حتى طلعت الشمس، أمر خارج عن عادته وطباعه، وطباع الأنبياء قبله، وإنما كان
نومه ذلك ليكون سنة، وليعلم المؤمنون كيف حكم من نام عن الصلاة أو نسيها،
حتى يخرج وقتها، وهو من باب
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم: إني لأنس أو لأنسي أسني.
والّذي كانت جبلته وعادته صلى اللَّه عليه وسلّم أن لا يخامر النوم قلبه،
ولا يخالط نفسه وإنما كانت تنام عينه.
وقد ثبت عنه أنه صلى اللَّه عليه وسلّم قال: إن عيني تنامان ولا ينام
__________
[ (1) ] وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] .
(10/178)
قلبي.
وهذا على العموم، لأنه
قد جاء عنه: إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا [ (1) ] .
ولا يجوز أن يكون مخصوصا بذلك، لأنها خصلة لم بعدها في الست التي أوتيها،
ولم يؤتها أحد قبله من الأنبياء، فلما أراد اللَّه تعالى منه ما أراد
[....] قبض روحه وروح من معهم في نومهم ذلك، وصرفها إليهم بعد طلوع الشمس
ليتبين لهم مراده، على لسان رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم.
وعلى هذا التأويل جماعة أهل الفقه والأثر، وهو واضح، والمخالف فيه مبتدع.
الثاني: أنه وقع له ذلك لينكشف له علوم تخصه من المعارف، فعطلته عن القيام
بحقوق الظواهر، لاشتغال باطنه المقدس بأداة التلقي.
فقد عبر بلسان قاله ... عن حاله من ذكر محبوبه
حتى أذهله عن مطلوبة
فقال:
فو اللَّه ما أدرى إذا ما ذكرتها ... أثنتين صليت العشاء أم ثمانيا؟
وقد عد القضاعي هذه الخصوصية مما خص به دون الأنبياء، وخفي عليه ما خرجه
البخاري [ (2) ] من حديث أنس رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه في قصة الإسراء:
وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم. فل يبق إلا اختصاصه صلى
اللَّه عليه وسلّم بذلك دون أمته وكان في قوله أن نوم العين بمجرده لا ينقض
الوضوء.
***
__________
[ (1) ] سبق تخريجه.
[ (2) ] سبق تخريجه.
(10/179)
الرابعة عشرة: انتقاض وضوئه صلى اللَّه
عليه وسلّم بمس النساء
وفيه خلاف على وجهين، الأشهر منهما الانتقاض. قال النووي في (الروضة) [ (1)
] : والمذهب الجزم بانتفاضه.
ومأخذ من ذهب إلى عدم الانتقاض،
حديث عائشة في (صحيح مسلم) : أنها افتقدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه
وسلّم في المسجد، فوقعت يدها عليه وهو ساجد، وهو يقول: أنى أعوذ برضاك من
سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على
نفسك.
وحديثها في السنن، قالت: إن كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليصلي
وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن [يسجد غمز رجلي،
فقبضتهما] . وظاهرهما يؤيد عدم النقض.
وفي مسند البزار من حديث عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة رضى اللَّه
تبارك وتعالى عنها أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم كان يقبل بعض
نسائه ثم يخرج إلى الصلاة ولا يتوضأ. ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم إلا من رواية عائشة، ولا نعلمه يروى عنها إلا
من حديث حبيب عن عروة، ومن حديث عبد الرحيم عن عطاء.
قال عبد الحق: ولا أعلم لهذا الحديث علة توجب تركه، ولا أعلم فيه أكثر من
قول يحيى بن معين: حديث عبد الركيم عن عطاء حديث رديء، لانه حديث غير محفوظ
وانفراد الثقة بالحديث لا يضره، فإما أن يكون قبل نزول الآية، أو تكون
الملامسة الجماع، كما قال ابن عباس، وكان هذا القائل بعدم الانتقاض، ذهب
إلى تخصيص ذلك به صلى اللَّه عليه وسلّم، لكن الخصوم لا يقنعون منه بذلك،
ويقولون: الأصل في ذلك عدم التخصيص إلا بدليل.
__________
[ (1) ] الّذي في الروضة: الناقض الثالث: لمس بشرة امرأة مشتهاه، فإن لمس
شعرا، أو سنا، أو ظفرا، أو عضوا مبانا من امرأة، أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد
الشهوة، لم ينقض وضوؤه على الأصح. (روضة الطالبين) : 1/ 185- 186.
(10/180)
واحتج الشافعيّ رحمه اللَّه بحديث لمس
عائشة أخمص قدميه صلى اللَّه عليه وسلّم على أن طهر الملوس لا ينقض، وهذا
منه يؤذن بانتفاء الخصوصية، وإلا لما حسن الاحتجاج به.
الخامسة عشرة: كان يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم أن يدخل المسجد جنبا
قال أبو العباس بن العاص: لم يكن يحرم عليه صلى اللَّه عليه وسلّم المكث في
المسجد وهو جنب، واحتجوا له بما
رواه الترمذي من حديث سالم بن أبى حفصة، عن عطية، عن أبى سعيد، قال: قال
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لعلى: يا على، لا يحل لأحد يجنب في هذا
المسجد غيري وغيرك.
قال على بن المنذر: قلت لضرار بن صرد: ما معنى هذا الحديث؟ قال: لا يحل
لأحد يستطرقه جنبا غيري وغيرك. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه
إلا من هذا الوجه، وسمع منى محمد بن إسماعيل هذا الحديث فاستغربه [ (1) ] .
قال مؤلفه: في حسن هذا الحديث نظر، ففي إسناده سالم بن أبى حفصة أبو يونس
العجليّ الكوفي، قال النسائي: ليس بثقة، وقال الفلاس:
وكان يحى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه، ومرة قال: مفرط في التشيع ضعيف
الحديث. وقال ابن عدي: وإنما عيب عليه الغلو في التشيع، وقد وثقه ابن معين،
وفيه أيضا عطية بن سعيد، أبو الحسن العوفيّ، كوفى، يعد من
__________
[ (1) ] (سنن الترمذي) : 5/ 597- 598، كتاب المناقب، باب (21) مناقب على بن
أبى طالب رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه، حديث رقم (3727) .
قال في (جامع الأصول) : إسناده ضعيف، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، قال
النووي: إنما حسنه الترمذي بشواهده، وقال الحافظ ابن حجر في (أجوبته) وقعت
في مصابيح السنة، ووصفت بالوضع: وورد لحديث أبى سعيد شاهد نحوه من حديث سعد
بن أبى وقاص، أخرجه البزار من رواية خارجة بن سعد عن أبيه. ورواته ثقات،
واللَّه تعالى أعلم.
(جامع الأصول) 8/ 657- 658 [هامش] .
(10/181)
شيعتها، ضعفه يحى وأحمد بن حنبل، وسفيان
الثوري، وهشام. وقال البيهقي: غير محتج به.
ومع ذلك ففي الحديث إشكال، لأن الاستطراق يجوز لكل جنب، قال تعالى: وَلا
جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء: 43] اللَّهمّ إلا أن يدعى أنه لا
يجوز الاستطراق في المسجد النبوي لأحد من الناس، سواهما، ولهذا قال:
لا يحل لأحد يجنب في هذا لمسجد غيري وغيرك، فاللَّه تعالى أعلم [ (1) ] .
وقد خرج هذا الحديث البزار، من حديث سعد بن أبى وقاص، وقد خرجه الطبراني،
في أكبر معاجمه، من حديث أم سلمة، وخرجه أيضا ابن ماجة ولفظه: دخل رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: إن هذا
المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض [ (2) ] .
وأخرجه البيهقي ولفظه: [ألا] [ (3) ] إن مسجدي حرام على كل حائض من النساء
[وكل] [ (2) ] جنب من الرجال، إلا على محمد وأهل بيته: على، وفاطمة،
والحسن، والحسين. رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهم [ (4) ] .
قال البخاري: محدوج [ (5) ] عن جسرة [ (6) ] ، فيه نظر.
__________
[ (1) ] ذكر الزركشي في (إعلام المساجد) : ثم قال: وقد حسنه الترمذي
واستغفر به، ونقل عن ضرار بن صرد أن معناه: لا يحل لأحد يستطرقه جنبا غيري
وغيرك، ثم نقل النووي كلام الإمام وقال: فهذا كلام من لم يقف على الحديث..
إلى أن قال: والحديث ينفى دعوى الخصوصية بمشاركة غير النبي صلى اللَّه عليه
وسلّم في ذلك. (إعلام المساجد بأحكام المساجد) : 322.
[ (2) ] (سنن ابن ماجة) : 1/ 212، كتاب الطهارة وسننها، باب (126) ما جاء
في اجتناب الحائط المسجد، حديث رقم (645) . قال في (الزوائد) : إسناده ضعيف
محدوج لن يوثق، وأبو الخطاب مجهول.
[ (3) ] زيادة يقتضيها السياق من (السنن الكبرى للبيهقي) .
[ (4) ] (السنن الكبرى للبيهقي) : 7/ 65، كتاب النكاح، باب دخول المسجد
جنبا.
[ (5) ] ذكره أبو نعيم في (معرفة الصحابة) وقال: إنه مختلف في صحبته،
(تهذيب التهذيب) : 10/ 50، ترجمة محدوج الذهلي رقم (88) .
(10/182)
قال مؤلفه: مدار هذا الحديث على محدوج
الذهلي عن جسرة بنت دجاجة، عن أم سلمة.
ثم رواه البيهقي من وجه آخر، عن إسماعيل بن أمية، عن جسرة، عن أم سلمة
مرفوعا، ولفظه: ألا لا يحل هذا المسجد لجنب، ولا لحائض إلا لرسول اللَّه
صلى اللَّه عليه وسلّم، وعلى، وفاطمة، والحسن، والحسين، ألا قد بينت لكم
الأسماء أن تضلوا [ (1) ] .
ولا يصح شيء من ذلك، ولهذا قال القفال من أصحابنا، إن ذلك لم يكن خصائصه
صلى اللَّه عليه وسلّم، وغلط إمام الحرمين أبو العباس بن القاصّ في ذلك،
وقال هذا الّذي قاله صاحب (التلخيص) هوس، ولا يدرى من اين قاله؟ وإلى أي
أصل أسنده؟ فالوجه: القطع بتخطئته.
وقد قوى النووي مقالة ابن القاصّ، وعد القضاعي [ (2) ] هذه الخصوصية مما خص
به النبي صلى اللَّه عليه وسلّم من بين سائر الأنبياء، ومن عبر باللبث دون
الدخول قال: أبيح له اللبث في المسجد في حال جنابته صلى اللَّه عليه وسلّم.
__________
[ () ] (6) هي جسرة بنت دجاجة العامرية الكوفية، روت عن أبى ذر، وعائشة،
وأم سلمة، وعنها محدوج الذهلي وعمر بن عمير بن محدوج، قال العجليّ: ثقة،
تابعية ذكرها ابن حبان في (الثقات) .
قال الحافظ: وذكرها أبو نعيم في (الصحابة) . وقال البخاري: عند جسرة عجائب،
قال أبو الحسن بن القطان: هذا القول لا يكفى لمن يسقط ما روت، كأنه يعرض
بابن حزم، لأنه زعم أن حديثها باطل. (تهذيب التهذيب) : 12/ 435، ترجمة رقم
(2749) .
[ (1) ] (السنن الكبرى للبيهقي) : 7/ 65، كتاب النكاح، باب دخول المسجد
جنبا.
[ (2) ] هو الفقيه العلامة، القاضي أبو عبد اللَّه محمد بن سلامة بن جعفر
بن على القضاعي، المصري، الشافعيّ، قاضى مصر، ومؤلف كتاب (الشهاب) مجردا
ومسندا.
سمع أبا مسلم محمد بن أحمد الكاتب، وعدة، حدث عنه أبو نصر بن ماكولا واخرون
من المغاربة والرحالة. قال ابن ماكولا: كان متفننا في عدة علوم، لم أر بمصر
من يجرى مجراه.
(10/183)
السادسة عشرة: أنه يجوز له صلى اللَّه عليه
وسلّم أن يلعن شيئا غير سبب يقتضيه لأن لعنته رحمه، واستبعد ذلك من عداه.
ذكر ابن القاصّ أنه يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم أن يلعن شيئا من غير سبب
يقتضيه، لأن لعنته رحمة، واستبعد ذلك من عداه، والتحقيق أن من خصائصه صلى
اللَّه عليه وسلّم أنه إذا سب رجلا ليس بذلك حقيقا أن يجعل اللَّه سب رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم له كفارة.
ودليله: ما
في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه
فإنما أنا بشر، فأى المؤمنين آذيته، أو شتمته، أو لعنته، فاجعلها له صلاة،
وزكاة، وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة [ (1) ] .
__________
[ () ] كان ينوب في القضاء بمصر وله تصانيف. وقال السلفي: كان من الثقات
الأثبات، شافعيّ المذهب والاعتقاد، مرضى الجمة، مات بمصر سنة أربع وخمسين
واربع مائة.
(تهذيب سير أعلام النبلاء) : 2/ 357- 358، (سير أعلام النبلاء) : 18/ 92-
93، (الأنساب) :
10/ 181- 182، (اللباب) : 3/ 43، (وفيات الأعيان) : 4/ 212- 213، (مرآة
الجنان) : 3/ 75، (الوافي بالوفيات) : 3/ 116- 117، (كشف الظنون) : 1/ 165،
(شذرات الذهب) : 3/ 293، (هداية العارفين) : 2/ 71، (الرسالة المستطرفة) :
76.
[ (1) ]
رواه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى اللَّه عليه وسلّم: من
آذنيه فاجعله زكاة ورحمة، ومسلم في البر والصلة، باب من لعنه النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم أو سب ودعا عليه، حديث رقم (2601) ، (2602) .
قال الإمام النووي: وفي رواية: أو جلدته فاجعلها له زكاة ورحمة، وفي رواية:
فأى المؤمنين شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة، وزكاة، وقربة، تقربه
بها إليك يوم القيامة.
وفي رواية: إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدا لن
تخلفنيه.... وفي رواية: إني اشترطت على ربى فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما
يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس
لها بأهل أن تجعلها له طهورا، وزكاة وقربة.
(10/184)
ولهذا لما ذكر مسلم رحمه اللَّه في صحيحه
فضل معاوية بن أبى سفيان، أورد أولا هذا الحديث ثم أتبعه بحديث:
لا أشبع اللَّه بطنه.
فتحصل منهما مزية لمعاوية رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه [ (1) ] . وهذا من
جملة أمانة مسلم رحمه اللَّه، وقد أوردت كلا الحديثين بطرقهما في موضعهما
من هذا الكتاب [ (2) ] .
__________
[ () ] هذه الأحاديث مبينة ما كان عليه صلى اللَّه عليه وسلّم من الشفقة
على أمته، والاعتناء بمصالحهم، والاحتياط لهم، والرغبة في كل ما ينفعهم.
وإنما كان يقع هذا منه صلى اللَّه عليه وسلّم النادر والشاذ من الأزمان،
ولم يكن صلى اللَّه عليه وسلّم فاحشا، ولا متفحشا، ولا لعانا، ولا منتقما
لنفسه، وقد سبق
أنهم قالوا: ادع على دوس، فقال صلى اللَّه عليه وسلّم: اللَّهمّ أهدد دوسا،
وقال: اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.
واللَّه تعالى أعلم. (شرح النووي) .
[ (1) ] (مسلم بشرح النووي) : 16/ 392- 393، كتاب البر والصلة والآداب، باب
(25) من لعنه النبي صلى اللَّه عليه وسلّم أو سبه، أو دعا عليه، وليس هو
أهلا لذلك، كان له زكاة وأجرا ورحمة،
حديث رقم (2604) ولفظه: عن ابن عباس قال: كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة،
وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب
فادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، فقال: لا أشبع اللَّه بطنه.
قال ابن المثنى: قلت لأمية: ما حطأني؟ قال: قفدنى قفدة.
الحطء: بفتح الحاء، وإسكان الطاء بعدها همزة، هو الضرب باليد مبسوطة بين
الكتفين.
وإنما فعل هذا بابن عباس ملاطفة وتأنيسا، وأما دعاؤه على معاوية أن لا يشبع
حين تأخر، ففيه الجوابان السابقان: أحدهما: أنه على اللسان بلا قصد،
والثاني: أنه عقوبة له لتأخره.
وقد فهم مسلم رحمه اللَّه من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقا للدعاء
عليه فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية، لأنه في
الحقيقة يصير دعاء له.
وفي هذا الحديث جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام، وفيه جواز إرسال
صبي غيره ممن يدل عليه في مثل هذا، ولا يقال: هذا تصرف في منفعة الصبى، لأن
هذا قدر يسير، ورد الشرع بالمسامحة به للحاجة، واطرد به العرف، وعمل
المسلمين. واللَّه تعالى أعلم.
[ (2) ] (إمتاع الأسماع) : بتحقيقنا: 2/ 250.
(10/185)
وقال الرافعي في قوله صلى اللَّه عليه
وسلّم اللَّهمّ إني اتخذت عندك عهدا.... الحديث، وهذا قريب من جعل الحدود
كفارات لأهلها. قال العلماء: وذلك في حق المسلمين، كما نطق به الخبر، فإنه
دعا على الكفار والمنافقين ولم يكن لهم رحمة.
فإن قيل: إن كان المدعو عليه يستحق الدعاء فكيف يجعله رحمة له؟
وإن كان لا يستحقه فكيف يدعو على من لا يستحق الدعاء؟.
أجيب بأنه يجوز أن يكون مستحقا للدعاء عليه شرعا غير أن رأفته صلى اللَّه
عليه وسلّم وشفاعته تقتضي أن يدعو له لارتكابه ما نهى عنه، والعاصي أولى
وأحق أن يدعو له. وقد يكون الدعاء عليه سببا لزيادة عصيانه، ويجوز أن لا
يكون مستحقا للدعاء في الباطن، وهو يستحقه ظاهرا، والرسول صلى اللَّه عليه
وسلّم إنما يحكم بالظاهر.
ويجوز أن يكون المراد به ما صدر منه على صيغة الدعاء، واللعن، والسب، وليس
المراد حقيقة ذلك، كما جرت به عادة العرب في كلامها، كقوله: تربت يمينك،
وعقرا وحلقا. فخشي صلى اللَّه عليه وسلّم أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل
اللَّه أن يجعل ذلك رحمة وكفارة.
فإن قيل: قد قال في الحديث: إنما أنا بشر، أغضب كما يغضب البشر، وذلك يقتضي
أن سبه ولعنه للغضب.
أجيب بأن الماوردي قال: يحتمل أنه صلى اللَّه عليه وسلّم أراد أن دعاءه
وسبه وجلده، كان مما خير فيه بين أمرين: أحدهما: هذا، والثاني: زجره بأمر
آخر، فحمله الغضب للَّه على أحد الأمرين المخير فيهما، وهو السب، واللعن،
والجلد، فليس ذلك خارجا عن حكم الشرع، وعدّ القضاعي هذه مما خص به النبي
صلى اللَّه عليه وسلّم دون الأنبياء قبله.
***
(10/186)
السابعة عشرة: [هل يجوز له صلى اللَّه عليه
وسلّم القتل بعد الأمان؟]
قال ابن القاضي: يجوز له صلى اللَّه عليه وسلّم القتل بعد الأمان، قال
الرافعي:
وخطئوه فيه، وقالوا: من يحرم عليه خائنة الأعين كيف يجوز له من أمنه؟
وقصة ابن خطل لا حجة فيها، لقول ابن القاضي: فإنه صلى اللَّه عليه وسلّم
استثنى ممن أمنهم، فإنه لم يكن ممن شمله الأمان، فاعلمه. ولم يذر النووي في
الروضة هذه الخصوصيات لعدم الدليل عليها.
الثامنة عشرة: كان صلى اللَّه عليه وسلّم يقبل وهو صائم
قيل: كان ذلك خاصا به، وهل يكره لغيره؟ أو يحرم؟ أو يباح؟
أو يبطل صوم من فعله؟ كما قاله ابن قتيبة، أو نسخت له، أو يفرق بين الشيخ
والشاب، على أقوال للعلماء [ (1) ] ، وقد بسطت القول عليه في موضعه.
__________
[ (1) ] خرج البخاري في كتاب الصوم: باب (24) القبلة للصائم، حديث رقم
(1928) ، عن عائشة رضى اللَّه تبارك وتعالى عنها، قالت: «إن كان رسول
اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ليقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت» .
فقد أخرجه النسائي من طريق يحيى القطان بلفظ «كان يقبل بعض أزواجه وهو
صائم» وزاد الإسماعيلي من طريق عمرو بن على بن يحيى قال هشام: «وقال إني لم
أر القبلة تدعو إلى خير» ، ورواه سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحمن عن
هشام بلفظ «كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت» ، فقال عروة لم أر
القبلة تدعو إلى خير، وكذا ذكره مالك في (الموطأ) عن هشام عقب الحديث، لكن
لم يقل فيه ثم ضحكت.
وقوله: ثم ضحكت يحتمل ضحكها للتعجب ممن خالف في هذا، وقيل تعجيب من نفسها
إذ تحدث بمثل هذا مما يستحى من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها
الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون الضحك خجلا لإخبارها عن
نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بها، أو
سرورا بمكانها من النبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبمنزلتها منه ومحبته لها.
(10/187)
__________
[ () ] وقد روى ابن أبى شيبة عن شريك عن هشام في هذا الحديث «فضحكت، فظننا
أنها هي
وروى النسائي من طريق طلحة بن عبد اللَّه التيمي عن عائشة قالت: «أهوى إلى
النبي صلى اللَّه عليه وسلّم ليقبلنى فقلت إلى صائمة، فقال: وأنا صائم،
فقبلني» .
وهذا يؤيد ما قدمناه أن النظر في ذلك لمن لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل، ولا
للتفرقة بين الشاب والشيخ، لأن عائشة كانت شابة، نعم لما كان الشاب مظنة
لهيجان الشهوة فوق من فوق.
وقال المازري: ينبغي أن يعتبر حال المقبل فإن أثارت منه القبلة الإنزال
حرمت عليه لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدى إليه، وإن كان عنها
المذي فمن رأى القضاء منه قال يحرم في حقه، ومن رأى أن لا قضاء قال بكرة،
وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة.
قال: ومن بديع ما روى في ذلك
قوله صلى اللَّه عليه وسلّم للسائل عنها: «أرأيت لو تمضمضت»
فأشار إلى فقه بديع، وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه،
كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم كما يفسد
الجماع، وكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل الجماع.
والحديث الّذي أشار إليه أخرجه أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر، قال
النسائي منكر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقد سبق الكلام على حديث
أم سلمة في كتاب الحيض، والغرض منه هنا قولها «وكان يقبلها وهو صائم» وقد
ذكرنا شاهده من رواية عمر بن أبى سلمة في الباب الّذي قبله. وقال النووي:
القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته لكن الأولى له تركها،
وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح وقيل: مكروهة، وروى ابن وهب
عن مالك إباحتها في النفل دون الفرض، قال النووي: ولا خلاف أنها لا تبطل
الصوم إلا أن انزل بها.
وقد روى أبو داود وحده من طريق مصدق بن يحيى عن عائشة أن النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم كان يقبلها ويمص لسانها وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على من
لم يبتلع ريقه الّذي خالط ريقها واللَّه أعلم.
(10/188)
التاسعة عشرة:
الصلاة على الغائب
قال ابن عبد البر: وأكثر أهل العلم يقولون: إن هذا خصوص النبي صلى اللَّه
عليه وسلّم وقد أجاز بعضهم الصلاة على الغائب إذا بلغه الخبر بقرب موته [
(1) ] ، ودلائل الخصوص في هذه المسألة واضحة، لا يجوز أن يشرك النبي صلى
اللَّه عليه وسلّم فيها غيره، لأنه- واللَّه تعالى أعلم- أحضر روح النجاشي
بين [يديه] حيث شاهدها، وصلى عليها أو رفعت له جنازته، كما كشف له عن بيت
المقدس، حين سألته قريش عن صفته.
وقد روى أن جبريل عليه السلام: أتاه بروح جعفر أو جنازته، وقال:
قم فصل عليه، ومثل هذا كله يدل على أنه مخصوص به، ولا يشاركه فيه غيره.
__________
[ (1) ]
(فتح الباري) : 3/ 263- 264، كتاب الجنائز، باب (66) الصلاة على القبر بعد
ما يدفن، حديث رقم (1336) ، (1337) : وفيهما: «فأتى قبره فصلى عليه» وزاد
ابن حبان في رواية حماد بن سلمة، عن ثابت: «ثم قال: إن هذه القبور مملوءة
ظلمة على أهلها، وإن اللَّه ينورها عليهم بصلاتي» ،
وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه. ثم
ساق من طريق خارجة بن زيد بن ثابت نحو هذه القصة وفيها «ثم أتى فصففنا خلفه
وكبر عليه أربعا» قال ابن حبان: في ترك إنكاره صلى اللَّه عليه وسلّم على
من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، أنه ليس من خصائصه.
وتعقب بأن الّذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للاصالة، واستدل بخبر الباب
على رد التفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه بأن القصة وردت فيمن صلى
عليه.
وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك، واختلف من قال بشرع الصلاة لمن لم يصل
فقيل: يؤخر دفنه ليصلي عليها من كان لم يصل، وقيل: يبادر بدفنها ويصلى
الّذي فاتته على القبر، وكذا اختلف في أمد ذلك: فعند بعضهم إلى شهر، وقيل:
ما لم يبل الجسد، وقيل:
يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه حين موته وهو الراجح عند الشافعية، وقيل:
يجوز أبدا.
(10/189)
وعلى هذا أكثر العلماء في الصلاة على
الغائب، وأبو عمر بن عبد البر منازع في ادعائه الخصوصية في هذه المسألة،
كما [بينت] صحته في موضعه.
العشرون: اختصاصه صلى اللَّه عليه وسلّم بالتأمين
خرج ابن خزيمة في صحيحه، من حديث محمد بن معمر القيس، قال:
حدثنا محمد بن معمر، حدثنا حرمي ابن عمارة عن مولى لآل المهلب، سمعت أنسا
رضى اللَّه تبارك وتعالى عنه يقول: كنا عند النبي صلى اللَّه عليه وسلّم
جلوسا، فقال: إن اللَّه أعطانى خصالا ثلاثة، فقال رجل من جلسائه: ومن هذه
الخصال يا رسول اللَّه؟ قال: أعطانى الصلاة في الصلاة في الصفوف، وأعطانى
التحية، وإنها لتحية أهل الجنة، وأعطانى التأمين، ولم يعطه أحدا من النبيين
إلا أن يكون اللَّه تعالى أعطى هارون موسى بدعوة هارون [ (1) ] .
قال المؤلف- رحمه اللَّه-: زربى بن عبد اللَّه الأزدي مولاهم، أبو يحى مولى
آل المهلب، ويقال: مولى هشام بن حسان [وهو إمام مسجده] ، روى عن أنس، ومحمد
بن سيرين، وعنه عبيد بن واقد، وحرمي بن عمارة، [وعبد الصمد بن عبد الوارث،
وأبو عبد الوارث، وموسى بن إسماعيل، ومسلم بن إبراهيم وغيرهم] .
قال البخاري: فيه نظر، وقال الترمذي: له أحاديث مناكير عن أنس وغيره، وقال
ابن عدي: أحاديثه وبعض متونها منكرة، وقال ابن حبان:
منكر الحديث على قلته، ويروى عن أنس ما لا أصل له، فلا يحتج به، وذكره
__________
[ (1) ] (كنز العمال) : 11/ 414، حديث رقم (31944) ، (31945) ، وفيه: «إلا
أنه أعطى موسى أن يدعو ويؤمن هارون» وعزاه الحديث الأول إلى ابن خريمة عن
أنس، والثاني إلى ابن عدي والبيهقي في (شعب الإيمان) عن أنس.
(10/190)
العقيلي في (الضعفاء) وأورد له هذا الحديث،
[وأخرج له ابن خريمة في صحيحه حديثا، لكن قال: إن ثبت الخبر] [ (1) ] .
***
__________
[ (1) ] (تهذيب التهذيب) : 3/ 380، ترجمة رقم (604) ، وما بين الحاصرتين
زيادة للسياق منه.
في (الكامل) : 3/ 239- 240- في ترجمة زربى بن عبد اللَّه رقم (45/ 730) .
(10/191)
|