أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب

أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب          
تأليف
الإمام العلامة جلال الدين السيوطي
المتوفي سنة911 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبالله العظيم نستعين

(/)


الحمدُ لله الذي أتقن بحكمته كل شيء فاحتبك، وبعث حبيبه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأنار به كل حلك، وآتاه من المعجزات والخصائص ما لم يُؤتَه نبي ولا مَلَك،

(1/15)


وجعل جنده الملائكة تسير معه حيث سَلَك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما سار فُلك ودار فَلك.
هذا أنموذج لطيف، وعنوان شريف، لخصته من كتابي الكبير الذي جمعت فيه المعجزات والخصائص النبوية بدلائلها،

(1/16)


وتتبعت فيه الأحاديث الواردة في منصب النبوة وعظيم فضائلها،

(1/17)


قصرته على إيراد الخصائص سرداً وجيزاً، وميزت فيه كل نوع من أنواعها تمييزاً، وسميته:
أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وينحصر في بابين:

الباب الأول
في الخصائص التي اختص بها عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله
وفيه أربعة فصول

(1/18)


الفصل الأول
فيما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم في ذاته من الدنيا

... اُختص صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أول النبيين خلقاً، وبتقدم نبوته، فكان نبياً وآدم

(1/19)


بين الماء والطين، وبتقدم أخذ الميثاق عليه، وأنه أول من قال: بلى يوم ((ألست بربكم)) ،

(1/20)


وخلق آدم وجميع المخلوقات لأجله، وكتابة اسمه الشريف على العرش، وكل سماء وما فيها والجنان وسائر الملكوت، وذكر الملائكة له في كل ساعة،

(1/21)


وذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى،

(1/22)


وأخذ الميثاق على النبيين آدم فمن بعده أن يؤمنوا به وينصروه،

(1/23)


والتبشير به في الكتب السابقة، ونعته فيها ونعت أصحابه

(1/24)


وخلفائه وأمته،

(1/25)


وحجب إبليس من السموات لمولده وشق صدره في أحد القولين، وهو الأصح،

(1/26)


وجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان، وسائر الأنبياء كان الخاتم في يمينهم، وبأن له ألف إسم،

(1/27)


وباشتقاق اسمه من اسم الله، وبأنه سمي من أسماء الله بنحو سبعين اسماً، وبأنه سُمي أحمد ولم يُسم به أحد قبله،

(1/28)


وقد عُدَّت هذه الخصائص في حديث "مسلم".
وبإظلال الملائكة له في سفره، وبأنه أرجح الناس عقلاً، وبأنه أوتي كل الحسن

(1/29)


ولم يؤت يوسف إلا شطره، وبغطه ثلاثاً عند ابتداء الوحي، وبرؤيته جبريل في صورته التي خلق عليها، عد هذه "البيهقي".
وبانقطاع الكهانة لمبعثه،

(1/30)


وحراسة السماء من استراق السمع، والرمي بالشهب، عدّ هذه "ابن سبع".

(1/31)


وبإحياء أبويه له حتى آمنا به،

(1/32)


وبوعده بالعصمة من الناس، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين،

(1/33)


ووطئه مكاناً ما وطئه نبي مرسل، ولا مَلَكٌ مُقرب، وإحياء الأنبياء له

(1/34)


وصلاته إماماً بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار، عدَّ هذه "البيهقي".
ورؤيته من آيات ربه الكبرى،

(1/35)


وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبرؤيته للباري تعالى مرتين، وبركوب البراق

(1/36)


في أحد القولين، وقتال الملائكة معه، وسيرهم معه حيث سار يمشون خلف ظهره، وبإيتائه الكتاب وهو أمي

(1/37)


لا يقرأ ولا يكتب، وبأن كتابه مُعجِزٌ ومحفوظ من التبديل والتحريف على ممر الدهور، ومشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب وزيادة، وجامع لكل شيء،

(1/38)


ومستغن عن غيره، ومُيسر للحفظ، ونزل منجماً، وعلى سبعة أحرف، ومن سبعة أبواب،

(1/39)


وبكل لغة، عدَّ هذه "ابن نقيب".
وقراءته بكل حرف عشر حسنات، عدَّ هذه "الزركشي".
وقال صاحب التحرير: فُضِّل القرآن على سائر الكتب المنزلة بثلاثين خصلة لم تكن في غيره.

(1/40)


وقال الحليمي في "المنهاج": ومن عظيم قدر القرآن أن الله خصه بأنه دعوةٌ وحُجةٌ ولم يكن هذا لنبي قط، إنما كان يكون لكل منهم دعوة ثم تكون له حُجةٌ غيرها، وقد جمعهما الله لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن، فهو دعوة بمعانيه، حُجةٌ بألفاظه،

(1/41)


وكفى الدعوة شرفاً أن تكون حُجتها معها، وكفى الحُجة شرفاً أن لا تنفصل الدعوة عنها، وأعطي من كنز العرش ولم يُعط منه أحدٌ، وخُصَّ بالبسملة والفاتحة وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة

(1/42)


والسبع الطوال والمفصل،

(1/43)


وبأن معجزته مستمرةإلى يوم القيامة وهي القرآن، ومعجزات سائر الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام انقرضت لوقتها، وبأنه أكثر الأنبياء معجزات، فقد قيل أنها تبلغ ألفاً، وقيل: ثلاثة آلاف سوى القرآن فإن فيه ستين ألف معجزة تقريباً.

(1/44)


قال الحليمي: وفيها مع كثرتها معنى آخر، وهو أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع الأجسام، وإنما ذلك في معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، وبأنه جمع له كل ما أوتيه الأنبياء من معجزات وفضائل ولم يجمع ذلك لغيره، بل اختص كُلٍ بنوع.

(1/45)


وأوتي انشقاق القمر، وتسليم الحجر،

(1/46)


وحنين الجذع، ونبع الماء من بين الأصابع، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك. ذكر هذه "ابن عبد السلام".
وقال بعضهم: خص الله تعالى بعضاً بالمعجزات في الأفعال كموسى، وبعضاً بالصفات كعيسى، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالمجموع ليميزه،

(1/47)


وبكلام الشجر وشهادتها له بالنبوة وإجابتها دعوته، وإحياء الموتى وكلامهم، وكلام الصبيان في

(1/48)


المراضع، وشهادتهم له بالنبوة. ذكر ذلك "البدر الدماميني".
وبأنه خاتم النبيين وآخرهم بعثاً فلا نبي بعده، وشرعه مؤبد إلى يوم القيامة لا يُنسخ، وناسِخٌ لجميع الشرائع قبله،

(1/49)


ولو أدركه الأنبياء لوجب عليهم الاتباع، وفي كتابه وشرعه الناسِخ والمنسوخ، وبعموم الدعوة للناس كافة، وأنه أكثر الأنبياء تابعاً.

(1/50)


وقال السبكي: أُرسل للخلق كافة من لدن آدم، والأنبياء نواب له بعثوا بشرائع له مُعْنِيَّات، فهو نبي الأنبياء، وأرسل إلى الجن بالإجماع، وإلى الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي.

(1/51)


قال البارزي: وإلى الحيوانات والجمادات والحجر والشجر، وبعثه رحمة للعالمين حتى الكفار بتأخير العذاب، ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة،

(1/52)


وبأن الله أقسم بحياته، وأقسم على رسالته، وتولى الرد على أعدائه عنه،

(1/53)


وخاطبه بألطف ما خاطب به الأنبياء، وقرن اسمه باسمه في كتابه،

(1/54)


وفرض على العالم طاعته، والتأسي به، فرضاً مطلقاً لا شرط فيه ولا استثناء، ووصفه في كتابه عضواً عضواً،

(1/55)


ولم يخاطبه في القرآن باسمه،

(1/56)


بل ((يا أيها النبي)) ((يا أيها الرسول)) وحرم على الأمة نداءه باسمه.
وكره الشافعي أن نقول في حقه: الرسول، بل: رسول الله، لأنه ليس فيه من التعظيم ما في الإضافة.
وفَرَض على من ناجاه أن يقدم بين يدي نجواه صدقة ثم نسخ بعد ذلك،

(1/57)


ولم يُرِه في أمته شيئاً يسوؤه حتى قبضه الله تعالى، بخلاف سائر الأنبياء، وبأنه حبيب الرحمن، وجمع له بين المحبة والخِلَّة، وبين الكلام والرؤية، وكلَّمه عند سدرة المنتهى وكلم موسى بالجبل، عدَّ هذه "ابن عبد السلام".
وجمع له بين القبلتين:

(1/58)


مكة وبيت المقدس، والهجرتين: بيت المقدس والمدينة، وجمع له بين الحكم بالظاهر والباطن، وجمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر

(1/59)


وقوله: "إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه، وأنت على علم لا ينبغي لي أن أعلمه".

(1/60)


ونصر بالرعب من مسيرة شهرٍ أمامه وشهر خلفه، وأوتي جوامع الكلم، وأوتي مفاتيح خزائن الأرض على فرس أبلق، عليه قطيفة من سندس،

(1/61)


وكلمه بجميع أصناف الوحي. عدَّ هذه "ابن عبد السلام".
وهبط إسرافيل عليه ولم يهبط على نبي قبله. عدَّ هذه "ابن سبع".
وجمع له بين النبوة والسلطان، عدَّ هذه الغزالي في "الإحياء".
وأوتي علم كل شيء إلا الخمس التي في سورة لقمان، وهي قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة

(1/62)


وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) .
وقيل: إنه أوتيها أيضاً وأمر بكتمها، والخلاف جار في الروح أيضاً، وبُيّن له من أمر الدجال ما لم يُبيَّن لأحد.
وَوُعِد بالمغفرة وهو يمشي حياً صحيحاً،

(1/63)


ورُفِع ذِكره، فلا يذكر الله جل جلاله في أذان ولا خطبة ولا تشهد إلا ذُكِر معه.
قال ابن عباس: ما أمَّن الله أحداً من خلقه إلا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) .
وقال للملائكة: (ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم) .
وقال عمر بن الخطاب: ما تدري نفس ماذا مفعول بها ليس هذا الرجل الذي قد بُين لنا أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه "الحاكم".
وعرض عليه أمته بأسرهم حتى رآهم،

(1/64)


وعرض عليه ما هو كائن في أمته حتى تقوم الساعة.
قال الإسفرائيني: وعرض عليه الخلق كلهم من آدم فمن بعده، كما علم آدم أسماء كل شيء.
وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على الله،

(1/65)


وأفضل من سائر المرسلين وجميع الملائكة المقربين، وكان أفرسَ العالمين، عدَّ هذه "ابن سراقة".
وأُيِّدَ بأربع وزراء: جبريل، وميكائيل، وأبي بكر، وعمر.
وأُعطي من أصحابه أربعة عشر نجيباً، وكل نبي أعطي سبعة، وأسلم قرينه.

(1/66)


وكان أزواجه عوناً له، وبناته وزوجاته أفضل نساء العالمين،

(1/67)


وثواب أزواجه وعقابهن مُضاعف.
وأصحابه أفضل العالمين إلا النبيين، ويقاربون عدد الأنبياء، وكلهم مجتهدون، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".

(1/68)


ومسجده أفضل المساجد، وبلده أفضل البلاد بالإجماع فيما عدا مكة، وعلى أحد القولين فيها وهو المختار.

(1/69)


وتربتها مؤمنة، وغبارها يطفئ الجذام، ونصف أكراش الغنم فيها مثل مثليها في غيرها من البلاد.
ولا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وصرف الحُمَّى عنها أول ما قدمها ونقلها إلى الجُحفة، ثم لما أتاه جبريل بالحمى والطاعون أمسك الحمى بالمدينة

(1/70)


وأرسل الطاعون إلى الشام، ولما عادت الحمى إلى المدينة باختياره إياها لم تستطع أن تأتي أحداً من أهلها حتى جاءت ووقفت ببابه واستأذنته فيمن يبعثها إليه، فأرسلها إلى الأنصار.
واُحِلت له مكة ساعة من نهار، وحُرِّم ما بين لابتي المدينة،

(1/71)


وقال الماوردي والقاضي عياض: لا تقتل حيّات مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالإنذار، والحديث الوارد في إنذار الحيات خاص بها.
ويسأل عنه الميت في قبره، واستأذن ملك الموت عليه ولم يستأذن على نبي قبله.
وحرم نكاح أزواجه من بعده،

(1/72)


وأَمَةٌ وَطِئَها، والبقعة التي دفن فيها أفضل من الكعبة ومن العرش.

(1/73)


ويُحرم التكني بكنيته، وقيل: التسمي باسمه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، قيل والتسمي بالقاسم، لئلا يُكنى أبوه أبا القاسم. حكاها النووي في "شرح مسلم".
ويجوز أن يقسم على الله به وليس ذلك لأحد. ذكر هذه "ابن عبد السلام".

(1/74)


ولم تُرَ عورته قط، ولو رآها أحدٌ طُمست عيناه، ولا يجوز عليه الخطأ. عدَّ هذه "ابن أبي هريرة" و "الماوردي".
قال قوم: ولا النسيان. حكاه النووي في "شرح مسلم".
وذكر البارزي في "توثيق عرى الإيمان":
من خصائصه أنه جامع لخواص الأنبياء، وأنه نبي الأنبياء، وأنه مامن نبي له خاصة نبوة في أمته، إلا وفي هذه الأمة عالم من علمائها يقوم

(1/75)


في قومه مقام ذلك النبي في أمته، ويَنحو منحاه في زمانه، ولهذا ورد: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل".
وورد أن العالم في قومه كالنبي في أمته.
قال: ومن خواصه أن سماه الله عبد الله، ولم يطلقها على أحد سواه، وإنما قال: (إنه كان عبداً شكوراً) ، (نعم العبد) .
ومن خواصه: أنه ليس في القرآن ولا غيره صلاة من الله تعالى على غيره فهي خصيصة اختصه الله بها دون سائر الأنبياء. انتهى.

(1/76)


وأسماؤه توقيفية، كأسماءالله تعالى، جزم به في "الأربعين الطائية". انتهى.

الفصل الثاني
فيما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم في شرعه في أمته في الدنيا

اختَصَّ صلى الله عليه وآله وسلم بإحلال الغنائم، وجعل الأرض كلها مسجداً، ولم تكن الأمم تصلي إلا في البيَع والكنائس، والتراب طهوراً وهو التيمم، وبالوضوء في أحد القولين

(1/77)


وهو الأصح، فلم يكن إلا للأنبياء دون أممهم.
وعبارة ابن سراقة في "الأعداد": خص بكمال الوضوء والتيمم وبمسح الخف، وجعل الماء مزيلاً للنجاسة، وأن كثير الماء لا تؤثر فيه النجاسة، والاستنجاء بالجامد. ذكر ذلك أبو سعيد النيسابوري في "شرف المصطفى" وابن سراقة في "الأعداد".
وبالجمع فيه بين الماء

(1/78)


والحجر، وبمجموع الصلوات الخمس ولم تجمع لأحد وبأنهن كفارات لما بينهن، وبالعِشاءَ ولم يصلها أحد، وبالأذان والإقامة، وافتتاح الصلاة بالتكبير، وبالتأمين

(1/79)


وبالركوع فيما ذكره جماعة من المفسرين.
وبقول: اللهم ربنا لك الحمد، وبتحريم الكلام في الصلاة، وباستقبال الكعبة،

(1/80)


وبالصَفِ في الصلاة كصفوف الملائكة، وبالجماعة في الصلاة كما يفهم من كلام ابن فرشته في "شرح المجمع".
وبتحية السلام، وهي تحية الملائكة وأهل الجنة، وبيوم الجمعة عيداً له ولأمته، وبساعة الإجابة، وبعيد الأضحى.
وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى"، وابن سراقة، أنه خص بصلاة الجمعة وصلاة الجماعة،

(1/81)


وصلاة الليل، وصلاة العيدين والكسوفين والاستستقاء والوتر. انتهى.
وبقصر الصلاة في السفر، وبالجمع بين الصلاتين في السفر والمطر وفي المرض في أحد القولين وهو المختار.
وبصلاة الخوف، فلم تشرع لأحد من الأمم قبلنا، وبصلاة شدة الخوف عند شدة القتال، أينما وحيثما توجه، وبشهر رمضان، عدَّ هذه القونوي في "شرح التعرف".

(1/82)


وأن الشياطين تصفد فيه، وأن الجنة تزين فيه، وأن خَلُوفَ فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويغفر لهم في آخر ليلة منه، وبالسحور وتعجيل الفطر

(1/83)


وإباحة الأكل والشرب والجماع ليلاً إلى الفجر، وكان محرماً على من قبلنا بعد النوم، وكذا كان في صدر الإسلام ثم نُسِخ، وبتحريم الوصال في الصوم، وكان مباحاً لمن قبلنا، وبإباحة الكلام في الصوم، وكان محرماً على من قبلنا، عكس الصلاة. عدَّ هذه ابن العربي في "الأحوذي".
وبليلة القدر،

(1/84)


كما قاله النووي في "شرح المهذب". وبجعل صوم يوم عرفة بكفارة سنتين لأنه سُنَّته، وصوم عاشوراء كفارة سنة، لأنة سُنَّة موسى عليه السلام. ويوم عرفة ذكرها القونوي في "شرح التعرف".
وغسل اليدين بعد الطعام بحسنتين، لأنه شرعُه. وقبله بحسنة لأنه شرع في التوراة.

(1/85)


وبالاستغسال من العين وأنه يدفع ضررها. وبالاسترجاع عند المصيبة، وبالحوقلة، وباللحد (في القبر) ، ولأهل الكتاب الشق، وبالنحر، ولهم الذبح فيما قاله مجاهد وعكرمة.
وبفرق الشعر، ولهم

(1/86)


السدل، وبصبغ الشعر، وكانوا لا يغيرون الشيب، وبتوفير العثانين (اللحية) وتقصير السبال (طرف الشارب) ، وكانوا يقصرون عثانينهم، ويوفّرون سبالهم، وكانوا يعقون عن الذكر دون الأنثى، وشُرِعت لنا عنهما معا.
وبترك القيام للجنازة،

(1/87)


وبتعجيل المغرب والفجر، وبكراهة اشتمال الصماء، وبكراهة صوم يوم الجمعة منفرداً، وكان اليهود يصومون يوم عيدهم منفرداً، وبضم تاسوعاء إلى عاشوراء في الصوم،

(1/88)


وبالسجود على الجبهة وكانوا يسجدون على حرف، وكراهة التميل في الصلاة وكانوا يتميلون،

(1/89)


وبكراهة تغميض البصر فيها، والاختصار، والقيام بعدها للدعاء، وقراءة الإمام فيها في المصحف، والتعلق فيها بالحبال، وبالأكل يوم العيد قبل الصلاة، وكان أهل الكتاب لا يأكلون يوم عيدهم حتى يصلوا، وبالصلاة في النعال والخِفاف.

(1/90)


عن ابن عمر كانت بنو إسرائيل إذا قرأت أئمتهم جاوبوهم، فكره الله ذلك لهذه الأمة، فقال: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) .
وفي "المستدرك": أنه صلى الله عليه وآله وسلم نهى رجلاً وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة، وقال: "إنها صلاة اليهود".

(1/91)


وأذن لنسائنا في المساجد، ومنعت نساء بني إسرائيل، وكان في شرعهم نَسخُ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه.
وبالعذبة في العمامة وهي سيما الملائكة، وبالاتزار في الأوساط،

(1/92)


وبكراهة السدل في الصلاة والطيلسان المقور، وشد الوسط على القميص، والقزع، وبالأشهر الهلالية،

(1/93)


وبالوقف، وبالوصية بالثلث عند موتهم، وبالإسراع بالجنازة.
وأن أمته خير الأمم، وآخر الأمم، ففضحت الأمم عندهم

(1/94)


ولم يفضحوا، واشتق لهم اسمان من أسماء الله: المسلمون والمؤمنون، وسمي دينهم الإسلام. ولم يوصف بهذا الوصف إلا الأنبياء دون أممهم.
وقال عبد الله بن يزيد الأنصاري: تسموا باسمكم الذي سماكم الله: بالحنيفية والإسلام والإيمان.
ورفع عنهم الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، وأبيح لهم الكنز إذا أرادوا زكاته، وأحل لهم كثير مما تشدد على من قبلهم،

(1/95)


ولم يجعل عليهم في الدين من حرج.
وأبيح لهم أكل الإبل، والنعام، وحمار الوحش، والأوز والبط، وجميع السمك، والشحوم، والدم الذي ليس بمسفوح، كالكبد والطحال

(1/96)


والعروق.
وفي الحديث: "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال".
ورفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وحديث النفس، وأنَّ من همَّ منهم بسيئة ولم يعملها لم تكتب سيئة، بل تكتب حسنة،

(1/97)


فإن عملها كتبت سيئة واحدة، ومَن همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، ووضع عنهم قتل النفس في التوبة، وفقأ العين من النظر إلى ما لا يحل، وقرض موضع النجاسة، وربع المال

(1/98)


في الزكاة.
ونسخ عنهم تحرير الأولاد، والتحصر، والرهبانية، والسياحة.
وفي الحديث: "ليس في ديني ترك النساء، ولا اللحم، ولا اتخاذ الصوامع". وكان من عمل من اليهود شُغلاً يوم السبت يُصلَب، ولم يجعل علينا يوم الجمعة مثل ذلك.

(1/99)


وكانوا لا يطعمون طعاماً حتى يتوضؤا كوضوء الصلاة، وكان من سرق استُرِقَّ عبداً، ومن قتل نفسه حرمت عليه الجنة، وكان إذا ملك الملك عليهم، اشترط عليهم أنهم رقيقه، وأن أموالهم له، ما شاء أخذ منها وما شاء ترك.

(1/100)


وشُرِع لهم نكاح أربع، والطلاق ثلاثاً، ورُخِّصَ لهم في نكاح غير ملتهم، وفي نكاح الأمة، وفي مخالطة الحائض سوى الوطء، وفي إتيان المرأة على أي هيئة شاؤوا.

(1/101)


وشُرعَ لهم التخيير بين القصاص والدية، وشُرعَ لهم دفع الصائل وكانت بنو إسرائيل كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه، قاله مجاهد وابن جريج.
وحرم عليهم كشف العورة، والنوح على الميت، والتصوير،

(1/102)


وشرب المسكر وآلات الملاهي، ونكاح الأخت [واستعمال] أواني الذهب والفضة، والحرير وحلي الذهب على رجالهم، والسجود لغير الله، وكان تحية من قبلنا، فأعطينا مكانه السلام.

(1/103)


وكرهت لهم المحاريب، وعصموا من الاجتماع على ضلالة. ومن أن يظهر أهل الباطل على أهل الحق، ومن أن يدعو عليهم نبيهم بدعوة فيهلكوا، وإجماعهم حُجَّة، وإختلافهم رَحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذاباً،

(1/104)


والطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم عذاباً، وما دعوا به استُجيب لهم.
ويؤمنون بالكتاب الأول، والكتاب الآخر، ويحجون البيت الحرام لا ينأون عنه أبداً، ويغفر لهم الذنب بالوضوء، وتبقى الصلاة لهم نافلة،

(1/105)


ويأكلون صدقاتهم في بطونهم ويثابون عليها، ويعجل لهم الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة، وتتباشر

(1/106)


الجبال والأشجار بمرهم عليها لتسبيحهم وتقديسهم، وتُفتّح أبواب السماء لأعمالهم وأرواحهم، وتتباشر بهم الملائكة، ويصلي عليهم الله وملائكته.
قال سفيان بن عيينة: أكرم الله أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصلى عليهم كما صلى على الأنبياء فقال: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) .
ويقبضون على فرشهم وهم شهداء عند الله، وتوضع المائدة بين أيديهم فمايرفعونها حتى يغفر لهم،

(1/107)


ويَلبَسُ أحدهم الثوب فما ينفضه حتى يغفر له.
وصدِّيقهم أفضل الصديقين، وهم علماء حكماء، كادوا لفقههم أن يكونوا كلهم أنبياء.
ولا يخافون في الله لومة لائم، وأذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وقرباتهم الصلاة، وفربانهم دماؤهم،

(1/108)


وسُتِرَ على من لم يُتقَبَّل عمله منهم، وكان من قبلهم يَنفضِح إذا لم تأكل النار قربانه، وتغفر لهم الذنوب بالاستغفار، والندم لهم توبة، قاله رزين.
وروي أن آدم قال: الله أعطى أمة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أربع كرامات لم يعطينيها: كانت توبتي بمكة، وأحدهم يتوب في كل مكان، وسلبت ثوبي حين عصيت، وهم لا يسلبون، وفرق بيني وبين زوجتي، وأخرجت من الجنة.
قال: وكان بنو اسرائيل

(1/109)


إذا أخطاؤا حرم عليهم طيب الطعام، وتصبح خطيئته مكتوبة على باب داره، انتهى.
ووُعِدوا أن لا يهلكوا بجوع ولا بعَدوّ من غيرهم يستأصلهم، ولا بغرق، ولا يعذبوا بعذاب عذب به من قبلهم، وإذا شهد الاثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة، وكانت الأمم السابقة إذا شهد منهم مئة.
وهم أقل الأمم عملاً، وأكثرهم أجراً، وأقصر أعماراً،

(1/110)


وكان الرجل من الأمم السابقة أعبَدَ منهم بثلاثين ضعفاً، وهم خير منه بثلاثين ووهب لهم عند المصيبة الصلاة والرحمة والهدى، وأوتوا العلم الأول والآخر، وفتح عليهم خزائن كل شيء حتى العلم، وأوتوا الإسناد

(1/111)


والأنساب والإعراب، وتصنيف الكتب، وحفظ سنة نببيهم.
قال أبو علي الجيّاني: خص الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب.
وقال ابن العربي في "شرح الترمذي": لم يكن قط في الأمم من انتهى إلى حد هذه الأمة من التصرف في التصنيف والتحقيق، ولا جاراها في مداها من التفريع والتدقيق.
وقال القرافي في "شرح المحصول": من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أن الواحد من أمته يحصل له في العمر القصير من العلوم والفهوم ما لا يحصل لأحد من الأمم السابفة في العمر الطويل.
قال: ولهذا تهيأ للمجتهدين

(1/112)


من هذه الأمة من العلوم والاستنباطات والمعارف ما تقصر عنه أعمارهم. انتهى.
وقال قتادة: أعطى الله هذه الأمة من الحفظ شيئاً لم يعطه أحداً من الأمم قبلها، خاصة خصهم بها، وكرامة أكرمهم بها، ولا تزال طائفة منهم على الحق حتى يأتي أمر الله، ولا تخلو الأرض من مجتهد فيهم قائم لله بالحجة، حتى يتداعى الزمان بتزلزل القواعد، وتأتي أشراط الساعة الكبرى.

(1/113)


ويبعث الله لهم على رأس كل مائة سنة من يجدد لهم أمر دينهم، حتى يكون في آخر مائة عيسى ابن مريم.
ومنهم أقطاب وأوتاد ونجباء وأبدال،

(1/114)


ومنهم من يصلي إماماً بعيسى ابن مريم، ومنهم من يجري مجرى الملائكة في الاستغناء عن الطعام بالتسبيح، ويقاتلون الدجال، وعلماؤهم كأنبياء بني إسرائيل،

(1/115)


وتسمع الملائكة في السماء أذانهم وتلبيتهم.
وهم الحامدون لله على كل حال، ويكبرون على كل شرف، ويسبحون عند كل هبوط، ويقولون عند إرادة الأمر: أفعله إن شاء الله، وإذا غضبوا هللوا، وإذا تنازعوا سبحوا، وإذا أرادوا استخاروا الله ثم ركبوا، وإذا ركبوا على ظهور دوابهم حمدواالله، ومصاحفهم في صدورهم،

(1/116)


وسابقهم سابق ويدخل الجنة بغير حساب، ومقتصدهم ناج يحاسب حساباً يسيراً، وظالمهم مغفور له، وليس منهم أحد إلا مرحوماً، ويلبسون ألوان ثياب أهل الجنة، ويراعون الشمس للصلاة، وهم أمة وسط، عدول بتزكية الله،

(1/117)


وتحضرهم الملائكة إذا قاتلوا، وافترض عليهم ما افترض على الأنبياء والرسل، وهو الوضوء والغسل من الجنابة، والج، والجهاد، وأعطوا من النوافل ما أعطي الأنبياء.
وقال الله في حق غيرهم: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) .
ونودوا بالقرآن بـ (يا أيها الذين آمنوا) ،

(1/118)


ونوديت الأمم في كتبها بـ (يا أيها المساكين) ، وشتان ما بين الخطابين.
وقال الدَّميري في "شرح المنهاج": قال بعض العلماء: خاطب الله هذه الأمة بقوله: (فاكروني أذكركم) ، فأمرهم أن يذكروه بغير واسطة، وخاطب بني اسرائيل بقوله: (اذكروا نعمتي) ، فإنهم لم يعرفوا الله إلا بآلائه، فأمرهم أن يقصدوا النِّعم ليصلوا بها إلى ذكر المُنعِم.
قال الزركشي في "الخادم": فما كان مجتمعاً فيه صلى الله عليه وآله وسلم من الأخلاق والمعجزات صار متفرقاً في أمته، بدليل: أنه كان معصوماً، وأمته إجماعها معصوم.

(1/119)


قال بعضهم: ولهذا لما أودع أسراره وخُيِّر بين الحياة والموت، اختار الموت. ولما لم يحصل لموسى ذلك، وجاءه ملك الموت لطمه. وهم أكثر الأمم أيامى ومملوكين، وفي "تفسير ابن أبي حاتم" عن عكرمة قال: لم تكن أمة دخل فيها من أصناف الناس غير هذه الأمة.
وفي الحديث:

(1/120)


لما أُنزِلت: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هذه لأمتي كلها وليس بعد الرضى سخط".
وقال معاوية: ما اختلفت أمة قط إلا غلب أهل باطلها أهل حقها إلا هذه الأمة.
وفي "شرح الرسالة" للجزولي: قيل: أهل القبلة اسم خصت به أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي سنن أبي داود حديث: "لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين،

(1/121)


سيفاً منها وسيفاً من عدوها".
وقال ابن مسعود: ولا يحل في هذه الأمة التجريد، ولا مدٌّ، ولا غِلٌّ، ولا صفد، يعني: لا تجرد ثيابه ولا يمد عند إقامة الحدود، بل يضرب قاعداً وعليه ثوبه.
وفي الحديث: "لا ترث مِلَّة ملة، ولا تجوز شهادة ملة على

(1/122)


ملة إلا أمة محمد، فإن شهادتهم تجوز عل من سواهم".
وقال ابن الجوزي: بَدء الشرائع كان على التخفيف، ولا يعرف في شرع نوح وصالح وابراهيم تثقيل، ثم جاء موسى بالشدائد والأثقال، وجاء عيسى بنحو ذلك. وجاءت شريعة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بنسخ تشديد أهل الكتاب ولا يطلق بتسهيل من كان قبلهم فهي غاية الاعتدال. انتهى.

الفصل الثالث
فيما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم
في ذاته في الآخرة

اختُص صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أول من تنشق عنه الأرض،

(1/123)


وأول من يَفيق من الصعقة، وبأنه يحشر في سبعين ألف ملك، ويحشر على البراق، ويُؤذن باسمه في الموقف،

(1/124)


ويُكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة، وبأنه يقوم على يمين العرش، وبالمقام المحمود، وأن بيده لواء الحمد، وآدم فمن دونه تحت لوائه، وأنه إمام النبيين يومئذ، وقائدهم وخطيبهم، وأول من يؤذن له بالسجود، وأول من يرفع رأسه، وأول من ينظر إلى الله تعالى، وأول شافِعٍ وأول مُشَفَّع، ويسأل في غيره وكل الناس يسألون في أنفسهم.

(1/125)


وبالشفاعة العظمى في فصل القضاء، وبالشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وبالشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وبالشفاعة في رفع درجات ناسٍ في الجنة.
كما جوز النووي اختصاص هذه والتي قبلها به.
ووردت الأحاديث في التي قبل، وصرح به القاضي عياض وابن دحية.
وبالشفاعة في إخراج عموم أمته من النار، حتى لا يبقى منهم أحد. ذكره السبكي.

(1/126)


وبالشفاعة لجماعة من صُلَحاء المسلمين، لُيتَجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات. ذكره القزويني في "العروةالوثقى".
وبالشفاعة في الموقف تخفيفاً عمن يحاسب، وبالشفاعة في أطفال المشركين أن لا يعذبوا، وسأل ربه أن لا يدخل النار أحداً من أهل بيته فأعطاه ذلك.
وبالشفاعة فيمن خُلِّد في النار من الكفار أن يُخفّفَ عنه العذاب، وأنه أول من يُجيزُ على الصراط، وأن له في كل شعرة من رأسه ووجهه

(1/127)


نوراً، وليس للأنبياء إلا نوران، ويُؤمَر أهل الجمع بغض أبصارهم حتى تَمُرَّ ابنته على الصراط، وأنه أول من يقرع باب الجنة، وأول من يدخلها وبعده ابنته، وبالكوثر، زاد أبو سعيد وابن سراقة، وبالحوض.
قلت: لكن ورد أن لكل نبي حوضاً.

(1/128)


وفي أثرٍ في خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم: وحوضه أعرض الحياض وأكثرها وارداً، وبالوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة.
قال عبد الجليل القصيري في "شعب الإيمان":
الوسيلة التي اختص بها هي التوسل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون في الجنة بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل، لا يصل إلى أحد شيء إلا بواسطته،

(1/129)


وقوائم منبره رواتب في الجنة، ومنبره على تُرعة من تُرَع الجنة، ومابين قبره ومنبره روضة من رياض الجنة، ولا يطلب منه شهيدٌ على التبليغ، ويطلب من سائر الأنبياء، ويشهد لجميع الأنبياء بالبلاغ، وكل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا نسبه وسببه.
فقيل: معناه أن أمته ينسبون إليه يوم القيامة، وأمم سائر الأنبياء لا ينسبون

(1/130)


إليهم.
وقيل: يُنتَفع يومئذ بالنسبة إليه، ولا يُنتَفع بسائر الأنساب، ويكنى آدم في الجنة به دون سائر ولده تكريماً له، فيقال له: أبو محمد.
ووردت أحاديث في أهل الفترة أنهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار.
قال بعضهم: والظن بآل بيته كلهم أن يطيعوا عند الامتحان، لِتَقرَّ بهم عينه.
وورد: أن درجات الجنة بعدد آي القرآن، وأنه يقال لصاحبه: اقرأ وارْقَ، فآخر منزلته عند آخر آية يقرؤها،

(1/131)


ولم يرد في آخر الكتب مثل ذلك.
ويخرج من ذلك خَصيصةٌ أخرى: وهو أنه لا يقرأ في الجنة إلا كتابه، ولا يتكلم في الجنة إلا بلسانه.
وفي "تفسير ابن أبي حاتم" عن سعيد بن أبي هلال: أنه بلغه أن المقام المحمود، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة يكون بين الجبار وبين جبريل، فيغبطه بمقامه ذلك أهل الجمع.

(1/132)


وفي الحديث: "أناأول من يقرع باب الجنة، فيقوم الخازن فيقول: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: أقوم فأفتح لك، ولم أقم لأحد قبلك ولا أقوم لأحد بعدك".

الفصل الرابع
فيما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم
في أمته في الآخرة
اختُص صلى الله عليه وآله وسلم بأن أمته أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم، ويأتون يوم القيامة غُرّاً مُحجلين من آثار الوضوء، ويكونون في الموقف على كوم عال،

(1/133)


ولهم نوران كالأنبياء، وليس لغيرهم إلا نور واحد، ولهم سيماء في وجوههم من أثر السجود، ويسعى نورهم بين أيديهم، ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويمرون على الصراط كالبرق والريح، ويَشفع مُحسنهم في مُسيئهم، وعُجِّل عذابها في الدنيا والبرزخ لتوافي القيامة ممحصة، وتدخل قبورها بذنوبها ومنها تخرج بلا ذنوب، ويمحص عنها باستغفار المؤمنين

(1/134)


لها، ولها ما سعت وما سُعي لها، وليس لمن قبلهم إلا ما سعى.
قال عكرمة: ويقضى لهم قبل الخلائق، ويغفر لهم المقحمات، وهم أثقل الناس ميزاناً، ونزلوا منزلة العدول من الحكام، فيشهدون على الناس أن رسلهم بلغتهم،

(1/135)


ويعطى كل منهم يهودياً أو نصرانياً فيقال له: يا مسلم هذا فداؤك من النار، ويدخلون الجنة قبل سائر الأمم، ويدخل منهم الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، وأطفالهم كلهم في الجنة، وليس ذلك في سائر الأمم في أحد احتمالين للسبكي

(1/136)


في "تفسيره"، وذكر الإمام فخر الدين: أن من كانت معجزته أظهر يكون ثواب أمته أقل.
قال السبكي: إلا هذه الأمة, فإن معجزات نبينا أظهر، وثوابنا أكثر من سائر الأمم، وأهل الجنة مائة وعشرون صفاً، وهذه الأمة منها ثمانون، وسائر الأمم أربعون.
ويتجلى الله عليهم فيرونه، ويسجدون له بإجماع أهل السُّنة، وفي الأمم السابقة احتمالان لابن أبي جمرة.
وفي "فوائد" القاضي أبي الحسين بن المهتدي من حديث ابن عمر مرفوعاً: "كل أمة يعضها في الجنة وبعضها في النار إلا هذه الأمة فإنها كلها في الجنة".

(1/137)


وفي "مصنف عبد الرزاق" عن الربعي: أنه قرأ في بعض الكتب أن ولد الزنا لا يدخل الجنة إلى سبعة آباء، فخفف الله عن هذه الأمة فجعلها إلى خمسة آباء".