بهجة
المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل [الباب الثالث في خصائصه صلى الله عليه
وسلم]
(الباب الثالث في خصائصه صلى الله عليه وسلم
وهى نوعان حسبما تقدم)
[النوع الأول فيما اختص به صلى الله عليه وسلم
هو وأمته من الفضائل وأنواع الكرامات]
النوع الاول فيما اختص به صلى الله عليه وسلم هو وأمته من الفضائل وأنواع
الكرامات وهذا الباب واسع يستدعى الكلام فيه الى مجلدات ومحله التتبع
والنقل ونحن نذكر طرفا صالحا من عيونه ان شاء الله تعالى
[فمن ذلك شفاعته العظمى في اراحة الناس من موقف القيامة]
فمن ذلك شفاعته العظمى في اراحة الناس من موقف
القيامة حين يموج الناس بعضهم في بعض ويذهب عرقهم في الارض سبعين
ذراعا ويلجم بعضهم الجاما فتفزع اليه الأولون والآخرون بعد فزعهم الى
الانبياء قبله واعتذار كل واحد منهم وقوله نفسى نفسى اذهبوا الى غيري حتى
يقول آخرهم عيسى صلوات الله عليه لست لها ولكن عليكم بمحمد عبد غفر له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتون محمدا فيقول أنا لها ويخر ساجدا شافعا فيقال
يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فيوضع الصراط ويحاسب الناس ويراحون
وهذا هو المقام المحمود الذي وعده يحمده فيه الأولون والآخرون. روينا في
صحيح البخاري عن آدم بن على قال سمعت ابن عمر يقول ان الناس يصيرون يوم
القيامه حتى كل أمة تتبع نبيها فيقولون يا فلان اشفع لنا يا فلان اشفع لنا
حتى تنتهى الشفاعة الى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله
المقام المحمود واليه الاشارة بقوله صلى الله عليه وسلم أنا سيد الناس يوم
القيامة وتدرون لم ذاك يجمع الله الأولين والآخرين وذكر حديث الشفاعة ودل
متفرقات الاحاديث على ان له صلى الله عليه وسلم سوى هذه الشفاعة شفاعات
أربعا احداهن في تعجيل من لا حساب عليه من أمته الى الجنة وهم سبعون ألفا
مع كل ألف (الباب الثالث في خصائصه) (يموج الناس) أى يختلط بعضهم ببعض
(ويلجم) بالجيم أى يصير موضع اللجام (عبد) بالجر بدل من محمد (جثا) بضم
الجيم وفتح المثلثة المخففة جمع جثوة وهي الشيء المجموع قاله ابن الاثير
وروى بتشديد المثلثة جمع جاث وهو الجالس على ركبتيه (أنا سيد الناس يوم
القيامة) انما خص يوم القيامة مع كونه سيدهم في الدنيا والآخرة لان سودده
يظهر يومئذ لكل أحد فلا يبقى منازع ولا مشارك ولا معاند بخلاف الدنيا فقد
وجد ذلك فيها وهذا على حد قوله تعالى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وقوله لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ مع أن الملك له جل وعلا
قديما وأخيرا لكن كان في الدنيا من يدعي الملك ويضاف اليه مجازا فانقطع كل
ذلك في الآخرة (شفاعات اربعا) بل أكثر سنذكره اختص ببعضها وشورك في الباقي
(احداهن في تعجيل من لا حساب عليه من أمته) كما في صحيح مسلم من حديث أبى
هريرة فارفع رأسى فاقول أمتي يا رب أمتى يا رب فيقال يا محمد ادخل من أمتك
(2/189)
سبعون ألفا. الثانية فيمن وجب عليه العذاب
ودخل النار منهم. الثالثة فيمن قال لا إله الا الله الرابعة في رفع درجات
ناس في الجنة. وورد في حديث لا أزال أشفع حتى يقول خازن النار يا محمد ما
تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة*
[ومنها أنّه صلى الله عليه وسلّم أول الناس خروجا حين البعث]
ومن خصائصه يوم القيامة ما رواه الترمذي عن أنس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنا أول الناس خروجا اذا بعثوا وأنا قائدهم اذا وفدوا وأنا
خطيبهم اذا أنصتوا وأنا شفيعهم اذا حبسوا وأنا مبشرهم اذا أبلسوا لواء
الكرم بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ويطوف علىّ ألف خادم كأنهم
لؤلؤ مكنون وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واكسى حلة
من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم في ذلك المقام
غيري وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا
سيد ولد آدم يوم القيامة وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم
فمن سواه الا تحت لوائى وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر وأنا أول شافع
وأول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح لى فأدخلها فيدخلها
معي فقراء المهاجرين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر. وفي حديث
آخر ما ترضون أن يكون ابراهيم من لا حساب عليهم من الباب الايمن من أبواب
الجنة وهذه من خصائصه كالتى في فصل القضاء (الثانية فيمن وجب عليه العذاب
ودخل النار منهم) وحديثها مروي في الصحيحين وغيرهما من وجوه متعددة بطرق
كثيرة وهذه ليست من خصائصه نعم قال عياض ان شفاعته لاخراج من في قلبه مثقال
حبة من ايمان مختصة به (الثالثة فيمن قال لا اله الا الله) لا يحسن عد هذه
شفاعة مستقلة بل هي من جملة الاولى (الرابعة في رفع درجات ناس في الجنة)
قال مجد الدين الشيرازى وما لذلك عندنا من دليل صريح غير انه يستأنس له
بحديث أنس عن مسلم يرفعه أنا أول شفيع في الجنة انتهي وبقي من الشفاعات
شفاعته في ناس استحقوا دخول النار فلا يدخلوها أخرج حديثها أحمد من حديث
أنس وأخرجه البيهقي من حديث ابن عباس وشفاعته في تخفيف العذاب عمن استحق
الخلود في النار كابي طالب ونسبه انها من خصائصه وشفاعته في فتح باب الجنة
أخرج حديثها أحمد ومسلم من حديث أنس وهي من الخصائص وشفاعته لمن مات
بالمدينة وشفاعته لمن صبر على لأوائها وجهدها وكل هذه مروية في الاحاديث
الصحيحة وشفاعته لمن أجاب المؤذن ثم صلى عليه وسأل له الوسيلة وشفاعته في
أطفال المشركين حتى يدخلوا الجنة ذكرها القاضي عن بعضهم وشفاعته لجماعة من
صلحاء المؤمنين فيتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات ذكرها القزويني في
العروة الوثقي وشفاعته في زائريه رواها ابن حبان عن أنس (اذا حبسوا) مبنى
للمفعول (اذا أبلسوا) بالموحدة أي يئسوا كما في بعض نسخ الترمذى (بيدى)
بكسر المهملة وتخفيف التحتية على الافراد روي أحمد والترمذي (عن أبى سعيد)
(2/190)
وعيسى فيكم يوم القيامة ثم قال أنهما في
أمتي يوم القيامة أما ابراهيم فيقول أنت دعوتي وذريتي فاجعلنى في أمتك وأما
عيسى فالانبياء اخوة بنو علات أمهاتهم شتى وان عيسى أخى ليس بيني وبينه نبى
وأنا أولى الناس به.
[ومنها اختصاصه صلى الله عليه وسلّم بالوسيلة والحوض والكوثر]
ومن خصائصه في الجنة اختصاصه بالوسيلة وهى أعلا درجة في الجنة قال صلى الله
عليه وسلم من سأل الله لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة. ومن ذلك اختصاصه
بالحوض والكوثر وهو نهر يسيل في حوضه حافتاه قباب اللؤلؤ ومجراه على الدر
والياقوت سعد بن مالك بن سنان كما مر (بنو علات) بفتح المهملة وتشديد اللام
جمع علة وهي الضرة سميت بذلك لان الرجل يتزوجها على ولاء كانت قبلها فكانه
عل منها والعلل الشرب الثاني فبنو العلات أولاد الرجل من نسوة ومعنى هذه ان
الانبياء كلهم متفقون على أصول الشريعة متباينون في فروعها بخلاف عيسى فانه
موافق شريعته صلى الله عليه وسلم أصولا وفروعا لانه سيقضي بها بعد نزوله
(فائدة) الاخوة اذا كانوا من نساء شتي فهم بنو العلات وان كانوا من أب أو
أم فهم بنو اعيان وان كانوا من أم واحدة وآباؤهم شتى فهم بنو أخياف
بالمعجمة والتحتية والفاء (وأنا أولي الناس به) وذلك لما ذكر من عدم
الواسطة بينهما ولانه من اتباعه كما مر ولما أخرجه الترمذى عن عبد الله بن
سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم يدفن معه قال أبو داود
المدنى قد بقي في البيت موضع قبر (قال صلى الله عليه وسلم) في حديث آخر
أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذى (من سأل الله لى الوسيلة) هذا طرف من
حديث أوله اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علىّ فانه من صلى
علىّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فانها منزلة في
الجنة لا تنبغى الا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو (حلت عليه
الشفاعة) أى وجبت له (بالحوض) هو الذى يشرب منه المؤمنون عند خروجهم من
القبور (والكوثر) يشربون منه بعد دخولهم الجنة كما ذكره القرطبي وغيره وما
ذكره من الاختصاص غير صحيح فقد أخرج الترمذي عن سمرة بن جندب قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ان لكل نبي حوضا ترده أمته وانهم يتباهون ايهم
أكثر وارده قال الترمذي حسن غريب وقال البكرى لكل نبي حوض الا صالحا فان
حوضه ذرع ناقته واعلم ان أحاديث الحوض صحيحة والايمان به فرض وهو عند أهل
السنة على ظاهره وحديثه متواتر بالنقل رواه خلائق من الصحابة رضي الله عنهم
منهم أبو بكر الصديق وعمر وابن عمر وأبو سعيد وسهل بن سعد وجندب وعبد الله
بن عمرو بن العاص وعائشة وام سلمة وعقبة بن عامر وثوبان وأنس وجابر بن سمرة
وزيد بن أرقم وأبو امامة وعبد الله بن زيد وأبو ندرة وسويد بن جبلة وعبد
الله الصنابجي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبى بكر وخولة بنت قيس وأبو
هريرة وعائذ بن عمرو وأبو ذر وغيرهم وخرجه من الحفاظ أحمد والشيخان وأبو
داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم بروايات متعددة وصفات متنوعة
(حافتاه) بالمهملة والفاء والفوقية أي جانباه (قباب) بالقاف والموحدة جمع
قبة (ومجراه على الدر والياقوت)
(2/191)
وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج ومن
خصائصه ما روي أبو ذر وابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو هريرة انه
قال أعطيت خمسا وفي بعضها ستا لم يعطهن نبي قبلى نصرت بالرعب مسيرة شهر
وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فايما رجل من أمتى وتربته أطيب ريحا من المسك
كما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر (وأبيض) أى أشد بياضا كما جاء
في كثير من الروايات وهذا الحديث يدل على صحة التعجب بافعل فيما زاد ماضيه
على ثلاثة أحرف وكان لغة قليلة وهو خلاف ما يقوله النحويون انه انما يتعجب
من مصدره ويبنى له فعل ثلاثي فلا يجوز عندهم ما أبيض زيدا مثلا بل ما أشد
بياضه (من الثلج) وفي رواية من الورق أى الفضة وفي أخري من اللبن وكل ذلك
على جهة التمثيل لشدة بياضه فذكر صلى الله عليه وسلم مرة الثلج ومرة الورق
ومرة اللبن فروي كل ما سمعه ومن تتمة حديث الحوض ان كيزانه وفي رواية أكوزه
وفي أخري آنيته كنجوم السماء من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا زاد
الترمذي والحاكم عن ثوبان أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين الشعث رؤسا
الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المتنعمات ولا يفتح لهم السدد وان عرضه كما
بين صنعاء والمدينة وفي رواية مسيرة شهر وفي أخرى من عدن الى عمان البلقاء
وفي أخرى كما بين ايلة والجحفة وفي أخرى بين ناحيتيه كما بين جرنا وأذرح
وفي اخرى ما بين الكعبة الى بيت المقدس قال عياض وغيره وهذا الاختلاف في
قدر عرض الحوض ليس موجبا للاضطراب فانه لم يأت في حديث واحد بل في أحاديث
مختلفة الروايات عن جماعات من الصحابة سمعوها في مواطن مختلفة ضربها النبي
صلى الله عليه وسلم في كل منها مثلا لبعد أقطار الحوض وسعته وقرب ذلك من
الافهام لبعد ما بين البلاد المذكورة لا على التقدير بل للاعلام بعظم بعد
المسافة فيهن تجتمع الروايات انتهي قال النووي وليس في القليل من هذه
المسافاة منع الكثير فالكثير ثابت على ظاهر الحديث ولا معارضة (فائدة) خرج
صاحب الغيلانيات من حديث حميد عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان على حوضي أربعة أركان فاول ركن منها في يد أبي بكر والركن الثاني في يد
عمر والركن الثالث في يد عثمان والركن الرابع في يد على فمن أحب أبا بكر
وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر ومن أحب
عثمان وأبغض عليا لم يسقه عثمان ومن أحب عليا وأبغض عثمان لم يسقه على
(أعطيت خمسا) هذه رواية في الصحيحين وسنن النسائى (وفي بعضها ستا) في رواية
لمسلم عن أبى هريرة (نصرت بالرعب) زاد أحمد من حديث أبي امامة يقذف في قلوب
أعدائي (مسيرة شهر) بالنصب وللطبراني عن أبن عباس نصر رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالرعب على عدوه مسيره شهرين وأراد شهرا أمامه وشهرا خلفه كما
أخرجه الطبراني عن السائب بن بريد مرفوعا والمراد مسيرة شهر من أول بلاد
الكفر المتصلة ببلاد الاسلام على الصحيح (وجعلت لي الارض) زاد أحمد عن أبي
امامة ولأمتي (مسجدا) أى موضع سجود أى صلاة زاد ابن عمر وفي رواية وكان من
قبلى انما يصلون في كنائسهم (وطهورا) ولمسلم من حديث حذيفة وجعلت تربتها
لنا طهورا اذا لم يجد الماء ونحوه لاحمد عن على واستدل به أصحابنا على تعين
التراب للتيمم (فانما) ما زائدة وما مبتدا (رجل) بالجر باضافة
(2/192)
أدركته الصلاة فليصل وأحلت لى الغنائم ولم
تحل لنبي من قبلي وبعثت الى الناس كافة وأعطيت الشفاعة وفي رواية وقيل لى
سل تعطه وفي أخرى وعرض علىّ أمتى فلم يخف على التابع من المتبوع وفي حديث
نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم وبينا أنا نائم أذجئ بمفاتيح خزائن الارض
فوضعت في يدي وفي رواية وختم بي النبيون. وفي حديث عن أبى وهب انه قال قال
تعالى سل يا محمد فقلت ما أسأل يا رب اتخذت ابراهيم خليلا وكلمت موسي
تكليما واصطفيت نوحا وأعطيت سليمان ملكا لا ينبغى لأحد من بعده فقال الله
تعالى ما أعطيتك خير من ذلك أعطيتك الكوثر وجعلت اسمك مع اسمي ينادى به في
جوف السماء وجعلت الأرض طهورا لك ولامتك وغفرت لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر
فأنت تمشي في الناس مغفورا لك ولم أصنع ذلك لأحد قبلك وجعلت قلوب أمتك
مصاحفها وخبأت لك شفاعتك ولم أخبأها لنبى غيرك. وفي حديث أعطاني ربى ان لا
تجوع أمتى ولا تغلب وأعطانى النصر والعزة والرعب يسعى بين يدى أمتى شهرا
وأحل لنا كثيرا أي اليه (أدركته الصلاة فليصل) أى لان عنده طهوره ومسجده
كما لاحمد عن أبي امامة ونحوه وللبيهقي عنه (وأحلت لي الغنائم) وللكشميهني
في البخاري المغانم وأراد المأخوذ من مال الكفار فيأ كان أو غنيمة (ولم
يحل) بالبناء للمفعول وللفاعل والاول أحسن من أجل أحلت (لنبى) في رواية
لاحد (قبلى) أي لان أكثرهم لم يؤذن له في الجهاد ومن أذن لهم فيه كانوا اذا
غنموا شيئا لم يحل لهم أكله فتجئ نار بيضاء من السماء فتحرقه وبعثت الى
الناس كافة في رواية عامة ولمسلم الي كل أحمر وأسود وكان غيره من الانبياء
يبعث الى قومه خاصة واستشكل ذلك بنوح حيث دعا على جميع أهل الارض فاهلكوا
بالغرق الا أهل السفينة ولو لم يكن مبعوثا اليهم لما أهلكوا وأجيب عن هذه
الجوابات أحسنها ما قاله الحافظ ابن حجر أنه لم يكن في الارض عند ارسال نوح
الا قومه فبعثه خاصة لكونها الى قومه فقط لعدم وجود غيرهم لكن لو اتفق وجود
غيرهم لم يكن مبعوثا اليهم قال في التوشيح وترشحه أمران أحدهما قرب مدته من
آدم فكان النسب بينه وبين الموجودين شيأ قريبا غير بعيد وهو المراد بالقوم
والثانى طول مدته فان الف سنة الا خمسين عاما يتيسر فيها من عشيرة الانسان
ما يملأ الارض (في يدى) بالافراد والتثنية (أعطيتك الكوثر) يعنى الثانى
الذي في الجنة فهو من خصائصه وانما شاركه الانبياء في الاول (وجعلت قلوب
أمتك مصاحفها) أي يقرؤن القرآن عن ظهر غيب وهو معني حديث آخر اناجيلهم في
صدورهم وكان من سبق لا يقرأ الكتاب المنزل الا الفذ منهم قال أهل التفسير
لم يقرأ التوراة الا أربعة موسى ويوشع وعزير وعيسي (غيرك) بالجر والنصب (أن
لا تجوع أمتى) أى لا يعمهم الجوع حتى يجتاحهم بل اذا أجذبت جهة أخضبت أخري
(ولا تغلب) أي لا يسلط عليهم الكفار حتى يغلبوهم ويقهروهم (وأحل لنا) مبنى
للفاعل وكذا
(2/193)
مما شدد على من قبلنا ولم يجعل علينا في
الدين من حرج. ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم ان جعل الله أمته خير الامم
ونسخ بشريعته جميع الشرائع فلا يسع أحد بعدها التمسك بغيرها وجعل الله
معجزته القرآن وحفظه من التحريف والتبديل وجعله معجزة باقية تبقى ببقاء
الدنيا وسائر معجزات الأنبياء ذهبت للحين ولم يشاهدها الا الخاص لها ومعجزة
القرآن يقف عليها قرن بعد قرن عيانا لا خبرا الى يوم القيامة وعصم الله
أمته من الاجتماع على الضلال وجعلت صفوفهم كصفوف الملائكة. ومن خصائصه انه
كان لا ينام قلبه اذا نامت عيناه ولا ينتقض وضوءه بالنوم ويرى من وراء ظهره
كما ترى من أمامه وتطوعه بالصلاة قاعدا كتطوعه قائما في الثواب ويتعين على
المصلى اجابته ولا تبطل الصلاة بخطابه مما شدد (من حرج) أي ضيق (جعل الله
أمته خير الامم) قال تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ (التمسك) بالرفع (وعظم)
أى حفظ (الله أمته من الاجتماع على الضلال) فمن ثم كان الاجماع عندنا حجة
قال صلى الله عليه وسلم ان أمتى لن تجتمع على ضلالة فاذا رأيتم اختلافا
فعليكم بالسواد الاعظم أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس وفي سنده ضعف لكن
أخرج الحاكم له شواهد منها في الصحيحين لا يزال من أمتى أمة قائمة بامر
الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (ومن
خصائصه) كغيره من الانبياء (انه لا ينام قلبه اذا نامت عيناه) في الصحيحين
وغيرهما عن عائشة ان عيني تنامان ولا ينام قلبي زاد البخاري في خبر الاسراء
عن أنس وكذلك الانبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم وفي هذا اشكال وجوابه
مر في حديث نومه صلى الله عليه وسلم بالوادي ومن فروع هذا أنه (لا ينتقض
وضوءه) ولا غيره من الانبياء (بالنوم) لان النوم ليس ناقضا لذاته بل لانه
مظنة للنقض بخروج شيء عند ذهاب الحس وهذا مفقود فيمن قلبه يقظان وقد نام
صلى الله عليه وسلم حتى نفخ ثم قام فصلي ولم يتوضأ أخرجه الشيخان عن عائشة
وينتقض وضوءهم بالاغماء كغيرهم (ويرى من وراء ظهره) ادراكا حقيقة فيه خلاف
سبق والاحاديث الواردة في الصحيحين وغيرهما مقيدة بحالة الصلاة فهى مقيدة
لقوله لا أعلم ما وراء جدارى هذا هكذا قاله الشهاب ابن حجر قال زكريا وفيه
نظر إذ ليس فيها أنه كان يري من وراء الجدار وقياس الجدار على جسده صلى
الله عليه وسلم فاسد كما لا يخفي (وتطوعه بالصلاة قاعدا كتطوعه قائما في
الثواب) بخلاف غيره فان صلاته قاعدا على النصف من صلاة القائم وصلاته
مضطجعا على النصف من صلاة القاعد ودليل ذلك ما أخرجه مسلم وأبو داود
والنسائى من حديث ابن عمر وصلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة ولكني كنت كاحد
منكم وانما كان تطوعه كذلك لانه صلى الله عليه وسلم مشرع ولان الباعث على
القعود بالنسبة لغيره هو الكسل والتثاقل عن الصلاة وذلك مفقود فيه (ويتعين)
أى يجب (على المصلي) ولو فرضا (اجابته) لما روي البخاري وأبو داود والنسائي
عن أبي سعيد بن المعلى بضم الميم وفتح المهملة واللام قال كنت أصلى في
المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجبته ثم أتيته فقلت يا رسول
الله انى كنت أصلي فقال ألم يقل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ وروي الترمذي عن أبي
هريرة مثل هذه القصة لابي بن كعب (ولا تبطل الصلاة) باجابته بالقول وكذا
بالفعل ولو كثيرا كما
(2/194)
وكان يتبرك ويستشفي ببوله ودمه ويقرر ذلك ولا ينكره وبهذا استدل على
طهارتهما منه ويكفر شانئه ومؤذيه ويقتل ولا يستتاب بخلاف غيره والله أعلم. |