سيرة ابن هشام ت السقا

حَرْبُ الْفِجَارِ [1]

(سَبَبُهُا) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، هَاجَتْ حَرْبُ الْفُجَّارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ، وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ.
وَكَانَ الَّذِي هَاجَهَا أَنَّ عُرْوَةَ الرَّحَّالَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ ابْن عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، أَجَارَ [2] لَطِيمَةً [3] لِلنُّعْمَانِ ابْن الْمُنْذَرِ [4] ، فَقَالَ لَهُ الْبَرَّاضُ بْنُ قَيْسٍ، أَحَدُ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ
__________
[ () ] وَفِي حَدِيث آخر: أَنه لما سقط ضمه الْعَبَّاس إِلَى نَفسه وَسَأَلَهُ عَن شَأْنه، فَأخْبرهُ أَنه نُودي من السَّمَاء:
أَن اشْدُد عَلَيْك إزارك يَا مُحَمَّد. قَالَ: وَإنَّهُ لأوّل مَا نُودي.
وَحَدِيث ابْن إِسْحَاق، إِن صَحَّ أَن ذَلِك كَانَ فِي صغره إِذْ كَانَ يلْعَب مَعَ الغلمان، فَحَمله على أَن هَذَا الْأَمر كَانَ مرَّتَيْنِ، مرّة فِي حَال صغره، وَمرَّة فِي أول اكتهاله عِنْد بُنيان الْكَعْبَة» .
[1] الْفجار (بِالْكَسْرِ) : بِمَعْنى المفاجرة، كالقتال والمقاتلة، وَذَلِكَ أَنه كَانَ قتالا فِي الشَّهْر الْحَرَام فَفَجَرُوا فِيهِ جَمِيعًا، فَسمى الْفجار.
وَكَانَ للْعَرَب فجارات أَرْبَعَة، آخرهَا فجار البراض هَذَا. وَأما الْفجار الأول فَكَانَ بَين كنَانَة وهوازن، وَكَانَ الّذي هاجه أَن بدر بن معشر، أحد بنى عقال بن مليك من كنَانَة، جعل لَهُ مَجْلِسا بسوق عكاظ، وَكَانَ حَدثا منيعا فِي نَفسه، ثمَّ كَانَ أَن افتخر فِي السُّوق وتصدى لَهُ الأحيمر بن مَازِن أحد بنى دهمان، ثمَّ تحاور الخيان عِنْد ذَلِك حَتَّى كَاد أَن تكون بَينهمَا الدِّمَاء، ثمَّ تراجعوا وَرَأَوا أَن الْخطب يسير.
وَكَانَ الْفجار الثَّانِي بَين قُرَيْش وهوازن، وَكَانَ الّذي هاجه فتية من قُرَيْش تعرضوا لامْرَأَة من بنى عَامر ابْن صعصعة، فهاجت الْحَرْب. وَكَانَ بَينهم قتال وَدِمَاء يسيرَة، فحملها حَرْب بن أُميَّة وَأصْلح بَينهم.
وَكَانَ الْفجار الثَّالِث بَين كنَانَة وهوازن، وَكَانَ الّذي هاجه أَن رجلا من بنى كنَانَة كَانَ عَلَيْهِ دِيَة لرجل من بنى نصر، فأعدم الْكِنَانِي، فَعير النَّصْرَانِي ذَلِك قومه بسوق عكاظ، فَقَامَ إِلَيْهِ كنانى فَضَربهُ، ثمَّ تهايج النَّاس حَتَّى كَاد أَن يكون بَينهم قتال، ثمَّ تراجعوا. (رَاجع العقد الفريد، والأغاني ج 19 ص 74- 80 طبع بلاق) .
[2] كَذَا فِي أوالعقد الفريد. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أجَاز» بالزاي، وَهُوَ تَصْحِيف.
[3] اللطيمة: الْجمال الَّتِي تحمل التِّجَارَة، وَالطّيب والبز وأشباههما.
[4] وَذَلِكَ أَن النُّعْمَان بن الْمُنْذر ملك الْحيرَة كَانَ يبْعَث بسوق عكاظ فِي كل عَام لطيمة فِي جوَار رجل شرِيف من أَشْرَاف الْعَرَب يجيرها لَهُ حَتَّى تبَاع هُنَاكَ، ويشترى لَهُ بِثمنِهَا من أَدَم الطَّائِف مَا يحْتَاج إِلَيْهِ.
(رَاجع العقد الفريد، والأغاني ج 19 ص 75 طبع بلاق) .

(1/184)


ابْن كِنَانَةَ: أَتُجِيرُهَا [1] عَلَى كِنَانَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَعَلَى الْخَلْقِ (كُلِّهِ) [2] . فَخَرَجَ فِيهَا عُرْوَةُ الرَّحَّالُ وَخَرَجَ الْبَرَّاضُ يَطْلُبُ غَفْلَتَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِتَيْمَنَ [3] ذِي طِلَالٍ بِالْعَالِيَةِ، غَفَلَ عُرْوَةُ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَرَّاضُ فَقَتَلَهُ فِى الشِّهْرِ [4] الْحَرَامِ، فَلِذَلِكُ سُمِّيَ الْفِجَارُ. وَقَالَ الْبَرَّاضُ [5] فِي ذَلِكَ:
وَدَاهِيَةٍ تَهُمُّ النَّاسَ قَبْلِي ... شَدَدْتُ لَهَا بَنِي بَكْرٍ ضُلُوعِي [6]
هَدَمْتُ بِهَا بُيُوتَ بَنِي كِلَابٍ ... وَأَرْضَعْتُ الْمَوَالِي بِالضُّرُوعِ [7]
رَفَعْتُ لَهُ [8] بِذِى طَلَّالَ كَفِّي [9] ... فَخَرَّ يَمِيدُ كَالْجِذْعِ الصَّرِيعِ
__________
[1] كَذَا فِي أوالعقد الفريد. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «أتجيزها» بالزاي، وَهُوَ تَصْحِيف.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] تيمن ذُو طلال: وَاد إِلَى جَانب فدك، فِي قَول بَعضهم. وَالصَّحِيح أَنه بعالية نجد، كَمَا ذكر هُنَا (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[4] وَيُقَال إِنَّمَا كَانَ ذَلِك وَعُرْوَة إِلَى جَانب فدك، إِلَى أَرض يُقَال لَهَا أوارة قريبَة من تيمن، يشرب فِيهَا من الْخمر وتغنيه قينة، إِلَى أَن قَامَ فَنَامَ، فَعندهَا دخل عَلَيْهِ البراض، فَنَاشَدَهُ عُرْوَة وَقَالَ:
كَانَت منى زلَّة،
وَكَانَت الفعلة منى ضلة،
فَلم يسمع لَهُ وَقَتله.
(رَاجع العقد الفريد والأغاني) .
[5] ويروى عَن البراض أَيْضا رجز قَالَه بعد قَتله لعروة، قبل هَذَا الشّعْر، وَهُوَ يردد فِيهِ قَول عُرْوَة وندمه على مَا كَانَ مِنْهُ:
قد كَانَت الفعلة منى ضلة ... هلا على غَيْرِي جعلت الزلة
فَسَوف أعلو بالحسام القله
[6] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي العقد الفريد:
وداهية يهال النَّاس مِنْهَا ... شددت على بنى بكر ضلوعي
[7] الضروع: جمع ضرع: يُرِيد: ألحقت الموَالِي بمنزلتهم من اللؤم ورضاع الضروع، وأظهرت فسألتهم، وهتكت بيُوت أَشْرَاف بنى كلاب وصرحائهم.
[8] كَذَا ورد هَذَا الشّطْر فِي أَكثر الْأُصُول، و «طلال» فِيهِ مُشَدّدَة، كَمَا يقْضى بذلك الْوَزْن، وَلَقَد عقد أَبُو ذَر والسهيليّ بَين «طلال» الْمُشَدّدَة هُنَا، و «طلال» المخففة فِي بَيت لبيد بعده موازنة، التمسا فِيهَا للبراض عذرا فِي إيرادها مُشَدّدَة، وَلَو أَنَّهُمَا وَقعا على رِوَايَة أوهي:
رفعت لَهُ يَدي بِذِي طلال
لغنيا عَن تلمس المعذرة، وَعقد هَذِه الموازنة هُنَا، وَعَن الْكَلَام على منع «طلال» من الصّرْف (على الرِّوَايَة الأولى) على أَنه اسْم مؤنث معرف.
[9] رِوَايَة هَذَا الْبَيْت فِي العقد الفريد والأغاني:
جمعت لَهُ يَدي بنصل سيف ... أفل فَخر كالجذع الصريع

(1/185)


وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفْرِ بْنِ كِلَابٍ:
أَبْلِغْ، إِنْ عَرَضْتَ، بَنِي كِلَابٍ ... وَعَامِرَ وَالْخُطُوبُ لَهَا مَوَالِي
وَبَلِّغْ، إِنْ عَرَضْتَ، بَنِي نُمَيْرٍ ... وَأَخْوَالَ القَتِيلِ بَنِي هِلَالِ
بِأَنَّ الْوَافِدَ الرَّحَّالَ أَمْسَى ... مُقِيمًا عِنْدَ تَيْمَنَ ذِى طِلَالٍ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِى أَبْيَاتٍ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ.

(نُشُوبُ الْحَرْبِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَهَوَازِنَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَتَى آتٍ قُرَيْشًا، فَقَالَ: إِنَّ الْبَرَّاضَ قَدْ قَتَلَ عُرْوَةَ، وَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِعُكَاظَ، فَارْتَحَلُوا وَهَوَازِنُ لَا تَشْعُرُ (بِهِمْ) [1] ، ثُمَّ بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فَأَتْبَعُوهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ، وَدَخَلُوا الْحَرَمَ، فَأَمْسَكَتْ عَنْهُمْ هَوَازِنُ، ثُمَّ الْتَقَوْا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَيَّامًا، وَالْقَوْمُ مُتَسَانَدُونَ [2] عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ، وَعَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ قَيْسٍ رَئِيسٌ مِنْهُمْ.

(حُضُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَغِيرٌ فِيهَا وَعُمْرُهُ) :
وَشَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَيَّامِهِمْ، أَخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ أَنْبُلُ عَلَى أَعْمَامِي: أَيْ أَرُدُّ عَلَيْهِمْ [3] نَبْلَ عَدُوِّهِمْ إذَا رَمَوْهُمْ بِهَا.

(سَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: هَاجَتْ حَرْبُ الْفجارِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْفجارِ، بِمَا اسْتَحَلَّ هَذَانِ الْحَيَّانِ، كِنَانَةُ وَقَيْسُ عَيْلَانَ، فِيهِ مِنْ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ.

(قُوَّادُ قُرَيْشٍ وَهَوَازِنَ فِيهَا وَنَتِيجَتُهَا) :
وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبُ (بْنُ) [4] أُمِّيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَ الظَّفَرُ
__________
[1] زِيَادَة عَن أ.
[2] متساندون: أَي لَيْسَ لَهُم أَمِير وَاحِد يجمعهُمْ.
[3] فِي الأَصْل: «عَنْهُم» . والتصويب عَن كتب اللُّغَة.
[4] زِيَادَة عَن أ.

(1/186)


فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِقَيْسٍ عَلَى كِنَانَةَ، حَتَّى إذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ الظَّفَرُ لِكِنَانَةِ عَلَى قِيسٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدِيثُ الْفجارِ أَطْوَلُ مِمَّا ذَكَرْتُ، وَإِنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.