سيرة ابن
هشام ت السقا حَدِيثُ إسْلَامِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ
(كَانَ سَلْمَانُ مَجُوسِيًّا، فَمَرَّ بِكَنِيسَةٍ فَتَطَلَّعَ إلَى
النَّصْرَانِيَّةِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمْرَ بْنِ قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ ابْن لَبِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، وَأَنَا أَسْمَعُ
مِنْ فِيهِ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ
[4] مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جَيُّ [5] ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ [6]
قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ، لَمْ يَزَلْ بِهِ
حُبُّهُ إيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ
الْجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطْنَ
النَّارِ [7]
__________
[1] أتوكف: أنْتَظر.
[2] أظل: أشرف وَقرب.
[3] يُرِيد حِين غزا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنى قُرَيْظَة عقب
مُنْصَرفه من غَزْوَة الخَنْدَق.
[4] أَصْبَهَان (بِفَتْح الْهمزَة وَهُوَ الْأَكْثَر، وَقيل بكثرها) :
مَدِينَة عَظِيمَة مَشْهُورَة من أَعْلَام المدن وأعيانها، ويسرفون فِي وصف
عظمها حَتَّى يتجاوزوا حد الاقتصاد إِلَى غَايَة الْإِسْرَاف. وأصبهان:
اسْم للإقليم بأسره، وَكَانَت مدينتها أَولا جيا، ثمَّ صَارَت
الْيَهُودِيَّة، وَقيل فِي سَبَب تَسْمِيَة أَصْبَهَان أَقْوَال كَثِيرَة.
(رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ لياقوت) .
[5] كَذَا فِي أومعجم الْبلدَانِ. وجى (بِالْفَتْح ثمَّ التَّشْدِيد) :
مَدِينَة نَاحيَة أَصْبَهَان الْقَدِيم. وَهِي الْآن كالخراب مُنْفَرِدَة،
وَتسَمى الْآن عِنْد الْعَجم شهرستان. وَعند الْمُحدثين الْمَدِينَة.
[6] الدهْقَان: شيخ الْقرْيَة الْعَارِف بالفلاحة وَمَا يصلح بِالْأَرْضِ،
يلجأ إِلَيْهِ فِي معرفَة ذَلِك.
[7] قطن النَّار: خَادِمهَا الّذي يخدمها ويمنعها من أَن تخبو، لتعظيمهم
إِيَّاهَا.
(1/214)
الَّذِي يُوقِدُهَا، لَا يَتْرُكُهَا
تَخْبُو سَاعَةً. قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ، فَشُغِلَ
فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إنِّي قَدْ
شُغِلْتُ فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ
إلَيْهَا فَاطَّلَعَهَا. وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ
قَالَ لِي: وَلَا تَحْتَبِسُ عَنِّي فَإِنَّكَ إنْ احْتَبَسْتَ عَنِّي
كُنْتُ أَهَمَّ إلَيَّ مِنْ ضَيْعَتِي، وَشَغَلَتْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ
مِنْ أَمْرِي. قَالَ: فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ الَّتِي بَعَثَنِي
إلَيْهَا، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ
أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ
النَّاسِ، لِحَبْسِ أَبِي إيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا سَمِعْتُ
أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا
رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ
وَقُلْتُ: هَذَا وَاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحن عَلَيْهِ،
فو الله مَا بَرِحْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ
أَبِي فَلَمْ آتِهَا، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟
قَالُوا: بِالشَّامِ. فَرَجَعْتُ إلَى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي،
وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ
بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِأُنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي
كَنِيسَةٍ لَهُمْ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ من دينهم، فو الله مَا
زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ
فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ،
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَلَّا وَاَللَّهِ، إنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا.
قَالَ:
فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ.
(اتِّفَاقُ سَلْمَانَ وَالنَّصَارَى عَلَى الْهَرَبِ) :
قَالَ: وَبَعَثْتُ إلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إذَا قَدِمَ
عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ
عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنْ النَّصَارَى،
فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ،
وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ، فَآذَنُونِي بِهِمْ. قَالَ:
فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ،
فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى
قَدِمْتُ الشَّامَ. فَلَمَّا قَدِمْتُهَا، قُلْتُ: مَنْ أَفَضْلُ أَهْلُ
هَذَا الدِّينِ عِلْمًا؟ قَالُوا: الْأُسْقُفُ [1] فِي الْكَنِيسَةِ.
__________
[1] الأسقف (بِالتَّشْدِيدِ وبالتخفيف أَيْضا) : عَالم النَّصَارَى الّذي
يُقيم لَهُم أَمر دينهم.
(1/215)
(سَلْمَانُ وَأُسْقُفُ النَّصَارَى
السَّيِّئُ) :
قَالَ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ،
فَأَحْبَبْتُ أَنَّ أَكُونَ مَعَكَ، وَأَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ،
فَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ، وَأُصَلِّيَ مَعَكَ، قَالَ: اُدْخُلْ، فَدَخَلْتُ
مَعَهُ. قَالَ: وَكَانَ رَجُلُ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ،
وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا [1]
اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ
سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ. قَالَ: فَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا
شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ
النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ
سَوْءٍ، يَأْمُركُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا
جِئْتُمُوهُ بِهَا، اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ
مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ: فَقَالُوا لِي: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ:
قُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ، قَالُوا: فَدُلَّنَا
عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ
سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا. قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا
قَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. قَالَ:
فَصَلَبُوهُ، وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ،
فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ.
(سَلْمَانُ وَالْأُسْقُفُ الصَّالِحُ) :
قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ،
أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ (وَ) [2] أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا،
وَلَا أَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبَ لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ.
قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شَيْئًا قَبْلَهُ [3] .
قَالَ: فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ،
فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ
حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شَيْئًا قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟
قَالَ:
أَيْ بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا عَلَى مَا كُنْتُ
عَلَيْهِ، فَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ، وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا
كَانُوا عَلَيْهِ، إلَّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ، وَهُوَ فُلَانٌ، وَهُوَ
عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ.
__________
[1] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «فيهم» وَهُوَ تَحْرِيف.
[2] زِيَادَة عَن أ.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: « ... قبله مثله» .
(1/216)
(سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِالْمُوصِلِ) :
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ
لَهُ: يَا فُلَانُ، إنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ
أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَالَ لِي: أَقِمْ
عِنْدِي، فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ
صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ.
فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنَّ فُلَانًا
أَوْصَى بِي إلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، فَإِلَى مِنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟
قَالَ:
يَا بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا
عَلَيْهِ، إلَّا رَجُلًا بِنَصِيبِينَ [1] ، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ
بِهِ.
(سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِنَصِيبِينَ) :
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ، فَأَخْبَرْتُهُ
خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي،
فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِيهِ. فَأَقَمْتُ
مَعَ خير رجل، فو الله مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا
حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلَى
فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْكَ، قَالَ: فَإِلَى مَنْ تُوصِي
بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ
بَقِيَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إلَّا رَجُلًا
بِعَمُورِيَّةَ [2] مِنْ أَرْضِ الرُّومِ، فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا
نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
(سَلْمَانُ وَصَاحِبُهُ بِعَمُورِيَّةَ) :
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُورِيَّةَ، فَأَخْبَرْتُهُ
خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ، عَلَى
هُدَى أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَتْ لِي
بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ
تَعَالَى، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إنِّي كُنْتُ مَعَ
فُلَانٍ، فَأَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَى
__________
[1] نَصِيبين (بِالْفَتْح ثمَّ الْكسر ثمَّ بَاء وعلامة الْجمع الصَّحِيح)
: مَدِينَة من بِلَاد الجزيرة على جادة القوافل من الْموصل إِلَى الشَّام،
وَكَانَ فِيهَا وَفِي قراها- على مَا ذكر أَهلهَا- أَرْبَعُونَ ألف
بُسْتَان. وَبَينهَا وَبَين الْموصل سِتَّة أَيَّام. وَكَانَت الرّوم قد
بنت عَلَيْهَا سورا وأتمه أنوشروان الْملك عِنْد فَتحه إِيَّاهَا.
[2] عمّورية (بِفَتْح أَوله وَتَشْديد ثَانِيه) : بلد فِي بِلَاد الرّوم
غزاه المعتصم.
وَسميت بعمورية بنت الرّوم بن اليفز بن سَام بن نوح. (رَاجع مُعْجم
الْبلدَانِ) .
(1/217)
فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ
إلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ
بُنَيَّ، وَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى
مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ النَّاسِ آمُرُكَ بِهِ أَنْ تَأْتِيَهُ،
وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ نَبِيٍّ، وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ
إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ،
مُهَاجَرُهُ إلَى أَرْضٍ بَيْنَ [1] حَرَّتَيْنِ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ بِهِ
عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى، يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ
الصَّدَقَةَ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ
اسْتَطَعْتُ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ.
(سَلْمَانُ وَنَقْلَتُهُ إلَى وَادِي الْقُرَى ثُمَّ إلَى الْمَدِينَةِ،
وسماعه بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغُيِّبَ، وَمَكَثْتُ بِعَمُورِيَّةَ مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارٌ،
فَقُلْتُ لَهُمْ: احْمِلُونِي إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ
بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ، قَالُوا: نَعَمْ.
فأعْطَيْتُهُمُوها وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ، حَتَّى إذَا بَلَغُوا وَادِيَ
الْقُرَى ظَلَمُونِي، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ عَبْدًا،
فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ
الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقْ فِي نَفْسِي،
فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ، إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ
بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي
إِلَى الْمَدِينَة، فو الله مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتهَا
[2] بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ
لَهُ بِذكَرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ
إِلَى الْمَدِينَة، فو الله إنِّي لَفِي رَأْسِ عِذْقٍ [3] لِسَيِّدِي
أَعْمَلُ لَهُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تَحْتِي، إذْ
أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا فُلَانُ،
قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ، وَاَللَّهِ إنَّهُمْ الْآنَ
لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ [4] عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ
مَكَّةَ الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
(نَسَبُ قَيْلَةَ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَيْلَةُ: بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُودِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ
قُضَاعَةَ، أُمُّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
__________
[1] الْحرَّة: كل أَرض ذَات حِجَارَة سود متشيطة من أثر احتراق بركانى.
[2] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «عرفتها» .
[3] العذق (بِالْفَتْح) : النَّخْلَة. والعذق (بِالْكَسْرِ) : الكباسة.
[4] قبَاء (بِالضَّمِّ) أَصله اسْم بِئْر عرفت الْقرْيَة بهَا، وَهِي
مسَاكِن بنى عَمْرو بن عَوْف من الْأَنْصَار.
وَتَقَع قَرْيَة قبَاء على ميلين من الْمَدِينَة على يسَار القاصد إِلَى
مَكَّة. رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
(1/218)
قَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ
الْأَنْصَارِيُّ يَمْدَحُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ:
بَهَالِيلُ [1] مِنْ أَوْلَادِ قَيْلَةَ لَمْ يَجِدْ ... عَلَيْهِمْ
خَلِيطٌ فِي مُخَالَطَةِ عَتْبَا
مَسَامِيحُ أَبْطَالٌ يَرَاحُونَ لِلنَّدَى ... يَرَوْنَ عَلَيْهِمْ فِعْلَ
آبَائِهِمْ نَحْبَا
[2] وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي
الْعُرَوَاءُ. فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْعُرَوَاءُ: الرِّعْدَةُ مِنْ
الْبَرْدِ وَالِانْتِفَاضُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَرَقٌ فَهِيَ
الرُّحَضَاءُ، وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ- حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَسْقُطُ
عَلَى سَيِّدِي، فَنَزَلْتُ عَنْ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ
عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ (مَاذَا تَقُولُ) [2] ؟
فَغَضِبَ سَيِّدِي، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ
وَلِهَذَا؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ.
قَالَ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، إنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمَّا
قَالَ.
(سَلْمَانُ بَيْنَ يَدَيْ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِهَدِيَّتِهِ يَسْتَوْثِقُ) :
(قَالَ) [3] : وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ فَلَمَّا
أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ [4] ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ،
فَقُلْتُ لَهُ: إنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ
أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ قَدْ كَانَ
عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ،
قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ
يَأْكُلْ. قَالَ:
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ،
فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي
قَدْ رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ
أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ ثِنْتَانِ،
__________
[1] البهاليل: جمع بهْلُول، وَهُوَ السَّيِّد.
[2] المساميح: الأجواد الْكِرَام. ويراحون: يهتزون. والنحب: النّذر، وَمَا
يَجعله الْإِنْسَان على نَفسه.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] رَاجع الْحَاشِيَة (رقم 4 ص 218 من هَذَا الْجُزْء) .
(1/219)
ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ [1] ، قَدْ تَبِعَ
جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ [2] ، (وَ) [3] عَلَيَّ شَمْلَتَانِ [4]
لِي، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ
اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ
لِي صَاحِبِي، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اسْتَدْبَرْتُهُ [5] عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ
وُصِفَ لِي، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلَى
الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي،
فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَوَّلْ،
فَتَحَوَّلْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي
كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا بن عَبَّاسٍ، فَأَعْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْمِعَ ذَلِكَ
أَصْحَابَهُ. ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ.
(أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَلْمَانَ
بِالْمُكَاتَبَةِ لِيَخْلُصَ مِنْ الرِّقِّ) :
قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ، فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ
ماِئَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ [6] ، وَأَرْبَعِينَ
أُوقِيَّةً. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ، فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ
بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً [7] ، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ وَدِيَّةً،
وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَدِيَةً، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يُعِينُ
الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ ماِئَةِ
وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ [8] لَهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ
__________
[1] بَقِيع الْغَرْقَد: مَقْبرَة أهل الْمَدِينَة، وَهِي دَاخل
الْمَدِينَة.
[2] هُوَ كُلْثُوم بن الْهدم، وَكَانَ هُوَ أول من توفى من الْمُسلمين بعد
مقدمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة، لم يلبث إِلَّا
يَسِيرا حَتَّى مَاتَ. (رَاجع الطَّبَرِيّ، وَالرَّوْض، وَشرح السِّيرَة) .
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] الشملة: الكساء الغليظ يشْتَمل بِهِ الْإِنْسَان، أَي يلتحف بِهِ.
[5] ويروى: «أستدير بِهِ» .
[6] كَذَا فِي الْأُصُول. أَي بِالْحفرِ وبالغرس، يُقَال: فقرت الأَرْض:
إِذا حفرتها، وَمِنْه سميت الْبِئْر: فَقِيرا.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: «بالتفقير» . مصدر «فقر» . وَلَعَلَّ هَذِه
الرِّوَايَة أنسب.
[7] الودية: وَاحِدَة الودي، وَهُوَ فراخ النّخل الصغار.
[8] فقر: احْفِرْ.
(1/220)
فَأْتِنِي أَكُنْ أَنَا أَضَعُهَا
بِيَدَيَّ. قَالَ: فَفَقَّرْتُ وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إذَا
فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إلَيْهَا، فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ إلَيْهِ
الْوَدِيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِيَدِهِ، حَتَّى فَرغْنَا. فو الّذي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا
مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ [1] . قَالَ: فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ
وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ. فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ، مِنْ
بَعْضِ الْمَعَادِنِ [2] ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ
الْمُكَاتَبُ؟ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ خُذْ هَذِهِ، فَأَدِّهَا
مِمَّا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ» قَالَ: قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ
سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ. قَالَ: فَأَخَذْتهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا،
وَاَلَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً،
فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ مِنْهَا، وَعَتَقَ سَلْمَانُ. فَشَهِدْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ
حُرًّا، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ
الْقَيْسِ عَنْ سَلْمَانَ: أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ
هَذِهِ مِنْ الَّذِي عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَّبَهَا
عَلَى لِسَانِهِ، ثُمَّ قَالَ: خُذْهَا فَأَوْفِهِمْ مِنْهَا،
فَأَخَذْتهَا، فَأَوْفَيْتهمْ مِنْهَا حَقَّهُمْ كُلَّهُ، أَرْبَعِينَ
أُوقِيَّةً. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ: أَنَّهُ قَالَ:
(سَلْمَانُ وَالرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ
بِعَمُورِيَّةَ) :
حُدِّثْتُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ: إنَّ صَاحِبَ
عَمُورِيَّةَ قَالَ لَهُ: ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ،
فَإِنَّ بِهَا رَجُلًا بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ [3] ، يَخْرُجُ فِي كُلِّ
سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَيْضَةِ إلَى هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا،
يَعْتَرِضُهُ ذَوُو الْأَسْقَامِ، فَلَا يَدْعُو لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا
شُفِيَ، فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا
__________
[1] وَيُقَال: إِن سلمَان غرس بِيَدِهِ، ودية وَاحِدَة، وغرس رَسُول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سائرها فَعَاشَتْ كلهَا إِلَّا الَّتِي
غرس سلمَان. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .
[2] الْمَعَادِن: جمع مَعْدن (كمجلس) : مَا تستخرج مِنْهُ الْجَوَاهِر من
ذهب وَفِضة وحديد وَنَحْوه.
[3] الغيضة: الشّجر الملتف.
(1/221)
الدِّينِ الَّذِي تَبْتَغِي، فَهُوَ يُخْبِرُكَ عَنْهُ. قَالَ سَلْمَانُ:
فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ حَيْثُ وُصِفَ لِي، فَوَجَدْتُ النَّاسَ قَدْ
اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَالِكَ، حَتَّى خَرَجَ لَهُمْ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ، مُسْتَجِيزًا مِنْ إحْدَى الْغَيْضَتَيْنِ إلَى أُخْرَى،
فَغَشِيَهُ النَّاسُ بِمَرْضَاهُمْ، لَا يَدْعُو لِمَرِيضٍ إلَّا شُفِيَ،
وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ، فَلَمْ أَخْلُصْ إلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ
الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ، إلَّا مَنْكِبِهِ. قَالَ: فَتَنَاوَلْتُهُ:
فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَالْتَفَتَ إلَيَّ، فَقُلْتُ:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ.
قَالَ: إنَّكَ لَتَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ
الْيَوْمَ، قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ بِهَذَا الدِّينِ مِنْ
أَهْلِ الْحَرَمِ، فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُكَ عَلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ
دَخَلَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِسَلْمَانَ: لَئِنْ كُنْتَ صَدَّقْتَنِي يَا سَلْمَانُ، لَقَدْ لَقِيتُ
عِيسَى بن مَرْيَمَ [1] ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ. |