سيرة ابن هشام ت السقا

ذِكْرُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ ذَكَرٍ مِنْ النَّاسِ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْن هَاشِمٍ، رِضْوَانُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ.

(نَشَأَتْهُ فِي حِجْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبَبُ ذَلِكَ) :
وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ (بِهِ) عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ
__________
[ () ] أَبى أُسَامَة، قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن مُوسَى، عَن ابْن لَهِيعَة، عَن عقيل بن خَالِد، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَة عَن أُسَامَة بن زيد، قَالَ: حَدثنِي زيد بن حَارِثَة: أَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول مَا أوحى إِلَيْهِ، أَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَعلمه الْوضُوء، فَلَمَّا فرغ من الْوضُوء أَخذ غرفَة من مَاء، فنضح بهَا فرجه. وَحدثنَا بِهِ أَيْضا أَبُو بكر مُحَمَّد بن طَاهِر، عَن أَبى على الغساني، عَن أَبى عمر النمري، عَن أَحْمد بن قَاسم، عَن قَاسم ابْن أصبغ، عَن الْحَارِث بن أَبى أُسَامَة بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم.
فالوضوء على هَذَا الحَدِيث مكي بِالْفَرْضِ، مدنِي بالتلاوة، لِأَن آيَة الْوضُوء مَدَنِيَّة.
[1] قَالَ السهيليّ: «وَهَذَا الحَدِيث لم يكن يَنْبَغِي أَن يذكرهُ فِي هَذَا الْموضع، لِأَن أهل الصَّحِيح متفقون على أَن هَذِه الْقِصَّة كَانَت فِي الْغَد من لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَذَلِكَ بعد مَا نبئ بِخَمْسَة أَعْوَام. وَقد قيل: إِن الْإِسْرَاء كَانَ قبل الْهِجْرَة بعام وَنصف، وَقيل بعام، فَذكره ابْن إِسْحَاق فِي بَدْء نزُول الْوَحْي، وَأول أَحْوَال الصَّلَاة» .

(1/245)


قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهَدِ بْنِ جَبْرٍ [1] أَبِي الْحَجَّاجِ، قَالَ: كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ، وَأَرَادَهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ، أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ، وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ، يَا عَبَّاسُ: إنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ [2] ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَيْهِ، فَلْنُخَفِّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلًا، وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلًا، فَنَكِلُهُمَا عَنْهُ [3] ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ، فَقَالَا لَهُ: إنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ مِنْ عِيَالِكَ حَتَّى يَنْكَشِفَ عَنْ النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ: إذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلًا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: عَقِيلًا وَطَالِبًا [4] .
فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، فَضَمَّهُ إلَيْهِ، وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفَرًا فَضَمَّهُ إلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبَّاسِ حَتَّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ.

(خُرُوجُ عَلِيٍّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ يُصَلِّيَانِ، وَوُقُوفُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَمْرِهِمَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ، فَيُصَلِّيَانِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا،
__________
[1] كَذَا فِي أوتهذيب التَّهْذِيب. وَهُوَ مُجَاهِد بن جبر المكيّ أَبُو الْحجَّاج المَخْزُومِي الْمقري مولى السَّائِب ابْن أَبى السَّائِب. روى عَن على وَسعد بن أَبى وَقاص والعبادلة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم، وَعنهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَغَيرهم. وَكَانَ مولده سنة إِحْدَى وَعشْرين فِي خلَافَة عمر، وَمَات سنة أَربع وَمِائَة. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «.... جبر بن أَبى الْحجَّاج» . وَكلمَة «ابْن» مقحمة.
[2] الأزمة: الشدَّة، وَأَرَادَ بهَا سنة الْقَحْط والجوع.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول «فنكفهما» .
[4] وَكَانَ من ولد أَبى طَالب غير هَؤُلَاءِ جَعْفَر. وَكَانَ على أَصْغَر من جَعْفَر بِعشر سِنِين، وجعفر أَصْغَر من عقيل بِعشر سِنِين، وَعقيل أَصْغَر من طَالب بِعشر سِنِين. وَكلهمْ أسلم إِلَّا طَالبا.

(1/246)


فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا. فَمَكَثَا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَا. ثُمَّ إنَّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بن أَخِي! مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَرَاكَ تَدِينُ بِهِ؟ قَالَ: أَيْ عَمِّ، هَذَا دِينُ اللَّهِ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ، وَدِينُ رُسُلِهِ، وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ- أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ أَيْ عَمِّ، أَحَقُّ مَنْ بَذَلْتُ لَهُ النَّصِيحَةَ، وَدَعَوْتُهُ إلَى الْهُدَى، وَأَحَقُّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ، أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَيْ ابْنَ أَخِي، إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ وَاَللَّهِ لَا يَخْلُصُ [1] إلَيْكَ بِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيتُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: أَيْ بُنَيَّ، مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ:
يَا أَبَتِ، آمَنْتُ باللَّه وَبِرَسُولِ اللَّهِ، وَصَدَّقْتُهُ بِمَا جَاءَ بِهِ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ للَّه وَاتَّبَعْتُهُ. فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا إنَّهُ لَمْ يَدْعُكَ إلَّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ.