سيرة ابن هشام ت السقا

غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ

(الْأُهْبَةُ لَهَا) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَبَعْضَ جُمَادَى [5] ، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ بَنِي مُحَارِبٍ وَبَنِيَّ ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ [6] ، وَيُقَالُ: عُثْمَانَ ابْن عَفَّانَ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
__________
[1] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَفِي أ «وأحلب» . قَالَ أَبُو ذَر: «من رَوَاهُ بِالْجِيم، فَمَعْنَاه جمع وَصَاح، وَمن رَوَاهُ بِالْحَاء الْمُهْملَة. فَمَعْنَاه جمع (أَيْضا) ، إِلَّا أَن الّذي بِالْجِيم لَا يكون إِلَّا مَعَ صياح.
[2] الْحزن: مَا علا من الأَرْض. وأكدى: لم ينجح فِي سَعْيه، يُقَال: أكدى الرجل فِي حَاجته، إِذا لم يظفر بهَا.
[3] حَان: هلك.
[4] إِن الله أعقبا: أَي إِن الله جَاءَ بالنصر عَلَيْهِم.
[5] قَالَ الزرقانى: «وَعند ابْن سعد وَابْن حبَان أَنَّهَا كَانَت فِي الْمحرم سنة خمس» وَجزم أَبُو معشر أَنَّهَا بعد بنى قُرَيْظَة.
[6] قَالَ الزرقانى: «قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَتعقبه ابْن عبد الْبر بِأَنَّهُ خلاف مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر، وَبِأَن أَبَا ذَر لما أسلم بِمَكَّة رَجَعَ إِلَى بِلَاده فَلم يجِئ إِلَّا بعد الخَنْدَق» .

(2/203)


(سَبَبُ تَسْمِيَتِهَا بِذَاتِ الرِّقَاعِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَتَّى نَزَلَ نَخْلًا [1] ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، لِأَنَّهُمْ رَقَّعُوا فِيهَا رَايَاتِهِمْ، وَيُقَالُ: ذَاتُ الرِّقَاعِ: شَجَرَةٌ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ الرِّقَاعِ [2] .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا [3] مِنْ غَطَفَانَ، فَتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ، وَقَدْ خَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِالنَّاسِ.

(صَلَاةُ الْخَوْفِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ- وَكَانَ يُكَنَّى:
أَبَا عُبَيْدَةَ [4]- قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [5] بِطَائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، وَطَائِفَةٌ مُقْبِلُونَ عَلَى الْعَدُوِّ. قَالَ: فَجَاءُوا فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: صَفَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَّيْنِ، فَرَكَعَ بِنَا جَمِيعًا،
__________
[1] نخل: مَوضِع بِنَجْد من أَرض غطفان. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] قَالَ أَبُو ذَر: «إِنَّمَا قيل لَهَا ذَات الرّقاع. لأَنهم نزلُوا بجبل يُقَال لَهُ ذَات الرّقاع. وَقيل أَيْضا:
إِنَّمَا قيل لَهَا ذَلِك، لِأَن الْحِجَارَة أوهنت أَقْدَامهم، فشدوا رِقَاعًا، فَقيل لَهَا: ذَات الرّقاع» .
وَقَالَ السهيليّ بعد مَا عرض رأى ابْن هِشَام «وَذكر غَيره أَنَّهَا أَرض فِيهَا بقع سود، وبقع بيض، كلهَا مرقعة برقاع مُخْتَلفَة، قد سميت ذَات الرّقاع لذَلِك، وَكَانُوا قد نزلُوا فِيهَا فِي تِلْكَ الْغُزَاة، وَأَصَح هَذِه الْأَقْوَال كلهَا مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق أَبى مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: خرجنَا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزَاة، وَنحن سِتَّة بَيْننَا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قَدَمَايَ وَسَقَطت أظفارى، فَكُنَّا نلف على أَرْجُلنَا الْخرق، فسميت غَزْوَة ذَات الرّقاع، لما كُنَّا نعصب من الْخرق على أَرْجُلنَا» .
وَقَالَ الزرقانى فِي شرح الْمَوَاهِب بعد مَا سَاق كلَاما لَا يخرج عَن هَذَا: «وَهِي غَزْوَة محَارب، وغزوة بنى ثَعْلَبَة، وغزوة بنى أَنْمَار، وغزوة صَلَاة الْخَوْف، لوقوعها بهَا، وغزوة الْأَعَاجِيب. لما وَقع فِيهَا من الْأُمُور العجيبة» .
[3] فِي أ: «جمعا مَعَ غطفان» .
[4] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[5] كَذَا فِي أ. وزادت سَائِر الْأُصُول: «صَلَاة الْخَوْف ثمَّ انْصَرف بِالنَّاسِ. قَالَ ابْن هِشَام» .

(2/204)


ثُمَّ سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَجَدَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، فَلَمَّا رَفَعُوا سَجَدَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْآخَرُ حَتَّى قَامُوا مَقَامَهُمْ ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ الَّذِينَ يَلُونَهُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الْآخَرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، فَرَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا، وَسَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْفُسِهِمْ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [1] : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: يَقُومُ الْإِمَامُ وَتَقُومُ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ مِمَّا يَلِي عَدُوَّهُمْ، فَيَرْكَعُ بِهِمْ الْإِمَامُ وَيَسْجُدُ بِهِمْ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُونَ فَيَكُونُونَ مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ، يَتَقَدَّمُ الْآخَرُونَ فَيَرْكَعُ بِهِمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً، وَيَسْجُدُ بِهِمْ، ثُمَّ تُصَلِّي كُلُّ طَائِفَةٍ بِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، فَكَانَتْ لَهُمْ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً رَكْعَةً، وَصَلَّوْا بِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً رَكْعَةً.

(غُوْرَثُ وَمَا هَمَّ بِهِ مِنْ قَتْلِ الرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:
أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ، يُقَالُ لَهُ: غُوْرَثُ [2] ، قَالَ لِقَوْمِهِ مِنْ غَطَفَانَ وَمُحَارِبٍ:
أَلَا أَقْتُلُ لَكُمْ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: بَلَى، وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَفْتِكُ بِهِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ، وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْظُرُ إلَى سَيْفِكَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ- وَكَانَ مُحَلًّى بِفِضَّةِ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ- قَالَ: فَأَخَذَهُ فَاسْتَلَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَهُزُّهُ، وَيَهُمُّ فَيَكْبِتُهُ اللَّهُ [3] ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا تَخَافَنِي؟ قَالَ: لَا، وَمَا أَخَافُ مِنْكَ؟
قَالَ: أَمَا تَخَافَنِي وَفِي يَدِي السَّيْفُ؟ قَالَ: لَا، يَمْنَعُنِي (اللَّهُ [4] ) مِنْكَ. ثُمَّ عَمَدَ إلَى سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا 5: 11
__________
[1] هَذِه الْعبارَة سَاقِطَة فِي أ.
[2] يحْكى بِالْفَتْح على وزن جَعْفَر، كَمَا يحْكى بِضَم أَوله. وَوَقع عِنْد الْخَطِيب بِالْكَاف بدل المثلاثة، وَحكى الْخطابِيّ فِيهِ غويرث، بِالتَّصْغِيرِ (رَاجع شرح الْمَوَاهِب) .
[3] يكبته الله: يذله ويقمعه.
[4] زِيَادَة عَن أ.

(2/205)


إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ، فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 5: 11. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: أَنَّهَا إنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ، أَخِي بَنِي النَّضِيرِ وَمَا هَمَّ بِهِ، فاللَّه أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.

(جَابِرٌ وَقِصَّتُهُ هُوَ وَجَمَلُهُ مَعَ الرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: جَعَلَتْ الرِّفَاقُ [1] تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ، حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
مَالك يَا جَابِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا، قَالَ: أَنِخْهُ، قَالَ:
فَأَنَخْتُهُ، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ، أَوْ اقْطَعْ لِي عَصًا مِنْ شَجَرَةٍ، قَالَ: فَفَعَلْتُ. قَالَ: فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ، فَخَرَجَ، وَاَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، يُوَاهِقُ [2] نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً.
قَالَ: وَتَحَدَّثْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَهَبُهُ لَكَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: فَسُمْنِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمِ، قَالَ: قُلْتُ: لَا.
إذَنْ، تَغْبِنُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: فَبِدِرْهَمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَمَنِهِ حَتَّى بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ. قَالَ: فَقُلْتُ:
أَفَقَدْ رَضِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَهُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ. قَالَ:
ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ، هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ: أَفَلَا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ! قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا، فَنَكَحْتُ
__________
[1] فِي أ: «الرّقاع» وَلَا معنى لَهَا.
[2] يواهق نَاقَته: يعارضها فِي الْمثنى لسرعته.

(2/206)


امْرَأَةً جَامِعَةً، تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: أَصَبْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَمَا إنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَارًا [1] أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَاكَ، وَسَمِعَتْ بِنَا، فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا [2] . قَالَ: قُلْتُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ، قَالَ:
إنَّهَا سَتَكُونُ، فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتُ فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيِّسًا. قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا صِرَارًا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا، قَالَ: فَحَدَّثْتُ الْمَرْأَةَ الْحَدِيثَ، وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: فَدُونَكَ، فَسَمْعٌ [3] وَطَاعَةٌ.
قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الْجَمَلِ، فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ [4] رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ثُمَّ جَلَسْتُ فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَى الْجَمَلَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ، قَالَ: فَأَيْنَ جَابِرٌ؟ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ: فَقَالَ: يَا بن أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ، فَهُوَ لَكَ، وَدَعَا بِلَالًا، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِجَابِرِ، فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً. قَالَ: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً، وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرا. قَالَ: فو الله مَا زَالَ يَنْمِى عِنْدِي، وَيَرَى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا، حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ لَنَا يَعْنِي يَوْمَ الْحَرَّةِ [5] .
__________
[1] صرار: مَوضِع على ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة. (رَاجع مُعْجم الْبلدَانِ) .
[2] النمارق: جمع نمرقة، وَهِي الوسادة الصَّغِيرَة.
[3] كَذَا فِي أ. وَفِي سَائِر الْأُصُول: «سمع» .
[4] فِي أ: «على بَاب مَسْجِد» .
[5] يُرِيد وقْعَة الْحرَّة الَّتِي كَانَت بِالْمَدِينَةِ أَيَّام يزِيد بن مُعَاوِيَة على يَد مُسلم بن عقبَة المري، الّذي يُسَمِّيه أهل الْمَدِينَة: مُسْرِف بن عقبَة. وَكَانَ سَببهَا أَن أهل الْمَدِينَة خلعوا يزِيد بن مُعَاوِيَة، وأخرجوا مَرْوَان ابْن الحكم وَبنى أُميَّة، وَأمرُوا عَلَيْهِم عبد الله بن حَنْظَلَة الغسيل، الّذي غسلت أَبَاهُ الْمَلَائِكَة يَوْم أحد. وَلم يُوَافق على هَذَا الْخلْع أحد من أكَابِر الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا فيهم.
وَكَانَ من أَمر جَابر هَذَا فِي هَذَا الْيَوْم أَنه أَخذ يطوف فِي أَزِقَّة الْمَدِينَة، والبيوت تنتهب وَهُوَ أعمى، وَهُوَ يعثر فِي الْقَتْلَى، وَيَقُول: تعس من أَخَاف رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيد حَدِيثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أَخَاف الْمَدِينَة فقد أَخَاف مَا بَين جَنْبي فحملوا عَلَيْهِ ليقتلوه، فأجاره مَرْوَان، وَأدْخلهُ بَيته. (رَاجع الرَّوْض الْأنف) .

(2/207)


(ابْنُ يَاسِرٍ وَابْنُ بِشْرٍ، وَقِيَامُهُمَا عَلَى حِرَاسَةِ جَيْشِ الرَّسُولِ، وَمَا أُصِيبَا بِهِ) :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَمِّي صَدَقَةُ [1] بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ، فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا، أَتَى زَوْجُهَا وَكَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا أُخْبِرَ الْخَبَرَ حَلَفَ لَا يَنْتَهِي حَتَّى يُهْرِيقَ فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمًا، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلًا، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا [2] لَيْلَتَنَا (هَذِهِ) [3] ؟ قَالَ: فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَكُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَدْ نَزَلُوا إلَى شِعْبٍ مِنْ الْوَادِي، وَهُمَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إلَى فَمِ الشِّعْبِ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ أَيَّ اللَّيْلِ تُحِبُّ أَنْ أَكْفِيكَهُ: أَوَّلَهُ أَمْ آخِرَهُ؟ قَالَ: بَلْ اكْفِنِي أَوَّلَهُ، قَالَ:
فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ، وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، قَالَ: وَأَتَى الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ [4] الْقَوْمِ. قَالَ: فَرَمَى بِسَهْمِ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، قَالَ: فَنَزَعَهُ وَوَضَعَهُ، فَثَبَتَ قَائِمًا، قَالَ: ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمِ آخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ. قَالَ:
فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، وَثَبَتَ قَائِمًا، ثُمَّ عَادَ لَهُ بِالثَّالِثِ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، قَالَ: فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ أَهَبَّ [5] صَاحِبَهُ فَقَالَ: اجْلِسْ فَقَدْ أَثْبَتُّ [6] ، قَالَ: فَوَثَبَ
__________
[1] صَدَقَة هَذَا خزرى سكن بِمَكَّة، وَلَيْسَ بعم مُحَمَّد بن إِسْحَاق. قَالَ أَبُو ذَر: «وَقد خرجه أَبُو دَاوُد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَلم يذكر فِيهِ «عمى» .
[2] يكلؤنا: يحفظنا.
[3] زِيَادَة عَن أ.
[4] الربيئة: الطليعة الّذي يحرس الْقَوْم.
[5] أهب: أيقظ.
[6] كَذَا فِي أَكثر الْأُصُول. وَأثبت: جرحت جرحا لَا يُمكن التحرك مَعَه. وَفِي: أ «أتيت» .
وَأثبت: أصبت.

(2/208)


فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ عَرَفَ أَنْ [1] قَدْ نَذِرَا [2] بِهِ، فَهَرَبَ. قَالَ: وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنْ الدِّمَاءِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَفَلَا أَهْبَبْتَنِي أَوَّلَ مَا رَمَاكَ؟ قَالَ:
كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِدَهَا، فَلَمَّا تَابَعَ عَلَيَّ الرَّمْيَ رَكَعْتُ فَأَذِنْتُكَ، وَأَيْمُ اللَّهِ، لَوْلَا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِهِ، لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِدَها.

(رُجُوعُ الرَّسُولِ) :
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَنْفَذَهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ غَزْوَةِ الرِّقَاعِ، أَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ جُمَادَى الْأُولَى وَجُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَجَبًا.